الشيعة في التاريخ

الشيعة في التاريخ0%

الشيعة في التاريخ مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 216

الشيعة في التاريخ

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد حسين الزين
تصنيف: الصفحات: 216
المشاهدات: 57257
تحميل: 5513

توضيحات:

الشيعة في التاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 216 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57257 / تحميل: 5513
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في التاريخ

الشيعة في التاريخ

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كانت لأبيه، والأبن أحقّ بها من الأخ. وفريق ثبتوا على حياة إسماعيل. وهذان الفريقان يسمّيان الإسماعيليّة. والمعروف منهم اليوم من يزعم أنّ الإمامة بعد إسماعيل في ولده وولد ولده إلى آخر الزمان)(١) (ويسمّى الذين قالوا بإِمامة محمد بن إسماعيل: العمارية، والذين أنكروا موت إسماعيل: المباركيّة)(٢) .

وكثر الإسماعيليّة بعد ذلك كثرة هائلة، وانتشروا في الأقطار، وأسّسوا دولة قوّية في القيروان من بلاد المغرب، ثُمَّ في القاهرة من بلاد مصر. وكان أوّل خليفة لهم في القيروان المهدي الفاطمي، نصّبه أبوعبدالله الشيعي المحتسب سنة ٢٩٦، واسمه أبو عبد الله الحسين بن أحمد. وقد جازاه المهدي فقتله سنة ٢٩٨هـ، كما جازى المنصور أبا مسلم الخراساني. وأوّل خليفة لهم في القاهرة المعزّ الفاطمي، أدخله إليها قائده جوهر(٣) سنة ٣٦٢ هـ. وكان آخر خلفائهم في مصر العاضد لدين الله(٤) ، أزاله عن الخلافة صلاح الدين الأيوبي في سنة ٥٦٧ هـ، وأذاقه - وبقية الفاطميّين - ألوان العذاب وصنوف الانتقام.

وقد تطوّرت عقائد الإسماعيليّة في أيّام الحاكم بأمر الله الفاطمي تطوّراً مدهشاً، ودخلها من عقائد الغلاة الشيء الكثير. ولهذا رُمي الفاطميّون

____________________

(١) الإرشاد، ص٣٠٤.

(٢) مِلل الشهرستاني، مجلّد١، ص١٣.

(٣) قال ابن خلِّكان (الوفيّات، مجلّد١، ص١٤٧): (كان أبو الحسن جوهر بن عبد الله شجاعاً مدرَّباً في الحرب. فتح مصر سنة ٣٥٨ هـ، واختّط موضع القاهرة. وأمر بالزيادة عقيب الخطبة: (اللّهم صلِّ على محمّد المصطفى، وعليّ المرتضى، وفاطمة البتول، والحسن والحسين سبطي الرسول، الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً). وشرع سنة ٣٥٩ هـ في عمارة الجامع الأزهر، وفرغ منه سنة ٣٦١، وقبل سنة ٣٦٠. وخطب يوم دخوله مصر، ودعا لمولاه المعزّ الفاطمي، وأقام بها حتّى وصل إليه مولاه. فأبقاه نافذ الأمر، عالي المنزلة، رفيع الدرجة، متولّياً للأمور إلى سنة٣٦٤، فعزله. وكان جوهر محسناً إلى الناس إلى أن توفّي (رحمه الله) بمصر سنة ٣٨١ هـ. ولم يبق شاعر إلاّ رثاه وذكر مآثره).

(٤) ولد العاضد سنة ٥٤٦ هـ، وقتله صلاح الدين سنة ٥٦٧، بعد أن استفتى فقهاء مصر في ذلك.

٦١

بالغلو جزافاً، وجلّهم بريئون من الغلو، إنْ لم نقل كلّهم، كما سنوضحه في بحث الغلاة إن شاء الله.

والإسماعيليّة في عصرنا أقلُّ عدداً من الشيعة والزيديّة. وليس لهم دولة، ولكن أحوالهم الاجتماعية والسياسية حسنة جداً، وخصوصاً الموجودين في الهند، ويقال لهم: البهرة. وهؤلاء يحجّون البيت الحرام، ويزورون جلّ المشاهد المكرّمة لأهل البيت يزكّون ويصومون شهر رمضان، ولهم جمعيات كثيرة في الهند، وأوقاف فيها وفي العراق. ينفقون من ريعها الأموال الطائلة في سبيل الخيرات. وأمرهم عجيب في الاقتصاد والاتحاد تجاه غيرهم، وقلَّ ما تجد منهم فقيراً. وإنّك لتحار في تمييز الرئيس من المرؤوس؛ لأنّ لباسهم غالباً من نوع واحد ولون واحد. ويرغبون في لون البياض حتّى في الشتاء. وجلّهم - أو كلّهم - يلبسون العمامة، ويرسلون شعر الذقن إِرسالاً مفرطاً.

وأمّا نساءهم، فهنَّ في أشدّ حجاب. وإمامهم - أو سلطانهم - الحالي مولانا سيف الدين، عالم في المذهب الإسماعيلي، يجيد العربية وينظم فيها الشعر، وأكثر نظمه مديح في أهل البيت. وقد زار المشاهد المقدّسة في العراق وأهدى لخدّامها هدايا ثمينة، وعمل ضريحاً جديداً لقبر السبط الشهيد في كربلاء(ع) تجلّى فيه الفنّ بأجلى مظاهره، وقد راعني ما رأيته عليه من الخط البديع بالذهب الخالص. وسمعت أنّه شرع في عمل ضريح ثاني لقبر (الوصيّ) في النجف الأشرف.

وأمّا الإسماعيليّة المعروفون (بالأغاخانيّة)؛ نسبة إلى زعيمهم الحالي أغاخان، فهم من الغلاة الباطنيّة البعيدين عن التشيّع والإسلام. وكما أنكر الإسماعيلية إمامة الكاظم (ع) أنكرها:

٨ - الفطحيَّة:

حيث قالوا بإمامة عبد الله بن جعفر الصادق، دون أخويه موسى وإِسماعيل.

(وكان عبد الله أكبر إخوته بعد إسماعيل. ولم تكن منزلته عند أبيه

٦٢

كمنزلة غيره من ولْده في الإكرام. وكان متَّهما بالخلاف على أبيه في الاعتقاد. ويقال إنّه كان يخالط الحشوية ويذهب مذاهب المرجئة. وادّعى بعد أبيه الإمامة، واحتجَّ بأنّه أكبر إخوته، فاتبعه جماعة من أصحاب أبيه(ع)، ثُمَّ رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة أخيه موسى الكاظم(ع)؛ لِمَا تبيّنوا من ضعف دعواه، وقوة أمر الكاظم وبراهين إمامته. وأقام نفر يسير منهم على أمرهم ودانوا بإمامة عبد الله؛ وهم الطائفة الملقَّبة بالفطحيّة؛ لقولهم بإمامة عبد الله، وكان أفطح الرجلين. ويقال إنّهم لقّبوا بذلك لأنّ داعيهم إلى إمامة عبد لله كان رجلاً يقال له: عبد الله بن أفطح)(١) .

