استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ١

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 384

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 384
المشاهدات: 145328
تحميل: 5991


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 384 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 145328 / تحميل: 5991
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وإنّما عدل إلى قبر أُمّه ؛ لأنّها كانت مدفونة تحت كدي ، وكانت عسفان لهم .

وهذا حديث غريب وسياق عجيب .

وأغرب منه وأشدّ نكارة :

ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب السابق واللاّحق ، بسند مجهول ، عن عائشة ، في حديث فيه قصّة : أنّ الله أحيا أُمّه فآمنت ثمّ عادت .

وكذلك ما رواه السهيلي في الرّوض ، بسندٍ فيه جماعة مجهولون : أنّ الله أحيا له اباه وأُمه فآمنا به

وقد قال الحافظ ابن دحية : هذا الحديث موضوع ، يردّه القرآن والإجماع ، قال الله تعالى :( وَلاَ الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ ) .

وقد مال أبو عبد الله القرطبي إلى هذا الحديث ، وردّ على ابن دحية في هذا الإستدلال ما حاصله : إنّ هذه حياة جديدة ، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلّي عليّ العصر

قال الطحاوي : وهو حديث ثابت يعني حديث الشمس

قال القرطبي : فليس إحياؤهما بممتنع عقلاً ولا شرعاً

قال : وقد سمعت أنّ الله أحيى عمّه أبا طالب فآمن به .

قلت : وهذا كلّه يتوقّف على صحّة الحديث ، فإذا صحّ فلا مانع منه والله أعلم .

وقال العوفي عن ابن عبّاس في قوله :( مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) الآية ، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يستغفر لأُمّه فنهاه الله عن ذلك ، فقال : إنّ إبراهيم خليل الله قد استغفر لأبيه ، فأنزل الله :

( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاّ عَن مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيّاهُ ) الآية .

وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في هذه الآية : كانوا يستغفرون لهم حتّى نزلت هذه الآية ، فلمّا أُنزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ، ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتّى يموتوا ، ثمّ أنزل الله :( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ ) الآية .

وقال قتادة في هذه الآية : ذكر لنا أنّ رجالاً من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : يا نبيّ الله ! إنّ من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ، ويفكّ العاني ويوفي بالذمم ، أفلا نستغفر لهم ؟

٢٦١

قال : فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بلى والله ، إنّي لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه ، فأنزل الله :

( مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) حتّى بلغ الجحيم ، ثمّ عذر الله إبراهيم ( عليه الصلاة والسلام ) فقال :

( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَن مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَدُوّ للّهِ‏ِ تَبَرّأَ مِنْهُ ) (١) .

والذهبي

والذهبي أيضاً كذّب الحديث المذكور ، حيث قال في (ميزان الإعتدال ) :

( عبد الوهّاب بن موسى ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، بحديث : إنّ الله أحيا لي أُمّي فآمنت بي .

ـــــــــــــــــ

(١) تفسير ابن كثير ٤ : ٢٢١ ـ ٢٢٤ والآية في سورة التوبة : ١١٣ .

٢٦٢

الحديث كذب ، مخالف لِما صحَّ أنّهعليه‌السلام استأذن ربّه في الاستغفار لهما فلم يؤذن له )(١) .

وفي (لسان الميزان ) عن جماعةٍ أنّهم كذّبوا الحديث كذلك(٢) .

القائلون بالحقّ وأدلّتهم

لكنّ جماعةً من أعلامهم دافعوا عن الحق ، وأبطلوا هذه الأقاويل الفاسدة .

فالحافظ السيوطي ـ مثلاً ـ ألّف رسائل عديدة في إثبات نجاة آباء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتّى أنّه قال بكفر من يقول بكفر والديّ النبي ، ففي رسالته التي أسماها : (الدرج المنيفة في الآباء الشريفة ) :

( نقلت من مجموع بخطّ الشيخ كمال الدين الشمني ، والد شيخنا الإمام تقي الدين (رحمه‌الله ) ما نصّه : سُئل القاضي أبوبكر ابن العربي عن رجلٍ قال : إنّ آباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النار ، فأجاب بأنّه ملعون ؛ لأنّ الله تعالى قال :

( إِنّ الّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدّ لَهُمْ عَذَاباً مّهِيناً ) ، قال : ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه : إنّه في النّار )(٣) .

وقال في رسالته (الدوران الفلكي على ابن الكركي ) في بيان الأُمور المستهجنة التي ذكر صدورها من السخاوي :

( الثاني : إنّه تكلّم في حق والدي المصطفى بما لا يحلّ لمسلمٍ ذكره ، ولا

ـــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ٤ : ٤٣٧/٥٣٣٢ ترجمة عبد الوهّاب بن موسى .

(٢) لسان الميزان ٤ : ٥١٢/٥٤١٦ ترجمة عبد الوهّاب بن موسى .

(٣) الدرج المنيفة في الآباء الشريفة ( ضمن الرسائل العشر ) : ٤٢ .

٢٦٣

يسوغ أن يجزم عليه فكره ، فوجب علَيّ أنْ أقوم عليه بالإنكار ، وأنْ أستعمل في تنزيه هذا المقام الشريف الأقلام والأفكار ، فألّفت في ذلك ستّ مؤلّفاتٍ شحنتها بالفوائد ، وهي في الحقيقة أبكار ، ومن ذا الذي يستطيع أنْ ينكر علّيّ قيامي في ذلك ، أو يلقي نفسه في هذه المهالك ، من أنكر ذلك أكاد أقول بكفره وأستغرق العمر في هجره ) .

