الشيعة في التاريخ

الشيعة في التاريخ27%

الشيعة في التاريخ مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 216

الشيعة في التاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 216 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65096 / تحميل: 7661
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في التاريخ

الشيعة في التاريخ

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

أنحاء العالم الإسلامي بإحضار كبار العلماء من المتمرّسين في مختلف أنواع العلوم بالحضور إلى خراسان ليسألوا الإمام عن أعقد المسائل العلمية، ولمّا حضروا عنده عرض عليهم الأمر، ووعد بالثراء العريض كل مَن يسأل الإمامعليه‌السلام سؤالاً يعجز عن إجابته، والسبب في ذلك - فيما نحسب - يعود إلى ما يلي:

أوّلاً: إنّ المأمون أراد أن ينسف عقيدة الشيعة ويقضي على جميع معالمها فيما إذا عجز الإمام الرضاعليه‌السلام فإنّه يتخذ من ذلك وسيلة لنقض ما تذهب إليه الشيعة من أنّ الإمام أعلم أهل عصره، وأدراهم بجميع أنواع العلوم، ومن الطبيعي أنّ ذلك يؤدّي إلى زعزعة كيان التشيّع، وبطلان عقيدتهم في أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

ثانياً: إنّ الإمام لو عجز عن أجوبة المسائل التي يقدمها العلماء له فإنّ المأمون يكون في سعة من عزله عن ولاية العهد بعد أن استنفذت أغراضه السياسية منها، فقد أظهر للناس في بداية الأمر أنّه إنّما رشّح الإمام لهذا المنصب الخطير لأنّه أعلم الأمّة، ولكن لما ظهر له خلاف ذلك قام بعزله، وفي نفس الوقت تقوم وسائل إعلامه بإذاعة ذلك، والحط من شأن الإمام، وفي ذلك استجابة لعواطف الأسرة العباسية التي غاظها ترشيح المأمون للإمام لولاية العهد.

فعمدت إلى عزله، ومبايعة المغني إبراهيم - كما سنتحدث عن ذلك - وعلى إي حال فقد قام العلماء بالتفتيش عن أعقد المسائل وأكثرها صعوبة وعمقاً في جميع أنواع العلوم، وعرضوها على الإمام فأجاب عنها جواب العالم الخبير المتمرّس فيها، ويقول الرواة: إنّه سُئل عن أكثر من عشرين ألف مسألة في نوب مفرقة عاد فيها بلاط المأمون إلى مركز علمي، وخرجت الوفود العلمية، وهي مليئة بالإعجاب والإكبار بمواهب الإمام وعبقرياته، وأخذت تذيع على الناس ما يملكه الإمام من طاقات هائلة من العلم والفضل كما ذهب معظمهم إلى القول بإمامته، ممّا اضطر المأمون إلى حجب الإمام عن العلماء خوفاً أن يفتتنوا له ولم يذكر الرواة إلا كوكبة يسيرة منها، نعرض لها ولبعض ما أثر عنه هذا الموضوع، وفيما يلي ذلك:

1 - أسئلة عمران الصابئ:

وكان عمران الصابئ من كبار فلاسفة عصر الإمامعليه‌السلام كما كان الزعيم الروحي لطائفة الصابئة، وقد انتدبه المأمون لامتحان الإمام، فاختار له أعمق المسائل الفلسفية وأكثرها تعقيداً وغموضاً. وقد شرحها وعلّق عليها المحقّق الشيخ

١٠١

محمد تقي الجعفري، قال: وقد اشتمل هذا الاحتجاج على أهم المسائل الإلهية وأغمضها، وهي على إطلاقها عويصات في الحكمة المتعالية، قد أتعبت أفكار الباحثين الناظرين في ذلك الفن، ولم يأت هؤلاء الأساطين بأجوبة كافية لتلك المسائل بل تعقبها أسئلة أخرى ربّما تكون أغمض من نفس الأسئلة، وقد وقعت تلك الغوامض موارد لأسئلة عمران في هذه الرواية، وأجاب عنها الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ثامن حجج الله على عباده وأُمنائه في أرضه، وما بيّنه الإمام في هذا الاحتجاج مناهج واضحة لم يطمسها غبار الحجب المادية التي تثيرها العقول المحدودة في معقل المحسوسات المظلمة، هكذا ينكشف عند المتمسّكين بأذيال أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي حقائق ضل في سبيل الوصول إليها الأفكار الناقصة.

( ونعرض للنص الكامل من أسئلة الصابئ وجواب الإمام عنها حسبما ذكره الشيخ الصدوق في (عيون أخبار الرضا) مع مقتطفات من تعليقات الشيخ الجعفري عليها... لقد قدم الوفد الذي كان مع عمران جملة من المسائل، وبعدما أجاب الإمامعليه‌السلام عن أسئلة الوفد الذي هو من كبار علماء النصارى، واليهود والصابئة، قال لهم: ( يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام، وأراد أن يسأل، فليسأل غير محتشم... )

فانبرى إليه عمران الصابئ، وكان متطلّعاً بصيراً في علم الكلام فخاطب الإمام بأدب وإكبار قائلا: ( يا عالم الناس لولا أنّك دعوت إلى مسألتك، لم أقدم عليك بالمسائل، فلقد دخلت الكوفة والبصرة، والشام، والجزيرة ولقيت المتكلّمين، فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً - يعني أنّ الله تعالى واحد لا ثاني له - ليس غيره قائماً بوحدانيته أفتأذن لي أن أسألك... )

عرض الصابئ إلى عمق مسألته، وأنّه لم يهتد لحلها علماء الكوفة والبصرة والشام والجزيرة، ويطلب من الإمامعليه‌السلام حلها، فقابله الإمام ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً: ( إن كان في الجماعة عمران الصابئ فأنت هو... ).

( أنا هو )

١٠٢

سل يا عمران، وعليك بالنصفة، وإيّاك والخطل(1) والجور... ).

وأطرق الصابئ بوجهه إلى الأرض، وقال بنبرات تقطر أدباً وإجلالاً للإمام: ( والله يا سيدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلق به فلا أجوزه... )

لقد أعرب الصابئ عن نواياه الحسنة وأنّه يريد الحقيقة، والوصول إلى الواقع، ولا صلة له بغير ذلك، فقالعليه‌السلام : ( سل عمّا بدا لك... ).

وكان المجلس مكتظاً بالعلماء والقادة، وفي طليعتهم المأمون فانضم بعضهم إلى بعض، وانقطعوا عن الكلام ليسمعوا أسئلة الصابئ وجواب الإمام عنها، وتقدّم الصابئ بأسئلته.

س1: ( أخبرني عن الكائن الأوّل، وعمّا خلق... ) أمّا المسؤول عنه في هذه الكلمات فهو الشيء الأوّل والمادة الأُولى التي خلق الله تعالى الأشياء منها، وليس المسؤول عنه وجود الله المبدع العظيم فإنّه من الأمور الواضحة التي لا يشك فيها من يملك وعيه وإرادته، فإنّ جميع ما في الكون تدلّل على وجود خالقها فإنّه من المستحيل أن يوجد المعلول من دون علّته... ولنستمع إلى جواب الإمامعليه‌السلام عن هذه المسألة.

ج 1: ( أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائنا، بلا حدود، ولا أعراض، ولا يزال كذلك، ثم خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة، لا في شيء أقامه، ولا في شيء حده، ولا على شيء حذاه، ومثله له، فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة، وغير صفوة، واختلافاً وائتلافاً، وألواناً وذوقاً وطعماً لا لحاجة كانت منه إلى ذلك، ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلاّ به ولا رأي لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً... ).

وحكى هذا المقطع من جواب الإمامعليه‌السلام ما يلي:

أوّلاً: إنّ الله تعالى واحد لا شيء معه، وهو مجرّد من الحدود والأعراض التي هي من صفات الممكن، فهو كائن واحد، ما زال ولا يزال، وليست وحدته عددية أو نوعية أو جنسية، وإنّما بمعنى عدم ارتباطه بأي شيء مادي أو غير مادي، فهو بمرتبة من الكمال لا يشابهه أي شيء من الممكنات التي نسبتها إليه نسبة الصانع إلى المصنوع، فتبارك الله.

ثانياً: إنّ النظرة البدوية في الأشياء أنّ كل صورة لا بد لها من مادة تقوم وتحل

___________________________

(1) الخطل: المنطق الفاسد.

١٠٣

بها، ولكن هذا بالنسبة إلى غير الواجب تعالى أمّا هو فإنّه يخلق الأشياء لا من شيء كان، ولا من شيء خلق، وإنّما يقول للشيء كن فيكون، فقد ابتدع خلق الأشياء لا على شيء حذاه، ومثله له، فهو القوّة الكبرى المبدعة لخلق الأشياء لا لحاجة منه إليها، فهو المصدر الوحيد للفيض على جميع الكائنات.

والتفت الإمامعليه‌السلام إلى عمران فقال له: ( تعقل هذا يا عمران...؟ ).

( نعم والله يا سيدي... ).

( اعلم يا عمران أنّه لو كان خلق ما خلق لحاجة، لم يخلق إلاّ مَن يستعين به على حاجته، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لأنّ الأعوان كلّما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه كان لم يحدث من الخلق شيئاً إلاّ حدثت فيه حاجة أخرى؛ ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجة ولكن تقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض، وفضل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل، ولا نقمة منه على من أذل... ).

وهذا الكلام متمّم لما قبله من أنّ الله تعالى خلق الخلق في غنى عنهم فهم المحتاجون إلى فيضه ورحمته وعطائه، فهو الجواد المطلق الذي بسط الرحمة والإحسان على جميع الموجودات والكائنات، وكان من فضله أنّه فضّل بعض مخلوقاته على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل، ولا نقمة منه على من أذل.

س 2: ( يا سيدي هل كان الكائن معلوماً في نفسه عند نفسه..؟ ).

وهذا السؤال عميق للغاية، وتوضيحه - حسبما ذكره الشيخ الجعفري - أن تحصل شيء وتحققه في الانكشاف العلمي كواقع ذلك الشيء ينحل إلى هوية نفسه، وطارديته لغيره، وبذلك يكون محدوداً، فإنّ الحجر ما لم يضف إلى هويته عدم جميع أضداده لا يتحصّل تحصلاً علمياً... فإنّ النفس المعلومة ما لم يلاحظ طرد جميع ما سواها عنها لا تكون معلومة ومحصلة عند العالم وكأنّ هذا هو الموجب لسؤال عمران عن كونه تعالى معلوماً عند نفسه، فحينئذٍ لو أجاب الإمام بثبوته لاستشكل عمران هل كان تحصيل نفسه عند نفسه ملازماً لطرد غيره من المعقولات أم لا؟.

ج 2: قالعليه‌السلام : ( إنّما يكون المعلمة بالشيء لنفي خلافه، وليكن الشيء نفسه، بما نفى عنه موجوداً، ولم يكن هناك شيء يخالفه، فتدعوه الحاجة إلى

١٠٤

نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد ما علم منها... والتفت الإمام إلى عمران فقال له: ( أفهمت يا عمران؟... ).

( نعم والله يا سيدي... ).

وحاصل ما أجاب به الإمامعليه‌السلام أنّ ما ذكره الصابئ إنّما يصح فيما لو كان المعلوم مقارناً بعدّة أشياء تخالفه فيلزم حينئذٍ نفي تلك الأشياء لتحصيل المعلوم إلاّ أنّ الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة ما لم يكن هناك شيء يقارنه فلا حاجة إلى نفيه ليقرّر إرادته بذلك النفي.

س 3: أخبرني بأيّ شيء علم ما علم أبضمير أم بغير ضمير؟

أراد الصابئ بهذا السؤال إلزام الإمام بالقول بالتركيب في ذاته تعالى، من جهة أنّه ذو ضمير.

ج 3: أرأيت إذا علم بضمير هل يجد بداً من أن يجعل لذلك الضمير حداً تنتهي إليه المعرفة؟ أراد الإمام أنّ ذلك الضمير لا بد أن يعرف حقيقته وماهيته، وقد وجّه الإمام إليه السؤال التالي: ( فما ذلك الضمير؟... ).

فانقطع الصابئ عن الكلام ولم يستطع أن يقول شيئاً، فقد سد الإمام عليه كل نافذة يسلك فيها لإثبات ما يذهب إليه، والتفت الإمام إليه قائلاً: ( لا بأس إن سألتك عن الضمير نفسه فتعرفه بضمير آخر؟ فإن قلت: نعم، أفسدت عليك قولك... ).

