حوار في التسامح والعنف

حوار في التسامح والعنف28%

حوار في التسامح والعنف مؤلف:
الناشر: مجلة ( الحياة الطيبة)
تصنيف: مكتبة الأسرة والمجتمع
الصفحات: 136

حوار في التسامح والعنف
  • البداية
  • السابق
  • 136 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57580 / تحميل: 7624
الحجم الحجم الحجم
حوار في التسامح والعنف

حوار في التسامح والعنف

مؤلف:
الناشر: مجلة ( الحياة الطيبة)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

إلاّ بمواجهة أئمة الظلم، الذين لا يألون جُهداً في مواجهة هذا الدين، وإحباط مشاريعه في تحرير الإنسان بكل الوسائل الممكنة. وما دام هؤلاء الطغاة في مواقع القوّة والسلطان من حياة الناس، فلا يمكن أن يأذنوا لهذا الدين بالتقدُّم إلى الناس، وأن يُقدِّم إلى الناس خطاب الله تعالى، فإنّ هذا الخطاب يتضمَّن تحرير الإنسان من كل القيود والآصار، وإعادة الحاكمية في حياة الإنسان إلى الله تعالى والصالحين من عباده، وتقرير ألوهيَّته وحاكميته على وجه الأرض، ولن يكون شيء من ذلك ما دام لهؤلاء سلطان وقوّة على وجه الأرض.

دور أئمة الكُفر في إحباط مشاريع هذا الدين :

فإنَّ هؤلاء يوظِّفون كلّ قوَّتهم وسلطانهم لإحباط مشروع هذا الدين وإعاقة حركته، وصدّ الناس عن الله، وتشويه صورته في أذهان الناس، ويتربّصون به الدوائر لتعطيل دوره في حياة الإنسان.

اقرأوا هذه الآيات من كتاب الله، حيث يقول تعالى :( كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (١) ( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ

____________________

(١) سورة التوبة : الآيتان ٨ - ٩.

٢١

أَعْمَالَهُمْ ) (١) ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً ) (٢) .

فلن يتمكَّن هذا الدين من تقديم خطاب الله تعالى إلى الناس، وتحريرهم من أسر ( الهوى ) و( الطاغوت )، ما دام هؤلاء الظالمون يحتلُّون مواقع القوَّة والسلطان على وجه الأرض.

القتال لإزالة الفتنة والإعاقة عن طريق الدين :

فلابدَّ - إذاً - من استئصال أئمة الظلم والمفسدين من وجه الأرض.

يقول تعالى :( فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) (٣) .

وبذلك تنتهي الفتنة من حياة الإنسان.

يقول تعالى :( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) (٤) ،( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) (٥) .

والفتنة : هي ( الإعاقة )، ووسائل الإعاقة كثيرة، من الإرهاب، والترغيب، والتضليل الإعلامي.

____________________

(١) سورة محمد : الآية ١.

(٢) سورة محمد : الآية ٣٢.

(٣) سورة التوبة : الآية ١٢.

(٤) سورة البقرة : الآية ١٩٣.

(٥) سورة الأنفال : الآية ٣٩.

٢٢

فإذا زالت أسباب ( الإعاقة ) هذه من حياة الناس، ولم يَحُلْ أحد بين الناس وبين الله تعالى، أقبل الناس على الله، كما أقبلوا عليه في الجزيرة العربية في السنوات الأخيرة من حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ) (١) ، أرأيت السدَّ عندما يتهشَّم كيف تتدفَّق المياه، كذلك ( سدُّ الفتنة ) عندما يزول يتدفّق الناس أفواجاً إلى دين الله؛ وعندئذٍ يكون الدين كلُّه لله، من غير حرب ولا قتال.

وذلك هو قوله تعالى :( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ، فإنّ الفتنة والإعاقة لن تزول إلاَّ بالقتال، فإذا زالت لن يحتاج حملة الدعوة إلى قتال وحرب ليُقْبِل الناس على الله والدين، وإنَّما يُقبل الناس على الدين بمحض إرادتهم من دون قتال، ويكون الدين كلّه لله.

فالقتال لا يكون إلاّ لإزالة الفتنة وأسباب الإعاقة عن طريق الدعوة إلى الله. هذه هي النظرية، وتحتاج هذه النظرية إلى بسط في الكلام، وتوضيح واستدلال لا يسعه المقام.

البُعد الواقعي والموضوعي في أحكام هذا الدين :

وتفسير آيات القتال على أساس الدفاع، والتنظير للدفاع من خلال هذه الآيات، لا يستقيم والفهم السليم لآيات كتاب لله، وإنَّ العوامل السياسية

____________________

(١) سورة النصر : الآية ٢.

٢٣

والإعلامية الضاغطة قد تؤدِّي بالمنظِّرين والمفكّرين المعاصرين، إلى تفسير النصوص الإسلامية على غير وجهها، وهذه الخلفيّة الضاغطة، واضحة في هذه التنظيرات، التي تُحاول أن تعكس صورة وديعة للإسلام تتقبَّلها الذهنيّة الغربيّة.

ومن هذا المنطلق تفسَّر التشريعات والنصوص الواردة في أمر الجهاد والقتال بالدفاع، ويعتقد أصحاب هذه النظرية أنَّ الإسلام يتمكَّن من فتح معاقل الكفر على وجه الأرض بالتوعية، والإنذار، والتبشير، والموعظة فقط، وهذا رأي غير واقعي، ولو كان حَمَلة الإسلام يقتصرون على عامل التوعية والإنذار والتبشير، لم يتيسّر لهم يومئذٍ فتح معاقل فارس، والروم، ومصر، وأفريقيا. ولا يعني هذا الكلام الانتقاص من قيمة التوعية، والإنذار، والتبشير، وإنَّما نُحبُّ أن نأخذ الواقع الإنساني والسياسي بكل أبعاده، في حساب الدعوة إلى الله.

وبهذه النظرة الواقعية، لا يمكن أن نفسِّر حركة هذا الدين الواسعة في حياة الإنسان، بعامل التوعية والإنذار والتبشير فقط، من دون أن نأخذ بنظر الاعتبار حالة الجهاد والقتال في تقدُّم الإسلام وتوسُّعه.

رؤية أهل البيت إلى الفتوحات العسكرية صدر الإسلام :

ورغم أنَّ الفتوحات العسكرية بعد عصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت أحداثاً ضخمة وكبيرة في تاريخ هذا الدين، رغم ذلك لا نجد إشارة إلى رفض هذه

٢٤

الفتوحات والتشكيك في مشروعيَّتها في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام ، وواضح لمَن خَبَر أحاديثهمعليهم‌السلام ، أنَّ انعدام النصوص الرافضة مع أهميِّة الفتوحات العسكرية يومئذٍ، يعني إقرارها وشرعيتها، كما أنَّ عمومات وإطلاقات نصوص الجهاد في القرآن تدلُّ على هذه الحقيقة.

ولست أحبُّ أن أُدخل هنا بحثاً فقهيّاً عن مشروعية الجهاد الابتدائي، ولكنَّني أقول - وأختم هذا الشطر من الحديث - : إنّ الذي يتلقّى سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنصوص الإسلامية في الجهاد والقتال، وتاريخ الفتوحات الإسلامية، وموقف أهل البيتعليهم‌السلام من هذه الفتوحات لا يَشُكُّ في الحالة الجهادية في الإسلام، ولن يَشُكَّ في أنَّ الإسلام لا يتمكَّن من فتح معاقل الكفر والظلم، والاستبداد السياسي، والطغيان على وجه الأرض، من دون القتال والمواجهة.

والتنظيرات المعاصرة للنصوص الإسلامية في القتال والجهاد، تمثِّل حالة من الهزيمة النفسيّة والفكريّة تجاه العوامل السياسية والإعلاميّة الضاغطة، ومن الخطأ أن نُخضِع تفسير النصوص الإسلامية لهذه العوامل الضاغطة، مهما كان نوعها.

