الرسائل الفشاركية

الرسائل الفشاركية0%

الرسائل الفشاركية مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 604

الرسائل الفشاركية

مؤلف: آية الله السيد محمد الفشاركي
تصنيف:

الصفحات: 604
المشاهدات: 41114
تحميل: 4368

توضيحات:

الرسائل الفشاركية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 604 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41114 / تحميل: 4368
الحجم الحجم الحجم
الرسائل الفشاركية

الرسائل الفشاركية

مؤلف:
العربية

صحة الجزء اللاحق وعدم وجوب استئناف الجزء السابق.

لا يقال: إنّ هذا الاستصحاب لا يثبت به عدم رافعية الأثر الموجود المشكوك رافعيته.

لأنّا نقول: هب أنّه لا يثبت به ذلك ولا يترتّب على ذلك فساد، لأنّ الغرض من إحراز ذلك ليس إلاّ صحّة اللاحق وعدم وجوب استئناف السابق، وهذا الغرض يترتّب على استصحاب عدم وجود كلي الرافع وإن لم يعلم منه حكم الفعل الموجود.

ثم إنّ ما ذكرنا بعينه جار في صورة الشك في حصول ما يعلم قاطعيته، بل فيه أظهر.

أمّا الثاني، فالكلام فيه مبنيّ على مقدّمة هي:

أنّ الأمر المتعلق بالجزء تبعاً اللازم من مطلوبية المركّب هل هو متعلّق بالجزء المقيّد بعدم لحوق ما يمنع عن حصول المركّب منه ومن سائر الاجزاء، أو متعلق بالجزء من غير تقييد، وعلى الثاني فهل يكون سقوط ذلك الأمر مراعى بعدم لحوق ما يمنع عن ذلك، أو يكون سقوطه غير منوط بشيء، غاية الأمر أنّه إذا حصل المانع عن انضمام سائر الأجزاء يعود الأمر بالجزء لأجل حصول الداعي للأمر، والظاهر هو الاحتمال الأخير لبطلان الأوّلين وعدم وجود احتمال آخر، أمّا الثاني فظاهر، وأمّا الأول فامّا بطلان الاحتمال الأوّل: فلأن منشأ الأمر بالمقدّمة ليس الاّ التوقّف، وهو لا يكون إلاّ متعلّقاً بذات الجزء المعراة عن تقييد.

لا يقال: الجزء الملحوق بالمانع لا يتوقّف عليه الكل وما لم يلحقه يتوقّف عليه، لأنّه لا يلزم من عدم الأوّل عدم المركّب ويلزم من عدم الثاني عدمه.

لأنّا نقول: الذي تتقوّم به الماهية المركّبة هو ذات الأجزاء، وأمّا عدم المانع فهو بنفسه معتبر في الماهية وتتقوّم به وكذلك عدم القاطع، غاية الأمر أنّ الأوّل يتقوّم به الماهية بنفسه والثاني تتقوّم بملزومه الذي هو الهيئة الاتّصالية أو أمر آخر، فليس ما تعلّق به الأمر المقدّمي أمراً مقيّداً، ولو كان ما ذكرته من الاعتبار موجباً للتعدّد

١٦١

والانقسام، واختصاص للأمر الغيري نفسه دون آخر، يجري ذلك في كل جزء بالنسبة إلى ما يلحقه من الأجزاء ولا تلتزم به.

وأمّا بطلان الاحتمال الثاني: فلأن الغرض من الأمر المقدّمي بأيّ مقدّمة تعلّق ليس إلاّ رفع امتناع تحقّق ذي المقدمة من جهة عدم تلك المقدمة، ولا ريب أنّ ذلك الغرض يحصل بمجرّد حصولها الجزء في الخارج، واستمراره ليس أمراً مرتّباً عليه حتى يكون غرضاً من حصوله، بل منوط بعدم ما يمنع منه حصول الماهية من الجزء الموجود وسائر الاجزاء الاخر، فارادة استمراره موجب للأمر بابقاء عدم ذلك المانع، غاية الأمر أنّه اذا حصل ذلك المانع يتجدّد معه أمر مقدّمي بذلك الجزء لحصول الداعي للأمر.

نعم لو كان الغرض من الأمر بالمقدّمة رفع الامتناع من جهة عدم تلك المقدّمة واستمرار عدم الامتناع، كان الامتثال مراعى بعدم المانع، لأنّه إتيان المأمور به على وجه يطابق غرض المولى والمطابقة لا يحصل الاّ بعدم المانع.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ ما يعتبر عدمه تارة يعتبر عدمه في المركّب لأجل أنّه يكون بنفسه من مقوّماته وأجزائه، واخرى يعتبر لأجل إخلاله بالسابق وسقوطه عن قابلية لحوق الباقي به مع وجود ذلك، وثالثة لأجل اعتبار عدمه في لحوق المتأخّر بالسابق بمعنى أنّه يسقط الباقي عن قابلية اللحوق بالسابق، وذلك كالسكوت الطويل بالنسبة إلى الأجزاء التي يعتبر فيها الموالاة.

أمّا الكلام في الصورة الاولى: فتارة في الشبهة الحكمية، واخرى في الموضوعية.

أمّا الاولى: فالظاهر أنّه يجب البناء على ما فعل من الأجزاء وإتمامه والإجتزاء به في الظاهر إلى أن ينكشف الخلاف، ولنذكر أوّلاً ما يقتضيه المانعية ثم ما يدفع به تلك المقتضيات عند الشك فيها بسبب الشك في حدوث ما يقتضيها.

فاعلم أنّ ما علم مانعيته إذا وجد في الخارج يقتضي أمرين:

الأوّل: وجوب استئناف ما فعله لأجل عروض ما يمتنع معه كون ذلك جزءً فعلياً للعبادة.

١٦٢

الثاني: عدم حصول التركّب المعتبر في مفهوم العبادة.

وبسبب هذين الأمرين يمتنع إتيان باقي الأجزاء أيضاً وامتثال الأوامر المتعلّقة بها، إذا كان بين الأجزاء ترتيب، فانّ الواجب الغيري حينئذٍ ليست ذلك الجزء، بل هو ذلك مقيّداً بسبق ما يعتبر سبقه عليه، والمفروض أنّه لم يحصل، مثلاً لو فرضنا أنّ زيادة التكبير مانعة وفعلها يحدث بسبب ذلك أمراً باعادة التكبير بقصد الدخول في الصلاة ويجب عليه تركها بعده ولا يقدر ما لم يستأنف التكبير ولم يترك الزيادة على امتثال الأمر الغيري المتعلّق بالقراءة وغيرها من الأجزاء، لأنّ المأمور به بالأمر الغيري ليس مطلق القراءة بل هو القراءة بعد التكبير وترك الزيادة.

