الإسلام والفن

الإسلام والفن20%

الإسلام والفن مؤلف:
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 191

الإسلام والفن
  • البداية
  • السابق
  • 191 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68773 / تحميل: 26351
الحجم الحجم الحجم
الإسلام والفن

الإسلام والفن

مؤلف:
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإسلام والفن

الدكتور محمود البستاني

١

هذا الكتاب

طبع ونشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً

قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٢

الإسلامُ والفَن

الدكتور محمود البستاني

جميع حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأُولى

١٤١٣ه- - ١٩٩٢م

العنوان: بناية كليوباترا - شارع دكّاش - حارة حريك - بيروت - لبنان

٣

٤

( كلمةُ المَجمع )

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

المقدمة:

في هذا الكتاب( الإسلام والفن ) تُطرح قضية الأدب والفن من خلال وجهة النظر الإسلامية مقارنةً بوجهة النظر الأرضية، في مختلف الظواهر المرتبطة بمفهوم الأدب وعناصره، وتياراته ومناهج دراسته. مضافاً إلى الظواهر المرتبطة بالأشكال الفنية الأخرى، مثل: النحت والتصوير والموسيقى، وغير ذلك من أنماط التعبير الفنّي، الذي يمتلك الإسلام حيالها تصوّراً خاصاً يختلف عن تصوّرات الأرض، من حيث: حظره أو تحفّظه أو إباحته لهذا الشكل أو ذاك...

واستكمالاً لرصد التصوّر الإسلامي للأدب والفن، حاولَ هذا الكتاب أن يُقدّم دراسة تطبيقية تتناول نصوص القرآن والسنّة، بحيث يمكن للقارئ أن يستخلص من ذلك المعايير والمبادئ التي عرض لها هذا الكتاب. عِلماً بأنّ(مَجمع البحوث الإسلامية) يعتزم تقديم دراسات أخرى تتناول بنحو مفصّل تلكم المبادئ والمعايير التي تنتظم في حقول البلاغة والنقد وتأريخ الأدب، بحيث تُعدّ دراساتٍ مفصّلة لِما أجمله كتاب( الإسلام والفن ) ، آملين من الله تعالى أن يوفّقنا جميعاً لخدمة الإسلام العظيم.

مَجمعُ البحوث الإسلامية

٥

٦

ما هو الفنّ ؟

الفنّ - في التجربة البشرية -: نمطٌ خاص من التعبير عن حقائق الحياة. فإذا كانت اللغة العلمية أو العادية التي نستخدمها في حياتنا اليومية تتميّز بكونها تعبيراً مباشراً عن الحقائق، فإنّ اللغة الفنية تتميّز بكونها تعبيراً غير مباشر عنها.

والفارق بين اللغة المباشرة وغير المباشرة: أنّ الأُولى منهما تعتمد نقل الحقائق بصورتها الواقعية، كما لو قلنا: إنّ (١+٣ =٤)، أو قلنا: إنّ الماء يتكوّن من عنصرين. بينما تعتمد لغة الفن عنصر ( التخيّل ) أساساً لها، أي العنصر المتمثل في إحداث ( علاقة ) جديدة بين الحقائق التي تستهدف نقلها إلى الآخرين.

فإذا أردنا أن نتبيّن - على سبيل المثال - أهمية الإنفاق ( في سبيل الله )، قلنا: إنّ مَن يُنفق أمواله من أجل الله فسيُعوّض بأضعاف ذلك، وحينئذٍ يكون هذا التعبير ( واقعياً )، أو ( عادياً )، أو ( علمياً )، لكن عندما نقول مع الآية الكريمة:( مَثَلُ الّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ... ) حينئذٍ يكون هذا التعبير ( فنياً ). والفارق بين التعبير الأسبق وهذا التعبير، هو: إضافة أو إحداث علاقة جديدة بين ( الإنفاق ) و( الحبّة ) التي لا علاقة لها بذلك في الواقع الحسّي، والمسوّغُ لإحداث هذه العلاقة بينهما هو: تعميق الهدف أو الدلالة في ذهن المتلقّي ( القارئ، المستمع، المُشاهِد ).

ومن البيّن: أنّ بعض المواقف تستدعي أمثلة هذا التعبير بُغية تحقيق الهدف المتقدّم، بينما لا تستدعي المواقف الأخرى أمثلة ذلك، كما لو أردنا تعريف الماء مثلاً أو أيّة حقيقة علمية أو عادية.

طبيعياً أنّ ( العلم ) قد يحتاج إلى عنصر ( التخيّل ) في تعميق دلالاته أيضاً، كما لو أردنا أن نوضّح للقارئ أو نُقرّب إلى ذهنه - مثلاً - مدى احتياج الإنسان إلى الغذاء لمواصلة حياته، حيث نقوم بعملية ( تشبيه ) بينه وبين الماكنة المستخدَمة في وسيلة النقل من حيث احتياجها إلى ( الوقود )... بل إنّ ( العلم ) قد يَستخدم لغة ( التخيّل ) أساساً لبعض قضاياه، كما يُلحظ ذلك مثلاً في الجهاز المسمّى ب-( العقل الإلكتروني ) . فهذه التسمية نفسها ( فنٌ ) مادامت قد استخدَمت عنصر ( التخيّل )، إلاّ أنّ الفارق بين ( الفن ) و( العلم ) - أو ( اللغة العادية ) - يكمُن في ضخامة وضآلة النسبة التخيّلية من جانب، وفي ركون أولهما إلى عنصر ( ذاتي )، والآخر إلى عنصر ( موضوعي ) من جانب

٧

آخر، فتشبيهنا البطل مثلاً بأنّه: ( صقر )، أو ( أسد )، يقوم على عنصر ( ذاتي )، أو ( عاطفي )، أو ( وجداني )، بينا يقوم تشبيهنا لغذاء الإنسان بوقود السيارة على عنصر ( موضوعي ) لا مجال فيه لتدخّل انفعالاتنا.

أخيراً، ينبغي لفت الانتباه على أنّ لغة الفن لا تنحصر في التعبير اللفظي الذي يعتمد الكلمة ( المنطوقة ) أو ( المكتوبة ) أداة له، بل تجاوز ذلك إلى أنماط تعبيرية أخرى تُعد بمثابة ( رمز ) للكلمة أو ( بديل ) لها، كما هو الأمر بالنسبة إلى فنون مختلفة من نحو: الرسم، والنحت، وسواهما...

