الإسلام والفن

الإسلام والفن30%

الإسلام والفن مؤلف:
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 191

الإسلام والفن
  • البداية
  • السابق
  • 191 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 69089 / تحميل: 26407
الحجم الحجم الحجم
الإسلام والفن

الإسلام والفن

مؤلف:
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فائدة - دون أدنى شك - تحديد العمل الأدبي وتخصيص أشكاله بما يناسبها من استخدام العناصر الجمالية التي تساهم في إِحداث (الإثارة) لدى المتلّقي. بَيْد أن (الفائدة) المذكورة تبقى مرتبطة بالهدف الأخير الذي أشرنا إليه، وهو (الإثارة) وتوصيل (الأفكار) التي يستهدفها كاتب النص. وهذا يعني أن (الجنس) الأدبي يبقى خاضعاً ل- (الأفكار) لا غير. ومع إقرارنا بهذه الحقيقة حينئذٍ، لا نجد ضرورة أن نحدّد ما إِذا كانت قصة موسى المتقدمة تشكّل (رواية) أم أن القصص التي تتناول (مقطعاً عرضياً) من حياته - مثل قصصه مع فرعون في حادثة السحرة - ستشكل (قصة قصيرة)، مع ملاحظة أنّ نقّاد القصة ودارسيها يقدمون أشكالاً متفاوتة في تقسيم أحجامها إلى: رواية، قصة طويلة - قصيرة، قصة قصيرة، أُقصوصة، حكاية... إلخ.

إن أهم ما يستهدفه دارس الفن هو: ملاحظة (الطرائق) التي تظل أشدّ فاعلية في إحداث التأثير لدى القارئ، بغض النظر عن (الجنس) الذي سيفرّق بين أنماط الصياغة القصصية، لذلك سوف لن نُعنى بهذا الجانب في عرضنا السريع للقصة القرآنية الكريمة، كما لن نُعنى بالحديث عن غالبية الأدوات التي يتوفّر عليها الدارس للقصة الأرضية، بقدر ما نُعنى بتعريف مُجمل لخصائص القصة القرآنية وصلة ذلك بعمليات الاستجابة البشرية في تلقّيها للنصوص، مكتفين منها بتقديم بعض النماذج القصصية على نحوٍ يتناسب وحجم هذه الدراسة السريعة(١) .

ونبدأ ذلك بالحديث عن:

١٠١

بناء القصة القرآنية

القصة بنحوٍ عام تخضع - كما نعرف - لأبنية مختلفة. فهناك الشكل المألوف الذي يُعَرض عبر (بداية) هادئة تتطوّر الحوادث بعدها حتى تصل إلى (الذروة)، ثم تنحدر إلى (نهايتها). هناك القصة النفسية التي ظهرت، بأوضح صورها، في العقد الثالث من هذا القرن، مُفيدةً (من مكتشفات علوم النفس) في صياغة الأبنية غير الخاضعة لمنطق الظواهر الخارجية، بقدر خضوعها لما يُسمّى ب- (المجال النفسي)، ثم تطورت بعد الحرب الثانية إلى أبنية أكثر تحرّراً من سابقتها، حتى وصلت إلى أعقد الصيغ في سنواتنا المعاصرة. بَيْد أن (البُعد النفسي) في الحالات جميعاً، يظلّ هو المتحكّم - الواقع عبر أحدث أشكال القصة، حتى تسرّبه في أشكال القصة الموروثة أيضاً.

أما فيما يتصل بالقصة القرآنية، فإن البُعد النفسي المذكور يظل هو الطابع الجمالي لها، مادامت العمليات النفسية هي الإفراز الذي يحدّد نمط البناء، فيما لا يبقى للهيكل القصصي الموروث أو الحديث أيّما تميّز أو تفاضل إلاَّ بقدر إفصاحه عن البعد النفسي لأحداث القصة ومواقفها. المهم (كما سبق الحديث عن السورة القرآنية أيضاً) أن للقصة القرآنية عمارة خاصة تتواصل جزئياتها بنحو من التلاحم الحيّ من مقدمتها ووسطها ونهايتها. بحيث تُصبح كل جزئية إنماءً لسابقتها، أو مفصّلة لها، أو مسبّبة عنها، أو مُجانسة لها: في خضوعها للخيط (الفكري) الذي تستهدفه القصة: بغض النظر عن هيكلها المنتسب إلى شكلٍ موروث أو معاصر.

ولنتقدم بنموذج:

قصة طالوت:

قصة طالوت في سورة (البقرة) تتحدّث عن جماعة من وجهاء الإسرائيليين، تقدموا ذات يومٍ بطلبٍ إلى أحد أنبيائهم، بأن يرسل الله إليهم شخصيّة عسكرية ينضوون تحت لوائها لتخليصهم من الذلّ الذي لحقهم من تشريدٍ وسبيٍ وغيرهما. إِلاَّ أن نبيّهم شكّك بصدق ادعائهم الذاهب إلى أنهم مستعدون للقتال. لكنهم أكّدوا عليه استعدادهم في هذا المجال.

١٠٢

وهنا( قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً ) ، لكنَّهم اعترضوا عليه بأن القائد المذكور لم ينتسب لأسرة مالكة من سلالتهم ولم يُؤت سعةً من المال، فأجابهم النبيّ بأن الله منحه سعة في الجسم والعلم: فوافقوا على ذلك بعد أن طلبوا تقديم دليل إعجازي عليه، فقال لهم نبيّهم:( إِنّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبّكُمْ وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى‏ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ ) عندها التحق الإسرائيليون به، إلاَّ أن القائد عرّضهم لاختبار إلهيّ قبل وصولهم إلى ساحة القتال عند مرورهم على (نهر)، فأمرهم بعدم الشرب إلاَّ بغرفة يد، ولكنَّهم تمرّدوا عليه إلاَّ قليلاً. وعندما وصلوا إلى ساحة القتال، جبنوا عن ذلك وتمرّدوا من جديد قائلين:( لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ) ، لكن القليل من جيش طالوت ثبتوا في المعركة هاتفين( كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ ) ، وهزموهم في نهاية المطاف، وكان (داود) هو الذي تولّى قيادة المعركة وقتل (جالوت)، وانتهت المعركة.

هذا هو ملخّص القصة التي عرضتها السورة.. ولكن كيف تمّ البناءُ الفنيّ لها ؟ لقد بدأت القصة من (وسط) الأحداث، لا من (بدايتها) التي يقتضيها التسلسل الموضوعي، إنها بدأت بهذا النحو:،( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) .. إلى هنا: القارئ لا يعرف سبباً لهذه المطالبة بالقائد. لكننا حين نتابع النص، نتعرّف ذلك. لقد أجابهم النبيّ:( قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ) .

إذن، السبب هو أن الإسرائيليين استذلهم أحد الجبابرة، فطلبوا من نبيّهم أن ينقذهم منه. وهذا يعني أن الحادثة ينبغي أن تبدأ من قضية استدلال الإسرائيليين، وليس من (طلبهم) الإنقاذ... فما هو السرّ الفني وراء هذه (البداية) القصصية؟

إن لكل (بداية) قصصية مسوّغ نفسي، والمسوغ هنا أن القصة جاءت في سياق عرض المواقف المشينة للإسرائيليين، حيث استعرضت ذلك سورةُ البقرة في عشرات من الآيات القرآنية المتصلة بهذا الجانب: من حيث تمردهم وكذبهم ونبذهم للعهود وجبنهم الله، وحينئذٍ فإن التقاط (الحدث) أو (الموقف) حينما (تُبدأ) به القصة من هذه الزاوية أو تلك، إنما يعني أهميته التي يستهدفها النص. فالنص لا يريد التركيز على استدلالهم بقدر ما يريد التركيز على فضح (الكذب) في مواقفهم، ولذلك بدأ بتسليط الضوء على هذا الجانب، مشدّداً - من ثم - على إبراز الحوار الذي تضمن إدّعاءً بالحرص على القتال.

