الرسائل الفشاركية

الرسائل الفشاركية0%

الرسائل الفشاركية مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 604

الرسائل الفشاركية

مؤلف: آية الله السيد محمد الفشاركي
تصنيف:

الصفحات: 604
المشاهدات: 41099
تحميل: 4365

توضيحات:

الرسائل الفشاركية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 604 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41099 / تحميل: 4365
الحجم الحجم الحجم
الرسائل الفشاركية

الرسائل الفشاركية

مؤلف:
العربية

دلالة بعضها وأنّه لا دلالة فيه، وأمّا قولهعليه‌السلام في موثقة سماعة: إن كان خلط الحرام حلالاً فاختلط جميعاً فلم يعرف الحلال من الحرام فلا بأس، فيحتمل أن يكون المقصود حصول الخلط عند من أصاب منه المال، وحينئذٍ يكون وجه عدم البأس بما ذكر، لأجل وجوب حمل هذه على ظاهرها الذي هو الملكية، وأمّا ما ورد في جواب السؤال عن جواز شراء السرقة أمّا السرقة فلا، إلاّ اذا اختلط مع غيره فلا بأس إذا لم تعرف السرقة بعينها، إلاّ أن يكون من مال السلطان، فان حمل الاستثناء فيه على الاتّصال فيكون معناه أنّه يجوز شراء السرقة مع الخلط إذا لم يعرف السرقة بعينها ومعناه أن شراء السرقة مع الجهل بكونه شراء السرقة لعدم معرفة السرقة لا بأس به، والقول: بأنّ شراء السرقة قد يكون مع جميع أطراف الشبهة، وقد يكون وحدها مع الجهل بكونها كذلك، والذي يقتضيه الحديث باطلاقه جواز شرائها في الصورتين مدفوع: بأنّ المقصود من الخبر التفصيل بين العلم بكون شراء السرقة وبين صورة الجهل بذلك لأجل أنّ المشتري لا يعلم كونها سرقة، بالجواز في الثاني، والحرمة في الأوّل، كما لا يخفى على من تدبّرها والفرض الذي ذكر في صورة شراء السرقة مع الجهل بشخصها مستلزم للعلم بشراء السرقة بعينها وإن جهل شخصه.

والحاصل: أنّ قوله: « أمّا السرقة فلا » يدلّ على أنّ شراء السرقة مطلقا ولو في ضمن امور يعلم أنّ أحدها سرقة ليس بحلال، وقولهعليه‌السلام : « الاّ إذا اختلط إلى آخره »، معناه: أنّ شراء السرقة في الواقع إذا اختلط مع غيره خلطاً يوجب الجهل بكون الشراء شراء سرقة فلا بأس به، وحمله على الأعم من شراء وحده وشرائه مع غيره، مع أنّه مخالف للظاهر، لأنّ الظاهر كون السرقة هو المشترى مستقلاً مناف لاطلاق قوله: أمّا السرقة فلا، فانّه كما عرفت يقتضي المنع عن شراء السرقة ولو في ضمن امور يعلم بأنّ احدها سرقة كما لا يخفى.

وبالجملة: الظاهر المنساق من الرواية: فارق بين شراء محتمل السرقة مستقلاً وبين شراء السرقة قطعاً فلا ربط له بما نحن فيه والحاصل: انّ هذه الأخبار مع كثرتها

١٠١

ليس فيها ما يكون صريحاً في الدلالة على جواز تناول اطراف الشبهة بعضاً أو كلاًّ فالبعض الظاهر منها في ذلك ايضاً بعد ملاحظة ارتكاب الاحتياط في الأذهان لا يبقى له ظهور في ذلك.

وقد يستدلّ لوجوب الموافقة القطعية ببعض الأخبار: كقولهعليه‌السلام : ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ غلب الحرام الحلال(١) ، وقولهعليه‌السلام : اتركوا ما لا بأس به حذراً عمّا به البأس،(٢) وقولهعليه‌السلام في الجواب عن الجبن والسمن في ارض المشركين : أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل، وما لم تعلم فكل(٣) . فانّ الخلط يصدق مع الاشتباه. وقولهعليه‌السلام في رواية ابن سنان: كل شيء حلال حتى يجيئك شاهدان أنّ فيه الميتة(٤) . و قولهعليه‌السلام في حديث التثليث: وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم(٥) . بناء على أنّ المراد من الهلاكة ما هو أثر للحرام، فإن كان الحرام لم يتنجّز التكليف به فالهلاك المترتّب عليه منقصة ذاتية، وإن كان ممّا تنجّز التكليف به - كما فيما نحن فيه - كان المترتّب عليه هو العقاب الاخروي، وحيث إنّ رفع العقاب المحتمل واجب بحكم العقل، وجب الاحتياط عن كل مشتبه بالشبهة المحصورة، ولمّا كان دفع الضرر غير العقاب غير لازم اجماعاً كان الاجتناب في الشبهة المجرّدة مستحب والجواب أمّا عن قوله: ما اجتمع الحلال فانّ الاشتباه غير الاجتماع فإنّ الظاهر أنّ المراد من الاجتماع هو الاختلاط. ومنه يظهر الجواب عن قوله: أمّا ما عرفت أنّه قد خلطه الحرام، فانّ صدق الخلط على الاشتباه محلّ منع، مع أنّا لو سلّمنا أنّه أعمّ من الاشتباه والامتزاج، نقول: إنّ المراد من الخلط هنا هو الامتزاج بملاحظة أنّ

____________________

(١) عوالي اللئالي: ج ٢ ص ١٣٢ ح ٣٥٨.

(٢) سنن ابن ماجة: ج ٢ ص ١٤٠٩ ح ٤٢١٥.

(٣) التهذيب: ج ٩ ص ٧٩ ح ٧١ مع اختلاف فيه.

(٤) وسائل الشيعة: ب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ح ٢ ج ١٧ ص ٩١.

(٥) الكافي: ج ١ ص ٦٧ قطعة من الحديث ١٠.

١٠٢

ما الموصولة هنا كناية عن الجبن والسمن في أرض المشركين، والظاهر من قولنا: اجتنب عن سمن خلطه الحرام ان المراد من الخلط هو الامتزاج فظهر: أنّ قولهعليه‌السلام امّا ما عرفت انه قد خلطه الحرام الى آخره بمنزلة قولهعليه‌السلام اما ما عرفت إنه حرام بعينه في خبر الجدي السابق ذكره، بل يمكن الاستدلال بذيل الخبر: على جواز تناول الشبهة لاطلاق قولهعليه‌السلام : وما لم تعلم فكل، فانّه يعمّ ما لو اقترن بغير المعلوم علم إجمالي، وما لو لم يقترن، وإن كان الجواب عنه يظهر ممّا أسلفناه سابقاً: من أنّ مثله مسوق لبيان حكم الشبهات البدوية وما يجري مجراه.

