استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 456
المشاهدات: 192444
تحميل: 5466


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192444 / تحميل: 5466
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وهذا منقطع ، لم يتّصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد ، ولا يصحّ فيهذا الباب شيء أبداً ، وكلّ ما فيه فموضوع ) (١) .

حديث المؤمن لا يزني حين يزني

( ومنها ) ما أخرجه البخاري في كتاب الأشربة قال :

( حدّثنا أحمد بن صالح قال : ثنا ابن وهب قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : سمِعت أبا سلمة عن عبد الرحمان وابن المسيّب يقولان : قال أبو هريرة : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( المؤمن لا يزني حين يزني ، وهو مؤمن )(٢) .

وهذا الحديث كذَّبه أبو حنيفة ، كما في كتاب( العالم والمتعلّم ) (٣) ، فقد جاء فيه :

( قال المتعلّم : ما قولك في أُناسٍ رَوَوا أنّ المؤمن إذا زنى خُلِع الإيمانُ من رأسه كما يُخلَع القميص ، ثمّ إذا تاب أعاد الله إيمانه ، أتشكّ في قولهم أو تصدّقهم ؟ فإنْ صدّقت قولهم دخلت في قول الخوارج ، وإنْ شككت في قولهم شكَكْت في قول الخوارج ورجعت عن العدل الذي وصفت ، وإنْ كذّبت قولهم الذي قالوا : كذّبت بقول النبيّعليه‌السلام ، فإنّهم رَوَوا عن رجالٍ شتّى حتّى انتهى به إلى رسول اللهعليه‌السلام .

قال العالم : كذَب هؤلاء ، ولا يكون تكذيبي هؤلاء وردّي عليهم تكذيباً للنبيّعليه‌السلام ، إنّما يكون التكذيب لقول النبيّعليه‌السلام أنْ يقول الرجل

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٧ : ١٩٣ .

(٢) صحيح البخاري ٧ : ١٩٠ .

(٣) هذا الكتاب لأبي حنيفة ، والمقصود من ( العالم ) أبو حنيفة ، ومن ( المتعلّم ) تلميذه : أبو مطيع البلخي وهو راوي الكتاب .

٤٠١

أنا مكذّبٌ للنبيّعليه‌السلام ، وأمّا إذا قال أنا مؤمنٌ بكلّ شيء تكلّم به النبيّعليه‌السلام ، غير أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتكلّم بالجور ولم يُخالف القرآن ، فهذا مِن التصديق بالنبيّ وبالقرآن وتنزيهٌ له من الخلاف على القرآن ، ولو خالف النبيّعليه‌السلام القرآن وتقوّل على الله ، لم يدعه تبارك وتعالى حتّى يأخذه باليمين ويقطع منه الوتين ، كما قال تعالى في القرآن ، ونبيّ الله لا يُخالف كتاب الله ، ومُخالف كتاب الله لا يكون نبيّ الله .

وهذا الذي رووه خلاف القرآن ، ألا ترى إلى قوله تعالى :( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي... ) (١) ثمّ قال( وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ... ) (٢) ولم يعن به من اليهود ولا من النصارى ، ولكن عنى به من المسلمين .

فردّي على كلّ رجلٍ يحدّث عن النبيّعليه‌السلام بخلاف القرآن ، ليس ردّاً على النبيّ ولا تكذيباً له ، ولكن ردّاً على مَن يحدّث عن النبيّعليه‌السلام بالباطل ، والتهمة دخلت عليه لا على نبيّ الله ، وكلّ شيء تكلّم به النبيّعليه‌السلام سمعنا به أو لم نسمعه ، فعلى الرأس والعين ، قد آمنّا به ونشهد أنّه كما قال النبيّعليه‌السلام ، ونشهد أيضاً على النبيّعليه‌السلام أنّه لم يأمر بشيء نهى الله عنه يُخالف أمر الله تعالى ، ولم يقطع شيئاً وصَلَه الله تعالى ولا وصَف أمراً وصف الله تعالى ذلك الأمر بِخلاف ما وصَفَه النبيّعليه‌السلام ، ونشهد أنّه كان موافقاً لله عزّ وجلّ في جميع الأُمور ، لم يبتدع ولم يتقوّل غير ما قال الله تعالى ، ولا كان من التكلّفين ، ولذلك قال الله تعالى :( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ

ـــــــــــــــــــ

(١) سورة النور ٢٤ : ٢ .

(٢) سورة النساء ٤ : ١٦ .

٤٠٢

فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) (١) .

حديث شريك في الإسراء

( ومنها ) حديث البخاري عن شريك في إسراء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا لفظه :

( حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله قال : حدّثني سليمان ، عن شريك بن عبد الله ، أنّه قال : سمعت أنَس بن مالك يقول : ليلة أُسريَ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن مسجد الكعبة ، إنّه جاءه ثلاثة نفر ، قبل أنْ يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم : أيّهم هو ؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم .

فقال آخرهم : خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتّى أتوه ليلة أُخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلّموه حتّى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاّه منهم جبرئيل ، فشقّ جبرئيل ما بين نحره إلى لبّته حتّى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم بيده حتّى أنقى جوفه ، ثمّ أُتي بطست من ذهب فيه نور من ذهب مَحْشُوٌّا إيماناً وحكمة ، فحشا به صدره ولغاديده ـ يعني عروق حلقه ـ ثم أطبقه ، ثمّ عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب باباً من أبوابها ، فناداه أهل السماء : مَن هذا ؟ فقال جبرئيل : قالوا : ومَن معك ؟ قال : معي محمّد ، قالوا : وقد بعث ؟ قال : نعم ، قالوا : فمرحباً به... )(٢) .

وأخرجه مسلم قال : ( حدّثنا هارون بن سعيد الأيلي ، ثنا ابن وهب ، قال :

ـــــــــــــــــــ

(١) سور النساء ٤ : ٨٠ .

(٢) صحيح البخاري ٩ : ٢٦٥ كتاب التوحيد .

٤٠٣

أخبرني سليمان ـ وهو ابن بلال ـ قال : حدّثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال : سمعت أنَس بن مالك ، يحدّثنا عن ليلة أُسري برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مسجد الكعبة : أنّه جاءه ثلاثة نفر قبل أنْ يُوحى إليه ، وهو نائم في المسجد الحرام وساق الحديث بقصّته نحو حديث ثابت البناني ، وقدّم فيه شيئاً وأخّر وزاد ونقص )(١) .

قال النووي بشرحه :

( قوله : وذلك قبل أنْ يُوحى إليه وهو غلطٌ لم يُوافق عليه ، فإنّ الإسراء أقلّ ما قيل فيه أنّه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهراً ، وقال الحربي : كان ليلة سبع وعشرين مِن شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة وقال الزهري : كان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين وقال ابن إسحاق : أُسري به وقد فشا الإسلام بمكّة والقبائل .

وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق ، إذ لم يختلفوا أنّ خديجة صلّت معه بعد فرض الصلاة عليه ، ولا خلاف في أنّها توفّيت قبل الهجرة بمدّةٍ قيل بثلاث سنين وقيل بخمس .

ومنها : إنّ العلماء مجمعون على أنّ فرض الصّلاة كان ليلة الإسراء ، فكيف يكون هذا قبل أنْ يُوحى إليه ؟

وأمّا قوله ـ في رواية شريك ـ : وهو نائم ، وفي رواية أُخرى : بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان ، فقد يحتجّ به من يجعلها رؤيا نوم ، ولا حجّة فيه ، إذْ قد يكون ذلك حالة أوّل وصول الملَك إليه ، وليس في الحديث ما يدلّ على كونه نائماً في القصّة كلّها .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ١٤٨ / ٢٦٢ باب بدء الوحي من كتاب الإيمان .

٤٠٤

هذا كلام القاضي ، وهذا الذي قاله في رواية شريك وأنّ أهل العلم أنكروها ، قد قاله غيره .

وقد ذكر البخاري رواية شريك هذه عن أنَس في كتاب التوحيد من صحيحه ، وأتى بالحديث مطوّلاً .

قال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين ـ بعد ذكر هذه الرواية ـ هذا الحديث بهذا اللفظ مِن رواية شريك بن أبي نمر عن أنَس ، وقد زاد فيه زيادةً مجهولةً ، وأتى فيه بألفاظٍ غير معروفة وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفّاظ المتقنين والأئمّة المشهورين ، كابن شهاب وثابت البناني وقتادة ـ يعني عن أنَس ـ فلم يأتِ أحدٌ منهم بما أتى به شريك ، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث .

قال : والأحاديث التي تقدّمت قبل هذا هي المعوّل عليها هذا كلام الحافظ عبد الحق )(١) .

وقال الكرماني بشرحه :

( قال النووي : جاء في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء ، من ملّتها : أنّه قال : ذلك قبل أنْ يوحى إليه ، وهو غلطٌ لم يُوافق عليه وأيضاً : العلماء أجمعوا على أنّ فرض الصلاة كان ليلة الإسراء ، فكيف يكون قبل الوحي ؟

أقول : وقول جبرئيل في جواب بوّاب السماء إذ قال : أبعث ؟ نعم ، صريح في أنّه كان بعده)(٢) .

وقال ابن قيّم الجوزيّة :

( فصلٌ ـ قال الزهري : عرج بروح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى

ـــــــــــــــــــ

(١) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ، باب بدء الوحي ، المجلّد ١ ج٢ : ٢٠٩ ـ ٢١٠ .

(٢) الكواكب الدراري في شرح البخاري ٢٥ : ٢٠٤ .

٤٠٥

بيت المقدِس وإلى السماء قبل خروجه إلى المدينة بسنةٍ ، وقال ابن عبد البرّ وغيره : كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران انتهى .