وما أن بدأت القصة بهذا الموقف حتى ارتدت إلى أول الحادثة، فذكرت تشريد الإسرائيليين. ثم عَبَرت الحوادث لترسم لنا (نهاية) مواقفهم، متمثلة في هذا التعقيب( فَلَمّ

١٠٣

كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلّوْا إِلاّ قَلِيلاً ) . فالقصّة قرّرت سلفاً - قبل أن تذكر لنا تفاصيل سلوكهم فيما بعد - بأن الإسرائيليين تولّوا عن القتال إلاَّ قليلاً منهم. وهنا يثار السؤال: لماذا أعطت القصة النتيجة قبل مقدماتها؟

أهمية البناء الهندسي للقصة تتمثل في هذا التقطيع للحوادث وللزمن، ثم وصل ذلك عبر قنوات فنيّة تتضح من خلالها دلالةُ ما عنيناه ب- (التلاحم) العضوي بين أجزاء القصة.

إن تشكيك نبيّهم وإعطاء النتيجة قبل مقدماتها ينطوي على مهمّة فنية هي (إنماء) الحدث، أي: جعل القارئ يتهيّأ ذهنياً، من خلال التشكيك بصدق الإسرائيليين، بحيث يجد (جواباً) على ذلك التشكيك في أحداث لاحقة من القصة. كما أن تعقيب القصة - من خلال ذهابها إلى أنهم تولّوا إِلاَّ قليلاً، أخذ على عاتقه إِنماء (الحدث) أيضاً، حيث جاءت الوقائع التي سردتها القصة فيما بعد - مثل اعتراضهم على طالوت، تمردهم في حادثة شرب الماء من النهر، جبنهم عن مواجهة جيش جالوت - جاءت هذه الوقائع (جواباً) تفصيلياً على تلك المقدمة الإجمالية التي لوّحت بها القصة. فهاهم الإسرائيليون (يتولّون) عن القتال كما قالت المقدمة، وهاهم القليل منهم كما قالت المقدمة، يتقدم إلى القتال.. إذن، جاءت (بداية) القصة مرتبطة بوسطها ونهايتها: من خلال هذا (التقطيع) للحوادث و(وصلها) من جديد على النحو الذي لحظناه.

أما من حيث تلاحم الجزئيات ذاتها، فهذا ما يمكن ملاحظته أيضاً، فمثلاً نجد أن الإسرائيليين اعترضوا على طالوت بعدم توفّر سمتين لديه، هما: السلالة العسكرية والمال، إلاَّ أن القصة وازنت ذلك هندسياً بتقديم سمتين أيضاً، يعوّضان عن السمتين الأوليين، وهما: السعة في الجسم والعلم، مع ملاحظة سخف المطالبة الإسرائيلية ووجاهة التعويض الذي ألمح به نبيّهم.

(التابوت) أيضاً، يجسّم واحداً من عمليات (التوازي) الهندسي بين خطوط البناء. فالمعروف أن (التابوت) الذي قدمته القصة دليلاً حسياً على صدق نبيّهم في إرسال طالوت ملكاً، هذا التابوت بما فيه من (سكينة)( وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ ) يظل متجانساً مع (تجارب الإسرائيليين) حيال التابوت الذي كان ذات يوم (كما تقول النصوص المفسِّرة) مِلْكاً لهم يستفتحون به في المعارك، وكان هو المنقذ لموسى من فرعون، كما أن (البقية مما ترك آل موسى وهارون) من الألواح أو العصا أو الدرع أو الملابس - على اختلاف التفسير الوارد في تحديدها -... كل أولئك يشكّل أمراً له أهميته وتقديسه في مشاعر الإسرائيليين، بخاصة أنها تُستحضر بعد غيابها عنهم: عقاباً على سلوكهم المَشين.

إذن: ثَمَّة (توازن هندسي) بين داخل المشاعر الإسرائيلية وبين الرسم للبيئة الصناعية، بين (التابوت) وبين (المشاعر)

١٠٤

المتجانسة مع البيئة المذكورة.

هناك تجانس ثالث أيضاً بين (البيئة الجغرافية) للحدث، وهي (النهر) الذي (فصل) طالوتُ من خلاله بالجنود، وبين (البحرية) التي (فصلت) هؤلاء الإسرائيليين الذين قالوا:( لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ ) ب- (القليل) الّذين ردّد( كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ ) .

وهناك تجانس رابع بين الفئة القليلة التي هتفت:( وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) وبين نتائج المعركة التي حدّدتها القصةُ بقولها( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ ) .

إذن: التجانس والتلاحم والتنامي بين أجزاء القصة منذ بدايتها وحتى نهايتها يظل على نحو من (الإحكام) الهندسي، بحيث يلحظ جماليته الفائقة كلّ مَن له أدنى تذوّق من تجارب القصة.

وهذا كله من حيث (عمارة) المواقف والأحداث.

أمّا من حيث (انتقاء) ذلك، اختزالاً أو تفصيلاً، فله مساهمته الجمالية الفائقة أيضاً في (عمارة) القصة. مثلاً: القصة لم تحدد لنا زمان هذه الواقعة، واكتفت من ذلك بالقول بأنها حدثت في زمان من بعد موسى:( أَلَمْ تَرَ إلى الْمَلاَءِ مِن بَنَي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى ‏) . أما متى حدث ؟ وفي زمن أي نبيٍّ من أنبيائهم ؟ هذا ما لم تُشر القصةُ إليه، فلماذا؟

السرّ في ذلك عائدٌ إلى أن القصة تستهدف التركيز على دلالة خاصة، هي: أن الشخصية الإسرائيلية تظل - في كل زمان ومكان - مريضة، كاذبة، جبانة، مترددة، إلخ.. إنها حتى (من بعد موسى) بقيت على نفس الطابع الملتوي من السلوك فيما لا سبيل إلى إصلاحه، فهي (في زمان موسى) أتعبته كثيراً: من خلال المواقف التي سردتها سورة البقرة قبل هذه القصة، وها هي (من بعد موسى) أيضاً تمارس نفس السلوك. إذن: لهذا التضبيب المتصل بزمان الحادثة، والتنويه إلى أنها تمت من بعد موسى، له مغزاه الفنّي من حيث عمارة القصة.

أيضاً: يُلاحَظ أن القصة ما أن سردت لنا أوصاف (التابوت) حتى انتقلت مباشرة إلى ساحة المعركة:( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ) ، دون أن تذكر لنا (موافقة) الإسرائيليين على هذا المعجز، مما جعلتنا - نحن القرّاء - نستنتج موافقتهم على ذلك، بخاصة أنهم اعترضوا على طالوت بالسمتين اللتين أشرنا إليهما. المهم، أن لهذا الاختزال أهميته البنائية في القصة، مادام الهدف هو إبراز تجربة (تمرّدهم) و(كذبهم)، وليس إبراز مجرد (الموافقة)، لأنهم طالما (يوافقون) على شيء ثم (ينقضونه).

أيضاً: يُلاحَظ أن القصة أبرزت شخصية (جالوت) ومن بعده (داود) دون أن تمهّد لأيّ منهما سابقاً، بل أبرزتهما (قائدين)، أحدهما: مع الفئة المؤمنة (داود)، والآخر: قائد جيش

١٠٥

العدوّ، حيث استخلص القارئ أن لشخصية (جالوت) صلة بالاستدلال الذي لحق الإسرائيليين.

وبهذا الاحتفاظ بشخصية (جالوت) - وداود أيضاً - والكشف عنهما في نهاية القصة، أهميته من حيث عمارة القصة (ما يتصل بعملية الاقتصاد في السرد) من جانب، وبعناصر فنية أخرى لها إسهامها في جمالية البناء القصصي من جانب آخر، ونعني بها عناصر:

المباغتة والمماطلة والتشويق:

المألوف (في لغة الأدب القصصي) أن لكل من: (المباغتة): التي تعني مواجهة القارئ بموقف أو حدث مفاجئ، و(المماطلة): التي تعني الاحتفاظ بسرّ لم يُكشف إلاّ بعد حين، و(التشويق): الذي يعني شدَّ القارئ إلى متابعة (ماذا سيحدث). أقول: المألوف أنّ للعناصر المتقدمة أثرها في جمالية القصة، ليس من حيث استثارتها للقارئ فحسب، بل من حيث إفادتها في تعميق الدلالة التي يستهدفها النص، فضلاً عن مساهمتها في (تجميل) العمارة القصصية أساساً.