ومن هذه العوامل الموجة الإعلاميّة الواسعة ضدَّ العنف، بعد أحداث ١١ أيلول ( سبتمبر ) في أمريكا، والتي قادتها أمريكا وأوروبا في العالم، ووقع بعض المفكّرين والمنظِّرين في تيَّار الموجة الإعلاميّة العالميّة، مع علم أو من دون علم.

٢٥

ونحن نؤمن أنَّ العنف ظلماً مرفوض، وأنَّ العنف لمواجهة الظلم صحيح، وأنَّ العنف لإزالة العنف حقٌّ، وأنَّ العنف لإزالة الباطل صحيح، وعمليات المقاومة الإسلامية في لبنان، والمقاومة الإسلامية في فلسطين من العنف المشروع، الذي يُحبُّه الله ورسوله والمؤمنين.

الحياة الطيِّبة : في قراءة لي لبعض مذكّرات الشهيد مطهَّري، رأيت تأكيداً صارماً منه في الجزء ٢، ص٣٢٢ على رجحان وتقدُّم مبدأ ( الصلح ) و( السلام ) في القرآن الكريم، مستشهداً بآيات قرآنية مثل :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) (١) و( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) (٢) وما إلى ذلك.

أحبُّ أن أتقدّم بالسؤال - هنا - عمّا إذا كان هذا السلم مرغوباً فيه ومنصوصاً عليه إسلامياً في العلاقات الإسلامية، أم هو يمثّل المقصد الأساسي لتكون العلاقات الإنسانية مبنيّة عليه، من دون فارق بين طبيعة الانتماءات المذهبية والأيدلوجية للأطراف ؟

الشيخ الآصفي : أمَّا قوله تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) ، فهو من التسليم لله ولرسوله، وليس من السلم في مقابل الحرب

____________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٠٨.

(٢) سورة الأنفال : الآية ٦١.

٢٦

والقتال، والشاهد على ذلك تعقيب هذه الحقيقة مباشرة بقوله تعالى:( وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (١) .

والشيطان يأمر بمعصية الله ورسوله، وألاَّ يُسلِّم الإنسان أمره إلى الله تسليماً. يقول تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (٢) .

فالسّلم هنا - بقرينة السياق، وبقرينة قوله تعالى :( لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) - من التسليم لله تعالى ولرسول، نظير قوله تعالى :( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٣) . وهذا ( السّلم ) من ذلك التسليم، ولو راجعتم كلمات المفسِّرين لتأكَّدتم ممَّا أقول.

الحالة المرحليَّة في تشريعات الدعوة والجهاد :

وأمّا قوله تعالى :( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) (٤) ، فهو حكم مرحلي يتعلَّق بزمن نزول الآية الكريمة، وهي من سورة الأنفال، وقد نزلت هذه السورة في السنة الثانية من الهجرة بعد معركة بدر، والأحكام

____________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٠٨.

(٢) سورة الأنفال : الآية ٦١.

٢٧

النهائية في الحرب نزلت في سورة ( براءة )، وقد نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، بعد فتح مكَّة، وبعد أن استقرَّ الإسلام في الجزيرة العربية.

المراحل الأربع في نصوص الدعوة والجهاد :

والصحيح في فَهْم هذه الآيات، أن نفهم هذه النصوص ضمن المنهج المرحلي الحركي لنزول هذه الآيات، فقد مرَّت هذه الدعوة في محاربة ( العنف ) و( اللا عُنف ) بأربع مراحل، ولا نستطيع نحن أن نفهم آيات القتال وموضعها وموقعها، إلاّ من خلال هذه الحركة المرحليّة للدعوة خلال هذا التاريخ.

المرحلة الأُولى : مرحلة اللا عنف، وكفِّ الأيدي عن المواجهة، وحتى عن ردِّ قريش بالمثل والدفاع عن النفس، وذلك قوله تعالى :( كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ ) (١) .

المرحلة الثانية : الإذن بالدفاع - وليس الأمر به - وذلك بقوله تعالى :( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) (٢) .

____________________

(١) سورة النساء : الآية ٧٧.

(٢) سورة الحج : الآيات ٣٩ - ٤٠.

٢٨

المرحلة الثالثة : تشريع القتال دفاعاً والأمر بالدفاع والمواجهة. يقول تعالى :( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (١) .

المرحلة الرابعة : الأمر بالبدء بالقتال، وذلك بقوله تعالى :( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ) (٢) .

وآيات سورة براءة على نهج المرحلة الرابعة. يقول تعالى :( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) (٣) .

وضمن هذا النهج الحركي - المرحلي - لحركة الدعوة، يجب أن نبحث عن موقع قوله تعالى :( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) ، وأوضح منها قوله تعالى :( فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) (٤) .

____________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٩٠.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢١٦.

(٣) سورة التوبة : الآية ٥.

(٤) سورة النساء : الآية ٩٠.

٢٩

آية براءة ناسخة لآيتَي الأنفال والنساء :

إنَّ آيتي سورتي ( النساء ) و( الأنفال ) نزلتا قبل آية سورة ( براءة ) بسنين، فإنَّ ( الأنفال ) - كما ذكرتُ - نزلت في السنة الثانية من الهجرة، ونزلت ( براءة ) بعد فتح مكّة في السنة التاسعة من الهجرة، وكذلك الآية تسعون من سورة ( النساء ) نزلت قبل الآية ٢١٦ من سورة (البقرة ) وقبل آيات سورة براءة.

فإذاً؛ آية ( الأنفال ) وآية ( النساء / ٩٠ ) تكون منسوخة بآيات براءة، وتكون البراءة ناسخة لها.

وهذا هو الذي يذهب إليه ابن عبّاس؛ حيث يقول : إنَّ آية سورة النساء : ٩٠ منسوخة بآية براءة، وآية سورة الأنفال : ٦١، منسوخة بآية السيف من سورة براءة :( قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ ) .

تعديل في رأي ابن عبّاس :

ومع قبول جوهر نظرية عبد الله بن عباسرحمه‌الله ، أقول: إنَّ المسألة هنا ليست مسألة ( نسخ )، فإنَّ المراحل الأربع لم ينسخ بعضها بعضاً، وإنَّما حُكم المواجهة والقتال، أو الدفاع، أو الكفّ في كل مرحلة هو حكم مرحليّ يخصّ تلك المرحلة، وقد كان المسلمون يعرفون هذه الحقيقة، فإذا انتهت المرحلة انتهى أمد ذلك الحكم، حتّى استقرَّ الأمر في السنة التاسعة من الهجرة بعد

٣٠

فتح مكّة على الأحكام النهائية لقتال المشركين. وهذه هي الأحكام النهائية المطلقة في أمر القتال والجهاد.

ولكن يجب أن نُضيف إلى هذه الحقيقة، حقيقة أخرى وهي قوله تعالى :( لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (١) ، فإنَّ الله تعالى لا ينهانا في آية ( الممتحنّة ) عن البرِّ والقسط للكفّار الذين لا يقاتلونا، ولم يُخرجونا من ديارنا.

وليس هذا الحكم إعراضاً عن الحكم الوارد في آية السيف في ( براءة )، وإنَّما معنى ذلك أنَّ الإسلام منهج واقعي في التعامل مع العالم، لا يعلن الحرب على العالم، وإنَّما يتدرّج في مواجهة الواقع، ويقدِّم الأكثر عدواناً منهم على غيرهم، يقول تعالى :( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ ) (٢) ، وليس معنى :( الَّذِينَ يَلُونَكُمْ ) : أي يجاورونكم ويقربون إليكم، بل معنى ذلك ( والله أعلم بما يقول ) : الأقرب في استحقاق الصدِّ والقتال والمواجهة، أي الأكثر عدواناً على المسلمين.