وكان الإسراء مرّةً واحدةً وقيل : مرّة يقظة ومرّةً مناماً ، وأربابُ هذا القول كأنّهم أرادوا أنْ يجمعوا بين حديث شريك وقوله ثمّ استيقظت ، وبين سائر الروايات ، ومنهم من قال : بل كان هذا مرّتين ، مرّةً قبل الوحي ، لقوله في حديث شريك : وذلك قبل أنْ يوحى إليه ، ومرّةً بعد الوحي ، كما دلّت عليه سائر الأحاديث ، ومنهم مَن قال : بل ثلاثِ مرّات ، مرّةً قبل الوحي ومرّتين بعده .

وكلّ هذا خبط ، وهذه طريقة ضعفاء الظاهريّة مِن أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصّة لفظةً تُخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرّةً أُخرى ، فكلّما اختلفت عليهم الروايات عدّدوا الوقائع .

والصواب الذي عليه أئمّة النقل : أنّ الإسراء كان مرّةً واحدةً بمكّة بعد البعثة .

ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنّه مراراً كيف ساغ لهم أنْ يظنّوا أنّه في كلّ مرّة تفرض عليه الصلاة خمسين ، ثمّ يتردّد بين ربّه وبين موسى حتّى تصير خمساً ثمّ يقول : أمضيت فريضتي وخفّفت عن عبادي ، ثمّ يعيدها في المرّة الثانية إلى خمسين ، ثمّ يحطّها عشراً عشراً.

وقد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظٍ مِن حديث الإسراء ، ومسلم أورد المسند منه ثمّ قال : فقدّم وأخّر وزاد ونقّص ، ولم يورد الحديث فأجاد رحمه الله )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ٣ : ٤١ ـ ٤٢ فصلٌ في المعراج النبويّ .

٤٠٦

صحيح مسلم

وأمّا مسلم بن الحجّاج... فإنّه ـ كما قالوا ـ كان يرتكب الغمز بالرجال الصادقين الثقات عندهم بلا حجّة ، ومِن ذلك ما كان منه في ( إبراهيم بن عبد الله السعدي ) قال الذهبي : ( إبراهيم بن عبد الله السعدي النيسابوري ، صدوقٌ ، له عن يزيد بن هارون ونحوه .

قال أبو عبد الله الحاكم : كان يستخفُّ بمسلم ، فغمزه مسلم بلا حجّة )(١) .

ولا ريب أنّ هذا يضرّ بعدالة مسلم ويمنع مِن الاعتماد عليه وعلى رواياته في كتابه ، ولذا قال ابن الجوزي : ( ومِن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث : قدح بعضهم في بعض ، طلباً للتشفّي ، ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعملت قدماء هذه الأُمّة للذبّ عن الشرع )(٢) .

أبو زرعة الرّازي وصحيح مسلم

هذا ، وقد اشتهر بين الأعلام طعن الإمام أبي زرعة الرّازي وتكلّمه في كتاب مسلم بن الحجّاج ، ففي ترجمة أحمد بن عيسى المصري من( التهذيب ) و( الميزان ) : ( قد قال سعيد البردعي : شهدت أبا زرعة ذُكر عنده صحيح مسلم فقال : هؤلاء قومٌ أرادوا التقدّم قبل أوانه ، فعملوا شيئاً يتسوّقون به )(٣) .

وقال أبو الفضل الأدفوي في( الإمتاع ) : ( وكان أبو زرعة يذمّ وضِع كتاب مسلم ويقول : كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان ؟ فذكر جماعة ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ١ : ٤٤ .

(٢) تلبيس إبليس : ١٣٥ .

(٣) ميزان الاعتدال ١ : ١٢٦ .

٤٠٧

الموضوعات في صحيح مسلم

وبعد الوقوف على طرفٍ من أسباب القدح في مسلم بن الحجّاج ، وعلى طعن من مثل أبي زرعة في كتابه عموماً ، فلا بدّ من إيراد بعض أحاديثه الموضوعة والباطلة :

حديث الضحضاح

فمن أحاديثه الموضوعة والمكذوبة : حديثه في أنّ أبا طالب في ضحضاحٍ من النار ، قال : ( حدّثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، ومحمّد بن أبي بكر المقدمي ، ومحمّد بن عبد الملك الأموي قالوا : حدّثنا أبو عوانة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن العبّاس بن عبد المطّلب أنّه قال : يا رسول الله ، هل نفعت أبا طالب بشيءٍ ، فإنّه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : نعم ، هو في ضحضاحٍ من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار )(١) .

وهذه الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم كلّها موضوعةٌ مُفتراة ، قد وُضِعت للطعن في أمير المؤمنينعليه‌السلام والتنقيص في شأنه ، ولأجل رفع شأن أبي بكر بن أبي فحافة...

إنّه ليكفي لتكذيب ما رَوَوه في موت سيّدنا أبي طالب على الكفر : ما

رواه ابن سعد في الطبقات قال : ( حدّثني الواقدي قال : قال عليّ : لمّا توفّي أبو طالب أخبرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبكى بكاءً شديداً ، ثمّ قال :

( اذهب فاغسله وكفّنه وواره ، غفر الله له ورحمه ) .