وأمّا قولهعليه‌السلام : اتركوا ما لا بأس به حذراً عمّا به البأس، فالظاهر أنّه نظير قولهعليه‌السلام في خبر التثليث: من رعى غنمه قرب الحمى نازعه نفسه إلى أن يرعيها في الحمى، ألا ولكل ملك حمى، ألا وإنّ حمى اللّه محارمه، فاتّقوا حمى اللّه ومحارمه(١) الى آخره، في أنّ المراد منه: مجرّد إرشاد وبيان: أنّ النفس اذا تعوّدت بارتكاب الشبهات يهون عنده الأمر في ارتكاب المحرّمات، ويغلب عليه الهوى فلا يهاب ما يترتّب عليها من المفاسد والمؤاخذة.

وأمّا قولهعليه‌السلام : كل شيء حلال حتى يجيئك شاهدان، فالظاهران المراد من الشيء: هو الفرد وكون المجموع شيئاً واحداً اعتباري بل هو حقيقة أشياء فشموله له خلاف الظاهر، مع أنّه لا ريب في أنّ كل واحد من أجزاء المجموع شيء، فيقع التعارض في مدلول الحديث لحكمه على المجموع بالحرمة وعلى كل جزء بالحل.

وأيضاً نقول: حرمة المجموع ينافيه حلّية الجميع، ولا ينافيه حرمة البعض وحليّة البعض، فلو دلّ خبر على أنّ بعض الاطراف يجوز ارتكابه، ويكون الطرف الآخر بدلاً عن الحرام لم يكن بينه وبين هذا الخبر منافاة.

وأمّا خبر التثليث: فدلالته على وجوب الاجتناب انّما هو بعد إحراز تنجّز التكليف من الخارج، ومعه لا حاجة إليه، إذ مع العلم بالتنجّز يحصل العلم بترتّب

____________________

(١) وسائل الشيعة: ج ١٨ ص ١٢٤، ب ١٢ من أبواب صفات القاضي، ح ٤٧.

١٠٣

العقاب على المخالفة، وبعد ضمّ الكبرى المذكورة - وهو أنّ دفع الضرر المحتمل واجب - ينتج وجوب الاجتناب.

وأمّا القول بأنّ المقصود من الاستدلال معارضة ما دلّ على ذلك لو وجد في الأخبار: فهو يرفع الصغرى المقصود اثباته من هذا الخبر، لأنّه كاشف عن عدم تنجّز التكليف بالمعلوم بالاجمال على أيّ تقدير أي على تقدير كونه في كل واحد من الطرفين، وحينئذٍ فلا يثبت بخبر التثليث احتمال ترتّب العقاب على ما اختار ارتكابه من الأطراف، إذ المفروض القطع بعدم العقاب لما دلّ على الترخيص كما لا يخفى.

وقد يستدلّ أيضاً لوجوب الاحتياط: بالأخبار الخاصة - بناءً على أنّه يستفاد من المجموع أنّ هذا الحكم ليس لخصوصية في الموارد، بل انّما هو لأجل أنّ الشأن في كل شبهة محصورة هو ذلك، وأنّ ذلك أمر مفروغ عنه بين الائمةعليهم‌السلام وكذلك الشيعة والعامة - فمنها ما ورد في المائين المشتبهين: وهنا فائدة لابدّ من ذكرها - : وإن لم يكن مربوطاً بالمقام - وهي أنّه قد يقال : انّه يمكن التطهير بالمائين المعلوم وجود النجس في أحدهما بأن يتوضّأ بأحدهما ثم يطهّر بالآخر ما لاقى الماء الأوّل ثم يتوضّأ منه، فانّه حينئذٍ يكون بحكم الاصل أعني اصالة الطهارة في كلما شك في نجاسته متطهّراً عن الخبث ومتطهّراً عن الحدث يقيناً.

وقد يقال: إنّه يجب البناء حينئذٍ على ضدّ الحالة السابقة، لأنّ ما وصل إليه الماء إن كان نجساً قبل ذلك، يكون إرتفاع تلك النجاسة معلوماً والشك في حدوث نجاسة اخرى، لجواز أن يكون الماء الأوّل هو الماء النجس، وإن كانت طاهراً قبل ذلك يكون ارتفاع تلك الطهارة معلوماً بوصول الماء النجس والشك في زوال تلك النجاسة المتيقّنة.

والحاصل: أنّ الاستصحاب فيما إذا كان الطهارة هي الحالة السابقة رافعة لاصالة الطهارة فهو حينئذٍ لا يكون متطهراً عن الخبث ظاهراً.

والجواب: أنّ لنا أن نستصحب الطهارة الموجودة حال ورود الماء الطاهر،

١٠٤

والنجاسة حال ورود النجاسة، وحينئذٍ يكون كل واحد من الاستصحابين متعارضين، وليس لنا يقين بارتفاع أحد الحالتين المفروضتين، وانّما المتيقّن هو ارتفاع الحالة السابقة على ورود المائين، ونحن لا نريد من استصحاب الطهارة أو النجاسة، إستصحاب تلك الحالة المفروضة حتى يقال: إنّها منتفية الارتفاع، وحينئذٍ يرجع إلى أصل الطهارة، فيكون مستعمل هذا الماء متطهّراً عن الحدث والخبث، والظاهر أنّ مورد الأخبار الدالّة على وجوب الاجتناب ليس ما يمكن فيه الاحتياط بمثل هذا الجمع.

ومنها ما ورد في الصلاة في الثوبين المشتبهين: فانّه لو كان بعض الاطراف أو كلّها مع وجود هذا العلم الاجمالي بحكم الطاهر ظاهراً، لم يكن وجه للحكم بالاحتياط والجمع بين الصلاتين.

ومنها ما ورد في وجوب غسل الثوب من الناحية التى يعلم باصابة بعضها للنجاسة معلّلاً فيه: بقوله حتى تكون على يقين من طهارته(١) . فانّ وجوب تحصيل اليقين بالطهارة - على ما يستفاد من التعليل - يدلّ على أنّ أصالة الطهارة لا يكون جارية بعد العلم الاجمالي. إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على الحكم بنفسها، أو بضميمة حكم العقل بعد صرف الروايات الدالّة على الحلّ - على تقدير شمولها لمورد الشبهة ظاهراً - عن ظاهرها بمعونة حكم العقل بناءً على ما سبق من أنّ اقترانه يكون [ مانعا: ط ] عن ظهور الخطاب في شموله لمورد الحكم الاجمالي.

