الرسائل الفشاركية

الرسائل الفشاركية0%

الرسائل الفشاركية مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 604

الرسائل الفشاركية

مؤلف: آية الله السيد محمد الفشاركي
تصنيف:

الصفحات: 604
المشاهدات: 41188
تحميل: 4375

توضيحات:

الرسائل الفشاركية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 604 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41188 / تحميل: 4375
الحجم الحجم الحجم
الرسائل الفشاركية

الرسائل الفشاركية

مؤلف:
العربية

حكم على طبق الحكم المعلوم بالاجمال لكن بسب آخر، أو مع احتمال كونه بسبب آخر، كما اذا علم أنّ أحد الصوتين غناء، ثم علم بعد ذلك أنّ المعيّن منهما صوت الأجنبية - إن قلنا بحرمة سماعها - والحكم في جميع هذه الصور هو الاحتياط في الطرف الذي بقي اشتباه حكمه، لأنّ الاشتغال بالاجتناب عن المعلوم بالاجمال حاصل، وهو يستدعي البراءة اليقينية، ولا يحصل ذلك الاّ بالاجتناب عن كلا الفردين.

فان قلت: انّ المعلوم ثبوته من التكليف بعد هذا العلم التفصيلي ليس إلاّ تكليفاً واحداً وهو حرمة المعلوم حرمته بالتفصيل، والاصل براءة الذمة عن الزائد.

قلت: اشتغال الذمة بالاجتناب المردد بين المشتبهين ثابت بمقتضى العلم الاجمالي الأوّلي، بل نقول: العلم بوجوب الاجتناب عنه الآن باق وسبب كون التكليف المعلوم الآن منحصراً في الواحد ليس بزوال ذلك العلم الاجمالي وصيرورته تفصيليّاً بل السبب في ذلك احتمال انطباق موضوع الحكم تفصيلاً لموضوع الحكم المعلوم اجمالاً.

وبعبارة اخرى العلم بوجوب الاجتناب عن الفرد المردّد بين المشتبهين حاصل والعلم بوجوب الاجتناب عن المحرّم المعلوم تفصيلاً أيضاً حاصل، ولكن لمّا كان انطباق المعلوم حكمه للفرد المردّد الذي علم حكمه محتملاً، لم يبق لنا علمان بتكليفين وصار ذلك سبباً لكون تكليف واحد معلوماً والزائد مشكوكاً، وإذا كان وجوب الاجتناب عن الفرد المردّد بين المشتبهين معلوماً، وجب بحكم العقل الاحتياط حتى يحصل البراءة اليقينية بعد الاشتغال اليقيني.

وأمّا قولك: إنّ الأصل براءة الذمّة عن الزائد، لا يجدي في رفع الاحتياط عن الفرد الذي بقي حكمة مشتبهاً، وذلك لأنّ براءة الذمّة - عند احتمال عدم انطباق الفرد المردّد له - معارض بأصالة براءة الذمّة عن المعلوم حكمه من هذه الجهة، - وإن كان الاشتغال به من جهة اخرى معلوماً - وبعد التعارض يتساقط الأصلان، إذ لا ترجيح بين الأصلين، - كما قرّر في محلّه -.

الثاني: أن يحصل العلم التفصيلي بحكم أحد المشتبهين على طبق الحكم المعلوم

٨١

بالاجمال، مع عدم كون العلم بالحكم بواسطة حدوث سبب جديد، ولا بواسطة أمر يحتمل معه حدوث سبب جديد، ولا ريب أنّ العلم الاجمالي في هذه الصورة ينقلب تفصيليّاً، فيكون المشتبه الآخر مشكوك الحكم بشك ابتدائي، وذلك لأنّ سبب إجمال العلم إنّما كان إشتباه متعلّق الحكم المعلوم، ولا ريب أنّه بعد هذا العلم يرفع الاشتباه، واذا رفع ينقلب الاجمالي الى التفصيلي، مثلاً اذا علمنا أنّ أحد الغنمين محرّم ولم نعلم المحرّم بخصوصه ثم علمنا بحرمة أحدهما خاصّة ولم يكن حدوث سبب الحرمة محتملاً، فلا ريب أنّ متعلّق الحرمة المعلومة يتعيّن كونه ذلك المعلوم حرمته تفصيلاً، ويبقى الفرد الآخر مشكوك الحكم ابتداء.

فتلخّص: أنّ العلم الاجمالي إذا لحقه العلم التفصيلي، فتارة يكون التفصيلي سبباً لزوال الاجمالي السابق وانقلابه الى شك بدوي وعلم تفصيلي، وقد لا يكون كذلك، فعلى الأوّل: لا يجب الاحتياط في مشكوك الحكم، وعلى الثاني: يجبب الاحتياط، وضابط القسمين: هو أنّ متعلّق الخطاب المعلوم المفصّل متعلّقه إمّا أمر لا يحتمل عدم إنطباق متعلق الخطاب المعلوم المجمل متعلّقه عليه، وإمّا أمر يحتمل أن لا ينطبق عليه، فعلى الأوّل: يذهب الاجمال من متعلّق العلم الاجمالي وينقلب تفصيليّاً، إلاّ إذا كان حدوث تكليف جديد عدا التكليف المعلوم بالاجمال محتملاً، فانّه لا تفصيل حينئذٍ لبقاء التردّد مع هذا الاحتمال في متعلّق الخطاب الأوّل، وعلى الثاني: يكون العلم بالخطاب المجمل باقياً على حاله، غاية الأمر أنّه للشك في الانطباق لا يكون التكليف المعلوم الاّ واحداً.

وبعبارة اخرى: إن كان جميع عناوين موضوع الحكم المجمل متعلّقه صادقاً على كل واحد من الأطراف، فيكون العلم بحكمه - مع عدم احتمال حدوث حكم جديد - موجباً لرفع اجمال العلم الأوّل، وإن لم يكن كذلك، فذهاب إجماله موقوف على العلم بثبوت عناوينه لبعض الاطراف، ففي ما اذا كان مفهوماً مردّداً بين مفهومين لا يصدق إلاّ على واحد منهما في الواقع، فحكمة الحرمة لا يذهب إجمال ذلك الحكم، الاّ بعد العلم بأنّ البعض المعيّن من الأطراف صادق عليه ذلك المفهوم

٨٢

المردّد، ولا يكفي مجرّد العلم بأنّ الطرف الفلاني حكمه الحرمة لرفع الاجمال، لجواز أن يكون كل واحد من الأطراف الذي يكون مصداقاً لذلك المفهوم المردّد واقعاً وغيره حكمه الحرمة، ومع هذا الاحتمال كيف يرفع الاجمال.