وإذا أردنا أن نجد لهذه الآية مصداقاً في حياتنا السياسية اليوم، نجد أنَّ ( إسرائيل ) هي الأكثر عدواناً على المسلمين، وهي التي تلينا من الكفّار.

____________________

(١) سورة الممتحنة : الآية ٨.

(٢) سورة التوبة : الآية ١٢٣.

٣١

إذاً؛ منهج القتال والجهاد في الإسلام منهج واقعي يُعامل من خلال معيارَيْن : الأوّل منهما القدرة العسكرية، والاقتصادية، والسياسية، والثاني منهما التدرُّج.

وعلى أساس هذين المعيارين، فإنَّ الله تعالى لا ينهانا عن البرِّ والقسط إلى الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا، وتكون هذه الآية من سورة ( الممتحنة ) بناء على ذلك أساساً في العلاقات الخارجية بين المسلمين وغيرهم من الأمم غير المسلمة.

الحياة الطيِّبة : مطالعة دقيقة وفاحصة لحاضر العلاقات الإسلامية غير الإسلامية الراهنة، لجهة عقد اتفاقيات الصلح والسلام مع الجهات الكافرة قد توحي بالالتباس، وعدم الوضوح، وغياب القواعد الفقهية المنظّمة، أو عدم توافرها بالنحو الكافي في الأوساط الإسلامية، هل الدرس الفقهي العالي اليوم يُعالج إشكاليات الثابت والمتغيّر في رسم حدود هذه العلاقات، ويدعو إلى إعادة النظر أو إعادة فهم النصوص التي تتحدَّث عن طبيعة علاقة الحكم الإسلامي مع غيره أم لا ؟ حبّذا لو تتكرَّمون في وضع نقاط أساسية من شأنها فتح هذه القضايا وإثارة الاهتمام بفصل الضوابط أو المقاصد الأساسية للدين، عن مصاديقها وتطبيقاتها في العصور الأُولى، وتبعاً لها في باقي العصور والعهود التي مرَّت بها الحركة الإسلامية.

الشيخ الآصفي : العقود والاتفاقيات مع الدول والأنظمة الكافرة تدخل ضمن نظام المتغيرات في الشريعة.

٣٢

والشريعة تتألّف من ثوابت ومتغيِّرات، وهذه المتغيِّرات هي التي تمكِّن الفقيه من تغطية مساحة الحياة الواسعة واللا محدودة بثوابت الشريعة لا محالة، تتكوّن من مجموعة محدودة مهما كانت حدودها من النصوص، وهذه النصوص هي التي نسمّيها بثوابت الشريعة.

ومتغيِّرات الشريعة على نحوَيْن :

١ - المتغيِّرات التي يوظّفها المجتهد في تغطية المسائل والقضايا الشرعية.

٢ - المتغيِّرات التي يوظّفها الحاكم، ووليّ الأمر في الشؤون السياسية والإدارية للمجتمع، في إطار ثوابت الشريعة.

والقسم الأوّل من المتغيِّرات يشمل :

أ - قاعدة التزاحم.

ب - حكومة العناوين الثانوية على الأحكام الأوليّة.

ج - القواعد الفقهية.

د - التلازم بين الحكم العقلي والشرعي.

وهذه الآليَّات الشرعيّة، يستخدمها المجتهد في تغطية المساحة غير المحدودة والمتغيّرة من الحياة، بثوابت الشريعة المحدودة.

والقسم الثاني من المتغيّرات، هو حكم الحاكم الشرعي في المسائل السياسية والإدارية، وما يتَّصل بهما.

وحكم الحاكم، وإن كان يبتني - لا محالة - على بعض العناوين السابقة، كالمصلحة والضرورة، والضرر والتزاحم بين الأهمِّ والمهمِّ وأمثال ذلك، إلاّ

٣٣

أنَّ حكم الحاكم بنفسه يُلزم سائر الناس حتّى المجتهدين منهم، تطابق اجتهادهم مع اجتهاد الحاكم في هذه العناوين الثانوية، أم لم يتطابق.

إذاً؛ حكم الحاكم بنفسه من المتغيّرات التي أقرَّتها الشريعة، إلى جنب الثوابت الشرعية.

ويمكن أن يتحرَّك الحاكم ضمن الأطُر الآتية :

أ - تحريم المباح.

ب - إيجاب المباح.

وهذا ممَّا اتّفق عليه الفقهاء.

ج، د - إباحة الواجب والحرام.

ه- - إيجاب الحرام.

و - تحريم الواجب.

وقد اختلف الفقهاء في دخول النقاط الأربعة الأخيرة ضمن صلاحيات الحاكم.

ومهما يكن من أمر، فإنّ الاتفاقيات وعقود السلام، والمعاهدات مع الأنظمة غير الإسلامية، تدخل في هذا الحقل الأخير، أي صلاحيات ( الحاكم ).

وإنَّما بسطنا الكلام في ذلك؛ لأنَّ السؤال كان يتطلَّب البحث عن ثوابت الشريعة ومتغيّراتها.

العقود والاتفاقيات الدولية من صلاحيات الحاكم :

والآن - بعد هذه الجولة في ثوابت الشريعة ومتغيراتها - نعود إلى العقود والاتفاقيات والمعاهدات مع الأنظمة غير الإسلامية.

٣٤

فنقول : إنَّها تدخل في صلاحيات ( الحاكم الشرعي ) بما يراه من المصلحة والضرورة، أو دفع الضرر عن المسلمين، أو تقديم الأهمِّ على المهمِّ في موارد التزاحم.

فيأخذ بهذه العناوين أو بغيرها، وإلى هذا الحدِّ لا يزيد دوره عن دور أيِّ مجتهد، يوظّف العناوين الثانوية في تغيير الأحكام الأوليّة من الوجوب إلى الحرمة، ومن الحرمة إلى الوجوب، ومن الإباحة إلى الوجوب والحرمة.

فإذا حكم الحاكم بذلك بمقتضى ولايته على الناس، نفذ حكمه على سائر الناس، لقوله تعالى:( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، أخذوا بما أخذ به من العناوين الثانوية، في الاجتهاد أم لم يأخذوا.

ولا شكَّ في أنّ العقود والمعاهدات، والتحالفات والاتفاقيّات، السياسية، والعسكرية والاقتصادية، والأمنية، والسياحية، وغيرها تدخل في هذا الباب، ومن أهمِّ هذه الموارد الاتفاقيّات والمعاهدات العسكرية لوقف القتال، والأخذ بالهدنة لفترة طويلة أو قصيرة.

وإلى ذلك يذهب فقهاؤنارحمهم‌الله .

كلمات الفقهاء في العقود والاتفاقيّات الدوليّة :

قال الشيخ في المبسوط : ( الهُدْنة والمعاهدة واحدة، وهو وضع القتال وترك الحرب إلى مدّة من غير عوض، وذلك جائز؛ لقوله تعالى :( وَإِنْ جَنَحُوا

٣٥

لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) ؛ ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صالح قريشاً عام الحديبية على ترك القتال عشر سنين.

وليس خلوُّ الإمام من أن يكون مستظهراً، أو غير مستظهر، فإن كان مستظهراً وكان في الهُدْنة مصلحة للمسلمين، ونظر لهم بأن يرجو منهم الدخول في الإسلام، أو بذل الجزية فعل ذلك، وإن لم يكن فيه نظر للمسلمين، بل كانت المصلحة في تركه بأن يكون العدوُّ قليلاً ضعيفاً، وإذا ترك قتالهم اشتدَّت شوكتهم وقرُّوا، فلا تجوز الهُدْنة؛ لأن فيها ضرراً على المسلمين.