وقال السهيلي في (الروض الأنف ) :

( وذكر قاسم بن ثابت في الحديث : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زار قبر أُمّه بالأبواء في ألف مقنّعٍ ، فبكى وأبكى : وهذا حديثٌ صحيح .

وفي الصحيح ـ أيضاً ـ أنّه قال : استأذنت ربّي في زيارة قبر أُمّي فأذن لي ، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي .

وفي مسند البزّار من حديث بريدة : إنّهعليه‌السلام حين أراد أن يستغفر لأُمّه ، ضرب جبرئيل في صدره ، وقال : لا تستغفر لمن مات مشركاً ، فرجع حزيناً .

وفي الحديث زيادة في غير الصحيح : إنّه سُئل عن بكائه ، فقال : ذكرت ضعفها وشدّة عذاب الله ، إن كان صحَّ هذا .

وفي حديثٍ آخر ما يصحّحه ، وهو أنّ رجلاً قال له : يا رسول الله ، أين أبي ؟

فقال : في النار ، فلمّا ولّى الرجل ، قالعليه‌السلام له : إنّ أبي وأباك في النّار .

وليس لنا أنْ نقول هذا في أبويهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات ، والله عزّ وجلّ يقول :( إِنّ الّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (١) .

والواقع : إنّ السهيلي متذبذب مضطربٌ في هذا المقام ، ويزيد ذلك وضوحاً قوله بعد ذلك :

( وإنّما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك الرجل هذه المقالة ؛ لأنّه وجد في نفسه ، وقد قيل : إنّه قال : أين أبوك أنت ، فحينئذٍ قال ذلك .

وقد روى معمر بن راشد بغير هذا اللفظ ، فلم يذكر أنّه قال له : إنّ أبي وأباك في النّار ، ولكن ذكر أنّه قال له : إذا مررت بقبر كافرٍ فبشّره بالنّار .

ـــــــــــــــــ

(١) الروض الأنف ٢ : ١٨٥ ـ ١٨٦ بتفاوتٍ يسير .

٢٦٤

وروي في حديثٍ غريب لعلّه أن يصحّ ـ وجدته بخطّ جدّي أبي عمرو ـ : إنّ أحمد بن أبي الحسن القاضي (رحمه‌الله ) ـ بسندٍ فيه مجهولون ـ ذكر أنّه نقله من كتاب انتسخ من كتاب معوذ بن داود بن معوذ الزاهد ، يرفعه إلى أبي الزناد ، عن عروة ، عن عائشة : أُخبرت أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل ربّه أن يحيي أبويه ، فأحياهما له وآمنا به ثمّ ماتا .

والله قادر على كلّ شيء ، وليس تعجز رحمته وقدرته عن شيء ، ونبيّه أهل أن يخصّه بما شاء من فضله ، وينعم عليه بما شاء من كرامته ،صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

بل رجع إلى قول أسلافه الموجب للّعن ووافق عليه ، في موضعٍ آخر من كتابه ، حيث قال في غزوة أُحد :

( ووقع في هذه الغزوة : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع لسعدٍ أبويه ، فقال له : إرم فداك أبي وأُمّي

وروى الترمذي من طريق علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه قال : ما سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لأحدٍ فداك أبي وأُمّي إلاّ لسعد

وقال في روايةٍ أُخرى عنه : ما جمع رسول الله أبويه إلاّ لسعد .

والرواية الأُولى أصحّ والله أعلم ؛ لأنّه أخبر فيها أنّه لم يسمع ، وقد روى الزبير بن العوام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع له أيضاً أبويه وقال له كما قال لسعد ، ورواه ابنه عبد الله بن الزبير ، وأسنده في كتاب أنساب قريش الزبير ابن أبي بكر .

وفقه هذا الحديث أنّه جائز هذا الكلام لمن كان أبواه غير مؤمنين ، وأمّا من كان أبواه مؤمنين فلا ؛ لأنّه كالعقوق لهما

كذلك سمعت شيخنا أبابكر يقول في هذه المسألة ) .

ـــــــــــــــــ

(١) الروض الأنف ٢ : ١٨٧ .

٢٦٥

ومن الذين قالوا بالحقّ ودافعوا عنه ، ابن حجر المكّي ، حتّى أنّه اعترض على قول أبي حيّان الأندلسي بانحصار القول بإيمان آباء النبي بالإماميّة ، فقد ذكر القسطلاني في (المواهب اللدنيّة ) :

( نقل الإمام أبو حيان في البحر عند تفسير قوله تعالى :( وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) إنّ الرافضة هم القائلون إنّ آباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا مؤمنين ، مستدلّين بقوله تعالى : ( وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) وبقولهعليه‌السلام : لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين ، الحديث )(١) .

قال شارحه الشبراملسي في (تيسير المطالب السنيّة ) :

( قوله : ونقل الإمام أبو حيّان ...

قال الشهاب ابن حجر في كتابه : النعمة الكبرى على العالم بمولد سيّد بني آدم : وقول بعضهم : ونقل أبو حيان سوء تصرّف منه ؛ لأنّه ـ أعني ناقل هذا الكلام عن أبي حيّان ـ لو كان له أدنى مسكة من علمٍ أو فهم لتعقّب ما قاله أبو حيان أنّ الرافضة هم القائلون وقال له : هذا الحصر باطل منك ، أيّها النحوي البعيد عن مدارك الأُصول والفروع كيف ؟ وأئمّة الأشاعرة من الشافعيّة وغيرهم ـ على ما مرّ التصريح به ـ في نجاة سائر آبائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كبقيّة أهل الفترة ، فلو كنت ذا إلمامٍ بذلك لما حصرت نقل ذلك عن الرافضة وزعمت أنّهم المستدلّون عليه بالآية والحديث

وهذا الفخر الرازي من أكابر أئمّة أهل السنّة ، قد استدلّ بهما ونقل ذلك عن غيره ، فليتك أيّها الناقل عن أبي حيّان سكتَّ عن ذلك ، ووقيت عرضك وعرضه من رشق سهام الصواب فيهما ) .

