تحت راية الحق في الرد على فجر الإسلام

تحت راية الحق في الرد على فجر الإسلام0%

تحت راية الحق في الرد على فجر الإسلام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 143

تحت راية الحق في الرد على فجر الإسلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عبد الله السبيتي العاملي
تصنيف: الصفحات: 143
المشاهدات: 41857
تحميل: 4707

توضيحات:

تحت راية الحق في الرد على فجر الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 143 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41857 / تحميل: 4707
الحجم الحجم الحجم
تحت راية الحق في الرد على فجر الإسلام

تحت راية الحق في الرد على فجر الإسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تحت راية الحق

في الرَّدِّ على فجر الإسلام

الشيخ عبد الله السُّبيتي العاملي

١

هذا الكتاب

طبع ونشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً

قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٢

تحت راية الحق

في الرَّدِّ على فجر الإسلام

تأليف:

الشيخ عبد الله السُّبيتي العاملي

حقوق الطبع محفوظة

١٣٥١ه-، مطبعة العرفان - صيدا، ١٩٣٣م

٣

إهداء الكتاب

إلى المؤلِّف الشهير، البحَّاثة، حجّة الإسلام

السيد عبد الحسين شرف الدين

علاَّمة جبل عامل

أُهدي مؤلَّفي هذا

تقديراً لجهوده وإشعاراً بفضله

نزيل النجف الأشرف

ولدك

عبد الله السُّبيتي

٤

٥

٦

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدِّمة

بقلم:

سماحة العلاَّمة الكبير، شيخنا الشيخ مرتضى آل ياسين الكاظمي

ظهر الإسلام في جزيرة العرب باسطاً كفَّيه جميعاً، يحمل على هذه كتاب الله، وعلى تلك سُنَّة رسوله، وهو يدعو إلى الإيمان بهما كل أبيض و

أسود، فآمن به قوم، وكفر به آخرون، وسار شوطاً من عمره يقطع طريقاً وسطاً بين صفَّين: صفٍّ من المؤمنين، وصفٍ من الكافرين، ثمّ لم يلبث أن انقسم المؤمنون به على أنفسهم ؛ فانحازت طائفة منهم إلى عليٍّعليه‌السلام ، وطائفة أُخرى إلى غيره.ومن ذلك الحين اشتهر اسم الشيعة.وكان لمسألة الخلافة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكبر الأثر في تكوين ذلك الانقسام بين صفوف المؤمنين.وحين انتهى الأمر إلى بني أُميَّة، عملوا على توسيع ذلك الانشقاق وتوطيد أسبابه ،حتى أصبح فتقاً لا يرتق، كما تحدِّثنا بذلك سلسلة الحوادث التاريخية التي اتًصلت أُولى حلقاتها بمعاوية وأُخراها بالحمار، وبعين السياسة الأموية - أيضاً - سار العبَّاسيون بين الناس طيلة امتداد سلطتهم الزمنية، على الرغم من القرابة الماسَّة التي كانت تربطهم بعليٍّ وأولادهعليهم‌السلام .

ولمَّا قضت الظروف في العصور الأُولى من تاريخ الإسلام أن تكون السلطة لأعداء الشيعة ومناوئيهم ،تزلَّف إليهم في مختلف أدوارهم شراذم من علماء السوء وروّاد الدرهم والدينار، فقالوا في الشيعة، ووضعوا عنهم، ونسبوا إليهم كلَّ ما من شأنه التشويه لسمعتهم، والحطُّ من كرامتهم، وصدُّ النفوس عن التمايل إلى جهتهم، فكان ذلك من أكبر العوامل على استحكام الغلِّ في صدور الفريقين، واتساع شُقَّة الخلاف بين الطائفتين، حتى أصبحت القوَّة - وهي كما عرفت بيد الفريق السُّنِّي - لا تتأخَّر عن اضطهاد الفريق الشيعي والنكاية به كلَّما وجدت إلى ذلك سبيلاً.

٧

وبالطبع ،إنَّ الشيعة لمَّا لم يكن لديهم من القوَّة ما يجابهون به القوَّة، اضطروا - بحكم الضرورة - إلى التزام التقيَّة(١) في مذهبهم ؛ اتقاءً لسطوة الاستبداد المتمادية التي كادت أن لا تُبقي عليهم ولا تذر، وما أدراك ما التقيَّة؟ إنَّها لأمَرّ ذَوَاقاً من الموت! فنجم من ذلك أنْ فَقَدَ الشيعة حرِّيَّتهم وقبعوا في خبايا الانزواء، حيث لا تسمع لهم السلطة حسيساً ولا همساً، فخسروا عند ذاك أهمَّ معنوياتهم، وطُمسَ على شطر كبير من آثارهم العلمية و الأدبية، وقضي على كل شيء لهم،حتى على أقلامهم التي طالما أرجفت بها القوَّة فتساقطت من أيديهم خوفاً وفَرَقاً، حتى أصبح قلم التأريخ وليس من يد تمسكه بين أناملها ،إِلاّ يد السُّنِّي تقبض عليه فتسِّجل به الحوادث كيفما شاءت وشاء لها الهوى.

وما ظنُّك بقلم يأمن جانب المعارضة من جهة، وتمدُّه السلطة من جهة أُخرى، ثمّ يستقي الحقائق من تلك المنابع الفيَّاضة التي خلقها له أُولئك الغواة من رواة السوء وروَّاد المنافع، عدا ما تسوِّله له الأغراض الشتّى والأهواء المتنوِّعة ضدَّ عدوِّه البغيض؟ لا شكَّ أنَّ قلماً تستأثر له الظروف بهذا الموقف الشاذ لجديرٌ بالعذر - وكلّ العذر - إذا قلب الحوادث رأساً على عقب، وجاء بالحقائق كما شاء ،هوجاء شوهاء، وأمعن في إغواء الأفكار وتضليل العقول بكلّ ما يصل إليه جهده من براعة في القول وصناعة في التحوير، كما نجد ذلك كلَّه - اليوم - ماثلاً للعيان بين صفحات التأريخ وخلال فجواته.