فإذا هادنهم في الموضع الذي يجوز، فيجوز أن يُهادنهم أربعة أشهر بنصِّ القرآن العزيز، وهو قوله تعالى :( فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) ، ولا يجوز إلى سنة وزيادة عليها.

فأمّا إذا لم يكن الإمام مستظهراً على المشركين، بل كانوا مستظهرين عليه، لقوّتهم وضعف المسلمين أو كان العدوُّ بالبُعد منهم وفي قصدهم التزام مؤن كثيرة، فيجوز أن يهادنهم إلى عشر سنين؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هادن قريشاً عام الحديبيّة إلى عشر سنين؛ ثمَّ نقضوها من قِبل نفوسهم)(١) .

وفي التذكرة : ( ويشترط في صحّة عقد الذمّة أُمور أربعة :

الأوّل : أن يتولاّه الإمام أو مَن يأذن له؛ لأنّه من الأمور العظام.

____________________

(١) الشيخ الطوسي، المبسوط، المكتبة المرتضوية، طهران، ج٢، ص٥٠ - ٥١.

٣٦

الثاني : أن يكون للمسلمين إليه حاجة ومصلحة، إمّا لضعفهم عن المقاومة فينتظر الإمام قوّتهم، وإمّا لرجاء إسلام المشركين، وإمّا لبذل الجزية منهم والتزام أحكام الإسلام. ولو لم تكن هناك مصلحة للمسلمين - بأن يكون في المسلمين قوّة، وفي المشركين ضعف، ويخشى قوّتهم واجتماعهم إن لم يبادرهم بالقتال - لم تجز له مهادنتهم.

والثالث : أن يخلو العقد من شرط فاسد - وهو حقّ كل عقد - فإن عقدها الإمام على شرط فاسد، مثل أن يشترط ردَّ النساء، أو مهورهنّ، أو ردّ السلاح المأخوذ منهم، أو دفع المال إليهم مع عدم الضرورة الداعية إلى ذلك، فهذه الشروط كلّها فاسدة يَفسد بها عقد الهُدْنة.

الرابع : المدَّة، ويجب ذكر المدَّة التي يُهادنهم عليها )(١) .

وفي المغني لابن قدامة الحنبلي : ( ومعنى الهُدْنة أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدّة بعوض وبغير عوض، وتسمَّى مهادنة وموادعة ومعاهدة، وذلك جائز بدليل قول الله تعالى :( بَرَاءةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ) ، وقال سبحانه :( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَ ) ، وروى مروان ومسور بن مخرمة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صالح سهيل بن عمرو بالحديبيّة على

____________________

(١) العلاَّمة الحلِّي، تذكرة الفقهاء، الطبعة الحجرية القديمة، المكتبة الرضوية لإحياء الآثار الجعفرية، إيران، ج١، ص٤٤٧.

٣٧

وضع القتال عشر سنين؛ ولأنّه قد يكون بالمسلمين ضعف، فيُهادنهم حتّى يقوى المسلمون ...)(١) .

الأصل القرآني في شرعية العهد :

ثمّ إنَّ الأصل في شرعيّة العهد في القرآن، هو : الآيات الأُولى من سورة ( براءة ).

قال تعالى :( بَرَاءةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ ) ، فالجزء الأوّل من سورة (براءة )، يقسِّم الكفّار إلى قسمين :

القسم الأوّل : الكفّار الذين لم ندخل معهم في عهد.

القسم الثاني : الكفّار الذين دخلنا معهم في عهد.

وهذا القسم أيضاً ينقسم إلى قسمين :

الأوّل : مَن نقضوا عهدهم، وخالفوا وظاهروا بتشكيل أحلاف ضدَّ الإسلام.

الثاني : مَن استقام على عهده.

وعليه سيكون مجموع الأقسام ثلاثة.

أ - الكفّار الذين لم ندخل معهم في عهد.

ب - الكفّار الذين دخلنا معهم في عهد ونقضوا.

____________________

(١) عبد الله بن قدامة، المغني، تحقيق جماعة من العلماء، دار الكتاب العربي، بيروت، ج١٠، ص٥١٧.

٣٨

ج - الكفّار الذين دخلنا معهم في عهد واستقاموا على عهدهم.

والكفار من القسم الأوّل حكمهم أنَّ الله بريء منهم، وكذلك رسله حسب نصّ القرآن.

والقسم الثاني : حكمهم - أيضاً - هو أنّ الله بريء منهم كذلك، ويأمرنا بقتالهم؛ لقوله تعالى :( أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ) (١) ، وقوله تعالى :( وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) (٢) ، وقوله تعالى :( وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) في الآية الأُولى ظاهر في أنّهم هم الناقضون، وأنّ المؤمنين يدافعون عن أنفسهم، وأنّ القتال مع هؤلاء المشركين ليس ابتدائياً.

وأمّا قوله تعالى :( فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) ، فكأنّ قتال هؤلاء؛ لأنَّهم أئمة كفر، إلاّ أنّ العهد كان مانعاً، فلمّا نقضوا العهد ارتفع المانع.

أمّا القسم الثالث، الذين عاهدوا واستقاموا على العهد، فالإسلام يحترم عهدهم؛ لقوله تعالى :( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) (٣) .

____________________

(١) سورة التوبة : الآية ١٣.

(٢) سورة التوبة : الآية ١٢.

(٣) سورة التوبة : الآية ٤.

٣٩

وفي نهج البلاغة : ( ولا تدفعنّ صلحاً دعاك إليه عدوّك [ و ] لله فيه رضاً، فإنّ في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك، ولكنَّ الحذر كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه، وإنّ العدوّ ربَّما قارب ليتغفَّل، فخذ بالحزم واتَّهم في ذلك حسن الظن )(١) .

الأمر بالوفاء بالعهد وحرمة الغدر في الشريعة :

وقد تضافرت النصوص الإسلامية على وجوب احترام العهد، وحرمة نقضه، وعد ذلك من الغدر.

قال الله تعالى :( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) (٢) . وقال :( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) (٣) .

وللمعاهد حرمة لدمه وماله، روى محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمد بن يَحيى، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : سألته عن قريتين من أهل الحب لكلّ واحد منهم إلى أن قال : فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : ( لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولا يأمروا

____________________

(١) نهج البلاغة، مصدر سابق، ج٣، ص١٠٦، الكتاب ٥٣.

(٢) سورة التوبة : الآية ٤.

(٣) سورة التوبة : الآية ٧.

٤٠

بالغدر ولا يقاتلوا مع الذين غدروا، ولكنَّهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم، ولا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفّار )(١) .

وروى محمّد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد بن محمّد بن الحسن بن شموم، عن عبد الله بن عمر بن الأشعث وعبد الله بن حماد الأنصاري، عن يحيى بن عبد الله بن الحسن، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : ( قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يجيء كلّ غادر يوم القيامة بإمام مائلاً شدقه حتّى يدخل النار )(٢) .

وروى عبد الله بن مسلم القضبي، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( إذا جمع الله الأوَّلين والآخرين يوم القيامة، يعرف لكلّ غادر لواء، فقيل : هذه غدرة فلان بن فلان )(٣) .

وهناك باب في كتاب الجهاد من ( سنن أبي داود ) في الإمام يُستجنّ به في العهود، جاء فيه ( عن الحسن بن علي بن أبي رافع : أنّ أبا رافع أخبره قال : بعثتني قريش إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُلقي في قلبي الإسلام، فقلت : يا رسول الله، إنّي - والله - لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله : ( إنّي لا أخيس بالعهد ولا أحبس البُرد، ولكن أرجع فإن كان الذي في

____________________

(١) وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج١١، ص ٥١ - ٥٢، ح١٠.

(٢) المصدر نفسه، ص٢٠.

(٣) المتقي الهندي، كنز العمّال، مؤسسة الرسالة، بيروت، ج٣، ص٥١٧ حديث رقم : ٧٦٨٢.