ويقول الشهرستاني عن عبد الله هذا: ( كان أكبر إخوته، وما عاش بعد أبيه إلاّ سبعين يوماً، ومات ولم يعقب ولداً ذكراً)(٢) . ثُمَّ إن الذين قالوا بإمامة الكاظم، انقسموا بعده قسمين: قسم قطع بموته، وقسم أنكره ووقف عليه؛ وهم:

٩ - الواقفيَّة:

ويطلق هذا الاسم على كلّ من أنكر موت أحد من الأئمّة ووقف عليه، ولم يسق الإِمامة إلى غيره. وقد أطلقه ابن خلدون على كلِّ ( من يقف من الغلاة على واحد من الأئمّة، لا يتجاوزه إلى غيره). وعلى هذا التوسّع يكون السبأيّة - وهم أوّل الغلاة - أوّل الواقفيّة؛ لأنّهم أوّل (من زعم أنّ عليّاً حيّ لم يقتل)، وبعدهم الكربيّة من الكيسانيّة (وهم أتباع أبي كرب. قالوا بأنّ محمّد بن الحنيفة (رض) حيّ لم يمت، وأنّه في جبل رضوي بين أسد ونمر)(٣) .

ثُمَّ (الناووسيّة: أتباع رجل يقال له ناوس. قالت: إنّ الصادق حيٌ بعد، ولن يموت حتّى يظهر، فيظهر أمره، وهو القائم المهدي)(٤) . ويقال إنّ جماعة

____________________

(١) الإرشاد، المفيد، ص٣٠٤.

(٢) المِلل، مجلّد١، ص٩٥.

(٣) خطط المقريزي، مجلّد٤، ص١٧٤.

(٤) المِلل، الشهرستاني،مجلّد١، ص٩٥.

٦٣

وقفوا على الحسن العسكري (وقالوا إنّه لم يمت، ولا يجوز أن يموت. ولا ولد له ظاهراً، لأنّ الأرض لا تخلو من إمام)(١) . وإنّ جماعة أخرى قالوا بإمامة محمد بن علي الهادي وأنّه لم يمت(٢) . وهناك من توقَّفوا في موت الباقر(ع)، وموت إسماعيل بن جعفر، ومحمد بن إسماعيل، وعبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب.

ولكن اسم الواقفيّة قد غلب، عند الشيعة الاثني عشرية، على الذين توقّفوا في موت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) (وقالوا: إنّه لم يمت، وسيخرج بعد الغيبة. ويقال لهم: الواقفيّة )(٣) . وكان منهم (محمّد بن بشير من أهل الكوفة، من موالي بني أسد. وله أصحاب قالوا: إنّ موسى بن جعفر لم يمت ولم يحبس، وإنّه غاب واستتر، وهو القائم المهدي. وإنّه في وقت غيبته استخلف على الأمّة محمد بن بشير وجعله وصيّه، وأعطاه خاتمه وعلَّمه جميع ما تحتاج إليه رعيّته، وفوض إليه جميع أمره، وأقامه مقام نفسه. ولمـّا قتل محمد بن بشير قالوا بإمامة ابنه، فهو إمام عندهم، مفترض الطاعة إلى وقت خروج موسى بن جعفر (ع) وزعموا أنّ الفرض عليهم من الله إِقامة الصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، وأنكروا الحجّ والزكاة وسائر الفرائض. وقالوا بإباحة المحرّمات والفروج والغلمان، وقالوا بالتناسخ. ومذاهبهم في التفويض مذاهب الغلاة. وكان محمد بن بشير يظهر للواقفة أنّه ممّن وقف على موسى. ولكنّه كان يقول فيه بالربوبيّة، ويدّعي نفسه أنّه نبي)(٤) .

____________________

(١) المِلل، مجلّد١، ص٩٨.

(٢) ولكن الشيخ الطوسي قد روى (الغيبة، ص١٣٠): (أنّ محمدا هذا قد مات في حياة أبيه الهادي). فراجع.

(٣) المِلل، ص٩٦. وروى الشيخ الطوسي (الغيبة، ص٤٦): (أنّ أوّل من أظهر الاعتقاد بالوقف: عثمان بن عيسى الرواسي، وعلي بن أبي حمزة البطائني، وزياد بن مروان القندي. واستمالوا قوماً، فبذلوا لهم شيئاً ممّا اختانوه من الأموال).

(٤) منهج المقال، ص٢٨٦(بتلخيص).

٦٤

وكان من الفطحيّة والواقفيّة رواة كثيرون، يروون عن الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام). فمن الفطحية، أمثال: عمار الساباطي، وابن بكير، وعلي ابن أسباط، ويونس بن يعقوب، وبعض آل فضال.

ومن الواقفية، أمثال: الحسن بن أبي سعيد المكاري وأبيه هاشم كانا من وجوه الواقفة، والحسن بن محمد بن سماعة الكندي الصيرفي الكوفي المتوفّي سنة ٢٦٣هـ، كان من شيوخ الواقفة يتعصّب للوقف ويحامي عنه، وحميد بن زياد من أهل نينوى توفّي سنة ٣١٠هـ. وكان الشيعة الاثني عشرية، ولن يزالوا، لا يعتمدون على رواية الفطحي والواقفي، إِلاّ إذا وثقوا بصدقه وأمانته في النقل؛ أمثال: الساباطي، وابن أسباط، وبعض آل فضال، وغيرهم، ممّن وثّقهم الإمام بعد الكاظم، وأذن للشيعة أن يعملوا بما رواه هؤلاء أيّام استقامتهم واعتدالهم.

والسرّ في عدم اعتماد الشيعة على رواية كلِّ الفطحيّة والوافقيّة؛ أنّ إمام الفطحية كان - كما تقدّم - متَّهماً بالخلاف على أبيه، والذهاب مذهب المرجئة. وأتباعه على طريقته، بضمنه القول بإمامته. ولأنّ لهم، ولكثير من الواقفية، مقالات فاسدة مخالفة للدين الحنيف، خرجوا بها عن التشيّع الحقّ وصاروا من سنخ الغلاة وخصوصاً البشيريّة من الواقفيّة. وأمّا:

١٠ - القطعيَّة:

فهم الذين قطعوا بموت الأئمّة من أهل البيت واحداً بعد واحد إلى الإمام الثاني عشر المنتظر. وأُطلق هذا الاسم عليهم حينما قطعوا بموت الإمام موسى بن جعفر(ع) وأنّه سُمَّ في حبس السندي بن شاهك ببغداد بأمر الرشيد العباسي.

وكان السبب في حبسه وسمِّه - علي رواية ابن حجر - (أنّه لمـّا حجّ الرشيد، سُعي به إليه. وقيل له: إنّ الأموال تحمل إليه من كلّ جانب حتّى اشتري ضيعة بثلاثين ألف دينار. فقبض عليه وأنْفذه لأميره بالبصرة عيسى بن جعفر العبّاسي، فحبسه سنة، ثُمَّ كتب له الرشيد في دمه، فاستعفى، وأخبر أنّه إِن لم يُرسل

٦٥

بتسليمه، وإلاّ خلَّى سبيله. فبلغ الرشيد كتابه، فكتب للسندي بن شاهك بتسلُّمه، وأمره فيه بأمر، فجعل له سمَّاً في طعامه. وقيل في رطب، فتوعك ومات بعد ثلاثة أيّام.