وبعبارة ثالثة: المناط في رفع الإجمال من العلم هو العلم بأنّ متعلّق الحكم - الذي كان المكلف متردّداً في تعلّقه بكل من المشتبهين - هو البعض المعيّن منهما، وذلك عند كون جميع ما للمفهوم المردّد - الذي موضوع ذلك الحكم في نظر المكلف من العناوين - صادقاً على كل واحد من الأطراف، كمفهوم أحدهما، والفعل يحصل بمجرد العلم بثبوت الحكم المطابق لبعض الاطراف مع عدم احتمال تجدّد الحكم، وفيما إذا كان عنوان موضوع الحكم غير صادق في نظر المكلّف إلاّ على بعض لا يعلم ذلك البعض بتعيّناته، يجب أن يحصّل ما يرشده إلى مورد ذلك العنوان، ولا يكفي في رفع الاجمال العلم بكون بعض الاطراف مورداً لمثل الحكم الذي يثبت لذلك المجمل.

لا يقال: ما كرّرت من أنّ المفهوم الموضوع للحكم إن كان صادقاً على كل واحد من الاطراف، يكفي في رفع الاجمال،(١) العلم بثبوت مثل الحكم لبعض معيّن من الاطراف ممنوع، لأنّا قد يكون لنا علم بإباحة أحد فعلين، وعلم بحرمة الآخر مع اشتباه متعلّق العلمين، وليس في نظرنا عنوان لشيء من موردي الاباحة والحرمة إلاّ يصدق على كل من المشتبهين، ومع ذلك اذا علمنا بأنّ أحدهما المعيّن حكمه الحرمة، لا يحصل لنا العلم بإباحة الآخر ولو كان الأمر كما ذكرت للزم حصول العلم بإباحة الآخر.

لأنّا نقول: مع إحتمال تجدّد حكم ورفع إباحة المباح وثبوت الحرمة مكانها، اذ ذهاب العلم الاجمالي بالاباحة بنحوٍ آخر يمكن أن لا يحصل العلم بالاباحة وبدونه غير معقول.

____________________

(١) العلم (ظ).

٨٣

لا يقال: ما تنجّز على المكلّف هو الاجتناب عن المحرّم الواقعي بذاته، لا الاجتناب عن شيء عنوانه أحدهما أو فعل ومع ذلك يجب أن يحصل العلم بأنّ البعض المعيّن الذي فصّل حكمه هو ذلك الواقع.

لانا نقول: حصول هذا العلم لازم تفصيل حكم أحد المشتبهين، لأنّ المحرّم الواقعي - الذي وجب الاجتناب عنه في مورد الشبهة - إما كلّ واحد من الأطراف، أو أحدهما، فان كان هو كل واحد، فالمنجّز على المكلّف لم يكن إلاّ أحدهما على وجه الترديد، وقد حصل له العلم بحرمة أحدهما بالمفروض، فحصل له العلم بالواقع الذي وجب الاجتناب عنه، وإن كان واحداً معيّناً، فالأمر فيه أوضح، إذ المفروض علم المكلّف بأنّ أحدهما محرّم.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: اذا علم المكلّف بأنّ مقداراً من الأفعال المردّد، وذلك المقدار الذي لا عنوان له إلاّ فعل في نظر المكلّفين، كعلمنا بأنّ للّه تعالى محرّمات بين الأفعال وقام الطريق على حرمة مقدار من الأفعال التي هي من أطراف الشبهة، فلا ريب أنّه يجب البناء على لزوم الاحتياط، وذلك لأنّ الطريق بمدلوله حاكم بأنّ الأفعال الخاصة محرّمات واقعية، ودليل وجوب العمل بالطريق يقضي بوجوب البناء على واقعية مدلول الطريق، فيكون تلك الأفعال محرّمات واقعية بحكم الشارع الجاعل للطريق، ولازم ذلك الحكم بانطباق المعلوم بالاجمال لما يدلّ على حرمة الطريق، إذ المفروض أنّ الواجب على المكلّف لم يكن إلاّ الاجتناب عن محرّمات واقعية، وقد فرض أن مؤدّى الطريق - المفروضة محرّمات واقعية بحكم الشارع - فهي بحكم الشارع تلك الواقعيات المنجّزة على المكلّف، فالاجتناب عنه يكون اجتناباً عن المحرمات الواقعية، فلا يجب الاحتياط في باق الاطراف.

توضيح ذلك: أنّ العلم الاجمالي بوجود الحرام بين الأطراف في مثل ما نحن فيه الذي لا عنوان فيه للمعلوم غير العنوان الصادق على جميع أطراف الشبهة، لا يوجب الاّ تنجّز الحرام الواقعي بمقدار المعلوم بالاجمال على المكلّف، إما تعييناً لو كان مقدار الحرام الواقعي بين الاطراف مطابقاً بمقدار المعلوم المكلف، أو تخييراً لو كان

٨٤

أزيد، فاللازم على المكلّف إحراز الاجتناب عن المحرّم الواقعي الكائن بين الأطراف.

وطريق إحرازه: إمّا الاحتياط لو لم يكن طريق يثبت كون بعض الاطراف محرّماً واقعياً، ولو كان فإمّا هو العلم، وقد عرفت الكلام انّه موجب لزوال إجمال العلم بحدوثه لزوال سبب الاجمال، وهو تردّد المتعلّق للحكم بين الاطراف لانطباق المجمل حكمه على المفصّل حكمه، وإمّا هو طريق التعبّدية من خبر الواحد وغيره، وهو وإنّ لم يوجب زوال العلم الاجمالي، إلاّ أنّه كالعلم في رفع الاحتياط، لأنّ معنى حجّيته كون مؤدّاه منزّلاً منزلة الواقع عند الشارع، فما يدلّ على حرمة من الاطراف يكون محرّماً واقعياً بحكم جاعل الطريق، ويلزمه عقلاً الحكم بانطباق ذلك مع الذي اشتغل ذمة المكلّف به، اذ ليس عنوانه إلاّ المحرّم الواقعي بين الاطراف، وهو إمّا أحدهما أو كلاهما، والانطباق على الأخير واضح، وأمّا على الأوّل فلأنّ الحكم بأنّ أحد الأمرين الذين يعلم أنّ واحداً منهما حرام يكون حراما، يلزمه الحكم بأنّ هذا هو الحرام، إذ المفروض أنّه لا حرام الاّ واحد، فالمجتنب عنه يكون مجتنباً عن الحرام الواقعي الذي بين الاطراف عند جاعل الطريق، فإذا كان مجتنباً يسقط عنه الاحتياط، لأنّه انّما كان واجباً بحكم العقل، لأجل إحراز الاجتناب عن المحرّم الواقعي الذي كان بين الاطراف وكان ذمة المكلّف مشغولة به، وقد حصل إحراز ذلك بالاجتناب عمّا دلّ على حرمة الطرف.