وإليك نماذج قصِصية في هذا الصدد، منها:

قصة إبراهيم:

فيما يتصل بعنصر (المباغتة)، يمكننا أن نقدّم قصة إبراهيمعليه‌السلام التي وردت في سورة (الأنبياء)، عبر واقعة تهشيمه للأصنام وإبقاء كبيرها، نموذجاً واضحاً لعنصر (المباغتة). إن هذا العنصر يُرسم حيناً بنحو يصاحبه شيء من الدهشة والاستغراب مع (توقّعنا) لحدوثه، وحيناً آخر، يرسم بنحو (مفاجئ) لا يكاد (يُتوقع). طبيعياً، أن كلّ شيء (مُتوقع): مادمنا مقتنعين بالإعجاز، إلاَّ أننا ننطلق في هذا الاتجاه من خلال منطق الأحداث ذاتها، سواء أكانت مصحوبة بما هو عادي أو بما هو معجز. كما ينبغي أن نفرّق بين (مُباغتة) قد هيّأ النصُّ أذهاننا سلفاً إلى حدوثها، وبين (مباغتة) لم تكن في الحسبان. كل هذه المستويات يمكننا أن نلحظها في قصة إبراهيم المذكورة. لقد مهّدت هذه القصةُ أذهاننا إلى أن الطغاة سوف يلحقون الأذى بإبراهيمعليه‌السلام نتيجة تهشيمه لأصنامهم:

( قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ) لقد وسموه ب- (الظلم)، وهذا أول مؤشر على أنهم يفكرون بإلحاق الأذى به. ثم اقتراحهم بإحضاره أمام الجمهور لإدانته، يفصح عن (توقعنا) بأن (عقاباً) كبير الحجم قد يطاله: كأن يكون قتلاً أو سجناً أو ضرباً مثلاً.. لكن مع هذا التوقع، تبدأ القصة برسم منحىً فنيّ في بناء الأحداث والمواقف، بحيث تنقل القارئ إلى

١٠٦

(توقع) مضاد للتوقع السابق، وهو: إمكانية غض النظر عن معاقبة إبراهيم، وهذا ما يوحى به الحوار الدائر بينه وبين القوم.

( قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ) .

إن هذا الحوار الحيّ المُمتع يفصح عن أن القوم أحسوا ببعض الخجل، بل أحسوا بخجل كبير أمام أنفسهم حينما خاطبوها بأنها هي الظالمة، وحينما خفضوا رؤوسهم من الخجل قائلين:( لَقَدْ عَلِمْتَ - يا إبراهيم -مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ) ، أي أنهم اقرّوا بمهزلة آلهتهم، وإلى أنها لا تملك فاعلية النطق، وحينئذٍ (يتوقّع) القارئ أنهم سوف يتراجعون عن قرار الإدانة والمعاقبة.

هنا ينبغي أن ينتبه القارئ إلى جمالية الأداء القصصي من حيث إِثارته للقارئ وعدم رسوّه على قرار ثابت: فبينا (يتوقّع) إِدانة إبراهيم، إِذا به (يتوقّع) الإفراج عنه. لكن ما أن يتوقّع (الإفراج) عن ذلك، حتى يُصدم ب- (مباغتة) تضاد موقعه الأخير، وترتد به إلى توقّعه السابق، وهو: العقاب، لكن ليس على نحو ما (توقّعه) من ضربٍ أو سجنٍ أو قتل اعتيادي، بل - وهذا هو عنصر المباغتة - على نحو لم يدُر في خلده:( قَالُوا: حَرِّقُوهُ... ) .

إذن: يُفاجَأ القارئ ب- (عقاب) غير متوقّع، وهو: (الإحراق). جديداً ينبغي - من الزاوية الفنية - أن ننتبه إلى أهمية هذا التماوج بين توقّعات تتصاعد وتتهاوى من حين لآخر: توقّع بإنزال العقاب في (بداية) القصة، توقع بإزالة العقاب في (وسط) القصة، ثم (مباغتة) بإنزاله في لحظة (الإنارة) التي تنحدر القصة بعدها إلى نهايتها ؛ لأننا لحد الآن لم ننته من القصة، فلا تزال تنتظرنا (مباغتة) من النمط غير المتوقع في نهاية القصة.

قلنا: إن (المباغتة) قد تجيء مصحوبة بشيءٍ من الدهشة، مثل العقاب بعد توقعنا بإزالته عبر مناقشة القوم لإبراهيم، ثم قد تجيء بلا أن (نتوقع) حدوثها، مثل مباغتتنا بإحراق إبراهيم بعد أن كنا نتوقع عقاباً مثل: السجن أو الإعدام: ولكن ليس (الإحراق).

والآن نواجه (مباغتةً) من قسم ثالث، لا (يُتوقع) البتة، ولم يدر في الحسبان أبداً، ألا وهي: النهاية التي خُتمت بها القصة، وهي تقول:

( يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) .

هذه الواقعة، تجسّد أعلى ما يمكن تصوره من معنى (المباغتة)... فها هو إبراهيم مُلقىً في النار، والنار - في حالاتها غير المصحوبة بالإعجاز - تبقى ناراً لا شيئاً آخر، قد تنطفئ مثلاً...

١٠٧

لكنها لا تتحول إلى (برد وسلام).

أدرك القارئ - إِذن - جمالية الصياغة القرآنية الكريمة لعنصر (المباغتة) بمستوياتها الثلاثة في قصة واحدة، هي قصة إبراهيمعليه‌السلام ، بما صاحبها من تماوجٍ ممتعٍ في عواطف القارئ في توقّعاته التي تصاعَدَ بها وتهاوى من حين لآخر، حتى انتهى به إلى النهاية التي لحظناها.

أما عنصر (المماطلة) أو (إرجاء المعلومات) - وهذا الأخير هو ما نفضّل استخدامه بدلاً من اللغة التي يستخدمها نقّاد القصة - هذا العنصر يمكننا أن نتلمسه بوضوح في قصة (أهل الكهف): من حيث احتفاظ القصة بالسرّ المتمثّل في عدد سنيّ أهل الكهف. فالقصة بدأت - كما نعرف - بهذا النحو:

( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إلى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبّنَا آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَى‏ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمّ بَعَثْنَاهُمْ... ) .

القارئ منذ بداية القصة يظل على إحاطة مجملة بزمان اللبث، لكنه يعرف أن اللبث هو (مجموعة من السنين - سنين عدداً). أمّا عددها المحدّد، فأمر احتفظت القصةُ به. القارئ - بطبيعة الحال - يظل على أشد الشوق لمعرفة السنين التي مكث فيها أصحاب الكهف. وكلّما توغّل مع أحداث القصة، فإن هذا السرّ يبقى على حاله، وحتى إن النزاع الذي دار بين مكتشفي الكهف لم يسعفه في معرفة سنيّ اللبث: بالرغم من أن القارئ يستطيع أن يستنتج بأن هناك (جيلاً) أو أكثر قد تصرّم بعد حادثة الكهف، بدليل أن النزاع الدائر بين مكتشفي الكهف يفصح عن وجود (فئة مؤمنة) اقترحت بناء مسجدٍ على أصحاب الكهف، مع أن المرحلة التي عاصرها أهل الكهف كانت متمحّضة للسلطة الظالمة وللجمهور المماثل لها أيضاً، وهذا يعني أن أعواماً طويلة قد تصرّمت، أو أن السلطة الحاكمة قد تبدّلت: بحيث سمحت للفئة المؤمنة بمثل هذا الاقتراح... ولكن مع ذلك لا يكاد القارئ يتعرّف أي تحديد للسنين في هذا الصدد، ويظلّ القارئ على تطلّعه المذكور لمعرفة ذلك، لحين اكتشاف القصة العدد المحدّد في (نهايتها) التي تقول:( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً.. ) .

طبيعياً، أن هذا النمط الذي نطلق عليه مصطلح (إرجاء المعلومات)، ويُطلق عليه نقاد القصة (المماطلة)، يتّخذ أكثر من سمة في هذا الصدد - مثل عنصر المباغتة الذي تحدثنا عنه - فحيناً تحتفظ فيه القصة ب- (السر) لتكشفه في نهاية القصة كما لحظنا عن سنيّ أهل الكهف، وحيناً آخر لا تفصح عنه البتة، بل يظل (السر) على غموضه، وهذا ما يتصل بعدد أصحاب الكهف أنفسهم. فالقارئ يتطلع لمعرفة عددهم حينما تنبهّه القصة ذاتها إلى ذلك من خلال هذا الحوار:

١٠٨

( سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَبّي أَعْلَمُ بِعِدّتِهِم مَا يَعْلَمُهُمْ إِلّا قَلِيلٌ ) .