وذكر أيضاً سبباً ثانياً، وهو: إنّه لمـّا اجتمعا أمام الوجه الشريف (على صاحبه أفضل السلام)، قال الرشيد: السلام عليك يا ابن عم، فقال موسى الكاظم:((السلام عليك يا أَبْت)) . فلم يحتملها الرشيد، وكانت سبباً لإمساكه وحمله معه إلى بغداد وحبسه، فلم يخرج من الحبس إلاّ ميِّتاً مقيّداً)(١) .

وروى المفيد المتوفَّى (سنة ٤١٣هـ)، ومثله أبو الفرج المتوفّى (سنة ٣٥٦ هـ) هذين السببين، وأبانا أيضاً مَن هو الذي سعي بالإِمام (عليه السلام)؛ فقالا:

(حمل يحيى بن خالد بن برمك علي بن إسماعيل على السعاية بعمّه الكاظم، وأعطاه مالاً كثيراً، ثُمَّ رغَّبه في قصد الرشيد وتبليغه القول، فقبل عليّ بن إسماعيل. ولمـّا أحسَّ الكاظم بعزم ابن أخيه على قصد الرشيد استدعاه إليه، وقال له:((ابن أخ، إلى أين؟)) ، قال: إلى بغداد. قال:((وما تصنع؟)) ، قال: عليّ دين وأنا مُمْلِق. فقال له موسى الكاظم (ع):((أنا أقضي دينك)) . فلم يلتفت، وعمل على الخروج، وقال: لابدّ لي من ذلك. فقال له عمّه:((انظر - يا ابن أخي - واتّق الله تعالى، ولا تؤتم أولادي)) . وأمر له بثلاثمائة دينار وأربعة الآف درهم. فلمّا قام من بين يديه، قال لمن حضره:((والله ليسعينَّ في دمي)) . فقالوا له: جعلنا فداك، فأنت تعلم هذا منه وتعطيه وتصله؟، قال لهم:(( نعم؛ حدَّثني أبي، عن آبائه، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أنّ الرحم إذا قطعت، فوُصِلت، ثمَُّ قطعت، قطعها الله. وأنّي أردت أن أصِله بعد قطْعه لي؛ حتّى إذا قطعني، قطعه الله)) . فخرج عليّ بن إسماعيل حتّى أتى يحيى البرمكي، فعرّفه خبر موسى بن جعفر، وقال له: إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب، وإنّه اشترى ضيعة سمّاها: اليسير. فرفع يحيى الخبر إلى الرشيد، وزاد فيه. فسمع قول علي بن إسماعيل، وأمر له بمائة إلف

____________________

(١) الصواعق، ص١٢٥.

٦٦

درهم، حوَّله بها على بعض العمّال. ومضت رُسل عليّ لقبض المال، وأقام هو ينتظره. فدخل إلى الخلاء يوماً، فزخز زخرةً خرجت منها حشوته كلُّها، فسقط، وجهدوا في ردها فلم يقدروا، وجائه المال وهو ينزع، فقال: ما اصنع به وأنا في الموت)(١) .

وهناك ما يصلح أن يكون سبباً ثالثاً لحبس الإمام(ع)؛ ذلك قوله: (- لمـّا سأله الرشيد: أنت الذي تبايعك الناس سرّاً ؟ - :أنا إمام القلوب، وأنت إمام الجسوم )(٢) فإنّ مثل هذه الصراحة - التي لم يسمعها الرشيد قبل ذلك من الإمام - كافٍ لأن يوغر صدر الرشيد ويحمله على حبسه. وهذه الأسباب قد سبَّبت، بمجموعها، قتل الإمام. وكان كلّ منها سبباً في جبسه؛ ولذا تعدّد الحبس:

فأوّل حبس له، كما علمت، كان في البصرة

الثاني: في بغداد، عند الفضل بن الربيع.

الثالث: عند الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي. وكان يُوسع على الإمام(ع)، فلمّا بلغ الرشيد ذلك، وهو بالرقة، (كتب ينكر على الفضل إكرامه لموسى الكاظم(ع)، وأمرَ بعزله ولعنه وضَرْبِه مائة سوط، وأرسلَ من تسلَّم منه الإمام، وسلَّمه إلى السندي بن شاهك. فلمّا بلغ يحيى البرمكي خبر ابنه الفضل، ركب إلى الرشيد واسترضاه، وقال له: أنا أكفيك ما تريد. فسرَّ منه الرشيد، وأقبل على الناس، فقال: إن الفضل بن يحيى قد عصاني في شيء، وقد تاب، فتولّوه(؟). ثُمَّ خرج يحيى على البريد، حتّى وافى بغداد، فدعا السندي، فأمره في الكاظم موسى بأمر، فجعل له سمَّاً في الطعام، أو في رطب، فأكل منه، فلبث ثلاثاً ثُمَّ مات. فأدخل السندي عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد؛ وفيهم الهيثم بن عدي، وأشهدهم على أنّه مات حتف أنفه، فشهدوا. وأخرجه إلى الجسر ببغداد، ونودي عليه: هذا موسى بن جعفر قد مات، فانظروا إليه)(٣) .

____________________

(١) الإرشاد، المفيد، ص٣١٩(بتلخيص)، ومقاتل الطالبيّين،ص٣٣٥.

(٢) الصواعق، ص١٢٥.

(٣) الإرشاد، المفيد، ص٣٢٣.

٦٧

فأنت ترى هنا أنّ السندي قد تسلّم الإمام من الفضل بن يحيى، لا من عيسى العباسي كما يظهر من ابن حجر. ومن الجائز أن يكون تسلّمه من الاثنين، ولكن السمّ وقع بعد تسلُّمه من الفضل، وأمر أبيه يحيى بذلك.

وعلى كلٍّ... فهما (أي ابن حجر والمفيد) متّفقان على أنّ الذي باشر قتل الإمام هو السندي، وأنّه قتله بالسمِّ. وقد وافقهما أبو الفرج الإصبهاني على المباشرة، لكنّه خالفهما في كيفيّة القتل؛ حيث يقول: (دعا يحيى بن خالد البرمكي بالسندي، وأمره فيه بأمر، فلُفَّ الكاظم في بساط، وأُقعد الفرّاشون النصارى على وجهه)(١) .

وقولهما: من أنّه قتله بالسمّ، هو المتواتر عند أكثر المؤرّخين والثابت عند الشيعة. (وكانت أولاده حين وفاته ٣٧ ذكراً وأنثى، منهم (عليّ الرِّضا)؛ وهو أنبههم ذكْراً وأجلُّهم قدراً. ومن ثَمَّ أحلَّه المأمون محلَّ مهجته، وأنكحه ابنته، وأشركه في مملكته، وفوَّض إليه أمر خلافته. فإنّه كتب سنة ٢٠١ هـ: بأنّ علياً الرضا وليّ عهده، وأشهد عليه جمعاً كثيرين)(٢) .