إذا عرفت ذلك فنقول: إذا شك في مانعية شيء صدر منه يكون شكّه في ذلك موجباً للشك في وجوب استئناف ما سبق، وللشك في إتيان جميع ما يعتبر في المركّب لو أتى بباقي الأجزاء، وللشك في اتيان باقي الأجزاء على وجه يطابق الأوامر المتعلقة، فإذا دلّ الدليل الشرعي - مثل استصحاب عدم فعل ما يعتبر تركه في المأمور به - على أنّ ترك ما يكون مانعاً حاصل بحكم الشارع، يكون مقتضى ذلك وجوب البناء على عدم حدوث أمر ممّا سبق فعله، وسقوط العقاب على ترك المركّب المستند إلى ترك ذلك الجزء المأتي به، وفعل ما يجب تركه إذا أتى بباقي الأجزاء، والإكتفاء باتيانه في هذه الحالة باقي الاجزاء التي يعتبر في سقوط الأمر المتعلّق بها، وعدم العقاب على ترك المركّب المستند إلى تركها ايجادها في حال سبق فعل الجزء السابق وترك المانع، فاذا حصل للمكلّف الأمن من العقاب من جميع هذه الوجوه بواسطة ذلك الدليل يكون آمناً من العقاب على مخالفة الأمر النفسي المتعلّق بالمركّب فلا موجب للاستئناف وترك مشكوك المانعية وعدم دلالة الأصل المذكور على حصول الامتثال للأمر النفسي، وعدم مانعيّة الموجود بعد الأمن من العقاب على المخالفة لو كان ما أتى به غير مطابق للأمر النفسي لا يضرّ بحال المكلف، لأنّ وجوب إحرازه - حيث يحكم به العقل - انّما هو لأجل توقّف الفرار عن العقاب على الاحراز وهو غير متوقّف على ذلك كما عرفت.

١٦٣

والحاصل: أنّ الذي يجب على المكلّف إتيان الجزء السابق على وجه يصلح لأن يلحق به باقي الأجزاء وترك المانع الذي اعتبر في المأمور به واتيان الاجزاء الباقية على وجه يطابق الأوامر المتعلقة بها فاحراز ترك المانع واجب لكونه موجباً لليقين ببقاء قابلية ما سبق عليه، ولكونه في نفسه مطلوباً غيريّاً ولكون تحققه من شرائط صحة الاجزاء اللاحقة حقيقة واصالة الترك دليل لثبوت شرائط الأجزاء اللاحقة شرعاً ولثبوت جزء العبادة وهو الترك ودليل لبقاء القابلية في الاجزاء السابقة كما ان استصحاب الطهارة موجب لثبوت شرط الصلاة وهي الطهارة فالمكلف إذا أتى بباقي الاجزاء يكون شرعاً، آتياً جميع ما يعتبر في المأمور به.

وأمّا الثانية: - أي الشبهة الموضوعية - فالحكم يختلف باختلاف كيفية عدم المانع في المركّب، فانّه قد يكون عدمه من حالات المصلّي مثل لبس المصلّي جلد ما لا يؤكل لحمه في حال الصلاة، وقد يكون من حالات بعض ما على المصلّي مثل طهارة اللباس وعدم كونه جلد ما لا يؤكل لحمه، وقد يكون من إعتبارات نفس الفعل بحيث يكون المطلوب الفعل الواقع في غير ما لا يؤكل لحمه، وقد يكون نفس الترك من الأجزاء مثل عدم التكتّف، وعدم قول آمين في أثناء الصلاة، فإن كان من اعتبارات المصلّي: يكون جريان الأصل وعدمه تابعاً لليقين السابق المتعلق بحال المصلّي فيقال عند الشك في لبس ما يكون لبسه مانعاً: انّ المصلّي لم يكن لابساً في الزمان السابق والأصل عدمه، ونظيره استصحاب طهارة المصلّي من الحدث، وإن كان من اعتبارات ما عليه ينبع حال ذلك، فإذا شكّ في طهارة الثوب أو وقوع ما يمنع كونه عليه أنّ الأصل طهارته، والأصل عدم وقوع ذلك عليه إذا كان مسبوقاً بالطهارة وعدم الوقوع.

ومن هنا علم أنّه إذا شك في أصل اللباس من حيث كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه لم يجر الأصل لعدم وجود الحالة السابقة، وكذلك الأمر عند الشك في كونه حريراً إذا قلنا: إنّ مانعية الحرير من اعتبارات اللباس، وإن كان من اعتبارات الفعل لم يجر فيه الأصل، لأنّه ليس هناك حالة سابقة للفعل الخاص من

١٦٤

حيث وقوعه في غير ما لا يؤكل لحمه، وإن كان نفس الترك من الامور المعتبرة في العبادة - نظير ترك التأمين والتكتّف - فبالأصل يحرز عدمه.

ثم اعلم أنّه إذا كان الشك في المانعية راجعاً إلى الشك في كون اعتبار عدم الشيء من خصوصيات وقوع الفعل، كما إذا شككنا في أنّ المأمور به هل هو الصلاة الواقعة في غير ما لا يؤكل لحمه أو مطلق الصلاة في أيّ شيء وقع فلا يخفى أنّ أصالة عدم المانع لا يجري هنا أيضاً وإنّما المجدي في المقام هو أصالة البراءة عن القيد الزائد بناءً على إعتبارها في الأجزاء العقلية التي لا يكون الشك في جزئيتها راجعاً إلى الشك في كون المأمور به الأقل في الخارج أو الأكثر في الخارج وقد مرّ الكلام فيه.

فان قلت: أيّ فرق بين ما يكون عدمه مستقلاً من الأجزاء، وما يكون عدمه من إعتبارات وقوع الفعل، فانّه كما يكون المطلوب في الثاني الفعل الخاص وهو الواقع مثلاً في غير ما لا يؤكل لحمه، كذلك يكون المطلوب في الأوّل الأجزاء المقرونة بعدم ذلك، فكما أنّ الأصل لا يفيد في الثاني كذلك لا يفيد في الأوّل.