وهذا كلام ابن حجر المكّي في ( المنح المكيّة ـ شرح القصيدة الهمزيّة ) :

( وقول أبي حيان : إنّ الرافضة هم القائلون بأنّ آباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤمنون غير معذَّبين ، مستدلّين بقوله تعالى :( وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) .

ـــــــــــــــــ

(١) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ١ : ٩٢ .

٢٦٦

فلك ردّه : بأنّ مثل أبي حيّان إنّما يرجع إليه في علم النحو وما يتعلّق بذلك ، وأمّا المسائل الأُصوليّة فهو عنها بمعزل ، كيف والأشاعرة ومن ذكر معهم ـ فيما مرّ آنفاً ـ على أنّهم مؤمنون ، فنسبة ذلك للرافضة وحدهم ـ مع أنّ هؤلاء الذين هم أئمّة أهل السنّة قائلون به ـ قصور وأيّ قصور، تساهل وأيّ تساهل )(١) .

فثبت ـ والحمد لله ـ أنّ القائلين بالقول الحقّ هم أهل الحقّ ، وأنّ كثيراً من غيرهم ـ أيضاً ـ يشاركونهم في هذا القول

وقال السيوطي في (الدرج المنيفة في الآباء الشريفة ) :

( الدرجة الثالثة : أنّهما كانا على التوحيد ودين إبراهيمعليه‌السلام ، كما كان على ذلك طائفة من العرب ، كزيد بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل وعمير ابن حبيب الجهني وعمر بن عنبسة ، في جماعةٍ آخرين ، وهذه طريقة الإمام فخر الدين الرازي ، وزاد : إن آباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّهم إلى آدم على التوحيد ودين إبراهيم ، لم يكن فيهم شرك .

قال : ممّا يدلّ على أنّ آباءهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كانوا مشركين : قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، وقال تعالى :( إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) فوجب أن لا يكون أحدٌ من أجداده مشركاً .

قال : ومن ذلك قوله تعالى :( الّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) معناه أنّه ينقل نوره من ساجد إلى ساجد .

قال : وبهذا التقرير ، فالآية دالّة على أنّ جميع آباء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا مسلمين .

قال : وحينئذٍ يجب القطع بأنّ والد إبراهيم ما كان من الكافرين ، إنّما كان ذاك عمّه ، أقصى ما في الباب أن يحمل قوله تعالى( وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) على وجوهٍ أُخرى ، وإذا وردت الروايات بالكلّ ولا منافاة بينهما ، وجب حمل الآية على الكلّ ، وبذلك يثبت أنّ والد إبراهيم ما كان من عبدة الأوثان ، وإنّ آزر لم يكن والده بل كان عمّه ، انتهى ملخّصاً وقد وافقه على الاستدلال بالآية الإمام الماوردي صاحب الحاوي الكبير ، من أئمّة أصحابنا .

ـــــــــــــــــ

(١) المنح المكيّة ـ شرح القصيدة الهمزيّة : ٢٧ .

٢٦٧

وقد وجدت ما يعضد هذه المقالة من الأدلّة ما بين مجمل ومفصّل ؛ فالمجمل : دليلٌ مركّب من مقدّمتين :

إحداهما : أنّ الأحاديث الصحيحة دلّت على أنّ كلّ أصلٍ من أُصولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أبيه إلى آدم ، خير أهل زمانه

والثانية : إنّ الأحاديث والآثار دلّت على أنّ الله لم يخل الأرض من عهد نوح إلى بعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ناسٍ على الفطرة ، يعبدون الله ويوحّدونه ويصلّون له وبهم يحفظ الأرض ، ولولاهم لهلكت الأرض ومن عليها .

ومن أدلّة المقدّمة الأُولى حديث البخاري : بعثت من خير قرن بني آدم ، قرناً فقرناً ، حتّى بعثت من القرن الذي كنت فيه .

وحديث البيهقي : ما افترقت الناس فرقتين إلاّ جعلني الله في خيرهما ، فأُخرجت من بين أبويّ فلم يصبني شيءٌ من عهد الجاهليّة ، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ، من لدن آدم حتّى انتهيت إلى أبي وأُمّي ؛ فأنا خيركم نفساً وخيركم أباً .

وحديث أبي نعيم وغيره : لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيّبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّى مهذّباً ، لا يتشعّب شعبتان إلاّ كنت في خيرهما .

في أحاديث كثيرة .

ومن أدلّة المقدّمة الثانية : ما أخرجه عبد الرزاق في المصنّف ، وابن المنذر في تفسيره ـ بسندٍ صحيح على شرط الشيخين ـ عن علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه قال : لم يزل على وجه الأرض من يعبد الله عليها .

وأخرج الإمام أحمد بن حنبل في الزهد ، والخلاّل في كرامات الأولياء ـ بسندٍ صحيحٍ على شرط الشيخين ـ عن ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه : ما خلت الأرض من بعد نوح من شعبة يدفع الله بهم عن أهل الأرض .

في آثار أُخر .