وكان الكاظم قد نصّ على إِمامة ولده الرضا (عليهما السّلام)، واعتقد بها جميع الشيعة سوى من وقف على أبيه. ولمـّا تظاهر المأمون بإكرام الإمام الرضا وسائر العلويّين - عكس أسلافه - وصرّح بكثير من عقائد الشيعة، ظهر الشيعة في عصره وتجاهروا بعقائدهم الدينيّة ما ساعدتهم الظروف، ونالوا بعض حرّيّتهم المذهبيّة حتّى عقدوا المآتم لذكرى سيّد الشهداء(ع)، وأنشد شعراءهم القصائد المشجية في رثائه ورثاء بقيّة الأئمّة (عليهم السلام).

ولقد أجازهم الإمام على ذلك جوائز سنَيّة(٣) ، ولم يجزهم على قصائد التهنئة

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين، ص٣٣٥.

(٢) الصواعق، ص١٢٥.

(٣) كانت الجائزة الّتي أخذها دعبل بن علي الخزاعي من أسنى الجوائز حدث عنها دعبل نفسه فقال: (دخلت على الإمام علي بن موسى الرضا، فقال: ((انشدني ممّا أحدثت)) ، فأنشدته:

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

=

٦٨

بولاية العهد له من المأمون، بل قال لأحد شيعته:((لا تشغل قلبك بهذا الأمر، ولا تستبشر به، فإِنّه شيء لا يتم)) (١) .

ولقد كان الأمر كما قال (عليه السلام)؛ لأنّ عهد المأمون له (قد صعب على بني العبّاس. وكان أشدّهم تحرّقاً منصور وإبراهيم أبنا المهدي. فأظهروا الخلاف بعد شهرين، وبايع أهل بغداد إبراهيم بالخلافة في المحرّم سنة ٢٠٢ هـ، بعد أن خلعوا المأمون)(٢) .

فكان ذلك دافعاً قويّاً للمأمون على الوقيعة بالإمام الرضا وسمِّه والتخلص من عهده، ليصفى له الأمر، ويرضى عنه بنو أبيه وأهل بغداد الذين خلعوه. ولذلك (كتب إلى أهل بغداد يعلمهم بموت الرضا، ويقول لهم:: إِنّما نقمتم عليَّ بسببه، وقد مات. فخلع أهل بغداد في هذه السنة، أعني سنة ٣٠٣ هـ، إبراهيم بن المهدي

____________________

=

حتّى انتهيت إلى قولي فيها:

إذا وتروا مدُّوا إلى وآتريهم

أكفاً عن الأوتار منقبضات

قال: فبكى حتّى أغمي عليه. فأومأ الخادم إلى أن أسكت، فسكتُّ، فمكث ساعة، ثُمَّ قال: ((أعد))، فأعدت، فأصابه مثل الذي أصابه في المرّة الأولى. فأومأ إليَّ الخادم أيضاً، فسكتُّ، ثُمَّ مكثَ ساعة أخرى، ثُمَّ قال: ((أعد))، فأعدت إلى آخرها، فقال: ((أحسنت)) ثلاث مرَّات، ثُمَّ أمر لي بعشرة آلاف درهم ممّا ضرب باسمه، وأمر لي من في منزله بحليٍّ كثير أخرجه إليَّ الخادم. فقدمت العراق، فبعتُ كلّ درهم بعشرة، اشتراها منّي الشيعة. فكان أوّل مال اعتقدته.

ثُمَّ إن دعبلاً استوهب من الرضا (رضي الله عنه) ثوباً قد لبسه؛ ليجعله في أكفانه. فخلع عليه جبَّة كانت عليه، فأعطاه بها أهل قم ثلاثين ألف درهم، فلم يقبل. فخرجوا عليه في طريقه، فأخذوها غصباً. وقالوا: إن شئت أن تأخذ المال، وإلاّ فأنت أعلم. فقال: والله، لا أعطيكم إيّاها طوعاً، ولا تنفعكم غصباً وأشكوكم إلى الرضا. فصالحوه على إنْ أعطوه ثلاثين ألف درهم وفردَ كُمٍ من بطانتها، فرضي بذلك. انظر: معاهد التنصيص، ص٢٧٣، و الأغاني، جزء ٧، ص٢٩.

(١) الإرشاد، المفيد،ص٣٣٣.

(٣) تاريخ أبي الفداء،مجلّد٢، ص٢٣، وتاريخ ابن الأثير، مجلّد٦، ص١١١.

٦٩

ودعو للمأمون بالخلافة)(١) .

وسمُّ المأمون للرضا قد ذكره نفر من المؤرّخين واستبعدوا وقوعه من مثل المأمون(٢) ، ولكن هذا الاستبعاد - المستند إلى احترام شخصيّة المأمون، والنظر إليه كخليفة ديني نزيه - لا يرتضيه الباحث الخبير بما وقع من المأمون في سبيل خلافته؛ من قتل أخيه الأمين وغيره، بصورة فظيعة. وليس ابن العمِّ البعيد بأعزّ من الأخ القريب. وليست العوامل الدافعة على قتل الأمين بأكثر من العوامل الدافعة على قتل الإمام الرضا، بل قد تكون هذه أكثر وأقوى؛ لأنّ العبّاسيّين - وكان عددهم يومئذ ثلاثة وثلاثين ألفاً ما بين ذكر وأنثى - قد خلعوا المأمون - كما علمت - من الخلافة، وحرقوا عليه الأرم بسبب عهده إلى الإمام (عليه السلام). وما هدأَت ثائرتهم وانطفئ بركان غيظهم وجنحوا إلى السلم حتّى (كتب لهم يعلمهم بموت الرضا؛ الذي كان السبب في نقمتهم عليه وخلعهم له).

وعلى كلٍّ... فإِن المأمون المحنَّك، لم يقنع بنجاحه في إِرضاء أهل بغداد، بل عمد إلى التبرِّي من دم الإِمام الرضا(ع)، ليأمن من سخط العلويّين الذين كرهوا - من قبل - خلافته وتربَّصوا به الدوائر، وثاروا عليه يدعون إلى الرضا من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ ولذلك (دخل على الرضا وهو يجود بنفسه، فبكى وقال: اعزز عليّ يا أخي أنّي أعيش ليومك، وأغلظ عليَّ من ذلك وأشدُّ، أنّ الناس يقولون: إنّي سقيتك سمَّاً(٣) .

وكان من الثائرين عليه (محمد بن جعفر الصادق. خرج بالسيف سنة ١٩٩، وقيل: سنة ٢٠٠ هـ بمكّة، وقيل : بالمدينة، فبايعه أهل الحجاز واتَّبعه الزيديّة الجاروديّة، وقام معه جماعة من الطالبيّين. وكان سبب خروجه أنّ رجلاً كتب

____________________

(١) تاريخ أبي الفداء،ج٢، ص٢٤.

(٢) منهم ابن الأثير القائل (ج٦، ص١١٩) من تاريخه: (وقيل: إن المأمون سمَّه في عنب، وهو بعيد).

(٣) مقاتل الطالبيّين، ص٣٧٤.

