حوار في التسامح والعنف

حوار في التسامح والعنف28%

حوار في التسامح والعنف مؤلف:
الناشر: مجلة ( الحياة الطيبة)
تصنيف: مكتبة الأسرة والمجتمع
الصفحات: 136

حوار في التسامح والعنف
  • البداية
  • السابق
  • 136 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57581 / تحميل: 7624
الحجم الحجم الحجم
حوار في التسامح والعنف

حوار في التسامح والعنف

مؤلف:
الناشر: مجلة ( الحياة الطيبة)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

بالغدر ولا يقاتلوا مع الذين غدروا، ولكنَّهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم، ولا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفّار )(١) .

وروى محمّد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد بن محمّد بن الحسن بن شموم، عن عبد الله بن عمر بن الأشعث وعبد الله بن حماد الأنصاري، عن يحيى بن عبد الله بن الحسن، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : ( قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يجيء كلّ غادر يوم القيامة بإمام مائلاً شدقه حتّى يدخل النار )(٢) .

وروى عبد الله بن مسلم القضبي، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( إذا جمع الله الأوَّلين والآخرين يوم القيامة، يعرف لكلّ غادر لواء، فقيل : هذه غدرة فلان بن فلان )(٣) .

وهناك باب في كتاب الجهاد من ( سنن أبي داود ) في الإمام يُستجنّ به في العهود، جاء فيه ( عن الحسن بن علي بن أبي رافع : أنّ أبا رافع أخبره قال : بعثتني قريش إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُلقي في قلبي الإسلام، فقلت : يا رسول الله، إنّي - والله - لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله : ( إنّي لا أخيس بالعهد ولا أحبس البُرد، ولكن أرجع فإن كان الذي في

____________________

(١) وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج١١، ص ٥١ - ٥٢، ح١٠.

(٢) المصدر نفسه، ص٢٠.

(٣) المتقي الهندي، كنز العمّال، مؤسسة الرسالة، بيروت، ج٣، ص٥١٧ حديث رقم : ٧٦٨٢.

٤١

نفسك الآن فارجع )، قال : فذهبت، ثمَّ أتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأسلمت.

قال بكير : وأخبرَني أنّ أبا رافع كان قبطيَّاً )(١) .

جاء عن العرباض بن سارية السلمي قال : ( نزلنا مع النبي خيبر، ومعه مَن معه من أصحابه، وكان صاحب الخيبر رجلاً مارداً ( مُنكراً )، فأقبل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا محمّد، ألكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمرنا وتضربوا نساءنا ؟! فغضب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : ( يا بن عوف، اركب فَرَسك ثمَّ نادِ : ألا إنّ الجنّة لا تحلّ إلاّ لمؤمن، وأن اجتمعوا للصلاة )، قال : فاجتمعوا، ثمَّ صلَّى بهم النبي ثمَّ قام، فقال : ( أيحسب أحدكم متَّكئاً على أريكته، قد يظنُّ أنّ الله لا يحرِّم شيئاً إلاّ في هذا القرآن، ألا وإنّي - والله - قد وعظت، وأمرت، ونهيت عن أشياء إنَّها لمثل القرآن أو أكثر، وإنّ الله تعالى لم يحلَّ لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلاّ بإذن، ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم )(٢) .

ثمَّ قال : ( حدَّثنا عن رجل من جهينة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لعلّكم تقاتلون قوماً، فتظهرون عليهم فيتَّقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم ؟! )، قال

____________________

(١) سليمان بن الأشعث السجستاني، سنن أبي داود، دار الفكر، بيروت، ج١، ص٦٢٧، حديث رقم : ٢٧٥٨.

(٢) المصدر نفسه، ج٢، ص٤٤ - ٤٥، باب في الإمام يكون بينه وبين العدوّ عهد فيسير إليه، كتاب الجهاد، باب الوفاء بالعهد.

٤٢

سعيد في حديثه : ( فيصالحونكم على صلح ) ثمَّ اتّفقا ( ولا تُصيبوا منهم شيئاً فوق ذلك؛ فإنّه لا يصلح لكم )(١) .

وعن عدّة من أبناء أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن آبائهم، عن رسول الله أنّه قال : ( ألا ومَن ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة )(٢) .

حرمة مال المعاهد ودمه :

عن خالد بن الوليد قال : غزوت مع رسول الله خيبر، فأتت اليهود فشكوا أنّ الناس أسرعوا إلى حظائرهم، فقال رسول الله : ( ألا لا تحلّ أموال المعاهدين إلاّ بحقِّها )(٣) .

حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا وكيع، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بكر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( مَن قتل معاهداً في غير كُنهه حرَّم الله عليه الجنّة )(٤) ، وكُنْه الأمر حقيقته، وقيل - كما في ( حاشية النهاية ) - : وصفه، وقتله في غير كُنهه، أي من غير استحقاق.

وروى محمد بن الحسن، بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حريز وابن مسكان، عن أبي بصير قال : ( سألته عن

____________________

(١) المصدر نفسه، ص ٤٥.

(٢) المصدر نفسه، ص ٤٥.

(٣) المصدر نفسه، ج٢، ص٢٠٩.

(٤) المصدر نفسه، ج١، ص٦٢٧.

٤٣

ذمِّيّ قطع يد مسلم، قال : ( تُقطع يده إن شاء أولياؤه، ويأخذون فضل ما بين الديَّتين، وإن قطع المسلم يد المعاهد خُيِّر أولياء المعاهد، فإن شاءوا أخذوا ديَّة يده وإن شاءوا قطعوا يد المسلم وأدّوا إليه الفضل ما بين الديّتين، وإذا قتله المسلم صُنع كذلك )(١) .

شرط شرعية العقود والاتفاقيّات الدولية :

ولابدَّ في تصحيح وشرعية أيِّ معاهدة - صلح أو تفاهم أو تطبيع في العلاقات مع الأنظمة الكافرة - من ملاحظة هذين الشرطين :

الشرط الأول : أن يجري الاتّفاق على يد إمام المسلمين، المأمون على دينهم ودنياهم، والاتفاقيّات والمعاهدات التي تجري على يد الأنظمة غير الشرعية، التي تحكم أكثر بلاد المسلمين، مع إسرائيل أو أمريكا، أو غيرهما من الأنظمة المعادية تفقد صفة الشرعية؛ لأنّ هذه المعاهدات تتمُّ من قِبل أنظمة غير شرعية، وغير مؤتمنة على مصالح المسلمين، بل عاملة لمصلحة الأنظمة الكافرة في كثير من الأحيان.

والشرط الثاني : أن تكون الاتفاقيّات والمعاهدات لمصلحة أو ضرورة عائدة إلى المسلمين، والاتفاقيّات التي تجري لمصلحة الأنظمة الكافرة، وبخلاف مصالح المسلمين، أو تجري تحت ضغوط من ناحية أنظمة كافرة فاقدة للشرعية.

____________________

(١) وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج١٩، ب ٢٢ باب حكم القصاص، حديث رقم : ١.

٤٤

ومعاهدات السلام مع ( إسرائيل ) كلّها من هذا القبيل، وعنصر الضغوط الأمريكية من أبرز عناصر هذه الاتفاقيّات؛ ولذلك فإنّ المحاولات التي قامت بها بعض المؤسسات الدينية، لإعطاء صفة الشرعية - في حينه - لأمثال هذه المعاهدات، لم تلقَ قبولاً من ناحية المسلمين، الشيعة والسنَّة على حدِّ سواء.