فقال له العبّاس : يا رسول الله ، إنّك ترجو له ؟

فقال :( إي والله إنّي لأرجو له ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ١٣٤ كتاب الإيمان ـ باب شفاعة النبيّ لأبي طالب .

٤٠٨

وجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر له أيّاماً لا يخرج مِن بيته .

وقال الواقدي : قال ابن عبّاس : عارض رسول الله جنازة عمّه أبي طالب وقال :( وصلتك رحم وجزاك الله خيراً ) (١) .

هذا ، وقد أجمع أهل البيتعليهم‌السلام على إيمان سيّدنا أبي طالب ، وإجماعهم حجّة قطعيّة كما تَقرّر في محلّه ، وقد ذكر علماء السنّة إجماعهم على ذلك ، ففي( روضة الأحباب ) عن ابن الأثير في( جامع الأُصول ) قوله : ( زعم أهل البيت أنّ أبا طالب مات مسلماً ، والله أعلم بصحّته ) .

على أنّ أهل السنّة يدّعون المتابعة لأهل البيت والانقياد لهم ، كما جاء في كتبهم ، بشرح ( حديث الثقلين ) وبذيل حديث( مثل أهل بيتي كسفينة نوح ) ، فإنْ كانوا صادقين في دعواهم تلك ، فلا محالة لا يخالفون أهل البيت في إجماعهم على إيمان أبي طالبعليه‌السلام .

على أنّ أحاديث مسلم في هذا الباب متناقضة متهافتة ، إذ الحديث المذكور يدلّ على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد شفع له قبل القيامة وأخرجه بالفعل من غمرات العذاب إلى ضحضاحٍ من نارٍ ، وحديث أبي سعيد

صريحٌ في عدم وقوع الشفاعة في حقّه وأنّ عذابه لم يخفّف بل إنّ النبيّ يرجو أنْ تناله شفاعته في يوم القيامة وتنفعه في خروجه مِن الدركات السافلة إلى الضحضاح... فكان بعض تلك الأحاديث صريحاً في وقوع تخفيف العذاب عن أبي طالب بالفعل وبعض صريحاً في عدم حصول التخفيف ، فتهافتا وتناقضا بكلّ وضوح .

ـــــــــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى ١ : ١٢٣ ـ ١٢٤ .

٤٠٩

الحديث الدالّ على تعيين أبي بكر للخلافة !!

ومن ذلك : حديثه المتضمّن تعيين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر للخلافة من بعده ، وهو حديث موضوع مفترى قطعاً قال في كتاب المناقب :

((حدّثني عبيد الله بن سعيد، حدّثا يزيد بن هارون، أخبرنا إبراهيم بن سعد، حدّثنا صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن عروة عن عائشة ـ ري الله عنها ـ قالت: قال لي رسول الله في مرضه : أُدعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتّى أكتب كتاباً ، فإنّي أخاف أن يتمنَّ متمنٍّ ويقول القائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر )(١) .

وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضاً ، ولفظه في كتاب المرضى :

( لقد هممت أو أردت أنْ أرسل إلى أبي بكر وابنه واعهد أنْ يقول القائلون أو يتمنّى المتمنّون ، ثمّ قلت : يأبى الله ويدفع المؤمنون ، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ٤ : ١٨٥٧ / ٢٣٨٧ .

(٢) صحيح البخاري ٧ : ٢١٨ .

٤١٠

وهذا الحديث الذي قال النووي بشرحه: ( في هذا الحديث دلالة ظاهرة لفضل أبي بكر الصدّيقرضي‌الله‌عنه ، وإخبار منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما سيقع في المستقبل بعد وفاته ، وأنّ المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره )(١) .

ظاهر الكذب والبطلان ، لاتّفاق القوم أنفسهم على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينصّ على أبي بكر بالخلافة ، ولو كان مثل هذا الكلام صادراً منه حقّاً لما احتجّوا بالأباطيل الواهيات ، ولما وقعت الاختلافات والنزاعات...

ولقد نصّ النووي ـ بشرح حديث : من كان رسول الله مستخلفاً لو استخلفه ؟ ـ : على أنّ ( فيه دلالة لأهل السنّة أنّ خلافة أبي بكر ليست بنصٍ مِن النبيّ على خلافته صريحاً ، بل أجمعت الصحابة على عقد الخلافة له وتقديمه بفضله ، ولو كان هناك نصّ عليه ، أو على غيره لم يقع المنازعة من الأنصار وغيرهم أوّلاً ، ولذَكر حافظُ النص ما معه ، ولرَجعوا ، ولكنْ تنازعوا أوّلاً ولم يكن هناك نص ، ثمّ اتفقوا على أبي بكر واستقرّ الأمر .

وأمّا ما تدّعيه الشيعة مِن النص على عليّ والوصيّة إليه ، فباطل لا أصل له باتّفاق المسلمين ، والاتفاق على بطلان دعواهم في زمن عليّ ، وأوّل مَن كذّبهم عليّ بقوله : ما عندنا إلاّ ما في هذه الصحيفة )(٢) .