٧٠

كتاباً يسبّ فيه فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجميع أهل البيت(ع)، فجاءه الطالبيّون وقرأوا عليه الكتاب، فلم يرد عليهم، بل دخل بيته ثُمَّ خرج متقلِّداً سيفه، لابساً درعه، وهو يتمثَّل بهذا البيت:

لم أكن من جناتها علم الله

وإني بحرِّها اليوم صال

ثُمَّ خرج إلى جند المأمون الذي كان بإِمرة عيسى الجلودي، فقاتلهم أشدَّ قتال، ولمَّا نفذ الزاد والماء من عنده، جعل أصحابه يتفرَّقون. فلما رأى ذلك، طلب الأمان له ولمن معه من الطالبيين، فأمنه الجلودي وأرسله إلى المأمون بخراسان، ولمـّا وصلها أكرمه وأدنى مجلسه، وتحمّل منه ما لا يتحمّله السلطان من رعيّته. وكان محمد يركب إلى المأمون في موكب فخم من بني عمِّه. ولم يمكث إِلاّ يسيراً حتّى تُوفّي عنده سنة ٢٠٣ هـ بخراسان، وقيل: بجرجان. فركب المأمون ليشهد جنازته، فلقيهم قد خرجوا به. فلمّا نظر إلى السرير، ترجّل ومشى حتّى دخل بين عمودي السرير، فلم يزل بينهما حتّى وضعه على لحده، ثُمَّ صلّى عليه ودخل قبره وبقى حتّى دفن. فقال له عبد الله بن الحسن: قد تعبت يا أمير المؤمنين، فلو ركبت، فقال المأمون: إنّ هذه رحم قُطعت من مائتي سنة.

وكان عابداً، فاضلاً، شجاعاً، يصوم يوماً ويفطر يوماً)(١)

وكان محمد هذا حيّاً أيّام توفّي الإِمام الرضا (أنفذ إليه المأمون، وإلى جماعة من آل أبي طالب، فلمّا حضروا، نعاه - بعد أن كتم أمر موته ثلاثة أيّام - إليهم، وبكى وأظهر حزناً شديداً وتوجّعاً. ثُمَّ أمر بغسله وتكفينه، وخرج مع جنازته حتّى دفنه في دار حميد بن قحطبة في قرية يقال لها: سناباذ؛ من أرض طوس. وفيها قبر هارون الرشيد، وقبر أبي الحسن الرضا(ع)، صار بين يديه في قبلته)(٢) . وعلى قبره اليوم بناء فخم بديع غاية الإِبداع، وفيه آثار ثمينة يندر وجودها، وله

____________________

(١) تاريخ الخطيب البغدادي، ج٢، ص١١٣، ومقاتل الطالبيّين، ص٣٥٣، والإرشاد، المفيد، ص٣٠٥؛ (بتلخيص وتصرُّف).

(٢) مقاتل الطالبيّين، ص٣٧٢، والإرشاد، ص٣٣٩.

٧١

أوقاف كثيرة في إيران.

(وتوفّي الرضا (رضي الله عنه) عن خمسة ذكور وبنت، أجلّهم (محمّد الجواد)، لكنّه لم تطل حياته. وقد أحسن إليه المأمون وبالغ في إكرامه؛ لِمَا ظهر له من فضله وعلمه، وكمال عظمته وظهور برهانه مع صغر سنِّه. وعزم المأمون على تزويجه بإبنته أم الفضل وصمّم على ذلك، فمنعه العبّاسيّون؛ خوفاً من أن يعهد إليه كما عهد إلى أبيه. فلمّا ذكر لهم أنّه إِنّما اختاره لتميّزه على كافّة أهل الفضل، علماً ومعرفةً وحلماً مع صغر سنِّه، نازعوه في اتصاف محمد بذلك. ثُمَّ تواعدوا على أن يرسلوا إليه من يختبره. فأرسلوا يحيى بن أكثم، ووعدوه بشيء كثير إِن قطع لهم محمداً، فحضروا للخليفة ومعهم ابن أكثم وخواصّ الدولة، فأمر المأمون بفرشٍ حسن لمحمد، فجلس عليه، ثُمَّ سأله يحيى عدَّة مسائل أجابه عنها محمدً أحسن جواب وأوضحه، فقال له الخليفة: أحسنت يا أبا جعفر، فإِنْ شئت أن تسأل يحيى ولو مسأَلة واحدة. فسأله محمد، فقال يحيى: لا ادري، فأجاب عنه محمد الجواد. فعند ذلك قال المأمون للعبّاسيّين: قد عرفتم ما كنتم تنكرون. ثُمَّ زوّجه في ذلك المجلس أبنته أم الفضل، ثُمَّ توجَّه بها إِلى المدينة، ثُمَّ قدم بها بطلب من المعتصم في ٢٨ محرّم سنة ٢٢٠ هـ، وتوفّي فيها آخر ذي القعدة، ودفن في مقابر قريش في ظهر جدّه الكاظم وعمره خمس وعشرون سنة، ويقال: إنّه سمَّ أيضاً)(١) .

فأنت ترى أنّ الله سبحانه قد قيَّض المأمون لمحمد الجواد حتّى شهّر بفضله وظهّره للملأ، وقرّبه وقدّمه على كافّة الناس حتّى العبّاسيّين. فكان ذلك دافعاً قويّاً لإظهار سواد الشيعة اعتقادهم بإمامة الجواد(ع).

ولولا ذلك، لأنكرها كثير منهم وانحصر الإعتراف بها في الخواصّ الذين سمعوا النصّ من أبيه عليه وثبت لهم الدليل القاطع على أنّ صغر السن لا يمنع

____________________

(١) الصواعق، ص١٢٦؛( بتلخيص).

٧٢

من الإِمامة لمـَن حاز جميع الفضائل المؤهِّلة لها، وتميَّز على جميع الخلق خلقاً وحلماً وتقىً وشرفاً باسقاً ومجداً مؤثلا.

ومع ذلك كلّه، فإِنّ قوماً من شيعة أبيه، قد شكّوا - على ما قيل - في إِمامته؛ إِذ مات أبوه وهو صغير عمره ثمان سنوات. وتمكّنت هذه الشبهة من بعضهم، ورجع البعض الآخر إلى إِمامته (عليه السلام).

وليست هذه الشبهة (شبهة صغر السن) وليدة عصر هؤلاء الشاكّين، وإِنّما هي قديمة جداً؛ حيث تولّدت قبل عصرهم بسنين، وتشبّث بها كثير من الناس. وقبل وفاة الجواد نصّ على إِمامة ولده عليّ الهادي (عليهما السلام). وعبّر عنه ابن حجر (بعليّ العسكري)؛ حيث يقول: (وتوفّي الجواد عن ذكرين وبنتين، أجلّهم عليّ العسكري. سمّي بذلك؛ لأنّه لمـّا وجّه المتوكّل لإشخاصه من المدينة إِلى سامراء، وأسكنه بها، كانت تسمّى بالعسكر، فعرف بالعسكري. وكان وارث أبيه علماً وسخاءً. توفّي (رضي الله عنه) بـ (سرّ من رأى) في جمادى الآخرة، ودفن بداره. وكان المتوكّل أشخصه إليها سنة ٢٤٣ هـ، فأقام بها إِلى أن قضى عن أربعة ذكور وأنثى، أجلّهم أبو محمد الحسن الخالص. وجعل ابن خلِّكان هذا هو العسكري)(١) .