إن القصة تردم أية إمكانية للتعرّف حينما تقرّر:( قُل رَبّي أَعْلَمُ ) ، ثم تجعل القارئ متشوقاً إلى المعرفة من جديد حينما تقرّر:( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلّا قَلِيلٌ ) . وبهذا النحو (من إرجاء المعلومات) تحقق القصة إمتاعاً جمالياً للقارئ لا مجال للتحدث عنه الآن بقدر ما نستهدف الإشارة إلى أنه نمط آخر يحتفظ بالسر دون أن يعلن عنه في نهاية القصة. وهناك نمط ثالثٍ يتراوح بين النمطين المذكورين، وهو: تنبيه القارئ إلى وجود (سرٍّ) ما، وتَعِدَه (فنِّياً) بالكشف عنه في نهاية القصة، وهذا ما يتمثّل في قصة (موسى مع العالِم). فالقصة لا تكشف عن أسرار وخرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار إلاّ في ختام القصة، لكنها تَعِد القارئ (بطريقة فنية) بأن (السر) سيتضح في نهاية، وهذا ما يُفصح عنه (العالِم) في جوابه لموسى عندما طلب منه أن يتبعه:( قَالَ فإن اتّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيْ‏ءٍ حَتّى‏ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ) ، أي: إن (العالِم) وعَدَ موسى (والقارئ أيضاً) بأن (يذكر) له أسرار الظواهر التي أراد أن يتعرّفها موسىعليه‌السلام .

إذن: هناك ثلاثة أشكال من عنصر (المماطلة - إرجاء المعلومات) تستخدمها القصة القرآنية:

أحدها: عدم الاحتفاظ بالسر الذي نتعامل به مع القارئ.

والثاني: كشفه في نهاية القصة.

والثالث: الإعلان عن كشفه فيما بعد.

ولكل من هذه السمات أهميتها الجمالية في ميدان الاستجابة لدى القارئ.

وواضح أن (إرجاء المعلومات) بعامة، له أهميته في شدّ القارئ إلى متابعة القصة، إِلاَّ أن تنويعه بالمستويات الثلاثة له أهميته (الفكرية) أيضاً. فعدم إعطاء المعلومات أساساً - مثل عدد أصحاب الكهف - لم يكن من الضرورة معرفته، مادام المهم هو: اللجوء إلى الكهف، وليس عدد الملتجئين إليه، والإعلان عن إعطاء المعلومات فيما بعد - مثل أسرار خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار - له أهميته النفسية في صياغة السلوك الآدمي، من خلال التدريب على الصبر وعدم التعجّل في استكناه أمور تأخذ سبيلها إلى الظهور في الوقت المناسب.

وواضح أيضاً أن القصة سلكت منحىً بنائياً في غاية الخطورة، عندما (جانست) بين كلّ من شخصية القصة (موسى) وبين (القارئ)، فهي في الوقت الذي جعلت (القارئ) يستخلص من قصة موسى مع العالم أن الاصطبار على معرفة الأمور في الوقت المناسب هو السلوك الأمثل، اتجهت القصةُ في الآن ذاته إلى (تدريب) القارئ (عملياً) على تطبيق هذا السلوك، فجعلت القارئ يمارس بنفسه عملية (الاصطبار) على معرفة الأمور في وقتها المناسب، متجسداً ذلك في عدم إعطائه المعلومات المتصلة بمعرفة أسرار القتل والبناء والخرق إلاَّ في آخر القصة: مع ملاحظة أن القصة وعدته

١٠٩

بإعطاء ذلك، أي: أن القصة بإعطائها مثل هذا (الوعد) جعلت القارئ متطلعاً إلى معرفة السر، ثم أرجأت ذلك حتى يتدرّب القارئ على الصبر حيال ذلك. إنّ مثل هذه العمارية المُحكمة في القصة، لا يكاد يدركها القارئ العابر الذي يقرأ مجرّد قصة يستمتع بمعلوماتها ويتحسّس جماليتها، دون أن يدرك أسرار البناء القصصي المتسم بالإعجاز الفني، الذي يجمع إلى جمالية العرض أسراراً تتصل بكل من أبطال القصة وقرّائها في عمليات (الاستجابة) البشرية التي تستهدفها القصة قبل كل شيء.

بعامة، أن عناصر (المماطلة والتشويق والمباغتة) تظل متصلة بالبعد (الزمني) للقصة من حيث استباق الزمن وتمطيطه حيال القارئ، كما أن (تقطيع) الزمان على نحو ما لحظناه في قصة طالوت مثلاً، يظل متصلاً بالأسرار الكامنة وراء (بدايات) القصة ووسطها ونهايتها.

وهناك أسرار تتصل بطيّ الزمن وتضبيبه (أي جعله مبهماً) لدى البطل أو القارئ بحيث يساهم في جمالية البناء العماري للقصة، وهو أمر نتناوله تحت عنوان:

الزمان النفسي:

الزمان النفسي - كما لحظنا - يعني: تقطيع سلسلة الزمن من مجاله الموضوعي، وصياغته وفقاً (للمجال النفسي) الذي وقفنا على جانبٍ منه في انتقاء الحدث من وسطه أو نهايته، وفي إرجاء المعلومات المتصلة به إلى زمان آخر. أما الآن فنتحدث عن (طيّ) الزمن وتضبيبه في ميدان العمارة القصصية.

فيما يتصل بطيّ الزمان، يمكننا ملاحظة جملة من القصص التي تشدّد على هذا الجانب، ومنه مثلاً:

قصة أصحاب القرية:

في سورة ياسين، تواجهنا قصة أصحاب القرية التي جاءها المرسلون:( إِذْ أَرْسَلْنَا إليهم اثْنَيْنِ فَكَذّبُوهُمَا فَعَزّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنّا إِلَيْكُم مّرْسَلُونَ ) ثم جاء بطلٌ رابع:( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى‏ قَالَ يَاقَوْمِ اتّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) . هذا البطل بدأ بالنصيحة لقومه، مشيراً إليهم بأن يتبعوا المرسلين الثلاثة. بَيْد أن القصة وهي تنقل لنا نصائح هذا الرجل لقومه، إذا بها تنقلنا مباشرة من بيئة الحياة الدنيا إلى الجنة، قائلة على لسان هذا البطل مايلي:

( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) .

١١٠

إن هذه النقلة الزمنية من سياق النصائح التي قدّمها البطل لقومه إلى موقع ( الجنة )، ومتابعته توجيه الكلام إلى قومه وهو في الجنة، هذه النقلة الزمنية تظل واحداً من أسرار البناء الفني للقصة ينبغي أن نتابعها بعناية بالغة.

تُرى لماذا نقلت القصةُ هذا البطل من موقعه الدنيوي إلى موقعه الأخروي، مع أنه لا يزال يتحدّث مع قومه ؟ السرّ في ذلك يكمن في استهداف النص تنبيه القارئ إلى مفروضية الجزاء المترتّب على ( الجهاد ) في سبيل الله، وهو: الجنة. كما يتمثّل في الكشف عن مصير البطل الذي جاء ينصح قومه باتباع الرسل. فالقصة لا تنقل لنا شيئاً عن مصير الأبطال الثلاثة الذين تقدّموه، ولا تنقل لنا مصير البطل الرابع، إنها تقول لنا: إن المرسلين الأربعة قد مارسوا وظيفتهم، وإلى أن الجمهور قد ( كذّبهم). ولكن ماذا حدث بعد ذلك ؟ هذا ما لم تتحدّث القصةُ عنه.