٢٦٨

وإذا قرنت بين هاتين المقدّمتين ، أُنتج منهما قطعاً : أنّ آباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن فيهم شرك ؛ لأنّه قد ثبت في كلٍّ منهم أنّه خير قرنه ، فإن كان الناس الذين هم على الفطرة هم آباؤه ، فهو المدّعى ، وإن كان غيرهم وهم على الشرك ، لزم أحد الأمرين : إمّا أن يكون المشرك خيراً من المسلم ، وهو باطل بنصّ القرآن والإجماع ، وإمّا يكون غيرهم خيراً منهم ، وهو باطل ، لمخالفته الأحاديث الصحيحة .

فوجب قطعاً أن لا يكون فيهم مشرك ؛ ليكونوا خير أهل الأرض ، كلّ في قرنه )(١) .

وقال ابن حجر بشرح :

لم تزل في ضمائر الكون

تختار لك الأُمّهات والآباء

قال ما نصّه : ( تنبيه : لك أن تأخذ من كلام الناظم ، الذي علمت أنّ الأحاديث مصرّحة به لفظاً في أكثره ، ومعنى في كلّه : أنّ آباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ غير الأنبياء ـ وأُمّهاته إلى آدم وحوّاء ليس فيهم كافر ؛ لأنّ الكافر لا يقال في حقّه أنّه مختار ولا كريم ولا طاهر بل نجس كما في آية( إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) .

وقد صرّحت الأحاديث السابقة بأنّهم مختارون ، وأنّ الآباء كرام ، وأنّ الأُمّهات طاهرات وأيضاً : فهم إلى إسماعيل كانوا من أهل الفترة ، وهم في حكم المسلمين

بنصّ الآية الآتية ، وكذا من بين كلّ رسولين .

وأيضاً : قال تعالى :( وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) على أحد التفاسير فيه : أنّ المراد ينقل نوره من ساجدٍ إلى ساجد

وحينئذٍ ، فهذا صريح في أنّ أبويّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ آمنة وعبد الله ـ من أهل الجنّة ؛ لأنّهما أقرب المختارين لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهذا هو الحقّ ، بل في حديثٍ ـ صحّحه غير واحدٍ من الحفّاظ ولم يلتفتوا لمن طعن فيه ـ : أنّ الله تعالى أحياهما فآمنا به خصوصيّةً لهما وكرامةً لهعليه‌السلام .

فقول ابن دحية يردّه القرآن والإجماع ، ليس في محلّه ؛ لأنّ ذلك ممكن شرعاً وعقلاً ، على جهة الكرامة والخصوصيّة ، فلا يردّه قرآن ولا إجماع .

ـــــــــــــــــ

(١) الدرج المنيفة في الآباء الشريفة ( ضمن الرسائل العشر ) ٣٢ ـ ٣٤ .

٢٦٩

وقد صحّ أنّهعليه‌السلام ردّت عليه الشمس بعد مغيبها فعاد الوقت حتّى صلّى عليّ العصر أداءً ، كرامةً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكذا هنا ، وطعن بعضهم في صحّة هذا بما لا يجدي أيضاً .

وخبر أنّه تعالى لم يأذن لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الاستغفار لأبويه ، إمّا كان قبل إحيائهما له وإيمانهما به ، أو أنّ المصلحة اقتضت تأخير الاستغفار لهما عن ذلك الوقت ، فلم يؤذن له فيه حينئذٍ .

فإن قلت : إذا قرّرتم أنّهما من أهل الفترة ، وأنّهم لا يعذّبون ، فما فائدة الإحياء ؟

قلت : فائدته إتحافهما بكمالٍ لم يحصل لأهل الفترة ؛ لأنّ غاية أمرهم أنّهم أُلحقوا بالمسلمين في مجرّد السلامة من العقاب ، وأمّا مراتب الثواب العليّة فهم بمعزلٍ عنها ، فأُتحفا بمرتبة الإيمان زيادةً في شرف كمالهما لحصول تلك المراتب لهما

وفي هذا مزيد ذكرته في الفتاوى .

ولا يرد على الناظم آزر ، فإنه كافر مع أنّ الله تعالى ذكر في كتابه العزيز أنّه أبو إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ؛ وذلك لأنّ أهل الكتابين أجمعوا على أنّه لم يكن أباً حقيقة وإنّما كان عمّه ، والعرب تسمّي العمّ أباً ، بل في القرآن ذلك ، قال تعالى :

( وَإِلهَ آبائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ) مع أنّه كان عمّ يعقوب ، بل لو لم يجمعوا على ذلك وجب تأويله بهذا جمعاً بين الأحاديث ، وأمّا من أخذ بظاهره ـ كالبيضاوي وغيره ـ فقد تساهل واستروح )(١) .

هذا ، والأعجب من ذلك كلّه : قدح جماعةٍ من أئمّتهم في نسب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بدعوى أنّ كنانة زوجة خزيمة قد مكَّنت أباها من نفسها ، فكان النضر بن كنانة ، وهو من أجدادهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أعاذنا الله من الافتراء والبهتان والارتباك في العمى والخذلان

وتفصيل هذه القصّة الشنيعة في (الروض الأنف ) و (المعارف ) وغيرهما من كتب القوم(٢) .

ــــــــــــــ

(١) المنح المكيّة ـ شرح القصيدة الهمزيّة : ٢٥ ـ ٢٦ .

(٢) الروض الأنف ٢ : ٣٥٦ ـ ٣٥٧ ، المعارف لابن قتيبة : ١٣٠ .

٢٧٠

تنبيه حول رأي الرازي

قد تقدَّم في كلام السيوطي وابن حجر المكي : أنّ الفخر الرازي من القائلين بإسلام آباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ السيوطي والقسطلاني نقلا ذلك عنه في كتابه (أسرار التنزيل ) ، فاقتضى ذلك مراجعة الكتاب المذكور ، ومراجعة (التفسير الكبير ) .

