الشيعة في التاريخ

الشيعة في التاريخ27%

الشيعة في التاريخ مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 216

الشيعة في التاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 216 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65088 / تحميل: 7661
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في التاريخ

الشيعة في التاريخ

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وبالتمسّك فيها وبتقديمها ومتابعتها، وغير ذلك من صفات التقديم والتفضيل. فكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول:((عليّ مني وأنا من عليّ، وهو وليّكم بعدي)) (١) ، وينذر:((كأنّي قد دعيت فأجبت. إنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟، فإِنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، سألت ربي ذلك لهما، فلا تتقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإِنّهم أعلم منكم)) (٢) .

____________________

(١) مسند أحمد،ج٥، ص٣٥٦، والصواعق المحرِقة، ص٢٦.

(٢) الصواعق، ص١٤٠، الذي ذكر فيه هذا الحديث وحديث: ((أذكّركم الله في أهل بيتي)) وأنّه قال (ص) ذلك ثلاث مرّات، وحديث الثقلين، بلفظ: ((إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض...إلخ)) ذكر ذلك ص٩١ من صواعقه. ثُمَّ قال: (ولهذا الحديث طُرُق كثيرة عن بضع وعشرين صحابياً، ومرّ له طرق مبسوطة. وسمّى رسول الله(ص) القرآن وعترته ثقلين؛ لأنّ الثقل كلّ نفيس خطير مصون، وهذان كذلك؛ إذ كلّ منهما معدن العلوم اللّدنيّة والأسرار والحكم العَليّة والأحكام الشرعيّة؛ ولذا حثّ(ص) على الاقتداء والتمسّك بهم والتعلّم منهم. وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت. وقيل: إنّما سمّوا ثقلين لثقل رعاية حقوقهما. ثُمَّ الذي وقع الحثّ عليهم إنّما هم العارفون بكتاب الله وسنّة رسوله؛ إذ هم الّذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض. ويؤيّده الخبر السابق: ((لا تعلّموهم فإِنّهم أعلم منكم)) . وتميّزوا بذلك عن بقية العلماء لأنّ الله أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وشرّفهم بالكرامات الباهرة والمرايا المتكاثرة. وفي أحاديث الحثّ على التمسّك بهم إشارة إلى عدم انقطاع متأهل للتمسّك به إلى يوم القيامة كما أنّ الكتاب العزيز كذلك؛ ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض، ويشهد بذلك الخبر: ((في كلِّ خلف من أمّتي عدول ينفون عن هذا الدين تحريف الضالّين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)) . ثُمَّ أحقّ من يتمسّك به منهم إمامهم عليّ بن أبي طالب (كرّم الله وجهه)؛ لِمَا قدّمناه من مزيد علمه ودفائن مستنبَطاته؛ ومن ثَمَّ قال فيه أبو بكر (رض): عليٌّ عترة رسول الله ). وقال ابن الأثير (النهاية/ ج١/ ص١١٣) بعد ذكر الحديث: ( وسمّاهما ثقلين لأنّ الأخذ بهما والعمل ثقيل، ويقال لكلّ خطير: ثقل، فسماهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيما لشأنهما). وروى مسلم (في صحيحه) حديث الثقلين بطرق معتبرة. انظر: ج٢/ ص٢٣٨.

٢١

وعن ابن عمر: (إنّ آخر ما تكلّم به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم):((اخلفوني في أهل بيتي )) (١) ، وقال:(( من أحبّ عليّاً فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله)) (٢) ، وقال:(( عنوان صحيفة المؤمن حبّ عليّ بن أبي طالب)) (٣) .

قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم):((إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق)) وفي رواية:هلك . وقال(صلّى الله عليه وآله وسلّم):((النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأمّتي.)) (٤) وفي رواية:لأهل الأرض .

((ألزموا مودّتنا أهل البيت. والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلاّ بمعرفة حقّنا)) (٥) . وقال:((إنّ وزيري وخير من أترك بعدي، يقضي ديني وينجز مواعيدي، عليّ بن أبي طالب)) (٦) . وقال أيضاً - وهو آخذ برقبة عليّ -:((إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا)) (٧) . وروى الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء: إنّه قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم):((من سَرّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنّة عدن، فليوال عليّاً من بعدي وليوال وليّه وليقتد بالأئمّة من بعده، فإنّهم خلقوا من طينتي ورزقوا فهماً وعلماً، فويل للمكذّبين من أمّتي، القاطعين فيهم

____________________

(١) الصواعق، ص ٩٢.

(٢) الصواعق، ص٧٦-٧٧.

(٣) الصواعق، ص٩٣، وص١١٤.

(٥) الصواعق، ص١٠٦.

(٦)محاضرات الراغب الأصبهاني، ص٣١٢.

(٧) تاريخ أبي الفداء، ج١، ص١١٧، و تاريخ الطبري، ج٢، ص٢١٧، وتاريخ ابن الأثير،ج٢، ص٢٢، وج١، ص١١١، ومسند أحمد، ص١٥٩. وروى سبط ابن الجوزي (ص٤٧/ من تذكرته)، عن أحمد، عن أنس قال: قلنا لسلمان الفارسي سل رسول الله (ص) من وصيّه؟، فسأله سلمان، فقال رسول الله (ص): ((من كان وصيّ موسى بن عمران؟، فقلت: يوشع بن نون، فقال (ص): إنّ وصيّي ووارثي ومنجز وعدي عليّ بن أبي طالب)) ، ثُمّ قال سبط ابن الجوزي: فإن قلت قد ضعّفوا حديث الوصيّة، فالجواب: إنّ الحديث الذي ضعّفوه في إسناده إسماعيل بن زياد تكلّم فيه الدارقطني، والحديث الّذي ذكرناه رواه أحمد، وليس في إسناده ابن زياد. انتهى كلام السبط.

٢٢

صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي)) (١) (وهذه الأخبار الخاصّة، التي رواها علماء الحديث الذين لا يُتَّهمون فيه - وجُلّهم قائل بتفضيل غيره عليه (أي على عليّ) - توجب سكون النفس ما لا توجبه رواية غيرهم(٢) .

وهناك أخبار خاصّة وعامّة غير هذه، مذكورة في كتب الفريقين، وإليك بعض ما جاء في كتب الفريق غير المتَّهم (بالرفض)؛ ليتّضح لديك النصّ على الأئمّة واحداً بعد واحد، ويثبت عندك فضلهم وقِدَم تكوّن شيعتهم وحسن عاقبتهم في جوار الصادق الأمين(عليه السلام) وعترته الميامين:

 عن كتاب السمطين، للشيخ محمد الحمويني؛ المحدّث الشافعي، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):((إنّ خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي الاثنا عشر؛ أوّلهم عليّ وآخرهم المهدي)) (٣) . وعن كتاب مودّة القربى، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للحسين:((أنت إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمّة، وأنت حجّة ابن حجّة أخو حجّة أبو حجج تسع، تاسعهم قائمهم)) (٤) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعليّ:((إنّك ستقدم على الله؛ أنت وشيعتك، راضين مرضيّين، ويقدم عليه عدوّك غضاباً مقمحين)) . ثُمّ جمع يديه إلى عنقه يريهم كيف الإقماح. ذكر هذا الحديث ابن الأثير في نهايته (ج٣/ ص٢٧٦). ثُمّ فسّر فيها الإقماح بـ: رفع الرأس وغضِّ البصر. يقال: أقمحه الغل، إذا ترك رأسه مرفوعاً من ضيقه).

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم):((يا عليّ، أوّل أربعة يدخلون الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين، وذرّيّتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرّيّتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا)) . ولمـّا نزلت هذه الآية:(إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ) ، قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعليّ:((هم أنت وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين)) (٥) .

____________________

(١) شرح النهج للمعتزلي،ج٢، ص٤٥٠، ومسند أحمد،ج٥، ص٩٤.

(٢) شرح النهج،ج٢، ص٣٤٩.

(٣) ينابيع المودّة للشيخ سليمان الحنفي، ص٣٧٤.

(٤) ينابيع الحنفي، ص١٣٩.

(٥) الصواعق، ص ٩٨ و ٩٩.

٢٣

روى المسعودي: أنّ العبّاس بن عبد المطلب قال: كنت عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذ أقبل عليّ بن أبي طالب، فلمّا رآه النبيّ أسفر في وجهه، فقلت: يا رسول الله، إنّك لتسفر في وجه هذا الغلام؟، فقال:(( يا عمُّ، والله، لله أشدّ حبّاً له منّي. إنّه لم يكن نبيّ إِلاّ وذرّيّته من صلبه، وإنّ ذرّيّتي بعدي من صلب هذا. إنّه إِذا كان يوم القيامة دعي الناس بأسمائهم وأسماء أمّهاتهم ستراً من الله عليهم، إِلاّ هذا وشيعته؛ فإِنّهم يدعَون بأسمائهم وأسماء آبائهم )) (١) .

ولو أردنا التبسّط في الأخبار الدالّة على قِدَم التشيّع والآمرة به، لاحتجنا إلى كتاب ضخم، ولاضطررنا إلى الخروج عن خطّتنا في الاختصار. ولذا اجتزأنا بهذه الأخبار الصحيحة المشهورة المتواترة(٢) ، وبخبر أبي حاتم الرازي،

____________________

(١) مروج الذهب، ج٢، ص٥١، وتاريخ الخطيب البغدادي،ج١، ص٣١٧.

(٢) يقول ابن أبي الحديد المعتزلي (ج١/ ص٣٥٩/ شرح النهج): (وقد صحّ أنّ بني أميّة منعوا من إظهار فضائل عليّ (ع)، وعاقبوا على ذلك الراوي، حتى أنّ الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلّق بفضله، بل بشرائع الدين، لا يتجاسر على ذكر اسمه؛ فيقول: روى أبو زينب. فالأحاديث الواردة في فضله (بل وفضل ذرّيّته)، لو لم تكن في الشهرة والاستقامة وكثرة النقل إلى غاية بعيدة، لانقطع نقلها؛ للخوف من بني مروان، مع طول المدّة وشدّة العداوة. ولولا أنّ لله تعالى في هذا الرجل سرّاً يعلمه مَن يَعْلَمه، لم يرد في فضله حديث، ولا عرفت له منقبة). ثُمّ راح يخبرنا (الشرح/ ج٣/ ١٥) ما عمله بنوا أميّة، فقال: (إنّ معاوية كتب نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة؛ أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب (عليّ) وأهل بيته، فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر، يلعنون عليّاً ويبرؤن منه، ويُقِعون فيه وفي أهل بيته). وأخبرنا أيضا (الشرح/ج١/ ص٣٥٦): (أن بعض بني أميّة عذل معاوية وقال: إنّك قد بلغت ما أملت، فلو كففت عن لعن هذا الرجل، فقال معاوية: لا والله، حتّى يربوا عليها الصغير ويهرم الكبير، ولا يذكر له ذاكر فضلاً). وأخبرنا (الشرح/ ج١/ ص٣٥٨): (أنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين، على رواية أخبار قبيحة في عليّ تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلفوا، ما أرضاه منهم: أبو هريرة وعمرو بن العاص. ومن التابعين: عروة بن الزبير، الذي زعم أنّ عائشة حدّثته: أنّ رسول الله (ص) قال لها: (( إنْ سرّك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار، فانظري إلى هذين قد

٢٤

المنقول (كما في ص٨٨/ روضات الجنّات) عن كتاب (الزينة)، قال: إنّ أوّل اسم ظهر في الإِسلام على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو: الشيعة. وكان هذا لقب أربعة من الصحابة؛ وهم أبو ذرّ وسلمان والمقداد وعمّار. إلى أن آن أوآن صِفّين فاشتهر بين موالي عليّ (رضي الله عنه).