لكننا - نحن القرّاء - من خلال هذه النقلة التي لحظناها عن البطل الرابع، استطعنا أن نستنتج بأن هذا البطل قد استشهد؛ وإلاَّ لم يُقل له:( ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) . وفهمنا أن الرسل الثلاثة من الممكن أن يكونوا قد واجهوا نفس المصير. كما نستخلص قيمة فكرية تتصل بنقاء الشخصية المؤمنة ومحبّتها لقومها بالرغم من إيذائهم إيّاها... فهذا البطل الذي استشُهد، لابدّ أن يكون القوم قد أوجعوه ضرباً، أو ركلوه بأرجلهم - كما تقول بعض النصوص المفسّرة - أو قتلوه مباشرةً. لكنه مع ذلك، يواصل الإعلان عن محبته لقومه، حيث قال ( وهو في الجنة ):( يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) إنه، وهو في الجنة، يتمنّى أن يعرف قومّه مصيرَه إلى الجنة وتكريمه من قِبَل الله تعالى. إذن: كم هو نقيّ في أعماقه ؟ كم هو محبّ لقومه بالرغم من قتلهم إيّاه. إنه يتمنّى لو يرعوون، لو يتّجهون إلى الإيمان، ليظفروا بنفس الجنّة التي ظفر بها.

إن ( طيّ ) الزمن بهذا النحو الذي لحظناه، قد تمّ وفق رسمٍ فنيّ بالغ المدى، حيث نقلت القصةُ البطل إلى ( الجنة )، ثم عادت إلى الأرض من جديد لتقول لنا:( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى‏ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِنَ السّماءِ وَمَا كُنّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ) . كان من الممكن أن تقول لنا القصة: ( إن البطل قتله القوم فاستحق بذلك الجنّة. وإن قومه قد أنزلنا عليهم العذاب فجعلناهم خامدين )، لكن القصة سلكت منحىً فنياً بالغ الخطورة، حينما تعاملت مع عنصر ( الزمن ) بهذا النحو الذي عَبَرَت به إلى ( اليوم الآخر )، وعادت به إلى الحياة الدنيا لتواصل بقية وقائع القصة، محقّقة بذلك أكثر من هدف فنّي، هو: استشهاد البطل، استشهاد الرسل، محبّته لقومه حتى وهو في الجنّة، مصيره الحتمي إلى الجنة، ثم: المصير الدنيوي للمكذّبين، فضلاً عن مصيرهم الأخروي.

وإذا كانت هذه القصة تتعامل مع ( طيّ ) الزمان من خلال نقله من بيئة دنيوية إلى بيئة

١١١

أخروية، فهناك نمط آخر من ( الطيّ ) يتم داخل البيئة الدنيوية نفسها، متمثِّلاً في:

قصة سليمان:

قصة سليمان تتحدّث ( في سورة النمل ) عن الطائر الذي تفقدّه سليمان، حيث كان قد ذهب لمهمة هي إخبار سليمان عن وجود ملِكة في ( سبأ )، تعبد - هي وقومها - الشمس. وعندما أمر سليمان بإحضار عرش الملكة، ( قَالَ عِفْرِيتٌ مّنَ الْجِنّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مّقَامِك )، ولكن( قَالَ الّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَم أَكْفُرُ ) .

الهدف الفكري من القصة واضحٌ تماماً من خلال الفقرة التي عقّب عليها سليمان:( هذَا مِن فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَم أَكْفُرُ ) . إِلاَّ أننا نستهدف من الوقوف عند القصة المذكورة، ملاحظة ( البُعد الزمني ) فيها، وطريقة ( الطيّ ) التي تعاملت القصة فيها مع عنصر ( الزمن ). فالزمن هنا قد ( طُوي ) في لحظة طرف لا أكثر، مع أن البطل الذي نهض بهذه المهمة هو من ( البشر )، وليس من ( الجن ) الذي يملك إمكانات من التحرك السريع الذي لا يملكه البشر. ومع ذلك تم ( الإعجاز ) على يد ( بشرٍ ) عنده ( علمٌ من الكتاب )، في حين أن ( الجن ) لم يستطع تحقيق ذلك إلاَّ في ( ساعات )، حيث اقترح على ( سليمان ) بإحضاره قبل أن يقوم من مقامه، في الوقت الذي استطاع ( البشر ) أن يحقّقه في ( ثوانٍ ) لا في (ساعات).

هذا يعني أن القصة تريد أن تقول لنا: إنّ الشخصية الآدمية لو أخلصت في سلوكها العبادي، لاستطاعت أن تحقّق ما لم يستطع تحقيقه حتى مَن ينتسب إلى ( الجن ) الذي يمتلك إمكانات لا يمتلكها البشر. مضافاً لذلك، فان قضية شكر النِعَم أو تجاهلها، تظل أيضاً مستهدفة بوضوح من خلال هذه القصة التي عبّر عنها سليمان صراحةً لا ضمناً.

إذن، التعامل مع الزمن من خلال ( طيّه ) من بيئةٍ دنيوية إلى مثلها، أو من بيئة دنيوية إلى أخروية، يظل - في الحالتين - مرتبطاً بالكشف عن أهداف ( فكرية ) لا تحدّثنا القصة عنه مباشرة، بل من خلال ( مبنىً فنّي ) خاص يحقّق كلاًّ من الإمتاع الجمالي والفكري عند القارئ.

هناك نمط آخر من التعامل من ( الزمن )، هو: طريقة ( الإحساس ) به. وهذه الطريقة لها أهميتها الفنية أيضاً، من حيث ( إبهام ) الزمن وتضبيبه لدى أبطال القصة، وليس لدى القارئ. ففي قصة سليمان ذاتها نجد أن ( الملكية ) افتقدت الإحساس بالزمان ( وبالمكان أيضاً )، ثم اهتدت إليه، وكانت النتيجة أنها أسلمت لرب العالمين. ولكن لننتقل إلى أبطال آخرين في قصة أخرى، هي:

١١٢

قصة أصحاب الكهف:

في هذه القصة نجد أن أبطال الكهف قد افتقدوا ( الإحساس بالزمن ) تماماً. تُرى ما هو المُعطى الفني لمثل هذه الصياغة لعنصر الزمن وتضبيبه في إحساس الأبطال ؟ لنقرأ أولاً:

( وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إلى‏ الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيّهَا أَزْكَى‏ طَعَاماً.. ) .

لقد كشف هذا الحوار عن غموض المدة الزمنية لمكوثهم في الكهف، فالحوار الأول( كَمْ لَبِثْتُمْ ) لا يوحي بقصر المدة أو طولها. ثم جاء الحوار الثاني موحياً بأن المدة قصيرة جداً( قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) . غير أن الحوار الثالث ( رَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ) جعل الإحساس بالزمن لدى الأبطال ملفَّعاً بالغموض من جديد، حتى إن القصة ( من الزاوية الفنية ) قدّمت لنا ممارسة تطبيقية للأبطال، تكشف عن ( غموض ) الزمن لديهم.

وهذه الممارسة تتمثّل في الواقعة التالية:( فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إلى‏ الْمَدِينَةِ... ) ، فلو لم يكن الأمر غامضاً بالنسبة إليهم، لتردّدوا في استخدام العملة النقدية التي كانت لديهم، ولتردّدوا في الاقتراح بشراء الطعام الزكي، بمعنى أنهم لا يزالون يعيشون الإحساس بزمنهم وبيئتهم التي عهدوها، لأن إرسال العملة المألوفة يوحي بأن الزمن قصيرٌ في تصورهم، كما أن شراء الطعام الزكي يقترن ببيئة ( الكفر ) التي تتطلّب بحثاً عن طعام زكيّ بالقياس إلى ركام الأطعمة غير الزكية.

إن هذا الغموض الزمني في أحاسيسهم يدعو إلى الدهشة في حقيقة الأمر. والسبب في ذلك يعود إلى أن القصة نفسها رسمت لنا شيئاً من ملامحهم حينما قالت:( لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) . ولو رجعنا إلى النصوص المفسّرة، لوجدنا أنها تتردّد بين الذهاب إلى أن سمة ( الخوف ) و( الفرار ) منهم عائدة إلى ملامح الأبطال أنفسهم، من حيث إطالة شعورهم وأظافرهم، أو أنها عائدة إلى استيحاش الموقع، أي: الكهف.