تنبيهات

الأوّل: انّ وجوب الاحتياط انّما يحكم به العقل ويستقلّ به حيث كان حدوث التكليف بأمر مردّد بين المشتبهين معلوماً، فلو لم يكن ذلك معلوماً لا يجب الاجتناب، فلو علم بوقوع قطرة من البول بين أحد الانائين اللذين أحدهما كراً

____________________

(١) وسائل الشيعة: ب ٧ من أبواب النجاسات ح ٢ ج ٢ ص ١٠٠٦.

١٠٥

معلوم النجاسة تفصيلاً أو أحدهما خارج عن تحت ما يتمكّن المكلّف من استعماله لم يجب الاجتناب عن الاناء الآخر الذي ليس بكر، أو ليس بمعلوم النجاسة تفصيلاً، أو يكون ممّا يمكن استعماله والسّر في ذلك: إنّ وجوب الاحتياط انّما يكون ثابتاً لكونه طريقاً للامتثال اليقيني للتكليف المعلوم ثبوته بسب العلم الاجمالي بوجود الموضوع المحرّم بين الأطراف فحيث انتفى العلم بالتكليف ينتفي لازمه وهو وجوب الاحتياط. وهذا الكلام مطرد في جميع المواضع التي تكون في بعض الأطراف خصوصية لا يحصل القطع معها بثبوت تكليف بالاجتناب عن موضوع - معلوم التحقّق بين الاطراف - مجهول شخصه ومن هذا الباب ما لو كان بعض الأطراف خارجاً عن ابتلاء المكلّف. والمراد بخروجه عن الابتلاء: أن يكون بحيث لا يصحّ أن يكلّف بالاجتناب عنه منجّزاً من غير تعليق بشيء مثل التملّك، والاستعارة، أو غير ذلك، فانّ بعض الأطراف اذا لم يكن تعلّق التكليف الفعلي به حسناً لو كان حراماً، لا يكون التكليف بالموضوع المحرّم وجوده بين الأطراف معلوماً، لاحتمال أن يكون متّحداً مع ما خرج عن مورد إبتلائه، وحينئذٍ فلا موجب للاحتياط فيما يكون المكلّف مبتلى به من الأطراف، لأن وجوب الاحتياط انّما حكم به العقل لكونه مقدّمة لحصول العلم بالامتثال وذو المقدّمة لا يكون واجباً، لأنّ منشأه وهو وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد غير معلوم، بل معلوم العدم بالأصل.

وبعبارة اخرى: وجوب الاجتناب في كل واحد من الأطراف، إمّا لسقوط أصالة البراءة للمعارضة بمثلها - وهي الأصل في باقي الاطراف - إن قلنا بشمول أخبار أحل ما لم يعلم حرمته للمشكوك المقرون بالعلم الاجمالي، أو لعدم كونها جارية في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي، لاستقلال العقل بوجوب الاحتياط مع وجوب تكليف متعلّق بموضوع موجود مجهول شخصه، إن قلنا بأنّ الأخبار المذكورة غير شاملة لمثل ما ذكر.

وكلا الوجهين منتفيان هنا، أمّا الاوّل: فلأنّ أصل البراءة في المورد الذي

١٠٦

يكون خارجاً عن ابتلاء المكلّف لا مجرى له، إذ ليس للمكلّف تعلّق به من حيث العمل حتى يجري الاصل، وعدم جريانه يكون الأصل في الطرف الآخر سليماً عن المعارض.

وأمّا الثاني: فلأنّ التكليف الفعلي غير معلوم، لاحتمال اتّحاد الموضوع الذي حكمه الحرمة، مع ما لم يكن المكلّف مبتلى به، وحينئذٍ يكون العقل حاكماً بالبراءة بالنسبة إلى ما يبتلى به المكلّف، كما أنه يحكم بها أيضاً بالنسبة إلى ذلك الموضوع.

بل يمكن أن يقال: إنّ أخبار البراءة - مثل قولهعليه‌السلام : كل شيء فيه حلال(١) إلى آخره، وقولهعليه‌السلام : كل شيء لك حلال(٢) إلى آخره - شاملة لما لا يكون خارجاً عن ابتلاء المكلّف فيما نحن فيه، بل وكذا أخبار أصالة الطهارة - مثل قولهعليه‌السلام : كل شيء لك طاهر(٣) - وإن قلنا: إنّ تلك الأخبار لا تشمل المشتبه المقرون بالعلم الاجمالي - كما يأتي - بل كذلك أخبار الاستصحاب، وإن قلنا: بانّ الاذن في المخالفة القطعية ممكن ولا يكون قبيحاً، وقلنا: إنّ عدم جريان تلك الأخبار في أطراف العلم الاجمالي لما فيها من الدلالة على وجوب نقض الشك باليقين الاجمالي لا لعدم تعقّل الاذن في المخالفة القطعية أيضاً.

بقي الكلام في شىء: وهو أنّ تميّز موارد الابتلاء عن موارد عدمه مشكل، ومقتضى الأصل عند الاشتباه: إلحاق العلم الاجمالي - الذي شكّ في خروج بعض أطرافه عن الابتلاء - بما علم خروج بعض أطرافه عن الابتلاء، وذلك لأنّ الحكم بالبراءة فيما لم يخرج عن الابتلاء لعدم العلم بالتكليف بالاجتناب عن الموضوع المشتبه الذي أوجب جريان الأخبار في ذلك الطرف على تقدير شمولها لصورة العلم الاجمالي، وحكم العقل بالبراءة فيه على تقدير عدم جريانها، وعدم العلم يكفي فيه الشك في دخول بعض الأطراف فيما يبتلى به المكلّف كما لا يخفى.

____________________

(١) الكافي: ج ٥ ص ٣١٣ ح ٣٩.

(٢) الكافي: ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠.

(٣) مستدرك الوسائل: ج ١ ص ١٦٤ ح ٥.