وأقام الإمام الحجّة الكاملة والبرهان القاطع على بطلان ما التزم به الصابئ من أنّه تعالى يعلم بواسطة الضمير، وعلى هذا فلا بد من ضمير آخر يقع به الإدراك لذاته تعالى، وهذا الضمير الآخر يتوقّف على ضمير غيره، وهكذا فيلزم التسلسل، وهو ما لا نهاية له، وإن توقف الضمير الثاني على الضمير الأول فيلزم منه الدور والأمران ممّا أجمع على فسادهما، لترتب الأمور الفاسدة عليها حسبما ذكره الفلاسفة والمنطقيون وتمم الإمامعليه‌السلام حجته وبرهانه بقوله: ( يا عمران أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد ليس يوصف بضمير، وليس يقال له: أكثر من فعل وعمل وصنع، وليس يتوهّم منه مذاهب وتجزية كمذاهب المخلوقين وتجزيتهم، فاعقل ذلك، وابن عليه ما علمت صواباً... ).

١٠٥

أراد لإمامعليه‌السلام أنّ صدور الأفعال والأعمال المختلفة من الله تعالى ليست على غرار غيره من الممكنات التي تحتاج إلى العلل والأسباب كالعقل، وغيره من سائر الجوارح الظاهرية، فإنّه تعالى يستحيل عليه ذلك.

س 4: ( يا سيدي ألا تخبرني عن حدود خلقه كيف هي؟ وما معانيها؟ وعلى كم نوع يكون؟... ).

واستفسر عمران عن حدود المخلوقات التي تميز بعضها عن بعض فأجابه الإمام:

ج 4: ( قد سألت فاعلم أنّ حدود خلقه على ستة أنواع: ملموس، وموزون، ومنظور إليه، وما لا ذوق له، وهو الروح، ومنها منظور إليه، وليس له وزن، ولا لمس، ولا حس، ولا لون، ولا ذوق، والتقدير والأعراض، والصور، والطول، والعرض، ومنها العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعملها، وتغيّرها من حال إلى حال وتزيدها، وتنقصها، فأمّا الأعمال والحركات فإنّها تنطلق؛ لأنّه لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج إليه، فإذا فرغ من الشيء انطلق بالحركة، وبقي الأثر، ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره... ).

وحفل جواب الإمامعليه‌السلام بذكر الخواص والصفات التي تتميّز بها الأشياء سواء أكانت من الكائنات الحيّة أم من غيرها.

س 5: يا سيدي: ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شيء غيره، ولا شيء معه، أليس قد تغيّر بخلقه الخلق... ).

ومعنى هذا السؤال أنّ الحقائق الطبيعية، التي أوجدها الله تعالى، أنّها توجب تغير الخالق العظيم بتغييرها، وهذا إنّما يلزم على القول باتحادها معه تعالى ذاتاً، وهذا مستحيل.

ج 5: ( قديم لم يتغيّر عزّ وجل بخلقه الخلق، ولكن الخلق يتغيّر، بتغييره... ).

وحاصل جواب الإمامعليه‌السلام أنّ الخالق العظيم لما كان هو الصانع والموجد للأشياء، وهو قديم فلا يلزم منه التغيير بتغيير الممكنات والكائنات.

س 6: ( يا سيدي فبأي شيء عرفناه؟... ).

ج 6: ( بغيره... إنّ جميع ما في الكون ممّا يرى، وممّا لا يرى يدلل على وجود الخالق العظيم،

١٠٦

لقد عرفناه بمخلوقاته، وآمنا به بما نشاهده من بدائع صنعته، وقد استبان بصورة واضحة لا غموض فيها في هذه العصور التي غزا الإنسان فيها الفضاء الخارجي، فقد ظهر للبشرية عظيم صنعته تعالى بما أودعه في هذا الفضاء من الكواكب التي لا تحصى ولا تعد، وكلّها تسير بانتظام، ودقّة، ولو اختلفت في مسيرها لحظة لتصادمت، وتلاشت، ولم يبق لها اثر، فسبحان الله المبدع الحكيم.

س 7: أي شيء غيره؟

ج 7: ( مشيئته، واسمه وصفته، وما أشبه ذلك، وكل ذلك محدث، مخلوق، مدبّر... ).

لقد عرفنا الله بمشيئته واسمه وصفاته التي دلّت عليه سبحانه، ففي دعاء الصباح: ( يا مَن دلّ على ذاته بذاته ).

وكل ما في الكون من موجودات تستند إليه استناد المصنوع إلى الصناع.

س 8: يا سيدي أي شيء هو؟

ج 8: ( هو نور، بمعنى أنّه هادٍ خلقه من أهل السماء، وأهل الأرض، وليس لك عليّ أكثر من توحيدي إيّاه... ).

لقد أراد عمران بسؤاله معرفة حقيقة الله تعالى، متوهّماً أنّه تعالى كسائر الممكنات والموجودات، ولمّا كان ذلك مستحيلاً، إذ كيف يحيط الإنسان الذي لا يعرف ذاته وما فيها من الأجهزة الدقيقة، كيف يعرف حقيقة الخالق العظيم المصور والمبدع للأكوان، وقد أجاب الإمامعليه‌السلام أنّه يعرف بأوصافه الظاهرية من هدايته لخلقه وغير ذلك من الأدلة الصريحة الواضحة التي تنادي بوجود خالقها العظيم.

س 9: يا سيدي: أليس قد كان ساكتاً قبل الخلق لا ينطق، ثم نطق...

ج 9: ( لا يكون السكوت إلاّ عن نطق قبله، والمثل في ذلك أنّه لا يقال للسراج: هو ساكت لا ينطق، ولا يقال: إنّ السراج ليضيء، فما يريد أن يفعل بنا لأنّ الضوء من السراج ليس بفعل منه، ولا كون، وإنّما هو ليس شيء غيره، فلمّا استضاء لنا، قلنا: قد أضاء لنا، حتى استضأنا به، فبهذا تستبصر أمرك... ).

ومعنى جواب الإمامعليه‌السلام أنّ السكوت والنطق إنّما يعرضان موضوع قابل لهما، توارد العدم والملكة وحيث إنّ نطق الله تعالى ليس على غرار ما يتصف به الناطقون من الممكنات، فيصح عليه النطق، كما يصح عليه السكوت وقد ذهبت

١٠٧

الشيعة إلى أنّ التكلّم من صفات الأفعال، لا يقوم بذاته تعالى قوام الأوصاف الذاتية، فإنّه تعالى هو الذي خلق النطق والكلام إذا أراده، وقد مثّل الإمامعليه‌السلام لذلك بالسراج فإنّه لا يقال له إنّه ساكت لا ينطق، كما أنّ إسناد الإضافة إلى السراج ليس اختياريا له، هذه بعض الاحتمالات في تفسير كلام الإمامعليه‌السلام .

س 10: ( يا سيدي: فإنّ الذي كان عندي أنّ الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق... ).

ج 10: ( يا عمران في قولك إنّ الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه، حتى يصيب الذات منه ما يغيره، هل تجد النار تغيرها تغير نفسها، وهل تجد الحرارة تحرق نفسها؟ أو هل رأيت بصيراً قط رأى بصره؟... ).

إنّ هذا السؤال من عمران قد تقدّم، وقد أجابه الإمامعليه‌السلام وقد زادهعليه‌السلام توضيحاً، فقال له إنّ الكائن لا يتغيّر بوجه من الوجوه، فأفعال النفس - مثلاً - التي تصدر منها لا توجب زيادة فيها ولا نقصاناً، وهناك مثال آخر وهو البصر، فإن صدر الرؤية منه لا توجب زيادة فيه ولا نقصانا.

س 11: ( ألا تخبرني يا سيدي أهو في الخلق، أم الخلق فيه؟... )

ج 11: ( أجل هو يا عمران عن ذلك، ليس هو في الخلق، ولا الخلق فيه تعالى عن ذلك، وسأعلمك ما تعرفه، ولا قوّة إلاّ بالله، أخبرني عن المرآة أنت فيها، أم هي فيك؟ فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه، فبأي شيء استدللت بها على نفسك يا عمران...؟ ).

لقد أحال الإمامعليه‌السلام حلول الله تعالى في خلقه، وحلولهم فيه، ومثّل لذلك بالصورة التي تنعكس في المرآة فإنّها لا تحل فيها، وكذلك المرآة لا تحل في الصورة، وإنّما النور هو الذي أوجب رؤية الصورة في المرآة، وهو غير حال في شيء منهما، يقول ابن الفارض:

بوحدته دامت لها كل كثرة

فصحت وقد آنت لها كل علة

فقد صار عين الكل فردا لذاته

وإن دخلت أفراده تحت عدة

نظرت فلم أبصر سوى محض وحدة

بغير شريك فد تغطّت بكثرة

وهنا بحوث فلسفية عميقة أعرضنا عن ذكرها إيثاراً للإيجاز.

س 12: ( بضوء بيني وبينها... ).

١٠٨

وهذا السؤال مرتبط بما قبله، وقد أوضحناه.

ج 12: هل ترى من ذلك الضوء أكثر ممّا تراه في عينك؟

عمران: نعم.

الإمام: فأرناه.

وسكت عمران، ولم يدر ما يقول، فقد سدّ الإمام عليه كل نافذة يسلك منها، وواصل الإمام حديثه قائلاً: ( فلا أرى النور إلاّ وقد دلّك، ودلّ المرآة على أنفسكما من غير أن يكون في واحد منكما، ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالاً ولله المثل الأعلى ).

تأجيل المناظرة:

وحضر وقت الصلاة، ولم يجد الإمام بدّاً من تأجيل المناظرة فالتفت إلى المأمون، فقال له: الصلاة حضرت، وخاف عمران من عدم استئناف الحوار بينه وبين الإمام، فقال له: ( يا سيدي لا تقطع عليّ مسألتي، فقد رقّ قلبي... ).

فأوعده الإمامعليه‌السلام بالعودة إلى مناظرته، ونهض الإمام فأدّى فريضة الصلاة.

استئناف المناظرة:

وعادت الجلسة، وقد حضرها المأمون، وكبار العلماء والقادة، والتفت الإمامعليه‌السلام إلى عمران فقال له: ( سل يا عمران... ).

س 13: ( يا سيدي ألا تخبرني عن الله عزّ وجل، هل يوحد بحقيقة أو يوحد بوصف؟... ).

ج 13: إنّ الله المبدأ، الواحد الكائن الأول، لم يزل واحداً لا شيء معه، فرداً لا ثاني معه، لا معلوماً - يعني بحقيقته - ولا مجهولاً، ولا محكماً، ولا متشابهاً، ولا مذكوراً، ولا منسياً، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الأشياء، ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون، ولا بشيء قام، ولا إلى شيء يقوم ولا إلى شيء استند، ولا في شيء استكن، وذلك كلّه قبل لخلق(1) إذ لا شيء غيره، وما أوقعت عليه من الكل

____________________

(1) في نسخة قبل خلقه الخلق.

١٠٩

فهي صفات محدثة، وترجمة يفهم بها مَن فهم. واعلم أنّ الإبداع والمشيئة والإرادة معناها واحد، وأسماؤها ثلاثة، وكان أوّل إبداعه ومشيئته وإرادته التي جعلها أصلاً لكل شيء، ودليلاً على كل شيء مدرك، وفاصلاً لكل مشكل، وبتلك الحروف تفريق كل شيء من اسم حق وباطل أو فعل أو مفعول، أو معنى أو غير معنى، وعليها اجتمعت الأمور كلّها ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها، تتناهى ولا وجود لها؛ لأنّها مبدعة بالإبداع. والنور في هذا الموضع أوّل فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض، والحروف هي المفعول التي عليها مدار الكلام، والعبادات كلّها من الله عزّ وجل علّمها خلقه، وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً، فمنها ثمانية وعشرون حرفاً تدل على لغات العربية، ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون حرفا تدل على لغات السريانية والعبرانية، ومنها خمسة أحرف متحرفة في ساير اللغات من العجم والأقاليم، واللغات كلها، وهي خمسة أحرف تحرفت من الثمانية والعشرين حرفاً من اللغات فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً، فأمّا الخمسة المختلفة ( فيتجنح ) لا يجوز ذكرها أكثر ممّا ذكرناه ثم جعل الحروف بعد إحصائها، وأحكام عدتها فعلامته كقوله عزّ وجل:( كن فيكون ) وكن منه صنع، وما يكون به المصنوع، فالخلق الأوّل من الله عزّ وجلّ الإبداع لا بوزن له، ولا حركة، ولا سمع، ولا لون، ولا حس، والخلق الثاني الحروف، لا وزن لها، ولا لون، وهي مسموعة موصوفة، غير منظور إليها، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلها محسوساً، ملموساً، ذا ذوق منظور إليه والله تبارك وتعالى سابقاً للحروف، والحروف لا تدل على غير نفسها. وبهر المأمون، ولم يفهم أكثر محتويات هذه الكلمات العميقة التي تحتاج إلى وقت طويل لبيانها، وقال للإمام: ( كيف لا تدل - أي الحروف - على غير أنفسها؟... ). فأجابه الإمام موضحاً له الأمر قائلاً:

( إنّ الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً، فإذا ألف منها أحرفاً أربعة أو خمسة، أو ستة، أو أكثر من ذلك، أو أقل لم يؤلّفها بغير معنى ولم يكن إلاّ لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئاً... ).