والحاصل: أنّ الواجب على العالم اجمالاً لم يكن غير الاجتناب عن الحرام الواقعي الذي بين الاطراف، ممّا ثبت أنّه ذلك الحرام من الاطراف اذا احترز عنه فرغت ذمّته عنه، سواء كان ثبوته بطريق تعبّدي، أو عقلي، وعلى الأوّل يكون الطرف الآخر مشكوكاً حكمه حكم المشكوك الابتدائي، كما أنّه على الأخير حقيقة مشكوك بالشك الابتدائي فاصالة البراءة جارية فيه من غير مانع، ولكن لقائل أن يقول: إنّ الطريق لا يوجب التعيين، لأنّ معنى حجّيته ليس الاّ أن مؤدّاه واقع، وذلك لا يوجب الاّ ترتتيب الآثار الشرعية الثابتة الواقعية على مؤدّى الطريق،

٨٥

ولا ريب أنّ الحرمة الواقعية الثابتة لبعض الاطراف، انّما يوجب ذلك سقوط العقاب على تقدير مخالفة أمر الاحتياط في الطرف الآخر على ترك الواقع المجهول بين الطرفين، لأجل أنّه على تقدير كونه واقعياً ينطبق على ما وجب على المكلّف منجّزاً، لأنّه إمّا واحد معيّن في الواقع بين الطرفين فهذا عينه، أو أحدهما المردّد على تقدير كون كل واحد منهما مردّداً حراما فهذا أيضاً ينطبق معه، وهذا السقوط الواقعي لا يكون كافياً في سقوط وجوب الاجتناب عن ذمّة المكلف الاّ بعد علمه بهذا الانطباق، أو ثبوته بطريق تعبّدي، وثبوت ذلك بالعلم بحرمة أحد الطرفين قد علمت وجهه، من أنّ ذهاب العلم الاجمالي بذهاب إحتمال عدم حرمة ذلك الطرف الذي علم حرمته، وحصول الانطباق بين المعلوم تفصيلاً والمجمل الذي علم حرمته، والطريق إنّما يثبت ذلك اذا كان مؤدّاه أنّ هذا الحرام الذي كان بين الطرفين، وأمّا بدونه فلا يثبت ذلك به، فانّ إنطباق حرمته طرف معيّن مع المجمل في نظر المكلّف انّما هو بسبب ذهاب إحتمال عدم حرمة ذلك الطرف، والطريق لا يسدّ باب الاحتمال.

فان قلت: الطريق وإن كان لا يسدّ باب الاحتمال، إلاّ أنّ معنى حجيته كون احتمال مخالفته للواقع منزّلاً منزلة العدم عند الشارع، ولازم ذلك الحكم بالانطباق كما اشرنا إليه.

قلنا: إنّ معنى كون الطريق حجة ليس الاّ انّه على تقدير كونه مطابقاً للواقع لا يكون المكلّف معذوراً في مخالفة الحكم الذي تضمّنه، أو الحكم الذي أثبت موضوعه كحياة زيد مثلاً وذلك لا ينافي وجوب الاحتياط لأجل العلم الاجمالي بحرمة أحد الطرفين.

وبالجملة: رفع الاحتياط من لوازم تفصيل العلم الاجمالي، والطريق التعبّدي لا يجعله بحكم المفصّل، لأنّه لا يثبت أنّه منطبق مع بعض الاطراف، لا بالمطابقة إذ عرفت أنّ مؤدّاه لا إشارة فيه إلى المعلوم بالاجمال فيما نحن فيه، ولا بالالتزام إذ ليس مدلوله الاّ سقوط العذر عن مخالفة الواقع.

٨٦

القول فيما إذا علم بالتحريم بين امور محصورة

فالكلام في مقامين:

الأوّل

إنّه يحرم مخالفة القطعية وربما ينسب الميل الى جوازه الى بعض.

لنا على ذلك: ان المقتضي للتحريم موجود، والمانع عنه مفقود.

أمّا الأوّل: فلأنّ الأدلّة الدالّة على تحريم العناوين المحرّمة تشمل الموضوع المشتبه حتى على القول بأنّ الالفاظ أسام للامور المعلومة ، لأنّ الظاهر أنّ المدعّي لذلك لا يدّعي اعتبار التفصيل في الموضوع له.

وأمّا الثاني: فلأنّ العقل لا يأبى من النهي عن اجتناب أمر مشتبه بين امور محصورة ولا مانع من صحّته عنده، ولا يتصوّر في ذلك قبح يتوجّه الذمّ بسببه على المولى.

والحاصل: انه لا فرق عند العقل بين العلم الاجمالي والتفصيلي، فكما أنّه إذا علم متعلّق الخطاب تفصيلاً، وميّز عن جميع ما عداه عند المكلّف، يجب إمتثال الخطاب عنده ويستحقّ مخالفة العقاب لديه، كذلك إذا كان عند المكلّف مشتبهاً بين امور محصورة يمكنه امتثال الأمر أو النهي، ولا فرق عنده بين المقامين بوجه من الوجوه، ولا فرق عنده بين العاصي في هذا المقام وبين العاصي في المقام الأوّل، والشرع ايضاً لم يثبت منه منع عن مثل هذا التكليف، وأنّه عند اشتباه الحرام بغيره يرفع الحرمة ظاهراً.

٨٧

وأمّا ما يتخيّل دلالته على المنع من قولهعليه‌السلام : كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه(١) . وقولهعليه‌السلام : كل شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام بعينه(٢) . لأنّها كما تدلّ على حلّية المجهول حرمته مع عدم كونه من اطراف الشبهة كذلك على حلّية المجهول حرمته مع كونه من اطرافها، فلا دلالة فيه.

أمّا الأوّل: فلأنّ قولهعليه‌السلام : فيه حلال وحرام ظاهر في بيان منشأ الاشتباه، والمعنى عليه: أنّ كل شيء يكون في نوعه قسمان، وصار ذلك الشيء مشتبه الحكم من جهة الشك في أنّ هذا الفرد من أيّ فرد ذلك النوع، لعدم دليل عند المكلّف يميّز به النوع الحلال عن النوع الحرام، يكون ذلك الشيء حلالاً حتى تعرف حرمته بشخصه، وهذا صريح في حكم الشبهة البدوية، ضرورة أنّ الشك في كل طرف من اطراف الشبهة المحصورة لم ينشأ من العلم بانقسام نوعه، أو فعلية إنقسامه الى النوعين، بل انّما نشأ من جهة اشتباه بعض الأشخاص الخارجية ببعض آخر.