الحياة الطيِّبة : قد مرَّ تاريخ وظروف أدّت إلى تصنيف خاص حول تنويع البلاد، إلى دار الإسلام ( والإيمان)، ودار الكفر، وخضع واقع الإنسان والمجتمع لتغيير شامل، وتحوّلت العلاقات والروابط ما يزيد من إمكانية طروء تحوّل على واقع هذا التصنيف، وفي كل الأحوال هل هناك ما يدعو إلى تبنِّي هذا التصنيف اليوم أيضاً ؟ وما هي وضعية الجهاد والقتال ضدَّ المجتمعات المشركة ؟

الشيخ الآصفي : لم يطرأ جديد على مسألة ( الجغرافيا السياسية ) للعالم في الفقه، والمعروف لدى الفقهاء هو التصنيف الثلاثة للعالم على النهج التالي :

١ - دار الإسلام.

٢ - دار الحرب.

٣ - دار العهد.

وهذا التقسيم من الثوابت الفقهية، والخلاف بين الفقهاء في تعريف هذه الدور، لا في أصل التقسيم الثلاثي.

وأساس هذا الاختلاف، هو الاختلاف في المعيار الذي يتّخذه الفقهاء لتصنيف العالم، وهو أساسان :

٤٥

أ - الأساس السياسي.

ب - الأساس الدَّعَوي.

الأساس السياسي :

فعلى الأساس الأوّل، كل منطقة تخضع لسيادة الإسلام سياسياً وإدارياً، وتجري فيها الأحكام والحدود الشرعية، وتجري فيها الشعائر الإسلامية هي ( دار الإسلام ).

و( دار الحرب ) أو ( دار الكفر )، هي كل منطقة تخضع لسيادة الكفر، ويحكمها الكفر، وإن كانت من قبل داراً للإسلام، وذلك مثل فلسطين.

و( دار العهد ) هي التي تخضع لسيادة الكفر، إلاّ أنّ المسلمين يحترمون هذه السيادة؛ نظراً للعهود والاتفاقيّات المبرمة بين المسلمين وبين الأنظمة الحاكمة على هذه المناطق.

والفرق بين ( دار العهد ) و( دار الكفر ) هو : أنَّ سيادة دار العهد سيادة محترمة، بخلاف سيادة دار الكفر، فإنَّها سيادة غير محترمة.

وهذا هو الأساس الأوّل للتقسيم الثلاثي للعالم، وهو الأساس السياسي.

يقول الشيخ محمد عبده في تعريف ( دار الإسلام ) - كما ورد في تفسير ( المنار ) - : ( كل ما دخل من البلاد في محيط سلطان الإسلام ونفذِّت فيها أحكامه وأُقيمت، قد صار من دار الإسلام، ووجب على المسلمين عند الاعتداء عليه أن يدافعوا عنه وجوباً عينيّاً، وكانوا كلّهم آثمين بتركه.

وإنَّ استيلاء الأجانب عليه لا يرفع عنهم وجوب القتال لاسترداده وإن طال الزمان، فعلى هذا الرأي يجب على مسلمي الأرض إزالة سلطان جميع

٤٦

الدول المستعمرة لشيء من الممالك الإسلامية، وإرجاع حكم الإسلام إليها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وعجزهم الآن عن ذلك لا يسقط عنهم وجوب توطين أنفسهم عليه، وإعداد ما يمكن من النظام والعدّة له، وانتظار الفرص للوثوب والعمل ).

وهذا الرأي يوافق القاعدة التي وضعها أحد وزراء الإنجليز؛ للتنازع بين المسلمين والنصارى في الغلب والسلطان، وهي : ( ما أخذ الصليب من الهلال لا يجوز أن يرجع إلى الهلال، وما أخذ الهلال من الصليب يجب أن يعود إلى الصليب )؛ وعلى هذا يجري اليهود الذين يطالبون بإعادة ملك إسرائيل إلى بلاد فلسطين، بل هم لا يكتفون بإعادة الملك، بل يطلبون جَعل المِلْك ( بكسر الميم ) وسيلة له، فهم يحاولون سلب رقبة الأرض من أهلها العرب بمساعدة الإنجليز )(١) .

الأساس الدَعَوي :

والأساس الثاني لتقسيم العالم في الفقه هو الأساس الدَعَوي؛ وعلى هذا الأساس كل بلد امتدَّت إليه الدّعوة، وأصبح الناس فيها بحجم كبير - ولو لم يكن بحجم الأكثريّة - يمارسون فيها شعائر دينهم، فهو ( دار الإسلام )، بشرط ألاّ تكون الدعوة مستهلكة كإنكلترا، أو فرنسا، وأمريكا، وكندا، فإنّ الدعوة قد امتدّت إلى هذه البلاد من دون شكٍّ، ولكنَّ الدّعوة غير بارزة في هذه

____________________

(١) رشيد رضا، تفسير المنار، ج١، ص٣١٦.

٤٧

الأقطار، أو مستهلكة بين سائر الدعوات والاتجاهات ذات السيادة، أو غير ذات السيادة في هذه البلاد. والبلاد التي لم تمتدَّ إلهيا الدّعوة، أو لا يكون لامتداد الدعوة إليها بروز ووضوح، فهي من دار الكفر.

ودار العهد هي البلاد التي لم تمتدَّ إليها الدّعوة، ولكنَّها قد دخلت معنا في عهود واتّفاقات متبادلة في حرمة السيادة من الطرفين، وفي التفاهم والتعاون.

المقارنة بين التقسيمَيْن :

وللاختلاف بين هذين التقسيمَيْن مصاديق كثيرة، فإنّه على التقسيم الأوّل لا تدخل فلسطين المحتلّة في دار الإسلام؛ لأنّ ( إسرائيل ) هي صاحبة النفوذ السياسي والإداري فيها، بل كافّة البلدان التي لا تخضع لسيادة الإسلام لا تعتبر من دار الإسلام، حتى لو لم تمارس فيها الكيانات السياسية الكافرة نفوذاً مباشراً، مثل العراق وتركيا العلمانيّة، والمساحات الإسلامية في يوغوسلافيا، وبلغاريا، ودول آسيا الوسطى، مثل أوزبكستان، وطاجيكستان ، وأذربيجان، حيث تحلّها أكثرية مسلمة، ولكنّها غير خاضعة لسلطان الإسلام، والأمثلة على ذلك كثيرة، في الخريطة السياسية الحديثة للعالم، غير أنّها بناءً على الأساس الثاني تدخل في دار الإسلام بلا تردُّد.

والإشكالية التي يواجهها التقسيم الثُّلاثي الأوّل، هي أنّ هذه البلاد التي لا يشملها تعريف (دار الإسلام ) لا تدخل في تعريف ( دار الكفر ) أيضاً في الغالب؛ فإنّ ( دار الكفر ) هي التي يحكمها الكافر، مثل فلسطين، وأمّا البلاد

٤٨

التي لا يحكمها الكافر مباشرة، مثل تركيا وكثير من البلاد الإسلامية، فهي خارجة عن تعريف ( دار الإسلام ) و( دار الكفر ) معاً.

الحياة الطيِّبة : ولكنَّ السؤال - هنا - حول الآثار التي تترتَّب على هذا التقسيم إلى دارين، هل لكم - سماحة الشيخ - أن تبيِّنوا لنا هذه الآثار ؟ وما هو رأيكم حول الموضوع ؟

الشيخ الآصفي : ليس هذا التعريف تعريفاً نظرياً محضاً في الفقه، فقد ذكر الفقهاء آثاراً فقهية كثيرة لهذه الدور، والاختلاف في تفسير ( الدور ) يؤدّي إلى اختلاف في هذه الأحكام أيضاً، ونذكر نماذج من هذه الأحكام.

١ - أحكام اللحُوم والجُلود : فإنّ اللحوم والجلود الموجودة في أسواق دار الإسلام، يصحّ أكلها واستعمالها، كما في رواية إسحاق بن عمّار المعروفة.

٢ - أحكام الالتقاط : الطفل اللقيط في بلاد المسلمين يُحكَم عليه بالإسلام، من حيث أحكام الإسلام، وليس كذلك لقيط بلاد الكفر.