قلت: بينهما فرق واضح، فانّ العدم إذا كان في نفسه مطلوباً لا يكون المطلوب إلاّ أفعالاً وتروكاً والأوّل يحرز بالوجدان والثانية بالأصل وليس المطلوب حينئذٍ الأجزاء المقرونة بالترك، بل المطلوب مجموع امور أحدها الترك، أمّا إذا كان من إعتبارات نفس الفعل كان المطلوب أمراً وجودياً خاصاً وهو الفعل المقرون بكذا، واستصحاب الترك لا يثبت به اقتران الفعل بالترك الذي هو من خصوصيات المأمور به، وانما لم نتكلّم في ذلك في الشبهة الحكمية، لأنّ الشك من هذه الحيثية راجع إلى الشك في كون المأمور به الأمر المقيّد فيكون راجعاً إلى الشك في الشرطية وقد مرّ تفصيله.

وأمّا الكلام في الصورة الثانية: فالظاهر أنّه كالاولى إلاّ أنّ بينهما فرقاً من حيث إنّه لا يحتاج هنا إلى أصلين: أحدهما أصالة عدم حدوث أمر جديد بالأجزاء السابقة، والآخر أصالة عدم وجود ذلك المانع، بل الأوّل مغن عن الثاني، لأنّه

١٦٥

لا يكون الشك في وجود المانع حينئذٍ الاّ سبباً للشك في حدوث الأمر الجديد، إذ المفروض أن ترك ذلك المانع ليس مطلوبيته الاّ لأجل اقتضاء وجوده فساد الأجزاء السابقة، وليس هو في نفسه من مقوّمات المأمور به، والظاهر أن القواطع كلّها من هذا القبيل، فإذا أثبتنا عدم وجود الأمر الجديد بالاصل، يحصل بالاتيان بسائر الاجزاء براءة الذمة عن المأتي به.

فإن قلت: إنّ الواجب في مقام الامتثال إحراز حصول المأمور به في الخارج، والأصل المذكور وهو بضميمة الأصل الآخر في الصورة الاولى لا يثبت به عنوان المأمور به.

قلت: قد مرّ جوابه فانّ الحاكم بوجوب الامتثال ليس إلاّ العقل، وهو لا يحكم إلاّ بوجوب فعل يسقط به العقاب، وأمّا الصورة الثانية فالظاهر أنّه لا مجرى للأصل فيه، لأنّ أصالة عدم وجود المانع لا يثبت كون ما يأتي به من الأجزاء مرتبطة بالأجزاء السابقة.

ثمّ انّه قد يستدلّ لصحّة العبادة عند الشك في المانعية: بقوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم)(١) فانّ حرمة الابطال هو ايجاب المضيّ وهو ملازم للصحّة، للاجماع على أنّ ما يجب المضي فيه يكون صحيحاً إلاّ الصوم والحج.

وتحقيق الكلام في الآية: أنّ الابطال هو التأثير في عروض وصف البطلان على العمل بعد أن لم يكن كذلك، كما في الاكرام، والاقامة، والاغناء، فانّ معناها: جعل الشخص مكرماً وقائماً، وغنياً بعد أن لم يكن كذلك، ولا ريب أنّ هذا المعنى يقتضي سبق اتّصاف العمل بعدم البطلان وهو ملازم للصحّة، ومعنى الآية ان حمل الابطال فيها على هذا المعنى جعل العمل لغواً بعد أن كان ذا أثر فهو راجع إلى النهي عن الأعمال الموجبة لحبط العمل.

ويؤيّده: نفيه بقوله تعالى: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن)(٢) بقرينة قوله تعالى:

____________________

(١) محمّد: ٣٣.

(٢) البقرة: ٢٦٤.

١٦٦

(ثم لا يتّبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذى)(١) .

ويحتمل أن يكون المراد من الابطال: ايجاد العمل باطلاً نظير قولهم ضيّق فم الركيّة أي أوجده ضيّقاً، فمعنى الآية طلب ترك إتيان العمل باطلاً، ولا يرتبط بالمقام سواء كان النهي إرشادياً أم لا كما لو حمل على المعنى الأول.

ويحتمل أن يكون المراد قطع العمل، ويمكن إرجاعه إلى الوجه الأوّل - بناءً على أنّ المراد من العمل الأعم من الواجبات الغيرية والنفسية - ولا ريب أنّ الاحتمال الأوّل هو المتعيّن لما عرفت من أنّه المعنى الحقيقي للابطال، وقد استعمل فيه في الآية الاخرى، ولأنّه المناسب للآيات المتقدّمة على هذه الآية وهي قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول)(٢) لأن إتيان العمل باطلاً مخالفة للّه والرسول فالأمر بالاطاعة يغني عن النهي عن ذلك، مضافاً إلى ما ورد من تفسير الآية ما يطابق المعنى الأوّل.

فحصل أنّ الاستدلال بها - مع قطع النظر عمّا يأتي الاشارة إليه - إنّما يمكن إذا اريد به المعنى الثالث، وقد عرفت أنّ الظاهر منها هو المعنى الأوّل.

الاّ أن يقال: إنّ المعنى الثالث راجع إلى المعنى الأوّل، لكنه يبعد دعوى ظهور الآية فيما يكون فيه جهة مطلوبية ذاتية إلاّ أنّ كون قطع العمل بعد فعل ما يشك في مانعيته ابطالاً محلّ شك، لأنّ المشكوك لو كان مانعاً لا يكون القطع بعد فعله ابطالاً وهو ظاهر.

ومن هنا ظهر حال استصحاب حرمة القطع، واستصحاب وجوب الاتمام، لأنّه يكون الشك في المانعية موجباً للشك في كون النقض إبطالاً وفي القدرة على الابطال ومعه يكون موضوع المستصحب وهو الوجوب مشكوك البقاء وكون إلحاق الباقي اتماماً، لأنّ كون المأتي به اتماماً مبني على عدم كون ما يشك في مانعيته

____________________

(١) البقرة: ٢٦٢.

(٢) النساء: ٥٩.

١٦٧

معتبراً في المأمور بوجه من الوجوه.