وعلى كلّ... فقد نصّ الهادي - حين وفاته أيّام المعتز - على إِمامة ولده الحسن العسكري (عليهما السلام). واعتقد بها أكثر الشيعة عدا قوم (قالوا بإِمامة أخيه جعفر بن عليّ. وكان لهم رئيس يقال له: فلان الطاحن؛ كان من أهل الكلام قوّى أسباب جعفر بن عليّ وأمال الناس إليه، وأعانه فارس بن حاتم

____________________

(١) الصواعق، ص١٢٧. وما جعله ابن خلِّكان، هو المعروف المشهور عند الشيعة. فإِذا قيل: العسكري، ينصرف الذهن إلى الحسن دون أبيه عليّ. وقد يُطلق العسكري على عليّ الهادي، ولكنّه بقلّة. وكلا الإطلاقين جائز؛ لأنّ كلاً منهما قد سكن (سرّ من رأى) المسمّاة بالعسكر يؤمئذ.

٧٣

ابن ماهويه(١) ، وقوَّوا أمر جعفر بعد موت أخيه الحسن؛ واحتجوا بأن الحسن مات بلا خلف، فبطلت إِمامته )(٢) .

١١/ ١٢ - ظهور النصيريّة، وحال الشيعة بعد ذلك:

.. وفي أيّام الحسن العسكري(ع) ظهر (النصيريّة؛ أتباع محمد بن نصير الفهري، أو النميري. وكثروا بعد وفاة الحسن، ثُمَّ قلّوا. ولم يزالوا كذلك إلى يومنا هذا. وجُلّهم في جبال اللاّذقيّة، لا نعرف من عقائدهم شيئاً على التحقيق، وإنّما يُشاع عنهم أنّهم يُغالون في عليّ أمير المؤمنين(ع)؛ أي يقولون بربوبيّته، على عكس ما هو معروف من مقالة ابن نصير؛ الزعيم الأوّل للنصيريّة. وعلى كلٍ... فقد تبرّأ الحسن العسكري من مقالات ابن نصير وأتباعه على تلك المقالات الفاسدة. وسترى براءته منهم في مبحث الغلاة إن شاء الله تعالى.

ولقد ضعف أمر الشيعة في أيّام الحسن العسكري وأبيه الهادي (عليهما السلام) وساءت أحوالهم المادية والاجتماعية والسياسية أيضاً؛ من جراء تلك النكبات الشديدة الّتي أنزلها عليهم الحكّام والسلاطين، وخصوصاً المتوكِّل العبّاسي الذي رَّوع الإمام الهادي، وهدم قبر الشهيد الحسين بن عليّ (عليهم السلام) ومنع من زيارته أشدَّ منع.

وكما مُنِي الهادي وأشياعه بالمتوكِّل ومن تلاه، مني أبنه العسكري بالمعتز والمعتمِد. وفي أيّام المعتمِد توفّي الحسن العسكري (ويقال: إنّه سُمَّ أيضاً، ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمد الحجّة، وعمره عند وفاة

____________________

(١) فارس هذا غال ملعون، قد فسد مذهبه وتبرَّأ منه، وقتله بعض أصحاب أبي محمد الحسن العسكري(ع). لا يلْتَفت إِلى حديثه، وله كتب كلّها تخليط. وروي أنّ العسكري تبرّأ منه؛ وكتب: ((هذا فارس بن حاتم بن ماهويه (لعنه الله) يعمل من قِبَل فتاة، داعياً إلى البدعة، ودمه هدرٌ لكلِّ من قتله. فمن هذا الذي يريحني منه، وأنا ضامن له على الله الجنّة)) . انظر: منهج المقال، ص٢٥٧.

(٢) مِلل الشهرستاني، مجلّد١، ص٩٧.

٧٤

أَبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة. وسُمِّي المنتظر؛ لأنّه ستُر بالمدينة وغاب)(١) .

وهو الإِمام الثاني عشر للشيعة الاثني عشريّة؛ لأنّ أباه نصَّ(٢) على إِمامته بحضور الخلَّص من شيعته، ولكنّه أمرهم بالكتمان؛ خوفاً عليه وعليهم.

يقول المفيد: (وكان الحسن العسكري(ع) قد أخفى مولده وستر أمره؛ لصعوبة الوقت وشدَّة طلب السلطان له واجتهاده في البحث عن أمره. وقد سعى عمَّه جعفر بن عليّ في حبس جواري أبيه واعتقال حلائله، وشنَّع على أصحابه بانتظارهم ولده وقطعهم بوجوده والقول بإِمامته، وأغرى بهم القوم حتّى أخافهم وشرَّدهم. وحاز جعفر تركة أبي محمد، واجتهد في القيام عند الشيعة مقامه، فلم يقبل أحد منهم ذلك، فصار إلى سلطان الوقت يلتمس منه مرتبة أخيه، وبَذَلَ له مالاً جليلاً وتقرّب بكلّ ما يظنُّ أنَّه يقرّبه، فلم ينتفع، بل قال له الوالي (الذي طلب منه المرتبة وبَذَل له المال): يا أحمق السلطان، جرّد سيفه في الذين زعموا أنّ أباك وأخاك أئمّة ليردَّهم عن ذلك، فلم يتهيّأ له، فإِنْ كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً، فلا حاجة لك إلى سلطان يرتبك مراتبهم، وإِن لم تكن بهذه المنزلة، لم تنلها بنا. ثُمَّ حجبه عنه حتّى مات الوالي. والسلطان يطلب أثر وَلَد الحسن إِلى اليوم، وهو لا يجد إلى ذلك سبيلاً، وشيعته مقيمون

____________________

(١) الصواعق، ص١٢٧.

(٢) قال المفيد (الإرشاد، ص٣٧٣): (وقد سبق النصّ عليه في ملَّة الإِسلام من نبيّ الهدى(ص)، ثُمَّ مِن أمير المؤمنين عليّ(ع)، ونصّ عليه الأئمّة واحداً بعد واحد إِلى أبيه الحسن، ونصّ أبوه عليه عند ثقاته وخاصّة شيعته). وذكر ابن حجر(الصواعق، ص١٠٠) ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وآخرون: من أنّ النبيّ(ص) قال: ((المهدي من عترتي من ولد فاطمة)) . وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه أنّه (ص) قال: ((لو لم يبق من الدهر إِلاّ يوم لبعث الله فيه رجلاً من عترتي)) ، وفي رواية: ((لا تذهب الدنيا ولا تنقضي حتّى يملك رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي)) .

٧٥

على أنّه مات وخلف ولداً يقوم مقامه في الإِمامة)(١) .

واسم (الولد): محمّد.

ولقبه: المهدي، والمنتظر، والحجَّة، والقائم، وصاحب الزمان.

وكنيته: أبو القاسم.

- ولد سنة ٢٥٥، وقيل: سنة ٢٥٦ هـ.

- وله غيبتان: صغرى، وكبرى؛ وكان بدء الكبرى سنة ٣٢٩؛ وهي السنة التي انقطعت فيها السفارة بينه وبين شيعته.