٣ - أحكام الهجرة : يذهب الفقهاء إلى القول بوجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، لو تعذَّرت عليه إقامة الشعائر الإسلامية في بلاد الكفر.

٤ - الدفاع : يجب الدفاع عن دار الإسلام، إذا تعرَّض لهجوم من قِبل الكفَّار.

٤٩

الرأي المختار :

والذي أختاره من رأي في هذه المسألة، هو اتخاذ الأساس الثاني، أي أساس الدعوة في رسم الخريطة السياسيّة للعالم، بالنظر إلى الأحكام المتقدّمة وغيرها، فليس من الصحيح أن نجعل العامل السياسي أساساً لتصنيف العالم بالنظر إلى الأحكام المتقدّمة؛ ففي مسألة اللحوم والجلود، لا إشكال أنَّ لها علاقة بوجود كثرة كميّة مسلمة في البلد، وليس لها علاقة بمسألة السيادة السياسية.

وكذلك الأمر في مسألة ( الالتقاط )؛ فإنّها ذات علاقة بوجود كثرة كميّة مسلمة في البلد، ولا علاقة لها بالمسألة السياسية، وكذلك الأمر في مسألة الهجرة، وقد أرجع صاحب الجواهررحمه‌الله ملاك وجوب الهجرة إلى دار الإسلام، إلى غلبة الكفر على هذه البلاد، لا إلى السيادة السياسية للكافر، فإذا عثرنا - مثلاً - على طفل صغير في القدس العربيّة لا نحكم بكفره، رغم أنّ القدس العربية خاضعة لنفوذ إسرائيل العدواني.

وكذلك مسألة الدفاع؛ فإنّ الدفاع واجب عن دار الإسلام، وقد ورد في النصوص الإسلامية بعنوان الدفاع عن بيضة الإسلام، ولا علاقة لهذه المسألة أيضاً بالمسألة السياسية، فلو تعرَّضت الجزائر، أو المغرب، أو تونس لغزو دولة كافرة، يجب على المسلمين الدفاع عنها بلا كلام، رغم أنّ هذه البلاد وأمثالها من بلاد المسلمين لا تخضع للنفوذ السياسي الإسلامي، بالمعنى الدقيق الشرعي لهذه الكلمة.

٥٠

الأحكام المتعلّقة بالأساس الأوّل :

ورغم أنَّنا اخترنا الأساس الثاني، أي ( الدعوة ) لرسم الخريطة السياسية في العالم، دون الأساس الأوّل ( الأساس السياسي )، وذكرنا أنّ لهذا الاختيار مبرّرات وأسباب فقهية لا يمكن تجاوزها رغم ذلك نجد في الشريعة أحكاماً تخصّ التقسيم الثلاثي للعالم على الأساس الأوّل، أي العامل السياسي.

وأذكر منه حكمَيْن :

١ - المُرابطة : وهي الإرصاد لحفظ ثغور الإسلام من ناحية الأعداء، والمرابطة غير القتال، ومهمَّة المرابط تختلف عن مهمَّة المقاتل، والمرابطة من أحكام النفوذ السياسي للإسلام.

يقول صاحب الجواهر ( ره ) في تعريف ( الثغر ) : ( هو الحدُّ المشترك بين دار الشرك ودار الإسلام كما في ( التنقيح ) أو كل موضع يُخاف منه كما في ( جامع المقاصد )، أو هما معاً كما في ( المسالك ).

قال : ( الثغر هنا : الموضع الذي يكون بأطراف بلاد الإسلام، بحيث يُخاف هجوم المشركين منه على بلاد الإسلام، وكل موضع يُخاف منه يُقال له : ثغر )(١) .

ولا إشكال في أنّ هذا التعريف ل- ( الثغر ) يناسب دار الإسلام؛ بناءً على الأساس السياسي.

٢ - الاستئمان : ونقصد به طلب الأمان والجوار من المسلم لدخول دار الإسلام، ويجوز لإمام المسلمين أن يُعطي أماناً للكافر على نفسه، وماله ،

____________________

(١) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، مصدر سابق، ج٢١، ص٣٨.

٥١

وأهله لدخول البلاد، سواء كان بلده في حالة حرب المسلمين أم لا، فيدخل كافر دار الإسلام في ذمّة المسلمين؛ والأساس في ذلك قوله تعالى :( وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) (١) .

ولا شكَّ في أنّ الاستئمان من أحكام دار الإسلام؛ بناءً على التقسيم الأوّل ( السياسي لا الدَعَوي ).

وعليه؛ فإنّنا نذبُّ إلى القول بوجود أساسين لرسم الخريطة الجغرافية السياسية للعالم في الفقه.

الأساس الأوّل : هو الأساس السياسي، بمعنى النفوذ السياسي للإسلام أو الكفر، وهو أساس لأحكام مثل المرابطة والاستئمان.

الأساس الثاني : هو الأساس الدَعَوي، وهو الأكثر والأوسع استخداماً في الفقه الإسلامي.

دار العهد :

ولا بدّ من وقفة قصيرة - قبل إنهاء الجواب عن هذا السؤال - عند ( دار العهد )، قلنا : إنّ دار العهد هي الدار التي يحكمها الكافر، ويمارس فيها نفوذه السياسي والإداري، ولكنّنا نحترم هذه السيادة، رغم كونها للكافر، وذلك عملاً بالعهد.

____________________

(١) سورة التوبة : الآية ٦.

٥٢

الذي التزم به إمام المسلمين بناءً على المصلحة أو الضرورة التي توجب ذلك، ولا إشكال في شرعية هذا العهد والاتّفاق، إذا اقتضتها مصلحة المسلمين، أو دعت إليه الضرورة.

ولا إشكال في أنّ الإسلام يأمرنا بالوفاء بالعقود والاتفاقيات، يقول تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) ، وينهانا الله تعالى عن الغدر والحنث، فقد رُوِي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يجيء كل غادر يوم القيامة بإمام مائلاً شدقه، حتّى يُدخله النار )(٢) .

وليس من شرط العهد أن يتّفق في حرب فقط، فقد تدخل الدولة الإسلامية بإذن إمام المسلمين في عقود واتّفاقيات، وعهود دولية سياسية، واقتصادية، وعسكرية، وثقافية مع دول أخرى في العالم، ولا إشكال في شرعية هذه العقود؛ لأنّها جرت بأمرٍ وإذنٍ من قِبل إمام المسلمين، طبقاً لمصلحة أو ضرورة تتطلَّبها.

وفي هذه الحالة يجب على المسلمين احترام هذه العقود والالتزام بها، ويحرم نقضها ما لم يبدأ الطرف الآخر بنقضها.

ومن متطلّبات احترام هذه العقود والعهود احترام سيادة الأنظمة السياسية، التي تعاقدت معها الدولة الإسلامية، ويجري تبادل الهيئات الدبلوماسية بين الدولة الإسلامية، وسائر الدول على أساس من هذه الاتفاقيات والعقود الدولية.

____________________

(١) سورة المائدة : الآية ١.

(٢) وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج١١، ص٥٢، حديث رقم : ٢.

٥٣

الحياة الطيِّبة : الخروج على الحاكم هل هو بغي أم حرابة أم جهاد ؟ وما هي الضوابط الشرعية التي ترون أنّها مسوِّغة للخروج على الحاكم الظالم ؟

الشيخ الآصفي : وردت في السؤال عدَّة مصطلحات، تختلف مداليلها وأحكامها.

الخروج على الحاكم الظالم، البغي، الحرابة ( المحاربة ) الجهاد، والضوابط الشرعية المسوّغة للخروج على الحاكم الظالم.