س 14: كيف لنا بمعرفة ذلك؟...

ج 14: أمّا المعرفة فوجه ذلك وبيانه: إنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير

١١٠

نفسها ذكرتها فرداً، فقلت: ا ب ت ث ج ح خ حتى تأتي على آخرها، فلم تجد لها معنى غير أنفسها، وإذا ألفتها وجعلت منها أحرفاً، وجعلتها اسماً وصفة لمعنى، ما طلبت، ووجه ما عنيت، كانت دليلة على معانيها داعية إلى الموصوف بها، أفهمته؟

( نعم ).

وواصل الإمام حديثه في بيان معاني الحروف عند تركيبها قائلاً: ( واعلم أنّه لا يكون صفة لغير موصوف، ولا حد لغير محدود، والصفات والأسماء كلها تدل على الكمال، والوجود ولا مثال على الإحاطة، كما تدل الحدود التي هي التربيع والتثليث، والتسديس؛ لأنّ الله عزّ وجل تدرك معرفته بالصفات والأسماء، ولا تدرك بالتحديد، بالطول والعرض، والقلّة والكثرة، واللون والوزن، وما أشبه ذلك، وليس يحل بالله، وتقدس شيء من ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا. ولكن يدل على الله عزّ وجل بصفاته، ويدرك بأسمائه، ويستدل عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين، ولا استماع أذن، ولا لمس كف، ولا إحاطة بقلب، ولو كانت صفاته جلّ ثناؤه لا تدل عليه، وأسماؤه لا تدعو إليه، والمعلمة من الخلق لا تدركه لمعناه كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه، فلولا أنّ ذلك كذلك لكان المعبود الموحد غير الله لأنّ صفاته وأسماءه غيره... أفهمت يا عمران؟ )

( نعم يا سيدي زدني... )

وواصل الإمام حديثه الممتع، وقد استولى على مَن حضر من العلماء والقادة، قائلاً: ( إيّاك وقول الجهّال من أهل العمى والضلال الذين يزعمون أن الله جل وتقدس موجود في الآخرة للحساب في الثواب والعقاب، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء ولو كان في الوجود لله عزّ وجل نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبداً، ولكن القوم تاهوا وعموا، وصموا عن الحق من حيث لا يعلمون، وذلك قوله عزّ وجل:( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (1) .

يعني أعمى عن الحقائق الموجودة، وقد علم ذوو الألباب أنّ الاستدلال على ما هناك لا

____________________

(1) سورة الإسراء: آية 72.

١١١

يكون إلاّ بما ها هنا، ومَن أخذ علم ذلك برأيه، وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك إلاّ بعداً؛ لأنّ الله عزّ وجل جعل علم ذلك خاصة عند قوم يعقلون ويعلمون ويفهمون... ).

س 15: ( يا سيدي ألا تخبرني عن الإبداع أخلق هو أم غير خلق؟... ).

علّق الشيخ الجعفري على هذه المسألة بقوله: إنّ هذه المسألة أيضاً ممّا أعيى الأذهان والعقول البشرية؛ لأنّها التي أوجبت افتراق المسالك والفرق المختلفة فمنهم مَن قال: باستحالة الإبداع مطلقاً أكان من الواجب، أم من الممكن، ومن قبيل المواد والصور أو العقول والنفوس وغيرها، ومنهم من جوزه مطلقاً، ومنهم من حصر إمكان الإبداع على الله تعالى على نحو العموم أي إنّه تعالى قادر على أن يبدع أي موجود شاء دون مادة سابقة له، وقع التغير عليه، وقد قالوا: إنّه مقتضى قدرته المطلقة وقابلية الموضوع ومنهم من ذهب مذاهب أخرى(1) .

ج 15: بل خلق ساكن، لا يدرك بالسكون، وإنّما صار خلقاً لأنّه شيء محدث، والله تعالى الذي أحدثه فصار خلقاً له، وإنّما هو الله عزّ وجل خلقه لا ثالث بينهما ولا ثالث غيرهما، فيما خلق الله عزّ وجل لم يعد أن يكون خلقه، وقد يكون الخلق ساكناً ومتحركاً ومختلفاً ومؤتلفاً ومعلوماً ومتشابهاً، وكل ما وقع عليه حد فهو خلق الله عزّ وجل، واعلم أنّ كل ما أوجدتك الحواس فهو معنى مدرك للحواس، وكل حاسة تدل عل ما جعل الله عزّ وجل لها في إدراكها، والفهم من القلب بجميع ذلك كله، واعلم أنّ الواحد الذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديد خلق خلقاً مقدراً بتحديد وتقدير، وكان الذي خلق خلقين اثنين: التقدير والمقدر، وليس في كل واحد منهما لون ولا وزن، ولا ذوق، فجعل أحدهما يدرك بالآخر وجعلهما مدركين بنفسهما، ولم يخلق شيئاً فرداً قائماً بنفسه دون غيره للذي أراد من الدلالة على نفسه واثبات وجوده فالله تبارك وتعالى فرد واحد لا ثاني معه يقيمه، ولا يعضده، ولا يكنه، والخلق ممّا يمسك بعضه بعضاً بإذن الله تعالى ومشيئته، وإنّما اختلف الناس في هذا الباب حتى تاهوا وتحيّروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة في وصفهم الله تعالى بصفة أنفسهم، فازدادوا من الحق بعداً، ولو وصفوا الله عزّ وجل بصفاته،

____________________

(1) تحف العقول (ص 527).

١١٢

ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين، ولما اختلفوا، فلمّا طلبوا من ذلك ما تحيروا فيه، ارتبكوا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم... )

س 16: ( أشهد أنّه كما وصفت، ولكن بقيت لي مسألة... ).

( سل عمّا أردت... ).

( أسألك عن الحكيم في أي شيء هو؟ وهل يحيط به شيء؟ وهل يتحوّل من شيء إلى شيء؟ أو به حاجة إلى شيء...؟ ).

ج 16: أخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه، فإنّه مَن أغمض ما يرد على الخلق في مسائلهم، وليس يفهم المتفاوت عقله، العازب حلمه، ولا معجز عن فهمه أولو العقل المنصفون، أمّا أول ذلك فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول: يتحول إلى ما خلق لحاجة إلى ذلك، ولكنّه عزّ وجل لم يخلق شيئاً لحاجة ولم يزل ثابتا لا في شيء، ولا على شيء إلاّ أنّ الخلق يمسك بعضه بعضاً، ويدخل بعضه في بعض، ويخرج منه،

والله جلّ وتقدّس بقدرته يمسك ذلك كله، وليس يدخل في شيء ولا يخرج منه، ولا يؤوده حفظه، ولا يعجز عن إمساكه، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك؟ إلاّ الله عزّ وجل، ومن أطلعه عليه من رسله، وأهل سره، والمستحفظين لأمره وخزانه، القائمين بشريعته، وإنّما أمره كلمح البصر أو هو أقرب، إذا شاء شيئا فإنّما يقول له( كن فيكون ) بمشيئته وإرادته وليس شيء أقرب إليه من شيء، ولا شيء أبعد منه من شيء... أفهمت يا عمران؟... ).

( نعم يا سيدي... ).

إنّ الإنسان مهما أوتي من علم فهو عاجز عن معرفة نفسه وما فيها من الأجهزة الدقيقة المذهلة، فكيف ليعرف أو يحيط علماً بالخالق العظيم، مبدع الأكوان، وواهب الحياة، يقول ابن أبي الحديد:

فيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر عليلا

فكري كلّما دان شبراً منك راح ميلا

أنت حيّرت ذوي اللب، وبلبلت العقولا

إنّ فكر الإنسان محدود فكيف يعرف حقيقة الله تعالى، نعم عرفناه وآمنّا به بمخلوقاته، فكل ذرّة في هذا الوجود تنادي بوجود الخالق العظيم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماء والأرض.

١١٣

إسلام الصابئ:

ولمّا رأى عمران الصابئ الطاقات الهائلة من العلم التي يتمتع بها الإمامعليه‌السلام ، والتي منها أجوبته الحاسمة من أعمق المسائل الفلسفية التي لا يهتدي لحلّها إلاّ أوصياء الأنبياء الذين منحهم الله العلم وفصل الخطاب، أعلن عمران إسلامه وطفق يقول: ( أشهد أنّ الله تعالى على ما وصفت، ووحدت، وأشهد أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله عبده المبعوث بالهدى، ودين الحق... ). ثم خرّ ساجداً لله تعالى وأسلم، وبهر العلماء والمتكلمون من علوم الإمام، ومواهبه وعبقرياته، وراحوا يحدثون الناس عن فضل الإمام وسعة علومه، وانصرف المأمون وهو غارق بالألم، قد أترعت نفسه بالحقد والحسد للإمام:

خوف محمد على الإمام:

وخاف عمّ الإمام محمد بن جعفر عليه من المأمون، وكان حاضرا في المجلس، ورأى كيف تغلب على عمران الصابئ الذي هو في طليعة فلاسفة العصر، فاستدعى الحسن بن محمد النوفلي، وكان من أصحاب الإمام فقال له: ( يا نوفلي أما رأيت ما جاء به صديقك - يعني الإمام -؟

لا والله ما ظننت أنّ علي بن موسى الرضا خاض في شيءٍ قط، ولا عرفناه به، إنّه كان يتكلّم بالمدينة، أو يجتمع إليه أصحاب الكلام؟...

( وراح النوفلي يعرفه بعلم الإمام وفضله قائلاً: ( قد كان الحجاج يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم فيجيبهم، وربّما كلم مَن يأتيه يحاججه... ).

وراح محمد يبدي مخاوفه من المأمون على ابن أخيه قائلاً: ( إنّي أخاف عليه أن يحسده هذا الرجل فيسمّه أو يفعل به بليّة، فأشر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء... ).

وكان النوفلي يظن خيراً بالمأمون، ولا يخاف منه على الامام، فقال لمحمد: ) ما أراد الرجل - يعني المأمون - إلاّ امتحانه ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه؟... ).

ولم يقنع محمد بكلام النوفلي، فقد كان يظن السوء بالمأمون وراح يقول له: ( قل له: إنّ عمّك قد كره هذا الباب، وأحب أن تمسك عن هذه الأشياء

١١٤

لخصال شتّى... ).

وكان عمّ الإمام مصيباً في حدسه، عالماً بما تكنّه الأسرة العباسية من العداء والحقد لأهل البيتعليهم‌السلام ، وقد أثارت أسئلة الصابئ وإسلامه على يد الإمام أحقاد المأمون فقدم اغتيال الإمام كما سنوضّح ذلك في غضون هذا الكتاب.

ونقل النوفلي كلمات محمد إلى الإمامعليه‌السلام فشكره على ذلك، ودعا له بالخير.

تكريم الإمام لعمران:

وكسب الإمامعليه‌السلام في مناظرته إسلام عمران الذي هو في طليعة علماء عصره، فقد بعث خلفه، فلمّا مثل عنده رحّب به وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم، ودعا له بكسوة فخلعها عليه وأعطاه عشرة آلاف درهم، ففرح عمران بذلك وأخذ يدعو للإمام ويشكره على ذلك قائلاً: ( جُعلت فداك حكيت فعل جدّك أمير المؤمنين عليه السلام ).

وجعل عمران يتردد على الإمام ويكتسب من فيض علومه وصار بعد ذلك فيما يقول المؤرّخون داعية من دعاة الإسلام، وجعل المتكلمون من أصحاب المقالات والبدع يفدون عليه، ويسألونه عن مهام المسائل وهو يجيبهم عنها، حتى اجتنبوه، وأوصله المأمون بعشرة آلاف درهم، كما أعطاه الفضل بن سهل مالاً، وولاه الإمام على صدقات بلخ فأصاب الرغائب(1) .

أسئلة سليمان المروزي:

أمّا سليمان المروزي فكان متضلّعاً بالفلسفة، ومتمرسا في البحوث الكلامية وكان يعد في طليعة علماء خراسان، وقد انتدبه المأمون لامتحان الإمام الرضاعليه‌السلام وقد قابله بحفاوة وتكريم، وقال له: إنّ ابن عمي علي بن موسى الرضا، قدم علي من الحجاز، وهو يحب الكلام وأصحابه، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته... ).

وخاف سليمان من ذلك، فقد ظن أنّ الإمام سوف يعجز عن أجوبة مسائله فيحقد عليه العلويون، وراح يعتذر من المأمون قائلاً:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 168 - 178، وذكر الطبرسي ما يقرب من ذلك في الاحتجاج، والمجلسي في البحار، والحسن بن شعبة في تحف العقول.

١١٥

( إنّي أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم، فينتقص عند القوم إذا كلّمني، ولا يجوز الانتقاص عليه... ).