فإِذا علمت ما قدّمناه؛ من ظهور الشيعة في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ ومن أنّه أوّل المنوّهين بفكرة التشيّع والمغذّين إياها بأوامره المطاعة، وأنّه - وهو الذي لا ينطق عن الهوى - قد بشّر عليّاً وشيعته بمرضاة الله تعالى ودخول الجنة عن يمين النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وشماله. إذا علمت ذلك، فلا شكّ أنّك تحكم بسخف ما زعمه(١) بعض المرضى بداء التعصّب الذميم؛ من أنّ فكرة التشيّع من مخترعات عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، وأنّها فكرة سبأيّة لا مساس لها بدين الإسلام، أو أنّها فكرة سياسيّة أحدثها الفرس بعد قرن؟!

٣- الّذين تشيّعوا في عهد النبيّ والّذين ثبتوا على تشيّعهم بعده:

من الثابت المتيقَّن، أنّ كثيراً من الصحابة قد أحبّوا عليّاً في حياة أخيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وكان حبّه لديهم من علائم الإيمان، وبغضه من علائم

____________________

طلعا، فنظرت، فإذا العبّاس وعليّ بن أبي طالب)) . وأمّا أبو هريرة، فجثا على ركبتيه في مسجد الكوفة، وروى لأهلها أنّه سمع النبيّ (ص) يقول: (( إنّ لكل نبيّ حرماً، وأنّ حرمي بالمدينة، فمن أحدث بها حدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) . وأشهد أنّ عليّاً أحدث فيها. فلمّا بلغ معاوية قوله، أجازه وأكرمه و ولاّه إمارة المدينة. وأمّا عمرو بن العاص، فإنّه روى الحديث الّذي أخرجه البخاري متصلاً بعمرو بن العاص، قال: سمعت النبيّ يقول: (( إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء)) .

(١) ولقد أبطل هذا الزعم الأستاذ محمّد كرد عليّ (ج٦/ ص٢٥١ من كتابه خطط الشام)؛ حيث يقول: (أمّا ما ذهب إليه بعض الكتّاب، من أنّ مذهب التشيّع من بدعة عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، فهو وهم وقلّة علم بتحقيق مذهبهم. ومن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة وبراءتهم منه ومن أقواله وأعماله، وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم في ذلك - علم مبلغ هذا القول من الصواب).

٢٥

النفاق. وكانوا يقدّمونه على أنفسهم ويفضّلونه على جميع الصحابة. وكانوا يوالونه أَشدّ موالاة بعد ما بايعوا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - كما في الدرجات الرفيعة - على النصح للمسلمين والائتمام بعليّ بن أبي طالب والموالاة له.

وكان عدد الذين بايعوا، يوم غدير خم، أربعين ألفاً(١) ، وقيل سبعين ألفاً، ويقول سبط ابن الجوزي: (إنّ الّذين بايعوا عليّاً كانوا مائة وعشرين ألفاً)(٢) . وكلُّ هؤلاء كانوا شيعة (بمعنى الموالاة لعلي(ع) ).

ولكن اسم الشيعة قد تغلّب واختصّ يومئذ - كما علمت - بأبي ذرّ وسلمان وعمّار والمقداد (رضي الله عنهم) لكونهم أخصّ الصحابة بعليّ (ع)، وأشدّهم تظاهراً بحبّه وموالاته.

وقد كان جميع الهاشميّين، وقتئذٍ، وفي مقدّمتهم العبّاس بن عبد المطلب، من الشيعة. وكذلك خذيفة بن اليمان، والزبير بن العوّام، وخزيمة ذو الشهادتين، وابن النبهان، وهاشم بن عتبة بن أبي وقّاص المعروف بهاشم المرقال، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو سعيد الخدري القائل: (ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّ ببغض عليّ بن أبي طالب)(٣) ، وخالد وأبان الأمويّان، وأبو رافع، وعدي بن حاتم الطائي، وحجر بن عدي الكندي، وسعيد بن جبير، وعثمان وسهل أبنا حنيف، وأُبيُّ بن كعب، والبراء بن عازب، والأحنف بن قيس، وثابت بن قيس بن الخطيم، وقيس بن سعد بن عبادة، وأبوه أيضاً، وخباب بن الأرت، وبلال مؤذّن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعبد الله ومحمد أبنا بديل، وقُرَظة بن كعب الخزرجي، وسليمان بن صُرد الخزاعي، وحسّان بن ثابت، وأنس بن الحرث، وأبو قتادة الأنصاري، وأبو دجانة الأنصاري، وسعد بن مسعود الثقفي عمّ المختار، ويزيد بن نويرة (وهو أوّل قتيل قتل من أصحاب عليّ بالنهروان، وشهد له رسول الله بالجنّة مرّتين)(٤) ،

____________________

(١) تاريخ أبي الغداء، ج١، ص١٥٤.

(٢) ص٣٣ من تذكرته.

(٣) الصواعق، ص٧٥، وشرح النهج للمعتزلي، جزء ٢، ص٤٣٨.

(٤) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي،ج١، ص١٥١.

٢٦

ونافع بن عتبة بن أبي وقّاص، وأبو ليلى الأنصاري واسمه يسار ويقال داود بن بلال، وكان أبو ليلى خصيصاً بعليّ (عليه السّلام) يسمر معه ومنقطعاً إليه، وورد المدائن في صحبته وشهد صِفّين معه. وفي ولْده جماعة يُذكَرون بالفقه ويُعرَفون بالعلم(١) .

وعَدَّ غير هؤلاء من الصحابة المتشيّعين لعليّ(ع)، كلٌّ من صاحب الدرجات الرفيعة، وصاحب الاستيعاب والإصابة، فراجع.

وجلّ هؤلاء قد ثبتوا على التشيّع والموالاة لعليّ بعد وفاة النبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ ولذلك امتنعوا معه عن مبايعة أبي بكر (رض) في بدء الأمر؛ لاعتقادهم أنّ عليّاً أولى بالإمامة من غيره(٢) ، وأنّه الإِمام الحقّ والخليفة الشرعي لرسول الله الذي عقد الولاية لعليّ يوم الغدير، وحكم أنّه أقضى الأمّة، وأنّه باب مدينة علمه، وأنّ الحقّ يدور معه حيثما دار. وكان يخلفه على المدينة إذا غاب عنها، ولم يخلّف غيره. يؤمّره على غيره في الوقائع، ولم يؤمّر عليه أحداً. وقد خصّه الله بالتبليغ عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم أرسل أبا بكر(رض) ليبلغ سورة براءة، فأهبط عليه جبرائيل(ع) وبلّغه: أنّه لا يبلّغ عنك إِلاّ أنت أو رجل منك(٣) ، فأرسل حينئذٍ عليّاً، ليرجع أبا بكر ويتولّى هو بنفسه - وهي نفس الرسول بنصّ آية المباهلة - تبليغ الوحي.

٤- متّى أهمل لفظ الشيعة، ومتّى اشتهر؟:

لمـّا تغلّب المهاجرون على الأنصار يوم (السقيفة)، وبايع بعد ذلك الناس أبا بكر(رض)، عدا سعد بن عبادة زعيم الأنصار من الخزرج، انحصرت

____________________

(١) تاريخ الخطيب البغدادي،ج١، ص١٨٦.

(٢) وهذا عمر (رض) قد اعترف بما يعتقده الصحابة من أولويّة عليّ (ع)؛ حيث قال لأبن عبّاس: (أمَا والله، يا بني عبد المطَّلب، لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر منّي ومن أبي بكر، ولكن خشينا أنّ لا تجتمع عليه العرب وقريش؛ لِمَا قد وترها). محاضرات الرَّاغب الأصبهاني، ص٢١٣.

(٣) تاريخ أبي الفداء،ج١، ص١٥٠، ومسند أحمد ،ج١، ص١٥١، ولكن بلفظ: أن يؤدّي... إلخ.

٢٧

جهود أبي بكر في أخذ البيعة من عليّ(ع) ومن الذين امتنعوا معه عن البيعة. وكان من الممتنعين والمظهِرين انحيازهم إلى جانب عليّ يومئذ أبو سفيان، رأس الأمويّين، القائل: (يا آل عبد مناف، فيم أبو بكر من أموركم. فزجره عليّ، وقال له: والله، ما أردت بهذا إِلاّ الفتنة. وإنّك طالما بغيت للإِسلام شرّاً )(١) .

ثُمَّ إنّ أبا بكر تشدّد في طلب البيعة من عليّ بإِيعاز من عمر، على ما قيل. وتشدّد عليّ في الامتناع، وبالغ في إلقاء الحجّة على المهاجرين والأنصار؛ حتّى ندم بعض الأنصار على بيعتهم لأبي بكر ولام بعضهم بعضاً، وذكروا عليّ بن أبي طالب وهتفوا باسمه)(٢) .

وكذلك ندموا، أو أظهروا الندم، لمـّا أسمعتهم بضعة المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذلك التقريع الأليم، وتلك الحجج الدامغة(٣) . ولكن ندمهم هذا، كان أعظم على الزهراء من تخاذلهم؛ لأنّه كان في وقت لا يجدي فيه الندم. كان في

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير،ج٢، ص١٢٣.

(٢) شرح النّهج للمعتزلي، ج٢، ص١٩.

(٣) ذكر ابن أبي الحديد خطبتها في (شرح النّهج/ج٤/ ص٨٧). وإليك بعض فقراتها، قال: (اجتمع عند فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نساء من نساء المهاجرين والأنصار، فقلن لها: كيف أصبحت يا بنت رسول الله؟، قالت: والله، أصبحت عائفة لدنياكنّ، قالية لرجالكنّ. لفظتهم بعد أن عجمتهم، وشنئتهم بعد أن سبرتهم. فقبحاً لفلول الحدّ، وخور القناة، وخطل الرأي. لا جرم، قد قلدتهم ربقتها، وشننت عليهم غارتها، فجدعاً وعقراً. ويحهم، أين زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوّة، ومهبط الروح الأمين، والطيّبين بأمر الدنيا والدين. وما الذي نقموا من أبي الحسن؟، نقموا - والله - نكير سيفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات الله). وذكر أحمد بن أبي طاهر البغدادي (ص٢٤ من كتابه بلاغة النساء) نحو ذلك.