واستبعد بعض المفسرين أن يكون الخوف والفرار ناتجاً من إطالة شعورهم وأظافرهم ؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، لما قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم. غير أن هذا الاستنتاج يردّه: أن الفرار والخوف لو كان من جهة ( الكهف ) لقال النص ( لوليت ( منه ) فراراً ولمُلئت ( منه ) رعباً ). أما أن النص قال: ( منهم ) بدلاً من ( منه )، فهذا يعني أن الاستيحاش عائد إلى ( الأبطال ) وليس إلى ( الكهف ). ولكن هذا الاستنتاج الأخير يتنافى مع قولهم ( لبثنا يوماً أو بعض يوم )... ! إذن: ماذا يمكن أن نستنتج من ذلك كله ؟

لا شيء غير ( الغموض ) هو الذي يخامر ( إحساس الأبطال بالزمن ). طبيعياً من الممكن

١١٣

أن يكون السائل الذي قال( لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) غير منتبه إلى ملامحه الجسمية، ومن الممكن أن يكون القائل بعد ذلك( رَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ) ، قد انتبه إلى هذا الجانب، وتحسّس بأن هناك مدة طويلة قطعاً، لكنّه لم يستطع أن يقدّرها تحديداً، ولذلك اقترح إرسال العملة النقدية والتحفّظ في شراء الطعام ؛ تعبيراً عن إحساسه الغامض بالزمن.

المهم، أن القارئ يثير مثل هذا السؤال: ترى ماذا يمكننا أن نستخلص من هذا ( الغموض ) الذي رسمته القصة لأبطالها ؟

في تصوّرنا أن القضية تظل متصلة برسم ( الإعجاز ) الذي الذي تستهدفه القصة، من حيث ترسيخه في أحاسيس الأبطال، بغية حملهم في نهاية المطاف إلى العودة للكهف... وهذا ما حصل فعلاً... غير أن هذا يظل واحداً من مجموعة أسباب فنية لابدّ من الوقوف عليها مادمنا في صدد تعبير معجزٍ وليس حيال مجرد قصة يكتبها بشر.

الملاحظ في شخصية سليمان - التي تقدّم الحديث عنها - أنها بالرغم من توفير قوى الجن والإنس والطير لها، نجدها لم تُحط علماً بسفر الطائر الذي توجّه إلى ( سبأ )، والملاحظ أيضاً أن موسى لم يُحط علماً بأسرار القتل والبناء والخرق، والملاحظ في سائر القصص أمثلة هذه الأسرار التي تحتفظ بها السماء ولا تظهرها حتى للشخصيات المتقدمة... فإذا نقلنا هذه القضية إلى أبطال ( عاديين ) مثل أصحاب الكهف، للحظنا أن عدم رسمهم ( أبطالاً مطلقين )، أي لا يشوبهم نقص في المعلومات، يظل محكوماً بالأولوية بالقياس إلى ( الأنبياء ). وهذا يعني أن القصة تستهدف تركيز مثل هذه المفاهيم، ليس في أذهاننا فحسب، بل في أذهان الأبطال أنفسهم، أيّاً كانوا: أنبياء أم عاديين.

إذن، الهدف الأول من هذا الرسم هو: تحسيس الأبطال بقصورهم بشكل عام.

ثانياً: أن نفس هذا ( الغموض ) يكشف عن جانبٍ من العمليات النفسية في السلوك الآدمي، ونعني به: ( التوتر ) وضرورته في العمل العبادي، من حيث كونه يُفضى إلى الوصول للحقيقة. فالكائن الآدمي - أيّاً كان - يظل عرضةً لصراع وتوترات شتَّى، تتطلَّب منه أن يتجاوزها من جانب وأن يتحمَّلها من جانب آخر: اتساقاً مع طبيعة المهمة الخلافية في الأرض. فأبطال الكهف وهم يتجهون إلى ( العزلة )، قد لا يصاحبهم اطمئنان كامل بتوفر البيئة التي تضمن لهم طموحاتهم في هذا الصدد، كما أنهم لا يعرفون مدى ( العناية الإلهية ) التي صاحبت دخولهم إلى الكهف من حسباننا أياهم أيقاظاً وهم رقود، وتقليبهم ذات اليمين والشمال، وتزاور الشمس عنهم ذات اليمين عند الطلوع، وقرضهم ذات الشمال عند الغروب... كل هذه المستويات من ( العناية )، من الممكن إلاَّ يكون أصحاب الكهف قد انتبهوا إليها، وهو أمرٌ تُعلِن عنه محاوراتهم المذكورة، ممّا يدفعهم - بعد معرفة حقائق الأمور - إلى المزيد من ( الشكر ) لواهب النِعم الذي يغدقه

١١٤

على الآدميين وهم لم يحيطوا بها علماً.

مضافاً إلى ذلك، ما سبق أن قلناه من أن ذلك سيدفعهم، عندما يواجهون الحياة من جديد، إلى أن يفضّلوا بيئة الله التي لا تضارعها بيئة الحياة الدنيا.

إذن: أمكننا أن نستخلص جملة من الدلالات الفنية لهذا الرسم المتصل بتضبيب الزمن في أحاسيس الأبطال، وانعكاساته على سلوك ( القارئ ) الذي سيفيد منها في ( تعديل ) السلوك.

بعامة، ما قدّمناه من عرضٍ سريع لظاهرة الزمن وسواه من الظواهر المتصلة بالتشويق والمماطلة والمباغتة، وما قدّمنا من التلاحم العضوي بين أجزاء القصة...، كل ذلك يظل متصلاً بواحدٍ من عناصر ( الشكل القصصي )، وهو:البناء العماري للقصة.

والآن نتقدّم إلى مفردات البناء القصصي، وفي مقدمتها، عنصر:

الأبطال في القصة:

الأبطال - أو الشخصيات - يشكّلون الحركة الحيّة في القصة كما هو واضح، فالأحداث والبيئات لا قيمة لها إلاَّ بقدر وجود " الحركة الإنسانية " عليها. وحيال هذا فإن انتقاء الشخصية وطريقة رسمها وإلقاء الأدوار عليها، يظل في الصميم من حركة القصة وحيويّتها. وبما أن تجسيد " الهدف الفكري " في النص، لا يتحدد إلاَّ بقدر تحديد الشخصية ذاتها، حينئذٍ فإن الأبطال لابد أن يتحرّكوا طبقاً لما يتطلّبه الهدف الفكري من بطلٍ واحدٍ أو أكثر، وبطلٍ فردي أو جمعي، مبهمٍ أو محدد، نامٍ أم مسطح، رئيس أو ثانوي، بشري أو غيره... إلخ. كل هذه التحديدات للشخصية نجدها بوضوح في القصص القرآني، حيث تُرسَم بإحكام ودقة واقتصاد لافت للانتباه.

وأول ما يلفت الانتباه هو: ( عدد ) الأبطال الذين تحتاجهم القصة. فالمعروف في القصة البشرية أن القصة القصيرة - مثلاً - ينتظمها عدد محدَّد من الشخصيات يتناسب وحجم القصة ومواقفها البسيطة المفردة، في حين أن الرواية يتسع عدد أبطالها ويتنوّعون تبعاً لما تتطلبه ( وجهة النظر ) القصصية في هذا الصدد. أما في القصة القرآنية، فإن ( الإحكام ) العددي للأبطال، يأخذ أقصى ما نتوقّعه من تحديد لهم، سواء أكان ذلك في العدد أو في رسم ملامحهم الداخلية والخارجية. ولنأخذ نموذجاً في هذا الصدد:

قصة آدمعليه‌السلام :

إنَّ أول قصة تواجهنا في القرآن هي قصة: المولد البشري متمثِّلاً في آدمعليه‌السلام ، إذ تبدأ بهذا

١١٥

النحو:

( وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ إِنّي أَعْلَمُ غَيْبَ السّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوْا لآِدَمَ... ) ،( وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتَما وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ... ) ،( فَأَزَلّهُمَا الشّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمّا كَانَا فِيهِ ) .

هذه هي تجربة المولد البشري من حيث جعْله خليفةً في الأرض عِبر تأريخ ( تكوينه ) وملابسات ذلك. وقد اتجه النص القرآني إلى صياغة هذه التجربة البشرية في شكل قصصي ؛ نظراً لأهمية ما يفرزه هذا الشكل من تعميقٍ في الاستجابة الفنية له.

من حيث عدد ( الأبطال ) نجد أنّهم منحصرون في ( أربع ) شخصيات فحسب، وهذا أدنى ما يتطّلبه ( الموقف ) من عدد: ( آدم، الملائكة، إبليس، حواء ). فآدم لا مناص من رسمه في القصة مادام الأمر متصلاً بكونه أباً للبشريّة، وحواء لا مناص من رسمها أيضاً بصفتها تجسيداً ( للاتحاد بين كائنين )، يتوقَّف عليهما استمرار التناسل البشري، أي: ( العائلة).