ولا بدّ - أوّلاً - من التفكيك بين هذه المصطلحات، ثمَّ الحديث بعد ذلك عن الضوابط الشرعية المسوِّغة للخروج على الحاكم الظالم، وفي ما يأتي تفصيل هذه النقاط :

١ - إذا كان النظام الحاكم نظاماً كافراً، عدوانياً غاصباً، مثل النظام الصهيوني الغاصب والمعتدي على أرض إسلامية، فالحكم الشرعي هو الجهاد، وهو من الجهاد الدفاعي، الذي يُعدُّ من أفضل أنواع الجهاد، وقد أذن الله تعالى لنا في ذلك.

يقول تعالى :( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) (١) .

وأمرنا الله تعالى بهذا القتال دفاعاً عن حقوق المسلمين وأراضيهم.

يقول تعالى :( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ

٥٤

فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ) (١) ، وهذه الآيات الكريمة تتطابق إلى حدٍّ كبير مع الحالة القائمة في فلسطين اليوم بين المسلمين واليهود المتسلِّطين.

٢ - وإذا كان النظام نظاماً صالحاً شرعياً، فإنَّ الخروج والتمرُّد المسلَّح على هذا النظام يدخل ضمن مفهوم ( البغي )، الذي أمرنا الله تعالى بإصلاحه، فإذا رفضت الفئة الباغية الصلاح والرجوع إلى الطاعة، فالحكم هو القتال حتّى تفيء إلى أمر الله.

٣ - وإذا كان النظام نظاماً صالحاً شرعياً وخرجت مجموعة مسلَّحة، أو فرد مسلَّح للإخلال بالأمن الاقتصادي والاجتماعي، فقد أمرنا الله تعالى بملاحقتهم وتقتيلهم، وهذه هي ( المحاربة ) أو الحرابة، كما ورد في السؤال.

٤ - وإذا كان الحاكم طاغية يحكم بلداً من بلاد المسلمين، ويسعى بالظلم والإفساد، وانتهاك حدود الله وحرماته وحقوق الناس في الأرض، مثل يزد بن معاوية، والحجّاج بن يوسف، ومن أمَّره واستعمله على المسلمين، ومَن يُشبهه من الحكَّام المعاصرين، الذين يحكمون المسلمين بالظلم والعدوان، فهذا الحاكم هو ( الطاغوت ) الذي أمرنا الله أن نكفر به ونرفضه، وألاَّ نركن إليه، وهو( جهاد الطاغوت ) وجهاد الطاغوت من أفضل أنواع الجهاد. هذه هي النقاط الأربعة الواردة في السؤال، وبين ( البغي ) و( المحاربة ) أو ( الحرابة ) فرق واضح.

____________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٩١.

٥٥

فإذا خرجت فئة مسلَّحة من المسلمين على الإمام العادل وتمرّدت عليه، وسعت إلى الانشقاق على السلطة المركزية الشرعية، أو إسقاط السلطة المركزية، كانت هذه الحركة ( بغياً )، ووجب على المسلمين أن يدعوهم إلى الدخول في ما دخل فيه المسلمون من الطاعة، وإن لم يدخلوا فيما دخل فيه عامة المسلمين أمرنا الله تعالى بقتالهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله.

يقول تعالى :( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) (١) ، وهذه الآية المباركة هي الأساس في التعامل مع الفئات الباغية.

فالبغي - إذاً - هو : حركة سياسية جماعية مسلَّحة ومنظَّمة، متمرِّدة على النظام الشرعي المركزي؛ بهدف الانشقاق أو إسقاط السلطة المركزية.

أمَّا ( المحاربة )، فهي حركة مسلَّحة فردية أو جماعية؛ للإخلال بالأمن الاقتصادي الاجتماعي أو الديني، بقطع الطرق أو نهب الأموال، أو الاعتداء على الأعراض، أو الاختطاف المسلَّح، أو غير ذلك من أنواع الإخلال بالأمن عن طريق الإرهاب بالسلاح، ولا شأن للمحاربة بالسلطة السياسية - لا انشقاقاً ولا إسقاطاً - وإنَّما شأنهم الإخلال بأمن المجتمع فقط؛ والأصل في الحكم الشرعي في جهاد المحاربين وقتالهم هو قوله تعالى :( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي

____________________

(١) سورة الحجرات : الآية ٩.

٥٦

الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) (١) .

وبين ( جهاد الكافر )، و( جهاد الباغي )، و( جهاد الطاغية ) الوارد في النقاط الأُولى والنقطة الثانية، والثالثة فرق، قد أوضحناه عند توضيح النقاط، ونزيده توضيحاً بالأمثلة الآتية.

المقصود ب- ( جهاد الكافر ) هو العدوُّ الكافر، الذي يمارس سلطاناً عدوانيّاً على أرض المسلمين، مثل ( إسرائيل ) كما ذكرنا، وهذا هو الجهاد الدفاعي للكافر، ولا خلاف في وجوبه بين فقهاء المسلمين من كلّ المذاهب.

والمقصود ب- ( الباغي ) أو الفئة الباغية، الفئة المتمرّدة والمنشقَّة على الحاكم الشرعي، مثل معاوية بن أبي سفيان، الذي تمرّد على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فهذا هو الباغي، ولا يختلف فقهاء المسلمين في وصف معاوية بالبغي، لولا التحفُّظات السياسية لدى بعضهم، وهي تحفُّظات غير فقهيَّة.

والمقصود ب- ( الطاغوت ) هو الحاكم المتسلِّط على أمور المسلمين، الذي يُمارس الظلم والإفساد وانتهاك الحدود، والحرِّيات في بلاد المسلمين، من داخل هذه الأمَّة، مثل يزيد بن معاوية، الذي كان يمارس أنواع الظلم، والإفساد، وانتهاك الحدود والحرِّيات في هذه الأمة، وبين معاوية ويزيد فرق، فإنّ معاوية باغٍ تمرَّد على أمير المؤمنينعليه‌السلام وعلى الحسنعليه‌السلام ، وينطبق عليه

____________________

(١) سور المائدة : الآيات ٣٣ - ٤٣.

٥٧

قوله تعالى :( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) (١) ، وأمّا يزد بن معاوية، فقد ورث السلطان والإفساد والظلم من أبيه، وطغى في البلاد على أحكام الله وحدوده وعلى حقوق المسلمين، فهو من الطاغوت الذي أمرنا الله تعالى برفضه والكفر به :( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ) (٢) .

ولا يختلف موقف المفسّرين في تفسير الطاغوت عن المعنى الإجمالي الذي ذكرته هنا، ولا يختلف المؤرِّخون وأصحاب السير المنصفون من أيِّ اتجاه، في تطبيق هذا العنوان على يزيد بن معاوية.

أمّا الضوابط الشرعية للخروج على الحاكم الظالم، وهو الجزء الأخير من هذا السؤال المتعدِّد الأبعاد، فهو أمران : أن يعمل الحاكم بالظلم ويسعى للإفساد في الأرض ويتجاوز حدود الله، وينتهك حقوق الناس. وهذا هو الجزء الأوّل. والجزء الآخر هو : ألا يرتدع بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

فإذا كان الأمر كذلك وجب على المسلمين أن يرفضوا ولايته وسلطانه، ولا يركنوا إلى سيادته، ولا يُطيعوا له أمراً، ولا يتحاكموا إليه.

____________________

(١) سورة الحجرات : الآية ٩.

(٢) سورة النساء : الآية ٦٠.

٥٨

الحياة الطيِّبة : لو رجعنا إلى القرآن الكريم والسنَّة ، هل يمكن أن نستخرج منهما قاعدة أو أصلاً عاماً حول جواز الخروج على الحاكم ؟

الشيخ الآصفي : لقد دلَّ الكتاب العزيز، والسنّة الشريفة، وسيرة أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصالحين من عباد الله على وجوب جهاد الطاغوت ومكافحته.

آية الأمر بالكفر بالطاغوت :

يقول تعالى :( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) (١) .