والحاصل: ان الخبر ظاهر في بيان الأصل في بعض مصاديق الشبهات البدوية، وهي التي نشأ الشك فيها من العلم بانقسام النوع الى قسمين، ومن لاحظ صدر الخبر وجوابهعليه‌السلام عن الراوي بقولهعليه‌السلام ساخبرك عن الجبن وغيره، لا يبقى له شكّ في أنّ المقصود من الخبر: بيان حكم الشبهة البدوية.

وأمّا الثاني: فلأن معرفة شخص الحرام التي جعلت في الخبر غاية للحلّ، لا يكون غاية له على وجه يكون فيه خصوصيته، بل هو إحدى الغايات.

والحاصل: قوله « حتى تعرف انه حرام »، بمنزلة حتى يقوم دليل يوجب حرمته عليك وهذه الغاية حاصلة في موارد الشبهة المحصورة، ويدلّ على ذلك تفريع قولهعليه‌السلام : « فتدعه من قبل نفسك » على ذلك، فانّه يظهر منه: أن كلّ ما يوجب

____________________

(١) الكافي: ج ٥ ص ٣١٣ ح ٣٩.

(٢) الكافي: ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠.

٨٨

حصوله أن يترك الانسان ما كان مشتبهاً حكمه، ويدعه من قبل نفسه يكون غاية لهذا الحلّ، ولا ريب أنّ ثبوت العلم الاجمالي بعد إستقلال العقل بايجابه الاحتياط كالعلم التفصيلي بالحرمة.

ويؤيّد ذلك: الأمثلة المذكورة في ذيل الخبر، فانّ الغرض إمّا مجرّد التشبيه والتمثيل، وإمّا يكون من مجاري الاصول، وعلى أيّ تقدير هي داخلة في الشبهات البدوية، وليس فيها من موارد الشبهة المحصورة مثال، ولو كان موارد الشبهة يفيد الاذن فيها، كان التمثيل بها ألزم.

بل يمكن أن يقال: ان التمثيل شاهد على أنّ المراد من الشىء في قولهعليه‌السلام : كل شيء، هو خصوص الشبهات البدوية، والفرق بين هذا وسابقه: أنّه على الأوّل كان أطراف الشبهة داخلة في قوله كل شيء، لكن عدم الحليّة فيها لأجل حصول الغاية، وأمّا على هذا الاحتمال لا يكون اصلاً داخلة في قولهعليه‌السلام كل شيء ، وهذا أظهر.

مع امكان أن يقال: بعد تسليم انّ كل شيء عام يشمل كل مشتبه، وليس في قوله فتدعه دلالة على أنّ ذكر العلم بشخص الحرام في الغاية لأجل أنّه أحد أفراد الغاية، وليس في التمثيل أيضاً دلالة أو تأييد أنّ استقلال العقل بوجوب امتثال الخطاب المعلوم اجمالاً مانع عن حمل اللفظ على إرادة ما هو ظاهره، وليس في الخطاب بعد إقترانه بهذه القاعدة العقلية ظهور في إرادة معناه الحقيقي.

لا نقول: إنّ حكم العقل بوجوب الامتثال عند العلم الاجمالي حكم تنجيزي لا يمكن رفعه بخطاب الشرع كما هو ظاهر بعض المشايخ(١) ، بل نقول: وان كان حكم العقل بوجوب الامتثال معلّقاً على عدم رفع الشارع لتنجز الخطاب وجعل الاشتباه عذراً - كما سيجيء بيانه إن شاء اللّه - إلاّ أنّ إبداء المانع عن تنجّز الخطاب المعلوم اجمالاً بعد جريان ديدن العقلاء على الاحتياط فيه، وارتكاب ذلك في

____________________

(١) لعلّ مراده الشيخ الأنصاري، راجع فرائد الاصول: ص ٢٧.

٨٩

الأذهان إلى أن بلغ حدّاً يدّعى امتناع إذن الشارع في المخالفة، ولزوم القبح عليه إن فعل ذلك، لا يليق أن يكون بمثل هذا الخطاب الذي يمكن الخدشة في ظهوره في ذلك من وجوه مرّ الاشارة اليها.

وبالجملة: كما يمكن أن يكون الخبر رافعاً لحكم العقل، لكونه معلّقاً على عدم إذن الشارع كذلك يمكن أن يكون حكم العقل رافعاً لظهور هذا الخبر في شموله مورد القاعدة، وذلك نظير ما قيل: من اجمال المجاز المشهور لاحتمال أن يكون المعنى الحقيقي مراداً إتكالاً على ظهوره واحتمال أن يكون المعنى المجازي مراداً اتكالاً على الاشتهار.

وبالجملة: إقتران اللفظ بما يمكن الاتكال عليه في إرادة خلاف ظاهره سبب لإجمال اللفظ وعدم ظهوره في المعنى الذي كان ظاهراً فيه لولا ذلك.

وأجاب بعض المحقّقين(١) عن دلالة الصحيحين: بأنّ هذه الأخبار كما تدلّ على حلّية كل واحد من المشتبهين، كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم اجمالاً، لأنّه ايضاً شيء علم حرمته.

وأورد على ذلك: بانّ غاية الحلّ معرفة الحرام بشخصه، ولم يتحقّق في المعلوم اجمالاً، ودفع.

أمّا في قولهعليه‌السلام « كل شيء لك حلال حتى تعلم انّه حرام بعينه » فبانّه لا يدلّ على ما ذكر، لأنّ قولهعليه‌السلام « بعينه » تأكيد للضمير، جيء به للاهتمام في اعتبار العلم ، كما في : رأيت زيداً بعينه، لدفع توهم [ وقوع الاشتباه في الرؤية ](٢) وإلاّ فكل شيء علم حرمته فقد علم حرمة نفسه، فاذا علم نجاسة إناء زيد وطهارة اناء عمر واشتبه الاناءان فاناء زيد شيء علم حرمته بعينه.

نعم يتّصف هذا المعلوم المعيّن بكونه لا بعينه، إذا اطلق عليه عنوان أحدهما

____________________

(١) هو الشيخ الأعظم -قدس‌سره - في الرسائل، عند البحث عن الشبهة المحصورة، ص ٤٠٤.

(٢) أثبتناه من المصدر.