والمهمّ : أنّ لغة ( الفن ) - بكلّ أشكالها - ذات سمة تعبيرية خاصة بها، كما أنّ لها مسوّغاتها المشار إليها، ومن ثَمّ دراسة هذه اللغة تظلّ من الضرورة بمكان كبير، مادمنا نعرف بوضوح أنّ ( الكلمة )، أو ( الرموز ) البديلة لها، ينبغي أن ( توظّف ) أساساً من أجل تحقيق المهمة العبادية التي أوكلتها السماء إلينا...

لكن بما أنّ التجربة البشرية ( في حقل لغة الفن ) قد اقترنت بمفارقات متنوّعة، شأنها في ذلك مثل سائر أنماط السلوك المنحرف الذي يصدر الكائن الآدمي عنه، حينئذٍ يتعيّن على الباحث تقديم وجهة النظر الإسلامية في هذا الميدان، من حيث التعريف بالمادّة الفنية وعناصرها، وما يتصل بها من مشكلات متنوّعة يثيرها المعنّيون بشئون الفنّ، وهو ما نحاول التوفّر عليه في هذه الدراسة.

٨

الفنّ والالتزام

ما دام ( الفنّ ) يوظَّف أساساً من أجل تحقيق المهمة العبادية، حينئذٍ يتعيّن على الباحث الإسلامي تحديد معالم ( التوظيف ) المذكور، وهو ما يطلق عليه أدباء الأرض مصطلح( الالتزام ) .

إنّ ظاهرة ( الالتزام ) في التصوّر الأرضي ( ونقصد به: التصوّر غير الإسلامي ) تمتد بجذورها إلى العصر الإغريقي، مروراً بالعصر الوسيط فالعصر الحديث، وتبلورها بخاصة في سنواتنا المعاصرة عبر ربط الفن بالموقف الفلسفي العام من الكون والمجتمع والفرد...

بَيْدَ أنّ اتجاهات أرضية متنوّعة لا تُعنى بقضية ( الالتزام ) بقدر ما تعنى بالفن من حيث كونه يحقّق ( إمتاعاً ) جمالياً فحسب، بغضّ النظر عن محتوياته الفكرية، وهو أمر قد اقتادَ الباحثين منذ القديم إلى طرح السؤال التقليدي الذي قد ابتذله الاستخدام، ونعني به السؤال القائل:( هل الفن للحياة، أم الفن للفن ؟ ) .

في تصوّرنا أنّ طرح مثل هذا السؤال خاطئ أساساً ؛ فليس من المعقول - مثلاً - أن يختلف اثنان في أنّ الحياة موظّفة للإنسان، يستثمرها لإشباع حاجاته المختلفة، سواء أكان ذلك ( فنّاً ) أم ( سلاحاً نارياً ) في ساحة المعركة... من هنا، فإنّ الفنّ المعاصر تجاوزَ طرح مثل هذا السؤال ؛ لمفروضيته في الذهن.

بَيْدَ أنّ الاختلاف في وجهات النظر ( ونقصد بذلك:الاتجاهات غير الإسلامية ) تبدأ من صعيد آخر، هو: تحديد نمط ( الوظيفة ) التي يضطلع ( الفن ) بها، ومن ثَمّ تحديد نمط ( الإشباع ) للحاجات. فهناك من الباحثين مَن يعالج الظاهرة من خلال المعيار الاجتماعي والفردي، فإذا تناولَ الشاعر أو القاص، مشكلة اقتصادية أو سياسية مثلاً، أو أيّة مشكلة تتصل بالهموم العامة للإنسان، يكون ( الفن ) حينئذٍ منتسباً ل- ( الحياة ). أمّا إذا عولِجت من الزاوية الفردية التي تحوم على هموم ( الذات )، يكون ( الفنّ ) حينئذ منتسباً ل- ( الفن ) وليس للحياة.

وهناك من الباحثين مَن يعالج الظاهرة من صعيد آخر، هو:الحاجات الأوَّليَّة والحاجات الثانوية. فإذا عالجَ القاص أو المسرحي أو الشاعر، قضية ذات صلة بحاجات الإنسان الرئيسة، مثل: مشكلة الجوع أو المرض، أو أيّة حاجة لا مناص من إشباعها، كان الفن حينئذٍ منتسباً ل- ( الحياة ). أمّا

٩

إذا تناولها من زاوية الحاجات الثانوية، مثل: الحاجة إلى الجمال ( كما لو تناولَ مشاهد الطبيعة )، كان الفن حينئذٍ منتسباً إلى ( الفن )...

وهناك اتجاه أرضي ثالث لا يصطنع أمثلة هذه الفوارق بين الحاجات الرئيسية والثانوية أو الاجتماعية والفردية، بل يجد أنّ ما يُصطلح عليه بالحاجة الفردية والثانوية، ينبغي أن ( تُشبع ) أيضاً مادامت تُمثّل ( حاجة ) من جانب، أو ما دامت هذه الحاجة تتخذ طابع ( الضرورة ) من جانب آخر، بخاصة أنّ شدائد الحياة تتطلب ( محطّات ) للترويح يتوقّف الإنسان عندها قليلاً لمواصلة نشاطه في الحياة...

وهناك اتجاه أرضي رابع لا يملك كلمة حاسمة في تحديد الموقف، حيث يجد صعوبة في التمييز بين مستويات الحاجة ؛ نظراً لتفاوت الشعوب والأجناس والأزمنة في تحديد ذلك...

وأيّاً كان الأمر، لا يَعيننا من التصوّرات الأرضية المذكورة إلاّ كونها قد انتبهت على أهمية ( توظيف الفن )، وهو أمر يتوافق مع الاتجاه الإسلامي في عملية ( التوظيف ) أو ( الالتزام )، إلاّ أنّ الفارق بين الاتجاهين ( الإسلامي والأرضي ) يبدأ من تحديد نمط ( الالتزام )، أو الخلفية الفكرية التي يرتكن إليها...

إنّ الأرضيين ( وهم في عزلة عن السماء ) لا يعونَ من الحياة إلاّ كونها مساحة محدّدة من العمر، لا ينبغي أن توظّف من أجل إشباع الحاجات العابرة للإنسان...