٤١

نفسك الآن فارجع )، قال : فذهبت، ثمَّ أتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأسلمت.

قال بكير : وأخبرَني أنّ أبا رافع كان قبطيَّاً )(١) .

جاء عن العرباض بن سارية السلمي قال : ( نزلنا مع النبي خيبر، ومعه مَن معه من أصحابه، وكان صاحب الخيبر رجلاً مارداً ( مُنكراً )، فأقبل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا محمّد، ألكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمرنا وتضربوا نساءنا ؟! فغضب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : ( يا بن عوف، اركب فَرَسك ثمَّ نادِ : ألا إنّ الجنّة لا تحلّ إلاّ لمؤمن، وأن اجتمعوا للصلاة )، قال : فاجتمعوا، ثمَّ صلَّى بهم النبي ثمَّ قام، فقال : ( أيحسب أحدكم متَّكئاً على أريكته، قد يظنُّ أنّ الله لا يحرِّم شيئاً إلاّ في هذا القرآن، ألا وإنّي - والله - قد وعظت، وأمرت، ونهيت عن أشياء إنَّها لمثل القرآن أو أكثر، وإنّ الله تعالى لم يحلَّ لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلاّ بإذن، ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم )(٢) .

ثمَّ قال : ( حدَّثنا عن رجل من جهينة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لعلّكم تقاتلون قوماً، فتظهرون عليهم فيتَّقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم ؟! )، قال

____________________

(١) سليمان بن الأشعث السجستاني، سنن أبي داود، دار الفكر، بيروت، ج١، ص٦٢٧، حديث رقم : ٢٧٥٨.

(٢) المصدر نفسه، ج٢، ص٤٤ - ٤٥، باب في الإمام يكون بينه وبين العدوّ عهد فيسير إليه، كتاب الجهاد، باب الوفاء بالعهد.

٤٢

سعيد في حديثه : ( فيصالحونكم على صلح ) ثمَّ اتّفقا ( ولا تُصيبوا منهم شيئاً فوق ذلك؛ فإنّه لا يصلح لكم )(١) .

وعن عدّة من أبناء أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن آبائهم، عن رسول الله أنّه قال : ( ألا ومَن ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة )(٢) .

حرمة مال المعاهد ودمه :

عن خالد بن الوليد قال : غزوت مع رسول الله خيبر، فأتت اليهود فشكوا أنّ الناس أسرعوا إلى حظائرهم، فقال رسول الله : ( ألا لا تحلّ أموال المعاهدين إلاّ بحقِّها )(٣) .

حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا وكيع، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بكر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( مَن قتل معاهداً في غير كُنهه حرَّم الله عليه الجنّة )(٤) ، وكُنْه الأمر حقيقته، وقيل - كما في ( حاشية النهاية ) - : وصفه، وقتله في غير كُنهه، أي من غير استحقاق.

وروى محمد بن الحسن، بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حريز وابن مسكان، عن أبي بصير قال : ( سألته عن

____________________

(١) المصدر نفسه، ص ٤٥.

(٢) المصدر نفسه، ص ٤٥.

(٣) المصدر نفسه، ج٢، ص٢٠٩.

(٤) المصدر نفسه، ج١، ص٦٢٧.

٤٣

ذمِّيّ قطع يد مسلم، قال : ( تُقطع يده إن شاء أولياؤه، ويأخذون فضل ما بين الديَّتين، وإن قطع المسلم يد المعاهد خُيِّر أولياء المعاهد، فإن شاءوا أخذوا ديَّة يده وإن شاءوا قطعوا يد المسلم وأدّوا إليه الفضل ما بين الديّتين، وإذا قتله المسلم صُنع كذلك )(١) .

شرط شرعية العقود والاتفاقيّات الدولية :

ولابدَّ في تصحيح وشرعية أيِّ معاهدة - صلح أو تفاهم أو تطبيع في العلاقات مع الأنظمة الكافرة - من ملاحظة هذين الشرطين :

الشرط الأول : أن يجري الاتّفاق على يد إمام المسلمين، المأمون على دينهم ودنياهم، والاتفاقيّات والمعاهدات التي تجري على يد الأنظمة غير الشرعية، التي تحكم أكثر بلاد المسلمين، مع إسرائيل أو أمريكا، أو غيرهما من الأنظمة المعادية تفقد صفة الشرعية؛ لأنّ هذه المعاهدات تتمُّ من قِبل أنظمة غير شرعية، وغير مؤتمنة على مصالح المسلمين، بل عاملة لمصلحة الأنظمة الكافرة في كثير من الأحيان.

والشرط الثاني : أن تكون الاتفاقيّات والمعاهدات لمصلحة أو ضرورة عائدة إلى المسلمين، والاتفاقيّات التي تجري لمصلحة الأنظمة الكافرة، وبخلاف مصالح المسلمين، أو تجري تحت ضغوط من ناحية أنظمة كافرة فاقدة للشرعية.

____________________

(١) وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج١٩، ب ٢٢ باب حكم القصاص، حديث رقم : ١.

٤٤

ومعاهدات السلام مع ( إسرائيل ) كلّها من هذا القبيل، وعنصر الضغوط الأمريكية من أبرز عناصر هذه الاتفاقيّات؛ ولذلك فإنّ المحاولات التي قامت بها بعض المؤسسات الدينية، لإعطاء صفة الشرعية - في حينه - لأمثال هذه المعاهدات، لم تلقَ قبولاً من ناحية المسلمين، الشيعة والسنَّة على حدِّ سواء.

الحياة الطيِّبة : قد مرَّ تاريخ وظروف أدّت إلى تصنيف خاص حول تنويع البلاد، إلى دار الإسلام ( والإيمان)، ودار الكفر، وخضع واقع الإنسان والمجتمع لتغيير شامل، وتحوّلت العلاقات والروابط ما يزيد من إمكانية طروء تحوّل على واقع هذا التصنيف، وفي كل الأحوال هل هناك ما يدعو إلى تبنِّي هذا التصنيف اليوم أيضاً ؟ وما هي وضعية الجهاد والقتال ضدَّ المجتمعات المشركة ؟

الشيخ الآصفي : لم يطرأ جديد على مسألة ( الجغرافيا السياسية ) للعالم في الفقه، والمعروف لدى الفقهاء هو التصنيف الثلاثة للعالم على النهج التالي :

١ - دار الإسلام.

٢ - دار الحرب.

٣ - دار العهد.

وهذا التقسيم من الثوابت الفقهية، والخلاف بين الفقهاء في تعريف هذه الدور، لا في أصل التقسيم الثلاثي.

وأساس هذا الاختلاف، هو الاختلاف في المعيار الذي يتّخذه الفقهاء لتصنيف العالم، وهو أساسان :

٤٥

أ - الأساس السياسي.

ب - الأساس الدَّعَوي.

الأساس السياسي :

فعلى الأساس الأوّل، كل منطقة تخضع لسيادة الإسلام سياسياً وإدارياً، وتجري فيها الأحكام والحدود الشرعية، وتجري فيها الشعائر الإسلامية هي ( دار الإسلام ).

و( دار الحرب ) أو ( دار الكفر )، هي كل منطقة تخضع لسيادة الكفر، ويحكمها الكفر، وإن كانت من قبل داراً للإسلام، وذلك مثل فلسطين.

و( دار العهد ) هي التي تخضع لسيادة الكفر، إلاّ أنّ المسلمين يحترمون هذه السيادة؛ نظراً للعهود والاتفاقيّات المبرمة بين المسلمين وبين الأنظمة الحاكمة على هذه المناطق.

والفرق بين ( دار العهد ) و( دار الكفر ) هو : أنَّ سيادة دار العهد سيادة محترمة، بخلاف سيادة دار الكفر، فإنَّها سيادة غير محترمة.