٢٨

الوقت الذي استحكم فيه أبو بكر من بيعة الأنصار وبقيّة الناس. ولم يبق سوى علي(ع) والصفوة من شيعته. ولذا لمـّا رأى ذلك، ورأى أنّه لو دام على الامتناع لحصل ما لا تحمد عقباه، وما يوهن الدين الحنيف الذي بني على ماضيه:

بني الدين فاستقام ولولا

ضرب ماضيه ما استقام البناء

لمـّا رأى ذلك كلّه، تغاضى عن حقّه المشروع ومقامه المضاع، وصافح أبا بكر. وقام ينصح المسلمين ويؤيّد كلمة الإِسلام بعلمه الزاخر وسيفه (ذي الفقار)، وتابعه شيعته على ذلك. فأُهمل - يومئذٍ - لفظ الشيعة وصار المسلمون فِرقة واحدة، وذابت تلك الكلمات المفرِّقة (سنة - شيعة، بكري - علوي) في كلمة (مسلم)(١) . واستمر المسلمون على هذا السير المحبوب في جميع أيّام الأوّل والثاني (رضي الله عنهما) وشطر من أيام الثالث. لم يختلفوا ولم تفترق كلمتهم سوى بضعة أيّام في مجلس (الشورى)، حتّى قامت عصبة أمويّة في أواخر أَيّام الثالث(رض)، واستبدّت في أمور المسلمين إلى أن قام المسلمون ضدّها. وجرى ما جرى من التنازع والتضارب حتّى انتهى الأمر بقتله. وكان قتله من جرّاء أعمالها الجائرة .

وياليتها خجلت من أعمالها وتسبيبها قتل زعيمها وخذلانه. ولم تناهض أمير المؤمنين عليّاً وتتَّهمه بخذلان من خذلته والممالأة عليه. ولقد أجاد القائل (رمتني بدائها وانسلّت).

ولقد ساعدها نفر ضئيل من أهل الأطماع، وتفّرد معها عن جميع البلدان

____________________

(١) حبّذا لو نكون اليوم كما كانوا بالأمس؛ متّحدين متحابّين، لا نقيم لتلك الفوارق المذهبيّة الخارجة عن جوهر الدين الحنيف وزناً، ولا نعرف لها معنىً. وما يجدينا التخاصم في الخلافة وقد قضى عليها الأتراك، وأمست خبراً من الأخبار. في مثل هذه الأيّام التي صرنا فيها سواسية هدفاً للأعداء والمستعمرين، وصارت بحوث الفوارق المذهبية من أقوى الأسلحة للمستعمر على هلاكنا وإبادتنا.

٢٩

الإسلامية التي بايعت عليّاً على العموم، ولم يشذ عن ذلك سوى الشام، فإِنّه ليس عليها لأمر. أغشى بصرها (دم القميص) الذي جاء به معاوية ونشره على منبر دمشق، حتّى اجتمع حوله سبعون ألف شيخ يبكون على عثمان(١) .

ويتحرّقون غيظاً من عليّ؛ بسبب ما لفّقه معاوية وابن العاص من التهم المفضوحة، حتّى ظهر الانقسام، وقتئذ، جليّاً بين المسلمين. وصار المسلمون فرقتين عثمانيّة وعلويّة، ثُمّ صارت واقعة (صفِّين )، وانتهت بالتحكيم المزيّف وخروج الخوارج، ثُم اغتيالهم عليّاً وخذلانهم الحسن بن عليّ (عليهما السّلام)، حتى هادن معاوية في عام الأربعين.[عندها] أطلق أنصار معاوية ومتّبِعو سنته، اسم السنّة والجماعة على أنفسهم(٢) ، واسم الشيعة على أنصار عليّ ومواليه واشتهر كلا الاسمين في ذلك الوقت بعد أن كانا مهملين.

ولم يزالا مشتهرين إلى اليوم. ولكن قد اندمج فيهما أسماء وفِرق كثيرة، يعسر عدّها في هذه العجالة، وهذا المختصر.

ولقد أسرف البعض في إطلاق اسم الشيعة على فِرق خرجت عن التشيّع والإِسلام معاً، وقد باد أكثرها. وكأنّه ما عرف عقائد الشيعة القويمة، أو أنّه عرفها ولكنّه عدَّ تلك الفِرق الضالّة في عداد الشيعة؛ لغاية في نفس يعقوب.

وإنّ المعاني الحقيقيّة الّتي قدّمناها للتشيّع الحقّ لا تخوّل أحداً أن يطلق اسم الشيعة على غير الاثني عشريّة وأكثر الزيديّة والإسماعيليّة، وبعض الفطحيّة والواقفيّة. وبما أنّ الزيديّة اليوم، ومثلهم الإسماعيليّة، لا يُعرفون إلاّ بهذين الانتسابين، وبما أنّ الفطحيّة والواقفيّة لا وجود لهم في هذا العصر؛

____________________

(١) شرح النّهج للمعتزلي،ج١، ص٢٨٦.

(٢) وقيل: إنّ اسم السنّة أطلق على أتباع معاوية ومؤيّدي سنّته في بدء الدولة العباسيّة، ولكن الأصحّ، أنّه إِنّما أطلق عليهم عام الأربعين؛ لأنّ الجماعة حصلت - كما زعموا - يومئذ، ولذا سمّوا هذا العام: عام الجماعة.

٣٠

انحصر اسم الشيعة بالشيعة الإماميّة الاثني عشرية واختص بهم، لذلك لا نقصد غيرهم في بحثنا عن:

٥- مجمل عقائد الشيعة:

أبنّا أنّ التشيّع لم يكن غير المشايعة لعليّ(ع)، والمتابعة له في كلّ ما صحّ عنه من الأقوال والأعمال، ولم يكن أيضا سوى الموالاة له ولذرّيّته الطاهرة. فالتشيّع - بطبيعة الموالاة والمتابعة والمشايعة - قد تضمّن جميع العقائد الدينية الإسلامية التي صدع بها نبيّ الإسلام الأقدس (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأودعها في الكتاب الكريم (الثقل الأكبر) والعترة الطاهرة (الثقل الأصغر)، التي لا تفارقه إلى يوم القيامة.

لذلك كان من أوّليّات العقائد الدينية وأهمّها عند الشيعة؛ هو الاعتقاد بأنّ الله (سبحانه وتعالى) أحد صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. وأنّه حيّ قيّوم، قديم أبديٌّ، قادر مختار، عالم حكيم عادل، غني سميع بصير، مدرك كلّ شيء ولا يدركه شيء، مريد للخير كاره للشرّ، صادق في وعده ووعيده، يرى ولا يُرى في الدنيا والآخرة؛ لأنّه سبحانه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا مركّب من شيء ولا متّحد مع شيء. وأنّه لطيف بعباده رؤوف رحيم، ومن لطفه أرسل الأنبياء الهداة، ولكمال لطفه عصمهم من كبائر الذنوب وصغائرها، وجعل نبيّنا محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خاتم الأنبياء (ولكنّه رسول وخاتم النبيّين).

وأنزل عليه المعجزة العظمى - القرآن الكريم - مصدّقاً لمـَا بين يديه، فيه تبيان كلّ شيء. وهو عند الشيعة غير قديم كقدمه تعالى. وعندهم أنّ الاعتقاد بالتوحيد وبالنبوّة والعدل من أصول الدين الحنيف، ومثلها الإِمامة والمعاد.

أَمّا الإِمامة - وهي واجبة عندهم، وعند جمهور المسلمين - فيعتبرها الشيعة منصباً إلهيّاً كمنصب النبوّة، إِلاّ أنّه دونه في المنزلة والفضل؛ لأنّ الإِمام نائب عام عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حفظ الشرع الإسلامي وتسيير المسلمين على طريقه القويم، وفي حفظ وحراسة الأحكام عن الزيادة والنقصان

٣١

(والنائب دون المـَنوب عنه).

والإمام موضِح للمشكل من الآيات والأحاديث، مفسِر للمجمل والمتشابه، ومميِّز للناسخ من المنسوخ. وهو ليس بمشرّع بوحي إليه، وإنّما هو - كما تقدّم - نائب عن المشرِّع الموحى إليه.

والإمامة، عند الشيعة، لا تكون إِلاّ بنصّ وتعيين. والمعيَّن لابدّ أن يكون معصوماً كالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وأنّ يكون أفضل الأمّة، بعد النبيّ، وأشجعها وأزهدها وأتقاها؛ ليتمكّن من حفظ الشرع وإِقامة الأحكام الدقيقة على طبق ما شرّعها الشارع الأعظم. لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا تصدّه عن تنفيذها قرابة قريب، أو صداقة صديق، أو أنانيّة ذاتيّة.

ولمـّا كانوا يعتقدون بوجوب النصّ على الإمام بحكم العقل والنقل، قالوا: إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد نصّ عليه وعيّنه، ولم يهمل أمره.

ولمـّا كان اعتقادهم بوجوب عصمة المعيَّن وكونه أفضل الأمّة وأقضاها، قالوا: إنّ الذي عيّنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ونصّبه إماماً ونائباًَ عنه، هو عليّ بن أبي طالب(ع)؛ لأنّ العصمة لم توجد في غيره ولا ادّعيت لأحد غيره؛ ولأنّ الأفضلية قد ثبتت له باعتراف جلّ المسلمين، وبإجماع من يعتدّ به منهم، وبالأخبار الصحيحة المتواترة عن نبيّ الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وقد قدمنا لك نبذة منها في جملة الأخبار الناصّة على إمامته (عليه السّلام).

وبالنصّ والعصمة والأفضلية ثبتت إِمامة الحسن بن عليّ(١) ، وإِمامة أخيه الحسين(٢) ، وإِمامة زين العابدين عليّ بن الحسين(٣) ، وإمامة محمّد بن عليّ

____________________

(١) ولد الحسن (ع) في المدينة سنة ٣ هـ وتوفّي فيها مسموماً سنة ٥٠، وقيل: سنة ٤٩ هـ، ودفن بالبقيع. (٢) ولد الحسين (ع) بالمدينة سنة ٤ هـ واستشهد في طفّ كربلاء المحرّم سنة ٦١ هـ، ودفن فيها بعد ثلاثة أيام من استشهاده.

(٣) ولد عليّ بن الحسين (ع) بالمدينة سنة ٣٨، وتوفّي ودفن فيها سنة ٩٥ هـ بالبقيع.

٣٢

(الباقر)(١) ، وإمامة جعفر بن محمّد (الصادق)(٢) ، وإمامة موسى بن جعفر (الكاظم)(٣) ، وإمامة عليّ بن موسى (الرضا)(٤) ، وإمامة محمّد بن عليّ (الجواد)(٥) ، وإمامة عليّ بن محمّد (الهادي)(٦) ، وإمامة الحسن بن عليّ (العسكري)(٧) ، وإمامة محمّد بن الحسن (المهدي)؛ وهو الإِمام الثاني عشر(٨) .

هذه هي الإِمامة. وأمّا المعاد:

فيعتقد به الشيعة كما يعتقد به سائر المسلمين، ولكنّهم يخالفونهم بالكيفيّة. فهو عند الشيعة: إِعادة الخلائق، بعد موتهم، أحياء بأجسادهم وأرواحهم. وقد وافقهم بعض السنّة وخالفهم الباقون في ذلك.