أمّا لماذا وجِد الكائن الآدمي، وما هي مهمته من الحياة، وما صلة ذلك بالمبدع، وباليوم الآخر... فأمر يجهله أدباء الأرض تماماً ؛ ممّا يضطرّهم إلى الصدور عن أمثلة الاتجاهات المشار إليها. ولعلّ أقصى وعي يمكن أن يحمله أمثال هؤلاء ( الملتزمين )، المنعزلين عن السماء، هو: أن ( يوظّف ) الفن من أجل الجماهير. إلاّ أنّ مثل هذا ( الالتزام ) المرتكن إلى خلفيات فلسفية منعزلة عن السماء، لا يمكن أن تُحقق هدفها الإنساني مادامت أساساً لا تملك وعياً بحقيقة الإنسان والمهمة العبادية التي خُلق من أجلها...

* * *

ومهما يكن، فإنّ الاتجاه الأرضي الملتزم بقضية الإنسان، إذا كان محكوماً بالمفارقة التي أشرنا إليها، فإنّ الاتجاهات غير الملتزمة تظل محكومة بمفارقات أكبر حجماً، بل إنّها تنحدر بقضايا الإنسان إلى أحطّ مستوياته، وهو ما يمكن ملاحظته في الاتجاه الذاهب إلى أنّ أهمية الفن تكمن في الصدق العاطفي الذي يصدر الفنان عنه، بغضّ النظر عن العنصر ( الأخلاقي ) الذي يتوافق أو يتنافر مع الصدق المذكور. فالمفروض في الفنان - في تصوّر هذا الاتجاه - أن يعبّر عن عاطفته بصدق وحرارة، حتى لو كانت هذه العاطفة نابعة من حاجات غير مشروعة.

والتسويغ الذي يُقدّمه هذا الاتجاه، قائم على جملة من التصوّرات لا تقرّها حتى الاتجاهات الأرضية الأخرى، فضلاً عن الاتجاه الإسلامي الذي يمتلك تصوّراً خاصاً حيال حاجات الإنسان وطرائق إشباعها.

١٠

من جملة المسوّغات التي يقدّمها الاتجاه الأرضي المذكور، هو:( نسبية ) القِيَم في مجتمعات الإنسان ، حيث تتفاوت هذه القيَم من مجتمع لآخر ؛ ممّا يصبح من غير المقبول مطالبة الفنان باصطناع موقف أخلاقي خاصّ، مادام كل مجتمع أو فرد له وجهة نظر معيّنة من الحياة، حيث إنّ اصطناع موقف خاص سوف يُعرّض الفنان لخسارة كبيرة، هي خسارة لقطّاع كبير من القرّاء الذين لا يتساوقون مع وجهة نظره في الحياة.

إسلامياً ( وحتى أرضياً ) لا يمكن إقرار مثل هذا المسوّغ الذي يقدّمه الاتجاه الفنّي المذكور... إنّ المتلقّي ( قارئاً، أم مستمعاً، أم مُشاهداً ) لا يكتسب قيمته عند السماء بمجرّد كونه ( متلقِّياً ) يبحث عن إشباع رغباته، بل إنّ قيمته تُحدّد بقدر إفادته من مبادئ السماء التي رسمتها له.

بكلمة جديدة : إنّ الالتزام الإسلامي في الفنّ لا يُعنى ب- ( الكم ) بقدر ما يُعنى ب- ( الكيف )، بمعنى أنّه لا يبحث عن الربح والخسارة في ( كم ) القرّاء، بقدر ما يُعنى بصياغة ( كيْفيَّتهم ) إسلامياً... ولعلّ إشارات النصوص القرآنية الكريمة إلى كون أكثر الناس: ( لا يعقلون )، ( لا يفقهون )، ( لا يعلمون )... إلخ، يُفسّر لنا هذا الجانب من الحقيقة.

طبيعياً لا يعني هذا أنّ الكاتب ينبغي أن يزهد بالمتلقّي بقدر ما يعني أنّ وظيفته تتحدّد وفقاً لمبادئ السماء، التي ينبغي أن يصدر عنها في عمله الفنّي.

إنّ عمله الفنّي ينتظمه بُعدان:

البُعد الأول : هو أن يُعنى الفنان بقارئه عناية بالغة، من خلال المهارة التي يتطلّبها العمل الفنّي، مراعياً بذلك طرائق الصياغة الفنية التي تحقّق عنصر ( الإثارة ) في القارئ.

أمّا البُعد الآخر: فيترتّب على نمط الاستجابة عند القارئ من حيث بنائه النفسي، وهو بناء قد تطبعه سمة ( السواء )، بحيث يستجيب للأفكار المطروحة في النص. وقد تطبعه سمة ( المرض ) أو ( الشذوذ )، فينسلخ عنها منصاعاً لرغباته الشاذّة...

ومن الطبيعي حينئذٍ ألاّ يُعنى الفنان بأمثلة هذا المتلقّي الأخير ؛ مادام أساساً يصدر عن استجابة منحرفة، وهو أمر قد شدّد عليه القرآن الكريم حينما رسمه مبدأ عاماً في عملية التوصيل، سواء أكان هذا التوصيل علمياً أم فنياً، حيث خاطبَ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومطلق المضطلعين بتوصيل رسالة السماء، بقوله تعالى:( إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) ،( وَمَا أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) ،( فَلَعَلّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى‏ آثَارِهِم إِن لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) ... إلخ، حيث تصح هذه النصوص وسواها عن وجهة النظر الإسلامية حيال المتلقّي وإسقاطه من الحساب...

والحقّ : أنّ العناية بالمتلقّي ومحاولة كسبه - في ضوء الاتجاه الأرضي المذكور - يظلّ أمراً غير عملي في ميدان التطبيق ؛ إذ إنّ الفنان سوف يحصر نشاطه في ظواهر محدودة تشترك الإنسانية فيها جميعاً، ممّا يُقلّص من دائرة ( الكم ) الذي يُعنى به، وهو أمر يتنافى أساساً مع المسوّغ الذي يقدّمه في هذا الصدد. هذا فضلاً عن أنّ أصحاب هذا الاتجاه لم يلتزموا عملياً بمبادئهم، حيث نجدهم يتناولون

١١

ظواهر مختلفة تتسم بطابع ( النسبية ) التي يرفضونها.

ولعلّ الاتجاه الأشدّ خطورة ضمن هذا المذهب الرافض للالتزام، هو: الاتجاه الذاهب إلى أنّ ( الصدق العاطفي ) يفرض على الفنان معالجة الظواهر حتى لو كانت غير مقبولة اجتماعياً، أي أنّه على العكس تماماً من الاتجاه القائل بنسبية الأخلاق فيما انتهينا توّاً من الإشارة إليه. إنّه اتجاه ذاهب إلى أنّ وظيفة الفنان تفرض عليه معالجة الجانب السلبي من السلوك، ليس بهدف تعديله، بل بصفته ( واقعاً ) لا مناص من الصدور عنه.