ومن المقرَّر في سُنَّة الكون أنَّ المفتريات الملفَّقة عند جيل من الأجيال الماضية ،إذا تناقلتها ألسُن الرواة ثمّ تناولتها أقلام الضبط لابدَّ وأن تصبح يوماً ما كحقائق راهنة عند الأجيال الآتية ؛ ولذلك نجد جيل الأبناء على الأكثر مخدوعاً بما يتركه له جيل الآباء والأجداد من الأضاليل والمفتريات، دون أن يشعر بما يفرضه عليه العقل من التثبُّت تجاه النقل، خاصةً إذا كان الراوي متَّهماً لدى الوجدان في روايته.

وبسبب هذا الانخداع المتمادي مع الأجيال، تتابعت الويلات على الشيعة من إخوانهم أهل السُّنَّة، وتوالت عليهم ضرباتهم من آونة إلى أُخرى.فكلَّما أولد الزمان جيلاً من أهل السُّنَّة، تأثَّر بما افتراه جيله السابق في شأن الشيعة، فلا ينكفئ هذا عنهم حتى يعزِّز في شأنهم

____________________

(١) الالتزام بالتقيَّة عند الضرورة ممَّا شرَّعه الله عزَّ وجل في كتابه العزيز ؛ حيث قال عزَّ اسمه:( إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) ، وقال:( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) ، على أنَّ العمل بمجرَّده كافٍ في إيجابها عند الخوف من سطوة ذلك الاستبداد.

٨

آثار سلفه الراحل، على حين أنَّ الشيعة - في أكثر تلك العصور - لم يكن في إمكانهم مجابهة تلك المفتريات بالردِّ والتزييف ؛ نظراً لِمَا كانوا يكابدونه يومئذ من اضطهاد القوة واستبداد السلطة.ولولا الفرص الثمينة التي سنحت للشيعة أثناء تلك العصور الرهيبة، حينما سمح لهم الزمان بقيام بعض الحكومات الشيعية في مصر، وبغداد، وخراسان، وحلب، وإيران، والهند، فاستغلوها للإشادة بمذهبهم، والردِّ على مفتريات أعدائهم، وترسيخ العقائد الحقَّة في نفوس عامَّتهم، بما ألَّفوا في شتَّى الفنون - وخاصة في فنون التفسير والحديث والأخلاق والمناظرة - من الكتب القيِّمة والآثار النفيسة، لذهب التشيُّع ذهاب أمس الدابر، ولأصبح اليوم خبراً من أخبار الزمن الغابر.

ولكن، على الرغم ممَّا توفَّق له الشيعة أثناء تلك الفُرص السانحة من دحض المفتريات الموجَّهة إليهم، وإصحارهم بالبراءة ضد الشنائع الشتّى التي أُلصقت بهم، نجد بين علماء أهل السُّنَّة من تمادى في غلوائه، واستمرَّ ممتطياً غارب خُيَلائه، غير محتفل بالبراءة التي طفحت بها كتب الشيعة ومؤلَّفاتهم، وفاضت بها أقلامهم وأفواههم، حتى بلغت القِحَة ببعضهم أن أفتى بكفرهم ووجوب قتالهم وجواز قتلهم(١) ، سواء تابوا أم لم يتوبوا، وبالنهاية حكم باسترقاق نسائهم وذراريهم.كلّ ذلك بعد أن نبزهم باسم الكفرة، والبغاة الفجرة، ونسب إليهم أصناف الكفر والبغي والعناد، وأنواع الفسق والزندقة والإلحاد، ثمّ بهتهم بالاستخفاف بالدين، والاستهزاء بالشرع المبين، والإهانة للعلم والعلماء، واستحلال المحرَّمات وهتك الحرمات.

وهكذا استمر أهل السُّنَّة يستخدمون حرِّيَّتهم الواسعة في الاستهانة بالشيعة وانتقاصهم، وإغراء العامة بهم وإيغار صدورهم، وحملهم على الولوغ بدمائهم.وهكذا استمروا يتسوَّرون على كرامتهم بالبهت والافتراء، وينبزونهم بأنواع الأباطيل التي تشهد ببراءتهم منها جِنَّة الأرض وملائكة السماء، على حين أنَّ الشيعة قد أثبتوا لدى الملأ - في مختلف أدوارهم بمختلف أعمالهم - أنْ لا مذهب لهم إلاّ مذهب أئمَّة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً كما فضَّلهم على كثير ممَّن خلق تفضيلاً، وأنَّهم إنَّما يستمدُّون الهدى باتِّباعهم لأُولئك

____________________

(١) مَن أراد الوقوف على تفصيل كلامه، فليراجع كتابي : الفتاوى الحامدية وتنقيحها.وقد ردَّ عليه صاحب الفصول المهمَّة في تأليف الأُمّة وناقشه الحساب بكل دقة.

٩

الأئمّة الفطاحل بما تحمَّلوه من العلم عن جدِّهم النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أفضى إليهم بكل ما لديه من أسرار وحقائق، وتعاليم وأحكام، ممَّا جاء به القانون الإلهي وقرَّرته الشريعة الخاتمة، حتى أصبحوا من بعده وهم الباب الوحيد المؤدِّي إلى مدينة علمه كما يومي إلى ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها).ومن ذلك نجد المستخلَفين بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا كلَّما عرضت لهم معضلة من المسائل لم يجدوا بُدّاً من الاسترشاد بإمام أهل البيت في حلِّها والدلالة على وجه الخروج منها، وما أن كَتَمنا التأريخ السُّنِّي شيئاً من فضائلهم استرسالاً منه للعاطفة ،فلم يكتمنا قول عمر بن الخطاب في شأن الإمام علي حينما كان يفزع إليه في تحليل المشاكل وكشف المعضلات: (لا بقيتُ لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(١) .