علمت - من مجمل ما ذُكر - أنّ أصول الدين عند الشيعة خمسة: التوحيد - العدل - النبوّة - الإِمامة - المعاد. لكن الإمامة - وإن اعتبروها من أصول الدين - هي بأصول المذهب أشبه؛ لأنّ منكر الإِمامة عندهم لا يخرج – بذلك – عن ملّة الإِسلام، وإِنّما يخرج عن المذهب فحسب، بعكس بقية الأصول.

ويؤمن الشيعة بجميع ما في القرآن العزيز والسنّة الشريفة القطعية؛ من الجنّة والنار، ونعيم البرزخ وعذابه، والميزان، والصراط، والأعراف، والكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، وأنّ الناس مجزيّون بأعمالهم،

____________________

(١) ولد (عليه السّلام) بالمدينة سنة ٥٧، وتوفّي فيها سنة ١١٤، ودفن بالبقيع.

(٢) ولد (عليه السّلام) بالمدينة سنة ٨٣، وتوفّي فيها سنة ١٤٨، ودفن بالبقيع.

(٣) ولد (عليه السّلام) بالأبواء سنة ١٢٨، وتوفّي مسموماً ببغداد سنة ١٨٣، ودفن بالكاظمية.

(٤) ولد (عليه السّلام) بالمدينة سنة ١٤٨، وتوفّي مسموماً بطوس إيران سنة ٢٠٣، ودفن هناك.

(٥) ولد (عليه السّلام) بالمدينة سنة ١٩٥، وتوفّي سنة ٢٢٠، ودفن بالكاظمية شمال جدّه.

(٦) ولد (عليه السّلام) بالمدينة سنة ٢١٢، وتوفّي مسموماً بسامراء سنة ٢٥٤، ودفن بداره فيها.

(٧) ولد (عليه السّلام) سنة ٢٣٢ بالمدينة، وتوفّي ودفن عند أبيه سنة ٢٦٠.

(٨) ولد عليه السلام سنة ٢٥٥ بسامراء، وغاب غيبته الصغرى سنة ٢٦٠، والكبرى سنة ٣٢٩.

٣٣

إِن خبراً فخير وإن شراً فشر، ومن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره. إِلى غير ذلك ممّا ثبت في الكتاب والسنّة من أنّ الله سبحانه لم يجبر مخلوقاً على طاعة ولا على معصية. وكيف يجبر على الطاعات وهو غنيّ عنها؟، بل كيف يمدح عباده ويثيبهم عليها وهي ليست منهم ولم تكن باختيارهم، على ما زعم ؟!. ثُمّ كيف يعاقب العصاة وقد أجبرهم على المعاصي وأرادها منهم كما زعم الزاعمون؟، وهو القائل في كتابه الكريم:(وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَاد) ،(وَمَا رَبّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ) ،(وَقُلِ الْحَقّ مِن رَبّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) ، أم كيف يرضى الكفر ويأمر بالفحشاء، وهو القائل:(إِنّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) ،(وَلاَ يَرْضَى‏ لِعِبَادِهِ الْكُفْر) ؟؟؟!.

حاشا وكلاّ أن يكون إِلهنا

ينهي عن الفحشاء ثُمَّ يريدها

وكما لا جبر عند الله تعالى، كذلك لا تفويض؛ بل الأمر بين بين.

وما ينسب إلى بعض منتحلي التشيّع: (من أنّ الله فوّض الأمور إلى الأئمّة من أهل البيت)، تبرأ منه الشيعة ولا تقول به؛ لأنّهم لا يرون أئمّتهم إِلاّ من عباد الله المخلَصين، الّذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

وعند الشيعة أنّ كلّ من قال أو يقول بالتفويض، أو يجعل لأيّ مخلوق صفة من صفات الخالق الخاصّة به، فهو خارج عن ملّة الإِسلام(١) .

وهناك أمور كثيرة يعتقد الشيعة وجوبها ويفعلونها منذ تكوّنوا إلى اليوم؛ إليك أهمّها؛ وهي خمسة: الصوم، والصلاة، والحجّ، والزكاة، والجهاد في سبيل الله. وهي المعبّر عنها عندهم بفروع الدين.

أمّا (الصوم)، فهو عندهم أربعة أقسام: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه. ولا يجب

____________________

(١) ملخّص عن كتاب (شرح التجريد)، للعلاّمة الحلّي المتوفّى سنة ٧٢٨، ومختصر تاريخ الشيعة، وأصل الشيعة وأصولها، وإنقاذ البشر للشريف المرتضى المتوفّى سنة ٤٣٦.

٣٤

الصوم المفروض في شهر رمضان حتّى يشاهد هلاله أو يثبت بشهادة عدلين أو بالشياع، كما لا يجوز الإِفطار عندهم حتّى يُرى هلال شوّال أو يثبت بالشهادة أو بالشياع.

فمن الخطأ الفادح ما في دائرة المعارف الإنكليزيّة: (من أنّ الشيعة يوجبون الصوم بالعدد، ويجوّزون الإِفطار بالعدد، ولا يشترطون رؤية الهلال).

وأمّا (الصلاة)، فقسمان: واجب، ومستحب؛ ويعبّر عنه بالنوافل. وقد تعرض الحرمة والكراهة على الصلاة من حيث المكان واللّباس.

وأمّا(الحجّ)، فقسمان أيضاً: واجب، ومستحب. وقد يحرم إذا ظنّ المرء تلف نفسه أو عرضه أو ماله في الطريق أو غيره. ولا يجوز الحجّ إلى غير مكّة المكرّمة. ولا غنى لهم عن بيت الله الحرام كما افترى عليهم الرحّالة المصري(ص٢٠٠) من جولته في ربوع الشرق الأدنى. ولا يتمّ حجّهم إلى مكّة، إلاّ بتأدية المناسك على الوجه الكامل في بيت الله الحرام، وفي المواقيت ومنى وعرفة والمشعر.

و(الزكاة) قسمان: واجب في ثلاثة أنواع: ١- الأنعام الثلاثة. ٢- والغلاّت الأربع: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب. ٣- والنقدين من الذهب والفضة. ومستحب: في غير هذه الأنواع.

و(الجهاد) واجب في سبيل الله وحماية بيضة الإسلام. وجهاد النفس الأمّارة من أعظم الجهاد وأعودها نفعاً للفرد وللمجتمع البشري، وهو داخل ضمن الجهاد في سبيل الله بلا ريب؛ لأنّ من جاهد نفسه ووطّنها على فعل الخيرات والابتعاد عن الشرور والمعاصي، كان عمله أنفع من سلّ الحسام في حرب المشركين. وهل أشرك المشركون إِلاّ من إهمال هذا الجهاد للنفس؟، وتغليب الهوى على العقل؟!.

ويلي هذه الفروع في الأهميّة، فرض الخمس(١) :(وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم

____________________

(١) قال الإمام الشافعي (الأم/ ص٦٩): فأمّا آل محمّد، الّذين جُعل لهم

٣٥

مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ... إلخ)، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . ولهما، كما لغيرهما من الأحكام، شروط كثيرة وبحوث دقيقة، مبسوطة في الكتب الاجتهادية لفقه الشيعة، وهي مطبوعة منتشرة في بلادهم وغيرها، فليطلبها من يريد الاطلاع والكتابة عنهم بعلم وإنصاف.

____________________

الخمس عوضاً عن الصدقة، فلا يعطون من الصدقات المفروضات شيئاً.. ولا يحلّ لهم أخذها وليس منعهم حقّهم في الخمس، يُحلُّ لهم ما حرّم عليهم من الصدقة. وأبانَ ابن حجر ( الصواعق/ ص٨٨ ) علّة تحريم الصدقة على آل محمد (ص)، فقال: (ومن تطهيرهم تحريم صدقة الفرض، بل والنفل - على قول مالك - عليهم؛ لأنّها أوساخ الناس، مع كونها تنبيء عن ذلّ الآخذ وعزّ المأخوذ منه. وعوّضوا عنها خمس الخمس، المنبيء عن عزّ الآخذ وذلّ المأخوذ منه. وفي تفسير الطبري: (عن مجاهد: قد علم الله أنّ في بني هاشم الفقراء، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة).

٣٦

الفصل الثاني

الطوائف المتشعِّبة من الشيعة، وكيف تشعّبت؟(*)

١ - تمهيد. ٢ - السبأيّة والخوارج. ٣ - دسائس الخوارج وتخاذل الشيعة. ٤ - الكيسانيّة.

٥ - الزيديّة. ٦- كيف ظهر الزنادقة والغلاة في عهد الصادق؟. ٧ - الإسماعيليّة.

٨ - الفطحيّة. ٩ - الواقفيّة. ١٠ - القطعيّة. ١١ - النصيريّة. ١٢ - حال الشيعة بعد ذلك.

١٣ - ما هي الأسباب في تشعّب تلك الطوائف؟.

١- تمهيد:

كان الشيعة في بدء نشأتهم طائفة واحدة يعتقدون - جميعاً - أنّ الإمامة ليست من الأمور التي تفوّض إلى نظر الأمّة واختيارها(١) ، بل لابدّ فيها من النصّ على الإمام الذي يكون خليفة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووصيّه، ونائباً عاماً عنه في تنفيذ الأحكام وإِدارة شؤون المسلمين. ولا يجوّزون إهمال مثل هذا المنصب الخطير؛ لأنّ ذلك ممّا يوجب الهرج والمرج والفوضى بين الأمّة التي تريد أن تعيّن صاحب هذا المنصب الخطير باختيارها وحسب أهوائها المختلفة وأنظارها المتباينة.

وحاشا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو الذي علم قرب أجله وتباين أمّته في

____________________

(*) نُشر مختصراً في مجلّة العرفان الغرّاء/المجلّد ٢٦.

(١) ظنّي أنّه لولا الاعتقاد بتفويض أمر الإمامة إلى اختيار الأمّة؛ لمـَا تسابق المهاجرون والأنصار إلى (السقيفة). ولولا اختلاف الأهواء والأنظار؛ لمـَا حصل ذلك التخاصم الفظيع يومئذٍ؛ حتّى وطيء صدر زعيم الأنصار وهو مريض؛ ولمـَا حصل ذلك الهرج؛ الّذي لو لم يتداركه عليّ بتغاظيه ونصحه، وأبو بكر بحزمه وحسن سيرته، لقضي على الإسلام في مهده، ونال أهل الردّة ما يريدون، والمؤلَّفة قلوبهم ما يبتغون؛ ولَمَا ظهر دين الحقّ ولو كره الكافرون.

٣٧

الآراء، أن يدعها فوضى، تسارع كلّ قبيلة إلى تنصيب زعيمها ذلك المنصب العظيم، أشرف منصب في الإِسلام. حاشاه من أن يهمل هذا الأمر الخطير، وهو الذي كان إذا غاب عن المدينة أيّاماً قليلة، لا يدعها بغير نائب عنه من خيرة أصحابه؟، أو يهمل أمر الوصيّة وتعيين الوصيّ، وهو الذي كان يأمر المسلمين، وهم أحياء أصحّاء لا يعلمون قرب آجالهم، أن يوصوا ويعيّنوا وصيّاً.