١٠٧

وقد يقال: إنّ مقتضى الأصل وإن كان ذلك، إلاّ أنّ إطلاق أدلّة وجوب الاجتناب عن المحرّمات مانع عن جريانها في ما فرض الكلام فيه لأنّ مقتضى إطلاق تلك الأدلّة: وجوب الاجتناب حتى في ما يكون خارجاً عن الابتلاء، والقدر المتيقّن من الموارد التي خرج عنها موارد علم خروجها عن الابتلاء، وغيرها يكون خروجه مشكوكاً، والعمل بالاطلاق حينئذٍ متعيّن - لما تقرّر في محلّه - : من أنّ الشك في خروج الأفراد إذا كان ناشئاً من إجمال المقيّد للاطلاق حكمه، الرجوع إلى الاطلاق والأمر فيما نحن فيه كذلك، لأنّ الشك في موارد الابتلاء، انّما هو لعدم إمكان ضبط مفهوم المقيّد على وجه لا يخفى شيء من مصاديقه.

وفيه نظر من وجهين: الأوّل: انّ الابتلاء ليس من شرائط ثبوت الحكم في الواقع، حتى يكون إطلاق ما دلّ على ثبوته حجّة في مورد الشك في الابتلاء، بل هو من شرائط تنجّز الخطاب وفعليّة الطلب، ولا ريب أنّ إطلاق الأدلّة انما يفيد في الشرائط الموجبة لتقييد الحكم واقعاً.

والحاصل: انّ الخمر الذي يبتلي به المكلّف يكون المطلوب عدم شربه واقعاً، ولكن توجّه هذا الخطاب إلى المكلّف وتنجّزه في حقّه مشروط بكونه محلّ إبتلائه، فمع الشك في الابتلاء، لا معنى لرفع الشبهة بهذا الخطاب الموجود في حالتي الوجود والعدم، الاّ أن يقال: إنّ إطلاق الخطاب وتوجيهه إلى المكلّفين - مع عدم صحّة التوجيه إلاّ في صورة الابتلاء - كاشف عن وجود شرائط التوجيه.

وفيه وفي أصل النظر تأمّل.

الثاني: أنّا لو سلّمنا أنّ الابتلاء من شرائط ثبوت الحكم واقعا - بحيث حكمنا أنّ من خرّج المحرّم عن ابتلائه لا يكون محرّماً عليه واقعاً - نمنع أنّ الخطاب في مقام البيان - من حيث حالة المكلّفين من الابتلاء والعدم - لأنّ المطلّقات الواردة في بيان المحرّمات واردة في مقام بيان المحرّمات عن المباحات، وليست في مقام بيان من يحرم عليه، ويطلب اجتنابه عنها من هذه الجهة، حتى يكون اطلاق الخطاب في مورد الشك حجّة فتأمّل.

١٠٨

والحاصل: أنّ الخطابات منها ما يقصد منها الشروع الفعلي ومنها ما يقصد تشريع الحكم، والإبتلاء والعدم انّما يلاحظ في الخطابات التي من القسم الأوّل، دون ما يكون من القسم الثاني: فالتمسّك بالمطلقات الواردة في بيان تشريع الحكم لا وجه له، اذ ليست هي في مقام بيان حال المخاطب حتى يكون عدم تقييدها في هذا المقام دليلاً على الاطلاق فتأمّل في الفرق بين الاعتراضين.

التنبيه الثاني: لا ريب في أنّ العلم الاجمالي بوجود الحرام انّما يوجب الاحتياط خاصّة بالنسبة إلى كل واحد من المشتبهات، وأمّا الآثار - التي موضوعها نفس ذلك الحرام غير وجوب الاجتناب - فلا يثبت للأطراف، فمن شرب أحد الانائين اللذين أحدهما خمر لا يثبت عليه حدّ الخمر لا لأنّ الحدود تدرأ بالشبهات، بل لأنّ موضوع الحكم غير ثابت.

ومن هنا انقدح: أنّ ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة لا يكون محكوماً بالنجاسة، لأن ثبوت نجاسته موقوف على إحراز كونه ملاقياً للنجس، وهذا المعنى غير معلوم، فكيف يحكم بنجاسته ووجوب الاجتناب عنه.

وقد يقال: إنّ تنجّس الملاقي وعدمه مبنيّان على أنّ تنجّس الملاقي انّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس - بناءً على أنّ الاجتناب عن النجس يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط، أو أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به الاّ الاجتناب عن العين، وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتّب على العنوان الواقعي من النجاسات نظير وجوب الحد للخمر - ، فإذا شكّ في ثبوته للملاقي، جرى فيه أصل الطهارة، وأصل الاباحة.

وفيه: انّا لو سلّمنا أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي وتنجّسه انّما جاء من وجوب الاجتناب عن النجس، نقول: إنّ ذلك لا يستلزم الاجتناب عن ملاقي المشتبه بالنجس، لأنّ تنجّز الخطاب بالاجتناب عن نفس النجس كما يكون مشروطاً بوجود نجس معلوم ولو اجمالاً، كذلك تنجّز ذلك الخطابات بالنسبة إلى الملاقي موقوف على وجود ملاقي النجس على وجه يعلم ملاقاته له، ضرورة أنّه

١٠٩

لا معنى لطلب الاجتناب عن الملاقي مع عدم وجوده ولو فرض العلم التفصيلي بالنجس، ولا ريب أنّ ملاقي المشتبه بالنجس لا يعلم كونه ملاقياً للنجس، وإلاّ كان المشتبه معلوم النجاسة فتأمّل.

فان قلت: هب ان الملاقي لأحد الأطراف لا يعلم كونه ملاقياً للنجس، إلاّ أنّ العلم الاجمالي بكونه أو المشتبه الآخر الذي بازاء الملاقى - بالفتح - نجساً يوجب الاجتناب، كما أنّ العلم بنجاسة الملاقى - بالفتح - أو الطرف الآخر أوجب الاحتياط بالنسبة اليهما، وهذا - نظير ما لو انقسم أحد الانائين إلى قسمين فانّه يجب الاجتناب عن كل قسم.

قلت: حكمنا بعدم وجوب الاحتياط هنا انّما هو لجريان أدلّة البراءة في الملاقي - بالكسر - العقلية منها والنقلية، كما أنّ الأمر كذلك في مسألة خروج بعض الأطراف عن الابتلاء.

أمّا جريان الأدلّة العقلية فبيانه: أنّ العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو ما بإزاء الملاقى - بالفتح - لا يكون سبباً للعلم بتكليف بالاجتناب عن نجس، لأنّه لم يكن سبباً للعلم بوجود نجس غير الذي علمنا وجوده بين الملاقى - بالفتح - وما بإزائه فالعلم الاجمالي لم يوجب الاحتياط بالنسبة إلى الملاقي - بالكسر - لأنّه انّما يوجب الاحتياط لأجل تنجّز التكليف بوجوده والتكليف بالاجتناب في الملاقي - بالكسر - للجهل بكونه نجساً مجهول، فهو مندرج في كلّي مجهول الحكم الذي فيه البراءة وعدم وجوب الاحتياط.