أمّا في (التفسير الكبير ) فقد وجدنا الرازي ـ وللأسف الشديد ـ يحاول إثبات القول المخالف للحق ، فكان من الضروري الوقوف على كلامه في (أسرار التنزيل ) لمعرفة مدى صحّة ما نسبوا إليه ، حتّى عثرنا عليه فوجدناه كذلك ، فإنّه ينقل القول الحقّ الصحيح ثمّ يردّ عليه بزعمه ، غير أنّه في (التفسير الكبير ) ينسب القول الحق والاستدلال عليه إلى الإماميّة بصراحةٍ ، أمّا في (أسرار التنزيل ) فيذكر في والد سيّدنا إبراهيمعليه‌السلام قولين ـ بلا نسبةٍ لأحد ـ

أحدهما : كون آزر والده ،والآخر : أنّه لم يكن والده فأورد للاستدلال على هذا القول ما نقله السيوطي وغيره عنه ثمّ جعل يردّ عليه وكأنّ السيوطي لم يلحظ آخر كلامه ، فنسب إليه القول بالحق ، والحال أنّه ليس كذلك .

وإليك نصّ كلامه في (التفسير الكبير ) :

( قالت الشيعة : أنّ أحداً من آباء الرسول وأجداده ما كان كافراً ، وأنكروا أن يقال أنّ والد إبراهيم كان كافراً ، وذكروا أنّ آزر كان عمّ إبراهيمعليه‌السلام وما كان والداً له ، واحتجّوا على قولهم بوجوه :

الحجّة الأُولى : إنّ آباء الأنبياء ما كانوا كفّاراً ، ويدلّ عليه وجوه : منها قوله تعالى :( الّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) (١)

قيل : معناه أنّه كان ينقل روحه من ساجدٍ إلى ساجد ، وبهذا التقرير فالآية دالّة على أنّ جميع آباء محمّدعليه‌السلام كانوا مسلمين ، وحينئذٍ ، يجب القطع بأنّ والد إبراهيم كان مسلماً .

فإن قيل :( وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) يحتمل وجوهاً أُخرى :

ـــــــــــــــــ

(١) سورة الشعراء ٢٦ : ٢١٨ ـ ٢١٩ .

٢٧١

أحدها : أنّه لمّا نسخ فرض قيام اللّيل ، طاف الرسولعليه‌السلام تلك اللّيلة على بيوت أصحابه لينظر ماذا يصنعون ، لشدّة حرصه على ما يظهر منهم من الطاعات ، فوجدها كبيوت الزنابير ، لكثرة ما يسمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتهليلهم ، فالمراد من قوله( وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) طوافه ( صلوات الله عليه ) تلك اللّيلة على الساجدين .

وثانيها : المراد أنّهعليه‌السلام كان يصلّي بالجماعة ، فتقلّبه في الساجدين معناه : كونه فيما بينهم ومختلطاً بهم حال القيام والركوع والسجود .

وثالثها : أن يكون المراد أنّه لا يخفى حالك على الله كلّما قمت وتقلّبت مع الساجدين في الاشتغال بأُمور الدين .

ورابعها : المراد تقلّب بصره فيمن يصلّي خلفه ، والدليل عليه قولهعليه‌السلام : أتمّوا الركوع والسجود فإنّي أراكم من وراء ظهري .

فهذه الوجوه الأربعة ممّا يحتملها ظاهر الآية ، فسقط ما ذكرتم .

والجواب : لفظ الآية محتمل للكلّ ، وليس حمل الآية على البعض أولى من حملها على الباقي ، فوجب أن نحملها على الكلّ ، وحينئذٍ حصل المقصود .

وممّا يدلّ ـ أيضاً ـ على أنّ أحداً من آباء محمدٍعليه‌السلام ما كان من المشركين : قولهعليه‌السلام :

( لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ) ، وقال تعالى :( إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (١)

وذلك يوجب أن يقال : إنّ أحداً من أجداده ما كان من المشركين .

إذا ثبت هذا فنقول : ثبت بما ذكرنا أنّ والد إبراهيمعليه‌السلام ما كان

ـــــــــــــــــ

(١) سورة التوبة ٩ : ٢٨ .

٢٧٢

مشركاً ، وثبت أنّ آزر كان مشركاً ، فوجب القطع بأنّ والد إبراهيم كان إنساناً آخر غير آزر .

وأمّا أصحابنا ، فقد زعموا أنّ والد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان كافراً ، وذكروا أنّ نصّ الكتاب في هذه الآية يدلّ على أنّ آزر كان كافراً ، وكان والد إبراهيمعليه‌السلام ، وأيضاً : قوله تعالى :( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيه ) (١) إلى قوله( فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَدُوّ للّهِ‏ِ تَبَرّأَ مِنْهُ ) (٢) وذلك يدلّ على قولنا

وأمّا قوله( وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) قلنا : قد بيّنّا أنّ هذه الآية تحتمل سائر الوجوه ، قوله : تحمل هذه الآية على الكل ، قلنا : هذا محال ؛ لأنّ حمل اللفظ المشترك على جميع معانيه لا يجوز ، وأيضاً : حمل اللفظ على حقيقته ومجازه معاً لا يجوز .

وأمّا قولهعليه‌السلام : لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، فذلك محمول على أنّه ما وقع في نسبه ما كان )(٣) .