لهذا وغيره، قال الشيعة بوجوب النصّ على الإمام وتعيينه. وقالوا - كما تقدّم في الفصل الأوّل - إن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عيّن أمير المؤمنين(ع) إماماً ووصيّاً وخليفة. واستدلوا على قولهم بأخبار إخوانهم من أهل السنّة، ودوّنوها في كتبهم الخاصّة بالإمامة وفي غيرها. وقد أثبتنا لك - قبل - طرفاً منها وإليك هذا الخبر الصحيح الصريح:

(عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):ألا أدّلكم على ما إنْ تساءلتم عنه لم تهلكوا؛ إنّ وليّكم الله، وإنّ إمامكم عليّ بن أبي طالب، فناصحوه وصدِّقوه، فإنّ جبريل أخبرني بذلك (١) .

استمر الشيعة على هذا القول في الإمامة، ولم تعرض لهم فيه أيّ شبهة، ولم تشبه أيّ شائبة إلى أيّام:

٢- ظهور السبأيّة وخروج الخوارج:

ظهرت بدعة السبأيّة في الغلو على عهد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) عندما (مرَّ بقوم وهم يأكلون في شهر رمضان نهاراً، فقال لهم:أسفر أنتم أم مرضى؟ ، قالوا: لا، ولا واحدة منهما، قال:فمن أهل الكتاب أنتم فتعصمكم الذمّة والجزية؟ ، قالوا: لا، قال:فما بال الأكل نهاراً في رمضان؟ ، فقالوا له: أنت أنت؛ يومون إلى ربوبيّته. فاستتابهم واستأنى وتوعَّدهم، فأقاموا على قولهم، فحفر لهم حفراً دخن عليهم فيها؛ طمعاً في رجوعهم، فأبوا، فحرقهم، وقال:ألا تروني قد حفرت حفراً

____________________

(١) شرح النهج للمعتزلي،ج١، ص٢٥٥.

٣٨

إنّي إذا رأيت شيئاً منكرا

أوقدت ناري ودعوت قنبرا

فلم يبرح (عليه السّلام) من مكانه حتّى صاروا حمماً. ثُمَّ استترت هذه المقالة سنة أو نحوها، حتّى ظهر عبد الله بن سبأ - وكان يهوديّاً يتستّر بالإسلام - بعد وفاة أمير المؤمنين(ع)، فأظهرها، واتّبعه قوم، فسمّوا: السبأيّة. وقالوا: إنّ عليّاً لم يمت. وقالوا في رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)أغلط قول(١) .

فأنت ترى أنّ (السبأيّة) بعيدون - بأَقوالهم هذه وغيرها - عن التشيّع الحقّ كلّ البعد. فمن الظلم والخطأ الفاحش أن يُنْسَبوا إلى الشيعة. وأن يقال: (وفي التشيّع ظهرت اليهوديّة... إلخ). وسترى مزيد بيان لذلك في فصل الغلاة.

وبعد انسلاخ هذه الفئة عن الشيعة والإسلام، انسلخ عنهما في (صِفّين) فئة أخرى سمّيت (الخوارج)(٢) ؛ لأنّها كانت في جند عليّ(ع)، فخرجت

____________________

(١) شرح النهج للمعتزلي،ج٢، ص٣٠٩.

(٢) لقد توسّع الشهرستاني (ج١/ ص٦٥ من مِلله) في إطلاق اسم الخوارج؛ حيث قال: (يطلق على كلّ من خرج على الإمام الحقّ الذي اتّفقت عليه الجماعة، سواء كان خروجه في أيّام الصحابة على الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمّة في كلّ زمان)، ثُمَّ قال: (وإنّ أوّل من خرج على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه)، جماعة ممّن كان معه في حرب صِفّين. وأشدّهم خروجاً عليه ومروقاً من الدين، الأشعث بن قيس الكندي، ومسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي)، وبعد أن ذكر تفرّق الخوارج إلى ٢٧ فِرقة، قال: (وكبار الفِرق منهم: المحكمة، والأزارقة، والنجدات،البيهسية، والصفرية، والعجاردة، والأباضية، والثعالبة، والباقون فروعهم. ويجمعهم القول بالتبري من عثمان وعليّ (رضي الله عنهما)، ويقدّمون ذلك على كلّ طاعة. ولا يصحّحون المناكحات إلاّ على ذلك. [وأوّل فرق الخوارج هم] المحكّمة الأولى: [و] هم الذين خروجوا على أمير المؤمنين (عليه السّلام) حين جرى أمر الحكمين واجتمعوا بحروراء في ناحية الكوفة، ورأسهم عبد الله بن الكواء، وعتاب بن الأعور، وعبد الله بن وهب الراسبي، وعروة بن جرير،ويزيد بن أبي عاصم المحاربي، وحرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية. [....] وهم المارقة الذين قال فيهم (ص): ((سيخرج من ضئضي هذا الرجل (ذي الخويصرة) قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)). [ويسمّون بـ:(المحكّمة) و(الحروريّة)؛ لتحكيمهم أولاً، ثُم عدولهم وخروجهم لحروراء]. انتهى ملخّص كلامه. ويؤآخذ بعدم انطباق رأيه على المعروف من انحصار اسم

٣٩

عن طاعته، وخالفته في استمرار الجهاد حينما لجأ معاوية إلى مكيدة رفع المصاحف، وحينما رفرف النصر على لواء الأشتر قائد الجيش العلوي، وكاد - لو أمهلوه عدوة فرس - أن يأخذ برقاب الجيش السفياني.

وعلى الرغم من نصحه(عليه السّلام) لهذه الفئة الخارجة، وبيانه وجه الخدعة المقصودة من رفع المصاحف، وتحذيره إيّاهم من هذه المكيدة المدبَّرة، بقوله:((أيّها الناس، إنّي أحقّ من أجاب إلى كتاب الله، ولكن (القوم) ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن. إنّي أعرف بهم منكم، صحبتهم صغاراً ورجالاً، فكانوا شرّ صغار وشرّ رجال. ويحكم، إنّها كلمة حقّ يراد بها باطل. أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة، فقد بلغ الحقّ مقطعه، ولم يبق إِلاّ أن يُقطع دابر الذين ظلموا)) (١) . على الرغم من ذلك كلّه، قد أصرّت على ضلالها ونادت بالموادعة، كما أصرّ السبأيّة على ضلالهم. وفيهما يقول الشهرستاني: (ومن الفريقين ابتدأت البدعة والضلالة، وصدَق فيهم قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم):يهلك فيك اثنان، محبّ غال ومبغض قال )(٢) .

ومن غرائب أمر هذه الفئة أنّها مثلما أصرّت على عليّ(ع) بقبول التحكيم أوّلاً، وشهرت السيوف فوق رأسه الشريف، وألجأته إلى إرجاع قائده الأشتر(٣)

____________________

الخوارج بذرّيّة ذي الخويصرة وأتباعهم. وإلاّ، فعلى رأيه ينبغي أن يكون أوّل الخوارج هم الصحابة والمصريّون الذين ألّبوا على عثمان وقتلوه، ثُمَّ طلحة والزبير ومن ساعدهما على حرب عليّ يوم الجمل بعد عقدهما البيعة له.

(١) شرح النَّهج للمعتزلي،ج١، ص١٨٦.

(٢) المِلل والنِّحل،ج١، ص١١ .

(٣) قال حسن السندوبي (البيان والتبيين على الحاشية/ج٢/ ص٦٠)، هو: (مالك بن الحارث الأشتر النخعي ، كان من شجعان العرب وأبطال السلم وفرسان الدنيا. وكان شاعراً مجيداً، وخطيباً بليغاً، وقائداً مدبّراً. وكان من قوّاد الجيوش مع عليّ بن أبي طالب، وشهد معه وقائعه في الجمل وصِفّين، وكان يلي الجزيرة له. وهو الذي كشف جيوش معاوية عن الماء في صِفّين وقتل من قواده وصناديد أجناده سبعة في يوم واحد. وقد بارز عبد الله بن الزبير يوم الجمل وصرعه، مع شيخوخته وطيّه ثلاثة أيّام لم يطعم فيها شيئاً، ومع شباب ابن الزبير وفتآئه وقوّته. وكان عبد الله يصيح اقتلوني ومالكاً. وفي ذلك

=

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

يقوم فيجدّد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلّي حتى يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام إنّ الفجر قد طلع؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل لي ).

وهكذا كان الإمام سيّد المتقين، وإمام المنيبين قد طبع على قلبه حب الله تعالى، وهام بعبادته وطاعته.

ولمّا رأى عبد الله الفضل للإمام حذّره من أن يستجيب لهارون باغتياله قائلاً له: ( اتق الله، ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة فقد تعلم أنّه لم يفعل أحد سوء إلاّ كانت نعمته زائلة ).

فانبرى الفضل يؤيّد ما قاله عبد الله.

( قد أرسلوا إليّ غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك )(1) .

لقد خاف الفضل من نقمة الله وعذابه في الدنيا والآخرة إن اغتال الإمام، أو تعرّض له بمكروه.

نصّه على إمامة الرضا:

ونصب الإمام موسىعليه‌السلام ولده الإمام الرضاعليه‌السلام علماً لشيعته ومرجعاً لأمّته وقد خرجت من السجن عدّة ألواح كتب فيها ( عهدي إلى ولدي الأكبر )(2) .

وقد أهتم الإمام موسى بتعيين ولده إماماً من بعده، وعهد بذلك إلى جمهرة كبيرة من أعلام شيعته كان من بينهم ما يلي:

1 - محمد بن إسماعيل:

روى محمد بن إسماعيل الهاشمي قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر، وقد اشتكى شكاة شديدة فقلت له: ( أسأل الله أن لا يريناه - أي فقدك - فإلى مَن؟ ).

قالعليه‌السلام :

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 469 - 471.

(2) نفس المصدر.

٨١

( إلى ابني علي، فكتابه كتابي، وهو وصيي، وخليفتي من بعدي )(1) .

2 - علي بن يقطين:

روى علي بن يقطين، قال: كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وعنده علي ابنه، فقال: يا علي هذا ابني سيد ولدي، وقد نحلته كنيتي، وكان في المجلس هشام بن سالم فضرب على جبهته، وقال: إنّا لله نعى والله إليك نفسه(2) .

3 - نعيم بن قابوس:

روى نعيم بن قابوس، قال: قال أبو الحسنعليه‌السلام : علي ابني أكبر ولدي، واسمعهم لقولي: وأطوعهم لأمري، ينظر في كتاب الجفر والجامعة، ولا ينظر فيهما إلاّ نبي أو وصي نبي(3) .

4 - داود بن كثير:

روى داود بن كثير الرقي، قال: قلت لموسى الكاظم: جُعلت فداك، إنّي قد كبرت، وكبر سنّي، فخذ بيدي، وأنقذني من النار، مَن صاحبنا بعدك؟

فأشارعليه‌السلام إلى ابنه أبي الحسن الرضا، وقال: هذا صاحبكم بعدي(4) .

5 - سليمان بن حفص:

روى سليمان بن حفص المروزي، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وأنا أريد أن أسأله عن الحجّة على الناس بعده، فلمّا نظر إليّ ابتداني، وقال: يا سليمان إنّ عليّاً ابني ووصيي، والحجّة على الناس بعدي، وهو أفضل ولدي، فإن بقيت بعدي فاشهد له بذلك عند شيعتي وأهل ولايتي، المستخبرين عن خليفتي بعدي(5) .