الاّ أن يقال: إنّا نستصحب القدرة على الاتمام وكون اتيان باقي الاجزاء قبل حدوث ذلك إتماماً.

ويرد على الأوّل أنّ استصحاب القدرة انّما يثبت به شرط وجوب واقعاً وهو القدرة وثبت به موضع الوجوب الواقعي ولكن ترتيب آثار بقاء القدرة الذي هو راجع إلى ايجاب الاتمام ظاهراً موقوف على القدرة على الاتمام وهو لا يثبت بهذا الاستصحاب، لأنّ الاستصحاب لا يثبت به شرائط نفسه، وأمّا إستصحاب كون الأجزاء اللاحقة اتماماً فان كان جارياً، يغني عن استصحاب القدرة.

ولكنّه يرد عليه أنّ كون فعل هذه الأجزاء الباقية إتماماً من غير اعتبار مسبوقيتها بالترك في حصول الاتمام بها مشكوك حتى في حال سبقها بترك مشكوك المانعية فلعلّ موضوع الاتمام هو الجزء المسبوق بترك المشكوك مانعيته.

والحاصل: إن كون الجزء المسبوق بترك مشكوك مانعيته اتمام يقيني: لأنّه إمّا أن يكون اتماماً مع المقيّد أو مطلقاً وعلى أيّ الأمرين يكون ما به الاتمام موجوداً في ذلك العنوان، لكنّه لا يكون فعل هذه الأجزاء مصداقاً لذلك العنوان، وأمّا كون الجزء إتماماً من غير اعتبار سبق ترك مشكوك المانعية في الاتّصاف بذلك حتى في حال السبق فاتّصاف الأجزاء المطلقة القدر المشترك بين المسبوق بالترك وغير المسبوق به بالاتمام مشكوك، فكيف يستصحب الاتمام فتأمّل.

وممّا ذكرنا علم أنّ الأمر لو دار بين رفع اليد عمّا يكون مشغولاً به والاستئناف وبين الاتمام والاعادة، كان الأوّل هو المتعيّن، لأنّه مع القدرة على مراعاة الجزم المعتبر في تحقّق الامتثال حيث يقدر عليه يأتي بالمأمور به على وجه لا يحصل معه مراعاة الجزم واشتمال فعله على هذا الوجه على مراعاة الاحتياط من جهة احتمال كون القطع ابطالاً محرّماً لا يسوغ ترك الاحتياط من تلك الجهة، مع كونه إمّا واجباً، أو أهم من ذلك.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ فعل المبطل عقيب ما يشك في مانعيته وقبل إتيان باقي

١٦٨

الأجزاء يكون حراماً فيكون الاتمام في الظاهر واجباً والاعادة واجبة، لعدم القطع بحصول المأمور به لا واقعاً ولا ظاهراً، وحينئذٍ يكون طريق إمتثال الأمر منحصراً في الاتمام والاعادة، أمّا حرمة فعل المنافي فهي إمّا لإستصحاب الحرمة، لأنّه كان قبل وجود مشكوك المانعية حراماً، أو لأجل أنّها من أحكام الكون في العبادة وهو مستصحب، لأنّ المكلّف كان في العبادة قبل فعل مشكوك المانعية، وبعد فعله يشك في أنّه خرج بسببه عن العبادة أو هو باق فيها فيستصحب الكون في العبادة.

ويرد على الوجه الأوّل: أنّ الذي كان موصوفاً بالحرمة ليس هو فعل ذات المنافي، بل هو إخراج الجزء القابل للحوق الباقي عن قابلية لحوق الباقي به وكون فعل المنافي إخراجاً للقابل عن القابلية مشكوك، لاحتمال خروجه عن القابلية قبل فعل ذلك.

اللهمّ إلاّ أن يستصحب القابلية وحينئذٍ فلا حاجة إلى إستصحاب الحرمة، ولا يجب الاعادة ايضاً إذا لم يكن المانع المشكوك على تقدير مانعيته مخرجاً للأجزاء اللاحقة عن قابلية اللحوق بما سبق وقد مرّ بيانه.

واعلم أنّ ما ذكرنا كلّه انّما كان في الزيادة عمداً، وأمّا الزيادة سهواً فيما يقدح زيادته عمداً فالكلام فيه هو الكلام في النقص سهواً، فانّه يرجع إلى الاخلال بالشرط سهواً، وقد مرّ أنّ الشيخرحمه‌الله بنى على أنّ مقتضى الأصل فيه هو البطلان(١) ، وقد مرّ ضعفه وأنّه يمكن القول فيه بالصحّة.

وقد ظهر من جميع ما ذكرناه في الزيادة والنقيصة: أنّ مقتضى الأصل في الزيادة - سهواً كان أو عمداً - عدم البطلان.

وأمّا من بنى فيه على أصالة البطلان فيلزمه القول بأصالة البطلان في الزيادة السهوية إن ثبت أنّ الزيادة العمدية مفسدة، وليس له الخروج عن هذه القاعدة الاّ بالنص بالبطلان.

____________________

(١) فرائد الاصول: ص ٤٩٤.

١٦٩

وقد عرفت أيضاً: أنّ الأصل في كل جزء شك في كونه ركناً عدم الركنية، سواء كان المراد من الركن ما يبطل بنقيصته سهواً العبادة، أو كان المراد ما يبطل بنقيصته سهواً وبزيادته عمداً أو سهواً.

نعم من بنى على أنّ النقيصة السهوية، الأصل فيها بالبطلان دون الزيادة يلزمه التفصيل في الشك في الركنية فيقول: إنّ الاصل هو الركنية إن كان المراد التفسير الأول، وعدمها إن كان هو الثاني.

والشيخ في الرسالة: حكى عدم الفصل في الصلاة بين الاخلال سهواً، وبين الزيادة عمداً وسهواً فقال - بناءً على مذهبه -: إنّ أصالة البراءة الحاكمة بعدم البأس بالزيادة، معارضة - بضميمة عدم القول بالفصل - بأصالة الاشتغال الحاكمة ببطلان العبادة بالنقص سهواً، وحينئذٍ فان جوّزنا الفصل في الحكم الظاهري الذي يقتضيه الاصول العملية فيما لا فصل فيه من حيث الحكم الواقعي فيعمل بكل واحد من الأصلين، وإلاّ فاللازم ترجيح قاعدة الاشتغال على البراءة كما لا يخفى(١) .