وقال في (أسرار التنزيل ) :

( أمّا قوله تعالى :( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ ) (٤) ففيه مسائل :

المسألة الأُولى : في آزر قولان :

الأوّل : إنّه والد إبراهيمعليه‌السلام : ولهم في ذلك دلائل :

الحجّة الأُولى : ظاهر لفظ القرآن في هذه الأية يدلّ على ذلك ، ثمّ إنّ ظاهر هذه الآية متأكّد بآيات أُخرى ، منها : قوله تعالى في سورة مريم :

( إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ) (٥)

ـــــــــــــــــ

(١ و٢) سورة التوبة ٩ : ١١٤ .

(٣) تفسير الرازي ١٣ : ٣٨ ـ ٤٠ .

(٤) سورة الأنعام ٦ : ٧٤ .

(٥) سورة مريم ١٩: ٤٢.

٢٧٣

وقال أيضاً :ر مَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ ) إلى قوله :( فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَدُوّ للّهِ‏ِ تَبَرّأَ مِنْهُ ) ، فكلّ هذه الآيات تدلّ على أنّ أبا إبراهيم كان كافراً عابداً للوثن .

الحجّة الثانية : إنّ العرب سمعوا هذه الآية ، وقد كانوا أحرص الناس على تكذيب الرسول وأعظمهم رغبة في براءة شجرة النسب عن كلّ عيب ، فلو لم يكن آزر والد إبراهيم لتسارعوا إلى تكذيبه ، ولوجدوا ذلك غنيمة عظيمة في الطعن فيه .

الحجّة الثالثة : إنّه تعالى ذكر قصّة إبراهيمعليه‌السلام مع أبيه في آياتٍ كثيرة ، ولم يذكر اسم العمّ في القرآن ، فيتعذّر حمل لفظ الأب في هذه الآية على العم .

القول الثاني :

إنّ آزر لم يكن والد إبراهيمعليه‌السلام

واحتجّوا عليه بوجوه :

الأوّل : إنّ آباء الأنبياء ما كانوا كفّاراً ، ويدلّ عليه وجوه :

منها : قوله تعالى :( الّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) قيل : معناه أنّه كان ينتقل روحه من ساجد إلى ساجد ، وبهذا التقرير ، فالآية دالّة على أنّ جميع آباء محمّدعليه‌السلام كانوا مسلمين ، وحينئذٍ يجب القطع بأنّ والد إبراهيم ما كان من الكافرين ، أقصى ما في الباب أن يحمل قوله تعالى( وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) على وجوه :

منها : إنّه لمّا نسخ فرض قيام الليل طاف الرسولعليه‌السلام تلك الليلة على بيوت أصحابه لينظر ماذا يصنعون ؛ لشدّة حرصه على ما يظهر منهم من الطاعات ، فوجدها كبيوت الزنابير لكثرة ما يسمع من دندنتهم بذكر الله ، فالمراد من قوله :( وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) طوفهعليه‌السلام على الساجدين في تلك الليلة .

ومنها : المراد يراك حين تقوم للصّلاة بالناس جماعة ، وتقلّبه في الساجدين : كونه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده ؛ لأنّه كان إماماً .

ومنها : أنّه لا يخفى على الله حالك كلّما قمت وتقلّبت مع الساجدين ، في الاشتغال بأمر الدين .

ومنها : المراد تقلّب بصره فيمن يصلّي خلفه من قوله : أتمّوا الركوع والسجود فإنّي أراكم من ورائي وخلفي .

٢٧٤

فهذه الآية وإن كانت تحتمل هذه الوجوه الأربعة ، إلاّ أنّ الوجه الذي ذكرناه الآن أيضاً محتمل ، والروايات وردت بالكلّ ، ولا منافاة بين هذه الوجوه ، فوجب حمل الآية على الكلّ ، ومتى صحّ ذلك ثبت أنّ والد إبراهيم ما كان من عبدة الأوثان .

وممّا يدلّ على أنّ آباء محمّدعليه‌السلام ما كانوا من المشركين : قولهعليه‌السلام : لم أزل أُنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، وقال تعالى :( إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) ، فوجب أن لا يكون أحد من آبائه مشركاً .

الحجّة الثانية على أنّ آزر ما كان والد إبراهيمعليه‌السلام : إنّ هذه الآية دالّة على أنّ إبراهيم شافه آزر بالغلظة ، ومشافهة الأب بالغلظة لا تجوز ، وذلك يدلّ على أنّ آزر ما كان والد إبراهيم

أمّا أنّ إبراهيم شافه آزر بالغلظة ، فلوجهين :

الأوّل : إنّه قرئ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ) بضمّ آزر ، وهذا يكون محمولاً على النداء ، ومخاطبة الأب ونداؤه بالاسم من أعظم أنواع الجفاء .

الثاني : إنّه قال لآزر :( إِنّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) وهو من أعظم أنواع الإيذاء .

فثبت أنّه شافه آزر بالغلظة .

وإنّما قلنا إنّ مشافهة الأب بالغلظة لا يجوز ، لوجوه :

الأوّل : قوله تعالى :

( وَقَضَى‏ رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) وهذا عام في حقّ الكافر والمسلم

وقال تعالى :( فَلا تَقُل لَهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ) وهذا ـ أيضاً ـ عام .

الثاني : إنّه تعالى لمّا بعث موسى إلى فرعون أمره بالرفق معه ، قال تعالى :( فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لّيّناً ) والسبب في ذلك أن يصير هذا رعاية لحقّ تربية فرعون ، فهاهنا الوالد أولى بالرفق .

الثالث : إنّ الدعوة مع الرفق أكثر تأثيراً في القلب ، وأمّا التغليظ فإنّه ينفّر السامع عن القبول ، ولهذا قال تعالى لمحمّدعليه‌السلام :( وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ، فكيف يليق بإبراهيم هذه الخشونة مع أبيه في وقت الدعوة .