مَن هو الطاغوت :

ورد في تفسير ( الطاغوت ) في شأن نزول الآية :

( أنَّه كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود؛ لأنَّه يعلم أنَّهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين؛ لأنَّه يعلم أنَّهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة، فأنزل الله فيه هذه الآية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ) (٢) ،( أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا

____________________

(١) سورة النساء : الآية ٦٠.

(٢) سورة النساء : الآية ٦٠.

٥٩

أُنزِلَ إِلَيْكَ ) يعني المنافقين،( وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) يعني اليهود،( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ) إلى الكاهن )(١) .

وأخرج الثعلبي وابن أبي حاتم، عن طريق ابن عباس ( رض ) أنَّ رجلاً من المنافقين يُقال له : بشر. خاصم يهودياً فدعاه اليهودي إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف والطاغوت؛ بناءً على هذا يكون هو كعب بن الأشرف(٢) .

وبناءً عليه؛ فإنَّ الطاغوت من الطغيان على الله ورسوله.

يقول الآلوسي : ( وإطلاقه عليه ( أي على كعب بن الأشرف ) حقيقة بمعنى كثير الطغيان)(٣) .

ويقول البروسوي - في تفسير الآية - : ( الطاغوت كعب بن الأشرف، سمِّي به لإفراطه في الطغيان وعداوة الرسول، ومعناه مَن يحكم بالباطل، ويُؤثِر لأجله ).

ويقول السيوطي في ( الدرِّ المنثور ) : ( الطاغوت رجل من اليهود، يقال له : كعب بن الأشرف. وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم

____________________

(١) محمد بن جرير الطبري، جامع البيان ( تفسير الطبري )، دار الكتب العلمية، بيروت، ج٥، ص٩٧.

(٢) شهاب الدين محمود الآلوسي، تفسير روح المعاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ج٥، ص٦٨.

(٣) المصدر نفسه، ج٥، ص٦٨.

٦٠

بينهم قالوا : بل نُحاكمهم إلى كعب، فذلك قوله :( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ) .

الكُفر بالطاغوت :

ومعنى الكفر بالطاغوت التَبرِّي من الطاغوت ورفضه وجحوده. يقول الراغب الأصفهاني في ( المفردات ) : وقد يعبَّر عن التبرِّي بالكفر نحو :( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ) (٢) ، وقوله تعالى :( إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي ) (٣) ، ويُقال : كفر فلان بالشيطان، إذا آمن وخالف الشيطان، كقوله تعالى :( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ) (٤) ، والكفر في هذه الآية لا يتمُّ بعقد القلب فقط، وإنَّما بالمجابهة ومواجهة الطاغوت، كما يقول السيد الطباطبائيرحمه‌الله في تفسير ( الميزان ).

وقد ورد التعبير عن هذه الحالة في سورة النحل، في الآية السادسة والثلاثين باجتناب الطاغوت، يقول تعالى :

( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (٥) ،

____________________

(١) السيوطي، الدرُّ المنثور، ج٢، ص١٧٩.

(٢) سورة العنكبوت : الآية ٢٥.

(٣) سورة إبراهيم : الآية ٢٢.

(٤) سورة البقرة : الآية ٢٥٦.

(٥) سورة النحل : الآية ٣٦.

٦١

والاجتناب أن يعزل المسلم موقعه وحسابه عن موقع الطاغوت وصفّه ونظامه ونفوذه، ويُعلن انفصاله عن الطاغوت وبراءته عنه.

عبادة الطاغوت :

وفي مقابل ( الكفر ) بالطاغوت والتبرِّي عنه و( اجتنابه ) يأتي مفهوم ( عبادة ) الطاغوت، وعبادته هو طاعته، يقول تعالى :( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى ) (١) .

وعبادة الطاغوت : طاعته والانقياد إليه.

وقد ورد في ( تفسير علي بن إبراهيم ) : ( مَن أطاع جبَّاراً فقد عبده )(٢) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام : ( مرَّ عيسى بن مريم على قرية قد مات أهلها فأحيى أحدهم، وقال له : ويْحَكُمْ ! ما كانت أعمالكم ؟ قال : عبادة الطاغوت، وحبُّ الدنيا. قال : كيف كانت عبادتكم للطاغوت ؟ قال : الطاعة لأهل المعاصي )(٣) .

إذاً؛ قد حرَّم الله تعالى على عباده قبول التحاكم إلى الطاغوت والركون إليه، وأمر بالتبرِّي منه واجتنابه، في حق أو باطل، فإنَّ الركون إليه طاعته حتى في غير معصية الله إسناد ودعم له، وتمكين له من رقاب المسلمين.

____________________

(١) سورة الزمر : الآية ١٧.

(٢) نور الثقلين، ج٤، ص٤٨١.

(٣) نور الثقلين، ج٥، ص٥٣١، ميزان الحكمة، ج٥، ص٥٤٣.

٦٢

وقد ورد في مقبولة عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا، بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلُّ ذلك ؟ قال : ( مَن تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنَّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يُحكم له، فإنَّما يأخذ سُحتاً، وإن كان حقَّاً ثابتاً له؛ لأنَّه أخذه بحكم الطاغوت، وما أمر الله أن يكفر به، قال تعالى :( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) )(١) .

آية النهي عن الركون إلى الظالمين :

يقول تعالى :( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (٢) . والركون - كما يقول أئمة اللغة - : هو ( الإدِّهان(٣) ، الحبّ، المودّة، الطاعة، الرضا، الميل، الاستعانة، الدنو ).

ويقول الزمخشري في تفسير هذه الآية : ( أركنه إذا أماله، والنهي يتناول الانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم ومصاحبتهم، ومجالستهم، وزيارتهم، ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبُّه بهم والتزيِّي بزيِّهم ومدّ العين إليهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وحُكي أنَّ الموفق صلَّى خلف الإمام، فقرأ بهذه

____________________

(١) وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج١٨، ص٩٨ - ٩٩.

(٢) سورة هود : الآية ١١٣.

(٣) الإدِّهان : المصانعة.

٦٣

الآية :( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ، فغشي عليه، فلمَّا أفاق قيل له، فقال : هذا في مَن ركن إلى مَن ظلم، فكيف بالظالم ؟! )(١) .

ويقول القرطبي - في تفسير الآية( وَلاَ تَرْكَنُوا ) - : الركون حقيقةً الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، قال قتادة : معناه : لا تودُّوهم ولا تُطيعوهم. ابن جريح : لا تميلوا إليهم. أبو العالية : لا ترضوا أعمالهم. وكلُّه متقارب. وقال ابن زيد : الركون هو الإدهان ( المصانعة ).

ويقول في تفسير( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) قيل : أهل الشرك. وقيل : عامّة فيهم وفي العصاة، على نحو قوله تعالى :( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ) وقد تقدَّم. وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنَّها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم(٢) .

وقال ابن كثير في التفسير : في تفسير قوله تعالى : ( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) عن ابن عباس لا تُداهنوا قال أبو العالية : لا ترضوا بأعمالهم. وقال ابن جرير عن ابن عباس : تميلوا إلى الذين ظلموا. وهذا القول حسن : أي لا تستعينوا بالظلمة، فتكونوا كأنَّكم قد رضيتم بأعمالهم( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (٣) .

ويقول السيد قطب - في تفسيره ( في ظلال القرآن ) في تفسير

____________________

(١) الزمخشري، الكشَّاف، ٤٣٣.

(٢) أبو عبد الله القرطبي، جامع البيان لأحكام القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ج٩، ص١٠٨.

(٣) ابن كثير، ج٢، ص٤٦١.

٦٤

هذه الآية( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) - : لا تستندوا ولا تطمئنُّوا، إلى الذين ظلموا، إلى الجبَّارين الطغاة، الظالمين، أصحاب القوَّة في الأرض، الذين يقهرون العباد بقوَّتهم، ويعبّدونهم لغير الله من العبيد. لا تركنوا إليهم؛ فإنَّ ركونكم إليهم، يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه، ومشاركتهم إثم(١) .