أمَّا ( الملائكة )، فكان رسمهم ضرورياً لا مناص منه أيضاً مادام الموقف مرتبطاً بأول تجربة على الأرض. كان الملائكةُ على إحاطةٍ تامة بما يستتبعها من ( صراع ) وسفك دم وغيرهما ؛ بصفة أنّ الملائكة عنصر واعٍ، لا يحيا الصراع بين الخير والشر، بعكس البشر الذين ركِّبوا من العقل والشهوة ( إنّ الله ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركبّ في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كلتيهما )... الملائكة تفهم كل هذا، ولذلك تساءلوا عن السرّ الكامن وراء التجربة البشرية ( بخاصة إنَّ النصوص التفسيرية تذكر بأنّ ثَمَّة تجربة أرضية سابقة لعنصر ( الجان ) فيما واكبها سفك الدم والإفساد بعامة، فبعث الله الملائكة وأجلوهم عنها وجُعلوا مكانهم ).

طبيعياً هذا التفسير ينسجم تماماً مع المنطق الفنيّ للقصة، إلاَّ أنّ أهمية القصة القرآنية تتمثّل في كونها تُعلن عن منطقها الفنّي حتى لو ابتعدنا ( لغرضٍ فنيّ ) عن مناخ النصوص التفسيرية. فالملائكة - وهذا ما يُعلِن عنه المنطق الفنيّ في القصة - لا يمتلكون وعياً مطلقاً بالأمور، بقدر ما يمثّلون طبقة لا تحيا ( الشهوة ) ومتطلباتها من الصراع، وهذا ما أوضحته القصة ذاتها عند ما قالوا:( سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلّمْتَنَا... ) ، وعندما قال لهمُ الله ( تعالى ):( أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ إِنّي أَعْلَمُ غَيْبَ السّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) .

هذه الفقرات تقرِّر بوضوح أنّ الملائكة لا يعلمون كل شيء، وأنَّ الله ( تعالى ) منحهم جانباً من المعرفة، حتى إنّ آدمعليه‌السلام علّمه الله الأسماء التي لم تعرفها الملائكة حينما طلب منها الله أن تخبره بها.

نستخلص من هذا أنَّ عنصر ( الملائكة ) كان لابدّ من رسمه في القصة: نظراً لعملية

١١٦

السجود أولاً، وهي عملية ذات مغزىً ؛ لأهمية الكائن الآدمي الذي اسجد اللهُ الملائكة له، حتى يتعرّف دوره الخلافي الذي أؤكلَ إليه.

ثانياً: كشفَ وجودُهم عن حجم المعرفة التي يمتلكونها في هذا الصدد، وإلى أنَّ الله وحده يحتفظ بالمعرفة المطلقة.

ثالثاً: كان رسمهم مرتبطاً بأهم سمة تفرز الإنسان عن غيره في تجربة الأرض، حيث ارتبط وجودهم بأحد العناصر الذي ( استَزلَّ ) العنصر البشري، وترتَّب عليه الهبوط إلى الأرض.

ومن هنا نفهم ضرورة رسم الشخصية الرابعة في القصة، وهي: ( إبليس )، بصفته الطرف الآخر من تجربة الإنسان في تجاذبه بين العقل والشهوة، وبصفته الطرف الآخر من موقف الملائكة المتصل بعملية السجود.

إذن عدد الأبطال في القصة المذكورة، كان مرسوماً بنحوٍ تستهدفه القصة من تجربة الخلافة الأرضية وملابساتها.

أمّا من حيث تنوّع الأبطال ( بشراً وملائكة )، فإنَّ لهذا ( التنوّع ) ضرورته أيضاً مادام الأمر متصلاً بأبطال من غير البشر ( الملائكة، إبليس ) يُبلورون الموقف الذي سيترتَّب عليه المولد البشري بالنحو الذي أشرنا إليه.

وأمّا من حيث ( نموّ ) الأبطال و( تسطّحهم )١، أي التحوُّل والانقلاب الفكري في تصرّفاتهم، أو الثبات في ذلك، فأمرٌ نلحظ نمطه الأول في القصة، ولا نلحظ نمطه الآخر فيها. والسبب في ذلك يعود إلى أنّ ( التجربة ) بصفتها جديدة على كل الأبطال ؛ حينئذٍ فإنّ ( التحوُّل ) الفكري - سواء أكان بسيطاً مثل ( موقف الملائكة )، أو حاداً مثل موقف ( إبليس ) - يفرض ضرورته في هذا الصدد. والأمر نفسه فيما يتعلق بشخصيتي آدم وحواء في ( تحوّلهما ) المتمثّل في الاقتراب من الشجرة، حيث ترتّب على هذا ( التحوُّل ) الهبوط على الأرض كما هو واضح.

إنّ قصة آدمعليه‌السلام ، أفرزت جملة من أبعاد الرسم للشخصية، من حيث: العدد والتنوّع والتحوّل.

وحين نتجه إلى قصة أخرى سنلحظ رسماً لسمات أخرى لدى الأبطال، يتعيّن ملاحظتها للتعرّف على الأهمية الفنية لرسم بهذا النحو أو ذاك.

قصة مؤمن آل فرعون:

في هذه القصة التي تُقدِّم بطلها على هذا النحو:

( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ اللّهُ... ) .

إنَّ هذا البطل الذي تحدّثت عنه ( سورة المؤمن )، دخل إلى القصة بعد أن أنهى موسىعليه‌السلام دوره في

١١٧

القصة وهدّده فرعون بالقتل، حيث تدخّل لدى القوم لإنقاذ موسى من القتل، ولَعِبَ دوراً كبيراً في محاولة إصلاح القوم، بحيث جسّد حركة حيّة في القصة التي تنتظمها فصول متعددة لا يسمح المجال بعرضها الآن. لكننا نستهدف من الوقوف العابر عليها الإشارة إلى النمط الآخر من الشخصيات، التي يسمها طابع ( الثبات ) قبال سمة ( التحوُّل ) التي لحظناها في القصة السابقة.

طبيعياً لا تعني سمة ( التحوُّل ) مؤشراً إلى ما هو سلبي من السلوك، كما لا تعني سمة ( الثبات ) مؤشراً إلى ما هو إيجابي، بقدر ما تعني أنّ كلاً من ( البطلين ) يُرسمان بنحوٍ يحقّق الهدف الفكري من النص. ( فالتحوّل ) من الإيمان إلى الكفر سمة سلبية، و( الثبات ) على الكفر سمة سلبية، والعكس هو الصحيح أيضاً، ممّا يعني أنّ رسم ( التحوُّل ) أو ( الثبات ) يرتبط بأهداف فكرية مرصودة في القصة بنحوٍ فنيّ.

ولنعد إلى بطل القصة ( مؤمن آل فرعون):

لقد رسمته القصة ( رجلاً يكتم إيمانه )، وهذا يعني أنّ الشخصية ( مؤمنة ) أساساً، وعندما حان الوقت لأن تتخلّى عن مبدأ ( التقية )، توجّهت إلى الإعلان عن ( موقفها الفكري ) الثابت، وهو الجهاد في سوح الإصلاح وإنقاذ موسى، حيث انتهى رسمها في القصة وقد دفع الله عنها مكر القوم.

أنّ هذه الشخصية مارست نمطين من السلوك، أحدهما: التقية ( رجل يكتم إيمانه)، والآخر: الظهور عبر تدخّلها وإصلاحها فيما بعد... ومثل هذا ( التبدُّل ) في مظهر السلوك، لم يخرجها من دائرة ( الثبات ) إلى ( التحوُّل )، بل بقيت محتفظة بطابع ( الثبات )، وهو الإيمان طوال حياتها، كل ما في الأمر أنّها ( كتمت ) إيمانها حيناً، وأظهرته عندما استدعى السياق ذلك.