وتعهّد له المأمون، ووعده أن لا يصيبه أي أذى أو مكروه قائلاً: ( إنّما وجهت إليه لمعرفتي بقوتك، وليس مرادي إلاّ تقطعه عن حجّة واحدة فقط... ).

وهذا الكلام يدلل على سوء ما يضمره المأمون للإمام، وما يكنّه له من الحقد والعداء، واطمأن سليمان، من أي اعتداء عليه، وراح يقول للمأمون: ( حسبك يا أمير المؤمنين، اجمع بيني وبينه، وخلّني والذم... ).

ووجّه المأمون في الوقت رسوله إلى الإمام يطلب منه الحضور لمناظرة سليمان فأجابه الإمام إلى ذلك، وحضر معه وفد من أعلام أصحابه ضم عمران الصابئ الذي أسلم على يده وجرى حديث بينه وبين سليمان حول البداء، فأنكره سليمان، وأثبته عمران، وطلب سليمان رأي الإمام فيه فأقره، واستدل عليه بآيات من الذكر الحكيم، والتفت المأمون إلى سليمان فقال له: سل أبا الحسن عما بدا لك وعليك بحسن الاستماع والإنصاف، ووجه سليمان الأسئلة التالية للإمامعليه‌السلام :

س 1: ( ما تقول فيمَن جعل الإرادة اسماً وصفة مثل حي، وسميع، وبصير وقدير؟... ).

ج 1: إنّما تقول: حدثت الأشياء واختلفت لأنّه شاء وأراد، ولم تقولوا: حدثت الأشياء واختلفت لأنّه سميع بصير، فهذا دليل على أنّهما - أي الإرادة والمشيئة - ليستا مثل سميع، ولا بصير، ولا قدير.

وانبرى سليمان قائلاً: ( فإنّه لم يزل مريداً... ).

ورد عليه الإمام: ( يا سليمان فإرادته غيره؟... ).

( نعم... ).

وذهب سليمان إلى التعدد مع أنّ الله تعالى متحد مع إرادته، وأبطل الإمام شبهته قائلاً: ( قد أثبت معه شيئاً غيره لم يزل؟... ).

( ما أثبت... ).

١١٦

( أهي - أي الإرادة - محدثة؟... ).

( لا ما هي محدثة... ).

وضيق الإمام على سليمان الخناق، وراحت أقواله تتناقض فتارة يقول بقدم الإرادة، وأخرى يقول بحدوثها، فصاح به المأمون، وطلب منه عدم المكابرة، والإنصاف في حديثه قائلاً: ( عليك بالإنصاف، أما ترى من حولك من أهل النظر؟. )

والتفت المأمون إلى الإمام قائلاً: ( كلّمه يا أبا الحسن، فإنّه متكلّم خراسان ).

وسأله الإمام قائلاً: ( أهي محدثة؟... ).

فأنكر سليمان حدوث الإرادة، فردّ عليه الإمام: ( يا سليمان هي محدثة، فإنّ الشيء إذا لم يكن أزلياً كان محدثاً، وإذا لم يكن محدثاً كان أزلياً... ).

وانبرى سليمان قائلاً:

( إرادته - أي الله - منه؟ كما أنّ سمعه وبصره وعلمه منه ).

وأبطل الإمام عليه قوله، وقائلاً: ( فأراد نفسه؟... ).

( لا... ).

وأخذ الإمام يفند مقالته قائلاً له: ( فليس المريد مثل السميع والبصير ).

وراح سليمان يتخبّط خبط عشواء فقد ضيّق الإمام عليه، وسد كل نافذة يسلك منها، قائلاً: ( إنّما أراد نفسه، كما سمع نفسه، وأبصر نفسه، وعلم نفسه... ).

وانبرى الإمام فأبطل مقالته، قائلاً له: ( ما معنى أراد نفسه؟ أراد أن يكون شيئاً، وأراد أن يكون حياً، أو سميعاً، أو بصيرا أو قديراً؟... ).

ولم يدر سليمان ماذا يقول، فأجاب: ( نعم... ).

١١٧

فقال له الإمام: ( أفبإرادته كان ذلك؟... ).

( نعم... )

وطفق الإمام يبطل مقالته، ويبدي ما فيها من التناقض قائلاً: ( فليس لقولك: أراد أن يكون حياً سميعاً، بصيراً معنى، إذا لم يكن ذلك بإرادته؟... ).

والتبس الأمر على سليمان، وراح يقول: ( بلى قد كان ذلك بإرادته... ). وعجّ المجلس بالضحك، وضحك المأمون والرضاعليه‌السلام من تناقض كلام سليمان، والتفت الإمام إلى الجماعة، وطلب منهم الرفق بسليمان، ثم قال له: ) يا سليمان، فقد حال - أي الله تعالى - عندكم عن حاله وتغير عنها، وهذا ما لا يوصف الله به... ).

وبان العجز على سليمان، وانقطع الكلام، والتفت الإمام إليه ليقيم عليه الحجة قائلاً: ( يا سليمان أسألك عن مسألة...؟ ).

( سل جعلت فداك... ).

( اخبرني عنك وعن أصحابك تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون؟ أو بما لا تفقهون، ولا تعرفون... ).

( بل بما نفقه ونعلم... ).

وأخذ الإمام يقيم الحجّة والبرهان على خطأ ما ذهب إليه سليمان قائلاً: ( فالذي يعلم الناس أنّ المريد غير الإرادة، وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل قولكم: إنّ الإرادة والمريد شيء واحد... ).

وطفق سليمان قائلاً: ( جعلت فداك، ليس ذلك منه على ما يعرف الناس، ولا على ما يفقهون؟ ).

واندفع الإمام يبطل ما ذهب إليه قائلاً: ( فأراكم ادعيتم علم ذلك بلا معرفة، وقلتم: الإرادة كالسمع والبصر إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف، ولا يعقل... ).

وحار سليمان ولم يطق جواباً أمام هذه الطاقات الهائلة من العلم التي يملكها

١١٨

الإمامعليه‌السلام ، واستأنف الإمام حديثه ليتم عليه الحجة قائلاً: ( يا سليمان هل يعلم الله جميع ما في الجنة والنار؟... ).

وأسرع سليمان قائلاً: ( نعم ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( أفيكون ما علم الله تعالى أنه يكون من ذلك؟... ).

( نعم... ).

( فإذا كان حتى لا يبقى منه شيء، إلاّ كان يزيدهم أو يطويه عنهم؟... )

فأجاب سليمان: ( بل يزيدهم... ).

وأبطل الإمام قوله: ( فأراه في قولك: قد زادهم ما لم يكن في علمه، أنّه يكون... ).

وطفق سليمان يقول: ( جعلت فداك فالمريد لا غاية له... ).

ومضى الإمام يفنّد شبه سليمان قائلاً:

( فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما إذا لم يعرف غاية ذلك وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما، لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون، تعالى الله عزّ وجل عن ذلك علواً كبيراً... ).

وراح سليمان يعتذر ويوجه ما قاله: ( إنّما قلت: لا يعلمه، لأنه لا غاية لهذا، لان الله عزّ وجل وصفهما بالخلود، وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً... ).

وراح الإمامعليه‌السلام يفنّد شبهه وأوصافه قائلاً: ( ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم؛ لأنّه قد يعلم ذلك، ثم يزيدهم ثم لا يقطعه عنهم، وكذلك قال الله عزّ وجل في كتابه:( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) (1) وقال لأهل الجنّة:( عَطَاءً غَيْرَ

____________________

(1) سورة النساء / آية 56.

١١٩

مجذوذ ) (1) وقال عزّ وجل:( وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) (2) فهو عزّ وجل يعلم ذلك لا يقطع عنهم الزيادة... أرأيت ما أكل أهل الجنة، وما شربوا يخلف مكانه؟... ).

( بلى... ).

( أفيكون يقطع ذلك عنهم، وقد أخلف مكانه؟... ).

( لا... ).

ومضى الإمامعليه‌السلام يقرّر ما ذهب إليه قائلاً: ( فكذلك كلما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم... ).

وراح سليمان يتمسك بالشبه والأوهام ثم يزيله عنها هذه الحجج البالغة التي أقامها الإمام قائلاً: ( بلى يقطعه عنهم، ولا يزيدهم... ).

وانبرى الإمام فأبطل ذلك بقوله: ( إذا يبيد فيها، وهذا يا سليمان إبطال الخلود، وخلاف الكتاب؛ لأنّ الله عزّ وجل يقول:( لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد ) (3) .

ويقول عزّ وجل: (عطاء غير مجذوذ) ويقول عزّ وجل:( وما هم عنها بمخرجين ) (4).

ويقول عزّ وجل:( خالدين فيها أبداً ) (5)

ويقول عزّ وجل:( وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) .

ووجم سليمان، وحار في الجواب، وراح يسد عليه كل نافذة يسلك فيها لإثبات شبهة قائلاً له: ( يا سليمان ألا تخبرني عن الإرادة أفعل هي أم غير فعل...؟ ).

( بل هي فعل... ).

ورد الإمام عليه: ( فهي محدثة لأنّ الفعل كله محدث... ). إنّ كل ممكن معلول ومصنوع وحادث إمّا واجب الوجود تعالى فهو عارٍ عن

____________________

(1) سورة هود / آية 108

(2) سورة الواقعة / آية 33.

(3) سورة ق / آية 35.

(4) سورة الحجر / آية 48.

(5) سورة البينة / آية 8.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

ذئاب الاستعمار اليوم مع العرب، وخصوصاً في فلسطين المجاهدة المكلومة.

قتل المنصور (محمدَ بن عبد الله الحسني الذي غضب لمـَّا حبس المنصور ١١ رجلاً من بني الحسن في سجن ضيق حتّى ماتوا جميعاً، وقام في المدينة ضدَّ المنصور، وكذلك قام أخوه إبراهيم بن عبد الله بالبصرة، فقتل)(١) .

وقد كان المنصور (بايع محمد بن عبد الله الحسني بالخلافة مرَّتين، وكذلك بايعه إبراهيم الإِمام وأبو العبَّاس السفَّاح. إِحداهما بالمدينة، والأخرى بمكَّة في المسجد الحرام. فلمَّا خرج محمد من المسجد أَمسك له المنصور بركاب دابته، وقال له: أَمَا إنَّه إِنْ أفضى إليك هذا الأمر، نسيت لي هذا الموقف ولم تعرفه لي)(٢) . ولكن التقادير قد عاكست محمداً، وأفضت بذلك الأمر إلى المنصور الذي نسي أو تناسى ما كان في عنقه من البيعة الثنائية إلى محمد هذا. وبعبارة أخرى، راح ينكث بيعته لمحمد، ويتعمَّد قتله وقتل بقية الحسنيِّين بأنواع القتل الفظيع.

يقول ابن الأثير: (لمَّا أُتي ببني الحسن، نظر المنصور إلى محمد بن إبراهيم بن الحسن، فقال: أنت الديباج الأصفر؟ قال: نعم. قال: أمَا والله، لأقتلنك قتلة ما قتلتها أَحداً من أهل بيتك، ثُمَّ أمر به، فبني عليه إسطوانة وهو حيٌّ، فمات فيها)(٣) .

وهكذا كان مَن تخلَّف بعد المنصور؛ فإنَّهم تفنَّنوا بالوقيعة والقتل لأبناء عمِّهم العلويِّين، فدسُّوا السمَّ للإمام الرضا وأَبيه وابنه الجواد - على قولٍ، في حين أنّ الذي سمَّ الرضا كان يُحبُّ العلويِّين كثيراً ويكرمهم، وقد يكون صادقاً في حبِّه إِلاّ أنّ حبَّ المـَلك - الذي قتل في سبيله أخاه - قد غلب على ذلك الحب، وأزاله من قلبه.

وقتلوا أَيضاً الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن السبط في (فخ) بين مكَّة والطائف. (ظهر الحسين هذا سنة ١٦٩ هـ بمدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكان معه جماعة من الطالبيّين، وأشتدَّ أمره وجرى بينه وبين عامل موسى الهادي العبّاسي على المدينة

____________________

(١) الصيرفي، منقريوش، تاريخ دول الإسلام، ج١، ص٨٠.

(٢) مقاتل الطالبيِّين، ص١٤٣، و١٤٥، و٢٠٣.

(٣) إِبن الأثير، ج٥، ص١٩٥، والمقاتل الطالبيِّين، ص١٤٠.