٩٠

فقال أحدهما لا بعينه في مقابل أحدهما المعيّن عند القائل.

وأمّا في قوله كل شيء فيه حلال وحرام بعد تسليم ظهوره فيما ذكر من أنّ الغاية معرفة الحرام بشخصه، حيث انّ قوله بعينه قيد للمعرفة، ومؤدّاه حينئذٍ معرفة الحرام بشخصه، وهي لا تتحقّق إلا عند إمكان الاشارة الحسيّة إلى الحرام فبأنّ إبقاء الصحيحة على هذا الظهور يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه، مثل قوله « اجتنب عن الخمر » لأنّ الاذن في كلا المشتبهين ينافي المنع عن عنوان مردّد بينهما، فالتمسّك بهذا الخبر يوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم اجمالاً في متن الواقع، وهو ممّا يشهد الاتّفاق والنصّ على خلافه، حتى نفس هذه الأخبار حيث إنّ مؤدّاها ثبوت الحرمة الواقعية للأمر المشتبه.

أقول: أمّا ما ذكرت من دلالة الخبرين على حرمة ذلك الأمر المعلوم اجمالاً، فحاصله دعوى دلالة الخبر على المتناقضين ضرورة أنّ السلب الكلي ينافي الايجاب الجزئي.

ويرد عليه: أنّ الظاهر من الشيء في قوله: كل شيء هو الحقيقة المأخوذة في الخارج المعيّن عند المخاطب، وغاية الحلّية معرفة حرمة ذلك الموجود الخارجي وهي في مورد الشبهة ليست إلاّ الأطراف وليس خارجاً عن الأطراف موجود خارجي يكون مشمولاً للخبر، وذلك في الخبر الأوّل ظاهر، حيث إنّ قوله: بعينه من قيود المعرفة، وأمّا في الخبر الثاني فلظهور قوله حتى تعرف انّه حرام في ذلك، لرجوع الضمير إلى الشخص.

وبالجملة: معرفة حرمة الشخص وإن كان شاملاً لمعرفة حرمة الشيء بعنوان ينطبق عليه، وإن جهل الانطباق عند من يعرف حكم العنوان، لأنّه يصدق على معرفة حرمة إناء زيد - الذي جهل شخصه - معرفة حرمة ذلك الشخص، إلاّ أنّ الظاهر من معرفة حرمة الشخص عرفاً معرفة أنّه حرام من حيث إنّه شخص خارجي.

والحاصل: أنّ غاية الحلّية في الخبر إن كانت معرفة الحرام بشخصه كما هو

٩١

الظاهر، فلا دلالة فيه على حرمة معرفة العنوان المشتبه، وإن كانت معرفة الحرمة ولو إجمالاً دلّت على حرمة المخالفة القطعيّة، إذ المفروض حصول العلم بحرمة أحدهما لا بعينه، بل على وجوب الموافقة القطعية، لأنّ جعل معرفة الحرام اجمالاً غاية للحلية الظاهريّة يدلّ على عدم معذورية الجاهل بالحرمة من جهة الجهل باتّحاد المشكوك في حرمته مع العنوان المعلوم حرمته، والاّ لغى جعل العلم الاجمالي غاية، اذ هو لا ينفكّ عن الجهل من هذه الجهة.

وبالجملة: لا دلالة في الخبر على الاذن في المشتبهين والمنع عن المعلوم الاجمالي معاً، لأنّ الموجود الخارجي منحصر في المشتبهين، وعموم الشيء انّما هو الموجودات الخارجية المشتبهة بها، بل إمّا يدلّ على الأوّل، وإمّا يدلّ على الثاني، فان ثبت ظهوره في أحدهما فهو، والاّ فهو مجمل.

ومن هنا ظهر: أنّ منع كون الغاية معرفة شخص الحرام بظاهر الخبر، لأجل أنّ بعينه تأكيد لا قيد لا وجه له،

إذ قد عرفت أنّه يمكن دعوى الظهور في ذلك بعد تسليم كون قوله بعينه تأكيداً - كما هو الظاهر - ولا أظنّ ان من ادّعى الظهور ايضاً استند في دعواه إلى أنّ قوله بعينه بمعنى بشخصه، ويكون قيداً للمعرفة، حيث انّه ظاهر الفساد، إذ كونه قيداً للمعرفة يفيد أنّ غاية الحلّية معرفة شخص الحرام، لأنّها تنقسم إلى معرفة الشخص، وإلى معرفة النوع بملاحظة كون المعروف نوعاً أو شخصاً كما هو واضح، والمعروف في الخبر هو حرمة الشيء التي تأولت إليها الجملة الواقعة بعد تعرف المبدوءة بان المؤوّلة ما بعدها إلى المصدر، ولا ريب أنّ معرفة الحرمة لا يكون منقسمة بقسمين معرفة بشخص الحرمة ومعرفة بنوعها حتى يصح تقييدها بأحدهما، مع انه لا يقيد مع ذلك ما قصد من كون الغاية معرفة شخص الحرام.

إلاّ أن يقال: إنّ معرفة شخص الحرمة اريد منها معرفة شخص الحرام تجوّزاً ولا يخفى ما فيه.

وأمّا ما ذكر من أن إبقاء الصحيحة الى اخره، أنّ مخالفة الحكم الظاهري للحكم الواقعي لا يوجب ارتفاع الواقعي، كما في الشبهة المجرّدة عن العلم الاجمالي،

٩٢

مثلاً قول الشارع اجتنب عن الخمر شامل للخمر الواقعي الذي لم يعلم به المكلّف ولو اجمالاً، وحلّيته في الظاهر، كما هو قضيّة أدلّة البراءة لا يوجب خروجه عن العموم المذكور حتى لا يكون حراماً واقعياً، وحينئذٍ فلا محذور في التزام مثل ذلك في الخمر المجهول شخصه المعلوم وجوده بين الاطراف اجمالاً.

وأمّا ما يقال: من أنّ الحكم الظاهري لا يقدح مخالفة للحكم الواقعي في نظر الحاكم مع جهل المحكوم بالمخالفة، لرجوع ذلك إمّا إلى معذورية الجاهل - كما في أصالة البراءة - أو إلى بدلية الحكم الظاهري عن الواقع، أو كونه طريقاً إليه على الوجهين في الطرق الظاهرية المجعولة، وأمّا مع علم المحكوم بالمخالفة فيقبح من الجاعل جعل كلا الحكمين، لأنّ العلم بالتحريم يقتضي وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرّم، فاذن الشارع في فعله ينافي حكم العقل بوجوب الطاعة.