وأمّا مسألة انقسام أحد الانائين بقسمين فليس من هذا القبيل، لأنّ التكليف المعلوم الذي وجب امتثاله موضوعه مردّد بين مجموع القسمين والاناء الآخر وذلك ظاهر بخلاف ما نحن فيه فان التكليف بالاجتناب موضوعه مردّد بين الملاقى - بالفتح - وما بإزائه وإن كان العلم بالملاقي(١) حاصلاً عند العلم بوجود النجاسة

____________________

(١) بالملاقاة (ظ).

١١٠

بين الإنائين لأنّ وجوب الاجتناب الملاقي لا يكون مستفاداً من وجوب إجتناب النجس، بل هو حكم آخر سببي وضعي.

وأمّا الاخبار: فأمّا دلالتها على البراءة فيما نحن فيه - بناءً على شمولها للمشتبه ولو كان مقروناً بالعلم الاجمالي - فظاهر لأنّ رفع اليد عنها في كل واحد من المشتبهين انّما هو لعدم جواز الاذن في المخالفة القطعية وعدم ما يوجب التخصيص(١) ببعض الاطراف، لانّ قيام العلم الاجمالي بالملاقى - بالفتح - وما بإزائه أوجب سقوط الأصل فيهما وحينئذٍ فجريانه في الملاقي لا مانع منه، لأنّ معارضة الأصل الجاري فيما بازاء الملاقى - بالفتح - بالجاري في نفس الملاقي، موجب للحكم بخروج بعض معيّن من اطراف العلم الاجمالي الثاني - الذي يكون الاذن في المخالفة القطعية مخالفاً للعقل - عن عموم الخبر، ودخول بعض معيّن فيه تحته، والحكم بخروج معيّن من أطراف العلم الاجمالي الأوّل(٢) ، مع كون العلم بالملاقاة والعلم بوجود النجس متقاربين لا وجه له، إذ ما دام الأصل في الملاقى - بالفتح - جارياً لا يكون الملاقي - بالكسر - مجهول الحكم، حتى يكون الأصل فيه مسقطاً للأصل الذي بازاء الأصل في الملاقي فيكون سليماً عن المعارض.

وأمّا بناءً على أنّ أخبار الحلّ غير شاملة لموارد العلم الاجمالي فيمكن أن يقرّر بوجهين:

الأوّل: إنّ العلم الاجمالي بوجود النجس بين الملاقي - بالكسر - والطرف الآخر لما لم يكن حكمه الاحتياط في الملاقي - بالكسر - عند العقل كان اقتراح الشك فيه كاقتراح الشك في الشكوك البدوية وكان قيام الشك في النجاسة بالطرف الآخر بمنزلة العدم بالنسبة إلى الشك في الملاقي - بالكسر - ولهذا صار داخلاً في عموم ما دلّ على أنّ الشبهات البدوية لا يجب الاحتياط فيها، وهذا البيان بعينه جار فيما لو خرج بعض الأطراف عن الابتلاء، فانّ الشك فيما خرج عن الابتلاء بمنزلة العدم،

____________________

(١) الخروج (خ).

(٢) الثاني (ظ).

١١١

والعلم الاجمالي بوجود نجس بين ذلك وبين ما يبتلى به، لعدم اقتضائه وجوب الاحتياط بمنزلة العدم، ولهذا يكون اقتراح الشك فيه عرفاً كاقتراح الشكوك في الشبهات البدوية.

والحاصل: أنّ قوله: كلّ شيء فيه حلال وحرام(١) ، وإن كان معناه: إنّ كلّ ما شك في كونه حلالاً وحراماً وكان اشتمال النوع في الخارج أو في الذهن على قسمين سبباً للشبهة فيه، فهو لك حلال شامل لما نحن فيه، لأنّ الشبهة الخارجية لكونها بمنزلة العدم لا يكون اقتراح الشبهة شبهة، في كون هذا الملاقي أو ما يبتلى به هو النجس المعلوم، بل يكون شبهة في كون هذا الفرد داخل في عنوان النجس أم لا فتأمّل.

الثاني: إنّ الشبهة في حلّية الشيء وحرمته قسمان:

أحدهما: ما يكون مقروناً بما يوجب الاحتياط كالشبهة في أطراف العلم الاجمالي بالحرام بين امور محصورة.

وثانيهما: ما لا يكون كذلك كالشبهات البدوية وأطراف الشبهات الغير المحصورة، وأخبار الحلّ شاملة للقسم الثاني بجميع اقسامه، وأمّا القسم الأوّل فهو خارج عن عمومه، لأنّ الظاهر من الأخبار - بقرينه السؤالات وقوله: في بعض الأخبار من أجل مكان واحد يحتمل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض - أنّ المقصود بيان حكم الشبهات التي ليست بمقرونة بما يوجب الاحتياط، وأنّ الشبهة بمجرّدها ليست كافية في وجوب الاحتراز عن المشتبه، بل ينبغي البناء على عدم الاعتناء، ولا ريب في أنّ ما خرج مقابلة من الأطراف عن الابتلاء ومثل ملاقي المشتبه لا يكون الشبهة فيها مقرونة بما يوجب الاحتياط فيكون داخلة في الأخبار.

وبالجملة: أخبار الحلّ وإن كانت تشمل مثل الشبهة الغير المحصورة، والبدوية، والمحصورة، إلاّ أنّ المقصود لمّا علم أنّه بيان حكم الشبهة من حيث هو، لا من

____________________

(١) الكافي: ج ٥ ص ٣١٣ ح ٣٩.

١١٢

حيث اقترانه بما يوجب الاحتياط، لدلالة السؤالات على ذلك، حيث إنّ الظاهر منها أنّ المقصود: السؤال عن انّ الشبهة بنفسها كافية في الاحتياط أم لا؟ بعد علمنا بأنّ المقصود ليس الترخيص في الموارد التي يجب فيها الاحتياط عقلاً وأنّها خارجة عن موردها، مضافاً إلى أنّ المركوز في الأذهان: وجوب الاحتياط في مثل الشبهة المحصورة، وهذا قرينة مانعة عن دخول مثلها تحت الأخبار، وحينئذٍ يبقى ما يكون غير مقرون بما يوجب الاحتياط تحت الأخبار.