وهذا هو طرف من كلمات المفسِّرين في تفسير النهي عن الركون إلى الظالمين : لا تميلوا إليهم ولا تسكنوا إليهم، لا تستعينوا بهم، لا ترضوا بأفعالهم، لا تُصانعوهم، لا تودُّوهم لا تطيعوهم، لا ترضوا بهم، لا تقرُّوهم.

والظالمون هم العصاة فإذا كان كل ذلك حراماً بصريح كتاب الله : فكيف يجوز الإقرار بسيادتهم وولايتهم، وقبول حاكميتهم، والانتظام في جماعتهم ؟

ويقول تعالى :( وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ ) (٢) .

ويقول تعالى :( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) (٣) .

____________________

(١) سيد قطب : في ظلال القرآن، ج١٢، ص١٤٧.

(٢) سورة الشعراء : الآيتان ١٥١ - ١٥٢.

(٣) سور الإنسان : الآية ٢٤.

٦٥

وجوب جهاد الطغاة في الأحاديث :

والروايات بهذا المعنى كثيرة، نذكر طرفاً منها على سبيل الشاهد :

روى ثقة الإسلام الكليني، بسنده إلى جابر، عن أبي جعفرعليه‌السلام ( في حديث ) قال : ( فأنكِروا بقلوبكم وألفظوا بألسنتكم، وصكُّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم )، ثمَّ قال : ( فإن اتَّعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم،( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم، وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطان )(١) .

وعن يحيى الطويل، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال : ( ما جعل الله بسط اللسان وكفّ اليد، ولكن جعلهما يُبْسَطَان معاً ويُكَفَّان معاً )(٢) .

وروى الشريف الرضي ( ره ) في نهج البلاغة، عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال في صفِّين : ( أيّها المؤمنين، مَن رأى عدواناً يعمل به، ومنكراً يُدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومَن أنكره بلسانه فقد أجر، ومَن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السُّفلى، فذلك الذي أصاب الهُدى، وقام على الطريق، ونوَّر في قلبه اليقين )(٣) .

____________________

(١) وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج١١، ص٤٠٣.

(٢) المصدر نفسه، ج١١، ص٤٠٤.

(٣) نهج البلاغة، مصدر سابق، ج٤، ص٨٩.

٦٦

والروايات بهذا المضمون كثيرة تبلغ حدّ التواتر؛ ولذلك لا نحتاج معها إلى مراجعة أسنادها، ومن طرق أهل السنّة روى الترمذي عن طارق بن شهاب، قال : أوّل مَن قدَّم الخطبة قبل الصلاة مروان، فقام رجل فقال له : خالفت السنّة ! فقال أبو سعيد : أمَّا هذا ، فقد قضى ما عليه سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ( مَن رأى منكراً فلينكر بيده، ومَن لم يستطع فبلسانه، ومَن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ). قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح(١) .

ورواه أحمد في المسند في موضعين(٢) ، ورواه بلفظ قريب منه مسلم في الصحيح(٣) ، ورواه ابن ماجة في السنن(٤) ، والنسائي في السُّنن(٥) ، ولا نريد أن نستعرض الأحاديث الواردة بهذا المعنى، فهي كثيرة بالغة حدَّ التواتر المعنوي، ونختمها برواية السبط الشهيد الحسين بن عليعليه‌السلام عن جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك في منطقة البيضة، كما يقول المؤرخون؛ حيث خطب في كتيبة الحرِّ بن يزيد التميمي قائلاً : ( أيُّها الناس، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مَن رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاَّ ً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً

____________________

(١) سنن الترمذي، ج٤، ص٤٦٩ - ٤٧٠، كتاب الفتن باب ما جاء في تغير المنكر باليد واللسان، الحديث ٢١٧٢.

(٢) مسند أحمد بن حنبل، ج٣، ص١٠، وج٣، ص٤٥.

(٣) صحيح مسلم، دار الفكر، بيروت، ج١، ص٥٠.

(٤) سنن ابن ماجة، ج٢، ص١٣٣٠.

(٥) سنن النسائي بشرح السيوطي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج٨، ص١١١ - ١١٢.

٦٧

لسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله )(١) .

وجوب جهاد الطغاة من سيرة أهل البيتعليهم‌السلام :

وأوضح شيء في ذلك سيرة الحسينعليه‌السلام تجاه طاغوت زمانه، حيث خرج -عليه‌السلام - وقاتله بنفسه وأولاده وأهل بيته والصفوة من أصحابهعليه‌السلام ، وخطب في كربلاء في الناس وفي أصحابه، فقالعليه‌السلام : ( ألا ترون إلى الحق لا يُعمَل به، وإلى الباطل لا يُتَناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقَّاً، فإنَّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً )(٢) .

ولمَّا طالب مروان الحسينعليه‌السلام بالبيعة ليزيد بعد هلاك معاوية، قال له الحسينعليه‌السلام : ( إنّا لله وإنَّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام، إذ قد بليت الأمة براعٍ مثل يزيد. ولقد سمعت جدِّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان )(٣) .

وقال في كربلاء لما طالبوه بالبيعة ليزيد : ( لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد )(٤) .

____________________

(١) تاريخ الطبري، ج٤، ص٣٠٠، الكامل في التاريخ، ج٣، ص٢٨٠.

(٢) تاريخ الطبري، ج٤، ص٣٠١.

(٣) السيد محسن الأمين، المقتل الحسيني، ص٢٤.

(٤) تاريخ الطبري، ج٤، ص٣٣٠، والكامل في التاريخ، ج٣، ص٢٨٧.

٦٨

الرأي الآخر :

هذا الذي ذكرناه - في ما أعتقد - هو موقف الإسلام في هذه المسألة، وليس فيه لبس أو غموض ويتميّز بالوضوح والصراحة، من الكتاب والسنَّة والسيرة.

وهناك رأي آخر في مطاوعة الحكَّام الظلمة، والانقياد لهم ومتابعتهم، مهما بلغ ظلمهم وإفسادهم في الأرض، ومهما كان عبثهم بالإسلام وانتهاكهم لحدود الله وحرماته، ومهما كان إسرافهم في بيت المال، حتّى إن أعلنوا الشرب والسكر وسائر المنكرات إعلاناً، وقتلوا النفوس البريئة، وقتلوا الصالحين ما لم يظهروا كفراً بواحاً، وما لم يأمروا بالمعصية، يجب طاعتهم والانقياد لهم، ويحرم الخروج عليهم.

ومن هؤلاء يزيد بن معاوية، والحجَّاج بن يوسف، ووليد بن يزيد، الذي كان يكرع الخمر كرعاً.

وبناء على هذه الفتوى؛ يحرم الخروج على يزيد بن معاوية، وتحرم مخالفته في غير معصية الله إلخ.

هذا هو الرأي الآخر، وقد ظهر وبرز في العصر الأُموي، وامتدَّ إلى العصر العباسي، ونظَّر له علماء وفقهاء معروفون من أهل السنّة والجماعة، ودعوا إليه وادَّعوا أن خلافه بدعة في الإسلام، وامتد وتعمّق هذا الرأي، حتّى كاد أن يكون الرأي الفقهي الرسمي لفقهاء أهل السنّة، في العصر الأموي والعصر العباسي، ونحن نذكر نماذج من كلمات هؤلاء الفقهاء والمحدّثين في وجوب

٦٩

طاعة الحكَّام ما لم يعلنوا الكفر البواح، وما لم يأمروا بالمعصية، وتحريم الخروج عليهم، واعتبار الخروج عليهم من البدعة التي حرَّمها الله.