ففيه: أنّ معذورية المحكوم قد يكون بنفسه، وقد يكون بجعل الحاكم، وفي موارد الشبهة لو دلّ دليل على الاذن في إرتكاب كلا المشتبهين كان راجعاً إلى أنّ الجهل بشخص الحرام على وجه يمتاز عن غيره عند المحكوم عذر له في ارتكاب الحرام، وأمّا قبح جعل ذلك من الحاكم لأجل منافاة ذلك لحكم العقل، فهو مبني على أن يكون العلم الاجمالي علّة لتنجّز الخطاب عند العقل وهو ممنوع.

بل نقول: إنّ الذي يحكم به العقل هو أنّ العالم اجمالاً ما لم يجعل جهله عذراً له لا يأمن من العقاب إذا خالف الخطاب المعلوم اجمالاً، فانّه لا يمتنع عند العقل أن يكون الخطاب معلوماً عند المحكوم، ومع ذلك لا يكون الطلب فعلياً على وجه يترتّب على مخالفته العقاب، بل يجوز أن يجعل الشارع عذراً للمكلّف وبسببه لا يريد منه موافقة ذلك الخطاب المعلوم.

نعم يحكم بوجوب الموافقة ما لم يعلم من الشارع إذن، لأنّ العلم بالخطاب مسقط للعذر من قبل المكلّف في نفسه وكون جهله بالتفصيل عذراً، مبني على الجعل والمفروض عدم حصوله، وقياس العلم الاجمالي على العلم التفصيلي بعد إمكان

٩٣

جعل العذر في الأوّل لكون المكلّف به مجهولاً ببعض الاعتبارات لا وجه له.

بل نقول: لو فرض امكان جعل العذر في موارد العلم بالحكم تفصيلاً لوجود ما يصلح ان يجعل عذراً نظير الجهل بالتفصيل في موارد العلم الاجمالي لحكمنا هناك ايضاً بجواز الاذن في المخالفة.

والحاصل: أنّ الاجمالي ليس كالتفصيلي في كونه علّة تامّة لوجوب موافقة ذلك الحكم عند العقل، حتى ينافي الاذن في المخالفة لذلك الحكم القطعي فيقبح جعله، بل هو علّة لحكم معلق على غاية ذلك الحكم باذن الشارع في المخالفة، فحكم العقل والاذن في المخالفة من الشارع لا تعارض بينهما، بل الاذن وارد على حكم العقل، كورود دليل الحرمة على أصالة البراءة.

وممّا يؤيد ما ذكرنا: أنّ الاذن في المخالفة الاحتمالية للخطاب حاصل في بعض المقامات اتّفاقاً، كالاذن بالوضوء بماء مستصحب الطهارة مع التمكّن من الوضوء بالماء المتيقّن طهارته، وجائز في المقام بتسليم المحقق المذكور -رحمه‌الله - فانّه صرّح بجواز الاذن في مقام الامتثال بالاكتفاء ببعض الاطراف - في مواضع من كلامه -(١) مع أنّ العلم الاجمالي لو كان منجّزاً للخطاب المعلوم وحكم العقل عنده بوجوب الاطاعة من غير تعليق على شيء وجب المنع عن ذلك ايضاً، لأنّ الذي يحكم به العقل هو الاطاعة اليقينية عند التمكّن منه، ومخالفة حكمه يحصل بمجرّد الاذن بالاكتفاء ببعض الاطراف فلو كانت قبيحة لكان ذلك ايضاً قبيحاً.

ودعوى: أنّ تجويز الوضوء بالماء المستصحب طهارته والاكتفاء ببعض الاطراف على تقدير الاذن به - كما إذا قام طريق ظنّي ثابت الحجيّة على أن بعض الاطراف هو المعلوم بالاجمال - انّما هو لأجل أنّ الوضوء بمستصحب الطهارة بدل عن الطهارة اليقينية وما حكم الطريق بأنّه المعلوم بالاجمال بدل عمّا وجب الاجتناب.

لا تدفع الاشكال، إذ لا يرفع بوجود الاستصحاب والطريق الشك الموجب

____________________

(١) الرسائل: ص ٤٠٦ و.

٩٤

لاجمال العلم، وحينئذٍ فأي فرق بين الاذن في المخالفة الاحتمالية بجعل البدل، والاذن في المخالفة القطعية بجعل شيء عذراً.

نعم فرق بين المقامين من حيث إنّ الاذن في المخالفة الاحتمالية هناك خفيّ، ويكون من لوازم الأمر بالعمل بالاستصحاب والعمل بالطريق، وهنا ليس كذلك وهذا الخفاء بعد اطلاع العبد على حقيقة الأمر لا يرفع به القبيح لو كان بنفسه.

والحاصل: أنّ العقل كما يحكم بحرمة المخالفة القطعيّة، كذلك يحكم بوجوب الموافقة القطعية والموجب بحكمه في المقامين ليس الاّ العلم الاجمالي بالخطاب والتمكّن من الاحتياط، فعلى من يدّعي الفرق بين المقامين، ويجوّز مخالفة حكمه في المقام الثاني، ويمنع عنها في الأوّل إبداء الفرق بين المقامين فتأمّل.

ثم انّه يظهر ممّا ذكرناه في الخبرين السابقين: ما في الاستدلال على جواز المخالفة القطعية بمثل قولهعليه‌السلام كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي او أمر(١) . وقولهعليه‌السلام الناس في سعة ما لم يعلموا(٢) ، لأنّه لم يرد في اطراف الشبهة نهي ولا أمر ولا يعلم حرمتها فانّ الظاهر أنّ كلّ شيء يراد به المشكوك حكمه من حيث نفسه مع قطع النظر عن وجود العلم الاجمالي، وأمّا قولهعليه‌السلام : الناس الى آخره، فعدم دلالته على المدّعى ظاهر، سواء قرئ بالاضافة أم لا، فانّ العلم المأخوذ فيه أعم من التفصيلي والاجمالي. وملخّص معنى الحديث: أنّ الناس في سعة تكليف لا يعلمونه اجمالاً أو هم في السعة ما دام لا يكونون عالمين بشيء لا اجمالاً، ولا تفصيلاً بل نقول: يمكن الاستدلال بمفهوم هذا الخبر على تقدير كون « ما » زمانية على وجوب الاجتناب عن اطراف الشبهة بأن منطوقه ان الناس ما دام لا يكونون عالمين بشيء لا اجمالاً ولا تفصيلاً، ولا عموماً ولا خصوصاً، يكونون في السعة، ومفهومه حينئذٍ انهم اذا علموا بأحد من الوجوه المذكورة يكونون في الضيق. فهذا الخبر على

____________________

(١) من لا يحضره الفقيه: ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ ليس فيه: « أو أمر » وجامع الأحاديث ج ١ ص ٣٢٨ ح ٦١٤.