فتراه يستدلّ بما كان في السقيفة ، ولو كان ما أورد مسلم صحيحاً لما احتاج إلى ذلك !!

وعلى الجملة ، فإنّ هذا الحديث لو صحّ لاستدلّ به القوم على إمامة أبي بكر ولم يقولوا بعدم النصّ على خلافته ، ولم يتشبّثوا بالخرافات والأباطيل

ـــــــــــــــــــ

(١) شرح مسلم للنووي ١٥ : ١٥٥ .

(٢) شرح مسلم للنووي ١٥ : ١٥٤ ـ ١٥٥ .

٤١١

الأُخرى ، فإنّه حتّى لو كان وارداً مورد الإخبار عن الغيب ، لكان الاستدلال به دون غيره أولى وأحرى...

وقد نصّ أبو السعادات ابن الأثير أيضاً على عدم النصّ على أبي بكر حيث قال : ( ولا يصدَّق الشيعة بنقل النص على إمامة عليّ ( كرّم الله وجهه ) والبكريّة على إمامة أبي بكررضي‌الله‌عنه ؛ لأنّ هذا وضعه الآحاد أوّلاً وأفشوه ، ثمّ كثر الناقلون في عصره وبعده من الأعصار ، فلذلك لم يحصل التصديق )(١) .

فوا أسفاه على البخاري ومسلم ، إذْ أُشرب في قلوبهما حبّ الشيخين ، فنقلا مثل هذه الأكاذيب والخرافات ، التي نصّ أئمّتهم على كونها من افتراءات البكريّة وأخبارهم الموضوعات .

حديث أنّ عمر أوّل مَن أمر بالأذان

ومن ذلك : ما أخرجه مسلم في كتاب الصّلاة ، باب بدء الأذان :

( حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال : جدّثنا محمّد بن بكر ، ح وحدّثنا محمّد بن رافع قال : حدّثنا عبد الرزّاق قال : أخبرنا ابن جريج ، ح وحدّثني هارون ابن عبد الله ـ واللفظ له ـ قال : حدّثنا حجّاج بن محمّد قال : قال ابن جريج : أخبرني نافع مولى ابن عمر ، عن عبد الله بن عمر أنّه قال : كان المسلمون حين قدِموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصّلوات ، وليس ينادي بها أحد ، فتكلّموا يوماً في ذلك ، فقال بعضهم : اتّخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم : قرناً مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أو لا تبعثون منادياً

ـــــــــــــــــــ

(١) جامع الأُصول ١ : ١٢١ .

٤١٢

ينادي بالصّلاة قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يا بلال ، قم فنادِ بالصّلاة ) (١) .

وهذا حديثٌ موضوع ، وضعه مَن يسعى وراء جعل المناقب لعمر بن الخطّاب ، وهو ينافي ما وضعوه في الأذان مِن أنّ تشريعه كان برؤيا رآها رجلٌ مِن الأنصار ، كما في سُنُن أبي داود وغيره .

على أنّ الحقّ ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام مِن أنّ تشريع الأذان كان في ليلة الإسراء ، وقد أذّن جبرئيل في بيت المقدّس ، وما سواه فمن وضع الملحدين .

حديثان متناقضان في موضع صلاة النبيّ الظهر في حجّة الوداع

ومن ذلك : حديثان متناقضان أخرجهما مسلم ، وأخرج البخاري أحدهما ، في موضع صلاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظهر يوم النحر في حجّة الوداع ، فأخرج عن عائشة وجابر أنّه صلاّها بمكّة ، وأخرج هو والبخاري عن ابن عمر أنّه صلاّها بمنى ، قال القاري في كتابه في( الرجال ) : ( قال ابن حزم في هاتين الروايتين : إحداهما كذب بلا شك ) .

وقد اختلف القوم في تعيين الصِدق مِن الكِذب منهما ، وقد شرح ابن القيّم اختلافهم في المقام حيث قال : ( فصلٌ : ثمّ رجع إلى منى ، واختلف أين صلّى الظهر يومئذ ، ففي الصحيحين عن ابن عمر أنّه أفاض يوم النحر ثمّ رجع فصلّى الظهر بمنى ، وفي صحيح مسلم عن جابر أنّه صلّى الظهر بمكّة ، وكذلك قالت عائشة ، واختلف في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر ، فقال أبو

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ٢٨٥ .

٤١٣

محمّد ابن حزم : قول عائشة وجابر أولى ، وتبعه على هذا جماعة ورجّحوا هذا القول بوجوه :

أحدها : إن راويه اثنان ، وهما أولى من الواحدالثاني : أنّ عايشة أخصّ الناس به ، ولها من القرب والاختصاص والمزيّة ما ليس لغيرها .

الثالث : أنّ سياق جابر لحجّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أوّلها إلى آخرها أتمّ سياق ، وقد حفظ القصّة وضبطها حتّى ضبط جزئيّاتها ، حتّى ضبط منها أمراً لا يتعلّق بالمناسك ، وهو نزول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة جمع الطريق ، فقضى حاجته عند الشعب ثمّ توضّأ وضوءاً خفيفاً ، فمَن ضبط هذا القدر فهو يضبط مكان صلاته يوم النحر بطريقٍ أولى .