وهذا الجواب بالنسبة إلى دلالة قوله: كلّ شيء لك حلال تمام - قد مرّ الاشارة إليها -.

وأمّا قوله: كل شيء فيه حلال وحرام - الذي سبق - أنّه غير شامل لأطراف الشبهة المحصورة، لأنّ ظاهره أنّه ما شك في حليّته وحرمته من أجل انقسام نوعه بقسمين الحلال والحرام مع قطع [ النظر ] عن وجود الحرام في الخارج وعدمه بأن يكون صرف إنقسام النوع هنا منشأ للشك، والشك في اطراف الشبهة المحصورة لا يكون ناشئاً عن انقسام النوع، فلا يجري فيه هذا الكلام إلاّ على تقدير منع ما سبق، لأنّ ذلك يوجب خروج الشبهة الغير المحصورة أيضاً عن عمومه، ويكون مخصوصاً بالشبهات البدوية.

والظاهر خلاف ذلك خصوصاً بالنظر إلى كون مورد السؤال فيها من هذا القبيل، إذ مورده فيها: الجبن الذي علم بوجود قسم حرام منه في الخارج، فلابدّ أن يكون المراد: أنّ ما اشتبه حكمه وكان وجود الحلال والحرام في الخارج سبباً للشك فيه، إمّا لاحتمال اتّحاده مع الحرام المعلوم، أو لكونه أيضاً حراماً، لجواز كون الماهية في ضمن هذا الفرد ايضاً حراماً بعد وجود النوع الحرام، وحينئذٍ يشمل جميع الموارد حتى الشبهة المحصورة، ويكون خروجها بالنظر إلى ما في الجواب، فيكون ملاقي الشبهة وما خرج مقابلة عن الابتلاء داخلاً فيه، إلاّ أن التأمّل الصادق في الخبر يشهد بخلاف ذلك، وأنّ قوله: كل شيء فيه حلال وحرام يشمل مثل الشبهة الغير المحصورة دون المحصورة، لأنّ معناه كل نوع أو فرد من نوع كان ذلك النوع

١١٣

قسمين، وكان الفرد أو النوع مشكوك الحليّة لأجل اختلاط الأفراد وعدم تميّز الحلال عن الحرام يكون ذلك النوع حلالاً لا حراماً ولا ريب أنّ الأمر في الشبهة المحصورة ليس كذلك، لأنّ الشك فيها لا يكون ناشئاً من اختلاط افراد النوع وعدم تميّزها، بل هو ناش من العلم بوجود حرام مخصوص بين الموارد المخصوصة واشتباهه بالحلال، وليس الأمر كذلك في الشبهة الغير المحصورة مطلقاً، لأنّ الحرام من الطبيعة الموجودة في الخارج إذا كان مشتبهاً بين أفراد الحلال نسبته إلى الحلال من الأفراد كنسبة الواحد إلى الألف مثلاً، وكان الشك في فرد من جهة الشك في إندراجه تحت الحرام كان حكمه الحليّة بمقتضى الخبر كما لا يخفى، ولكن لا حاجة إلى هذه الرواية بعد دلالة العقل وقولهعليه‌السلام : كل شيء لك حلال، في اتمام المطلب في مسألتنا هذه فتأمّل.

ثم اعلم: أنّ قولهعليه‌السلام : كل شيء طاهر، نظير قوله: كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام، فيجري فيه ما ذكرنا من الجوابين عن شبهة خروج ملاقي الشبهة والطرف المبتلى به من اطراف العلم الاجمالي الاجمالي الذي خرج بعض اطرافه عن الابتلاء فلا نعيده.

وأمّا أخبار الاستصحاب فبعد منع شمولها لاطراف العلم الاجمالي، لدلالتها على وجوب نقض الحكم السابق بالنسبة إلى موضوع المعلوم نجاسته المردّد بين المشتبهين المنافية لكون كل واحد من الاطراف مستقلاً داخلاً تحت قوله: لا تنقض اليقين وترجيح ظهور الأوّل على ظهور قوله: لا تنقض في الشمول لما ذكر فشمولها لمثل الملاقي - بالكسر - ومثل ما خرج عن مقابله عن الابتلاء مشكل.

التنبيه الثالث: إذا كان المكلّف مضطرّاً في إرتكاب بعض الأطراف، فإمّا أن يكون اضطراره إلى معيّن من الأطراف، أو يكون إلى غير معيّن، والأوّل: إن كان إضطراره قبل العلم الاجمالي بوجود الحرام بين المشتبهين، أو معه، أو قبل مضيّ زمان يقبح معه التكليف بالاجتناب عن ذلك الحرام، فلا يجب الاجتناب عن الآخر الذي لا يضطرّ إليه، لأنّ التكليف بالاجتناب عن الحرام الذي علم وجوده بين

١١٤

الطرفين لا يعلم تنجّزه بالعلم، لاحتمال أن يكون الحرام هو الذي يكون مأذوناً في ارتكابه بالخصوص والطرف الآخر يجعل كونه الحرام.

وبعبارة اخرى: اجتماع شرائط التكليف بالاجتناب عن المحرّم الموجود بين الطرفين مجهول الحصول، لاحتمال أن يكون عين ما اضطرّ إليه بالخصوص،أو نقول: لا نعلم الآن بحرام لو علم شخصه تفصيلاً كان واجب الاجتناب، ضرورة أنّه لو كان هو ما اضطرّ إليه لم يكن واجب الاجتناب، فأصالة البراءة في الطرف الآخر سليم عن المعارض.

وإن كان اضطراره بعد العلم ومضيّ زمان يصحّ التكليف معه فيجب الاجتناب عنه، لأنّ التكليف بالحرام على أيّ تقدير - أي سواء كان ما اضطرّ اليه أم غيره - كان منجّزاً وسقوطه غير معلوم، لأنّ الاضطرار انّما أوجب الإذن في الحرام على تقدير كونه ما اضطرّ إليه فالاذن المذكور راجع إلى الاكتفاء في مقام الامتثال ذلك الخطاب بالامتثال الاحتمالي، وليس المراد هنا من الاكتفاء: بدليّة غير ما اضطرّ إليه عن الحرام، إذ ليس ما يدلّ على البدليّة كما لا يخفى.