أوَ ليس من الغريب بعد هذا كله أن نجد هذا المذهب، بما له من حرمة النسب، هدفاً لنبال الزور، وغرضاً لمعاول البهتان؟! كأنَّ المذاهب كلَّها وليدة الكتاب و السُّنَّة إلاّ مذهباً تمسَّك به الشيعة؟! ولكن ما حيلة ذلك الرجل المفتي الذي استحل من الشيعة ما حرَّمه الله إذا كان يرى مؤرِّخه السُّنِّي(٢) - وهو موضع ثقته واعتماده - يقذف مذهب أهل البيت بالشذوذ والابتداع، وينعى عليهم انفرادهم بما جاؤوا به من الفقه؟!! أفلا يكون ذلك المفتي موفور العذر إذا هو نبز شيعتهم بالكفر والعناد، والزندقة والإلحاد، وعزا إليهم كل أنواع المخازي والمرديات؟ أجل، إنَّه ولا شك لخليق بالعذر كله مهما أفحش

بالقول، وأغمض في تكفير الشيعة وتحقيرهم.

وما أدري في أي ناحية من مذهب أهل البيت تمثَّل الشذوذ والابتداع لابن خلدون حتى استسهل في شأنهم ذلك القول الصعب! ورماهم بتلك الكلمة الجارحة التي ما كان له ولا لأحد من قبله أو من بعده أن يقولها في شأن أَمَة من إماء أهل البيت فضلاً عن أئمتهمعليهم‌السلام ، لا سيما وأنَّه ليسمع سيِّده عمر بن الخطاب يقول في شأن جارية من جواري آل أبي طالب - وهي (فضّة) جارية الزهراءعليها‌السلام - حين حكم عليها بحكم فدلّته على موضع خطئه منه: شعرة من آل أبي طالب أفقه من عَدِيٍّ.

وليت شعري، إذا صح ّلابن خلدون أن يقول في أهل البيت - وهم أدرى الناس بما فيه - :

____________________

(١) هذه الكلمة وأمثالها ممَّا استفاض نقله عن عمر في التاريخ السُّنِّي، فلا يهمُّنا بعد ذلك أن ينكرها أحمد أمين وأضرابه.

(٢) هو ابن خلدون في فصل الفقه من مقدِّمته، ص ٤٩٨.

١٠

إنَّهم شذَّاذ في فقههم، ومبتدعة في مذاهبهم، إذن، فماذا يا ترى يجب أن يقوله الشيعي عند ذاك في مذاهب ابتدعها الغرباء، واخترعها الدخلاء ممَّن لم يمُتَّ إلى البيت النبوي بنسب، ولم يتصل إليه بسبب، وإنَّما اعتمد في فقهه رواية الضعفاء، ولفَّق مذهبه من سوانح القياس والاستحسان والآراء؟! أجل، ماذا يجب أن يقوله الشيعي في تلك المذاهب وهو يرى بأُمّ عينه أنَّها تضع أُسسها على أحاديث المخطِّئة والمرجِّ-ئة والخوارج، وتقيم أركانها على متابعة الظنون التي ما أنزل الله بها من سلطان؟! فهب أنَّ الشيعة أخطؤوا الحق في انقطاعهم إلى مذهب أهل البيت، ولكن، هل من الحق أن يجتنبوا أهل البيت وينقطعوا إلى مذاهب الدخلاء والأجانب كما صنع ابن خلدون وأضرابه ممَّن تجهَّم أهل البيت ونظر إليهم شزرا؟.

ذلك مثال واحد نضعه أمامك ليعطيك صورة واضحة عن موقف السلف السُّنِّي تجاه السلف الشيعي، تستطيع أن تتعرَّف منها مبلغ القسوة التي استعملها أهل السُّنَّة ضد إخوانهم الشيعة طيلة تلك العصور المتغلغلة في ظلمات الاستبداد، والمتشبِّعة بروح الأثرة والسيطرة.ولولا احتذاء المتأخرين منهم مثال المتقدِّمين، لكنَّا التمسنا العذر لأُولئك القائمين بتلك المآسي في تلك العصور المظلمة بتحليل الوقائع تحليلاً سياسياً، ولأقنعنا الملأ الشيعي بأنَّه لم يُقهر يوم ذاك من الملأ السُّنِّي نفسه، وإنَّما قهره الوضعُ السياسي الراهن في تلك العصور، ولكن ماذا نقول للشيعي اليوم؟ وماذا نلتمس للسُّ-نِّي من المعاذير وقد ولَّى ذلك الوضع السياسي مع أهله، وأُعلنت الحرية في عرض البلاد وطولها، ووُضعت الدساتير الكافلة لحقوق الأديان والمذاهب، وقام رجالات الإصلاح يطاردون العصبيات من كل جهة وناحية، وانتشرت الصحف تدعو الأمة إلى نبذ النعرات الطائفية، وجمع الكلمة، وتوحيد

الصفوف، ونهض الخطباء في المحافل والمجتمعات يهجِّنون في نظر العامة موقف السلف مع بعضهم ويستميلونهم إلى التخلِّي عن تقاليد الآباء و الأجداد، ويستحثُّونهم على الاتحاد والتعاضد في سبيل المصالح المشتركة، ومع كل هذه الوسائط الفعَّالة التي من شأنها على أقل تقدير أن تكمَّ الأفواه الفاغرة بالسوء، وتقبض على الأيدي الأثيمة العابثة بالسلم؟ فإنَّا ما زلنا ولا نزال نرى اللّيلة أُخت البارحة، والأحوال يشبه بعضهاً بعضا.

فهذا فريق من سُ-نِّيي مصر، وذاك فريق من سُ-نِّيي سوريا ما فتئوا يتابعون السير وراء شنشنة الأسلاف، ويتهافتون على التمثيل بأخلاقهم البالية، ويتسابقون إلى موافاة الغرض

١١

الذي استهدفه لهم آباؤهم الأولون دون أن يكترثوا بما يفرضه عليهم الواجب الديني في عصرهم الحاضر، ودون أن يشعروا بالبون الشاسع بين العصرين، عصر الآباء وعصر الأبناء، فكأنَّهم وهم في عصر النور والدستور إنَّما يعيشون في عهد المتوكِّل العبَّاسي أو عبد الملك بن مروان.بيد أنَّهم جروا إلى الغاية في حلبة دقيقة ما كان يعرفها أسلافهم على الأكثر ؛ فقد كان المتقدِّمون صرحاء في المبدأ والغاية، فإذا أرادوا مهاجمة الشيعة هاجموهم على المكشوف، وزحفوا إلى منازلهم مُعلِمين لذلك، تجد روح العداء ماثلة للعيون بين نبرات أقلامهم.