الرابع : إنّ حجّة الوداع كانت في آذار ، وهي تساوي الليل والنهار ، وقد خرج من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى وخطب بها الناس ، ونحر بُدْناً عظيمةَ وقسمها ، وطبخ له مِن لحمها وأكل منه ، ورمى الجمرة وحلق رأسه وتطيّب وخطب ثمّ أفاض ، فطاف وشرب من ماء زمزم ومِن نبيذ السقاية ووقف عليهم وهم يسقون ، وهذه أعمال يبدو في الأظهر أنّها لا تنقضي في مقدار يُمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار .

الخامس : إنّ هذين الحديثين جاريان مجرى الناقل والمبقي ، فإنّ عادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت في حجّته صلاته في منزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين ، فجرى ابن عمر على العادة ، وضبط جابر وعائشة الأمر الذي هو خارج عن عادته ، فهو أولى بأنْ يكون هو المحفوظ .

٤١٤

ورجحت طائفة أُخرى قول ابن عمر لوجوه :

أحدها : أنّه لو صلّى الظهر بمكّة لم يُصَلِّ أصحابه بمنى وحداناً ولا زرافات ، بل لم يكن لهم بُدٌّ مِن الصلاة خلف إمامٍ يكون نائباً عنه ، ولم ينقل هذا أحدٌ قطّ ، ولم يقل أحدٌ أنّه استناب مَن يُصلّي بهم ، ولولا علمه أنّه يرجع إليهم فيصلّي بهم لقال : إنْ حضرَت الصّلاة ولستُ عندكم فليصلّ بكم فلان ، وحيث لم يقع هذا ولا هذا ، ولا صلّى الصحابة هناك وحداناً قطعاً ، ولا كان مِن عادتهم إذا اجتمعوا أنْ يصلّوا عزين ، علم أنّهم صلّوا معه على عادتهم.

الثاني : إنّه لو صلّى بمكّة ، لكان خلفه بعضُ أهل البلد وهو مقيم ، وكان يأمرهم أنْ يتمّوا صلاتهم ، ولنقل أنّهم قاموا فأتمّوا بعد سلامه صلاتهم ، وحيث لم ينقل هذا ولا هذا بل هو معلوم الانتفاء قطعاً ، عُلِم أنّه لم يُصلّ قطعاً حينئذٍ بمكّة .

وما نقله بعض من لا عِلم له أنّه قال : ( يا أهل مكّة ، أتمّوا صلاتكم فإنّا قوم سفر ) ، فإنّما قاله عام الفتح لا في حجّته .

الثالث : إنّه من المعلوم أنّه لمّا طاف ركَع ركعتيّ الطواف ، ومعلومٌ أنّ كثيراً من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه ، فلعلّه لمّا ركَع ركعتيّ الطواف والناس خلفه يقتدون به ، ظنّ الظانّ أنّها صلاة الظهر ، ولا سيّما إذا كان ذلك في وقت الظهر ، وهذا الوهم لا يُمكن دفع احتماله ، بخلاف صلاته بمنى فإنّها لا تحتمل غير الفرض .

الرابع : إنّه لا يحفظ عنه في حجّه أنّه صلّى الفرض بجوفِ مكّة ، بل إنّما كان يصلّي بمنزله بالمسلمين مدّة مقامه ، كان يصلّي بهم أين نزلوا ، لا يصلّي في مكان آخر غير المنزل العام .

الخامس : إنّ حديث ابن عمر متّفق عليه ، وإنّ حديث جابر مِن أفراد مسلم ، فحديث ابن عمر أصحّ منه ، وكذلك هو في إسناده ، فإنّ راويه أحفظ وأشهر وأنفق ، فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيد الله ؟ وأين يقع جعفر من حفظ نافع ؟

٤١٥

السادس : إنّ حديث عائشة قد اضطربت في وقت طوافه ، فروي عنها على ثلاثة أوجه : أحدها : أنّه طاف نهاراً ، الثاني : أنّه أخّر الطواف إلى الليل ، الثالث : أنّه أفاض مِن آخر يومه فلم يضبط فيه وقت الإفاضة ، ولا مكان الصّلاة ، بخلاف حديث ابن عمر .

السابع : إنّ حديث ابن عمر أصحّ منه بلا نزاع ، فإنّ حديث عائشة مِن رواية محمّد بن إسحاق ، عن عبد الرحمان بن القاسم ، عن أبيه عنها ، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به ، ولم يصرّح بالسماع بل عنعنه ، فكيف يقدم على قول عبيد الله حدّثني نافع عن ابن عمر ؟

الثامن : إنّ حديث عائشة ليس بالبيّن إنّه صلّى الظهر بمكّة ، فإنّ لفظه هكذا : أفاض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر يوم صلّى الظهر ثمّ رجع إلى منى ، فمكث فيها ليالي أيّام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس ، كلّ جمرة بسبعِ حَصَيَات ، فأين دلالة هذا الحديث الصريحة على أنّه صلّى الظهر يومئذٍ بمكّة ؟ وأين هذا في صريح الدلالة إلى قول ابن عمر أفاض يوم النحر ثمّ صلّى الظهر بمنى راجعاً ؟ وأين حديث اتّفق أصحاب الصحيح على إخراجه إلى حديث اختلف في الاحتجاج به ؟ والله أعلم )(١) .