رأي عبد الله بن عمر :

روى مسلم عن زيد بن محمد عن نافع، قال جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع، حين كان من أمر ( الحرّة ) ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال [عبد الله بن مطيع ] اطرحوا لأبي عبد الرحمن وساده. فقال : إنّي لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدّثك حديثاً : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :( مَن خلع يداً من طاعة لقي الله عز وجلّ يوم القيامة لا حجَّة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ) (١) .

رأي عبد الله بن عمرو العاص :

وإلى هذا الرأي يذهب عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان يعرف به، ويدعو إليه(٢) .

____________________

(١) صحيح مسلم، ج٦، ص٢٢.

(٢) راجع : مسند أحمد بن حنبل، ج٢، ص٣٤٤.

٧٠

رأي الحسن البصري :

ويُعرف هذا الرأي أيضاً عن الحسن البصري وعنه نقل : ( الأُمراء يلون من أمورنا خمساً: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود. والله، ما يستقيم الدين إلاّ بهم، وإن جاروا وظلموا. والله، لمَا يصلح بهم أكثر ممَّا يفسدون ).

رأي سفيان الثوري :

وكان سفيان الثوري يصرُّ على هذا الرأي، ويراه من أعمدة الإيمان. يقول لشعيب أحد تلامذته : ( يا شعيب، لا ينفعك ما كتبت حتى ترى الصلاة خلف كل برِّ وفاجر، والجهاد إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان جار أم عدل ).

رأي علي بن المديني :

ويقول علي بن المديني :( ثمَّ السمع والطاعة للأئمة وأُمراء المؤمنين البرِّ والفاجر، ومَن ولي الخلافة بإجماع الناس ورضاهم. لا يحلُّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ليله، إلاّ عليه إمام برّاً كان أم فاجراً، فهو أمير المؤمنين !! ليس لأحد أن يطعن عليهم، ولا ينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائز نافذ قد برئ مَن دفعها إليهم، وأجزأت عنه برَّاً كان أو فاجراً.

وصلاة الجمعة خلفه وخلف مَن ولاّه جائزة، قائمة ركعتان مَن أعادها فهو مبتدع، تارك للإيمان مخالف، وليس له من فضل الجمعة شيء، إذا لم يرَ الجمعة خلف الأئمة مَن كانوا، برُّهم وفاجرهم، والسنَّة أن يصلُّوا خلفهم، لا

٧١

يكون في صدورهم حرج من ذلك. ومَن خرج على إمام أئمة المسلمين، وقد اجتمع عليه الناس فأقرُّوا له بالخلافة، بأيِّ وجه كانت، برضى كانت أو بغلبة فهو شاقٌّ عليه العصا، وخالف الآثار عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن مات الخارج عليه مات ميتة الجاهلية، ولا يحلُّ قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمَن عمل ذلك، فهو مبتدع على غير السنّة ).

اللالكائي ( المتوفَّى سنة ٨١٤ه- ) والبخاري :

وعقد الشيخ اللالكائي فصلاً في كتابه ( السنّة ) ذكر فيها من عقائد أهل السنّة( ومنها اعتقادهم وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور أبراراً كانوا أم فجّار ) .

ثمَّ ذكر اللالكائي قول البخاري قال :( لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم، أهل الحجاز من مكّة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، والشام، ومصر، لقيتهم كرَّات وأدركتهم، وهم متوافدون منذ أكثر من ستٍّ وأربعين سنة، كلُّهم يعتقدون هذه العقيدة ) .

النووي في شرحه على صحيح مسلم :

يقول النووي في شرحه على صحيح مسلم :( وأمّا الخروج عليهم - يعني الخلفاء - وقتالهم، فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين وأجمع أهل السنّة [ على ] أنّه لا ينعزل السلطان بالفسق ) .

٧٢

ابن حجر في شرحه على ( صحيح البخاري ) :

ويقول ابن حجر في ( فتح الباري ) في شرح صحيح البخاري عن ابن بطال :( وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب والجهاد معه، وإنَّ طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن للدماء وتسكين للدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلاَّ إذا وقع من السلطان الكفر الصريح ) !!

رأي أبي بكر الإسماعيلي :

يقول الشيخ أبو بكر الإسماعيلي في كتابه ( اعتقاد أهل الحديث ) :( ويرون الصلاة والجمعة وغيرها خلف إمام مسلم برّاً كان أو فاجراً، فإنَّ الله عزّ وجلّ فرض الجمعة وأمر بإتيانها فرضاً مطلقاً، مع علمه تعالى بأنّ القائمين بها يكون منهم الفاجر والفاسق، ولم يستثنِ وقتاً دون وقت، ويرون الجهاد معهم وإن كانوا جورة ) .

رأي الطحاوي وشارح الطحاوية :

يقول الشيخ الطحاوي في عقيدته :( ولا نرى الخروج على أئمّتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزّ وجلّ فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة ).

قال شارح الطحاوية - بعد سقوه الأدلّة الدالّة على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور - :( فقد دلّ الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر، ما لم

٧٣

يأمروا بمعصية، فتأمَّل قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ،كيف قال :( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) ،ولم يقل : وأطيعوا أولي الأمر منكم؛ لأنّ أولي الأمر لا يفردون بالطاعة، بل يطاعون في ما هو طاعة لله ورسوله، وأعاد الفعل مع الرسول للدلالة على أنّ مَن أطاع الرسول فقد أطاع الله، فإنَّ الرسول لا يأمر بغير طاعة الله، فلا يطاع إلاّ في ما هو طاعة لله ورسوله، وأمَّا لزوم طاعتهم وإن جاروا؛ فلأنَّه يترتَّب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيِّئات، ومضاعفة الأجور، فإنَّ الله تعالى ما سلَّطهم علينا إلاّ لفساد أعمالنا والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد بالاستغفار والتوبة، وإصلاح العمل قال تعالى :( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَ-ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ) ،وقوله تعالى :( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) ،فإذا أراد الرعيَّة أن يتخلَّصوا من ظلم الأمير فليتركوا الظلم. وقال مالك بن دينار : إنّه جاء في بعض كتب الله: ( أنا الله مالك الملك، قلوب الملوك بيدي، فمَن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك، لكن توبوا أعطِّفهم عليكم) .

٧٤

الشيخ الصابوني ( المتوفَّى سنة ٩٩٤ ه- ) :

يقول الشيخ أبو عثمان الصابوني - المتوفَّى سنة ٩٩٤ ه- - في كتابه ( عقيدة أصحاب الحديث ) :( ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كلّ إمام مسلم برّاً كان أو فاجراً، ويرون الدعاء لهم بالتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف ) .

رأي علماء الوهابية :

في رسالة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف : إنّ الشيخ قال :( وبهذه الأحاديث وأمثالها عمل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعرفوا أنّ من الأصول التي لا يقوم الإسلام إلاَّ بها، وشاهدوا من يزيد بن معاوية والحجاج ومَن بعدهم - خلا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - أموراً ظاهرة ليست خفيّة، ونهوا عن الخروج عليهم والطعن فيهم، ورأوا أنَّ الخارج عليهم خارج عن دعوة المسلمين إلى طريقة الخوارج ).

ويقول جمع من مشايخ وعلماء آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - كالشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وآخرين في رسالة خاصة لهم بهذا الأمر - :( إذا فُهِم ما تقدَّم من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وكلام العلماء المحقِّقين في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وتحريم منازعته، فإن قصّر عن القيام

٧٥

ببعض الواجب، فليس لأحد من الرعيَّة أن يُنازعه الأمر من أجل ذلك، إلاَّ أن تروا كفراً بواحاً ).

وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف :( وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنَّة، في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر حتى قال : ( اسمع وأطع، وإن أخذ مالك وضرب ظهرك )، فنحرِّم معصيته والاعتراض عليه ) .

وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري - في رسالة له، بعد سوقه الأدلة على وجوب السمع والطاعة، ونقل كلام بعض العلماء في ذلك - :( إذا فُهِم ما تقدَّم من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وكلام العلماء المحقِّقين، في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وتحريم منازعته، والخروج عليه. وأمّا ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات، التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام، فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتِّباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس، ومجامع الناس، واعتقاد أنَّ ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش، وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتَّب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نوّر الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح. هذا الذي نعتقده وندين الله به ونبرأ إلى الله ممَّن خالفه واتَّبع هواه ) .

ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز :( لا يجوز الخروج على الأئمة وإن عصوا، بل يجب السمع والطاعة بالمعروف، ولكن لا نُطيعهم في المعصية، ولا

٧٦

ننزعَنَّ يداً عن طاعة )

ثمّ ساق عدداً من الأحاديث الدالة على ذلك، ثمّ قال :( فالمقصود أنّ الواجب السمع والطاعة في المعروف لولاة الأمور، من الأُمراء والعلماء، فبهذا تصلح الأحوال، ويأمن الناس، ويُنصف المظلوم، ويُردع الظالم وتأمن السبل، ولا يجوز الخروج على ولاة الأمور، وشقُّ العصا، إلاّ إذا وجِد منهم كفر بواح عند الخارجين فيه برهان من الله، وهم قادرون على ذلك على وجه لا يترتَّب عليه ما هو أنكر وأكثر فساداً ).

ويقول الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل - إمام وخطيب مسجد الحرام - :( إنّ مذهب أهل السنّة والجماعة الذي لا يجوز العدول عنه، وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وحكَّامهم وأمرائهم في غير معصية الله ورسوله، وإن ظهر منهم ما ظهر من الجور والظلم والفسق، ما لم يخرجوا عن دائرة الإسلام، ويحكم عليهم بالكفر الذي لا شبهة فيه، كما قال عليه‌السلام : ( إلاَّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان )، فإنَّ الصبر على جور الأئمة وظلمهم مع كونه هو الواجب شرعاً، فإنَّه أخفُّ من ضرر الخروج عليهم، ونزع الطاعة من أيديهم؛ لما ينتج عن الخروج عليهم من المفاسد العظيمة، فربّما كان الخروج سبب حدوث فتنة يدوم أثرها، ويستشري ضررها، ويقع بسببها سفك الدماء ).

الحياة الطيِّبة : ما الذي حمل هؤلاء الفقهاء على تبنِّي هذا الرأي؛ حيث لا يمكن للسياسة وحدها أن توحي برأي ما ؟! ألا تعتقدون وجود مستندات شرعية لهذا الرأي ؟

٧٧

الشيخ الآصفي : لقد استند هؤلاء الفقهاء إلى أمرين :

١ - التمسُّك بإطلاق الكتاب ومناقشته :

يقول أبو بكر الإسماعيلي في كتابه( اعتقاد أئمة أهل الحديث ) : ( فإنَّ الله عزّ وجلّ فرض الجمعة وأمر بإتيانها فرضاً مطلقاً، مع علمه تعالى بأنَّ القائمين يكون منهم الفاجر والفاسق، ولم يستثنِ وقتاً دون وقت، ولا أمراً دون أمر ) .

وخلاصة الاستدلال : إنَّ الأمر بالطاعة لأولياء الأمور مطلق، كالأمر بالسعي إلى الجمعة، فتجب الطاعة إلاّ في الأمر بمعصية الله، ويحرم الخروج على الإمام، إلاَّ عند ما يُعلن الكفر بُواحاً.

المناقشة :

والتمسُّك بإطلاق الآية الكريمة من أغرب ما نعرف من الاحتجاج بالكتاب العزيز، وتوضيح ذلك :

أوّلاً : إنَّ الله تعالى لم يجعل للفاسق ولاية ولا إمامة على المسلمين، يقول تعالى - في جواب سؤال إبراهيمعليه‌السلام الإمامة لذريته - :( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، وتمام الآية :( وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) ، ويقول تعالى :( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (٢) .وإذا كان

____________________

(١) سور البقرة : الآية ١٢٤.

(٢) سورة هود : الآية ١١٣.

٧٨

الركون إلى الظالم حراماً، فكيف يكون له ولاية وإمامة على المسلمين ؟! فالآية الكريمة ( ٥٩ من سورة النساء ) تأمر بطاعة أولي الأمر والظالم لا ولاية، ولا إمامة له على المسلمين، بصريح الآية ١٢٤ من سورة البقرة، والآية ١١٣، من سورة هود.

ولنِعْمَ ما يقول علماء الأصول - في ردِّ مثل هذه الاستدلالات غير العلمية - :( إنّ الحكم لا يثبت موضوعه ) ، وهذا الأمر بالطاعة لا يثبت أن المتسلَّط على الحكم بالبطش له ولاية وإمامة على المسلمين، هذا أوّلاً.

وثانياً : التفريق بين المخالفة والخروج - بأن نقول : إذا أمر الحاكم بالمعصية، فتجب المخالفة ويحرم الخروج عليه - أمر غير عملي؛ فإنّ الأمر بالمعصية والجهر بها إن كان حالة طارئة من ناحية الحاكم وتراجع عنها، فإنّ ولايته إذا كانت شرعية لا تُقطع بمعصية تاب عنها، ولكن إذا شطَّ الحاكم في الغيِّ، وتمادى في الظلم والضلال والإفساد في الأرض - مثل كثير من الحكَّام الذين حكموا المسلمين ويحكمونهم اليوم - فأين التفريق بين المخالفة والخروج ؟ فتجب المخالفة لما رُوِي عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )(١) ، ولكن يحرم الخروج عليه.

أقول : هذا الرأي أقرب إلى الفرض منه إلى الحكم الشرعي، فإنَّ الحاكم الذي يتمادى في الغيِّ والضلال والبطش والإفساد، إذا عرف أن المسلمين يَتَحرَّجون من الخروج عليه، فإنَّه سوف يُجبرهم على طاعة ما يأمر به من معصية الله، كما حصل في تاريخنا المعاصر

____________________

(١) وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج١١، ص٤٢٢.

٧٩

الكثير من هذه الحالات. ولا مخرج عن هذه المعاصي والمنكرات إلاّ بالخروج على الحاكم.

وثالثاً : إنَّ الله تعالى نهانا عن الركون إلى الظالمين، والركون إلى الظالم ليس بالطاعة فقط، وإنَّما بقبول إمامته أيضاً؛ فإنَّ قبول إمامته وقيادته وقبول الانضواء تحت حكمه وزعامته من أوضح مصاديق الركون.

يقول تعالى :( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ؛ فتكون هذه الآية مخصَّصة للآية ٥٩، من سورة النساء، على فرض إطلاقها وشمولها لمعصية الله، فتختص الولاية المشار إليها في سورة النساء الآية ٥٩، بما إذا استقام الحاكم على حدود الله تعالى وأحكامه وصراطه. فإذا انحرف وشطَّ، فلا تكون له إمامة ولا ولاية على المسلمين.

ورابعاً : كما تجب مخالفة الحاكم الظالم في معصية الله، كذلك تحرم طاعته في ما يأمر في غير معصية الله؛ لأنّ الدخول في طاعته هو من الركون إليه، وقد نهانا الله تعالى عن الركون إلى الظالمين.

ومن عجب أن يقول ابن تيمية في ( منهاج السنّة ) : ( الكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعته - ولا يسقط وجوبها - لأمر ذلك الفاسق بها، كما أنّه إذا تكلَّم بحقّ لم يجز تكذيبه، ولا يسقط وجوب اتِّباع الحقّ؛ لكونه قد قاله الفاسق ).

وهو كلام غريب، فإنّ اتَّباع الحقّ يختلف عن اتِّباع الفاسق في الحقّ وبينهما فرق، ونحن نتّبع الحقّ ولكن لا نتّبع الفاسق ولو في الحقّ؛ لأنّ الله

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136