وهذا هو الأساس الأوّل للتقسيم الثلاثي للعالم، وهو الأساس السياسي.

يقول الشيخ محمد عبده في تعريف ( دار الإسلام ) - كما ورد في تفسير ( المنار ) - : ( كل ما دخل من البلاد في محيط سلطان الإسلام ونفذِّت فيها أحكامه وأُقيمت، قد صار من دار الإسلام، ووجب على المسلمين عند الاعتداء عليه أن يدافعوا عنه وجوباً عينيّاً، وكانوا كلّهم آثمين بتركه.

وإنَّ استيلاء الأجانب عليه لا يرفع عنهم وجوب القتال لاسترداده وإن طال الزمان، فعلى هذا الرأي يجب على مسلمي الأرض إزالة سلطان جميع

٤٦

الدول المستعمرة لشيء من الممالك الإسلامية، وإرجاع حكم الإسلام إليها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وعجزهم الآن عن ذلك لا يسقط عنهم وجوب توطين أنفسهم عليه، وإعداد ما يمكن من النظام والعدّة له، وانتظار الفرص للوثوب والعمل ).

وهذا الرأي يوافق القاعدة التي وضعها أحد وزراء الإنجليز؛ للتنازع بين المسلمين والنصارى في الغلب والسلطان، وهي : ( ما أخذ الصليب من الهلال لا يجوز أن يرجع إلى الهلال، وما أخذ الهلال من الصليب يجب أن يعود إلى الصليب )؛ وعلى هذا يجري اليهود الذين يطالبون بإعادة ملك إسرائيل إلى بلاد فلسطين، بل هم لا يكتفون بإعادة الملك، بل يطلبون جَعل المِلْك ( بكسر الميم ) وسيلة له، فهم يحاولون سلب رقبة الأرض من أهلها العرب بمساعدة الإنجليز )(١) .

الأساس الدَعَوي :

والأساس الثاني لتقسيم العالم في الفقه هو الأساس الدَعَوي؛ وعلى هذا الأساس كل بلد امتدَّت إليه الدّعوة، وأصبح الناس فيها بحجم كبير - ولو لم يكن بحجم الأكثريّة - يمارسون فيها شعائر دينهم، فهو ( دار الإسلام )، بشرط ألاّ تكون الدعوة مستهلكة كإنكلترا، أو فرنسا، وأمريكا، وكندا، فإنّ الدعوة قد امتدّت إلى هذه البلاد من دون شكٍّ، ولكنَّ الدّعوة غير بارزة في هذه

____________________

(١) رشيد رضا، تفسير المنار، ج١، ص٣١٦.

٤٧

الأقطار، أو مستهلكة بين سائر الدعوات والاتجاهات ذات السيادة، أو غير ذات السيادة في هذه البلاد. والبلاد التي لم تمتدَّ إلهيا الدّعوة، أو لا يكون لامتداد الدعوة إليها بروز ووضوح، فهي من دار الكفر.

ودار العهد هي البلاد التي لم تمتدَّ إليها الدّعوة، ولكنَّها قد دخلت معنا في عهود واتّفاقات متبادلة في حرمة السيادة من الطرفين، وفي التفاهم والتعاون.

المقارنة بين التقسيمَيْن :

وللاختلاف بين هذين التقسيمَيْن مصاديق كثيرة، فإنّه على التقسيم الأوّل لا تدخل فلسطين المحتلّة في دار الإسلام؛ لأنّ ( إسرائيل ) هي صاحبة النفوذ السياسي والإداري فيها، بل كافّة البلدان التي لا تخضع لسيادة الإسلام لا تعتبر من دار الإسلام، حتى لو لم تمارس فيها الكيانات السياسية الكافرة نفوذاً مباشراً، مثل العراق وتركيا العلمانيّة، والمساحات الإسلامية في يوغوسلافيا، وبلغاريا، ودول آسيا الوسطى، مثل أوزبكستان، وطاجيكستان ، وأذربيجان، حيث تحلّها أكثرية مسلمة، ولكنّها غير خاضعة لسلطان الإسلام، والأمثلة على ذلك كثيرة، في الخريطة السياسية الحديثة للعالم، غير أنّها بناءً على الأساس الثاني تدخل في دار الإسلام بلا تردُّد.

والإشكالية التي يواجهها التقسيم الثُّلاثي الأوّل، هي أنّ هذه البلاد التي لا يشملها تعريف (دار الإسلام ) لا تدخل في تعريف ( دار الكفر ) أيضاً في الغالب؛ فإنّ ( دار الكفر ) هي التي يحكمها الكافر، مثل فلسطين، وأمّا البلاد

٤٨

التي لا يحكمها الكافر مباشرة، مثل تركيا وكثير من البلاد الإسلامية، فهي خارجة عن تعريف ( دار الإسلام ) و( دار الكفر ) معاً.

الحياة الطيِّبة : ولكنَّ السؤال - هنا - حول الآثار التي تترتَّب على هذا التقسيم إلى دارين، هل لكم - سماحة الشيخ - أن تبيِّنوا لنا هذه الآثار ؟ وما هو رأيكم حول الموضوع ؟

الشيخ الآصفي : ليس هذا التعريف تعريفاً نظرياً محضاً في الفقه، فقد ذكر الفقهاء آثاراً فقهية كثيرة لهذه الدور، والاختلاف في تفسير ( الدور ) يؤدّي إلى اختلاف في هذه الأحكام أيضاً، ونذكر نماذج من هذه الأحكام.

١ - أحكام اللحُوم والجُلود : فإنّ اللحوم والجلود الموجودة في أسواق دار الإسلام، يصحّ أكلها واستعمالها، كما في رواية إسحاق بن عمّار المعروفة.

٢ - أحكام الالتقاط : الطفل اللقيط في بلاد المسلمين يُحكَم عليه بالإسلام، من حيث أحكام الإسلام، وليس كذلك لقيط بلاد الكفر.

٣ - أحكام الهجرة : يذهب الفقهاء إلى القول بوجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، لو تعذَّرت عليه إقامة الشعائر الإسلامية في بلاد الكفر.

٤ - الدفاع : يجب الدفاع عن دار الإسلام، إذا تعرَّض لهجوم من قِبل الكفَّار.

٤٩

الرأي المختار :

والذي أختاره من رأي في هذه المسألة، هو اتخاذ الأساس الثاني، أي أساس الدعوة في رسم الخريطة السياسيّة للعالم، بالنظر إلى الأحكام المتقدّمة وغيرها، فليس من الصحيح أن نجعل العامل السياسي أساساً لتصنيف العالم بالنظر إلى الأحكام المتقدّمة؛ ففي مسألة اللحوم والجلود، لا إشكال أنَّ لها علاقة بوجود كثرة كميّة مسلمة في البلد، وليس لها علاقة بمسألة السيادة السياسية.

وكذلك الأمر في مسألة ( الالتقاط )؛ فإنّها ذات علاقة بوجود كثرة كميّة مسلمة في البلد، ولا علاقة لها بالمسألة السياسية، وكذلك الأمر في مسألة الهجرة، وقد أرجع صاحب الجواهررحمه‌الله ملاك وجوب الهجرة إلى دار الإسلام، إلى غلبة الكفر على هذه البلاد، لا إلى السيادة السياسية للكافر، فإذا عثرنا - مثلاً - على طفل صغير في القدس العربيّة لا نحكم بكفره، رغم أنّ القدس العربية خاضعة لنفوذ إسرائيل العدواني.