____________________

(1) كشف الغمّة 3 / 88.

(2) كشف الغمّة 3 / 88.

(3) كشف الغمّة 3 / 88.

(4) الفصول المهمّة (ص 225).

(5) عيون أخبار الرضا 1 / 26.

٨٢

6 - عبد الله الهاشمي:

قال عبد الله الهاشمي: كنّا عند القبر - أي قبر النبي (ص) - نحو ستين رجلاً منا ومن موالينا، إذ أقبل أبو إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ويد علي ابنه في يده فقال: أتدرون من أنا!

قلنا: أنت سيدنا وكبيرنا، فقال: سمّوني وانسبوني، فقلنا: أنت موسى بن جعفر بن محمد، فقال: من هذا؟ - وأشار إلى ابنه - قلنا: هو علي بن موسى بن جعفر، قال: فاشهدوا أنّه وكيلي في حياتي، ووصيي بعد موتي(1).

7 - عبد الله بن مرحوم:

روى عبد الله بن مرحوم قال: خرجت من البصرة أريد المدينة، فلمّا صرت في بعض الطريق لقيت أبا إبراهيم، وهو يذهب به إلى البصرة، فأرسل إليّ فدخلت عليه فدفع إلي كتباً، وأمرني أن أوصلها إلى المدينة، فقلت: إلى مَن ادفعها جُعلت فداك؟ قال: إلى علي ابني، فإنّه وصيي، والقيّم بأمري، وخير بنيّ(2).

8 - عبد الله بن الحرث:

روى عبد الله بن الحرث، قال: بعث إلينا أبو إبراهيم فجمعنا ثم قال: أتدرون لم جمعتكم!

قلنا: لا، قال: اشهدوا أنّ عليّاً ابني هذا وصيي، والقيّم بأمري، وخليفتي من بعدي، مَن كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا، ومَن كانت له عندي عدّة فليستنجزها منه، ومَن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه(3)

9 - حيدر بن أيوب:

روى حيدر بن أيوب، قال: كنّا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا فيه محمد بن زيد بن علي، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه فقلنا له: جعلنا الله فداك ما حبسك؟ - أي ما أخّرك عن المجيء - قال: دعانا أبو إبراهيم اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته، وإنّ أمره جايز - أي نافذ - عليه، وله، ثم قال محمد: والله يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم، وليقولن الشيعة به من بعده، قلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 26 - 27.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا.

٨٣

بل يبقيه الله، وأي شيء هذا؟

يا حيدر إذا أوصى إليه فقد عقد له بالإمامة(1).

10 - الحسين بن بشير:

قال الحسين بن بشير: أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر ابنه عليّاً، كما أقام رسول الله (ص)، عليّاً يوم غدير خم، فقال: يا أهل المدينة أو قال: يا أهل المسجد هذا وصيي من بعدي(2) .

11 - جعفر بن خلف:

روى جعفر بن خلف قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر يقول: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام يقول: سعد امرؤ لم يمت حتى يرى منه خلف، وقد أراني الله من ابني هذا خلفا وأشار إليه - يعني الرضا -(3).

12 - نصر بن قابوس:

روى نصر بن قابوس قال: قلت لأبي إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ، إنّي سألت أباك مَن الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنّك أنت هو، فلمّا توفّي أبو عبد الله ذهب الناس يميناً وشمالاً، وقلت: أنا وأصحابي بك، فأخبرني مَن الذي يكون بعدك؟ قال: ابني علي(4) .

13 - محمد بن سنان:

روى محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن قبل أن يحمل إلى العراق بسنة، وعلي ابنه بين يديه، فقال لي: يا محمد، فقلت: لبّيك، قال: إنّه سيكون في هذه السنة حركة، فلا تجزع منها، ثم أطرق، ونكت بيده في الأرض، ورفع رأسه إليّ وهو يقول: ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء، قلت: وما ذاك؟

قال: مَن ظلم ابني هذا حقّه، وجحد إمامته من بعدي، كان كمَن ظلم علي بن أبي طالبعليه‌السلام حقّه، وجحد إمامته من بعد محمد (صلي الله عليه وآله). فعلمت أنّه قد نعى إلى نفسه، ودلّ على ابنه، فقلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا 1 / 30.

(4) عيون أخبار الرضا 1 / 31.

٨٤

والله لئن مدّ الله في عمري لأسلمن إليه حقه، ولأقرن له بالإمامة، وأشهد أنّه من بعدك حجّة الله تعالى على خلقه، والداعي إلى دينه، فقال لي: يا محمد يمد الله في عمرك، وتدعو إلى إمامته، وإمامة مَن يقوم مقامه من بعده، فقلت: مَن ذاك جُعلت فداك؟ قال: محمد ابنه، قال: قلت: فالرضا والتسليم، قال: نعم كذلك وجدتك في شيعتنا أبين من البرق في الليلة الظلماء، ثم قال: يا محمد إنّ المفضل كان أنسي ومستراحي، وأنت أنسهما ومستراحهما(1) حرام على النار أن تمسّك أبداً(2) .

هذه بعض النصوص التي أُثرت عن الإمام موسىعليه‌السلام على إمامة ولده الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد حفلت باهتمام الإمام موسى في هذا الموضوع، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى تفنيد القائلين بالوقف على إمامته، وإبطال شبههم، وتحذير المسلمين منهم.

وصيّة الإمام:

وأقام الإمام موسىعليه‌السلام ولده الرضا وصيّاً من بعده، وقد أوصاه بوصيّتين، وهما يتضمّنان ولايته على صدقاته، ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة، وإلزام أبنائه باتباعه، والانصياع لأوامره، كما عهد إلى السيدات من بناته أن يكون زواجهن بيد الإمام الرضا؛ لأنّه اعرف بالكفؤ من غيره، فينبغي أن لا يتزوجن إلاّ بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ومنزلتهن.

أمّا الوصية الثانية فقد ذكرناها في كتابنا حياة الإمام موسىعليه‌السلام فلا حاجة لذكرها فإنّي لا أحب أن أذكر شيئاً قد كتبته.

سجن السندي:

وأمر الرشيد بسجن الإمام في سجن السندي بن شاهك وهو شرّير لم تدخل الرحمة إلى قلبه، وقد تنكّر لجميع القيم، لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لله وقاراً، فقابل الإمام بكل قسوة وجفاء فضيق عليه في مأكله ومشربه، وكبّله بالقيود، ويقول الرواة إنّه قيّده بثلاثين رطلاً من الحديد.

____________________

(1) الضمير يرجع إلى الإمام الرضا وابنه محمد الجواد.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 32 - 33.

٨٥

وأقبل الإمام على عادته على العبادة فكان في أغلب أوقاته يصلّي لربّه، ويقرأ كتاب الله، ويمجّده ويحمده على أن فرّغه لعبادته.

كتابه إلى هارون:

وأرسل الإمام رسالة إلى هارون أعرب فيها عن نقمته عليه وهذا نصّها: ( إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعاً إلى يوم ليس فيه انقضاء، وهناك يخسر المبطلون )(1) .

وحكت هذه الرسالة ما ألمّ بالإمام من الجزع والأسى من السجن وأنّه سيحاكم الطاغية أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون.

اغتيال الإمام:

وعهد الطاغية إلى السندي أو إلى غيره من رجال دولته باغتيال الإمام، فدسّ له سمّاً فاتكاً في رطب، وأجبره السندي على تناوله، فأكل منه رطبات يسيرة، فقال له السندي: ( زد على ذلك... )..

فرمقه الإمام بطرفه، وقال له: ( حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه... ).(2) .

وتفاعل السم في بدن الإمام، وأخذ يعاني الآلام القاسية وقد حفّت به الشرطة القساة، ولازمه السندي، فكان يسمعه مرّ الكلام وأقساه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليعجل له النهاية المحتومة.

لقد عانى الإمام في تلك الفترة الرهيبة أقسى ألوان المحن والخطوب، فقد تقطّعت أوصاله من السم، وكان أشق عليه ما يسمعه من انتهاك لحرمته وكرامته من السندي وجلاوزته.

إلى الرفيق الأعلى:

وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الإمامعليه‌السلام ، وأخذ يعاني أقسى ألوان الأوجاع والآلام، واستدعى الإمام السندي فلمّا مثل عنده أمره أن يحضر مولى

____________________

(1) البداية والنهاية 10 / 183.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 1 / 499 - 500.

٨٦

له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولّى تجهيزه، وسأله السندي أن يأذن له في تجهيزه فأبى، وقال: إنّا أهل بيت مهور نسائنا، وحج صرورتنا، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفني(1) واحضر له السندي مولاه فعهد له بتجهيزه.

ولمّا ثقل حال الإمام، وأشرف على النهاية المحتومة استدعى المسيب بن زهرة، وقال له: ( إنّي على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجل فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ، واخضرّ، وأتلوّن ألواناً، فأخبر الطاغية بوفاتي... ).

قال المسيب: فلم أزل أراقب وعده، حتى دعاعليه‌السلام بشربة فشربها، ثم استدعاني فقال: ( يا مسيب إنّ هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنّه يتولّى غسلي، ودفني، وهيهات، هيهات أن يكون ذلك أبداً فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به فإنّ كل تربة لنا محرّمة إلاّ تربة جدّي الحسين بن علي فإنّ الله عزّ وجل جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا... ).

قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه، وكان عهدي بسيّدي الرضاعليه‌السلام وهو غلام فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى وقال: أليس قد نهيتك، ثم إنّه غاب ذلك الشخص، وجئت إلى الإمام فإذا به جثّة هامدة قد فارق الحياة، فانتهيت بالخبر إلى الرشيد(2) .

لقد سمت روح الإمام إلى خالقها العظيم تحفّها ملائكة الرحمن بطاقات من زهور الجنّة، وتستقبلها أرواح الأنبياء والأوصياء والمصطفين الأخيار.

سيّدي أبا الرضا: لقد مضيت إلى دار الخلود بعد أن أدّيت رسالتك، ورفعت كلمة الله عالية في الأرض، ونافحت عن حقوق المظلومين، والمضطهدين، وقاومت الطغيان والاستبداد، فما أعظم عائدتك على الإسلام والمسلمين.

سيّدي أبا الرضا:

____________________

(1) مقاتل الطالبيين (ص 504).

(2) حياة الإمام موسى 2 / 514 - 515.

٨٧

لقد تجرّعت أنواع المحن والغصص والخطوب من طاغية زمانك فأودعك في سجونه، وضيّق عليك في كل شيء، وحال بينك وبين شيعتك وأبنائك وعائلتك؛ لأنّك لم تسايره ولم تبرّر منكره، فقد تزعّمت الجبهة المعارضة للظلم والطغيان، ورحت تندد بسياسته الهوجاء التي بنيت على سرقة أموال المسلمين، وإنفاقها في ملذّاته، ولياليه الحمراء، فسلام الله عليك غادية ورائحة، وسلام الله عليك يوم ولدت ويوم متّ ويوم تُبعث حيّاً.