- وكان عمدة سفرائه(٢) أربعة:

١ - عثمان بن سعيد العمري الأسدي. وكان قبل ذلك وكيلاً لأبي محمد الحسن العسكري (عليهما السلام).

٢- ومحمد بن عثمان بن سعيد المعروف بالخلاني، وكانت وفاته سنة ٣٠٤ هـ.

٣- والحسين بن روح النوبختي، توفّي سنة ٣٢٦ هـ.

٤- وعلي بن محمد السمري، أو السيمري، توفّي سنة ٣٢٩ هـ. وقبل وفاته بأيّام أخرج توقيعاً إِلى الناس ينذر بانقطاع السفارة ووقوع الغيبة الكبرى إِلى أن يأذن الله سبحانه بالظهور، مُوقَّعاً باسم محمّد المهدي(ع). وكلُّ ذلك مذكور تفصيلاً في كتاب منهج المقال، وكتاب الغيبة للشيخ الطوسي. ولقد شاهد هؤلاء السفراء، وكثير من علماء الشيعة يومئذ، إِمامهم محمّد المهدي قبل غيبته الكبرى، وسألوه عن الأحكام التي أشكلت عليهم(٣) .

وبالرغم من ثبوت ولادته والنصّ على إمامته ورؤيته وسؤاله (قيل: إنّ الشيعة اختلفوا في أمره وافترقوا بعد موت أبيه إحدى عشرة فرقة)(٤) من جملتها الفِرقة التي قالت: إن الحسن قد مات وخلف ولَداً يقوم مقامه في الإمامة؛

____________________

(١) الإرشاد، المفيد، ص ٣٦٦، و ٣٦٨ (بتلخيص).

(٢) لقد ادَّعى السفارة له (عليه السلام) جماعة من الغلاة؛ أوّلهم: أبو محمد المعروف بالشريعي، واسمه الحسن، وابن نصير النميري، وأحمد بن هلال الكرخي، وأبو طاهر محمد ابن علي بن بلال، والحسين الحلاج؛ وهو من السنة، ومحمد بن أبي الغراقر الشلمغاني الذي قتل سنة ٣٢٣، وظهرت توقيعات من الحجّة بلعن هؤلاء والبراءة منهم. انظر: الغيبة. الشيخ الطوسي، ص٣٥٧، و٣٧٩.

(٣) انظر: الإرشاد، المفيد، ص٣٨٠، والغيبة للطوسي، تر أسماء الذين أدركوه وشاهدوه وسألوه.

(٤) ملل الشهرستاني، مجلّد، وص ٩٨.

٧٦

وهو ثاني عشر الأئمّة الميامين(عليهم السلام) وتسمّى هذه الفِرقة بالاثني عشرية؛ لحصرها الإمامة في اثني عشر إماماً؛ كلّهم من أشرف بيت في قريش، عملاً بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):((لا ينقضي هذا الأمر حتّى يمضى فيهم اثنا عشرة خليفة؛ كلّهم من قريش)) (١) ، وعن ابن مسعود أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال:((اثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل)) (٢) وعن جابر بن سمرة أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال:((يكون بعدي اثنا عشر أميراً؛ كلّهم من قريش)) (٣) .

وكانت الأكثرية الساحقة - ولم تزل - في جانب الاثني عشرية من بين طوائف الشيعة الثلاث. وكان لهم عدّة دول كالدولة الحمدانية في سوريا؛ التي ظهرت سنة ٢٩٣ هـ وانقرضت سنة ٣٦٨ هـ، والدولة البويهيّة في العراق وقسم في إِيران؛ ظهرت سنة ٣٣٤ هـ وقرضت سنة ٤٣٧ هـ، والدولة المزيدية في الحلّة ونواحيها؛ ظهرت سنة ٤٠٣ هـ وقرضت سنة ٥٥٨ هـ، والدولة الصفوية في بلاد ايران؛ ظهرت سنة ٩٠٥ هـ وقرضت سنة ١١٤٩، ثُمَّ الدولة الأفشارية؛ التي أسَّسها نادر شاه أفشار سنة ١١٤٩ هـ وانقرضت سنة ١١٧٧ هـ، ثُمَّ الدولة الزندية؛ ظهرت سنة ١١٧٧ هـ وانقرضت سنة ١٢٠٢هـ، ثم الدولة القاجارية؛ وكان ابتدائها سنة ١٢٠٢ وانتهائها سنة ١٣٤٤ هـ على يد رضا شاه بهلوي. ولم تزل دولة البهلوي باقية إلى يومنا هذا. وهي وإن كانت شيعيّة اثني عشرية، إِلا أنّها أخذت تتدرج في الابتعاد عن شعائر الشيعة والإسلام، وفي التقرّب من الإفرنج وتقليدهم التقليد الأعمى؛ على طبق ما فعله (أتاتورك) الذي أسَّس هذه السُّنَّة الهوجاء للبهلوي، ولأمان الله خان ملك الأفغان المخلوع من الشعب.

ولو اقتصر هؤلاء الملوك العظام على أخذ المحاسن الإفرنجية، ونبذ تلك

____________________

(١) صحيح مسلم، مجلّد٢، ص٧٩.

(٢) الصواعق، ص١٢.

(٣) الصواعق، ص١١٦.

٧٧

المساوئ التي يأباها العقل ويبتعد عنها ذو الشرف العالي، والتي لم يزل عقلاء الإفرنج يئنون من نتائجها المردية وآثارها الهدَّامة للأخلاق الفاضلة والمجتمع الإنساني.

كما كان للاثنى عشريّة عدَّة دول، كان لهم عدَّة وزراء في الدولتين العباسية والفاطمية وغيرهما، نذكر منهم:

- مؤيِّد الدين محمد بن عبد الكريم القمي؛ من ذرِّيَّة المقداد (رض)، كان وزيراً للناصر العباسي(١) ، ثُمَّ للظاهر، ثُمَّ للمستنصِر. وتوفّي هذا الوزير الكبير سنة ٦٢٩ هـ.

- ومؤيِّد الدين أبا طالب محمد بن أحمد العلقمي(٢) (ولِىَ الوزارة أربع عشرة سنة للمستعصِم؛ آخر

____________________

(١) يقول الفخري (ص٢٣٤): (كان الناصر العبّاسي يرى رأي الإماميّة، ومات سنة ٦٢٢ هـ) بعد أن تخلَّف ٤٧ سنة؛ لأنّه تولَّى الخلافة سنة ٥٧٥هـ. وكانت ولادته سنة ٥٥٢هـ؛ فيكون عمره ٧٠ سنة. وكان يحب أهل البيت ويكرم الشيعة ويعتقد بالإمام الثاني عشر. وله آثار في مقام الإمام بسامراء تدلّ على تشيّعه. وأمّا قوله:

وافي كتابك يا ابن يوسف معلناً

بالودِّ يخبر أنّ أصلك طاهر

غصبا عليَّاً حقَّه إِذ لم يكن

بعد النبيِّ له بيثرب ناصر

فابشر فإِنّ غداً عليه حسابهم

واصبر فناصرك الإمام الناصر

فهو من أوضح الأدلّة على تعمّقه بالتشيّع. وهذه الأبيات جواباً لأبيات عليّ بن صلاح الدين الأيُّوبي الذي شكى فيها من عمّه أبي بكر وأخيه عثمان الأيُّوبيَّين؛ أوّلها:

مولاي إن أبا بكر وصاحبه

عثمان قد غصبا بالسيف حقَّ علي

فخالفاه وحلاّ عقد بيعتهِ

والأمر بينهما والنصّ فيه جلي

فانظر إلى حظِّ هذا الاسم كيف لقى

من الأواخر ما لاقى من الأُوُل

ذكر هذه الأبيات وأبيات الناصر جماعة من المؤرِّخين، منهم: ابن خلِّكان (وفيَّات الأعيان، ج١، ص٤٦٩).