٢٧٥

الرابع : إنّه تعالى حكى عن إبراهيمعليه‌السلام الرفق الشديد مع هذا المسمّى بالأب ، وهو قوله :

( يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ) ، ثمّ إنّ ذلك الإنسان غلظ معه في القول ، فقال :( لَئِن لّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنّكَ ) ، ثمّ إنّ إبراهيمعليه‌السلام ما ترك الرفق معه بل قال :( سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّي ) ، فإذا كان عادة إبراهيم في الرفق والقول الحسن هذا ، فكيف يليق أن يظهر الخشونة والغلظة مع أبيه ؟

فثبت بهذه الحجّة أنّ آزر ما كان والد إبراهيم .

الحجّة الثالثة : إنّه جاء في كتب التواريخ : أنّ اسم والد إبراهيمعليه‌السلام تارخ ، وأمّا آزر فهو كان عمّ إبراهيم .

ثمّ إنّ القائلين بهذا القول أجابوا عن دلائل أصحاب القول الأوّل ، فقالوا :

القرآن وإن دلّ على تسمية آزر بالأب ، إلاّ أنّ هذا لا يدلّ على القطع بكونه والداً له ؛ وذلك لأنّ لفظة الأب فقد تطلق على العمّ ، قال تعالى حكاية عن أولاد يعقوب :( نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ) فسمّوا إسماعيل أباً ليعقوب ، مع أنّ إسماعيل كان عمّاً ليعقوب ، وقال رسولناعليه‌السلام : ردّوا علَيّ أبي يعني العبّاس

وأيضاً : يحتمل أن يكونَ آزر كان أب أُم إبراهيم ، وهذا قد يقال له الأب ، قال تعالى :( وَمِن ذُرّيّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) إلى قوله :( وعيسى ) ، فجعل عيسى من ذرّيّة إبراهيم مع أنّه كان جدّه من قبل الأُمّ ، وبهذا ظهر الجواب عن الحجّة الثانية ؛ وذلك لأنّ تسمية العم بالأب مشهور في اللغة العربيّة ، فلهذا السبب في هذه الآية ما كذّبوه .

هذا تمام هذا الكلام في نصرة هذا القول .

واعلم أنّ القول الأوّل أولى ؛ وذلك لأنّ ظاهر لفظ الأب يدلّ على الوالد .

أمّا التمسّك بقوله تعالى :( وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) فهو محمول على سائر الوجوه ، ولا نحمله على أنّ روحه كانت تنتقل من ساجدٍ إلى ساجد ، محافظة على ظاهر الآية التي تمسّكنا بها ، وهو قوله( لأبيه آزر ) .

٢٧٦

وأمّا الحجّة الثانية فجوابها : إنّكم تمسّكتم بعمومات دالّة على أنّه لا يجوز إظهار الخشونة مع الأب ، فنقول :

إن قلنا بما ذكرتم ، سَلِمَتْ تلك العمومات عن هذا التخصيص ، إلاّ أنّه وجب حمل لفظ الأب على المجاز ، وإن أجرينا لفظ الأب على حقيقته ، لزمنا إدخال التخصيص في تلك العمومات ، لكنّا بيّنّا في أُصول الفقه : إنّه مهما وقع التعارض بين المجاز والتخصيص ، كان التزام التخصيص أولى ، فكان الترجيح معنا )(١) .

أقول :

وأمّا تشكيكات الرازي ـ المعروف بإمام المشكّكين ـ في استدلال أهل الحق بالآية :( وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) والحديث المذكور ، فركيكة جدّاً .

أمّا في الآية ، فغاية ما قال : إنّ حمل اللفظ المشترك على جميع معانيه غير جائز ، كحمل اللفظ الواحد على كلا معنييه الحقيقي والمجازي ، وفيه :

أوّلاً : إنّه متى ورد بتفسير الآية المباركة رواية من أهل السنّة تثبت قول أهل الحق ، صحّ الاستدلال بها ، لمطابقتها روايات أهل البيتعليهم‌السلام واعتضادها بالأدلّة السديدة الأُخرى ، وحينئذٍ ، لا يلتفت إلى الأقوال والتفاسير الأُخرى للآية ، ولا تكون قادحةً في هذا الاستدلال .

وقد عرفت من كلام السيوطي احتجاج الماوردي صاحب كتاب ( الحاوي ) بالآية على إسلام آباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكفى بذلك ردعاً للشبهات ودفعاً للتوهّمات .

وثانياً : إنّ إرادة المعاني المتعدّدة من اللفظ المشترك جائز عند الشافعي وهو إمام الفخر الرازي ، بل لقد قال بوجوبه عند عدم المخصّص وقد ذكر الرازي نفسه هذا القول عن الشافعي في كتابه الذي ألّفه في ترجيح مذهبه ـ أي الشافعي ـ على سائر المذاهب ، ودافع عنه ونصّ على موافقة أجلّة الأُصوليّين معه ، وهذا نصّ عبارة الرازي :

( المسألة الرابعة : عابوا عليه قوله : اللفظ المشترك محمول على جميع

ـــــــــــــــــ

(١) أسرار التنزيل للفخر الرازي : ٢٩٦ ـ ٢٧٢ ، الباب الثاني ، الفصل الأوّل .

٢٧٧

معانيه عند عدم المختصص

قالوا : والدليل على أنّه غير جائز : أنّ الواضع وضعه لأحد المعنيين فقط ، فاستعماله فيهما يكون مخالفةً للّغة .