أمَّا هؤلاء المتأخِّرون، فقد نكبوا عن هذه الطريقة وبنوا مهاجمتهم في أكثر الأحيان على سياسة المخاتلة، فنرى أحدهم إذا أراد أن ينزع إلى المهاجمة لم يبرز إليها صريحاً مُعلِماً، وإنَّما يزحف إليها من وراء حجاب كثيف.وليس من شكٍّ في أنَّ هذه الطريقة الحديثة التي اختطَّها الأبناء لأنفسهم هي أقوى مفعولاً من أُولى الطريقتين التي سار عليها الآباء فيما سلف من الزمان، وكذلك العدوّ المخاتل ؛ فإنَّه بالطبع يكون أكثر نجاحاً من العدو المُعلِم.

هذا مع أنَّ بين سُ-نِّيي العصر مَن لم يؤثِر الطريقة الحديثة، ولم يشأ أن يحيد عن طريقة سلفه، تلك الطريقة القاسية، فصارح الشيعة بكل ما يضمر لهم من سوء حتى أوسعهم في كتبه قذفاً وشتماً وسبَّاً.فتارة يقول فيهم: أنَّهم (تجرَّدوا عن دينهم)، وأُخرى يقول: (أنَّهم أسقطوا الإيمان من حسابهم)، وثالثة يرى: أنَّ (أكبر شأنهم جحد الرسالة لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتكذيب بالقرآن، وردَّ ما أجمعت عليه الأُمة)، وأخيراً طلب لهم الخزي من الله سبحانه وتعالى إمَّا في هذه الدار فحسب، أو في الدارين معاً(١) .وهناك منهم(٢) مَن لم يطلب لهم من الله شيئاً، لكن طلب إلى حكومته أن تمحو مذاهبهم المستحدثة ؛ محتجَّاً بمصادمتها لآداب الدين واعتدائها على الأمن العام.ولا ندري، أيُّ الطلبين أكثر مرونة من الآخر؟. ومهما يكن، فليس عناية الشيعة بهذا الفريق - على ما فيه من شراسة في الطبع وبذاءة في اللّسان - إلاّ دون عنايتهم بالفريق الآخر الذي فتق له من البحث العلمي طريقاً ينفذ منهم إلى مكايدة الشيعة ومخاتلتهم دون أن يظهر لهم ظهور العدوِّ لعدوِّه.

____________________

(١) تجد هذه الكلمات وأمثالها منثورة في كلٍّ مَن كتاب: إعجاز القرآن، وكتاب: تحت راية القرآن، لمؤلِّفها: مصطفى صادق الرافعي، فراجع.

(٢) هو جلال نوري بك في كتابه: اتحاد المسلمين.

١٢

ومن المؤكَّد أنَّ هذه الطريقة الحديثة لم يتوفَّق إلى اختراعها إلاّ ذوو الأدمغة الكبيرة منهم، ممَّن درس الوضعية درساً دقيقاً حتى عرف من أين تُؤكل الكتف؟ وكيف تُؤكل؟

وأهم رجل برع في هذه الطريقة وأحسن اتباعها هو أحمد أمين صاحب الجزء الأول من كتاب: فجر الإسلام الذي أساء للشيعة بمقدار ما أحسن إلى الأدب العربي، فقد جاء هذا الرجل على ذكر الشيعة في كتابه كباحث يريد تحليل الحقائق تحليلاً فلسفياً، لا كمتحامل يريد الشرّ والوقيعة.بيد أنَّه - وهو مختبئ وراء ستار الفلسفة - لم يدع للشيعة ضلعاً قائماً إلاّ وطحنه طحناً ثمّ ذرَّاه في الهواء هباء منثوراً.فالمذهب الشيعي عند أحمد أمين ملفَّق من النصرانية، واليهودية، والمجوسية، ومن تعاليم الفلاسفة والبراهمة.والشيعة أنفسهم قوم كذَّابون وضَّاعون لا يتأخَّرون عن الانتصار لمذهبهم بكلّ وسيلة تصل إليها أيديهم مهما كانت منقطعة الصلة مع الحق، فهم يحفظون الأسانيد الصحيحة ثمّ يضعون الأحاديث الموافقة لمذهبهم معنعنة بتلك

الأسانيد، وهم يضعون كتب الحديث المحشوَّة بتعاليمهم ثمّ ينسبونها إلى المشاهير من أئمّة أهل السُّنَّة، وهم ينتحلون لأنفسهم أسماء المشاهير من محدِّثي أهل السُّنَّة ثمّ يروون الحديث عمَّن تسمَّى بتلك الأسماء ؛ ليوهموا أهل السُّنَّة أنَّه مروي عن مشاهير محدِّثيهم، وبهذا أضلُّوا كثيراً من العلماء لانخداعهم بالإسناد، وهم يضعون على لسان عليٍّ ما من شأنه أن يعلن بثروته العلمية، ويضعون على لسان عمر ما من شأنه أن يعلو بفقره العلمي، وهم يكذبون في نسبة كل فضيلة ومنقبة إلى عليٍّ، ويكذبون في كل حديث يبشِّر بالإمام المنتظر.وهو يشك في كل شاهد يستظهر به الشيعي لمذهبه وإن كان ممَّا يحدِّثه به التاريخ السُّ-نِّي.وبكلمة واحدة، يعتقد أحمد أمين حقَّاً: أنَّ التشيُّع كان مأوى يلجأ إليه كل مَن أراد هدم الإسلام.

كل ذلك ممَّا قاله أحمد أمين في الشيعة وفي مذهبهم، على أنَّنا لم نستقص سائر كلماته.وما أدري ماذا سيقول لو قال له شيعي: إنَّ الشيطان قد اتخذ إلى فؤادك سبيلاً، ولعلَّه سيقول أيضاً: إنَّ الشيعة هم الذين خلقوا الشياطين فأصبحت تتَّخذ السُّ-بُّل إلى هذه الأفئدة.