١٦١

قتالٌ عظيم، فانهزم العامل، وبايع الناس الحسين على كتاب الله وسنة رسوله للمرتضى من آل محمد. وأقام الحسين بالمدينة يتجهَّز، فجاء جماعة من العبَّاسيِّين والقوَّاد إِلى الحج، وحاربوه يوم التروية، فقتلوه وأصحابه المخلصين، وفرَّ الباقون، وكان مقتلهم بموضع يقال له: (وج). وفي ذلك يقول بعضهم:

تُركوا بوجٍّ غدوة

في غير منزلة الوطن

ولقد أرسل موسى بن عيسى العبَّاسي رجلا إِلى عسكر الحسين هذا؛ حتّى يراه ويخبره عنه، فمضى الرجل وتعرَّف عسكر الحسين، فرجع، وقال لموسى بن عيسى: ما أظنُّ القوم إِلاَّ منصورين، فقال: وكيف ذاك يا ابن الفاعلة؟ قال الرجل: لأنِّي ما رأيت فيهم إِلاّ مصلِّياً أو مبتهلاً أو ناظراً في مصحف أو مُعدَّاً للسلاح. فضرب موسى يداً على يد وبكى، ثُمَّ قال: هم والله أكرم خلق الله، وأحقُّ بما في أيدينا منَّا، ولكن الملك عقيم، لو أنَّ صاحب هذا القبر (يعني النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم) نازعنا الملك، ضربنا خيشومه بالسيف)(١) .

وقتلوا يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن السبط، وأخاه إِدريس الذي فرَّ بعد مقتل أخيه إِلى بلاد فاس وطنجة، فأرسلوا إليه مَن سمَّه(٢) .

(ظهر يحيى المذكور بالديلم سنة ١٧٦ هـ واشتدَّت شوكته فيها، فجهَّز الرشيد إليه الفضل بن يحيى البرمكي، فخدعه بالأمان. ولمَّا وصل يحيى إِلى بغداد، أخذ الرشيد صكَّ الأمان من يحيى ومزَّقه، ثُمَّ حبس يحيى في حبس مظلم ضيق، وكان يخرجه كلِّ يوم ويضربه مائة سوط، وينقص مِن طعامه وشرابه حتّى مات، وقيل: أنَّه دسَّ إِليه في الليل مَن خنقه، وقيل: أنَّه سقاه سمَّاً،

____________________

(١) تاريخ أبي الفداء، ج٢، ص١١، ومقاتل الطالبيِّين، ص٣٠٣.

(٢) بلغ الرشيد خبر إتِّباع البربر لإِدريس هذا، فغمَّه، وشكى ذلك إِلى يحيى بن خالد البرمكي، فقال يحيى: أنا أكفيك أمره، فحمل سليمان بن جرير - أحد متكلمي الزيدية

البترية - على سمِّه، ووعده بكلِّ ما أحبَّ على أن يحتال لإِدريس، فيقتله. فذهب سليمان واحتال عليه وسمَّه. انظر ذلك مفصَّلاً: مقاتل الطالبيِّين، ص٣٢٦.

١٦٢

وقيل: أنّه أجاع السباع، ثُمَّ ألقاه إِليها، فأكلته. ولقد ظهرت ليحيى مكرمة عظيمة أَمام الرشيد حينما تناظر يحيى مع عبد الله بن مصعب الزبيري وحلفه يحيى يميناً عظيمة، فما برح الزبيري من موضعه حتّى أصابه الجذام؛ فتقطَّع ومات. ولمَّا وضعوه في قبره، انخسف وخرجت منه غبرة عظيمة، فصاح الفضل بن الربيع: التراب، التراب. فجعلوا يطرحونه على القبر وهو يهوي، فدعا بأحمال الشوك فطرحوها فهوت. فأمر أن يُسقف القبر بالخشب ومضى منكسراً)(١) .

وقتلوا غير هؤلاء من آل أبي طالب، وطاردوهم في البلدان حتّى أنّ ابن المعتز العبَّاسي (كان يقول: إِنْ ولاَّني الله، لأفنينَّ جميع آل أبي طالب. فبلغ ذلك وِلْد عليّ، فكانوا يدعون عليه)(٢) .

وكان أشدَّ العبَّاسيِّين عداوة - بعد المنصور والرشيد - المتوكِّل؛ (فإِنّه أمر سنة ٢٣٦ هـ بهدم قبر الحسين بن عليّ(رض) وهدم ما حوله من المنازل، ومنع الناس من إِتيانه. وكان المتوكِّل شديد البغض لعليِّ بن أبي طالب ولأهل بيته. وكان من جملة ندمائه عبادة

المخنث؛ كان يشدُّ على بطنه مخدة ويكشف رأسه - وهو أصلع - ويرقص، ويقول: قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين (يعني: عليَّاً)، والمتوكِّل يشرب ويضحك. وفعل ذلك يوماً بحضرة المنتصر، فقال له: يا أمير المؤمنين، إِنَّ عليَّاً ابن عمِّك، فكلْ أنت لحمه إذا شئت، ولا تُخلِ هذا الكلب وأمثاله يطمع فيه. فقال المتوكِّل للمغنين: غنُّوا:

غار الفتى لابن عمه

رأس الفتى في حَرِ أمه

وكان يجالس مَن اشتهر ببغض عليّ؛ مثل: ابن الجهم الشاعر، وأبي السمط من ولد مروان بن أبي حفصة)(٣) .

(ولمـَّا هدم المتوكِّل قبر الحسين(رض)، قال الشاعر المعروف بالبسَّامي:

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين، أبو الفرج، ص٣١٨؛ ( بتلخيص).

(٢) تاريخ أبي الفداء، ج٢، ص٢٩.

(٣) تاريخ أبي الفداء، ج٢، ص٣٨؛ (بتلخيص).

١٦٣

تاالله إِنْ كانت أُميَّة قد أتت

قتل ابن بنت نبيِّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله

هذا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما(١)

ولولا نُصب المتوكِّل، لَمَا (سَلَّ لسان الإِمام في اللغة ابن السكِّيت من قفاه حتّى مات من ساعته؛ لأنَّه غضَّ من ابني المتوكِّل وذكر الحسنين بما هما أهله)(٢) . وقد بلغ النصب بالمتوكِّل إِلى أنْ (كتب سنة ٢٣٦ هـ إِلى مصر: بإِخراج آل أبي طالب منها. فأُخرجوا وقدموا العراق، فاخرجوا منها إِلى المدينة. ولمـَّا مات المتوكِّل، قام من بعده ابنه محمد المستنصر(٣) ، فكتب إِلى مصر: بأن لا يقبل علوي ضيعة ولا يركب فرساً، وأنْ يمنعوا من اتخاذ العبيد. ومَن كان بينه وبين أحد من الطالبيِّين خصومة، قُبِل قول خصمه من سائر الناس فيه، ولم يُطالب ببيِّنة. وكتب إِلى العمال بذلك)(٤) .

وأنت تعلم أَنَّ الضغط كثيراً ما يُولد الانفجار، ويوجب كراهية عيش الذلَّة، ويُحبب الموت تحت ظلال الأسنَّة. فمن الطبيعي آنئذ أن ينهض الشيعة وأن ينفجر بركان غيظهم المختبئ في الصدور. ومن الطبيعي أَيضاً أن يبالغ العبَّاسيُّون في مطاردتهم وترويع أئمَّتهم الأَطهار؛ ولو كانوا في عزلة عن الخلق مُتَّجهين نحو عبادة الخالق ومناجاته عزَّ اسمه.

(وجَّه المتوكِّل إِلى عليّ الهادي بعدَّة من الأتراك ليلاً، فهجموا عليه في منزله على غفلة، فوجدوه وحده في بيت مغلق وعليه مدرعة من شعر وعلى رأسه ملحفة من صوف، وهو مستقبل القبلة يترنَّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد،

____________________

(١) تاريخ أبي الفداء، ج٢، ص٦٨.

(٢) وفيَّات الأعيان، ج٢، ص٣١٠، وتاريخ أبي الفداء، ج٢، ص٤٠.

(٣) الموجود في التاريخ أنَّ الذي قام بعد المتوكِّل هو إبنه المسمَّى بالمنتصر، لا المستنصر، وهو - كما مرَّ في معارضته لأبيه في استماع قول عبادة الأثيم - من محبِّي سيِّد الطالبيِّين عليّ(ع)، فما السرُّ في كتابته هذه إِلى مصر بشأن الطالبيِّين؛ هل هو قيامه مقام أبيه أم غيره؟ الله أعلم.

(٤) خطط المقريزي، ج٤، ص١٥٣.

١٦٤

ليس بينه وبين الأرض بساط إِلا ّالرمل والحصى.

فأخذ على الصورة التي وُجد عليها في جوف الليل، فمثل بين يدي المتوكِّل؛ والمتوكِّل يستعمل الشراب وفي يده كأس. فلمَّا رآه، أعظمه وأجلسه إِلى جانبه، ولم يكن في منزله شيء ممَّا قيل للمتوكِّل عنه، ولا حجَّة يتعلَّل عليه بها، فناوله المتوكِّل الكأس، فقال: ياأمير المؤمنين: ما خامر لحمي ودمي قط، فأعفاه منه)(١) .

نعم، كان من الطبيعي أن يبالغ العبَّاسيِّون في ذلك؛ لأنَّ غايتهم الوحيدة، الإِمرة والتربُّع على أسرة المـُلك، وهي - في الغالب - إذا خامرت قلباً نزعت من صاحبه الأناة والرحمة، ولوَّثته بموبقات الأعمال في سبيل الوصول إليها.

ولذا قَتل بعض العبَّاسيِّين في سبيلها أخاه، وبعضٌ عمَّه، وبعض أباه؛ ولذا نقض كثير منهم لأجلها العهود ونكث الأيمان، وقرَّب الفاسق وأبعد الناسك، وأغدق عطاءه لمـَن انتقد في مجلسه زعماء العلويِّين، ولفَّق له الأدلَّة على أنَّ العبَّاس أحقَّ بالخلافة من ابن أخيه عليّ (عليهما السلام)؛ وأنَّها وراثية والعبَّاس أولى بالتراث وأحقَّ به.

ولا أخال أنَّ أحداً من المسلمين يعتقد أنَّ الخلافة وراثية؛ لأنَّهم على الغالب بين قائل: إِنَّها لا تكون إِلا بالنصِّ والأفضلية. وقائل: إنَّها تكون بالانتخاب والاختيار من الأمَّة، أو مِن خليفة لآخر، أو من خمسة من أهل الحلِّ والعقد. لكن للشعراء الأقدمين مذاهب طريفة وطرقاً خاصَّة في الكذب والتزلُّف، كانوا يسلكونها للتوصُّل إِلى مجالس الأمراء والارتزاق منهم ومن ولاتهم.

وإِليك هذه القصِّة عن أبان بن عبد الحميد، فإِنَّها تُطلعك على طرق أُولئكم الشعراء وعلى نفوسهم الواطئة الأمَّارة بالسوء وعلى رخص الضمير والوجدان، وتريك كرم الرشيد في سبيل الدعاية ضدَّ أَهل البيت العلوي، وتبرهن

____________________

(١) وفيَّات الأعيان، ج١، ص٣٢٢، وتاريخ أبي الفداء، ج٢، ص٤٤.

١٦٥

لك على نُصب بعض البرامكة الذين يعدُّهم البعض من الكتَّاب والمؤرِِّخين في زمرة الشيعة الموالين لآل علي(ع).

قال أبو بكر الصولي: (عاتب أبانُ البرامكة في إِعطاء الرشيد الأموال للشعراء وفقره مع خدمته لهم وموضعه منهم، فقال له الفضل: إِن سلكت مذهب مروان ابن أبي حفصة (وكان من مذهبه هجاء آل أبي طالب وذمِّهم) أوصلتَ شعرك وبلَّغتك إِرادتك. قال أبان: والله، ما استحل ذلك. فقال له الفضل: كلُّنا يفعل ما لا يحلُّ له، ولك بنا وبسائر الناس أسوة. فقال أبان:

نشدتُ بحقِّ الله مَن كان مسلماً

أَعُمُّ بما قد قلته العجم والعرب

أعَمُّ نبيِّ الله أقرب زلفة

إِليه أم ابن العمِّ في رتبة النسب؟

وأيُّهما أولى به وبعهده

ومَن ذا له حقُّ التراث بما وجب؟

فإن كان عبَّاس أحقُّ بتلكمُ

وكان عليٌّ بعد ذاك على سبب

فأبناء عبَّاس هُمُ يرثونه

كما العمُّ لابن العمِّ في الإرث قد حجب

... إِلى آخر الأبيات، ثُمَّ جاء بها إِلى الفضل، وقال له: قد اقترحت، فوفِّر عليَّ الجاري. فقال الفضل: ما بقيت. وما يرد على أمير المؤمنين اليوم شيء أعجب إليه من أبيانك. فركب أبان وأنشدها الرشيد، فأمر له بعشرين ألف درهم. وأتصل به بعدها(١) .

____________________

(١) الأوراق، ص١٤. وذكر ذلك أيضاً أبو الفرج، الأغاني، ج٢٠، ص٧٥.

١٦٦

الفصل الخامس(* )

براءة الشيعة من الغلو والغلاة

١ - معنى الغلو وتاريخه. ٢ - بعض أقوال الغلاة. ٣ - كلمات أئمَّة الشيعة في البراءة من الغلاة. ٤ - السرُّ في في عدِّ هذه الفِرق الغالية من الشيعة. ٥ - القرامطة، وموجز تاريخهم. ٦ - كلمة في الإسماعيلية والغاية من الطعن في الفاطميِّين ونسبهم.