وقد نشطَ هذا الاتجاه منذ القرن الماضي على يد بعض القَصَصِيين والنقّاد في زحمة اكتشاف بعض الحقائق البيولوجية في حياة الإنسان، كما تبلورَ بوضوح في القرن الحالي بعد ظهور مدرسة التحليل النفسي، وتأكيد بعض أصحابها على الحياة اللاشعورية للإنسان، والمبالغة في إكسابها مدى كبيراً من الخطورة، بخاصة الميول الجنسية والعدوانية.

إنّ المفارقة التي ينطوي عليها هذا الاتجاه تكمن في تسويغه للحظات الضعف أو الخطأ الذي يصدر الإنسان عنه، فالسرقة مثلاً، أو العمل الجنسي غير المشروع، أو العربدة... إلخ، تظلّ - في تصوّر هذا الاتجاه - عملاً مشروعاً ما دام البناء النفسي للشخصية محكوماً بالطابع الفطري أو البيئي لها، ومن ثمّ فإنّ تسجيلها في عمل فنّي وتسويغها يكسب العمل المذكور طابع النجاح الفنّي لها.

ومهما يكن، فإنّ هدفنا من هذا العرض العابر للاتجاهات الأرضية بنمَطيها الملتزم وغير الملتزم: أن يخلص إلى تحديد معالم الالتزام الإسلامي وافتراقه من التصوّرات الأرضية، وهي تصوّرات لاحظنا مدى خبطها في تحديد وظيفة الفن، ثمّ انشطارها إلى تيار ( ملتزم ) ترفده خلفية فلسفية منعزلة عن السماء، وتيّار لا يُعنى بالفن إلاّ من خلال كونه وسيلة لإشباع الحس الجمالي الصرف عند الإنسان، حيث يكتسب العمل الفنّي قيمته من خلال البناء العماري للقصيدة أو المسرحية مثلاً، ومن خلال العنصر الصوري فيها، ومن خلال عنصر الإيقاع.... فهذه الجزئيات أو العناصر عندما تنتظم في شكل فنّي، تصبح هيكلاً هندسياً يبعث الإثارة عند المتلقّي، ويشبع حاجته إلى الإحساس بالجمال، يستوي في ذلك أن تكون الأفكار ( خيّرة أم شريرة ) في الشكل الفنّي المذكور.

طبيعياً أنّ هذه الاتجاهات بنمَطيها، لا تتوافق مع التصّور الإسلامي الذي ينطلق في ممارسته للفن من مفهوم عبادي خاص، هو: أنّ الإشباع الجمالي الصِّرف لا قيمة له ألبتة ما لم يقترن بهدف، كما أنّ الالتزام بهدف ينبغي أن يتحدّد وفق مبادئ الإسلام. وهذا يعني أنّ قضية ( الالتزام ) في الفن أمر مفروض منه، وأنّ السؤال الأرضي القائل بأنّ: ( هل الفن للحياة أم للفن ؟ )، لا معنى له في التصوّر الإسلامي ؛ مادام الفنّ ( وسائر أنماط الممارسات ) موظّفة من أجل تحقيق المهمة العبادية في الأرض.

إنّ ما ينبغي أن نقرّره بحسمٍ هو: ليس السؤال عن ( توظيف ) الفن، بل ينبغي استبداله بسؤال

١٢

آخر هو:

ما هي إمكانات ( الفن ) في تحقيق المهمة العبادية التي خلقتنا السماء من أجلها ؟ هل يمتلك ( الفن ) قدرات توصيلية ذات بال، بحيث يحقّق تأثيره المطلوب في الأعماق ؟ وما هي نسبة ذلك ؟

إنّه من الممكن أن يُقلّل البعض من أهمية الفن حتى يصل الأمر إلى تجاهله تماماً، كما قد يبالغ في إكسابه أهمية كبيرة حتى أنّه ليغامر بالقول إلى: أنّ الفن يستطيع أن يغيّر وجه التاريخ مثلاً.

إنّ كلاً من النظرتين:( إهمال الفن، أو المبالغة في أهميته ) ، قد يشكلان تفريطاً وإفراطاً إذا أخذناهما في نطاق الحياة العامة، لكنّهما قد يتّسمان بالصواب في ظل بعض الشروط الخاضعة لنسبية الزمان والمكان والجنس ونحو ذلك. بَيْدَ أنّ القول بأنّ ل-( الفن ) أهميته الخاصة - كما أشرنا إلى ذلك في الحقل الأول - في تعميق الهدف أو الدلالة التي نستهدف توصيلها إلى الآخرين... مثل هذا القول يظلّ صائباً دون أدنى شك، إلاّ أنّ أول ما ينبغي طرحه ( في الإجابة على أهمية الفنّ ) هو: هل أنّ الفن إنّما اكتسبَ أهميته لمجرّد كونه يعبّر ( بصدق ) عن الحقائق الإسلامية مثلاً، أم لكونه يعبّر عن الحقائق المذكورة وفق لغة خاصة متميزة عن الكلام العلمي أو العادي ؟

لا شك أنّ مجرّد كون الفن ( ومنه الشِعر مثلاً ) قد عبّر عن الحقائق الإسلامية ب- ( صدق )، هذا وحده كافٍ في تثمين القصيدة، إلاّ أنّ القصيدة ( في هذه الحالة ) لا تختلف عن أيّ كلام عادي آخر له تأثيره في كسب الجمهور إلى الصف الإسلامي: كما لو هتفَ متظاهر بسقوط الطغاة، أو كتبَ شعار على الجدران، أو كُتبت مقالة افتتاحية في إحدى الصحف.

فالهتاف والشعار وافتتاحية الصحيفة، لا تنطوي على أيّة خصائص فنية، بل إنّها مجرّد تعبير عن واقعة، أو موقف، أو حقيقة من حقائق الحياة. والأمر نفسه فيما يتصل بالقصيدة التي تعبّر عن القضية الإسلامية من دون أن تتوفّر فيها خصائص الفن، على نحو ما نلحظه مثلاً في ألفيّة ابن مالك، ومنظومات ( السبزواري ) و( الأعسم ) وغيرهم، ممّن شرحوا بعض الحقائق المتصلة بعلوم النحو والفلسفة وآداب المائدة.