وغريب من باحث مثقَّف كأحمد أمين أن تستحوذ على مشاعره العاطفة إلى درجة تجعله يفكِّر بغير عقله، ويبصر بغير عينه، وينطق بغير

لسانه، ويكتب بغير قلمه، وإلاّ فما الذي تُرى حوَّل تلك الأوهام إلى حقائق في فكره؟! وما الذي أدَّى بنظرياته العلمية إلى هذه الاستنتاجات المنكرة التي يلفظها العلم ويربأ عنها البحث الصحيح؟! لا سيَّما وهو وليد هذا العصر

١٣

الذي انكشف فيه الغطاء وبرح الخفاء وباح فيه الشيعة بكل ما يُسرُّون وما يعلنون، فلا نخطئ إذا قلنا: إنَّ المسؤولية التي تحمَّلها هذا الفريق تجاه الحق هي فوق المسؤولية التي تحمَّلها سلفه الغابر الذي ورد هذا العالم في ظلام، وارتحل عنه وهو في ظلام.

حقَّاً إنَّ أحمد أمين قد أذنب إلى الشيعة ذنباً لا يغفر إلاّ بالتوبة منه.وما مكث الشيعي واجماً طيلة هذه المدة التي مرَّت على ظهور الجزء الأول من كتاب فجر الإسلام إلاّ تربُّصاً منه للتوبة التي كان ينتظرها من أحمد أمين، وحين استيأس من توبته واستقالته من عثرته لم يجد بُدَّاً من مناقشته

الحساب ؛ ليعلم أنَّ وجوم الشيعي في الماضي لم يكن إلاَّ رغبة منه في السلم، وإيثاراً للدعة، لا عجزاً عن المناجزة والدخول في معمعة النزال.فنهض لذلك صديقنا الفاضل السُّبيتي وأدلى بكتابه هذا إلى الملأ الشاعر، كمعبِّر عمَّا اختلج في ضميره من وجوه المناقشات لنظريات أحمد أمين، مع اعترافه بأنَّ في قومه علماء قد يكون لهم من وجوه الردِّ والتزييف لتلك النظريات ما هو أجدر بالتقدير والاعتبار.

وعلى الرغم ممَّا أخذ به نفسه من الجري ضمن دائرة الموادعة، نراه قد طغى عليه قلمه في بعض الأحيان فاجتاز به إلى خارج الحدود، وقد يكون اجتياز الحدود أحياناً طبيعياً للقلم المتحمِّس الذي يريد التجوال بين منطقتي النقض والإبرام ؛ لذلك لا نرى الملاحظة عليه من هذه الوجهة جديرة

بالاحتفاء.إنَّما نلاحظ عليه أنَّه أجمل القول في بعض المسائل ولا سيَّما في مسألة رجعة الإمام المنتظرعليه‌السلام ، وكان حقَّاً عليه أن يوفِّي البحث فيهما حقَّه ويزيده سبعين حُقَّة.ولعلَّنا سننتهز فرصة من الوقت نصرفها لسدِّ هذا الفراغ في رسالة على حِدَة، ومن الله نستمد التوفيق.

وبالختام: نريد بدافع المصلحة العامة التي نتوخَّاها لعامة المسلمين، أن ننصح بكلمة صغيرة لإخواننا المعاصرين من أهل السُّنَّة، وخاصة الطبقة المتعلِّمة منهم، التي تزعم أنَّها قد تحلَّلت من قيود العصبية والعاطفة ؛ ولمَّا تُقِم على مزعمتها شاهداً واحداً لحد اليوم، بل على العكس، ما برحت تقيم الشواهد على احتفاظها بتلك القيود البالية التي كان يرسف فيها سلفها الغابر.نعم، نريد أن ننصح لهم بأن يكفُّوا عن الشيعة بعد اليوم ليكفَّ الشيعة عنهم، وإلاّ فالشيعة مضطرون إلى تنظيم خطوط الدفاع ما وجدوا أهل السُّنَّة دائبين في اتخاذ خطَّة الهجوم، وفي الوقت نفسه سيكون الشيعة أبعد الفريقين عن المسؤولية التي يستتبعها هذا الموقف بعد أن كانوا مضطرين للمنافحة عن شرفهم وعن قداسة مذهبهم.وإن كنَّا لا نرى الوسائل التي يتجهَّز بها المدافعون في حومة

١٤

الكفاح موازية لوسائل المهاجمين، فبينا نرى السُّ-نِّي يهجم وبيده مُديته الرهيفة يحزُّ بها وريد أخيه الشيعي، إذ نرى الشيعي يتقدَّم إليه بشوكة صغيرة يخزُّ بها خاصرته، ومع ذلك نجد صرخة السُّ-نِّي من الشوكة لا تقف عند صرخة الشيعي من المُدية، بل تجتازها إلى حد بعيد، ولا نرى سبباً لذلك إلاّ أنَّ السُّ-نِّي قد استطاع بمرور الزمان أن يستضعف أخاه الشيعي الذي ظلَّ مقهوراً له عصوراً طويلة، حتى اعتاد الشيعي الخوف والتقية من أخيه السُّ-نِّي كما اعتاد هذا الهيمنة والحاكمية على أخيه الشيعي.فجاء من ذلك أن أصبح السُّ-نِّي يعتقد حقَّاً بأنَّ من صلاحيَّته أن يقول في الشيعي أبداً ولا يسمع منه، فإذا ردَّ عليه الشيعي شيئاً ممَّا قال فيه، رأيته ساخطاً صاخباً يكاد يتميَّز من الغيظ كأنَّما انشقت به الأرض، أو أطبقت عليه السماء.وهذه الهيمنة التي يحسُّها السُّ-نِّي على الدوام إزاء الشيعي، هي أيضاً من جملة العوامل الباعثة على إغراء أهل السُّنَّة بالشيعة واستخافهم بهم، فلو أنَّ أهل السُّنَّة اليوم خفَّضوا قليلاً من غلوائهم، لوجدوا الشيعة أقرب الناس إليهم، وأشدَّهم رعاية لحرمتهم، ولعل في الحوادث الأخيرة التي شهدها العراق، فقضت على أهل السُّنَّة بالتقرُّب إلى الشيعة زمناً يسيراً، ما يشهد لنا بصحة هذه الدعوى، وما عهد تلك الحوادث ببعيد.على أنَّ الشيعة في العراق ما زالوا لحد اليوم يعيشون ومواطنيهم من أهل السُّنَّة في جو هادئ، ولا تزال مظاهر الإخاء والولاء سائدة بين الفريقين، وكلاهما يسيران في خطَّة معتدلة لا تكاد تدعو أحدهما إلى شيء من الهنات، غير أنَّ الأمر الذي يُترقَّب منه الخطر وأن يصبح يوماً مَّا مدعاة إلى تكدير هذا الصفو، وتفكُّك هذا الجسم الملتئم، هو تلك القنابل النارية التي ما برحت تتساقط على أرض العراق هابطة إليها من سماء مصر وسوريا.ولو لم يكن لتلك القنابل من مغبَّة وخيمة يتمخَّض بها المستقبل إلاّ هذا الأثر السيِّئ الذي ستبعثه - ولا محالة - على تمادي الأيَّام أو الأعوام إلى هذا المجتمع العراقي الوديع، لكفاها ذلك رادعاً ووازعاً يقف بها عند حدِّها الأخير، ولكفى حكومة العراق باعثاً على حياطة شعبها الآمن من التعرُّض لتلك القنابل المتساقطة أبداً على يافوخه، من غير ما رحمة ولا حنان.

