استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٣

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 478

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 478
المشاهدات: 226326
تحميل: 5442


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 478 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 226326 / تحميل: 5442
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هذا ، وقد أخرج البخاري : ( عن أبي ذرّ أنّه سمع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلاّ ارتدَّت عليه ، إن لم يكن صاحبه كذلك ) .(١)

بل لقد أخرج مالك نفسه في الموطّأ : ( عن عبد الله بن دينار عن عبد الله ابن عمر : أنّ رسول الله قال : مَن قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما )(٢) .

قوله لِمَن سأله عن الاستواء : أظنّك صاحب بدعة

ومِن ذلك : قوله لِمَن سأله عن الاستواء : ( أظنّك صاحب بدعة )! والحال أنّ مجرّد السؤال لا يجوّز الهتك للسائل وإساءة الظنّ به ، وقد جاء الخبر في ( حُلية الأولياء ) حيث أسند أبو نعيم إلى جعفر بن عبد الله قال : ( كنّا عند مالك ابن أنس ، فجاءه رجل فقال : يا أبا عبد الله ،( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) كيف استوى ؟ فما وجد مالك مِن شيء ما وجد مِن مسألته ، فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعودٍ في يده حتّى علاه الرحضاء ـ يعني العَرَق ـ ثمّ رفع رأسه ورمى العود فقال : الكيف منه غير معقول ، والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال منه بدعة ، وأظنّك صاحب بدعة ، وأمَرَ به فأُخرج )(٣) .

_______________________

(١) صحيح البخاري ٨ : ٢٧ / ٦٠٤٥ .

(٢) الموطّأ ٢ : ٩٨٤ / ٥٦ .

(٣) حلية الأولياء ٦ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦ .

١٦١

ترْكُه للجمعة والجماعة وهو خروج مِن الإيمان

ومِن ذلك : ما ذكروا مِن أنّ مالكاً لم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ، وقد جاء هذا في غير واحدٍ مِن الكُتُب :

قال ابن قتيبة : ( قال الواقدي : كان مالك يأتي المسجد ويشهد الصلاة والجمعة والجنائز ويعود المرضى ويقضي الحقوق ويجلس في المسجد ويجمع أصحابه ، ثمّ ترَك الجلوس في المسجد ، وكان يُصلّي ثمّ ينصرف إلى منزله ، وترَك حضور الجنائز فكان يأتي أصحابها ويعزّيهم ، ثمّ ترَك ذلك كلّه فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحداً يعزّيه ولا يقضي له حقّاً ، واحتمل الناس له ذلك حتّى مات عليه ، وكان ربّما كُلِّم في ذلك فيقول : ليس كلّ الناس يقدر أن يتكلّم بعذره )(١) .

وقال الغزالي : ( قيل : كان مالك بن أنس يشهد الجنازة ويعود المرضى ويُعطي الإخوان حقوقهم ، فترَك ذلك واحداً واحداً حتّى تركها كلّها ، وكان يقول : لا يتهيّأ للمرء أن يخبر بكلّ عذرٍ له... )(٢) .

وقال ابن خلّكان : ( قال الواقدي : كان مالك يأتي المسجد ، ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز ، ويعود المرضى ويقضي الحقوق ، ويجلس في المسجد ويجتمع إليه أصحابه ، ثمّ ترك الجلوس في المسجد ، فكان يصلّي وينصرف إلى مجلسه ، وترك حضور الجنائز فكان يأت أهلها فيعزّيهم ، ثمّ ترك ذلك كلّه فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحداً

_______________________

(١) كتاب المعارف : ٤٩٨ ـ ٤٩٩ .

(٢) إحياء علوم الدين ٢ : ٢٢٢ كتاب العزلة .

١٦٢

يعزّيه ولا يقضي له حقّاً ، واحتمل الناس له ذلك حتّى مات عليه وكان ربّما قيل له في ذلك فيقول : ليس كلّ الناس يقدر أن يتكلّم بعذره )(١) .

هذا ، وقد ذكر يوسف الأعور الواسطي في مطاعنه على الإماميّة : ( ومنها : تسمية أنفسهم مؤمنين ، ومِن أين جاءهم الإيمان ولم يكن عندهم شيء مِن شروطه ، الأوّل : قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) وهم تاركون لمسجد الجمعة ) .

تكلّمه في أمير المؤمنين بسبب حروبه

ومِن قوادحه العظيمة وبراهين نُصْبِه لمولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام : أنّه كان يُفضِّل عثمان ويقول : لا أجعل مَن خاض في الدماء كمَن لم يخضْ فيها ، مع أنّ حروب الإمامعليه‌السلام كانت بأمرٍ مِن الله ورسوله ، فهي شرفٌ جليل وفخرٌ عظيم ، فكيف تكون منقصةً له وعيباً حتّى يُقال له مثل هذا الكلام ؟ إنّ هذا الكلام ـ في الحقيقة ـ ردٌّ على الله ورسوله... وقد أورده ابن تيميّة متبجّحاً به مرتضياً إيّاه حيث قال :

( أمّا جمهور الناس ، ففضّلوا عثمان ، وعليه استقرار أهل السنّة ، وهو مذهب أهل الحديث ومشايخ الزهد والتصوّف وأئمّة الفقهاء ، كالشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه ، وهو إحدى الروايتين عن مالك وعليها أصحابه ، قال مالك : لا أجعل مَن خاض في الدماء كمَن لم يخض فيها ، وقال الشافعي وغيره : إنّه بهذا السبب قصد والي المدينة الهاشمي ضَرْبَ مالك ، وجعل طلاق المكرَه سبباً ظاهراً ، وهو أيضاً مذهب جماهير أهل

_______________________

(١) وفيات الأعيان ٤ : ١٣٦ .