تحقيق الشرطة في الحادث:

وقامت الشرطة بدورها في التحقيق في سبب وفاة الإمام، وقد بذلت قصارى جهودها في أنّ الإمام مات حتف أنفه؛ لتبرئ ساحة الطاغية هارون، وقد قام بذلك السندي ابن شاهك، وكان ذلك في مواضع منها ما رواه عمرو بن واقد، قال: أرسل إليّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد فخشيت أن يكون لسوء يريده لي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ثم ركبت إليه، فلمّا رآني مقبلاً قال: ( يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأزعجناك؟... ).

( نعم )...

( ليس هنا إلاّ الخير... ).

( فرسول تبعثه إلى منزلي ليخبرهم خبري... ).

( نعم )... ولمّا هدأ روعه، وذهب عنه الخوف، قال له السندي: ( يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك؟... )..

( لا ).

( أتعرف موسى بن جعفر؟... ).

( أي والله أعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر... ).

هل ببغداد ممّن يقبل قوله تعرفه أنّه يعرفه؟... ).

( نعم ).

ثم إنّه سمّى له أشخاصاً ممّن يعرفون الإمام، فبعث خلفهم فقال لهم: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟

فسمّوا له قوماً فأحضرهم، وقد استوعب الليل فعله حتى انبلج نور الصبح، ولمّا كمل عنده من الشهود نيّف وخمسون رجلاً،

٨٨

أمر بإحضار كاتبه، ويعرف اليوم بكاتب الضبط، فأخذ في تسجيل أسمائهم ومنازلهم وأعمالهم وصفاتهم وبعد انتهائه من الضبط أخبر السندي بذلك فخرج من محلّه، والتفت إلى عمرو فقال له: قم يا أبا حفص فاكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر، فكشف عمرو الثوب عن وجه الإمام، والتفت السندي إلى الجماعة، فقال لهم: انظروا إليه، فدنا واحد منهم بعد واحد، فنظروا إليه جميعاً، ثم قال لهم:

( تشهدون كلّكم أنّ هذا موسى بن جعفر؟... ).

( نعم ).

ثم أمر غلامه بتجريد الإمام من ملابسه، ففعل الغلام ذلك، ثم التفت إلى القوم فقال لهم: ( أترون به أثراً تنكرونه؟... ) فقالوا: ( لا ). ثم سجّل شهادتهم وانصرفوا(1) .

كما استدعى فقهاء بغداد ووجوهها، وفيهم الهيثم بن عدي فسجّل شهادتهم بإنّ الإمام مات حتف أنفه(2). وفعل هارون مثل ذلك من الإجراءات والسبب في ذلك تنزيهه من اقتراف الجريمة، ونفي المسؤولية عنه.

وضعه على الجسر:

ووضع جثمان الإمام سليل النبوّة على جسر الرصافة ينظر إليه القريب والبعيد، وتتفرّج عليه المارّة، وقد احتفت به الشرطة، وكشفت وجهه للناس، وقد حاول الطاغية بذلك إذلال الشيعة والاستهانة بمقدّساتها وكان هذا الإجراء من أقسى ألوان المحن التي عانتها الشيعة؛ فقد كوى بذلك قلوبهم وعواطفهم، يقول الشيخ محمد ملة:

مَن مبلغ الإسلام أنّ زعيمه

قد مات في سجن الرشيد سميما

فالغيّ بات بموته طرب الحشا

وغدا لمأتمه الرشاد مقيما

ملقىً على جسر الرصافة نعشه

فيه الملائك أحدقوا تعظيما

وقال الخطيب المفوّه الشيخ محمد علي اليعقوبي:

مثل موسى يرمى على الجسر ميتاً

لم يشيّعه للقبور موحّد

حملوه وللحديد برجليه هزيج

له الأهاضيب تنهد(3)

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(3) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 521.

٨٩

النداء الفظيع:

يا لهول المصاب، يا لروعة الخطب، لقد انتهك السندي جميع حرمات الإسلام، فقد أمر الجلادين أن ينادوا على الجثمان المقدس بنداء مؤلم، فبدل أن ينادوا بالحضور لجنازة الطيب ابن الطيب أمرهم أن ينادوا بعكس ذلك، وانطلق العبيد والأنذال يجوبون في شوارع بغداد رافعين أصواتهم بذلك النداء القذر، وأمرهم ثانياً أن ينادوا بنداء آخر: ( هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت فانظروا إليه ميتاً... )(1) .

قيام سليمان بتجهيز الإمام:

وكان سليمان مطلاًّ على نهر دجلة في قصره، فرأى الشرطة وقطعات من الجيش تجوب في الشوارع، والناس مضطربة، فزعة، فهاله ذلك، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلاً: ( ما الخبر؟ ).

فقالوا له: ( هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر... ).

وأخبروه بندائه الفظيع، فخاف سليمان من حدث الفتنة وانفجار الوضع بما لا تحمد عقباه، وصاح بولده:

( انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد - وهو لباس الشرطة والجيش - )(2) .

وانطلق أبناء سليمان مسرعين ومعهم غلمانهم وحرّاسهم إلى الشرطة، فأخذوا الجثمان المقدس من أيديهم، ولم تبد الشرطة أيّة مقاومة معهم، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الأسرة العباسية.

وحمل جثمان الإمام إلى سليمان فأمر أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي، وانطلق المنادون رافعين أصواتهم بهذا النداء:

( ألا مَن أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر ).

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر.

٩٠

وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين والعابدين، وخرجت الشيعة وهي تلطم الصدور وتذرف الدموع وخرجت السيدات من نسائهم، وهن يندبن الإمام، ويرفعن أصواتهن بالنياحة عليه. وسارت مواكب التشييع وهي تجوب شوارع بغداد، وتردد أهازيج اللوعة والحزن، وأمام النعش المقدس مجامير العطور، وانتهى به إلى موضع في سوق سُمّي بعد ذلك بسوق الرياحين، كما بني على الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس لئلاّ تطأه الناس بأقدامهم تكريماً له(1) ، وانبرى شاعر ملهم فأبّن الإمام بهذه الأبيات الرائعة:

قد قلت للرجل المولّى غسله

هلاّ أطعت وكنت من نصائحه

جنبه ماءك ثم غسّله بما

أذرت عيون المجد عند بكائه

وأزل أفاويه الحنوط ونحّها

عنه وحنّطه بطيب ثنائه

ومر الملائكة الكرام بحمله

كرماً ألست تراهم بإزائه

لا توه أعناق الرجال بحمله

يكفي الذي حملوه من نعمائه(2)

وسارت المواكب متجهة إلى محلّة باب التبن، وقد ساد عليها الوجوم والحزن، حتى انتهت إلى مقابر قريش فحفر للجثمان العظيم قبر، وأنزله فيه سليمان بن أبي جعفر، وهو مذهول اللب، فواراه فيه، وارى فيه الحلم والكرم والعلم، والإباء.

وانصرف المشيعون، وهم يعددون فضائل الإمام، ويذكرون بمزيد من اللوعة الخسارة التي منّي بها المسلمون، فتحيّات من الله على تلك الروح العظيمة التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها ومآثرها.

تقلّد الإمام الرضا للزعامة الكبرى:

وتقلّد الإمام الرضاعليه‌السلام بعد وفاة أبيه الزعامة الدينية الكبرى، والمرجعية العامة للمسلمين، وقد احتف به العلماء والفقهاء وهم يسجلون آراءه في ميادين الآداب والحكمة، وما يفتي به من المسائل الشرعية وغير ذلك من صنوف المعارف والعلم.

____________________

(1) الأنوار البهية (ص 99).

(2) الإتحاف بحب الأشراف (ص 57).

٩١

سفره إلى البصرة:

وبعد وفاة الإمام الكاظمعليه‌السلام سافر الإمام الرضاعليه‌السلام إلى البصرة للتدليل على إمامته، وإبطال شبه المنحرفين عن الحق، وقد نزل ضيفاً في دار الحسن بن محمد العلوي، وقد عقد في داره مؤتمراً عاماً ضمّ جمعاً من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب، وهو من المنحرفين عن آل البيتعليهم‌السلام والمعادين لهم، كما دعا فيه جاثليق النصارى، ورأس الجالوت، والتفت إليهم الإمام فقال لهم:

( إنّي إنّما جمعتكم لتسألوني عمّا شيءتم من آثار النبوة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت، فهلموا أسألكم... ).

وبادر عمرو بن هداب فقال له: ( إنّ محمد بن الفضل الهاشمي أخبرنا عنك أنك تعرف كل ما أنزله الله، وانك تعرف كل لسان ولغة... ).

وانبرى الإمامعليه‌السلام فصدّق مقالة محمد بن الفضل في حقّه قائلاً: ( صدق محمد بن الفضل أنا أخبرته بذلك... ).

سارع عمرو قائلاً: ( إنّا نختبرك قبل كل شيء بالألسن، واللغات، هذا رومي، وهذا هندي، وهذا فارسي، وهذا تركي، قد أحضرناهم... ).

فقالعليه‌السلام : ( فليتكلّموا بما أحبوا، أجب كل واحد منهم بلسانه إن شاء الله... ).

وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجابعليه‌السلام عنها بلغته، وبهر القوم وعجبوا، والتفت الإمام إلى عمرو فقال له: ( إن أنا أخبرتك أنّك ستبتلي في هذه الأيام بدم ذي رحم لك هل كنت مصدقاً لي؟... ).

( لا، فإنّ الغيب لا يعلمه إلاّ الله تعالى... ).

وردّ الإمام عليه مقالته: ( أو ليس الله تعالى يقول:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ ) فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند الله مرتضى، ونحن ورثة ذلك

٩٢

الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة. وإنّ الذي أخبرتك به يا بن هداب لكائن إلى خمسة أيام وإن لم يصح في هذه المدة فإنّي.. وإن صحّ فتعلم أنّك راد على الله ورسوله.

وأضاف الإمام قائلاً: ( أما إنّك ستصاب ببصرك، وتصير مكفوفاً، فلا تبصر سهلاً، ولا جبلاً وهذا كائن بعد أيام، ولك عندي دلالة أخرى، إنّك ستحلف يميناً كاذبة فتضرب بالبرص... ).

وأقسم محمد بن الفضل بالله بأنّ ما أخبر به الإمام قد تحقّق، وقيل لابن هداب: ( هل صدق الرضا بما أخبر به؟... ).

فقال: والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنّه كائن، ولكنّي كنت أتجلّد.

والتفت الإمام إلى الجاثليق فقال له: ( هل دلّ الإنجيل عل نبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( لو دلّ الإنجيل على ذلك ما جحدناه... ).

ووجّه الإمام له السؤال التالي: ( اخبرني عن السكنة التي لكم في السفر الثالث؟... ). وأجاب الجاثليق: ( إنّها اسم من أسماء الله تعالى لا يجوز لنا أن نظهره... ).

وردّ عليه الإمام قائلاً: ( فان قربه ربّك أنّه اسم محمد، وأقر عيسى به، وأنّه بشر بني إسرائيل بمحمد لتقربه، ولا تنكره؟... ).