حديثٌ في أوّل ما نزل من القرآن

ومن ذلك : ما أخرجه في أنّ أوّل ما نزل من القرآن :( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) ، وقد صرّح النووي بأنّه ضعيفٌ ، بل باطل... قال ولي الدين أبو زرعة أحمد بن زين الدين عبد الرحيم العراقي في شرح حديث بدء الوحي من ( شرح الأحكام الصغرى ) : ( فيه دلالةٌ واضحة على أنّ أوّل ما نزل من القرآن :( اقْرَأْ ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد ٢ : ٢٨٠ كيفيّة حجّة الوداع .

٤١٦

وقد صحّ ذلك عن عائشة ، ورُوي عن أبي موسى الأشعري وعبيد بن عمير ، قال النووي : وهو الصواب الذي عليه الجماهير مِن السلف والخلف وفيه قولان آخران : أحدهما إنّ أوّل ما نزل :( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمان ، قال النووي : وهو ضعيفٌ بل باطل...) .

حديثٌ في فضائل أبي سفيان

ومِن ذلك : ما أخرجه في فضائل أبي سفيان وهذه عبارته :

( حدّثنا عبّاس بن عبد العظيم العنبري وأحمد بن جعفر المعقري قالا : حدّثنا النضر ـ وهو ابن محمّد اليمامي ـ قال : حدّثنا عكرمة ، حدّثنا أبو زميل ، حدّثني ابن عبّاس قال : كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يُقاعدونه ، فقال لنبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا نبي الله ، ثلاث أعطنيهنّ ، قال :نعم ، قال : عندي أحسن العرب وأجمله أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان أُزوّجكها قال :نعم ، قال : معاوية تجعله كاتباً بين يدك ، قال :نعم ، قال : وتؤمّرني حتّى أُقاتل الكفّار كما كنت أُقاتل المسلمين .

قال :نعم . قال أبو زميل : ولولا أنّه طلب ذلك من النبيّ ما أعطاه ذلك ؛ لأنّه لم يكن يُسأل شيئاً إلاّ قال : نعم )(١) .

قال في( زاد المعاد ) :

( وأمّا حديث عكرمة بن عمّار: عن أبي زميل ، عن ابن عبّاس : إنّ أبا سفيان قال للنبيّ...

فهذا الحديث غلطٌ ظاهر لا خفاء به .

قال أبو محمّد ابن حزم : وهو موضوع بلا شك ، كذّبه عكرمة بن عمّار .

قال ابن الجوزي ـ في هذا الحديث ـ : هو وهمٌ مِن بعض الرواة ، لا شكّ فيه ولا تردّد .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ٤ : ١٩٤٥ / ٢٥٠١ .

٤١٧

وقد اتّهموا به عكرمة بن عمّار ؛ لأنّ أهل التواريخ أجمعوا على أنّ أُمّ حبيبة كانت تحت عبيد الله بن جحش ، ولدت له ، وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة ، ثمّ تنصّر وثبتت أُمّ حبيبة على إسلامها ، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى النجاشي يخطبها عليه ، فزوّجه إيّاها وأصدقها عن رسول الله صداقاً ، وذلك في سنة سبع من الهجرة ، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة ودخل عليها فثنت فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى لا يجلس عليه .

ولا خلاف أنّ أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكّة سنة ثمان .

وأيضاً : في هذا الحديث : إنّه قال له : وتؤمّرني حتّى أُقاتل الكفّار كما كنت أُقاتل المسلمين فقال : نعم .

ولا يعرف أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّر أبا سفيان البتّة )(١) .

من كلمات الأئمّة في الكتابين

وعلى الجملة ، فإنّ الأحاديث الموضوعة والباطلة في كتاب مسلم كثيرة مثل كتاب البخاري ، وقد أوردنا طرفاً منها ونكتفي بها .

ومن هنا ، فقد قال الملاّ عليّ القاري في كتاب( الرجال ) ما نصّه :

( وقد وقع منه ـ أيّ من مسلم ـ أشياء لا تقوى عند المعارضة ، فقد وضع الحافظ الرشيد العطّار كتاباً على الأحاديث المقطوعة ، وبيّنها الشيخ محيي الدين النووي في أوّل شرح مسلم .

وما يقوله الناس : إنّ مَن روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ، هذا أيضاً مِن التجاهل والتساهل .

فقد روى مسلم في كتابه عن الليث عن أبي مسلم وغيره من الضعفاء .

فيقولون إنّما روى عنهم في كتابه للاعتبار والشواهد والمتابعات .