وأورد عليه: بأنّ التعارض ليس بين الأصلين، بل التعارض بين الاطلاق الآمر القاضي بعدم كفاية الناقص، وبين أصالة البراءة الحاكمة بعدم بطلان ما اشتمل عليه الزيادة - بضميمة عدم القول بالفصل - وذلك لأنّ عدم كفاية ما نقص بعض أجزائه سهواً من مقتضيات إطلاق الأمر المقتضي لكون الواجب في حالتي الذكر والنسيان أمراً واحداً وهو التام الاجزاء، فالمعارضة حقيقة يكون بينهما ومع تسليم أنّ المعارضة بين الأصلين، فلا وجه لتقديم قاعدة الاشتغال.

وربّما يجاب: بأنّ مقتضى الاطلاق هو كون الواجب في الحالتين واحداً، وأمّا عدم سقوط الأمر بما لا يكون مأموراً به فليس من مقتضيات الاطلاق، والمفروض أنّه مقتضى نظر صاحب الرسالة - حيث بنى على عدم معقولية اختلاف الواجب بالنسبة إلى الذاكر والناسي - هو كون الناقص مسقطاً عن الواجب لا مأموراً به

____________________

(١) فرائد الاصول: ص ٤٩٤.

١٧٠

واقعاً، ووجه تقديم الاشتغال: أنّه لا يوجب قاعدة قبح التكليف بلا بيان - بضميمة عدم القول بالفصل - الأمن من العقاب في المورد الذي - لولا عدم القول بالفصل - حكم فيه بالاحتياط.

واعلم أنّ الأخبار في باب الزيادة كثيرة لا بأس بالاشارة اليها وإلى ما يستفاد منها وطريق الجمع بينها.

فمنها: ما يدلّ بظاهره على أنّ مطلق الزيادة مبطلة، كقولهعليه‌السلام : من زاد في الصلاة فعليه الاعادة(١) .

وقولهعليه‌السلام فيمن أتمّ في السفر أنّه يعيده قالعليه‌السلام : لأنّه زاد في فرض اللّه(٢) بناءً على أنّ الرواية أعم من السهو والعمد، وأنّ المراد من فرض اللّه هو الصلاة.

وما ورد في الطواف من أنّه كالصلاة في أنّ الزيادة مبطلة(٣) .

ومنها: ما يدلّ على أنّ الزيادة السهوية مبطلة، كقولهعليه‌السلام : وإذا استيقن أنّه زاد في المكتوبة فليستقبل صلاته(٤) .

ومنها: ما يدلّ على أنّ الزيادة مطلقاً غير مبطلة، كقولهعليه‌السلام : تسجد سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة يدخل عليك(٥) .

ومنها: ما يدلّ على أنّ زيادة غير الأركان لا تكون مبطلة، كقولهعليه‌السلام : « لا تعاد الصلاة الاّ من خمسة »(٦) . بناءً على أنّ لا تعاد شاملة للزيادة إمّا بأن يكون المعنى: لا تعاد الصلاة من طرف شيء ممّا يعتبر في الصلاة زيادة ونقيصة الاّ من

____________________

(١) وسائل الشيعة: ب ١٩ من أبواب الخلل ح ٢ ج ٥ ص ٣٣٢ وفيه « في صلاته ».

(٢) وسائل الشيعة: ب ١٧ من أبواب الخلل ح ٨ ج ٥ ص ٥٣٢.

(٣) وسائل الشيعة: ب ١٢ من أبواب السعي ح ٢ ج ٩ ص ٥٢٧.

(٤) وسائل الشيعة: ب ١٩ من أبواب الخلل ح ١ ج ٥ ص ٣٣٢.

(٥) وسائل الشيعة: ب ٣٢ من أبواب الخلل ح ٣ ج ٥ ص ٣٤٦.

(٦) وسائل الشيعة: ب ١ من أبواب أفعال الصلاة ح ١٤ ج ٤ ص ٦٨٣.

١٧١

خمسة، وعدم تصوّر الزيادة في بعض الخمسة مع تصوّره في الركوع والسجود لا يضرّ بحمله على الأعم من الزيادة والنقيصة، أو يكون المعنى « لا تعاد الصلاة من جهة نقص شيء » ويكون الشيء أعم من التروك المعتبرة في الصلاة، والفرق بين الوجهين: أنّ الأوّل يقتضي بطلان زيادة الركوع والسجود دون الثاني كما لا يخفى.

وكقولهعليه‌السلام في عدم ابطال زيادة غير الركن وابطال زيادته، « لأنّه زاد في فرض اللّه »(١) بناءً على أنّ المراد من فرض اللّه هو الركوع أو الركعة بقرينة ما ورد: من أنّ بعض أجزاء الصلاة فرض اللّه وبعضها سنّة(٢) .

وجه الدلالة على أنّ زيادة غير الركن غير مبطلة: أنّ تعليل الاعادة بزيادة الركن - مع كون زيادة غير الركن حاصلة قبلها - موجب لعدم كون السابق موجباً للبطلان، والاّ كان العلّة هو السابق ولم يكن اللاحق مع صلوحه للعلّية أيضاً علّة، لأنّ المترتّبين الصالح كلّ منهما للعلّية يكون إستناد المعلول بالسابق وإلاّ لزم خروج العلة التامّة عن كونها علّة تامّة، أو تحصيل الحاصل وكلاهما محال.

إذا عرفت ذلك فنقول: قولهعليه‌السلام لا تعاد الخ، حاكم على سائر الأخبار الدالّة على أنّ مطلق الزيادة مبطلة مثل قولهعليه‌السلام : « من زاد » وقولهعليه‌السلام : « لانه زاد في فرض اللّه » ، إلاّ أن يقال: إنّ قوله : « من زاد » ليس في مقام بيان اشتراط عدم الزيادة ليكون لا تعاد لكون معناه لا تعاد ممّا يعتبر في الصلاة حاكماً عليه، بل المقصود رفع ما لعلّه يتوّهم من أنّ الزيادة على تقدير الابطال لا يوجب الاعادة، وحينئذٍ يكون معارضاً لقوله لا تعاد، إلاّ أنّ الظاهر خلاف ذلك خصوصاً مع كون الزيادة من قبيل الموانع التي يكون بيان مانعيتها غالباً بالأمر بالاعادة إذا حصلت.

مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ شمول « لا تعاد » للزيادة السهوية في غير الأركان

____________________

(١) وسائل الشيعة: ب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ح ٨ ج ٥ ص ٥٣٢.

(٢) وسائل الشيعة: ب ١ من أبواب القبلة ح ١ ج ٣ ص ٢١٤ نقلاً بالمعنى.

١٧٢

بعد خروج الأركان عنها بالاستثناء أظهر من شمول « من زاد » لها، أو يقال: إنّ « لا تعاد » أقلّ فرداً من قوله « من زاد » وإن كانت النسبة بينهما عموماً من وجه، من حيث عموم « من زاد » للعمد والسهو والأركان وغيرها، وعموم « لا تعاد » للزيادة والنقيصة، لأنّ لا تعاد شامل للزيادة والنقيصة السهويتين في غير الأركان وقولهعليه‌السلام « من زاد » يشمل الزيادة العمدية في غير الأركان وكذلك السهوية في غير الأركان وهذان القسمان يقابلان ما يشمله قوله « لا تعاد » ويشمله ايضاً قوله « من زاد » على زيادة الأركان عمداً وسهواً فتخصيصه بـ « لا تعاد » أولى من العكس، لأنّ « لا تعاد » أقلّ فرداً، وكذلك تخصيص بقولهعليه‌السلام « لا تعاد » قولهعليه‌السلام : « لكلّ زيادة ونقيصة تدخل عليك » بغير الأركان باعتبار ذيل لا تعاد وهو قوله الاّ من خمسة لانه اخص من قوله لكل زيادة وهو بعد اختصاصه بغير الأركان تخصيص قولهعليه‌السلام : « من استيقن أنّه زاد » بغير الأركان.

فان قلت: النسبة بين قولهعليه‌السلام : « لكل زيادة ونقيصة » وقوله: « من استيقن » ليست إلاّ التباين، إذ ليس الأوّل عامّاً واحداً، بل قوله: « لكل زيادة » عام وقوله: « ونقيصة » عام آخر، وملاحظة النسبة أوّلاً بين ذيل « لا تعاد » مع قوله « لكل زيادة » وتخصيص الثاني بالأوّل وإن جعل الثاني أخص من قوله « من استيقن » إلاّ أنّ باب التعارض لا يقتضي بأن يخصّص « من استيقن » بقوله: « لكل زيادة »، لأنّه لا يكون لقوله « لكل زيادة » بعد التخصيص ظهور في الباقي ظهوراً منعقداً بعد التخصيص، بل شموله للباقي انّما يكون بالظهور الأوّل الذي قبل التخصيص، وتلك الدلالة لا تقتضي تقديم الثاني على الأوّل، ولهذا من قال في قول القائل: أكرم العلماء ولا تكرم النحويّين ولا تكرم فسّاق العلماء، يخصص أكرم العلماء بقوله لا تكرم الفسّاق فرجع النسبة بين قوله: اكرم العلماء ولا تكرم النحوييّن عموماً من وجه، ردّ قوله بأنّ أكرم العلماء لا يكون له ظهور في الباقي ناشئاً من غير ما نشأ منه الظهور الأوّل.

قلت: إن صحّ التمثيل، وصح ما ذكرت من أنّه لا ينعقد لقوله « من زاد » ظهور

١٧٣

في الباقي إلاّ أنّه بعد التخصيص يكون أظهر في شمول ما عدا الأركان من شمول « من استيقن » لما عدا الأركان فتخصيص من استيقن به أولى من العكس.

ولكن لقائل أن يقول: إنّ قوله « من زاد » معناه: من زاد زيادة غير مبطلة فعليه كذا، وليس المقصود من الرواية: بيان عدم الابطال، بل المقصود: بيان حكم موضوع الزيادة الغير المبطلة، وحينئذٍ فلا معارضة بين ذلك، وبين قوله « من استيقن ».

هذا ولكن في سند « من استيقن » ضعف يغني عن التعرّض بعلاج معارضاته، فلم يبق في المقام معارضة إلاّ بين « لا تعاد » وما دلّ على مبطلية مطلق الزيادة، وقد مرّ حكومته عليها.

فظهر أنّ مقتضى الروايات كون الزيادة العمدية مبطلة والسهوية غير مبطلة.

مسألة

إذا ثبت جزئية شيء أو شرطيّته فهل يقتضي الأصل الجزئية والشرطية المطلقتين حتى إذا تعذّر الجزء أو الشرط سقط الواجب، أو لا يقتضي إلاّ اعتبارهما في حال التمكّن فلو تعذّر لم يسقط المقدور من المشروط والمركّب؟ قولان:

القول الأوّل: أصالة البراءة من الفاقد، ولا يعارضها إستصحاب وجوب الباقي، لأنّ وجوبه كان مقدّمياً لوجوب المجموع الساقط وجوبه يقيناً لتعذّر بعضه فما نشأ منه أيضاً ساقط، وانّما الشك في الوجوب النفسي الحادث بعد التعذّر على تقدير ثبوته واقعاً.

نعم إن ثبت إطلاق يقتضي بقاء وجوب الباقي بعد تعذّر ذلك الشرط أو الجزء، ثم ثبت الوجوب لم يبق مجرى للأصل المذكور، كما لو فرض أنّ الأمر أوّلاً تعلّق بالباقي على نحو الاطلاق وثبت تقييده ذلك الاطلاق في حال التمكّن من ذلك الشرط أو الجزء، ومن هذا القبيل الأوامر المتعلّقة بالصلاة عند من يقول: بكونها اسماً للأعم من الصحيح والفاسد بالنسبة إلى الاجزاء الغير المقوّمة.

١٧٤

ولكن هذا الكلام يتمّ إذا لم يكن للقيد إطلاق يقتضي الجزئية على نحو الاطلاق، فانّه يقدّم حينئذٍ على إطلاق الآمر بالباقي، وذلك نظير الأجزاء والشرائط الثابتة بالأوامر الغيرية.

فان قلت: كيف يتعقّل إطلاق لمثل هذه الأوامر في بيان الجزئية مع أنّ ثبوت مدلولها وهو الوجوب مقيّد بحال الامكان؟ مثلاً لو قال: صلّ ثم قال: إقرأ فاتحة الكتاب وعلمنا: أنّ الوجوب المتعلّق بالقراءة غيريّ، لا يمكن بذلك الأمر إثبات إطلاق الجزئية مع تقيّده بحكم العقل بحال الامكان.