(٢) قال عنه الفخري (ص٢٤٦): (هو أسدي، أصله من النيل (قرية قرب الحلَّة). وقيل لجدِّه العلقمي؛ لأنّه حفر النهر المسمّى بالعلقمي. كان ابن العلقمي: فاضلاً، كاملاً، لبيباً، كريماً، وقوراً، محبَّاً للرئاسة، كثير التجمُّل. وكان يحبُّ أهل الأدب، ويقرِّب أهل العلم. صنَّفَ له الصفاني اللُّغوي كتاب: العياب؛ وهو كتاب كبير عظيم في لغة العرب. وصنَّفَ له عبد الحميد شرح نهج البلاغة، فأثابهما وأحسن جائزتهما. وكانت خزانته تشتمل

=

٧٨

خلفاء العبّاسيّين ببغداد. ولمـّا دخل هولاكو المغولي بغداد سنة ٦٥٦ هـ أقرَّ ابن العلقمي على وزارته، وبقى وزيراً إلى أن توفّي مستهلّ جمادي الآخر سنة ٦٥٧ هـ عن ثلاث وستين سنة، ودفن في مشهد الإمام موسى بن جعفر(ع)، فأمر السلطان أن يكون ابنه عزّ الدين أبو الفضل وزيراً بعده)(١) .

- (وأبا علي بن كفيتات ابن الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي، كان وزيراً للحافظ الفاطمي بمصر سنة ٥٢٤، وقام بالأمر أحسن قيام. وكان إماميّاً متشدِّداً في ذلك، قد خالف ما عليه الدولة من مذهب الإسماعيلية وأظهر مذهب الإمامية، وتمسَّك بالأئمّة الاثني عشر، ودعا على المنابر للقائم بآخر الزمان المعروف بالإمام المنتظر، واسقط ذكر إسماعيل بن جعفر الذي ينسب إليه الإسماعيلية. وقتل أبو علي هذا في ١٦ محرّم سنة ٥٢٦ هـ بالقاهرة)(٢) .

- (وأبا الغارات، الملك الصالح، فارس المسلمين، نصير الدين، طلائع بن رزيك؛ كان من الشيعة الإمامية، واستوزره الفائز الفاطمي في ١٩ ربيع الأوّل ٥٤٩ هـ، فباشر البلاد أحسن مباشرة، ثُمَّ استوزره العاضد؛ آخر الخلفاء الفاطميّين وتزوّج العاضد ابنته، وقتل طلائع هذا يوم الأثنين ١٩ رمضان سنة ٥٥٦ هـ (رحمه الله)، وكانت ولادته سنة ٤٩٥ هـ. وقد رثاه الفقيه عمارة اليمني (المقتول بأمر صلاح الدين على التشيّع سنة ٥٦٩ هـ) بقصيدة أوّلها:

____________________

=

على عشرة آلاف مجلّد من نفائس الكتب. وكان ممدوحاً؛ مدحه الشعراء وانتجعه الفضلاء. وكان خواصّ المستعصِم جميعهم يكرهونه ويحسدونه، وكان الخليفة يعتقد فيه ويحبّه، فكثروا عليه عنده، فكفَّ يده عن أكثر الأمور. ونسبه الناس إلى أنّه خامر، وليس ذلك بصحيح). وقد برَّأه من هذه المخامرة الشائنة علي ظريف الأعظمي البغدادي. انظر: كتابه (مختصر تاريخ بغداد، ص١٢٤) تر الأدلّة العقليّة والنقليّة على براءة هذا الوزير الجليل.

(١) العرفان، مجلّد٢٠، ص٢٨٨.

(٢) خطط المقريزي، ج٤، ص٤٦، و١٦٠، ووفيَّات الأعيان، ج١، ص٣٧١؛ (بتلخيص).

٧٩

أفي أهل ذا النادي عليم أسائله

فإِنّي لِمَا بي ذاهب اللُّب ذاهلُه

ودفن طلائع بالقاهرة، ثُمَّ نقله ولده العادل في تابوت سنة ٥٥٧ هـ، وركب خلفه العاضد إلى تربته بالقرافة الكبرى. ورثاه أيضاً عمارة اليمني بقصيدة طويلة من غرر الشعر، منها في وصف التابوت:

وكأنّه تابوت موسى أُودعتْ

في جانبيه سكينة ووقار

ولعمارة فيه مراث كثيرة غير هذه.

وكان الصالح طلائع قد بني الجامع الذي على باب زويلة بظاهر القاهرة، وكان شجاعاً، كريماً، جواداً، فاضلاً، محبَّباً لأهل الأدب، جيد الشعر، رجل وقته فضلاً وعقلاً وسياسة وتدبيراً، وكان مهاباً في شكله، عظيماً في سطوته، محافظاً على الصلوات؛ فرائضها ونوافلها، شديد المغالاة (؟) في التشيّع. صنَّف كتاباً سمَّاه: (الاعتماد في الردِّ على أهل العناد)، جُمع له الفقهاء وناظرهم عليه. وله شعر كثير يشتمل على مجلَّدين في كلِّ فنٍّ؛ فمنه:

يا أَمَّة سلكت ضلالاً بيِّناً

حتّى استوى إِيمانها وجحودها

مِلْتُم إلى أنّ المعاصي لم يكن

إلاّ بتقدير الإِله وجودها

لو صحَّ ذا كان الإِله بزعمكم

منع الشريعة أنْ تُقام حدودها

حاشا، وكلاَّ أن يكون إِلهنا

ينهى عن الفحشاء ثُمَّ يريدها )(١)

هذه هي جلّ الطوائف التي تشعَّبت من الشيعة في عهد الأئمّة النجباء (عليهم السلام)، وقد علمت - ممّا تقدّم - خروج أكثرها عن التشيّع الحقّ؛ لِمَا ابتدعته من العقائد الفاسدة والغلو القبيح الذي سبَّب براءة الأئمّة من أولئك المبتدعين وأتباعهم. ولقد حدث بعد عهدهم (عليهم السلام) - أي بعد الغيبة الصغرى للإمام الثاني عشر- عدَّة طوائف غالية، انتحلت حب أهل البيت وأضمرت بغضهم، وعدَّها بعض المؤلِّفين من الشيعة جزافاً بدون مستند ولا برهان:

____________________

(١) خطط المقريزي، ج٤، ص٨١، وتاريخ منقريوش الصيرفي، ج١، ص٣٥٢، ووفيّات الأعيان، ج١، ص٢٣٨.

٨٠