١٦٣

الكلام : الكرامية والكلابية والأشعرية والمعتزلة ، وقال أيوب السختياني : مَن لم يُقدِّم عثمان على عليّ فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ، وهكذا قال أحمد بن حنبل وأبو الحسن الدارقطني وغيرهما أنّهم اتّفقوا على تقديم عثمان ، ولهذا تنازعوا فيمَن لم يقدّم عثمان هل يعدّ مبتدعاً ؟ على قولَيْن هما روايتان عن أحمد ، فإذا قام الدليل على تقديم عثمان كان ما سواه أوكد )(١) .

وعلى الجملة ، فإنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام أفضل الصحابة قاطبةً ، بل هو أفضل مِن سائر الأنبياء عدا سيّد المرسلين ، وجهاده في سبيل الله ومقاتلاته لأعداء الله مِن أشهر مناقبه وأفضل مقاماته ومنازله ، وقد قال علماء القوم بأنّ حروبه كلّها كانت على الحقّ وكان الحقّ معه فيها ، وحتّى أنّ الدهلوي ينصّ على أنّ مَن اعترض على أمير المؤمنينعليه‌السلام في شيء مِن آرائه وأقواله فهو جاهل أحمق(٢) .

ويقول الدهلوي أيضاً في كلامٍ له حول الحديث ( قال لعلي :إنّك تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتَ على تنزيله ) : ( ولا دلالة في هذا الحديث على أنّ الأمير إمام بلا فصل ، إذ لا ملازمة بين المقاتلة على تأويل القرآن والإمامة بلا فصل بوجه مِن الوجوه ، بل لو اُستدلّ به على مذهب أهل السُنّة لأمكن ؛ لأنّه يُفهم منه بالصراحة أنّ الأمير قد يكون إماماً في عصرٍ يقاتل فيه على تأويل القرآن ووقت قتاله معلوم متى كان ، وهو مِن دلائل أهل السُنّة على أنّ الحقّ كان في جانب الأمير وكان مقاتلوه على الخطأ ، حيث لم يفهموا معنى القرآن وأخطأوا في اجتهادهم ، وإنكار تأويل القرآن ليس بكفر إجماعاً وإنْ أنكر أحد

_______________________

(١) منهاج السُنّة ٨ : ٢٢٥ .

(٢) التحفة الاثني عشرية : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، جواب المطعن الحادي عشر مِن مطاعن عمر .

١٦٤

معنى القرآن الظاهر بسوء فَهْمِه ففي كُفْرِه تأمّل... )(١) .

لكنّ مالكاً لم يكتف في الطعْن بأمير المؤمنين بالكلمة الخبيثة المذكورة ، بل قال أكثر مِن ذلك وأشدّ ، قال ابن تيمية : ( وعليّ لم يخصْ أحداً مِن أقاربه بعطاء ، لكن ابتدء بالقتال لِمَن لم يكن مبتدئاً له بالقتال ، حتّى قتل بينهما أُلوف مؤلّفة مِن المسلمين ، وإن كان ما فعله هو متأوّل فيه تأويلاً وافقه عليه طائفة مِن العلماء وقالوا : إنّ هؤلاء بُغاة والله تعالى أمَرَ بقتال البُغاة بقوله تعالى :( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) ، لكن نازعه أكثر العلماء كما نازع عثمان أكثرهم وقالوا : إنّ الله تعالى قال :( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) قالوا : فلم يأمر الله بقتال البغاة ابتداءاً ، بل إذا وقع قتال بين طائفتين مِن المؤمنين فقد أمر الله بالإصلاح بينهما ، وحينئذ فإن بَغَتْ إحداهما على الأُخرى قوتلت ، ولم يقع الأمر كذلك ، ولهذا قالت عائشة : ترَك الناس العمل بهذه الآية ؛ رواه مالك بإسناده المعروف عنها .

ومذهب أكثر العلماء أنّ قتال البُغاة لا يجوز ، إلاّ أن يبتدؤا الإمام بالقتال ، كما فعلَتْ الخوارج مع عليّ ، فإنّ قتاله الخوارج متّفق عليه بين العلماء ثابت بالأحاديث الصحيحة عن النبيّ ، بخلاف قتال صفين ، فإنّ أولئك لم يبتدؤا بقتال بل امتنعوا عن مبايعته ، ولهذا كان أئمّة السُنّه كمالك وأحمد وغيرهما يقولون أنّ قتاله للخوارج مأمور به .

أمّا قتال الجَمَل وصفّين فهو قتالُ فتنة ، فلو قال قوم نحن نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ولا ندفع زكاتنا إلى الإمام ونقوم

_______________________

(١) مختصر التحفة الاثني عشرية : ١٩٦ ، الحديث الحادي عشر مِن باب الإمامة .