ففي هذه ( المنظومات ) تقرير لحقائق لا تملك من الفن إلاّ فضيلة الوزن والقافية، إذ إنّ هدف الشخصيات المذكورة هو: تيسير حفظ هذه الحقائق ؛ لسببٍ واضح هو: أنّ الشِعر أيسر حفظاً من النثر، وإلاّ فإنّهم يعرفون قبل غيرهم أنّ خصائص فن الشعر غائبة تماماً عن منظوماتهم، بل إنّهم أساساً لا يعنيهم أيّ طابع فنّي بقدر ما يعنيهم أن يُيسّروا إيصال الحقائق إلى ذاكرة الحفّاظ.

إنّ إدراك مثل هذه الحقائق يدلّنا على أنّ القصيدة الخالية من خصائص الفن، لا علاقة لها بوظيفة الشعر ( من حيث كونه فنّاً )، بل إنّها تعبير عادي عن القضية الإسلامية، وحينئذٍ فإنّ تثمينها يقوم ( ليس على أنّها فنّ )، بل على أنّها مجرّد كلام لا يختلف عن الهتاف والشعار والمقالة الافتتاحية والمنظومة العلمية، طالما تفتقد جميعاً أهم عناصر الفن الذي أشرنا إلى أنّ ( التخيّل العاطفي ) هو

١٣

المجسّد لحقيقته في المقام الأول.

وفي مثل هذه الحالة لا يحقّ لنا أن نقول: إنّ للفن أهميته العظيمة في التعبير عن القضية الإسلامية، لا يحقّ لنا أن نسوق أمثلة هذا الحكم ؛ نظراً لعدم وجود ( الفن ) في هذه القصيدة حتى يمكن أن يقال عنها ( إنّها حقّقت أهمية )، بل إنّ أهميتها تنحصر في كونها قد عبّرت بصدق عن القضية الإسلامية.

وحينئذ نتساءل: ما هو المسوّغ لأن يُرهق الشاعر أعصابه في صياغة الوزن والقافية، حيث كان بمقدوره أن يصوغ الحقائق بحرّية كاملة من خلال النثر، دون أن يتقيّد بحواجز الوزن والقافية ؟

مع ذلك، لا يحقّ لنا أن نمنع مثل هذا الشاعر ( ونحن نطلق هذا الاسم عليه تجوّزاً ) من كتابة القصيدة المذكورة، كل ما في الأمر لا نطلق على ما كتبه مصطلح ( القصيدة )، بل نطلق على ذلك مصطلح ( المنظومة )، كما لا نطلق على كتابته مصطلح ( الفن )، ومن ثمّ لا نقول: إنّ الفن قد حقّق وظيفته الإسلامية ؛ لأنّنا لم نواجه ( فنّاً )، بل كلاماً عادياً.

من هنا، فإنّ تحديد وجهة نظر إسلامية خاصة حول الفن، لا يمكن أن ندرجها في نطاق تأمين مثل هذه القصائد، بل إذا أردنا أن نُحدّد تصوّراً إسلامياً خاصاً حيال الفن، حينئذٍ ينبغي أن نتّجه إلى الأشكال التي تحمل خصائص الفن فعلاً، وهو أمر يمكننا أن نستخلصه من خلال النصوص التطبيقية للفن من نحو: نصوص القرآن الكريم، ونهج البلاغة، والأدعية، والأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، كما أشرنا سابقاً.

١٤

الفنّ وعناصره:

العنصر التخيُّلي

قلنا: إنّ ( الفن ) يتميّز عن التعبير العلمي أو العادي بكونه يعتمد - في نقله أو كشفه للحقائق - عنصراً خارجياً، يمتزج مع الواقع وفق نمط خاص هو إحداث علاقة جديدة بين الأشياء، كالعلاقة التي لاحظناها بين ( الإنفاق ) و( الحبّة التي أنبتت سبع سنابل ).

إنّ إحداث مثل العلاقة يتضمّن مجموعة من العناصر، التي تشكل بمجموعها سمة ( الفن )، وهي عناصر قد يستقلّ بعضها عن الآخر حيناً، وقد تتداخل فيما بينها حيناً آخر. والمهم هو أن نقف عند هذه العناصر، ونبدأ ذلك بالحديث عن عنصر ( التخيّل ).

( العنصر التخيّلي ) - كما أشرنا - يُعدّ من أهم عناصر الفن، إن لم يكن العصب الرئيسي فيها، ويُقصد به - كما هو واضح -: ما يقابل عنصر ( الواقع ) بالنحو الذي تقدّم تفصيل الكلام فيه في الحقل الأول، إلاّ أنّنا هنا نستهدف عرض هذا العنصر من خلال خصائصه التي ينبغي أن يستخدمها الكاتب وفق المبادئ الإسلامية لها.

إنّ تصوّرات الأرضيين - أي الكُتّاب المنعزلين عن السماء - لعنصر ( التخيّل )، لا تُحدَّد في معايير خاصة بقدر ما تتجه إلى إحداث علاقة جديدة من الأشياء تُحقّق ( الإثارة ) للمتلقّي، بغضّ النظر عن كون هذه ( العلاقة ) خاضعة للإمكان أو الإحالة، للواقع أو الوهم، للصدق أو الكذب، بيمنا يختلف الأمر في التصوّر الإسلامي لهذا الجانب.

ويمكننا ملاحظة المعايير التي ينبغي أن يستند عنصر ( التخيّل ) لها، من خلال الركون إلى ( الفن التشريعي )، أي أنّ الفنان الإسلامي بمقدوره أن يستند إلى نصوص القرآن الكريم وأحاديث أهل البيتعليهم‌السلام في استخلاص المعايير، أو المبادئ إلى تحكم عنصر ( التخيّل ).

إنّ أول هذه المعايير هو:ارتكان عنصر ( التخيّل ) إلى ( الواقع ) ، سواء أكان هذا الواقع ( حسّياً )، أم ( نفسياً )، أم ( غيبياً )...

( فالواقع ) - وهذا ما يمكن رصده من جوهر معرفتنا بمبادئ الإسلام - إمّا أن يكون ( حسّياً ) يعتمد الحواس المعروفة من بصر وسمع ونحوهما، وإمّا أن يكون ( نفسياً ) يعتمد طبيعة الاستجابات التي نصدر عنها حيال حقيقة من الحقائق، بحيث تنعكس في واقع ( نفسي ) لا حقيقة له في الخارج ،

١٥

وإمّا أن يكون ( غيبياً ) لا يخضع لحواسّنا بقدر ما يخضع لتصوّراتنا الذهنية عنه، وهذا من نحو عوالم الغيب التي تُحدّثنا النصوص الإسلامية عنه. ولعلّ الاستشهاد بنماذج ( تشريعية )، ومقابلتها بالنماذج ( الأرضية )، يُلقي مزيداً من الإنارة على هذا الجانب من حيث افتراق كلّ من التصوّرين:الإسلامي والأرضي ، في هذا الصدد.