إنَّ هدفنا من الإشارة لهذا البطل أن نحدِّد معنى ( الثبات والتحوُّل ) من جانب، وأن نُبرز نمطاً للشخصية ( الثابتة ) من جانب آخر، وأن نُوضح المنطق الفني لمثل هذا الرسم من جانب ثالث. فنمط السلوك الذي يفرز مظهراً عن آخر لا يخرج البطل من سمة ( ثباته ) مادام المعيار هو: السمة الفكرية، وليس المظهر الاجتماعي. ففي الحالين ثَمَّة ( إيمان ) يفرض على الرجل حيناً أن ( يكتم ) ذلك، ويفرض عليه حيناً آخر أن ( يعلن ) عن ذلك. أمّا المسوّغ الفني لمثل هذا الرسم، فيتجسّد في إبراز كلٍ من مبدأ ( التقية ) و( الظهور ) كما لا يخفى، ممّا لا حاجة إلى إطالة الكلام فيه.

أمَّا رسم الشخصية ( ثابتة ) بنحو عام، فأمر تحدّده طبيعة الهدف في القصة، فحيناً يتطلّب الموقف إبراز شخصيات (ثابتة)، سواء أكانت إيجابية أم سلبية، لكي يفيد القارئ منها في تعديل سلوكه. وحيناً يتطلّب الموقف إبراز شخصيات ( متحولة ) للغرض نفسه.

مثال ذلك من الشخصيات ( المتحوّلة): السَّحَرَة الذين آمنوا في قصص موسى، وملكة

١١٨

سبأ في قصة سليمان، حيث يفيد القارئ منهما في تعديل سلوكه عندما يقف على نهايات مثل هؤلاء الأبطال، الذين يجسّدون ( تحوّلاً ) إيجابياً.

مقابل ذلك نلحظ ( تحوُّلات ) إلى السلب، ومثاله ( إبليس ) في قصة آدم التي لحظناها، حيث يفيد القارئ منها في تعديل سلوكه أيضاً، من خلال التحوُّل المَشين الذي طرأ على شخصيته.

وأمَّا مثاله من الشخصيات ( الثابتة): الأنبياء بشكل عام، وشخصيات من أمثال: مؤمن آل فرعون، والرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى في قصة أصحاب القرية، وأبطال أهل الكهف وسواهم، حيث يفيد القارئ من ( ثبات ) شخصياتهم في تعديل سلوكه واحتذاء مواقفهم الثابتة في هذا الصدد.

مقابل ذلك نلحظ ( ثباتاً ) سلبياً في أشخاص آخرين، مثل: الأقوام البائدة في قصص نوح ولوط وصالح وشعيب... إلخ، ومثل: ابن نوح، أب إبراهيم، امرأة لوط، حيث يفيد القارئ منها في تعديل سلوكه عبر مشاهدته لمصائرهم الدنيوية.

كما نلحظ نمطاً ثالثاً من رسم الشخصيات التي تشّهد ( تحوّلاً ) في القصة، لكنَّه عند معاينة الموت أو حدوث الكارثة بهم، مثل: فرعون الذي أعلن عن إيمانه عند لحظات الغرق، ومثل صاحب الجنَّتين الذي قال:( يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) ... هذا النمط من الرسم أيضاً يساهم في تعديل السلوك عبر مشاهدة القارئ لمصائر شخصياته.

إذن كل أنماط الرسم للشخصيات المتحولة والثابتة، لها مساهمتها في تعديل السلوك الذي تستهدفه القصص أساساً.

وإذا تركنا كلاً من سمات الرسم المتصل بثبات الشخصية ونموها، وتنوّعها بين بشر وغيره، وتحددها في عدد خاص، واتجهنا إلى سائر أشكال الرسم القرآني للأبطال، واجهنا رسماً يتصل بتعريف الشخصية وتنكيرها، أو لنقل: إبهام الشخصية وتحديدها. فالملاحظ أنَّ بعض الشخصيات ترسمها القصة محددّة بالاسم والملمح الخارجي وغيرهما، في حين نجد أبطالاً آخرين ( يُبهمهم ) النص حتى في الاسم.

في قصة ( مؤمن آل فرعون ) نجد أنّ القصة ( أبهمت ) هذه الشخصية، وفي قصة أصحاب القرية نلحظ نفس السمة، ومثلها أبطال أهل الكهف، ومثلها شخصية النبي الإسرائيلي في قصة طالوت فيما لم تذكر حتى اسمه، وفي قصة القرية الخاوية التي وقف عليها أحد الأنبياء، وقال:( أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا... ) .

وفي قصة سليمان التي أبهمت الشخصية التي جلبت عرش بلقيس، ففي هذه القصص نلحظ شخصيات بمستوى النبوّة، وشخصيات بمستوى الأوصياء ( مثل الشخصية التي جلبت عرش بلقيس )، وشخصيات عادية. فمع هذا التفاوت بين الأبطال النبوِّيين إلى

١١٩

الأبطال العاديين إلى الأبطال المتراوحين بينهما، نلحظ ( إبهاماً ) حيال شخصياتهم، في حين نلحظ تحديداً لأبطال سلبيين يحكمهم نفس الطابع، ولكنّهم محدّدون، مثل: فرعون وهامان وقارون وأبي لهب... وسواهم، هذا يعني أنّ كلاً من ( تعريف ) الشخصية و( تنكيرها ) له مساهمته الفنية التي يستدعيها مناخ القصة.

( الرسل ) على سبيل المثال طالما ( تُعرّف ) شخصياتهم، مثل: نوح وموسى وعيسى، مادام الأمر مرتبطاً برسالاتهم، ولكن حينما لا يتطلَّب الأمر ذلك، نجد - مثلاً - أنّ قصة طالوت تذكر حادثة الإسرائيليين مع ( نبيّ ) لهم، دون أن تعرّفنا ( باسمه ) مادام الأمر يتصل بوجود شخصية لها صلتها بالله في تهيئة القائد العسكري. هذا فضلاً عن أنَّها لم يكن تمحل طابع ( الرسول ). والأمر نفسه فيما يتصل بالشخصيات التي تمثّل ( الأوصياء ) فيما لم تكن ضرورة لتعريفهم، مثل: وصيّ سليمان الذي كان عنده علمٌ من الكتاب.

لكن عندما يتطلَّب الأمر ( تحديداً )، مثل شخصية هارون، نجد أنّ البطل المذكور ( يُعرّف ) باسمه ووظيفته أيضاً، بينا لم يُعرّف وصيّ سليمان لا بالاسم ولا بالوصاية ؛ لأنّ الأمر يتصل برسم شخصية تستطيع أن تملك ( معلومات ) أو ( قدرات ) لا يملكها حيناً حتى ( الأنبياء ) ؛ لإفهامِنا بأنّ ( الطاعة )، وليس ( الموقع الاجتماعي )، هي المعيار في السلوك.

إنَّ هارون كان لابدّ أنَّ ( يعرّف ) مثلاً ؛ مادام موسى أقل فصاحةً منه، حيث يتطلَّب الموقف ( كلاماً ) هو الحجة على فرعون وقومه. وكذلك فيما يتصل بمهمته عند ذهاب موسى إلى الجبل. والأمر نفسه فيما يتصل برُسل عيسى إلى أصحاب القرية، حيث أبهمهم النص ماداموا ليسوا أنبياء لهم رسالاتهم، بل مبعوثين من قِبلهم. وهكذا فيما يتصل ب- ( مؤمن آل فرعون )، حيث لا ضرورة لتحديد اسمه مادام مجرد شخصٍ يكتم إيمانه ويظهره في مناخ يستدعي ذلك، وحيث إنّ هدف القصة هو إبراز مفهوم كلٍ من التقية والإظهار، وليس إبراز هذه الشخصية أو تلك.

بعامة، أنَّ كلاً من التحديد والإبهام، أو التعريف والتنكير، له أهميته في ميدان رسم البطل في القصة، لارتباطه بالمفهومات التي يُستهدف التركيز عليها.

ولعل أهم أشكال الرسم للشخصيات، يتمثَّل في تقسيمها إلى ما هو ( رئيس ) وما هو ( ثانوي )، وإعطاء كل منهما دوراً خاصاً في تجسيد أفكار القصة، وهذا ما نقف عنده طويلاً عبر نموذج قصصي هو:

قصة يوسف:

تجسّد هذه القصة - بوضوح - أهمية كل من البطل ( الرئيس ) و( الثانوي). والمقصود بالبطل ( الرئيس ) هو الذي تحوم عليه حوادث القصة ومواقفها، بحيث لا يخلو دور منها. أمَّا

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191