(٢) المحاسن: ص ٤٥٢ ح ٣٦٥.

٩٥

تقدير دلالة تلك الأخبار السابقة على الاذن في المخالفة القطعية معارض لها.

ويمكن مساعدة هذا الخبر في مقام الترجيح من حيث كونه أحوط وموافقاً للمشهور.

إلاّ أن يقال: إنّ معنى الحديث أنّ الناس في سعة ما لم يعلموا التكليف الفعلي وهم متحيّرون، مفهومه حينئذٍ انّهم اذا علموا التكليف الفعلي فهم ليسوا في السعة، ولا ريب انه اذا ثبت بالدليل الشرعي أنّ الحكم المعلوم بالاجمال لا يكون منجّزاً وانما ينجّز بعد العلم بالتفصيل، فعلم أنّ الحكم المعلوم بالاجمال لا يكون فعليّاً فلم يحصل العلم بالتكليف الفعلي الذي أوجب معه الاحتياط مفهوم تلك الرواية فتأمّل.

وممّا يستدلّ به أيضاً على الاذن مع الجهل بشخص الحرام: رواية حنّان بن سدير انه قال: سئل أبو عبد اللّهعليه‌السلام وأنا حاضر عن جدي يرضع من خنزيرة حتى كبر واشتدّ عظمه ثمّ انّ رجلاً استفحله في غنمه فأخرج له نسل، فقالعليه‌السلام : أمّا ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربنّه، وأمّا ما لم تعرفه فكله، فهو بمنزلة الجبن ولا تسأل عنه(١) .

وفي خبر بشر عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام في جدي يرضع من خنزيرة ثم ضرب في الغنم فقال: هو بمنزلة الجبن فما عرفت أنّه من خنزيرة فلا تأكله وما لم تعرفه فكله(٢) .

فانّهما باطلاقهما يدلاّن على أن كلّ ما لم يعلم حرمته - وإن علم إجمالاً حرمة أحد الأمرين اللذين هو أحدهما - يكون حلالاً، ويكون جائز الأكل.

والجواب عنهما: بأنّ الظاهر منهما الاذن في المشتبه عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر، فانّ قولهعليه‌السلام « أمّا ما عرفت من نسله » وقولهعليه‌السلام « فما عرفت انه من خنزيرة » في الخبر الأخير يقتضي وجود حرام معروف، ويكون الشك

____________________

(١) الكافي: ج ٦ ص ٢٤٩ ح ١ مع اختلاف فيه.

(٢) الكافي: ج ٦ ص ٢٥٠ ح ٢ مع اختلاف فيه.

٩٦

في حرمة غيره حينئذٍ يكون شكّاً في الزائد، ولا ريب أنّ الأصل حينئذٍ البراءة.

ويمكن الاستدلال أيضاً بأخبار اخر أيضاً يأتي ذكرها والجواب عنها.

المقام الثاني

في وجوب الموافقة القطعية

والحق فيه: الوجوب وفاقا للمشهور كما قيل، وعن المدارك: أنّه مقطوع به في كلام الاصحاب(١) وفي فوائد الاستاذ الاكبر نسبه الى الاصحاب(٢) وعن شرح وافية الكاظميني دعوى الاجماع صريحاً(٣) وعن بعض في ذهابه الى القرعة(٤) .

لنا: ما مرّ من أن خطاب الشارع بالاجتناب عن الحرام الموجود بين المشتبهين معلوم، إذ المفروض العلم بحرمة نوعه والعلم بتحققه بين المشتبهين وحينئذٍ يجب عند العقل الاحتراز عن كلا المشتبهين تحصيلاً لفراغ الذمّة عن الخطاب المعلوم اشتغال الذمة به قطعاً.

وبالجملة: العقل ما دام لم يثبت من الشارع اذن في ترك الاحتياط في بعض الاطراف لا يحكم بالأمن من العقاب عند عدم التحرّز من بعض الاطراف على تقدير مصادفة الحرام معه في الواقع، فعلى من يدّعي الجواز بيان الاذن من الشارع في ترك الاحتياط.

احتج من جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام بوجهين:

الأوّل: الأخبار الدالّة على جواز تناول الشبهة المحصورة، وانّما منع من تناول مقدار الحرام، للجمع بين هذه الأخبار، وما بين ما دلّ على أنّ العنوان الواقعي حرام،بأنّ الشارع جعل بعض المحتملات بدلاً عن الحرام الواقعي، فيكفي ترك ذلك في

____________________

(١) مدارك الأحكام: ج ١ ص ١٠٧، تحقيق مؤسسة آل البيت.

(٢) الفوائد الحائرية: الفائدة الرابعة والعشرون. ط الحجرية.

(٣) لا يوجد عندنا كتابه.

(٤) حكى ذلك الشيخ الانصاري في فرائده: ص ٤٠٩.

٩٧

مقام الامتثال، كما يكفي الصلاة إلى بعض الجهات في الامتثال، إذا رخّص الشارع في ترك الصلاة إلى بعض الجهات، واكتفي بالصلاة إلى بعضها، وهذه الأخبار كثيرة منها: موثقة سماعة عن الصادقعليه‌السلام : عن رجل أصاب مالاً من عمّال بني امية وهو يتصدّق منه، ويصل قرابته، ويحجّ ليغفر له ما اكتسب، ويقول: إنّ الحسنات يذهبن السيئات، فقالعليه‌السلام : ان الخطيئة لا تكفّر الخطيئة، وإنّ الحسنة تحطّ الخطيئة ثم قال: إن كان خلط الحرام حلالاً فاختلطا جميعاً فلم يعرف الحلال من الحرام فلا بأس(١) .

فانّ ظاهره نفي البأس عن التصدّق وصلة القرابة والحج وانه يحصل له الأجر في ذلك على تقدير خلط الحرام بالحلال وهذه إمّا إذن في مخالفة الاحتياط في جميع الأطراف بناءً على أنّ امساك الباقي أيضاً يظهر جوازه منه، أو إذن في مخالفة بعض الأطراف، وعلى أيّ تقدير يثبت المطلوب وهو جواز تناول مقدار ما عدا الحرام.