ونزيد نصيحتنا لهم أن لا يكتبوا عن الشيعة بعد اليوم إلاّ ما يأخذونه عن الشيعة أنفسهم، وليس لهم أن يستقوا أخبارهم من منابع الأغيار الذين كذبوا على الشيعة جهدهم، وألصقوا بهم من الشنائع ما الله به عليم.فإنَّ من الظلم الفاحش أن يقرأ الإنسان حياة الشخص مدوَّنة بقلم

١٥

عدوِّه، فيعتبرها صورة صادقة عن حياته الحقيقية.ولئن كان لسلفهم بعض العذر فيما كتبوا عن الشيعة ؛ بالنظر إلى عدم انتشار كتبهم يومذاك، فلا عذر لهم اليوم وقد أصبحوا يشارفون كتب الشيعة عن كثب، ويستعرضونها في المخازن والمكتبات آناء الليل وأطراف النهار.ولو قُدِّر أنَّ كُتُب الشيعة لا تنهض بكشف الغموض لهم عن بعض المسائل ذات الصلة بمذهبهم أو تاريخ حياتهم، فما عليهم إلاّ أن يراجعوا بها علماء الشيعة المنتشرين في العراق، وسوريا، والهند، وإيران ؛ ليأخذوا الجواب عليها جليَّاً واضحاً، وعند ذاك يمكنهم أن يكتبوا عن الشيعة وهم على بيِّنة ممَّا يكتبون.

وليعلموا أخيراً بأنَّ مرادنا من الشيعة حيث نطلق اسمهم إنَّما هم: الإمامية الاثنا عشرية منهم، وهم الذين يمثِّلون الأكثرية الساحقة في العالم الشيعي، وهم الذين ندافع عنهم جهدنا حين تنتابهم عوادي السوء ودواعي الخطر، وهم الذين نحيل الآخرين على علومهم ومعارفهم، وندعوهم إلى مراجعة كتبهم ومؤلَّفاتهم، ونطلب إليهم تعرُّف المذهب الشيعي من ناحيتهم(١) .أمَّا سائر الفرق الأُخرى التي شاركت هذه الفرقة باسم الشيعة، فليست هذه منها في شيء، وليست هي من هذه في شيء، فالناووسية والكيسانية والواقفة والمفوِّضة والغلاه والباطنية وكثير من أمثالهم، كل هؤلاء ممَّن تبرأ منهم الإمامية الإثنا عشرية وترفض آراءهم وأقوالهم وترمي بمذاهبهم عرض الجدار.

وفي الحق إنَّ التشويه الذي دخل على سمعة الشيعة من ناحية هذه الفِرق الضالة القابعة تحت هذا الاسم، لا يقلُّ خطراً عن التشويه الذي دخل عليها من ناحية الأغيار ؛ لذلك يجب اليوم على الباحث الأمين إذا أراد أن يعزو رأياً وقولاً إلى الشيعة أنَّ يتعرَّف أوّلاً هوية الشخص الذي عرَّف له ذلك الرأي، والفرقة التي ينتمي إليها من التسمية بالشيعة، ثمّ يعزو الرأي إلى أهله، لا إلى الشيعة بقول مطلق ؛ وبذلك يكون قد خدم الحقيقة كما يجبن، وفاز بشكرها وشكر الأكثرية الشيعية.

هذا ما أتقدَّم به اليوم إلى إخواني أهل السُّنَّة عامة وحملة الأقلام منهم خاصة، راجياً أن تكون نصيحتي هذه خاتمة السوء بين الطائفتين وفاتحة الخير للفريقين، والله وليُّ المؤمنين.

مرتضى آل ياسين

____________________

(١) ونحترم شيعة اليمن المعروفين بالزيدية ونواليهم ؛ لكونهم حنفاء لله مخلصين له الدين.

١٦

بسم الله الرحمن الرحيم

العقيدة الإسلامية تأثَّرت بالامتزاج

لابدَّ لنا أن نَُصَوِّب رأي صاحب الكتاب في أنَّ تعاليم الإسلام في الفتح - بدخول كثير من أهل البلاد المفتوحة في الإسلام، وبالاختلاط الذي حصل بين العرب وغيرهم في سكنى البلاد-(ص ١٠٣)، كانت سبباً قويَّاً في عملية المزج بين الأُمم الفاتحة والأُمم المفتوحة، ومؤثِّرات قويَّة لامتزاج العادات العربية بالعادات الفارسية، والحِكَم العربية بالحِكَم الفارسية والفلسفة الرومانية، ونمط الحكْم العربي بنمط الحكم الفارسي والروماني، وبأوسع من هذا فإنَّ الأخلاق العربية امتزجت بالأخلاق الفارسية، والأدب العربي لم يخلُ من تأثُّرٍ بالأدب الفارسي ؛ فإنَّ العربي قبل هذا الامتزاج لم يكن له خيال الفارسي الواسع ولا مدنيته الراقية، فإنَّ جلَّ ما توصَّل إليه البدوي بخياله: الناقة والبعير والكور والصحراء، وأين من عقليَّته رمَّان النهود وتفاح الخدود؟!