١٦٥

عليّ ، عن أبيهما ، عن عليّ بن أبي طالب : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة )(١) .

وهو حديث باطل لوجوه :

الأوّل : لقد نصّ علماء القوم على بطلان القول بتحريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتعة يوم خيبر ، وقد تقدّم الإيماء إلى قول صاحب ( التحفة ) بأنّ هذه الدعوى تشهد بجهل وحمق مدّعيه(٢) .

الثاني : إنّ أمير المؤمِنينعليه‌السلام كان على رأس القائلين بحليّة المتعة ، قال الرازي : ( أمّا أمير المؤمِنين عليّ بن أبي طالب ، فالشيعة يَرْوون عنه إباحة المتعة ، وروى محمّد بن جرير الطبري في تفسيره عن عليّرضي‌الله‌عنه أنّه قال : لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنا إلاّ شقيّ )(٣) .

وفي ( الدر المِنثور ) بتفسير( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم... ) الآية : ( أخرج عبد الرزاق وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن الحُكم أنّه سُئل عن هذه الآية مِنسوخة ؟ قال : لا وقال عليّ : لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنا إلاّ شقيّ ) (٤) .

ورواه المتّقي كذلك عن الثلاثة(٥) .

الثالث : إنّ فتوى مالك نفسه بإباحة المتعة تكذّب هذا الحديث ، وقد ذُكرِت فتواه هذه في كُتب القوم ، نذكر بعضها :

قال المرغيناني : ( ونكاح المتعة باطل ، وهو أنْ يقول لامرأة : أتمتّع بك

_______________________

(١) الموطّأ ٢ : ٥٤٢ / ٤١ .

(٢) التحفة الاثني عشرية : ٣٠٣ .

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ٥٠ .

(٤) الدرّ المِنثور ٢ : ٤٨٦ .

(٥) كنز العمّال ١٦ : ٥٢٢ / ٤٥٧٢٨ .

١٦٦

كذا مدّة بكذا مِن المال وقال مالك رحمه الله : هو جائز ، لأنّه كان مباحاً فيبقى إلى أنْ يظهر ناسخه )(١) .

وقال أبو البركات النسفي في ( كنز الدقائق ) : ( ويبطل نكاح المتعة ، خلافاً لمالك ، صورة المتعة أنْ يقول الرجل لامرأة : خذي هذه العشرة لأتمتّع بك أيّاماً وقال مالك رحمه الله : هو جائز ) .

قال الزيلعي بشرحه : ( وقال مالك هو جائز ، لأنّه كان مشروعاً ، فيبقى إلى أنْ يظهر ناسخه واشتهر عن ابن عبّاس تحليلها ، وتبعه على ذلك أكثر أصحابه مِن أهل اليمِن ومكّة ) .

وقال العيني بشرحه : ( وقال مالك هو جائز ، لأنّه كان مشروعاً ، واشتهر عن ابن عبّاس تحليله ) .

وقال أكمل الدين البابرتي بشرح الهداية :

( قال : ونكاح المتعة باطل صورة المتعة ما ذكره في الكتاب أن يقول الرجل لامرأة : أتمتّع بك كذا مدّة بكذا مِن المال ، أو يقول : خذي مِني هذه العشرة لأتمتّع بك أيّاماً ، أو متّعيني نفسك أيّاماً أو عشرة أيام ، أو لم يقل أيّاماً وهذا عندنا باطل وقال مالك رحمه الله : هو جائز ، وهو الظاهر مِن قول ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه لأنّه كان مباحاً بالاتّفاق فيبقى إلى أنْ يظهر ناسخه...

وقيل : في نسبة جواز المتعة إلى مالك نظر ، لأنّه روى الحديث في الموطّأ عن ابن شهاب عن عبد الله والحسن ابني محمّد بن عليّ عن أبيهما عن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة وقال في المدوّنة : ولا

_______________________

(١) الهداية في الفقه ١ : ١٩٥ .

١٦٧

يجوز النكاح إلى أجل قريب أو بعيد وإنْ سُمّيَ صداقاً ، وهذه المتعة .

وأقول : يجوز أن يكون شمس الأئمّة الذي أخذ مِنه المصنّف ، قد اطّلع على قولٍ له على خلاف ما في المدوّنة ، وليس كلّ مِن يروي حديثاً يكون واجب العمل ، لجواز أن يكون عنده ما يعارضه أو يرجّح عليه )(١) .

_______________________

(١) العناية في شرح الهداية ٣ : ١٤٩ ـ ١٥٠ ط على هامش فتح القدير لابن الهمام .