ولم يجد الجاثليق بُدّاً من الموافقة على ذلك قائلاً: ( إن فعلت أقررت، فإنّي لا أرد الإنجيل ولا أجحده... ).

وأخذ الإمام يقيم عليه الحجّة قائلاً: ( خذ على السفر الثالث الذي فيه ذكر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وبشارة عيسى

٩٣

بمحمد؟... ).

وسارع الجاثليق قائلا: ( هات ما قلته... ).

فأخذ الإمامعليه‌السلام يتلو عليه السفر من الإنجيل الذي فيه ذكر الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال للجاثليق: ( من هذا الموصوف؟... ).

قال الجاثليق: ( صفه ).

وأخذ الإمامعليه‌السلام في وصفه قائلاً: ( لا أصفه إلاّ بما وصفه الله، وهو صاحب الناقة، والعصا، والكساء، النبي الأمي، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم، يهدي إلى الطريق الأقصد، والمنهاج الأعدل، والصراط الأقوم. سألتك يا جاثليق بحق عيسى روح الله، وكلمته، هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وأطرق الجاثليق مليّاً برأسه إلى الأرض، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فقد سدّ عليه الإمام كل نافذة يسلك منها، ولم يسعه أن يجحد الإنجيل، فأجاب الإمام قائلاً: نعم هذه الصفة من الإنجيل، وقد ذكر عيسى في الإنجيل هذا النبي ولم يصح عند النصارى أنّه صاحبكم ).

وانبرى الإمام يقيم عليه الحجّة، ويبطل أوهامه قائلاً: ( أما إذا لم تكفر بجحود الإنجيل، وأقررت بما فيه من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخذ على السفر الثاني، فإنّه قد ذكره وذكر وصيّه، وذكر ابنته فاطمة وذكر الحسن والحسين... ).

وقد استبان للجاثليق ورأس الجالوت أنّ الإمامعليه‌السلام عالم بالتوراة والإنجيل، وأنّه واقف على جميع ما جاء فيهما، وفكّرا في التخلص من حجج الإمام فأبديا الشك في أن الذي بشر به موسى والسيد المسيح هو النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطفقا قائلين:

٩٤

( لقد بشر به موسى وعيسى جميعاً، ولكن لم يتقرّر عندنا أنّه محمد هذا، فأمّا كون اسمه محمد، فلا يجوز أن نقر لكم بنبوته، ونحن شاكون أنّه محمّدكم أو غيره... ).

وانبرى الإمام ففنّد شبهتهم قائلاً: ( احتججتم بالشك، فهل بعث الله قبل أو بعد من ولد آدم إلى يومنا هذا نبيّاً اسمه محمد أو تجدونه في شيء من الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء غير محمد؟... ).

وأحجما عن الجواب، ولم يجدا شبهة يتمسكان بها، وأصرّا على العناد والجحود قائلين: ( لا يجوز لنا أن نقر لك بأنّ محمّداً هو محمّدكم، فإنّا إن أقررنا لك بمحمد ووصيّه وابنته وابنيها على ما ذكرتم أدخلتمونا في الإسلام كرهاً... ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( أنت يا جاثليق آمن في ذمّة الله، وذمّة رسوله أنّه لا يبدؤك منّا شيء تكرهه... ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( إذ قد آمنتني، فان هذا النبي الذي اسمه محمد، وهذا الوصي الذي اسمه علي، وهذه البنت التي اسمها فاطمة، وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور، وطفق الإمام قائلاً: ( هل هذا صدق وعدل؟... ).

( بل صدق وعدل... ).

وسكت الجاثليق، واعترف بالحق، والتفت الإمام إلى رأس الجالوت فقال له: ( اسمع يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود... ).

قال رأس الجالوت: ( بارك الله فيك وفيمَن ولدك: هات ما عندك... ).

وأخذ الإمام يتلو عليه السفر الأول من الزبور حتى انتهى إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن الحسين، ووجه الإمام له السؤال التالي: ( سألتك يا رأس الجالوت بحق الله هذا في زبور داود؟... ).

( نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم... ).

٩٥

وانبرى الإمام قائلاً: ( بحق عشر الآيات التي أنزلها الله على موسى بن عمران في التوراة هل تجد صفة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل؟ ).

ولم يسع رأس الجالوت إلاّ الإقرار والاعتراف بذلك، وأخذ الإمام يتلو في سفر آخر من التوراة، وقد بهر رأس الجالوت من اطلاع الإمام ومن فصاحته وبلاغته، وتفسيره ما جاء في النبي وعلي وفاطمة والحسنين، فقال رأس الجالوت: ( والله يا بن محمد لولا الرياسة التي حصلت لي على جميع اليهود لآمنت بأحمد، واتبعت أمرك، فو الله الذي أنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، ما رأيت اقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منك، ولا رأيت أحسن تفسيراً وفصاحة لهذه الكتب منك ).

وقد استغرقت مناظرة الإمام معهم وقتاً كثيراً حتى صار وقت صلاة الظهر فقامعليه‌السلام فصلّى بالناس صلاة الظهر، وانصرف إلى شؤونه الخاصة، وفي الغد عاد إلى مجلسه، وقد جاءوا بجارية رومية لامتحان الإمامعليه‌السلام ، فكلّمها الإمام بلغتها، والجاثليق حاضر، وكان عارفاً بلغتها، فقال الإمام للجارية: ( أيّما أحب إليك محمد أم عيسى؟... ).

فقالت الجارية: ( كان فيما مضى عيسى أحب إليّ؛ لأنّي لم أكن أعرف محمداً، وبعد أن عرفت محمداً فهو أحب إليّ من عيسى... ).

والتفت لها الجاثليق فقال لها: ( إذا كنت دخلت في دين محمد فهل تبغضين عيسى؟... ).

وأنكرت الجارية كلامه فقالت: ( معاذ الله بل أحب عيسى، وأومن به، ولكن محمداً أحب إلي... ).

والتفت الإمام إلى الجاثليق فطلب منه أن يترجم للجماعة كلام الجارية، فترجمه لهم، وطلب الجاثليق من الإمام أن يحاجج مسيحيّاً من السند له معرفة بالمسيحية، وصاحب جدل، فحاججه الإمام بلغته، فآمن السندي بالإسلام، وأقرّ للإمامعليه‌السلام بالإمامة، وطلبعليه‌السلام من محمد بن الفضل أن يأخذه إلى الحمام ليغتسل، ويطهر بدنه من درن الشرك، فأخذه محمد إلى الحمّام، وكساه بثياب نظيفة، وأمر الإمام بحمله إلى يثرب ليتلقى من علومه، ثم ودّع الإمام أصحابه

٩٦

ومضى إلى المدينة المنوّرة(1) .

سفره إلى الكوفة:

وغادر الإمامعليه‌السلام يثرب متوجّهاً إلى الكوفة، فلمّا انتهى إليها استقبل فيها استقبالاً حاشداً، وقد نزل ضيفاً في دار حفص بن عمير اليشكري، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل، وهو يجيبهم عنها، وقد عقد مؤتمراً عامّاً ضمّ بعض علماء النصارى واليهود، وجرت بينه وبينهم مناظرات أدت إلى انتصاره وعجزهم عن مجاراته، والتفت الإمامعليه‌السلام إلى الحاضرين، فقال لهم: ( يا معاشر الناس، أليس أنصف الناس مَن حاجّ خصمه بملّته وبكتابه، وشريعته؟... ).

فقالوا جميعاً: ( نعم ).

فقالعليه‌السلام : ( اعلموا أنّه ليس بإمام بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ مَن قام بما قام به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله حين يفضي له الأمر، ولا يصلح للإمامة إلاّ مَن حاج الأمم بالبراهين للإمامة... ).

وانبرى عالم يهودي فقال له: ( ما الدليل على الإمام؟... )

فقالعليه‌السلام :

( أن يكون عالماً بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن الحكيم فيحاج أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل القرآن بقرآنهم، وأن يكون عالماً بجميع اللغات حتى لا يخفي عليه لسان واحد، فيحاج كل قوم بلغتهم، ثم يكون مع هذه الخصال تقياً، نقياً من كل دنس، طاهراً من كل عيب، عادلاً، منصفاً، حكيماً، رؤوفاً، رحيماً، غفوراً، عطوفاً، صادقاً، مشفقاً، بارّاً، أميناً، مأموناً... )(2) .

وجرت بينه وبين بعض الحاضرين مناظرات أدّت إلى تمسّك الشيعة بالإمام

____________________

(1) البحار 12 / 21 - 23، بتصرف نقلنا الخبر.

(2) البحار 12 / 23، نقلنا الحديث بتصرف.

٩٧

عليه‌السلام ، وزيادة إيمانهم بقدراته العلمية الهائلة كما أدّت إلى إفحام القوى المعارضة للإمام، وعجزهم عن مجاراته وبهذا نطوي الحديث عن دور الإمام في ظلال أبيه، وبعد وفاته.

٩٨

٩٩

مناظراته واحتجاجاته

واتسم عصر الإمام الرضاعليه‌السلام بشيوع المناظرات والاحتجاجات بين زعماء الأديان والمذاهب الإسلامية وغيرها، وقد احتدم الجدال بينهم في كثير من البحوث الكلامية خصوصاً فيما يتعلّق بأصول الدين، وقد حفلت الكتب الكلامية وغيرها بألوان من ذلك الصراع العقائدي مشفوعة بالأدلة التي أقامها المتكلمون على ما يذهبون إليه.

ومن بين المسائل التي عظم فيها النزاع، واحتدم فيها الجدال بين الشيعة والسنّة: ( الإمامة )، فالشيعة تصر على أنّ الإمامة كالنبوّة غير خاضعة لاختيار الأمّة وانتخابها، وإنّما أمرها بيد الله تعالى فهو الذي يختار لها مَن يشاء من صلحاء عباده ممّن امتحن قلوبهم للإيمان كما يشترطون في الإمام أن يكون معصوماً عن الخطأ، وأن يكون أعلم الأمّة، وأدراها لا في شؤون الشريعة الإسلامية فحسب وإنما في جميع علوم الحياة، وأنكر جمهور أهل السنّة ذلك جملةً وتفصيلاً، ومن الجدير بالذكر أنّ أروقة الملوك والوزراء في عصر الإمام قد عقدت فيها مجالس للمناظرة بين زعماء المذاهب الإسلامية فقد عقدت البرامكة مجالس ضمت المتكلمين من علماء السنة، فناظروا العالم الكبير هشام بن الحكم، وحاججوه في أمر الإمامة، فتغلّب عليهم ببالغ الحجّة، وقوّة البرهان، وممّا لا ريب فيه أنّ عقد البرامكة للخوض في هذه البحوث الحساسة لم تكن بواعثه علمية فقط، وإنّما كانت للاطلاع على ما تملكه الشيعة من الأدلة الحاسمة لإثبات معتقداتها في الإمامة.

ولمّا جعل المأمون ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام التي لم تكن عن إخلاص، ولا عن إيمان بأنّ الإمام أحق وأولى بالخلافة منه، وإنّما كانت لأسباب سياسية سوف نتحدث عنها في غضون هذا الكتاب، وقد أوعز إلى ولاته في جميع

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216