قلت: تقييد الأمر المطلق بالجزء بالامكان ليس تقييداً مولوياً، بل هو تقييد عقلي من قبيل المانع عن ثبوت الحكم، وهو لا ينافي وجود المقتضي لبقاء الحكم ونقول يفهم من إطلاق الأمر بالقراءة وعدم تقييده لفظاً بحال التمكّن أنّ جزئية هذه للصلاة ليس في حال دون حال، بل ماهية الصلاة دائماً لا تكون خالية منها باطلاقه يقتضي الجزئية على نحو العموم.

وتوضيحه: أنّ التقييد بالامكان راجع إلى معذورية المكلّف، وهو يجامع وجود المقتضي لثبوت الحكم وعدمه وهذا التقييد اذا ثبت عقلاً لا يعارض بعد كونه مجامعاً لثبوت المقتضي وعدمه ما دلّ على ثبوت المقتضي لثبوت الحكم وفي حال عدم الامكان، وإن لم يكن فعلياً لمانع التعذّر، وإطلاق الأمر بالجزئي لفظاً يقتضي أن يكون المقتضي لثبوت الجزئية والوجوب الغيري ثابتاً حتى حال التعذّر، لأنّ بيان انحصار المقتضي بحال التمكّن من القيد لا يكون عرفاً إلاّ بالتقييد بالامكان، فعدم التقييد بالامكان مع إحراز كون الاطلاق وارداً في مقام البيان دليل على أنّ المقتضي لا يكون مخصوصاً بحال التمكّن، فلا يكون الجزئية مخصوصة بحال التمكّن، والتقييد العقلي كما عرفت لا يعارض هذا الاطلاق.

بل يمكن أن يقال: إنّ التقييد هنا ليس الاّ تقييداً واحداً متعلقاً بالأمر بذي المقدّمة والتقييدات المتصورة في الأوامر الغيرية الحاصلة منه كلّها تابعة لتقييد ذلك الأمر النفسي المتعلّق بذي المقدمة فتأمّل.

١٧٥

فتلّخص ممّا ذكرنا أنّه إذا لم يكن إطلاق يقتضي الوجوب بعد تعذّر الجزء أو الشرط، كان الأصل سليماً عن المعارض، ومن هذا القبيل ما لو ثبت أجزاء المركّب بالأوامر الغيرية، فانّ الكل المركّب منها سقط بسقوط البعض فيسقط تلك الأوامر، وليس لها إطلاق بالنسبة إلى حال تعذّر بعض الأجزاء، لأنّ الوجوب الغيري بوجوب الكل المركّب ممّا تعذّر بعضه لا يعقل بقاؤه حال تعذّر ذلك البعض، لسقوط الأمر بذي المقدّمة أعني ذلك الكل المركّب كما هو واضح.

والقول الثاني: الاستصحاب ويقرّر بوجوه أربعة:

الأوّل: أن يستصحب الوجوب الكلّي المتعلّق بالباقي الذي هو قدر مشترك بين الوجوب الغيري السابق أعني الموجود حال تمكّن الجزء أو الشرط، والوجوب النفسي الثابت له حال التعذّر إن كان ثابتاً في الواقع، وصحّة هذا الاستصحاب مبتنية على صحة استصحاب الكلي إذا كان الشك في بقائه ناشئاً من الشك في قيام فرد آخر من الكلي مقام الفرد الذي كان الكلي موجوداً في ضمنه وقد تحقّق ارتفاعه، كالشك في وجود حيوان ناطق في الدار بعد اليقين بأنّ زيداً خرج منه، للشك في أنّه دخل عمرو في الدار مقارناً لخروج زيد أم لا؟ وليس هذا من قبيل إستصحاب السواد الموجود في ضمن السواد الشديد بعد القطع بزوال الشدّة والشك في تبدّله بالفرد الآخر وهو السواد الضعيف أو إنعدامه رأساً ممّا يكون الفرد الباقي عين الفرد المتقدم يقيناً بحسب العرف، كما لا يخفى.

هذا كلّه مع أنّه يمكن أن يقال: أنّ الوجوب الكلّي القدر المشترك بين الوجوب النفسي والغيري لا أثر له هنا، وثبوته في الظاهر أيضاً لا يترتّب على مخالفته عقاب فيما نحن فيه، لأنّ الوجوب المردّد بين النفسي والغيري لا يترتّب عليه العقاب إذا كان هناك وجوب نفسي آخر يتردّد هذا الوجوب بين النفسية والغيرية لأجل التوصّل إلى متعلّق ذلك الوجوب الآخر.

والقول بانّه يحكم بعد ثبوت القدر المشترك بأنّه نفسي لانتفاء الغيرية قطعاً.

يدفعه أنّ ذلك مبنيّ على صحّة الاصول المثبتة.

١٧٦

الثاني: أن نستصحب الوجوب المطلق من غير نظر إلى الغيرية والنفسية بدعوى أنّ الثابت حال الشك - على تقدير ثبوته - عين الذي كان ثابتاً حال اليقين بالثبوت، بناءً على عدم تمايز الوجوب الغيري والنفسي عند العرف وكونهما شيئاً واحداً عندهم.

الثالث: أن نستصحب الوجوب النفسي - بناءً على أنّ الذي كان واجباً عين الباقي عرفاً - نظير استصحاب الكريّة بالنسبة إلى الماء الذي علم كثرته وشك في بقاء الكثرة بعد إنعدام بعض أجزائه.

الرابع: أن نستصحب الوجوب النفسي المردّد بين تعلّقه سابقاً بالمركّب على أن يكون المقصود جزءً له مطلقاً فيسقط بتعذّره، وبين تعلّقه به على أن يكون الجزء جزءً اعتبارياً يبقى التكليف بعد تعذّره، فانّ الأصل بقاء هذا الوجوب فيثبت به تعلّقه بالمركّب على الوجه الثاني، وهذا نظير إجراء استصحاب وجود الكر في هذا الاناء لاثبات كرية الباقي.