لقد شبّه أحد الشعراء الموروثين أحدهم بأنّه قد أخافَ أهل الشرك ببطولته، حتى إنّ النُطف التي لم تُخلق بعد قد طبعها (الخوف ) من ( الشخص ) المذكور.

إنّ عنصر ( التخيّل ) في الصورة الشعرية المذكورة، يقوم أساساً على عنصر ( وهمي ) كاذب، لا حقيقة له في كل من الواقع الحسّي، والنفسي، والغيبي...

أمّا( حسّياً ) ، فلا وجود للنُطف التي لم تُخلق بعد.

وأمّا( نفسياً ) ، فلا وجود لعالَم النفس عند النطفة حتى يمكن للنطفة أن تستجيب نفسياً. فنحن لو أحدثنا علاقة نفسية بين رجل ينفعل بالفرح الشديد مثلاً، وبين تجاوب الشجر والشمس والحيطان مع الرجل المذكور، لكانت هذه العلاقة (مقبولة) دون أدنى شك ؛ نظراً لوجود واقع نفسي هو: أنّ الرجل الذي يغمره فرح كبير يتحسّس فعلاً بأنّ الشجر والشمس والحيطان تشاركه الفرح.

صحيح أنّ هذه الظواهر لا حقيقة لفرحها في الواقع الطبيعي، إلاّ أنّ لها واقعاً في نفسية الرجل المذكور ؛ نظراً لكونه قد خلعَ أحاسيسه عليها، وهو أمر نحياه جميعاً في تجاربنا اليومية. وهذا بعكس النطفة التي لا وجود لها، فضلاً عن كونها ذات ( نفس ) تخلع أحاسيسها على الأشياء.

من هنا يُعدّ مثل هذا ( التخيّل ) فاسداً من وجهة النظر الإسلامية ؛ نظراً لكونه يعتمد ( الوهم ) و( الكذب )، وهما من الظواهر المنهيّ عنها إسلامياً ؛ بصفة أنّ الإسلام يطالبنا بأن نتعامل في سلوكنا مع الواقع وليس مع الوهم.

هنا قد يثار سؤال عن بعض الصور القرآنية، أو الصور التشريعية الأخرى التي تبدو وكأنّها لا تخضع بدورها إلى طابع حسّي أو نفسي، مثل: صورة ( الحجارة ) التي شبّه القرآن الكريم قلب الشخصية اليهودية بها في قوله تعالى:( فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) ، بصفة أنّ الحجارة لا تملك قلباً حتى توسم بالقساوة أو الليونة.

والحقّ أنّ الحجارة - وفقاً للمفهوم الإسلامي - تملك قدرات واعية، مثل التسبيح والخوف من الله، وهو أمر أوضحته النصوص القرآنية ذاتها عندما عقّبت على الصورة المذكورة بأنّ من الحجارة ما تتأثّر من خشية الله، وأنّ الوجود بأكمله - ومنه الحجارة طبعاً - يمارس عملية التسبيح:( وَإِن مِن شَيْ‏ءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِن لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ... ) ، وهذا يعني أنّ الصورة ارتكنت إلى ( الواقع ) وليس إلى ( وهم )، كما هو شأن الصورة الشعرية المشار إليها.

مضافاً إلى أنّنا لو نظرنا إلى الحجارة منعزلة عن الوعي المذكور، فإنّ تشبيه قساوة القلب بها يَحمل ( واقعاً نفسياً )، هو: إحساس الشخص بأنّ انعدام الشَفَقة عند الشخصية اليهودية يتماثل مع الحجارة في فقدانها لمسة الشفقة، أي أنّنا - بصفتنا أشخاصاً واعين -

١٦

نتحسّس نفسياً وجود صلة بين قساوة اليهودي والحجارة، بينا لا وجود للنطفة حتى تتحسّس بوجود مثل هذه الصلة.

إذاً في الحالتين: ( حالة وجود الوعي عند الحجارة، وحالة فقدانه )، هناك ( واقع نفسي ) عند المتلقّي، هو: تحسّسه بوجود التماثل بين طرَفي الصورة: ( اليهودي، والحجارة ).

والأمر نفسه يمكننا أن ننقله إلى النمط الثالث من ( الواقع الإسلامي )، ونعني به ( واقع الغيب ). فالصور القرآنية التي ترتكن إلى الواقع الغيبي، تبدو - في بعض مظاهرها - وكأنّها لا ترتكن إلى ما هو ( حسّي ) أو ( نفسي )، مثل: التشبيه الوارد عن شجرة الجحيم، وكون طلعها( كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ) ، فبالرغم من أنّ ( الشياطين ) ذات كيان ( واقعي )، إلاّ أنّ الكيان المذكور لم يشاهَد ( حسياً )، لكنّه ( نفسياً ) يخضع إلى ( الواقع ) الذهني، بصفة أنّ المتلقّي يملك تصوراً ذهنياً عن الشياطين، في صورة ( الأشباح ) التي نسجها في ذهنه، وهو نسيج له ( واقع غيبي ) ما دامت الشخصية الإسلامية مؤمنة بالواقع المذكور، لا أنّه واقع وهمي لا وجود له ألبتة.

إذاً - وللمرة الأخيرة - ثَمَّة فارق كبير بين عناصر ( التخيّل ) من النصوص الإسلامية وبين النصوص الأرضية، من حيث ركون الأُولى إلى واقع ( حسّي ) أو ( نفسي ) أو ( غيبي )، وركون الأخيرة إلى واقع ( وهمي ) لا أساس له في عالَم الحقائق المشار إليها، وهو أمر يقتادنا إلى أن نكرّر - من جديد - ضرورة إفادة الفنان الإسلامي من هذا الجانب في استخدامه لعنصر (التخيّل )، لا لكونه يُجسّد حقيقة فنية فحسب، بل لكونه ينعكس أساساً على سلوك الشخصية الإسلامية أيضاً.، فالشخصية - التي تتغذّى على التعامل مع ( الوهم ) - سوف ينعكس غذاؤها ( الوهمي ) المذكور على البناء النفسي العام لها، وهو ما يتنافى مع مبادئ الإسلام التي نحرص على تحقيق أفضل صيَغها وفقاً للوظيفة العبادية التي خُلقنا من أجلها أساساً.، ويمكن - كما أشرنا - للكاتب الإسلامي أن يقوم بعملية استقراء لجميع عناصر ( التخيّل ) في نصوص التشريع ؛ حتى يستخلص منها قاعدة فنية تميّزها عن قواعد الفن الأرضي، حتى يتفرّد للإسلام اتجاهه الفنّي الخاصّ به في هذا الميدان.