وان كان مضطرّاً إلى واحد غير معيّن فإن كان بعد العلم فالأمر فيه واضح، وإن كان قبله أو معه فالظاهر هنا وجوب الاحتياط في غير ما ارتكبه، وذلك لأنّ التكليف بالاجتناب عن الواحد المردّد بين الطرفين، شرائط تنجّزه موجودة، إذ العلم به مفروض الحصول، والجهل بشخصه لا يكون مانعا، والاّ لمنع مطلقاً، والاضطرار ليس أيضاً متعلّقاً بالحرام ولو احتمالاً، لأنّ الاضطرار إلى أحد الأمرين لا يكون اضطراراً إلى معيّن كما هو واضح.

غاية الأمر: أنّ الجهل بالتفصيل والاضطرار إلى غير معيّن أوجب الاذن في ترك تحصيل العلم بالامتثال، وهو لا يوجب الاذن في المخالفة القطعية بعد وجود شرائط تنجّز الخطاب، فالاذن راجع إلى الاكتفاء بالامتثال الاجمالي الاحتمالي.

١١٥

القول في الشبهة الغير المحصورة

وفيها مقامان(١) : (الأوّل) في حكم أطراف الشبهة (والثاني) في موضوعها.

أمّا الأوّل

فاستدلّوا على عدم وجوب الإجتناب بوجوه:

الأوّل: الاجماع المحكيّ عن جماعة بل دعوى الضرورة عليه، وأن عليه مدار المسلمين في الأعصار والأمصار.

الثاني: قوله تعالى: (يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)(٢) . وقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)(٣) . بناءً على أنّ في الاجتناب عن اطراف الشبهة مشقة أكيدة وعسراً شديداً غالباً على أغلب أفراد المكلّفين.

وفيه (أوّلاً) أنّ الحرج ليس في الاجتناب عن الحرام وانّما هو في تحصيل العلم به لكثرة المشتبهات، فليس في حكم الشارع حرج.

إلاّ أن يقال: إنّ جعل الحرج قد يكون بتأسيس انّ اللّه تعالى لا يريد العسر، فكل ما يلزم منه العسر في فعل واجب بظاهر الأدلّة، أو حرام كذلك، أو واجب بحكم العقل في طاعة أوامره ونواهيه لا يكون لازماً.

____________________

(١) كأنّ المؤلّف -قدس‌سره - اكتفى بالكلام حول المقام الأول فقط ولم يتطرّق حول المقام الثاني.

(٢) البقرة: ١٨٥.

(٣) الحجّ: ٧٨.

١١٦

أو يقال: إنّ جعل الحرج قد يكون بانشاء حكم فيه الحرج بنفسه، وقد يكون بجعل حكم في مورد يلزم الحرج وإن لم يكن في أصل الحرج فتأمّل.

و (ثانياً) أنّ ما يدلّ عليه الآيات بظاهرها نفي العسر بنفسه، وهو انّما يقتضي الاقتصار على موضع تحقّق فيه العسر والتعدّي إلى غير مورده انّما يصحّ إذا كان ذلك من افراد موضوع الحكم الذي تعسر إمتثاله في بعض مصاديقه(١) ، لما دلّ على أنّ الأحكام الشرعية الكلّية ترفع بوجود العسر في أغلب مواردها، وأفراد الشبهات المحصورة ليست داخلة في موضوع حكم واحد، لأن سبب الاجتناب في كل مورد دليل ذلك المورد، فايجاب الاحتياط عند اشتباه النجس بغيره لو كان مرفوعاً - لكونه حرجيّاً - يلزم منه التعدّي إلى المشتبهة بالأجنبية، لأنّ(٢) وجوب الاحتياط في الأوّل انّما نشأ من قوله: اجتنب عن النجس، وفي الثاني من قوله: اجتنب عن الأجنبية.

لا يقال: ايجاب الاحتياط عند اشتباه الحرام بغيره حكم عقلي - نسبة موضوعه إلى المشتبه بالخمر كنسبته إلى المشتبه بالبول - ، لصدقه على كليهما وموافقة هذا الحكم توجب الحرج على أغلب المكلّفين وفي أغلب أقسام المشتبهات فهو مرفوع عنهم.

لأنّا نقول: الذي يدلّ عليه الأدلّة: هو أنّ الحكم الشرعي اذا لزم منه وقوع المكلّف في الحرج في أغلب مصاديقه مرفوع، وانما حكم الشارع بحرمة امور لزم الحرج على المكلّفين في امتثال تلك الاحكام عند اشتباه تلك الامور بامور غير محصورة، لحكم العقل بوجوب الامتثال اليقيني، والجامع المذكور ليس موضوعاً لحكم الشارع، وانما انتزعه العقل من الموارد الخاصة وحكم عليه بوجوب الاجتناب، لاستقلاله بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة عند اليقين بالاشتغال، وهذا

____________________

(١) في غالب مصاديقه (ط).

(٢) في نسخة ط : « لامن » وفي النسخة الثانية « لأنّ » وهو الصحيح.

١١٧

الحكم ليس حكماً شرعياً يشمله أدلّة نفي الحرج، فعلى هذا يلزم الاقتصار في ترك الاحتياط على الموارد الخاصة التي يوجب الاحتياط فيه الحرج على المكلّفين، ولا يجوز التعدّي منها إلى غيرها، وانّما يحكم في تلك الموارد الخاصة برفع الاحتياط، لأنّ الحكم الشرعي فيها مستلزم للحرج بواسطة الأمر الخارج وهو مرتفع بقدره.

أقول: وعلى هذا لا يجوز التعدّي - بلزوم الحرج من الاحتياط عند إشتباه بعض أفراد النجس بغيره من الامور الغير المحصورة - إلى ترك الاحتياط في موارد اشتباه النجس التي لا يلزم من الاحتياط فيها حرج، لأنّه ليس في الاجتناب عن النجس حرج في أغلب موارده، ولزوم الحرج من الاحتياط في أغلب موارد إشتباهه بغير المحصورة لا يوجب التعدي إلى مورد لا يوجب الحرج، لأنّه ليس الحكم بوجوب الاجتناب مخصوصاً بالنجس المشتبه فما في الرسالة من انّه يمكن التعدي هنا إلى مورد لا حرج فيه(١) لا يخلو عن النظر، ولعل في قوله أمكن التعدّي إشارة إلى تمريضه.

ويرد على أصل الدليل (ثالثاً) أنّ أغلب موارد الشبهة الغير المحصورة يكون بعض أطرافها خارجاً عن مورد إبتلاء المكلّف ولا يجب الاحتياط في مثل هذه الموارد لما تقرّر سابقاً وموارد الابتلاء لا يلزم من الاحتياط فيها حرج على المكلّفين.