(والحق أنَّ مرافق الحياة الاجتماعية والسياسية تأثَّرت بهذا الامتزاج) إجمالاً ولا نكران، ولئن أصاب في ذلك فلقد أخطأ كثيراً بقوله: (حتى العقيدة الإسلامية لم تخلُ من تأثُّر بهذا الامتزاج)(ص ١١٢)، فإنَّه قول له مكانته من الغرابة والشذوذ في الرأي! ومع ذلك نحب أن نسأل صاحب الكتاب: ما هي هذه المؤثِّرات التي تأثَّرت بها العقيدة الإسلامية؟ وما مقدار هذا التأثُّر؟ ويجيبنا الأُستاذ عن السؤال الأول - بدون مواربة - فيقول: (كان من أثر ذلك طبيعياً أن تدخل تعاليم في الإسلام جديدة)(ص ١١٧) ،ولكنَّ من الغريب أنَّه أغفل أمراً مهمَّاً وتركه مهملا، كان - بمقتضى أمانة البحث - جديراً بالذكر، وهو: أنْ يأتينا بمثال صالح لتلك التعاليم التي دخلت في الإسلام ؛ ولعل الصفحات التاريخية لم تسمح له بذلك، ولم يسعه آنئذ أن يتذرَّع إلى الاختلاق.

وأول ما يلفت النظر التعليل الذي جاء به، ولقد همَّ بأن يصبغ هذا الاستنتاج بصبغة علمية لها مقياسها العلمي وجمالها الفني، فقال: (أتظن أنَّ الفارسي أو السوري النصراني أو الروماني أو

١٧

القبطي إذا دخل في الإسلام، انمحت منه كل العقائد التي ورثها من آبائه وأجداده قروناً؟! وفهم الإسلام كما يريد الإسلام؟! كلّا، لا يمكن أن يكون ذلك، وعلم النفس يأباه كلَّ الإباء)(إلى آخر ص ١١٢) فمَن يا تُرى يقرأ هذا التعليل ولا يظن نفسه أمام بحث علمي له قوَّته ومتانته؟! وكأنَّه يرى أنَّ لازم ذلك ؛ أي عدم محو كل العقائد، أن يدخل في الإسلام عقائد جديدة وتعاليم لم تكن من قبل، ولم يحدِّد لنا بساطة الإسلام لتتبيَّن كل العقائد.

وما أشدَّ تعجُّب القارئ إذا قلنا: إنَّها حيلة جديدة صبغها صاحب الكتاب بصبغة علمية ؛ والغرض هدم الدين وطعن الصحابة أجمع وبدون استثناء.

لنفرض - والفرض ليس بمحال - أنَّا نجهل علم النفس كلَّ الجهل، لكن لا نسمح لعلم النفس أو لعلماء علم النفس أن يلعبوا بعقولنا فنقبل منهم الفرق بين الفارسي والنصراني والروماني و وبين العربي، فالعربي يفهم الإسلام كما يريد الإسلام خالصاً من شوائب الجاهلية من أول يوم يعتنق فيه

الإسلام، والفارسي والنصراني و... لا يفهمونه إلاّ مشوباً بكثير من تقاليدهم الدينية القديمة) اللَّهُم إنَّا لا نستسلم لهذه المهزلة، ولا عقليَّتنا ولا عقلية علماء النفس تتحمَّل هذا المقدار من العبث والتحكُّم.

الحق إنَّ الإسلام دين جديد - بالنظر لسائر الأديان الشائعة في ذلك العصر - في مبادئه وتعاليمه وأخلاقه، وفي الحق أيضاً أنَّ الأُمم التي دخلت فيه - قبل الفتح أو بعده - سواءٌ في فهمه، فعلم النفس لا يسمح للعربي أن يتفهَّم الإسلام أكثر ممَّا يسمح للفارسي والنصراني السوري والقبطي، وعلم النفس لا يفرِّق بين العربي وبين الفارسي والرومي والنصراني السوري والقبطي ؛ فإنْ لم تمحَ من مخيَّلة الفارسي المانوي أو الزرادشتي أو النصراني الرومي (كل العقائد التي ورثها من آبائه وأجداده)، فكذلك يجب أن لا تُمحى تلك العقائد التي ورثها العربي من آبائه وأجداده.وإنْ كان للفارسي صورة إله غير صورة الإله عند النصراني إلى ما هنالك من صور آلهة، فللعربي صورة إله لا تبرح مخيَّلته، وكيف تبارح مخيَّلته سريعاً وعلم النفس يأباه كلَّ الإباء؟! بل صورة الإله عند العربي كانت أوسع من صورة الإله عند الفارسي ؛ ذلك أنَّه كان يعبد ما تميل إليه نفسه وتصوِّره له مخيِّلته، فيوماً شاة، ويوماً صخرة، ويوماً صنماً.قال عمران بن حمران: (ولم أرَ أُناساً أضلَّ من العرب ؛ كانوا يجيئون بالشاة البيضاء فيعبدونها، فيجيء الذئب فيذهب بها، فيأخذون أُخرى مكانها فيعبدونها، وإذا رأوا صخرة جاؤوا بها، فإذا

١٨

رأوا أحسن من تلك، رموها وجاؤوا بتلك يعبدونها)(١) .