وأقول : إنّ كثيراً من الأُصوليّين المحقّقين وافقوه عليه ، كالقاضي أبي بكر الباقلاني والقاضي عبد الجبار بن أحمد ، ووجه قوله فيه ظاهر ، وهو أنّه لمّا تعذَّر التعطيل والترجيح لم يبق إلاّ الجمع

وإنّما قلنا : إنّه تعذّر التعطيل ؛ لأنّه تعالى إنّما ذكره للبيان والفائدة ، والقول بالتعطيل إخراج له عن كونه بياناً ، وإنّما قلنا : إنّه تعذّر الترجيح ، لأنّه يقتضي ترجيح الممكن من غير مرجح وهو محال

ولمّا بطل القسمان لم يبق إلاّ الجمع

وهذا وجه قويّ حسن في المسألة، وإنْ كنّا لا نقول به )(١) .

فظهر : إنّ هذا القول قول إمامه الشافعي ، وغير واحدٍ من الأئمّة موافقون له ، والرازي يدافع عنه بوجهٍ قوي حسن .

وإذا كان الرازي لا يوافق عليه في (التفسير الكبير ) ، فهو موافق له في (أسرار التنزيل ) حيث يقول :

( أمّا التمسّك بقوله تعالى :( وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) فهو محمول على سائر الوجوه ، ولا نحمله على أنّ روحه كانت تنتقل من ساجدٍ إلى ساجد )(٢) .

فإنّ معنى الحمل على سائر الوجوه هو الحمل على المعاني المتعدّدة .

وأمّا في الحديث ـ وهو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين ـ فحاصل استدلال أهل الحق هو : إنّ الله تعالى وصف المشركين بالنجاسة وهي ضدّ الطهارة ، فلو كان آباؤهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ـــــــــــــــــ

(١) رسالة الرازي في ترجيح مذهب الشافعي ـ المسألة الرّابعة .

(٢) أسرار التنزيل : ٢٧٢ ، الباب الثاني ، الفصل الأوّل .

٢٧٨

مشركين لما وصفهم بالطهارة ، وإلاّ لزم اجتماع الضدّين .

ولم يتعرَّض الفخر الرازي للجواب عن هذا الاستدلال ، والحديث منقول بطرق متعدّدة ، فحاول تأويله بما لم يرتضه هو في (أسرار التنزيل ) حيث لم يذكره أصلاً ، وإنّما قال :

( وأمّا الحديث ، فهو خبر واحد فلا يعارض القرآن ) .

ولا يخفى وهن هذا الكلام وكم من موردٍ قد رفعوا اليد فيه عن ظاهر القرآن بخبرٍ واحد !!

ثمّ إنّ عدم كون آزر والداً لسيّدنا إبراهيمعليه‌السلام ليس قول أهل الحق وحدهم ، فقد وافقهم غير واحدٍ من أئمّة المفسّرين ، كما ذكر السيوطي في (الدرج المنيفة ) .

هذا ، ويعجبني في هذا المقام كلام شارح (مسلّم الثبوت ) ، فإنّه مع مراءه التام وتعصّبه الشديد الشائع بين الخاص والعام ، أتى بما يجلو صدأ الأفهام ويزيح ظلمة الشكوك والأوهام ، حيث قال في (فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت ) :

( وأمّا الواقع ، فالمتوارث من لدن آدمعليه‌السلام أبي البشر إلى نبيّنا ومولانا أفضل الرسل وأشرف الخلق محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه لم يبعث نبيّ قطّ أشرك بالله طرفة عين ، وعليه نصّ الإمام أبو حنيفة (رحمه‌الله ) في الفقه الأكبر ، وفي بعض المعتبرات : أنّ الأنبياءعليهم‌السلام معصومون عن حقيقة الكفر وعن حكمه بتبعيّة آبائهم ، وعلى هذا ، فلابدّ من أن يكون تولّد الأنبياء بين أبوين مسلمين أو يكون موتهما قبل تولّدهم ، لكن الشقّ الثاني قلّما يوجد في الآباء ولا يمكن في الأُمّهات ، ومن هاهنا بطل ما نسب بعضهم من الكفر إلى أُمّ سيّد العالم مفخر بني آدم ، صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلامه ؛ وذلك لأنّه حينئذٍ يلزم نسبة الكفر بالتبع ، وهو خلاف الإجماع ، بل الحقّ الراجح هو الأوّل .

وأمّا الأحاديث الواردة في أبَوَي سيّد العالم صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلامه ، متعارضة مرويّة آحاداً ، فلا تعويل عليها في الاعتقاديّات .

٢٧٩

وأمّا آزر ، فالصحيح أنّه لم يكن أبا إبراهيمعليه‌السلام بل أبوه تارخ ، كذا صحّح في بعض التواريخ ، وإنّما كان آزر عمّ إبراهيمعليه‌السلام وربّاه الله تعالى في حجره ، والعرب تُسمّي العم الذي ولي تربية ابن أخيه أباً له ، وعلى هذا التأويل قوله تعالى :( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ) ، وهو المراد بما روي في بعض الصحاح : أنّه نزل في أبي سيّد العالم ( صلوات الله عليه ) :

( مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى‏ مِن بَعْدِ مَاتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) ، فإنّ المراد بالأب العم ، كيف لا ؟ وقد وقع صريحاً في صحيح البخاري أنّه نزل في أبي طالب هذا .

وينبغي أن يعتقد أنّ آباء سيّد العالم ـ صلّى الله عليه وآله وأصحابه وسلَّم ـ من لدن أبيه إلى آدم كلّهم مؤمنون ، وقد بيّن السيوطي بوجهٍ أتم )(١) انتهى .

ـــــــــــــــــ

(١) فواتح الرحموت ـ شرح مسلّم الثبوت ـ على هامش المستصفى ٢ : ٩٨ .

٢٨٠