١٦٨

أبو حنيفة النعمان بن ثابت

رسالة إمام الحرَمَيْن

لقد ألَّف إمام الحرمين الجويني(١) رسالةً في ذمّ أبي حنيفة والطعن على أقواله وفتاواه ، وأسماها ( مغيث الخَلْق في اختيار الحقّ ) وقد تركتْ هذه الرسالة أثراً بالغاً في نفوس الناس ، وتحيّر الحنفيّة في علاج الأمر ، ولم يجد بعضهم بدّاً مِن إنكار الرسالة ونفي كونها لإمام الحرمين وزعم أنّها موضوعة عليه ، كالشيخ ملاّ عليّ القاري ، فإنّه كتب جواباً عنها وقال في خطبته :

( يقول أفقر عباد الله الغنيّ الباري عليّ بن سلطان الهروي القاري : رأيت رسالة مصنوعةً في ذمّ مذهب السّادة الحنفيّة ـ الذين هم قادة الأُمّة الحنفيّة وأكثر أهل الملّة الإسلاميّة ـ وموضوعة ، فيها أشياء مِن أعجب العجاب التي تشير إلى أنّ قائلها جاهل أو كذّاب ، وهي مِنسوبة إلى أبي المعالي عبد الملك ابن عبد الله بن يوسف الجويني المشهور بإمام الحرمين ، مِن أكابر علماء مذهب الشافعي ، وحسن ظنّي به أنّ أحداً مِن الخوارج أو الرافضة ـ الحاسدين لاجتماع أهل السنّة والجماعة على طريقة واحدة مشتملة على المستنبَط مِن

_______________________

(١) وهو : أبو المعالي عبد الملك الشافعي ، المتوفى سنة ٤٧٨هـ ، توجد ترجمته في : طبقات الشافعية للسبكي ٥ : ١٦٥، وفيات الأعيان ٣ : ١٦٧ ، المِنتظم ٩ : ١٨ ، سِيَر أعلام النبلاء ١٨ : ٤٦٨ .

١٦٩

الكتاب والسنّة وإجماع الأُمّة والقياس المعتبر عند الأئمّة ـ كَتَبَ هذه الرسالة ونسبها إليه ، ليكون سبباً لرواج بضاعته المزجاة لديه ، ووسيلة إلى مهابة العوام والجهلة في الردّ عليه ، كما يدلّ على ما قلنا ركاكة ألفاظه... ) .

إلاّ أنّ القاري تنبّه في آخر الرسالة إلى غفلته والتفت إلى سوء ظنّه وفساد توهّمه فقال :

( ثمّ أعلم أني كنت أظنّ أنّ الرسالة المصنوعة إنّما يكون على إمام الحرمين موضوعة ، لكن رأيت في بعض الكُتُب أنّه ذكرها اليافعي في كتابه مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمِن وتقلّب أحوال الإنسان ) .

أقول : وهذه نصوص ألفاظ ما جاء في ( مرآة الجنان ) في ذلك :

( وممّا ذكروا عن السلطان محمود ما هو مشهود ، ومِن فضل مذهب الشافعي معدود : ما سيأتي الآن ذكره ويعلم مِنه فضل المذهب المذكور وفخره ، قصّة عجيبة مشتملة على نادرة غريبة ، وهي ما ذكر إمام الحرمين ، فحل الفروع والأصلين ، أبو المعالي عبد الملك ابن الشيخ الإمام أبي محمّد الجويني ، في كتابه الموسوم بـ ( مغيث الخلق في اختيار الحقّ ) : إنّ السلطان محمود المذكور كان على مذهب أبي حنيفةرضي‌الله‌عنه ، وكان مولعاً بعِلم الحديث ، وكان الناس ـ أو قال : الفقهاء ـ يسمعون الحديث مِن الشيوخ بين يديه... )(١) .

قضيّة صلاة القفّال

هذا ، وقد جاء في الرسالة المذكورة بعد الكلام على فضائح أبي حنيفة

_______________________

(١) مرآة الجنان وعبرة اليقظان ٣ : ١٩ .

١٧٠

في مسائل الطهارة :

( جئنا إلى الصّلاة ، فوافق الشافعي الأصل الذي عليه بناء الصّلاة مِن الدعاء والخضوع والخشوع وقال : المعنى المطلوب مِن الصّلاة الخضوع والخشوع واستكانة النفس ، ومحادثة القلب بالموعظة الحسنة والحكمة البالغة ، والفكر في معاني القرآن والابتهال إلى الله سبحانه ، وأبو حنيفة لا يلزم الأصل ويخالفه حتّى طرح أركانها وشرائطها ، حتّى رجع حاصل الصّلاة إلى نقرات كنقرات الديك.

وإذا عَرَض ـ مثلاً ـ صلاته على كلّ عامّي جلف امتنع عن اتّباعه ، فإنّ مِن غمس في مستنقع نبيذ ، ولبس جلد كلب مدبوغ ، وأحرم بالصّلاة مبدّلاً بصيغة التكبير ترجمته تركياً كان أو هندياً ، ويقتصر في قراءة القرآن على ترجمة قوله( مُدْهَامَّتَانِ) ثمّ يترك الركوع فينقر نقرتين ، لا قعود بينهما ولا يقرأ التشهّد ، ثمّ يُحْدث عمداً في آخر صلاته بدل التسليم ، ولو اتّفق مِنه أن سبقه الحَدَث يعيد الوضوء في أثناء الصلاة ويُحْدث ، فإنّه إن لم يكن قاصداً لحَدَثِه الأوّل لم يتحلّل عن صلاته على الصحّة .