الآن وصلنا إلى نقطة خطرة في البحث قد يحسن فيها الإجمال، ولكن أُحبُّ أن أكون صريحاً مهما كلَّفتني الصراحة من المسؤولية، وأُحبُّ أن أسأل :إذا كان علم النفس يأبى محو تلك الصورة فهل نستطيع أن نعلم أحوال الصحابة من المهاجرين والأنصار؟ وإلى أيِّ درجة وصل الإسلام إلى قلوبهم؟ وإن نحن تغاضينا عن ذلك وأهملنا هذه المسألة ،أفتظن أنَّ المبشِّرين الذين جاسوا خلال الديار وانتشروا في سائر الأقطار يهملونها؟ ولا يجادلون في ذلك جدالاُ عنيفاً وعلم النفس يخوِّلهم أن يلقوا السؤال نفسه، والظروف تسمح لهم بأكثر من ذلك؟ وغير بعيد أن نفوسهم تمنِّيهم بالسؤال عن الخلفاء الراشدين الذين عفَّروا جباههم أمام الأصنام؟ ولا نشك أنَّه أول ما ينقدح في ذهن المبشِّر أنَّ الخليفة حينما كان يقف إماماً للصلاة كان يتصوَّر أنَّه يقف بين يدي إله شبيه بذلك الإله الذي كان منصوباً على ظهر الكعبة، وكذلك تلك الصفوف التي كانت تأتُّم به ؛ لأنَّه بهذا المقدار يسمح لهم دين قديم نشأ فيه ناشئهم وشبَّ عليه).

ولستُ أعلم غلطاً أفحش من هذا، ولا نتائج أقبح من هذه النتائج.ولطالما تعثَّر الكتَّاب في آرائهم ونتائجهم، ولكن لم يبلغ بهم التعثُّر إلى هذا الحد من الخطأ والخطل.

على أنَّ صاحب الكتاب لم يسلم من العثار في فلسفته الجديدة، وقد بلغ به العثار إلى حدِّ التناقض القبيح ؛ فلقد عرفنا أنَّه ليس للفارسي وغيره أن يفهم دين الإسلام كما يفهمه العربي، بيد أنَّه لو تأمَّلنا يسيراً في قوله: (وبعد، فإلى أيِّ حدٍّ تأثَّر العرب بالإسلام؟ وهل انمحت تعاليم الجاهلية ونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الإسلام؟ الحق أنَّه ليس كذلك، وتاريخ الأديان والآراء يأبى ذلك كل الإباء)(ص ٩٤) لرأيناه يقرِّر التناقض ؛ ذلك أنَّه زعم أولاً أنَّ العربي صفت نفسه ففهم الإسلام كما يريد الإسلام، وهنا تراه يغيِّر ذلك المحور، فيرى أنَّ الجاهلية حالت دون فهم العرب الإسلام كما يريد الإسلام، بل استمرت الجاهلية تنازع الإسلام إلى أمد بعيد، وكانت النزعات الجاهلية من حين إلى آخر تحارب النزعات الإسلامية، ولم تكن الحرب سجالاً في سائر الأوقات، بل ربَّما كانت تستظهر الجاهلية على الإسلام حسبما يقصُّه علينا من الأمثلة، فراجع.

وإذا راعك منه هذا التناقض الغريب، فلا شك أنَّك تعجب أشدَّ العجب حينما تراه قد

____________________

(١) الاستيعاب، ج ٣، ص ٣٩٦، باب: عمران.

١٩

استثنى من هذه الكلية السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، يقول: (بل خير مَن تأثَّر به هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، أولئك وصل الدين إلى أعماق نفوسهم وأخلصوا له)(ص ٩٨).

سهل على صاحب الكتاب إلقاء الكلام مرسلاً، وسهل عليه أن يتخبَّط في بحثه كمَن يمشي والقيد في رجليه، وسهل عليه أن يجعل عقله وراء لسانه ووراء قلمه.

وأول ما يجب عليَّ أن أقرَّ بالعجز، فلا أفهم أنَّ تاريخ الأديان والآراء كيف لم يأبَ ذلك في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ وكيف علم النفس سمح لهم بذلك؟ فهل صفت نفوسهم فكانت كزجاجة المصوِّر، فأول ما صدع النبي العربي بالحق ارتسمت تعاليمُ الإسلام على صفحات قلوبهم(المتشبِّعة بتعاليم الجاهلية) وفهموها كما يريد الإسلام؟ أو أنَّهم لم يكونوا قبل الإسلام بذوي دين ولم يسجدوا لأصنام، فجاءهم الإسلام وقلوبهم

خالية، ففهموا الإسلام كما يريد الإسلام؟ كل ذلك لم يوضحه صاحب الكتاب وتركه هملا.

ولو أردنا أن نَلُمَّ بهذا الموضوع تماماً، فلربَّما جرَّنا البحث إلى ما لا تحمد عقباه، إذن نتركه هملاً.ولا يمنعنا أن نقول إجمالاً: أنَّ تاريخ سقيفة بني ساعدة يملي علينا درساً كاملاً، يوضح لنا به نفسية المهاجرين والأنصار وأنَّه لم تصف نفوسهم إلى حد وصل الدين إلى أعماق قلوبهم( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) .وليقف الباحث وقفة بسيطة عند قوله تعالى:( وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) ليعلم أنَّ الدين لم يصل إلى أعماق قلوبهم.وهيهات أن يكون كذلك والتاريخ يحدِّثنا عن نهضة الجنِّ ونصرتهم للمسلمين في تلك الحروب الضروس وقتلهم سعداً!!!

والصحاح تحدِّثنا عن قول عمررضي‌الله‌عنه : (إنَّ النبي يهجر) ؛ ذلك حينما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمَّا اشتد به الوجع: (ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً)(١) فكل ذلك يشرّف الباحث

____________________

(١) لا أراني مضطرّاً إلى نقل طُرق الحديث ؛ فقد أخرجه المحدِّثون كافَّة بطرق مجمع على صحتها، وذكره صاحب الكتاب ص ٣٥٠.ولقد تصرَّف المحدِّثون فيه ؛ فنقلوه بالمعنى، واللفظ الثابت عن عمررضي‌الله‌عنه : إنَّ النبي يهجر.ودفعاً للاستهجان نقلوه بالمعنى، فقالوا: إنَّ النبي قد غلب عليه الوجع.وقد لمَّح لذلك ابن أبي الحديد في شرح النهج ( ج ٣، ص ٣٠) قال: لمَّا حضرت رسول الله الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطَّاب، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ائتوني بدواة وصحيفة أكتب كتابا لن تضلوا بعده أبدا )، قال: فقال عمر كلمة معناها أنَّ الوجع قد غلب

٢٠