الثالث: الأخبار الدالّة على حلّ ما لم يعلم حرمته، فإنّ مقتضى الجمع بينها وبين ما دلّ على وجوب الاجتناب عمّا لم يعلم حرمته: حمل الأخبار المرخّصة على الشبهة الغير المحصورة، والمانعة على الشبهة المحصورة.

ويرد عليه (أوّلاً) أنّ ايجاب الاحتياط ليس لأجل تقديم أخبار الاحتياط بل لأجل إقتضاء دليل الواقع لذلك، بعد ما مرّ الاشارة اليه من منع شمول هذه الأخبار لصورة العلم الاجمالي، لأنّ الاذن في الجميع - الذي هو ظاهر هذه الأخبار - غير معقول، وتخصيصها ببعض الأطراف دون بعض لا مرجّح له، فيكون كلّها

____________________

(١) فرائد الاصول: ص ٤٣١. طبع جامعة المدرسين.

١١٨

خارجة عنها.

هذا ولكن قد مرّ: أنّ حكم العقل بعدم جواز المخالفة القطعية معلّق بعدم إذن الشارع بترك جميع المحتملات، وعدم شمول أخبار الحّل للشبهة المحصورة قد عرفت: أنّ الوجه فيه ليس ما ذكر وانما الوجه فيه ظهورها في الشبهات البدوية وما يجري مجراها بحسب العرف.

(وثانياً) أنّ أخبار الحلّ كاخبار المنع شاملة لجميع الشبهات والخارج من الاولى بالدليل موارد الشبهة المحصورة، ومن الثانية الشبهة الإبتدائية، وكلّها بظاهرها شاملة للشبهة الغير المحصورة، فلا وجه لترجيح بعضها على الآخر.

إلاّ أن يقال: إنّ إخراج غير المحصورة عن أخبار الحلّ موجب لكثرة تخصيصها، إذ قلّ ما نجد مجهولاً إبتدائياً لا يكون من أطراف شبهة غير محصورة.

وفيه: أنّ أكثر أفراد الشبهة الغير المحصورة يكون بعض اطرافها خارجاً عن محلّ الابتلاء ولا يلزم منه كثرة تخصيص. كما لا يخفى.

(الرابع) أصالة البراءة: فانّ المانع من جريانها ليس الاّ العلم الاجمالي بوجود الحرام، وهذا العلم الاجمالي لا يوجب تنجّز التكليف عند العقلاء، وانّما يكون هذا التكليف منزّلاً منزلة العدم، فانّا نرى أنّ المولى إذا أمر عبده بترك المعاملة مع زيد، واشتبه زيد عنده باشخاص غير محصورة من أهل بلده، لا يترك العبد بمجرّد ذلك المعاملة مع الاشخاص المذكورين، ولا يعدّ عاصياً عند العرف لو اتّفق معاملته مع زيد بمجرّد علمه بنهي المولى عن المعاملة مع زيد، - مع كونه مشتبهاً في هذه الاشخاص - ونرى العقلاء ايضاً يفرّقون بين احتمال سميّة واحد من ألف إناء يعلم بأنّ أحدها سمّ، وبين إحتمال سميّة أحد الانائين، فيكون الاولى عندهم منزّلاً منزلة العدم، ولا يكون ذلك العلم الاجمالي سبباً للاجتناب عن جميع تلك الاواني - مع بنائهم على عدم الاقتحام في المهالك - ولا يكون الاحتمال في الفرض الثاني بمنزلة العدم، وليس لأجل أنّ العلم الاجمالي لا يكون وجوده عندهم إلاّ كعدمه، ويكون الاحتمال القائم بكل طرف كالاحتمال في الشبهة البدوية - التي بناؤهم

١١٩

فيها على عدم الاعتناء -.ولك أن تقرّر بوجه آخر وهو: أنّ العلم الاجمالي وإن كان سبباً لتنجّز التكليف بالحرام الموجود في المشتبهات، إلاّ أنّه لمّا كان الموجب للاحتياط في الأطراف قيام إحتمال كونه المحرّم الذي يجب الاجتناب عنه ويترتّب على ارتكابه العقاب بحكم العقل، لوجوب دفع الضرر المحتمل، لم يجب الاحتياط هنا، لأنّ كلاًّ من الأطراف إذا لوحظ بنفسه، كان إحتمال ترتّب العقاب عليه لاحتمال كونه المحرّم الواقعي ضعيفاً، - بحيث لا يعتني العقلاء بمثل هذا الاحتمال كاحتمال وقوع حائط محكم البنيان وكان العقل لكون الاحتمال عنده بمنزلة العدم فجوّز إرتكابه - وحينئذٍ نقول: إذا عاقب الشارع على مثل هذا المشتبه - إذا اتّفق كونه المحرّم الواقعي - يعدّ عقابه عند العقلاء عقاباً بلا برهان وقبيحاً.

إلاّ أن يقال: إذا فرض أنّ العلم الاجمالي منجّز للواقع، وكان إحتمال العقاب في كل فرد من الاطراف قائماً - على تقدير كونه الحرام الواقعي - لم يكن مجدياً إذن العقل في الارتكاب وتأمينه، فانّ حكمه هذا إخراج للطرف عن موضوع التكليف، ولا يوجب ذلك عدم العقاب على مخالفة الواقع - على تقدير مصادفة ما أذن فيه العقل للحرام الواقعي بسبب هذا الاذن - واحتمال كون العقاب بلا بيان مناف لتسليم كون العلم الاجمالي منجّزاً للأمر بالاجتناب عن المحرّم الواقعي، إذ معنى كونه منجّزاً ليس الاّ كون الحجة من قبل الشارع تماماً، فالأولى ما تقدّم: من أنّ هذا العلم الاجمالي - بعد إشتباه الحرام بامور كثيرة - لا يكون متمّماً للحجة، وموجباً للخوف في الوقوع في المهلكة، ومعه يبقى التكليف بالحرام تكليفاً بلا بيان.

ويمكن التنزّل عن هذا التقرير ويقال: إنّ من المعلوم عندنا هو أنّ العقلاء إذا علموا بوجوب ما يجب التحرّز عنه في امور غير محصورة، لا يوجب ذلك العلم وقوفهم عن ارتكاب المشتبهات والتحرّز عنها، وإن لم يكونوا مجوّزين لارتكاب الجميع، لحصول العلم معه بالوقوع في المهلكة، كما يعلم ذلك: من ملاحظة امتثال اشتباه زيد الذي نهي العبد عن المعاملة معه، فانّه لا يقف بذلك عن المعاملة ولا يجترى على

١٢٠