والذي ينبغي أن يَقطع به كلُّ ذي دين : أنّ مثل هذه الصّلاة لم يبعث الله به نبيّاً ، ولا بعث محمّد بن عبد الله المصطفى ( صلوات الله وسلامه عليه ) لدعاء الناس إليه ، وهي قطب الإسلام وعماد الدين ، وقد زعم أنّ هذا القدر أقلّ الواجب ، وهي الصّلاة التي بعث بها النبيّ ( عليه الصّلاة والسلام ) ، وما عداها آداب وسُنن .

ويحكى أنّ السلطان يمين الدولة وأمين الملّة أبا القاسم محمود بن سبكتكين ، كان على مذهب أبي حنيفة ، وكان مولعاً بعلم الحديث ، وكان ندماؤه وجلساؤه يسمعون الحديث مِن الشيوخ بين يديه وهو يسمع ، وكان

١٧١

يستفسر الأحاديث ، فوجد الأحاديث أكثرها موافقاً لمذهب الشافعي ، فوقع في خَلَدِه حبّه ، فجمع الفقهاء مِن الفريقين في المرو والتمس مِنهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، فوقع الاتّفاق على أن يصلّوا بين يديه ركعتين على مذهب الشافعي وركعتين على مذهب أبي حنيفة ، لينظر فيه السلطان ويتفكر فيه ويختار ما هو أحسن .

فصلّى القفّال المروزي مِن أصحاب الشافعي بطهارة مسبغة وشرائط معتبرة مِن الطهارة والسَتر واستقبال القبلة ، وأتى بالأركان والهيئات والسُنن والآداب والفرائض على وجه الكمال والتمام ، وكان صلاة لا يجوّز الشافعي دونها .

ثمّ صلّى ركعتين على ما يجوّز أبو حنيفة ، فلبس جلد كلب مدبوغ ولطخ ربعه بالنجاسة ، وتوضّأ بنبيذ التمر ، وكان في صميم الصيف بالمفازة ، فاجتمع عليه الذباب والبعوض ، وكان وضوءه معكوساً مِنكوساً ، ثمّ استقبل القبلة وأحرم بالصلاة مِن غير نيّة ، وأتى بالتكبير بالفارسيّة ، ثمّ قرأ آية بالفارسيّة ( دو برك سبز ) ثمّ نقر نقرتين كنقرات الديك ، مِن غير فصلٍ ومِن غير ركوع ، وتشهّد وضرط في آخره مِن غير سلام .

وقال : أيّها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة .

فقال السلطان : إن لم تكن هذه صلاة أبي حنيفة لقتلتك ؛ لأنّ مثل هذه الصلاة لا يجوّزها ذو دين .

وأنكرت الحنفيّة أن يكون هذه صلاة أبي حنيفة .

وأمر القفّال بإحضار كُتُب العراقيّين .

وأمر السلطان نصرانيّاً كاتباً يقرأ المذهبين جميعاً .

١٧٢

فوجدت الصّلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفّال

فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة وتمسّك بمذهب الشافعيّ .

ولو عرضت الصلاة التي جوّزها أبو حنفية على العاميّ لامتنع مِن قبولها ) .

وكذلك جاء في كتاب ( السيف المسلول في ضَرْب القتال والمقفول) ، فإنّه وإنْ حاول صاحبه في بدء الأمر تكذيب القصّة ، لكنّه اضطرّ إلى الإقرار بثبوتها ، وهذه عباراته :

( يقول أضعف عباد الله القويّ علم الله بن عبد الرزاق الحنفي أصلح الله حاله وحقّق آماله : كنت أسمع مِن أفواه الرجال قصّة المروزي القفّال مع السلطان محمود الغزنوي المغتال ، في تحويله بالشعبذة والاحتيال وتنقيله عمّا كان عليه مِن سنيّ الأحوال ، مِن مذهب الإمام أبي حنيفة الأعظم إلى مذهب الإمام محمّد بن إدريس المحترم ، ولمّا كانت القصّة مشتملة على قبايح شنيعة وشنائع فظيعة لا تليق به ، بل يستحيل أن تصدر عمِن له حظّ قليل مِن الأخلاق الرضيّة والآداب المرضيّة ، بل مِن له أدنى رائحة مِن طيب الإسلام فضلاً عمِن يعدّه جمع مِن العلماء الأعلام ، كنتُ كذّبتها وما صدّقتها وخطّأتها وما صوّبتها

وقلت : حاشاه حاشاه ! أين هذا وأين علمه وتقواه ، مطهّر جنابه مِن هذه الأنجاس ، مِنزّه لسانه عن لوث هذه الأدناس ، شأنه أجلّ مِن أن يكون معروفاً بهذي الفضائح ومشهوراً بتلك القبائح ، مِن البطالات المزخرفة والخرافات المستطرفة ، وأُضحوكات المضحكة ومهملات المتمسخرة ، وتكلّمات المجانين وحكايات المغمورين ، وخطابات المسحورين وهذيانات المحمومين ، هزل لا فصل ، جهل لا فضل ، وكنت على ذلك برهة مِن الزمِن

١٧٣

ومدّة مِن الأكوان ) .