وكذلك مسألة الدفاع؛ فإنّ الدفاع واجب عن دار الإسلام، وقد ورد في النصوص الإسلامية بعنوان الدفاع عن بيضة الإسلام، ولا علاقة لهذه المسألة أيضاً بالمسألة السياسية، فلو تعرَّضت الجزائر، أو المغرب، أو تونس لغزو دولة كافرة، يجب على المسلمين الدفاع عنها بلا كلام، رغم أنّ هذه البلاد وأمثالها من بلاد المسلمين لا تخضع للنفوذ السياسي الإسلامي، بالمعنى الدقيق الشرعي لهذه الكلمة.

٥٠

الأحكام المتعلّقة بالأساس الأوّل :

ورغم أنَّنا اخترنا الأساس الثاني، أي ( الدعوة ) لرسم الخريطة السياسية في العالم، دون الأساس الأوّل ( الأساس السياسي )، وذكرنا أنّ لهذا الاختيار مبرّرات وأسباب فقهية لا يمكن تجاوزها رغم ذلك نجد في الشريعة أحكاماً تخصّ التقسيم الثلاثي للعالم على الأساس الأوّل، أي العامل السياسي.

وأذكر منه حكمَيْن :

١ - المُرابطة : وهي الإرصاد لحفظ ثغور الإسلام من ناحية الأعداء، والمرابطة غير القتال، ومهمَّة المرابط تختلف عن مهمَّة المقاتل، والمرابطة من أحكام النفوذ السياسي للإسلام.

يقول صاحب الجواهر ( ره ) في تعريف ( الثغر ) : ( هو الحدُّ المشترك بين دار الشرك ودار الإسلام كما في ( التنقيح ) أو كل موضع يُخاف منه كما في ( جامع المقاصد )، أو هما معاً كما في ( المسالك ).

قال : ( الثغر هنا : الموضع الذي يكون بأطراف بلاد الإسلام، بحيث يُخاف هجوم المشركين منه على بلاد الإسلام، وكل موضع يُخاف منه يُقال له : ثغر )(١) .

ولا إشكال في أنّ هذا التعريف ل- ( الثغر ) يناسب دار الإسلام؛ بناءً على الأساس السياسي.

٢ - الاستئمان : ونقصد به طلب الأمان والجوار من المسلم لدخول دار الإسلام، ويجوز لإمام المسلمين أن يُعطي أماناً للكافر على نفسه، وماله ،

____________________

(١) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، مصدر سابق، ج٢١، ص٣٨.

٥١

وأهله لدخول البلاد، سواء كان بلده في حالة حرب المسلمين أم لا، فيدخل كافر دار الإسلام في ذمّة المسلمين؛ والأساس في ذلك قوله تعالى :( وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) (١) .

ولا شكَّ في أنّ الاستئمان من أحكام دار الإسلام؛ بناءً على التقسيم الأوّل ( السياسي لا الدَعَوي ).

وعليه؛ فإنّنا نذبُّ إلى القول بوجود أساسين لرسم الخريطة الجغرافية السياسية للعالم في الفقه.

الأساس الأوّل : هو الأساس السياسي، بمعنى النفوذ السياسي للإسلام أو الكفر، وهو أساس لأحكام مثل المرابطة والاستئمان.

الأساس الثاني : هو الأساس الدَعَوي، وهو الأكثر والأوسع استخداماً في الفقه الإسلامي.

دار العهد :

ولا بدّ من وقفة قصيرة - قبل إنهاء الجواب عن هذا السؤال - عند ( دار العهد )، قلنا : إنّ دار العهد هي الدار التي يحكمها الكافر، ويمارس فيها نفوذه السياسي والإداري، ولكنّنا نحترم هذه السيادة، رغم كونها للكافر، وذلك عملاً بالعهد.

____________________

(١) سورة التوبة : الآية ٦.

٥٢

الذي التزم به إمام المسلمين بناءً على المصلحة أو الضرورة التي توجب ذلك، ولا إشكال في شرعية هذا العهد والاتّفاق، إذا اقتضتها مصلحة المسلمين، أو دعت إليه الضرورة.

ولا إشكال في أنّ الإسلام يأمرنا بالوفاء بالعقود والاتفاقيات، يقول تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) ، وينهانا الله تعالى عن الغدر والحنث، فقد رُوِي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يجيء كل غادر يوم القيامة بإمام مائلاً شدقه، حتّى يُدخله النار )(٢) .

وليس من شرط العهد أن يتّفق في حرب فقط، فقد تدخل الدولة الإسلامية بإذن إمام المسلمين في عقود واتّفاقيات، وعهود دولية سياسية، واقتصادية، وعسكرية، وثقافية مع دول أخرى في العالم، ولا إشكال في شرعية هذه العقود؛ لأنّها جرت بأمرٍ وإذنٍ من قِبل إمام المسلمين، طبقاً لمصلحة أو ضرورة تتطلَّبها.

وفي هذه الحالة يجب على المسلمين احترام هذه العقود والالتزام بها، ويحرم نقضها ما لم يبدأ الطرف الآخر بنقضها.

ومن متطلّبات احترام هذه العقود والعهود احترام سيادة الأنظمة السياسية، التي تعاقدت معها الدولة الإسلامية، ويجري تبادل الهيئات الدبلوماسية بين الدولة الإسلامية، وسائر الدول على أساس من هذه الاتفاقيات والعقود الدولية.

____________________

(١) سورة المائدة : الآية ١.

(٢) وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج١١، ص٥٢، حديث رقم : ٢.

٥٣

الحياة الطيِّبة : الخروج على الحاكم هل هو بغي أم حرابة أم جهاد ؟ وما هي الضوابط الشرعية التي ترون أنّها مسوِّغة للخروج على الحاكم الظالم ؟

الشيخ الآصفي : وردت في السؤال عدَّة مصطلحات، تختلف مداليلها وأحكامها.

الخروج على الحاكم الظالم، البغي، الحرابة ( المحاربة ) الجهاد، والضوابط الشرعية المسوّغة للخروج على الحاكم الظالم.

ولا بدّ - أوّلاً - من التفكيك بين هذه المصطلحات، ثمَّ الحديث بعد ذلك عن الضوابط الشرعية المسوِّغة للخروج على الحاكم الظالم، وفي ما يأتي تفصيل هذه النقاط :

١ - إذا كان النظام الحاكم نظاماً كافراً، عدوانياً غاصباً، مثل النظام الصهيوني الغاصب والمعتدي على أرض إسلامية، فالحكم الشرعي هو الجهاد، وهو من الجهاد الدفاعي، الذي يُعدُّ من أفضل أنواع الجهاد، وقد أذن الله تعالى لنا في ذلك.

يقول تعالى :( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) (١) .

وأمرنا الله تعالى بهذا القتال دفاعاً عن حقوق المسلمين وأراضيهم.

يقول تعالى :( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ

٥٤

فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ) (١) ، وهذه الآيات الكريمة تتطابق إلى حدٍّ كبير مع الحالة القائمة في فلسطين اليوم بين المسلمين واليهود المتسلِّطين.

٢ - وإذا كان النظام نظاماً صالحاً شرعياً، فإنَّ الخروج والتمرُّد المسلَّح على هذا النظام يدخل ضمن مفهوم ( البغي )، الذي أمرنا الله تعالى بإصلاحه، فإذا رفضت الفئة الباغية الصلاح والرجوع إلى الطاعة، فالحكم هو القتال حتّى تفيء إلى أمر الله.

٣ - وإذا كان النظام نظاماً صالحاً شرعياً وخرجت مجموعة مسلَّحة، أو فرد مسلَّح للإخلال بالأمن الاقتصادي والاجتماعي، فقد أمرنا الله تعالى بملاحقتهم وتقتيلهم، وهذه هي ( المحاربة ) أو الحرابة، كما ورد في السؤال.