١ - معنى الغلو وتاريخه:

(قال الله سبحانه وتعالى:(لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ) .

قالوا في تفسيره: أي لا تجاوزوا الحدَّ؛ بأن ترفعوا عيسى إِلى أن تدَّعوا له الإِلهية. يقال: غلا في الدين غلواً، من باب قعد؛ تصلّب وتشدَّد حتَّى تجاوز الحدَّ والمقدار (...).

وفي الحديث:((كونوا النمرقة الوسطى؛ يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي)) . فالغالي: مَن يقول في أهل البيت ما لا يقولون في أنفسهم؛ كمن يدَّعي فيهم النبوة والإِلهية. والتالي: المرتاد؛ يريد الخير ليبلغه ويؤجر عليه.

وفيه:((إنَّ فينا أهل البيت، في كلِّ خلف، عدولاً ينفون عنَّا تحريف الغالين)) أي الذين لهم غلوٌ في الدين)(١) .

وقد تكرَّر في الفصول السابقة أنَّ عقيدة التشُّيع التي غرسها (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حقل الإسلام الخصيب، وتعهَّدها في حياته الثمينة حتّى نمت وتدَّين بها رهط من أجلِّة الصحابة على ما حدَّدها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ من الموالاة لأخيه عليّ(ع) والتمسُّك بالثقلين؛ الكتاب والعترة، وما شاكل ذلك.

وبقيت على صبغتها وحدِّها الذي وضعت فيه، لا تتعدَّاه ولا تتجاوزه أبداً، إِلى أن تولَّى أمير المؤمنين منصب الإمامة، فظهر في أيَّامه قومٌ أرادوا إِخراجها من قالب

____________________

(*) نُشر بعضه في: مجلَّة (الحضارة) النجفية الغرَّاء، مجلَّد ١.

(١) مجمع البحرين في اللُّغة، ص٦٣؛ [بتلخيص].

١٦٧

(الموالاة والتمسُّك) إِلى قالب التأليه لعليّ(ع) (ولمَّا بلغه عنهم ذلك، أنكره أشدَّ الإنكار، وحرق بالنار جماعة ممَّن غلا فيه)(*) .

والظاهر أنَّ عبد الله بن سبأ لم يكن وقتئذ على هذه المقالة الغالية، ولا شمله الإِحراق، وهذا ما يراه ابن أبي الحديد بقوله: (استترت هذه المقالة سنة أو نحوها، ثُمَّ ظهر عبد الله بن سبأ(...) بعد وفاة على أمير المؤمنين(ع)، فأظهرها، وأتَّبعه قوم فسُموا: السبئيَّة)(١) .

ويوافقه الشهرستاني بقوله: (وإِنَّما أظهر ابن سبأ هذه المقالة بعد انتقال

عليّ عليه السلام)(٢) . ولكن الاسترآبادي يخالفهما بما رواه من: (أنّ عبد الله بن سبأ كان يدَّعي النبوة ويزعم أنَّ أمير المؤمنين(ع) هو الله تعالى، فبلغ أمير المؤمنين ذلك، فدعاه، وسأله فأقر، وقال: نعم، أنت هو. فقال له أمير المؤمنين: (قد سخر منك الشيطان، فارجع عن هذا وتب، ثكلتك أمَّك. فأبى، فحبسه ثلاثة أيَّام، فلم يتب، فأحرقه بالنار)(٣) . ولا يبعد أن يكون الأرجح ما قاله ابن أبي الحديد: من أن ابن سبأ لم يشمله الإِحراق، وأنّه أظهر تلك المقالة بعد وفاة أمير المؤمنين(ع). ووافقه الشهرستاني على ذلك، وإن قال قبله: (إنَّ ابن سبأ قال لعليّ(عليه السلام): أنت أنت؛ يعني أنت الإِله. فنفاه إِلى المدائن)(٤) ولا يُنافي هذا القول قوله الأخر؛ إِذ من المحتمل قريباً أَن يكون ابن سبأ قد قال لعلي: (أنت أنت)، لكنَّه قد أخفاه في حياة عليّ(ع) أيّام منفاه وبعدها إِلى أن تُوفّي عليّ(ع)، فأظهره بعد ذلك بسنة أَو بأقل.

وعلى كلِّ حال... فإِنَّ الرجل؛ أي ابن سبأ، كان في عالم الوجود وأظهر الغلو، وإِنْ شكَّ بعضهم في وجوده وجعله شخصاً خياليَّاً شخصته الأغراض الشخصية. أمّا نحن - بحسب الاستقراء الأخير - فلا نشكُّ بوجوده وغلوِّه،

____________________

(١) شرح النهج، مجلَّد ٢، ص٣٠٩.

(٢) المِلل، مجلّد ١، ص١٠١.

(٣) منهج المقال، ص٢٠٣.

(٤) المِلل، مجلَّد ١، ص.

(*) [المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ج٢، ٣٥٠].

١٦٨

وإنَّما نشكُّ شكَّاً قويَّاً في تصوير البعض لهذا الرجل متغلِّباً على أبي ذر الغفاري(رض) حتّى قوَّله بالإشتراكية الجائرة ( ومسيطراً على عمَّار بن ياسر ورهط كبير من دهاة الصحابة (رضي الله عنهم) حتّى حملهم على خذلان عثمان(رض) والطعن عليه).

وبعبارة ثانية؛ جعلوا له قوَّة في البيان الساحر الجذَّاب فوق كلِّ قوَّة حتّى أنَّه استطاع بتلك القوَّة أن يتغلَّب على إرادة (آلهة عليّ؟) ويمنعه من قبول الصلح يوم الجمل(١) .

نعم، غلا ابن سبأ في دينه وتسرَّبت بدعته هذه إلى أفكار جماعة غير قليلة قد سُمِّيت

باسمه، وأخذت بعد ذلك بالتطوُّر السريع حتّى تجاوزت عن القول بإلهيَّة فرد من المخلوقين إلى القول بإِلهيَّة اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو أكثر من أهل

البيت (عليهم السلام)، كما تجاوزت إلى القول بإِلهية غيرهم من الناس: فالراوندية ألَّهوا المنصور العبَّاسي، والبنانية ألَّهوا بنان بن سمعان، والرزامية ألَّهوا أبا مسلم الخراساني.

وكما كان الغلو في القول بإِلهية جماعة من المخلوقين كان في القول بنبوَّة جماعة منهم بعد خاتم الأنبياء محمد (صلَّّّى الله عليه وآله وسلّم). فالخابية زعموا أنَّهم كلُّهم أنبياء، وكذلك المنصورية كما سترى بيانه. وقد حكم المقريزي: (بأنَّ الغالية ليسوا بمسلمين، ولكنَّهم أهل ردَّة وشرك)(٢) ، ومع ذلك عدَّهم في عداد الشيعة. وهكذا فعل الشهرستاني، كما سترى قريياً، وهكذا فعل ابن خلدون، رغم قوله: (وقد كفانا مؤنة الغلاة أئمَّةُ الشيعة؛ فإنَّهم لا يقولون بها ويبطلون احتجاجاتهم عليها)(٣) .

____________________

(١) انظر: تاريخ ابن خلدون، مجلَّد ٢، ومحاضرات الخضري المصري، وفجر الإِسلام، وخطط المقريزي، مجلَّد ٤، تجد كلَّ هذه الأعمال العظيمة منسوبة إلى هذا الرجل الحقير.

(٢) الخطط، مجلَّد ٤، ص١٦٤.

(٣) المقدِّمة، ص١٣٩.

١٦٩

ولا غرابة من هؤلاء الأعلام إِذا قالوا ذلك في تلك العصور السالفة التي كانت تنوء بالتعصُّبات المذهبية والنعرات الطائفية، ولكن من الغرابة جدَّاً أن يقوم رحَّالة من بلاد مصر المثقَّفة، ويقتفي (في قرن العشرين؛ الموصوف بالابتعاد عن التعصُّب، وبالتحرِّي للحقيقة؟) أثر السابقين من مؤلِّفي تلك العصور الوسطى، ويضرب على وترهم المعروف، فيقول في كلامه عن النجف الأشرف وأهلها الحاليِّين: (ومن فِرق الشيعة من يقول بأن الصحابة كلُّهم كفروا بعد موت النبيِّ؛ إِذ جحدوا إِمامة علي، وأنَّ عليَّاً نفسه كفر لتنازله لأبي بكر، لكنَّه عادله إِيمانه لمـَّا تولَّى الإِمامة؛ وهذه الإِمامية(١) . ومن الشيعة قسم أوجب النبوَّة لعليّ بعد النبي؛ فقالوا: إِنَّ الشبه بين محمد وعليّ كان قريباً لدرجة أنَّ جبريل أخطأَ، وتلك فئة الغالية أو الغلاة. ومنهم من قال بأن جبريل تعمَّد ذلك، فهو إذن ملعون كافر.

ومن الشيعة طائفة الاثني عشرية الذين يُقدِّسون الأئمَّة الاثني عشر(٢) . ومنهم: الإسماعيلية والباطنية الذين مرَّ عليهم الكلام في الشام. ثُمَّ القرامطة الذين تقوُّوا حول الخليج الفارسي، ويعرف عنهم الإباحة في النساء، وقد أحلُّوا أنفسهم من كلِّ عبادة.. وكانوا ممَّن يعملون على هدم الإسلام.

وفي مصر قام الحاكم بأمر الله بعد المعزِّ(٣) ينشر مذهب الشيعة ويدرِّسها في دار الحكمة. وكان أساسها أنَّ الشرائع خاضعة للعقل والعلم، وأنَّ الأنبياء رجال عاديُّون وغاية ما في الأمر أنَّهم فلاسفة، وقد ألَّهه الدروز، وقالوا بأنَّه رفع

____________________

(١) هذه الفِرقة من الغلاة، لا من الإِمامية، وقد عدَّهم الشهرستاني في الغلاة وأسماهم: الكاملية، كما سترى قريباً.

(٢) كان عليه - وهو في صدد الكلام عن النجف - أن ينبِّه على أنَّ النجفيِّين هم من هذه الطائفة، وعلى أنَّ النجف هي العاصمة الدينية (من عدَّة قرون) للاثني عشرية في جميع الأقطار الإِسلامية، وأن يشير إلى مشهوري علمائها ومجتهديها وأدبائها، ويذكر ما امتازت به من الصنائع وتفرَّدت به من الاجتهاد بالفقه الإسلامي وأصوله.

(٣) الذي قام بعد المعزِّ هو العزيز إِبنه، وبعده قام الحاكم، لا بعد المعزِّ.

١٧٠

إِلى السماء وسيعود لتطهير الأرض كما أسلفنا. ويرى جميع(١) الشيعة أنَّ الإِمامة ليست مصلحة عامَّة تناط باختيار الناس)(٢) انتهى.

هذه خلاصة ما نسبه رحَّالة مصر إِلى الشيعة.

نحن لا نريد أن نقنع بقول: إِنَّه أخطأ وخبط خبط عشواء، ولا أن ندع الحقيقة مغطَّاة بما حيك حولها من زخرف القول وأضاليل الكلام؛ لأنَّ مثل هذا العمل لا يقع في الغالب إِلاَّ من أُولئكم الذين لا تتوفَّر لديهم الأدلَّة ولا يستطيعون قرع الحجَّة بالحجَّة. وإِنَّما نريد أن نبحث في المواضيع المعنونة في صدر هذا الفصل، مستندين في ذلك كلِّه إلى الدليل الصريح، لا إِلى الهوى والغرض والتشهيات النفسية؛ لتظهر لك أيُّها القارئ الكريم الحقيقة بأجلى مظهر، وتحكم (حقَّاً) بخطأ الرحَّالة الذي أساء (بكلامه هذا، وبدسِّه هذه الفِرق الغالية

في الشيعة) إلى الحقِّ والحقيقة، والى الوحدة الإسلامية التي أمست اليوم هدف المصلحين من الطائفتين، وكانت من قبل هدف أجدادنا في عهد الراشدين، فجنوا منها أطيب الأثمار، فما يعيقنا نحن من الوصول إليها في هذا العصر العصيب والاجتناء منها؟ حتّى لا ينطبق علينا قول شاعر العراق:

إِنَّا بما نجني وهم فيما جنوا

بئس البنون ونِعمَّت الأجداد

ولنعد الآن إلى ما نحن بصدده، بادئين بذكر:

٢ - بعض أقوال الغلاة وعقائدهم:

الكامليَّة:

هم أصحاب أبي كامل، كفَّر جميع الصحابة، بتركهم بيعة عليّ(عليه السلام)، وطعن في عليّ أيضاً بتركه طلب حقِّه، ولم يعذره في القعود، وكان يقول بتناسخ الأرواح الإِلهية في

الأئمَّة(٣) .