ثمّ قال بعد هذا كلّه :

( حتّى وقفت على تاريخ اليافعي مِن أعيان مقلّدي الشافعي ، فرأيته قد ذكر القصّة على ما شاعت في الخافقين ، نقلاً عن الكتاب المسمّى بمغيث الخلْق لإمام الحرمين ، فظهر أنّ القصّة واقعة وأنّ الحكاية على ما هي شائعة ، ليس في صدقها ريب ولا فيها مِن الافتراء شَوْب ، فلمّا عرفت أنّ هذا اليقين لا يُستراب زدتُّ تحيّراً وقلت : إنّ هذا لشيءٌ عجابٌ ، وأعجب مِن هذا ، أنّ هؤلاء الذين عدّوا أجلاّء الشافعيّة عظماء ، ذكروا القصّة تبجّحاً وافتخاراً ، وأوردوا الحكاية تبهّجاً وابتشاراً، كما يدلّ على ذلك عباراتهم ويجلو ما هنالك إشاراتهم ) .

ترجمة القفّال المروزي

هذا ، وإليك طرفاً مِن ترجمة أبي بكر القفّال ، المتوفى سنة ٤١٧هـ ، وفضائله ومحامده في كُتب تراجم الرجال والتاريخ : فقد قال ابن خلّكان في ( وفيات الأعيان) :

( أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله الفقيه الشافعي المعروف بالقفّال المروزي ، كان وحيد زمِنه فقهاً وحفظاً ، وورعاً وزهداً ، له في مذهب الإمام الشافعي مِن الآثار ما ليس لغيره مِن أبناء عصره ، وتخاريجه كلّها جيّدة وإلزاماته لازمة ، واشتغل عليه خلْق كثير وانتفعوا به ، مِنهم الشيخ أبو عليّ السبخي والقاضي حسين بن محمّد ـ وقد تقدّم ذكرهما ـ والشّيخ أبو محمّد الجويني والد إمام الحرمين ، وسيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى وغيرهم ، وكلّ واحد مِن

١٧٤

هؤلاء صار إماماً يشار إليه ، ولهم التصانيف النافعة ونشروا علمه في البلاد ، وأخذ عنهم أئمّة كبار أيضاً )(١) .

وقال ابن جماعة في ( طبقات فقهاء الشافعية ) :

( عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي ، الإمام الجليل ، أبو بكر القفّال الصغير ، شيخ طريقة خراسان ، وإنّما قيل له القفّال لأنّه كان يعمل الأقفال في ابتداء أمره ، وبرع في صناعتها حتّى صنع قفلاً بالآلة ومفتاحه وزن أربع حبّات ، فلمّا كان ابن ثلاثين سنة أحسّ مِن نفسه ذكاء فأقبل على الفقه ، فاشتغل به على الشيخ أبي زيد وغيره ، فصار إماما يُقتدى به فيه ، وتفقّه عليه خلْق مِن أهل خراسان ، وسمع الحديث ، وحدّث وأملى .

قال الفقيه ناصر العمري : لم يكن في زمِن أبي بكرالقفّال أفقه مِنه ، ولا يكون بعده مثله ، وكنّا نقول : إنّه مَلَك في صورة إنسان .

وقال الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه : أبو بكر القفّال وحيد زمِنه فقهاً وحفظاً وورعاً وزهداً ، وله في المذاهب مِن الآثار ما ليس لغيره مِن أهل عصره ، وطريقته المهذّبة في مذهب الشافعي التي حملها عنه أصحابه أمتن طريقة وأكثرها تحقيقاً، رحل إليه الفقهاء مِن البلاد وتخرّج به أئمّة )(٢) .

وقال اليافعي في ( مرآة الجنان ) :

( الإمام أبو بكر القفّال المروزي ، عبد الله بن أحمد شيخ الشافعية بخراسان ، حذق في صنعته حتّى عمل قفلاً بمفتاحه وزن أربع حبّات ، فلمّا صار ابن ثلاثين سنة ، أحسّ بنفسه ذكاءً وحبّب الله إليه الفقه ، فاشتغل به فشرع

_______________________

(١) وفيات الأعيان ٣ : ٤٦ / ٣٣١ .

(٢) طبقات الشافعية لابن جماعة ، وانظر : لابن قاضي شهبة ١ : ١٨٦ برقم ١٤٤ .

١٧٥

فيه ، وهو صاحب طريقة الخراسانيّين في الفقه ، عاش تسعين سنة .

قال ناصر العمري : لم يكن في زمِنه أفقه مِنه ولا يكون بعده ، كنّا نقول : إنّه مَلَك في صورة آدمي .

قلت : وهو القفّال المتقدّم ذكره مع السلطان محمود الملقّب بيمين الدولة وأمين الملّة ابن ناصر الدين سبكتكين ، وله ذِكر في صلاته على مذهب الشافعي فقهاً والمجزية على مذهب أبي حنيفة القصّة المتقدّم ذكرها في سنة عشرة وأربعمائة .

قالوا : وكان وحيد زمِنه فقهاً وحفظاً وورعاً وزهداً ، واشتغل عليه خلْق كثير مِنهم الأئمّة الكبار : القاري حسين والشيخ أبو محمّد الجويني وابنه إمام الحرمين والشيخ أبو عليّ السنجي وغيرهم ، وكلّ واحد مِن هؤلاء صار إماماً يشار إليه ، ولهم التصانيف النافعة ، وأخذ عنهم أئمّة كبار أيضاً )(١) .