الثاني: الأخبار السابقة الدالّة على أنّ ما لم يعلم حرمته يكون حلالاً(٢) . وهي وإن كانت بظاهرها تقتضي الاذن في الجميع، إلاّ أنّه منع من إرتكاب مقدار الحرام، إمّا لأنّه مستلزم للعلم بارتكاب الحرام وهو حرام، وإمّا لما ذكره بعضهم على ما حكي من أن ارتكاب مجموع المشتبهين حرام لاشتماله على الحرام.

بيان ذلك: أنّ ما أذن فيه الشارع هو استعمال ما لم يعلم حرمته، ومجموع الأطراف لعلمنا بأنّ فيه حراماً حرام، ولو باعتبار ذلك الجزء الحرام المعلوم وجوده فيه، وكذلك كل واحد من الأطراف بشرط الاجتماع مع الآخر حرام، لأنّه معلوم الحرمة ولو باعتبار ما اجتمع معه كل واحد منهما بنفسه مع قطع النظر عن الآخر مجهول الحرمة فيكون حلالاً.

____________________

(١) وسائل الشيعة: ب ٥٢ من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح ٩ ج ٨ ص ١٠٤. وب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ٢ ج ١٢ ص ٥٩ مع اختلاف فيه.

(٢) من لا يحضره الفقيه: ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ والمحاسن: ص ٤٥٢ ح ٣٦٥.

٩٨

والجواب أمّا عن الثاني: فبأنّ الأخبار المذكورة قد عرفت أنّها لا تدلّ على جواز شيء من أطراف الشبهة، لأنّها مختصة بالشبهات الغير المقرونة بالعلم الاجمالي، ولو سلّمنا شمولهما للاطراف، فلا وجه لاختصاص الترخيص ببعض الاطراف، وما ذكر من المانع لا يفيد ذلك.

أمّا الأوّل منه وهو ان العلم بالحرام تحصيله حرام.

ففيه: أنّ ذلك مسلّم إذا قصد به التجسّس عن حال الغير، وامّا تحصيل الانسان القطع بانّه صدر منه الحرام فلا نسلّم حرمته، وأيّ دليل دلّ على تحريمه، هذا كلّه إن حمل على ظاهره.

وإن اريد من ذلك: أنّ مخالفة إذا كانت معلومة حرام، وإذا كانت احتمالية فليست بحرام.

ففيه: انّه لا فرق عند العقل بين المخالفة القطعية والاحتمالية، وكما يحكم في الأوّل بالحرمة، كذلك يحكم بها في الثاني سواء كان مناط حكمه في ذلك حسن الاطاعة وقبح المخالفة أم كان مناط حكمه حصول الفرار من الضرر المترتّب على المخالفة بتركها، إذ العقل كما يحكم بأنّ الفرار من الضرر المقطوع لازم، كذلك يحكم بأنّ الفرار من الضرر المحتمل لازم.

والحاصل: ان الفعل ما لم يقطع بعدم ترتّب الضرر عليه لا يرخّص العقل فيه، وموارد إذنه المخالفة إنّما هو للأمن من الضرر، لأجل قيام دليل على أن لا يترتّب الضرر على الفعل على تقدير كونه مخالفاً، ومجرّد عدم القطع لعدم كونه مخالفة، لا يوجب الاذن فيه من العقل، مع أنّه إن قصد من قوله انّ المخالفة اذا كانت معلومة حرام أنّ المخالفة المعلومة من حيث المخالفة حرام، ففيه: أنّ ذلك ينتج جواز إرتكاب الجميع، فجعله مقدّمة للمنع عن مقدار الحرام، لا وجه له، وإن قصد أنّ المخالفة التي يتعلّق بها العلم ولو بعدها حرام، ففيه: أن هذا راجع إلى ما سبق جوابه: من أنّ تحصيل العلم بارتكاب الحرام حرام.

وأمّا الوجه الثاني: وهو أن ارتكاب مجموع المشتبهين حرام، ففيه: أنّ الحرام هو

٩٩

أحدهما المعيّن في الواقع المردّد بين الطرفين عند المكلّف، ومجموع الأطراف اتّصافه بالحرمة انّما هو لكون الواحد المردّد الذي بينهما حرام، وحينئذٍ فضمّ ما عدا الحرام بالحرام والحكم على المجموع بالحرمة لا وجه له إلاّ باعتبار كون الجمع بينهما موجباً لحصول العلم بالحرام، وقد عرفت أنّ تحصيله ليس بحرام.

ومن ذلك يظهر: أنّه لا وجه لقوله: وكذلك كل واحد بشرط الاجتماع مع الآخر، وذلك: لأنّ حرمة كل واحد بشرط الاجتماع، لكون المجموع مشتملاً على الحرام يقيناً، وإلاّ فالحكم على المعيّن بالحرمة ولو بشرط الاجتماع، ليس له وجه، لجواز أن يكون الحرام الفرد الآخر الذي جعل اجتماعه مع هذا الفرد من شرائط حرمة ذلك، وحينئذٍ فلو فرضنا أن تحصيل العلم بالحرام ليس بحرام، لا يمكن وجه للحكم بأنّ كل واحد بشرط الانضمام حرام، ليتوصّل به الى المنع عن مقدار الحرام.

وأمّا عن الأوّل: فيرد عليه (أوّلاً): انّ أخبار الحلّ ليست في مرتبة الأدلّة الدالّة على حرمة العنوان الواقعي حتى يقع بينهما تعارض، لأنّ الاباحة الظاهرية لا تنافي الحرمة في الواقع وامّا دعوى قبح جعل الاباحة الظاهرية - مع علم المكلّف بوجود الحرام -، فقد عرفت المناقشة فيها، وأنّه لا فرق بين الاذن في المخالفة القطعية - كما في ما نحن فيه - وبين الاذن في المخالفة الاحتمالية - كالاذن بالتطهير بماء مستصحب الطهارة مع وجود معلومها - فالجمع بين الأدلّة والتصرّف في بعضها وصرفها عن ظاهرها بدون التعارض لا وجه له، وقد عرفت أنّه لا تعارض بين الأدلّة.

نعم يعارض هذه الأخبار ما دلّ من الأخبار الخاصة الدالّة على وجوب الاجتناب في موارد خاصة المستشمّ منها أنّ الحكم بوجوب الاجتناب لأجل كون الموارد مندرجة تحت عنوان حكمه وجوب الاجتناب، ولابدّ حينئذٍ من ملاحظة الأخبار من حيث التكافؤ وإمكان الجمع، فان كانت متكافئة وامكن الجمع، وإلاّ وجب الطرح والرجوع الى حكم العقل - كما سيأتي -.

(وثانياً): أنّ ما يدّعى دلالته على الترخيص في موارد الشبهة فقد مرّ الكلام في

١٠٠