____________________

(١) لا يرى جميع الشيعة هذا الرأي؛ لانَّ بعض الزيدية؛ كالسليمانية والبترية والصالحية، يوافقون السنَّة في إِناطة الإِمامة باختيار الناس، ويخالفون الشيعة في إِناطة الإِمامة بالنصِّ والأفضليَّة. انظر: مِلل الشهرستاني، ج١، ص٩٠.

(٢) الجولة، ص١٥٠.

(٣) مِلل الشهرستاني، ص١٠١، وخطط المقريزي، ج٤، ص١٧٥.

١٧١

الغرابيَّة:

زعموا أنّ جبريل أَخطأ؛ فإنَّه أُرسل إِلى عليّ، فجاء إِلى محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وجعلوا شعارهم إِذا اجتمعوا أن يقولوا: العنوا صاحب الريش؛ يعنون - لعنهم الله - جبريل (عليه السلام)(١) .

السبئيَّة:

أتباع عبد الله بن سبأ كان من اليهود، يقول في يوشع بن نون مثل قوله ذلك في

عليّ. وزعم أنَّ عليَّاً لم يقتل، وأنَّه حيٌّ لم يمت، وأنَّه في السحاب، والرعد صوته والبرق سوطه، وأنَّه ينزل إلى الأرض بعد حين(٢) . ويقول الشهرستاني: (إِنَّ السبئية أوَّل فِرقة قالت بالغيبة والرجعة، وبتناسخ الروح الإِلهي في الأئمَّة بعد عليّ) إِلى أن قال: (وهذا المعنى ممَّا كان يعرفه الصحابة، وإِن كانوا على خلاف مراده؛ فهذا عمر بن الخطَّاب(رض) كان يقول فيه - أي في عليَّ - حين فقأ عين واحد في الحرم: ماذا أقول في يد الله، فقأت عيناً في حرم الله. فأطلق عمر اسم الإِلهية عليه لمـَّا عرف منه ذلك(٣) .

المـُغيريَّة:

أصحاب المـُغيرة بن سعيد العجلي؛ كان مولى لخالد بن عبد الله القسري وادَّعى الإِمامة لنفسه، وبعد ذلك ادَّعى النبوَّة، وغلا في حقِّ عليٍّ غلواً قبيحاً لا يعتقده عاقل، وزاد على ذلك قوله بالتشبيه. ولمَّا قُتل المـُغيرة (سنة ١١٩ هـ)، اختلف أصحابه؛ فمنهم مَن قال بانتظاره ورجعته، ومنهم مَن قال بانتظار محمد بن عبد الله الخارج بالمدينة(٤) .

المنصوريَّة:

أصحاب أبي منصور العجلي. عزا نفسه إِلى محمد الباقر، فلمَّا تبرَّأ منه الباقر وطرده، زعم أنَّه هو الإِمام ودعا الناس إِلى نفسه. ولمَّا توفّي الباقر، قال: انتقلت إِليه الإِمامة، وتظاهر بذلك.. وزعم العجلي أنَّه هو الكسف الساقط من السماء، وزعم أنَّه عرج إليها ورأى معبوده، فمسح بيده رأسه، وقال له: يا بُني، انزل فبلِّغ عنِّي.

____________________

(١) انظر: خطط المقريزي، ج٤، ص١٧٥.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المِلل، ج١، ص١٠١.

(٤) انظر: المِلل، ج١، ص١٠٢.

١٧٢

وزعم أنَّ الجنَّة رجل أُمرنا بموالاته، والنار رجل أُمرنا بمعاداته، واستعمل أصحابه قتلَ مخالفيهم، وأخذ أموالهم، واستحلال نسائهم؛ وهم صنف من الخُرَّمية(١) .

البنانيّة:

أصحاب بنان بن سمعان؛ وهو من الغلاة القائلين بإِلهيَّة أمير المؤمنين (عليه السلام).. ثُمَّ ادَّعى بنان أنَّه قد انتقل إِليه الجزء الإِلهي بنوع من التناسخ ومع هذا الخزي الفاحش كتب إِلى محمد الباقر ودعاه إِلى نفسه. وفي كتابه: أسلم تسلم، وترتقي إِلى سلم. فأمر الباقر أن يأكل الرسول الكتاب الذي جاء به، فأكله، فمات في الحال. وكان اسمه عمر بن عفيف(٢) .

الخطَّابيَّة:

أصحاب أبي الخطَّاب محمد بن أبي زينب الأجدع الأسدي؛ عزا نفسه إِلى أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق، فلمَّا وقف الصادق على غلوِّه الباطل في حقِّه، تبرَّأ منه ولعنه وخبر أصحابه بالبراءة منه، وشدَّد القول في ذلك، وبالغ في التبرِّي منه واللعن عليه، فلمَّا اعتزل عنه الصادق ادَّعى الأمر لنفسه. زعم أبو الخطَّاب أنَّ الأئمَّة أنبياء، ثُمَّ آلهة. وقال بإِلهيَّة جعفر بن محمد وآبائه؛ وأنَّ الإِلهيَّة نور في النبوَّة، والنبوَّة نور في الإِمامة، ولا يغلو العالم من هذه الأنوار... وقُتل بسبخة الكوفة، ولمَّا قُتل افترقت أصحابه:

فزعمت طائفة: أنَّ الإِمام بعده بزيغ؛ كان يزعم أنَّ في أصحابه مَن هو أفضل من جبريل وميكائيل. وتسمَّى هذه الفرقة البزيغية.

وقالت فِرقة: أنَّ الإِمام بعد أبي الخطَّاب رجل يقال له: مُعمَّر، دانوا به وزعموا أنَّ الدنيا لا تفنى، واستحلُّوا الخمر والزنا وسائر المحرَّمات. وتُسمى هذه الفِرقة معمَّرية.

وأُخرى زعمت: أنَّ الإِمام بعد أبي الخطَّاب عمير بن بنان العجلي، وقالوا كما قالت الثانية إِلاَّ أنَّهم اعترفوا بأنَّهم يموتون. وكانوا قد نصبوا خيمة بكناسة الكوفة يجتمعون فيها على عبادة الصادق، فرفُع أمرهم إِلى يزيد بن عمر بن

____________________

(١) راجع: المِلل، ج١، ص١٠٣، والخطط، مجلَّد ٤، ص١٢٦.

(٢) المصدر نفسه، فراجع.

١٧٣

هبيرة، فأخذ عميراً فصليه بالكناسة. وتُسمَّى هذه الطائفة العجلية.. وقد تبرَّأ من هؤلاء كلِّهم جعفر الصادق ولعنهم(١) .

العليائية:

(أصحاب العلياء بن ذارع الدوسي، وقيل: الأسدي. كان يُفضِّل عليَّاً على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). زعم أنَّه الذي بعث محمداً وسمَّاه إِلهاً. وكان يقول بذم محمد؛ زعم أنَّه ليدعو إِلى عليّ، فدعا لنفسه. وسمَّون هذه الفِرقة الذميمة.

ومنهم مَن قال بإِلهيتهما جميعاً، ومنهم مَن يقول بإِلهيَّة خمسة أشخاص؛ وهم أصحاب الكساء، وقالوا: خمستهم شيء واحد، والروح حلَّت فيهم بالسويَّة، لا فضل لواحد على الآخر. وكرهوا أن يقولوا: فاطمة. فقالوا: فاطم. وفي ذلك يقول شاعرهم:

تولّيت بعد الله في الدين خمسة

نبياً وسبطيه وشيخاً وفاطماً(٢)

النصيرية:

أصحاب محمد بن نصير النميري، أَو الفهري، كان من أصحاب الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا. فلمَّا مات الحسن، ادَّعى وكالةً لابن الحسن الذي تقول الإِمامية بإِمامته، ففضحه الله تعالى بما أظهره من الإلحاد والغلو والقول بتناسخ الأرواح، ثُمَّ ادَّعى أنَّه رسول الله ونبيّ الله، وأنَّه أَرسله محمد بن الرضا، وجحد إِمامة الحسن العسكري وإِمامة ابنه، وادَّعى بعد ذلك الربوبية، وقال: بإِباحة المحارم.

وللغلاة أقوال كثيرة طويلة عريضة(٣) أعرضنا عن ذكرها؛ لأنَّا لسنا بصدد ذلك، وإِنَّما ذكرنا هذه النبذة المختصرة من عقائد تسع فِرق من أكبر فِرق الغلاة؛ لتقابل بما أجملناه في (الفصل الثاني)

____________________

(١) الخطط المقريزية، مجلَّد ٤، ص١٧٤، والمِلل، ج١، ص١٠٣.

(٢) مِلل الشهرستاني، ج١، ص١٠٢، وخطط المقريزي، ج٤، ص١٧٦؛ [بتلخيص وتصرُّف]. ولا يخفى ما في استشهادهما بهذا البيت؛ فإنَّه عكْس مرادهما، لأنَّه يدلَّ بصراحة على أنَّ هؤلاء لا يؤلِّهون أهل الكساء، بل يتولُّونهم بعد الله، وهذا لبُّ الإيمان، وضدِّ الغلو. وحذف التاء من لفظ فاطمة، للترخيم، كثير في كلام العرب.

(٣) شرح النهج، مجلَّد ٢، ص٣١٠.

١٧٤

من عقائد الشيعة، ويُعرف بُعد الشُقَّة، بين عقائد الغلاة وبين عقائد الشيعة، وعدم اجتماعهما في أصل من الأصول، وليُعلم أيضاً ما في نسبة الغلاة إِلى التشيَّع، وما في إِطلاق اسم الشيعة عليهم، من التسامح الفاحش، المقصود وغير المقصود.

وكيف يُعدُّ الغلاة من الشيعة؟ وقد خالفوا أصول المذهب الشيعي الأساسية، وأَنكروا أركانه القويمة حتّى تبرَّأ منهم - لأجله - الشيعة بأمر من أئمَّتهم الأطهار (عليهم السلام). وإليك:

٣ - كلمات أَئمَّة الشيعة في البراءة من الغلو والغلاة:

كان الأئمَّة من أهل البيت(ع) يدأبون في تأديب الشيعة وسائر المسلمين بآداب الإِسلام وتعاليمه، ويحثُّونهم على اتِّباع كتاب الله الكريم وسنَّة نبيِّه العظيم، ويُحذِّرونهم من أهل الزيغ والضلال، ويأمرونهم بالابتعاد عنهم، والتبرِّي منهم. وكان الشيعة يتلقّون تلك الأوامر الشريفة بالقبول والامتثال ويدوِّنونها في كتبهم حتّى تجمَّع لديهم من روايات الجرح والتعديل ما ملأ صفحات الكتب المؤلَّفة في علم الرجال، وقد حوت هذه الكتب طائفة كبيرة من أَقوال الأَئمَّة (عليهم السلام) وأقوال علماء الشيعة الأعلام في البراءة من الغلو والغلاة، ورجالات الغالية بالخصوص، اقتطفنا منها هذه الكلمات الشديدة في؛

البراءة من السبئيَّة:

الذين علمت أنَّهم أوَّل الغلاة بعد أمير المؤمنين (عليه السلام)؛

(روى أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول:((لعن الله عبد الله بن سبأ؛ إِنَّه ادَّعى الربوبية في أمير المؤمنين(ع)، وكان - والله - أمير المؤمنين عبد الله طائعاً. والويل لمـَن كذب علينا، إِنِّي ذكرت عبد الله بن سبأ، فقامت كلُّ شعرة في جسدي، لقد ادَّعى أمراً عظيماً، ماله لعنه الله؟ كان علي - والله - عبد الله صالحاً، ما نال الكرامة من الله إِلاَّ بطاعته لله ولرسوله، وما نال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)

١٧٥

الكرامة من الله إِلاَّ بطاعته لله)) (١) . واتَّفق علماء الشيعة على أنَّ: (عبد الله بن سبأ؛ بالسين المهملة، غال ملعون)(٢) .

البراءة من المـُغيريَّة والمنصوريَّة والبنانيَّة:

روي عن هشام بن الحكم أنَّه سمع أبا عبد الله الصادق(ع) يقول:((لا تقبلوا علينا حديثاً إِلاّ إذا وافق القرآن والسنَّة وتجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدِّمة. فإِن المـُغيرة بن سعيد - لعنه الله - قد دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديث كثيرة لم يحدِّث بها أبي. فاتقوا الله، ولا تقبلوا ما خالف قول ربِّنا وسنَّة نبيِّنا - صلّى الله عليه وآله وسلّم)) .

وعن هشام أيضاً أنَّه سمع الصادق(ع) يقول:((كان المـُغيرة يتعمَّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه ويدسُّ فيها الكفر والزندقة، ويسندها إِلى أبي، ثُمَّ يدفعها إِلى أصحابه ويأمرهم أن يبثُّوها في الشيعة. فكل ما كان في كتب أبي من الغلو، فذاك ممَّا دسَّه المغيرة بن سعيد - لعنه الله)) .