وإليك كلمات الشيخ عليّ القاري في الطعن والذم لهذا الفقيه الكبير...

( ثمّ رأيت بعض أصحابنا إنّه أفاد في هذه الحكاية ما أجاد حيث قال : وما أقبح صلاة هذا المصلّي وأشنعها وما أسوء ضرطته وأفظعها ، لقد لبس ثوب الخلاعة وارتدى برداء الشناعة ، وأصمّ بضرطته الأسماع ، وأتى بما تنفر عنه الطباع ، وفَعَل فِعْل السفلة الخفاف ، واستخفّ بالدين غاية الاستخفاف ، فضلّ به عن سواء الصراط ، والتحق بالأراذل والأسقاط بصلاته هذه وختمها بالضراط .

لقد ساعدته أُسْتُه كلّ المساعدة ، وباعدته عن الحياء والدين كلّ المباعدة ؛ أمّا عن الدين فظاهر لأرباب اليقين ، لأنّه تعمّد الحدَث في حال

_______________________

(١) مرآة الجنان وعبرة اليقظان ٣ : ٢٤ حوادث السنة ٤١٧ هـ .

١٧٦

مِناجاته لربّ العالمين ، وأمّا عن الحياء فذلك شيء لا ينكره أحد مِن العقلاء ، فواعجباه ! كيف أقْدَم هذا الذي يُنسب إلى العِلم على هذا الفعل القبيح بحضرة جماعة مِنهم السلطان ، فصيّر نفسه ضحكة لأهل الزمِن بأمر الشيطان .

ثمّ مع هذا ظنّ أنّ ضرطته هذه لله نافعة وإنّما هي له عن رتبة العقلاء واضعة ، إذ لو فعل مثل ذلك أحد مِن العوام لقيل إنّه ملحد مستخفّ بالإسلام ، بل مِن ترك الصلاة رأساً أهون في مقام القبائح مِن هذه السيّئة المشتملة على الفضائح ، إذ هي الشناعة العظمى والداهية الدهياء .

وإنّما حمله على ذلك اتّباع الهوى لأجل أغراض الدنيا ، فليته حين مات مات فعله هذا معه ولم يُذكر ، ولم يُكتب في الدفاتر ولم يُسطر ، لكنّه أُثبت في التواريخ واُشتهر ، وتشدّق به مِن لا خَلاق له وافتخر ، فلو عرفوا ما فيه مِن أنّ الشناعة راجعة إليهم لما ذكروا مثل هذا فيما لديهم ، ولكن كما قال سبحانه:( أَفَمِن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مِن يَشَاءُ ويَهْدي مِن يَشاء ) فنعوذ بالله مِن شرور أنفسنا ومِن سيّئات أعمالنا ، ونستغفره مِن زللٍ في أقلمِنا وخطْلٍ في أقوالنا ) .

ثمّ إنّ فتاوى أبي حنيفة في أحكام الصّلاة هذه التي حكاها القفّال ، مذكورة في سائر الكُتب أيضاً ، فالسيوطي مثلاً يقول في رسالته ( جزيل المواهب في اختلاف المذاهب) في بيان فضائل مذهب الشافعي :

( ومِنها : كثرة الاحتياط في مذهبه وقلّته في مذهب غيره ، فمِن ذلك الاحتياط في العبادات وأعظمها شأناً الصلاة ، ومِن أدّى صلاته على مذهب الشافعي كان على يقين مِن صحّتها ، ومِن أدّاها على مذهب مخالفه وقع الخلاف في صحّة صلاته مِن وجوه : إجازتهم الوضوء بنبيذ التمر ، وتطهير

١٧٧

البدن والثوب عن النجاسات بالمايعات ، وأجازوا الصلاة في جلد الكلب المذبوح مِن غير دِباغ ، وأجازوا الوضوء بغير نيّة ولا ترتيب وأسقطوه في مسّ الفرج والملامسة ، وأجازوا الصّلاة على ذَرْق الحَمام ومع قدر الدرهم مِن النجاسات الجامدة ، وتلطّخ ربع الثوب مِن البول ومع كشف بعض العورة ، وأبطلوا تعيين التكبير والقراءة ، وأجازوا القرآن مِنكوساً ، وبالفارسيّة ، وأسقطوا وجوب الطّمِنينة في الركوع والسجود والاعتدال مِن الركوع والقعود بين السجدتين ، والتشهّد والصلاة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلاة ، مع الخروج عنها بالحَدَث .

وأبطلنا نحن الصّلاة في هذه الوجوه ، وأوجبنا الإعادة على مِن صلّى خلف واحد مِن هؤلاء ) .