وهذا لا يقوى ؛ لأنّ الحفّاظ قالوا : الاعتبار أُمور يتعرّفون بها حال الحديث وكتاب مسلم التزم فيه الصحّة ، فكيف يتعرّف حال الحديث فالذي فيه بطريق ضعيفة .

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ١ : ١١٠ .

٤١٨

وقال الحافظ : أبو الزبير محمّد بن مسلم المكّي يدلّس في حديث جابر ، فما يصفه بالعنعنة لا يقبل ، وقد ذكر ابن حزم وعبد الحقّ عن الليث بن سعد أنّه قال لأبي الزبير : علّم لي على أحاديث سمعتها من جابر حتّى أسمعها منك ، فعلَّم لي على أحاديث أظنّ أنّها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه قال الحافظ : فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر فصحيح .

وفي مسلم عن طريق الليث من أبي الزبير عن جابر بالعنعنة أحاديث .

وقد روى أيضاً ، في كتابه عن جابر وابن عمر في حجّة الوداع ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توجّه إلى مكّة يوم النحر ، فطاف طواف الإفاضة ثمّ رجع فصلّى الظهر بمنى ، فيوجّهون ويقولون : أعادها لبيان الجواز ، وغير ذلك من التأويلات ، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين أحدهما كذِب بلا شكّ .

وروى مسلم أيضاً حديث الإسراء فيه : وذلك قبل أنْ يُوحى إليه ، وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللّفظة وبيّنوا ضعفها .

وقد روى مسلم أيضاً : خلق الله التربة يوم السبت واتّفق الناس على أنّ السبت لم يقع فيه خلق ، وأنّ ابتداء الخلْق يوم الأحد .

وقد روى مسلم عن أبي سفيان أنّه قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أسلم : يا رسول الله ، أعطني ثلاثاً : تزوّج ابنتي أُمّ حبيبة ، وابني معاوية أجعله كاتباً ، وأمّرني أنْ أُقاتل الكفّار كما قاتلت المسلمين ، فأعطاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما سأله .

والحديث معروف مشهور ، وفي هذا مِن الوهم ما لا يُحصى ، فأُمّ حبيبة تزوّجها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي بالحبشة ، وأصدقها النجاشي أربعمِئة دينار وحضر وخطب وأطعم ، والقصّة مشهورة ، وأبو سفيان وابنه معاوية إنّما أسلما عام الفتح وبين الهجرة إلى الحبشة والفتح عدّة سنين ، والجمهور على أنّها تزوّجها سنة ستّ ، وقيل سبْع ، وأسلم أبو سفيان عام الفتح سنة ثمان منٍ الهجرة ، وأمّا إمارة أبي سفيان فقد قال الحفّاظ أنّه لا يعرفونها .

٤١٩

فيجيبون بأجوبة غير طائلة ، فيقولون في إنكاح ابنته : إعتقد أنّ نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بالكفر ، فأراد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجديد النكاح ، ويذكرون عن الزبير بن بكّار عن الزبير بن بكّار بأسانيدٍ ضعيفة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّره في بعض الغزوات ، وهذا لا يعرفه الأثبات .

وقد قال الحافظ : إنّ مسلماً لمّا وضَعَ كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة ، فأنكر عليه وتَغَيّظ وقال : سمَّيْتَه الصحيح وجعلته سُلَّماً لأهل البِدَع وغيرهم ) .

وقال ابن تيميّة :

( والمواضع المنتقدة غالبها في مسلم ، وقد انتصر طائفة لهما ـ يعني للبخاري ومسلم ـ فيها ، وطائفة قَوّت قول المنتقد ، والصحيح التفصيل ، فإنّ فيهما مواضعَ منتقدة بلا ريب مثل حديث : خلَق الله التربة يوم السبت ، وحديث : صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر )(١) .

وقال كمال الدين أبو الفضل الأدفوي في( الإمتاع في أحكام السماع ) :

( ثمّ أقول : إنّ الأُمّة تلقّت كلّ حديثٍ صحيح وحسن بالقبول وعملت به عند عدم العارض ، وحينئذٍ لا يختصّ بالصحيحين ، وقد تلقّت الأُمّة الكُتب الخمسة أو الستّة بالقبول ، وأطلق عليها جماعة اسم الصحيح ، ورجّح بعضهم بعضها على كتاب مسلم وغيره .

قال أبو سليمان أحمد الخطابي : كتاب السُنن لأبي داود كتابٌ شريف لم يصنّف في الدين كتابٌ مثله ، وقد رُزِق مِن الناس القبول كافّة ، فصار حكَماً بين فِرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ، وكتاب السُنن أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من كتب البخاري ومسلم .

وقال الحافظ أبو الفضل محمّد بن طاهر المقدسي : سمِعت الإمام أبا الفضل عبد الله بن محمّد الأنصاري بهراة يقول ـ وقد جرى بين يديه ذكر أبي عيسى الترمذي وكتابه فقال ـ : كتابه عندي أنفع مِن كتاب البخاري ومسلم .

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ٧ : ٢١٥ وانظر ٥ : ١٠١ .

٤٢٠