١٧

التخيّلُ والصورة

إنّ عنصر ( التخيّل ) يأخذ شكلاً معيّناً من العبارة وتركيبها، بمعنى أنّنا عندما نُحدِث ( علاقة ) بين شيئين، إنّما ننشئ في الواقع مرأى، أو مشهد، أو صورة خارجية أو ذهنية، تتكوّن من طرفين: طرف أول يتضمّن الشيء الذي نخلع عليه (العلاقة الجديدة ) مثل: ( القلب ) الذي نعتزم خلع صفة خاصة عليه، ثمّ طرف آخر مثل: ( الحجر ) المتضمّن صفة (القساوة ) التي أردنا خلعها على القلب. فهناك إذاً في كل عنصر تخيّلي طرفان يمتزج بعضهما بالآخر، لينبثق منهما شيء ثالث جديد لا يحمل خصّيصة أحدهما، بل يحمل خصّيصة متميزة لها استقلالها، تماماً مثل التركيب الكيميائي لمادّتين حيث تنبثق من التركيب مادة ثالثة جديدة.

إنّ عملية التركيب التخيّلي المذكور يُطلق عليه ( في اللغة الفنية الحديثة ) مصطلح( الصورة ) ، ولعلّ المصطلح البلاغي الموروث الذي يُطلق عليه اسم ( البيان ) مقابل ( المعاني ) و( البديع ) يجسّد مفهوم ( الصورة ) التي أشرنا إليها، حيث إنّ كلاً من: ( التشبيه ) و( الاستعارة ) و( الكناية ) وغيرها، تجسّد مفهوم ( الصورة ) بمعناها التركيبي المذكور.

والحقّ : أنّ كلاً من ( المعاني والبيان ) يتضمّن الكثير من أقسامهما عنصر ( الصورة ) أيضاً، إلاّ أنّ ( البيان ) يستقلّ في ذلك.

من هنا نجد أنّ مصطلح ( الصورة ) يظل عنصراً يختزل تلكُم التفصيلات التي تتضمّنها البلاغة القديمة، ففضلاً عن أنّ البلاغة القديمة تمثل مناخاً خاصاً لا يأتلف مع حياتنا المعاصرة ( وهو أمر نعالجه في مكان آخر من هذه الدراسة )، فإنّ تفصيلاتها المرهقة للأعصاب من الممكن الاستغناء عنها واستبدالها بلغة جديدة تنسجم ( ليس مع عصر الاقتصاد اللغوي فحسب )، بل مع واقع التصور الإسلامي لمفهوم ( البلاغة )، التي وصفها الإمام الصادقعليه‌السلام بأنّها تعبير عن دلالة عميقة بلغة مقتصدة.

المهم : أنّ مصطلح ( الصورة ) يظل هو المجسّد - كما قلنا - لعملية التركيب التخيّلي. ونظراً لأهمية هذا العنصر - وكونه ( السمة ) المميّزة للغة ( الفن )، وافتراقها عن لغة ( العلم ) أو التعبير العادي، ينبغي أن نُفرد له حقلاً مستقلاً نتحدّث من خلاله عن عناصر ( الصورة )، والمعايير التي ينبغي أن تحكمها لتكتسب صفة النجاح الفني، من خلال ركوننا إلى جوهر المبادئ

١٨

الإسلامية في تصورنا لعمليات الإدراك الذهني، ومن خلال ركوننا - كما كرّرنا - إلى النصوص الفنية التي نجدها في نصوص القرآن والحديث.

إنّ أول ما ينبغي التأكيد عليه هو : أنّ اللجوء لعنصر ( الصورة ) يظلّ مجرّد ( وسيلة ) لتعميق الدلالة ؛ لذلك لا نجد أنفسنا ملزَمين بالانسياق حتى مع المفهومات الحديثة للصورة ( فضلاً عن المفهومات البلاغية لها )، بل ننطلق من الإدراك الإسلامي للظواهر، حيث ( يوظّف ) كلّ شيء من أجل ( الهدف ) ؛ لذلك ليس ثَمّة معيار خاص لنجاح الصورة إلاّ بقدر ما تحقّق عنصر ( الإثارة الفنية )، أو ما أسميناه بتعميق الدلالة.

إنّ النقد الأدبي المعاصر يمتلك تصورات خاصة عن ( الصورة )، مثل كونها: تعتمد ( البُعد النفسي ) بدلاً من البُعد المادي مثلاً. ( التشبيه ) الذي يتضمّن طرفاه بُعداً ( حسّياً ) يُعدّ - في التصور النقدي الحديث - ظاهرة بدائية ؛ نظراً لأنّ البدائيين تبهرهم المظاهر الحسّية ويفتقرون إلى إدراك الدلالات المعنوية للشيء.

من هنا، فإنّ أحد طرَفي الصورة أو كليهما، إذا بُدّل بما هو ( نفسي )، يجعلها أشدّ قرباً من النجاح. كما أنّ ( الاستعارة ) تُعدّ أشدّ نجاحاً من ( التشبيه ) ؛ لأنّها تَحذف ( أداة التشبيه ) البدائية. و( الكناية ) تُعدّ أشدّ منهما نجاحاً ؛ لأنّها تحذف ( ليس أداة التشبيه ) فحسب، بل حتى طرَفي الصورة، وتتحوّل إلى ( رمز ) للشيء بدلاً من إدراك طرفين محدّدَين له. من هنا أيضاً يُعد ( الرمز ) أشدّ أشكال الصورة نجاحاً في العمل الفني في تصور النقد الأدبي الحديث.