وروي عن عبد الرحمن بن كثير أنَّه قال: قال أبو عبد الله(ع) يوماً لأصحابه:((لعن الله المغيرة بن سعيد، لعن الله يهودية كان يختلف إليها يتعلَّم منها السحر والشعبذة والمخاريق. إِنَّ المغيرة كذب على أبي، وإنَّ قوماً كذبوا عليَّ. مالهم أذاقهم الله حرَّ الحديد؟ فوالله، ما نحن إِلاَّ عبيد خلقنا الله واصطفانا، ما نقدر على ضرٍّ ولا نفع إِلاَّ بقدرته. إِن رحمنا فبرحمته، وإِن عذَّبنا فبذنوبنا. لعن الله مَن قال فينا ما لا نقوله في أَنفسنا، ولعن الله مَن أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإِليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا)) (٣) .

وعن حصين بن عمرو النخعي، قال:كنت جالساً عند أبي عبد الله(ع)، فقال له رجلٌ: جُعلت فداك، إِنَّ أبا منصور حدَّثني أنَّه رُفع إِلى ربِّه، فمسح

____________________

(١) انظر منهج المقال في الرجال ص٢٠٣ (٢) انظر ص١١٤ من الخلاصة في الرجال للعلامة الحلي وهكذا ذكر النجاشي في رجاله وغيره (٣) راجع المنهج ص٢٤٠ وص٣٥٠.

١٧٦

فمسح على رأسه، وقال له بالفارسيَّة: يا يسر. فقال أَبو عبد الله: حدثني أَبي عن جدِّي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أنَّه قال: إِنَّ إبليس اتَّخذ عرشاً فيما بين السماء والأرض، فإذا دعا رجلاً إليه فأجابه ووطأ عقبه، تراءى له ورُفِع إليه. وإِنَّ أبا منصور كان رسول إبليس. لعن الله أبا منصور، لعن الله أبا منصور، ثلاثاً)) .

وعن زرارة أنَّه قال: سمعت أبا جعفر الباقر(ع) يقول:((لعن الله بُنان البنان. وإِنَّ بناناً كان يكذب على أبي، وأَشهد أنَّ أبي عليَّ بن الحسين(ع) كان عبداً صالحاً)) . وعن هشام بن الحكم، قال: قال أبو عبد الله(ع):((إِنَّ بناناً والسري وبزيغاً - لعنهم الله - تراءى لهم الشيطان في أَحسن صورة من قرنه إِلى سرَّته، قال: فقلت إِنَّ بناناً يتلو هذه الآية: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ويقول: إِنَّ إِله الأرض غير إِله السماء. فقال الصادق (ع): والله، ما هو إِلاّ الله وحده لا شريك له، إِله مَن في السموات والأرض. كذب بنان - عليه لعنة الله - لقد صغَّر الله جلَّ جلاله وصغَّر عظمته)) (١) .

البراءة من الخطابية وأشياعهم:

عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال:((إِنَّا أهل بيت صادقون، لا نخلو من كذَّاب يكذب علينا عند الناس؛ يريد أن يسقط صدقنا، بكذبه علينا)) . ثُمَّ ذكر المغيرة، وبزيغ(٢) الحائك، والسري، وأبا الخطَّاب، ومعمَّر، وبشَّار الأشعري، وحمزة اليزيدي، وصائد النهدي، وغيرهم، فقال:((لعنهم الله أجمع، وكفانا مؤنة كلِّ كذَّاب)) (٣) .

وعن حمدويه، قال: كنت جالساً عند أبي عبد الله(ع) وميسرة عنده،

____________________

(١) المنهج، ص٧٢.

(٢) قال الأسترآبادي - صاحب منهج المقال: إِنَّ البزيغيَّة - أصحاب بزيغ هذا - أقرُّوا بنبوَّته، وزعموا أنَّهم كلّهم أنبياء لا يموتون، ولكن يُرفعون إِلى السماء، وزعم بزيغ: أنَّه رُفع إلى السماء ومسح الله على رأسه ومجَّ في فيه. وعن ابن أبي يعفور، قال: دخلت على أبي عبد الله(ع)، فقال لي: ((ما فعل بزيغ؟)) قلت: قُتل ، قال: ((الحمد لله؛ أمَا إِنَّه ليس لهؤلاء شيء خير من القتل)) .

(٣) المنهج، ص٦٧.

١٧٧

ونحن في سنة ١٣٨ هـ، فقال له ميسرة: جعلت فداك، عجبت لقوم كانوا يأتون إِلى هذا الموضع فانقطعت أخبارهم وآثارهم وفنيت آجالهم. قال(عليه السلام):((ومَن هم؟)) قلت: أبو الخطَّاب وأصحابه. فقال - وكان متَّكئاً فجلس ورفع ببصره إِلى السماء :((على أبي الخطَّاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فأشهد بالله أنَّه كافر فاسق مشرك، وأنَّه يحشر مع فرعون في أَشدِّ العذاب، أَمَا والله، إنَّي لأنفس على أجساد أُصيبت

معه النار)) (١) .

وروي أيضاً أنَّ أبا عبد الله(ع) ذكر أصحاب أبي الخطَّاب والغلاة، فقال:((لا تُقاعدوهم، ولا تواكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تصافحوهم، ولا توارثوهم)) . وقال(ع):((إِنَّ من الغلاة مَن يكذب حتّى إن الشيطان ليحتاج إِلى كذبه)) . وقال(ع) لمرازم:((قلْ للغالية: توبوا إِلى الله؛ فإِنَّكم فسَّاق كفَّار مشركون)) . وقال لأبي بصير:((يا أبا محمد، اِبرأ ممَّن يزعم إنَّا أرباب، وابرأ ممَّن يزعم أنَّا أنبياء)) (٢) .

وعن مصارف قال: لمـَّا لبيَّ القوم الذين لبُّوا بالكوفة، دخلت على الصادق(ع) وأخبرته بذلك، فخرَّ ساجداً ودقََّ جؤجؤه بالأرض وبكى، ثُمَّ رفع رأسه ودموعه تسيل على خديه، فندمت على إِخباري إِيَّاه، وقلت: جعلت فداك، ما عليك أنت من ذا؟ فقال:((يا مصارف، إِنَّ عيسى لو سكت عمَّا قالت النصارى فيه، لكان حقَّاً على الله أن يُصمَّ سمعه ويعمي بصره، ولو سكتُ عمَّا قال فيَّ أبو الخطاب، لكان حقَّاً على الله أن يُصمَّ سمعي ويعمي بصري)) .

وقال أيضاً:((إِنَّ قوماً يزعمون أنّي لهم إِمام، والله، ما أنا لهم بإِمام؛ ما لهم لعنهم الله؟ أَقول: كذا، ويقولون: يعني به كذا، إِنَّما أنا إِمام مَن أطاعني)) . وقال:((مَن قال بأنَّنا أنبياء فعليه لعنة الله، ومَن شكَّ في ذلك فعليه لعنة الله)) (٣) .

هذا قول الصادق(ع) في أبي الخطَّاب والخطَّابيَّة وبقيَّة الغلاة، وإليك

____________________

(١) انظر: منهج المقال، ص٣٢٤.

(٢) راجع: المنهج، ص٣٢٥.

(٣) المصدر نفسه.

١٧٨

قول علماء الرجال من الشيعة:

قال صاحب منهج المقال: (محمد بن مقلاص الأسدي الكوفي الأجدع،

أبو الخطَّاب - لعنه الله - غالٍ ملعون، ويكنَّى: أبو زينب الزراد). قال ابن الغضائري: إِنَّ أبا الخطَّاب - لعنه الله - أمره مشهور، وأرى ترك ما يقوله أصحابنا: حدَّثنا أبو الخطَّاب في حال استقامته(١) . وهكذا قال النجاشي في (رجاله)، والعلاّمة الحلِّي في (خلاصته).

البراءة من العليائيَّة:

(عن أبي عبد الله(ع) قال:((لعن الله بشَّار الشعيري، إِنَّه قال قولاً عظيماً، فإِذا قدمت - يا مرازم - الكوفة، فأته وقل له: يقول لك جعفر بن محمد: يا كافر، يا فاسق، يا مشرك، أنا بريء منك. قال مرازم: فلمَّا قدمت الكوفة، قلت له: يقول لك جعفر بن محمد: يا كافر، يا فاسق، يا مشرك، أنا بريء منك. قال بشار: وقد ذكرني سيدي؟ قلت: نعم، ذكرك بهذا، قال: جزاك الله خيراً)) .

ومقالة بشَّار هي مقالة العليائية؛ أصحاب العلياء بن ذراع الدوسي، يقولون: إنّ علياً(ع) رب وظهر بالعلوية الهاشمية. ووافقوا أَصحاب أبي الخطَّاب في أربعة أشخاص: علي، وفاطمة، والحسنين(ع)، وأنَّ الأشخاص الثلاثة تلبيس، وأنَّهم في الحقيقة شخص علي؛ لأنَّه أوَّل هذه الأشخاص في الإِمامة.

وأنكروا شخص محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلّم)، وزعموا أنَّ بشّار الشعيري لمـَّا أنكر ربوبية محمد وجعلها في علي وجعل محمداً ع ع، وأنكر رسالة سلمان مسح في صورة طيرٌ يقال له: علياء، يكون في البحر؛ فلذلك سمّوهم العليائية)(٢) .

وعن إسحاق بن عمَّار قال: قال أبو عبد الله لبشَّار الشعيري لمـَّا دخل عليه:((أخرج عني، لعنك الله، والله لا يظلني وإِيَّاك سقف أبداً، فلمَّا خرج قال (عليه السلام): وَيْلَه ما صغَّر الله تصغير هذا الفاجر أحد، إِنّه شيطان بن شيطان، خرج ليغوي أصحابي وشيعتي، فاحذروه، وليبلغ الشاهد الغائبَ أنّي عبد الله وابن

____________________

(١) انظر: المنهج، ص٣٢٣؛ [بتلخيص].

(٢) المصدر نفسه، ص٦٨.

١٧٩

أمته، ضمَّتني الأصلاب والأرحام. وإِنّي لميِّت ومبعوث، ثُمَّ مسؤول، والله لأسألن عمَّا قال فيَّ هذا الكذاب وادَّعاه)) (١) .

البراءة من محمد بن نصير وجميع الغلاة أيضاً:

(روي عن أبي محمد الحسن العسكري(ع) أنّه كتب ابتداءً منه إلى أحد مواليه:((إنَّي أبرأ إِلى الله من ابن نصير الفهري، وابن بابا القمِّي فابرأ منهما. وإِنّي مُحذِّرك وجميع مواليَّ، ومخبرك أنِّي ألعنهما، عليهما لعنة الله، فتَّانين مؤذيين آذاهما الله. يزعم ابن بابا أنِّي بعثته نبيَّاً، وأنَّه باب، ويَْله - لعنه الله - سخر منه الشيطان فأغواه، فلعن الله من قبل منه ذلك، يا محمد، إِن قدرت أن تشدخ رأسه، فافعل)) .

وابن الفهري هو: محمد بن نصير. قالت فِرقة بنبوَّته؛ وذلك أنّه ادَّعى النبوَّة وأنَّ علي بن محمد أرسله، وكان يقول بالتناسخ وبإِباحة المحارم، وكان محمد بن موسى بن الحسن بن فرات يُقوِّي أسبابه ويعضده)(٢) .

وعن سهل بن زياد قال: كتب بعض أصحابنا إِلى أبي الحسن العسكري(ع): جعلت فداك يا سيدي، إِنَّ علي بن حسكة يدَّعي أنَّه من أوليائك وأنَّك أنت الأوَّل القديم، وأنَّه بابك ونبيُّك أمرته أن يدعو إِلى ذلك، ويزعم أنَّ الصلوة والزكاة والحجَّ والصوم كُلُّ ذلك معرفتك، ومال إِليه ناس كثير. فإِن رأيت أن تمنَّ على مواليك بجواب في ذلك تنجيهم من الهلكة، قال فكتب (عليه السلام):((كذب ابن حسكة عليه لعنة الله، ويحك إِنّي لا أعرفه من مواليَّ. ويله لعنه الله، فوالله ما بُعث محمدٌ والأنبياء قبله إِلاّ بالحنفيَّة والصلوة والزكاة والصيام والحجِّ، وما دعا محمدٌ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إِلاّ إِلى الله وحده لا شريك له، وكذلك نحن الأوصياء من وِلده عبيد الله لا نشرك به أحدا.. اِبرأ إِلى الله من قول ابن حسكة، وانتفى إلى الله منه، واهجره وأتباعه لعنهم الله وألجأهم إِلى ضيق، وإن وجدت منهم أحداً فاشدخ رأسه)) (٣) .

____________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) المصدر نفسه، ص١٠٧.

(٣) المصدر نفسه، ص٢٢٩.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216