ويمكن أن يقال: إنّ ما نحن فيه ليس من قبيل استصحاب الكر، لأنّ المستصحب في مسألة الكر هو الكر الشخصي الموجود سابقاً، والوجوب النفسي المستصحب هنا ليس عين الوجوب النفسي السابق إلاّ إذا فرض كون المستصحب أمراً كلّيّاً، وهو القدر المشترك بين النفسيّين وهو لا يصح الاّ بالمسامحة التي سبقت الاشارة إليها في التقرير الثالث.

والحاصل: أنّ الوجوب النفسي هنا ليس أمراً واحداً مردّداً بين القابل للبقاء الذي كان في السابق موجوداً وبين ما لم يقبل البقاء، بل الموجود في الحال الثانية على تقدير وجوده غير الموجود أوّلاً.

إلاّ أن يقال: إنّ المقتضي لطلب المركّب من الباقي والجزء الذي تعذّر حصوله حال إمكانه عين المقتضي لطلب الباقي حال تعذر الجزء الآخر وبهذا اللحاظ يكون وجوب الباقي عين الوجوب السابق.

هذا ولكن صحّة هذا الاستصحاب - على تقدير اجرائه في الوجوب الشخصي -

١٧٧

موقوف على صحّة الاصول المثبتة.

ويدلّ على القول الثاني أيضاً قولهعليه‌السلام : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم(١) بناءً على أنّ المراد الشيء المركّب لا الكلي ولا العام الاصولي، فإنّ إرادة الكلي مخالف للظاهر، لأنّ الظاهر من كلمة « من » أنّه للتبعيض، وإذا اريد من الشيء الكلي لا يصحّ التبعيض، لأنّ الفرد ليس بعض الكلي فيحتاج إلى مسامحة وهي أن يكون التبعيض بملاحظة أنّ الفرد بعض الأفراد ويكون المراد من قوله: « فأتوا منه » فأتوا من أفراده، وكذلك إرادة العام أيضاً خلاف الظاهر، لأنّ الأمر حينئدٍ ليس بشيء واحد، بل امر بأشياء هي الاكرامات المتعلقة بالعلماء فتأمّل واحتمال كون « من » بمعنى الباء مخالف للظاهر كاحتمال كونها بيانية، بل الثاني مشكل جّداً.

ويدلّ عليه أيضاً قولهعليه‌السلام : « ما لا يدرك كله الخ »(٢) .

وقد يورد عليه بأنّه يحتمل كون لفظ الكل للعموم الافرادي، لعدم ثبوت كونه حقيقة في الكل المجموعي ولا مشتركاً معنوياً بينه وبين الافرادي، فلعلّه مشترك لفظي أو حقيقة خاصة في الافرادي، فيدلّ على أنّ الحكم الثابت لموضوع العام بالعموم الافرادي إذا لم يكن الاتيان به إلاّ على وجه العموم لا يترك موافقته فيما أمكن من الأفراد.

ويجاب عنه: بأنّ كون لفظ الكل للعموم الافرادي لا وجه، لأنّ المراد بالموصول: هو فعل المكلّف، وكلّه عبارة عن مجموعه.

نعم لو قام قرينة على إرادة المتعدّد من الموصول بان اريد ان الافعال التي لا يدرك كلها كاكرام زيد واكرام عمرو وغيرهما لا يترك كلها، كان لما احتمله وجه لكن لفظ كل حينئذٍ أيضاً مجموعي لا افرادي، إذ لو حمل على الافرادي كان

____________________

(١) عوالي اللئالي: ج ٤ ص ٥٨ ح ٢٠٦.

(٢) عوالي اللئالي: ج ٤ ص ٥٨ ح ٢٠٧.

١٧٨

المراد ما لا يدرك شيء منها لا يترك شيء منها ولا معنى له، وفي كلامه الأخير نظر، لأنّ كون كل افرادياً أو مجموعياً لا مدخل له في ذلك، بل المناط كون العموم مسلوباً أو السلب عاماً.

والحاصل: أنّ ما لا يدرك كلّه قد يكون معناه: ما لا يدرك شيء منه، وقد يكون ما لا يدرك جميعه، وعلى الثاني لا يلزم أن يكون الكل مجموعياً، بل اللازم توجّه النفي إلى العموم المستفاد من الكل.

والحاصل: أنّ قولنا ليس كل انسان حيوان مع أنّ النفي غير عام ويكون متوجهاً إلى العموم لا يكون كل فيه مجموعياً بل هو افرادي، ولذلك أخذه المنطقيون سور القضية ومعنى القضية على تقدير أن لا يكون النفي عاماً إن قدّرنا الكل مجموعياً: أنّ ما لا يدرك مجموعة لا يترك مجموعة، وإن قدّرنا إفرادياً: ما لا يدرك كل واحد من افراده.

١٧٩

القول في كيفية معذورية الجاهل في مسألة القصر والاتمام والجهر وأخيه

وقد فصّلها الشيخرحمه‌الله في الرسالة(١) فلنوضح كلامه.

قوله: إما بدعوى كون القصر مثلاً واجباً على المسافر العالم، وكذا الجهر والاخفات الخ.

وفيه: انه مع استلزامه التصويب والدور المانعان عن تخصيص الأحكام الواقعية بالعالمين لا يدفع الاشكال، إذ لا وجه لعقاب الجاهل على مخالفة الحكم المختص بالعالم كما هو المفروض.

قوله: وإمّا بمعنى معذوريته فيه الخ. الظاهر أنّ المراد منه المعذورية الشرعية.

وحاصله: توقّف تنجّز التكليف بالواقع المجهول على حصول العلم اتّفاقاً، لا على إمكان تحصيل العلم وهذا كسابقه في عدم دفع الاشكال، ضرورة أنّه مع المعذورية الشرعية لا وجه لعقاب الجاهل.

وفيه إشكال آخر وهو أنّ عدم تنجّز التكليف الواقعي لا يستلزم إجزاء المأمور به ظاهراً عنه وسقوطه بامتثال التكليف الظاهري، هذا مع أنّ ظاهر العبارة حيث ادرج هذا الجواب في القسم الأوّل من أقسام الأجوبة: أن يكون الأمر متعلّقاً بما حكم باسقاطه، مع أنّه لا يعقل تعلّق الأمر به من حيث كونه جاهلاً ولو فرضنا إمكان تعلّق الأمر فلا أمر أيضاً، فانّ المخاطب بالاتمام هو الحاضر. اللهم الاّ أن

____________________

(١) فرائد الاصول: ص ٥٢٣.

١٨٠