٤ - وإذا كان الحاكم طاغية يحكم بلداً من بلاد المسلمين، ويسعى بالظلم والإفساد، وانتهاك حدود الله وحرماته وحقوق الناس في الأرض، مثل يزد بن معاوية، والحجّاج بن يوسف، ومن أمَّره واستعمله على المسلمين، ومَن يُشبهه من الحكَّام المعاصرين، الذين يحكمون المسلمين بالظلم والعدوان، فهذا الحاكم هو ( الطاغوت ) الذي أمرنا الله أن نكفر به ونرفضه، وألاَّ نركن إليه، وهو( جهاد الطاغوت ) وجهاد الطاغوت من أفضل أنواع الجهاد. هذه هي النقاط الأربعة الواردة في السؤال، وبين ( البغي ) و( المحاربة ) أو ( الحرابة ) فرق واضح.

____________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٩١.

٥٥

فإذا خرجت فئة مسلَّحة من المسلمين على الإمام العادل وتمرّدت عليه، وسعت إلى الانشقاق على السلطة المركزية الشرعية، أو إسقاط السلطة المركزية، كانت هذه الحركة ( بغياً )، ووجب على المسلمين أن يدعوهم إلى الدخول في ما دخل فيه المسلمون من الطاعة، وإن لم يدخلوا فيما دخل فيه عامة المسلمين أمرنا الله تعالى بقتالهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله.

يقول تعالى :( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) (١) ، وهذه الآية المباركة هي الأساس في التعامل مع الفئات الباغية.

فالبغي - إذاً - هو : حركة سياسية جماعية مسلَّحة ومنظَّمة، متمرِّدة على النظام الشرعي المركزي؛ بهدف الانشقاق أو إسقاط السلطة المركزية.

أمَّا ( المحاربة )، فهي حركة مسلَّحة فردية أو جماعية؛ للإخلال بالأمن الاقتصادي الاجتماعي أو الديني، بقطع الطرق أو نهب الأموال، أو الاعتداء على الأعراض، أو الاختطاف المسلَّح، أو غير ذلك من أنواع الإخلال بالأمن عن طريق الإرهاب بالسلاح، ولا شأن للمحاربة بالسلطة السياسية - لا انشقاقاً ولا إسقاطاً - وإنَّما شأنهم الإخلال بأمن المجتمع فقط؛ والأصل في الحكم الشرعي في جهاد المحاربين وقتالهم هو قوله تعالى :( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي

____________________

(١) سورة الحجرات : الآية ٩.

٥٦

الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) (١) .

وبين ( جهاد الكافر )، و( جهاد الباغي )، و( جهاد الطاغية ) الوارد في النقاط الأُولى والنقطة الثانية، والثالثة فرق، قد أوضحناه عند توضيح النقاط، ونزيده توضيحاً بالأمثلة الآتية.

المقصود ب- ( جهاد الكافر ) هو العدوُّ الكافر، الذي يمارس سلطاناً عدوانيّاً على أرض المسلمين، مثل ( إسرائيل ) كما ذكرنا، وهذا هو الجهاد الدفاعي للكافر، ولا خلاف في وجوبه بين فقهاء المسلمين من كلّ المذاهب.

والمقصود ب- ( الباغي ) أو الفئة الباغية، الفئة المتمرّدة والمنشقَّة على الحاكم الشرعي، مثل معاوية بن أبي سفيان، الذي تمرّد على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فهذا هو الباغي، ولا يختلف فقهاء المسلمين في وصف معاوية بالبغي، لولا التحفُّظات السياسية لدى بعضهم، وهي تحفُّظات غير فقهيَّة.

والمقصود ب- ( الطاغوت ) هو الحاكم المتسلِّط على أمور المسلمين، الذي يُمارس الظلم والإفساد وانتهاك الحدود، والحرِّيات في بلاد المسلمين، من داخل هذه الأمَّة، مثل يزيد بن معاوية، الذي كان يمارس أنواع الظلم، والإفساد، وانتهاك الحدود والحرِّيات في هذه الأمة، وبين معاوية ويزيد فرق، فإنّ معاوية باغٍ تمرَّد على أمير المؤمنينعليه‌السلام وعلى الحسنعليه‌السلام ، وينطبق عليه

____________________

(١) سور المائدة : الآيات ٣٣ - ٤٣.

٥٧

قوله تعالى :( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) (١) ، وأمّا يزد بن معاوية، فقد ورث السلطان والإفساد والظلم من أبيه، وطغى في البلاد على أحكام الله وحدوده وعلى حقوق المسلمين، فهو من الطاغوت الذي أمرنا الله تعالى برفضه والكفر به :( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ) (٢) .

ولا يختلف موقف المفسّرين في تفسير الطاغوت عن المعنى الإجمالي الذي ذكرته هنا، ولا يختلف المؤرِّخون وأصحاب السير المنصفون من أيِّ اتجاه، في تطبيق هذا العنوان على يزيد بن معاوية.

أمّا الضوابط الشرعية للخروج على الحاكم الظالم، وهو الجزء الأخير من هذا السؤال المتعدِّد الأبعاد، فهو أمران : أن يعمل الحاكم بالظلم ويسعى للإفساد في الأرض ويتجاوز حدود الله، وينتهك حقوق الناس. وهذا هو الجزء الأوّل. والجزء الآخر هو : ألا يرتدع بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

فإذا كان الأمر كذلك وجب على المسلمين أن يرفضوا ولايته وسلطانه، ولا يركنوا إلى سيادته، ولا يُطيعوا له أمراً، ولا يتحاكموا إليه.

____________________

(١) سورة الحجرات : الآية ٩.

(٢) سورة النساء : الآية ٦٠.

٥٨

الحياة الطيِّبة : لو رجعنا إلى القرآن الكريم والسنَّة ، هل يمكن أن نستخرج منهما قاعدة أو أصلاً عاماً حول جواز الخروج على الحاكم ؟

الشيخ الآصفي : لقد دلَّ الكتاب العزيز، والسنّة الشريفة، وسيرة أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصالحين من عباد الله على وجوب جهاد الطاغوت ومكافحته.

آية الأمر بالكفر بالطاغوت :

يقول تعالى :( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) (١) .

مَن هو الطاغوت :

ورد في تفسير ( الطاغوت ) في شأن نزول الآية :

( أنَّه كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود؛ لأنَّه يعلم أنَّهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين؛ لأنَّه يعلم أنَّهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة، فأنزل الله فيه هذه الآية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ) (٢) ،( أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا

____________________

(١) سورة النساء : الآية ٦٠.

(٢) سورة النساء : الآية ٦٠.

٥٩

أُنزِلَ إِلَيْكَ ) يعني المنافقين،( وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) يعني اليهود،( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ) إلى الكاهن )(١) .

وأخرج الثعلبي وابن أبي حاتم، عن طريق ابن عباس ( رض ) أنَّ رجلاً من المنافقين يُقال له : بشر. خاصم يهودياً فدعاه اليهودي إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف والطاغوت؛ بناءً على هذا يكون هو كعب بن الأشرف(٢) .

وبناءً عليه؛ فإنَّ الطاغوت من الطغيان على الله ورسوله.

يقول الآلوسي : ( وإطلاقه عليه ( أي على كعب بن الأشرف ) حقيقة بمعنى كثير الطغيان)(٣) .

ويقول البروسوي - في تفسير الآية - : ( الطاغوت كعب بن الأشرف، سمِّي به لإفراطه في الطغيان وعداوة الرسول، ومعناه مَن يحكم بالباطل، ويُؤثِر لأجله ).

ويقول السيوطي في ( الدرِّ المنثور ) : ( الطاغوت رجل من اليهود، يقال له : كعب بن الأشرف. وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم

____________________

(١) محمد بن جرير الطبري، جامع البيان ( تفسير الطبري )، دار الكتب العلمية، بيروت، ج٥، ص٩٧.

(٢) شهاب الدين محمود الآلوسي، تفسير روح المعاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ج٥، ص٦٨.

(٣) المصدر نفسه، ج٥، ص٦٨.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136