وابن تيمية الذي له الباع الطويل في تكذيب الحقائق وإنكار الثوابت ، قد نصَّ على صحّة ما نُسب إلى أبي حنيفة ، وأنّ هذه الصلاة يُنكرها جمهور أهل السُنّة ، ففي ( مِنهاج السنة ) :

( وأمّا ما ذكره مِن الصلاة التي يُجيزُها أبو حنيفة وفعلها عند بعض الملوك حتّى رجع عن مذهبه ، فليس بحجّة على فساد مذهب أهل السُنّة ؛ لأنّ أهل السُنّة يقولون إنّ الحقّ لا يخرج عنهم ، لا يقولون إنّه لا يخطي أحد مِنهم ، وهذه الصّلاة يُنكرها جمهور أهل السنّة ، كمالك والشافعي وأحمد ، والملك الذي ذكره هو محمود بن سبكتكين ، وإنّما رجع إلى ما ظهر عنده أنّه مِن سُنّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان مِن خيار الملوك وأعدلهم ، وكان مِن أشدّ الناس قياماً على أهل البدع لا سيّما الرافضة )(١) .

_______________________

(١) مِنهاج السُنّة ٣ : ٤٣٠ .

١٧٨

بين الشافعي وتلامذة أبي حنيفة

ولو أنّ أحداً مِن الحنفيّة جوّز لنفسه الطعن والتشنيع على هؤلاء الأئمّة والتكذيب لهم ، فليس له أن يُقدِم على تكذيب الشافعيّ نفسه ، لأنّه أحد أركان الدين عند أهل السنّة كلّهم ، وقد جاء في غير واحدٍ مِن الكُتب طعن الشافعي على أبي حنيفة وأصحابه وفتاواه ، فالسبكي يروي في ( طبقات الشافعية ) عن إمامه الشافعي أنّه قال :

 ( كَتب مطرف بن مازن إلى هارون الرشيد : إنّ أردت اليمِن لا يفسد عليك ولا يخرج مِن يديك ، فأخرج عنه محمّد بن إدريس ـ وذكر أقواماً مِن الطالبيّين ـ قال : فبعث إليَّ حمّاد البربري ، فأُوثِقْتُ بالحديد حتّى قَدِمِنا على هارون بالرقّة قال : دخلت على هارون قال : فأُخرجت مِن عنده قال : وقدمتُ ومعي خمسون ديناراً قال : ومحمّد بن الحسن يومئذ بالرقّة قال : فأنفقت تلك الخمسين ديناراً على كُتبهم قال : فوجدت مَثَلهم ومَثَل كتبهم مَثَل رجل كان عندنا يقال له فروخ وكان يحمل الدهن في زقّ له ، فكان إذا قيل له عندك فرستان ؟ قال : نعم فإن قيل عندك زنبق ؟ قال : نعم ، فإذا قيل له : أرني ـ وللزقّ رؤوس كثيرة ـ فيخرج مِن تلك الرؤوس وإنّما هي مِن واحدة ، وكذلك وجدت كتاب أبي حنيفة ، إنّما يقولون كتاب الله وسنّة نبيّهعليه‌السلام ، وإنّما هم مخالفون له )(١) .

قال السبكي :

( قال ـ أي الشافعي ـ : فسمعت ما لاأُحصيه محمّد بن الحسن يقول : إن

_______________________

(١) طبقات الشافعية ٢ : ١٢١ ـ ١٢٢ مع اختلافٍ يسير .

١٧٩

بواجبات الإسلام ، لم يجُزْ للإمام قتالهم عند أكثر العلماء كأبي حنيفة وأحمد ، وأبو بكر الصدّيق إنّما قاتل مانعي الزكاة لأنّهم امتنعوا مِن أدائها مطلقاً ، وإلاّ فلو قالوا نحن نؤتيها بأيدينا ولا ندفعها إلى أبي بكر ، لم يجُزْ قتالهم عند الأكثرين كأبي حنيفة .

ولهذا كان علماء الأمصار على أنّ القتال كان قتال فتنة ، وكان مَن قعد عنه أفضل ممّن قاتل فيه ، وهذا مذهب مالك وأحمد بن حنبل والأوزاعي بل الثوري ، وكذلك نُقل عن أبي حنيفة ومَن لا يُحصى عدده )(١) .

وقال ابن تيمية : ( اضطرب الناس في خلافة عليّ على أقوال :

فقالت طائفة : إنّه إمام وإنّ معاوية إمام ، وإنّه يجوز نصب إمامين في وقت إذا لم يكن الاجتماع على إمامٍ واحد ، وهذا يُحكى عن الكرامية وغيرهم .

وقالت طائفة : لم يكن في ذلك الزمان إمام بل كان زمان فتنة ، وهذا قول طائفة مِن أهل الحديث البصريّين وغيرهم ، ولهذا لمّا أظهر الإمام أحمد التربيع بعليٍّ في الخلافة وقال : مَن لم يربّع بعليٍّ في الخلافة فهو أضلّ مِن حمار أهله ، أنكر ذلك طائفة مِن هؤلاء وقالوا : قد أنكر خلافته مَن لا يقال هو أضلّ مِن حمار أهله ، يريدون مَن تخلّف عنها مِن الصحابة ، واحتجّ أحمد وغيره على خلافة عليّ بحديث سفينة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تكون خلافة النبوّة ثلاثين سنة ثمّ تصير مِلكاً ، وهذا الحديث قد رواه أهل السُنن كأبي داود وغيره .

وقالت طائفة ثالثة : بل هو الإمام ، وهو مصيب في قتاله لمَن قاتله ،

_______________________

(١) منهاج السُنّة ٤ : ٤٣٦ ـ ٤٣٧ .

١٨٠