أمّا إسلامياً، فلا نجد أنفسنا ملزَمين بهذا التصوّر بقدر ما ينبغي أن نعتمد التصوّر الإسلامي للفن، من خلال الوقوف على لغة القرآن والحديث من جانب، والإفادة من المعرفة النفسية الحديثة من جانب آخر، حيث إنّ المعرفة الأخيرة تحدّد لنا بوضوح: أنّ المهم هو تحقيق عنصر ( الإثارة ) بغضّ النظر عن بدائية الأداة الفنية أو حداثتها، إذ مَ الفائدة من استخدام (الرموز ) فحسب إذا كان استخدامها لا يحقق العنصر الإثاري، كما أنّه مَ الفائدة من استخدام ( البلاغة الموروثة ) إذا كان استخدامها قاصراً عن تحقيق عنصر ( الإثارة ) الفنية ؟!

الفائدة تتمثَّل في الركون إلى استخدام أيّة ( أداة ) فنية لتعميق الدلالة، وهو ما نلحظه بوضوح في لغة القرآن الكريم بخاصة، حيث نظفر بحصيلة ضخمة من النماذج التي تعتمد اللغة البلاغية حيناً، وتعتمد اللغة ( الرمزية ) حيناً آخر، حسب ما يستدعيه السياق، وهذا هو المعيار الإسلامي للفن فضلاً عن كونه يتّسق مع الإدراك العقلي السليم للظواهر.

وتأسيساً على ما تقدّم، نحاول الآن الوقوف على الأشكال المختلفة لعنصر ( الصورة )، من خلال الوقوف على النص القرآني الكريم بُغية استخلاص المبادئ الفنية لها، والإفادة منها في العمل الفني الإسلامي.

١٩

إنّ ( الصورة ) قد تكون ( مفردة ) تتألّف من ظاهرتين يُجمع بينهما لإحداث ظاهرة ثالثة، مثل صورة ( الكفّار ) وتشبيههم ب-( الأنعام )( إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ ) . وقد تكون ( متعددة ) تتألّف من مجموعة ( صور )، مثل:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ) ... إلخ، فهنا مجموعة من الصور ( المفردة ): (النور والمشكاة )، ( المصباح والزجاجة )، ( الزجاجة والكوكب الدرّي )... إلخ، إلاّ أنّ مجموع الصور يؤلِّف صورة واحدة.

والمهم : أنّ السياق هو الذي يحدّد نمط الصورة وكونها مفردة أو متعددة، كمثال الكفّار وتشبيههم بالأنعام، حيث إنّ الهدف هو إبراز التماثل بين الطرفين من خلال فقدان التميّز بينهما، وحينئذٍ يكفي اقتناص بُعد واحد يشتركان فيه. والأمر كذلك بالنسبة لتشبيه الحور - مثلاً - باللؤلؤ أو الياقوت ونحوهما ؛ حيث إنّ الهدف هو إبراز البُعد الجمالي للحور.

أمّا حين يستدعي الموقف تفصيلاً للشيء، فحينئذٍ يجيء المسوّغ الفني لتعدّد الصور، مثل الصورة المتعدّدة للنور ؛ حيث إنّ إبراز المعطيات المتنوّعة للنور وتعدّد أبعاده يفرض صوراً متعدّدة. والأمر كذلك بالنسبة لنماذج أخرى تتعدّد صورها، مثل: قضية ( الإنفاق )، حيث يُشبّه النص الإنفاق بالحبّة، الحبّة تنبت سبع سنابل، السنبلة تحمل مئة حبّة، ومثل: تشبيه قساوة اليهودي بالحجر، وأنّه أشدّ قسوة، وأنّ الحجر تتفجّر منه الأنهار... إلخ، فالإنفاق بصفته يستتبع تعويضاً دنيوياً وأخروياً من حيث مضاعفة ذلك ؛ فإنّ المضاعفة حينئذٍ تستدعي صوراً متعدّدة تتناسب مع عملية المضاعفة.

إذاً السياق أو الموقف هو الذي يحدّد نمط الصورة، سواء أكانت مفردة أم متعددة، وسواء أكانت متداخلة أو متتابعة، أو غير ذلك من أشكال التركيب الصوري الذي فصّلنا الحديث عن مستوياته في الحقل الأخير من هذه الدراسة، ونعني به الحقل المتصل بالفن التشريعي، حيث يحسن بالفنان الإسلامي الوقوف على المستويات المذكورة ؛ للإفادة منها في كتابة الفنّ الإسلامي الملتزم، وجعلها مبادئ ومعايير عامة لعنصر الصورة وطرائف صياغتها.

* * *

إنّ عنصر ( الصورة ) - بنحوها المتقدّم - يُستخدم عادة في العمل الشعري أو الخاطرة ونحوهما، وتضْؤُل نسبته أو تنعدم في الأعمال القصصية والمسرحية، حيث يُعوّض عنها بعنصر مباشر هو ما يمكن تسميته باللَقطة، أو المرأى، أو المشهد،...

والفارق بينالصورة غير المباشرة وبين الصورة المباشرة هي : أنّ الأُولى تعتمد عنصر الإحداث لعلاقة جديدة بين الأشياء مثل: ( العلاقة بين الحور واللؤلؤ ). أمّا الصورة المباشرة، فهي تتحدّث عن الواقع مباشرة، دون إحداث علاقة بين أطرافه، فعندما يتحدّث النص القرآني عن أقوام نوحعليه‌السلام ، وإلى أنّهم يضعون أصابعهم في آذانهم، ويضعون ثيابهم على وجوههم عندما يواجهون نوحاً... هذه الصورة ( وضع الثياب على الوجه، والأصابع في الأذان )، لا تقوم بإحداث أيّة علاقة جديدة بين مفردات الواقع، بل تنقل مفرداته بصورتها الواقعية...

٢٠

والمهم: أنّ نمط الشكل الفني من جانب ( القصيدة، القصة... إلخ )، ونمط الموقف، يفرض نمط صياغة الصورة وكونها ( رمزاً ) للواقع أو تعبيراً مباشراً عنه. ففي وصف جنّة السابقين في سورة ( الواقعة ) مثلاً، نجد أنّ الصورة - بنمطيها المباشر وغير المباشر - تأخذ صياغتها وفقاً لمتطلّبات الموقف، حيث يجيء وصف السُرر وكونها مَوْضُونة، والشرب من خلال الأباريق والكؤوس والأكواب وغير ذلك، ويجيء وصفه مباشراً ؛ نظراً لكون ( الواقع ) كذلك.

إلاّ أنّ النص ما أن يصل إلى ( الحور ) حتى يتجه إلى عنصر ( الصور ة غير المباشرة )، فيصوغ ( تشبيهاً ) بينها وبين اللؤلؤ المكنون ؛ نظراً لِما يتطلّبه الموقف من صياغة ( رمز )، لا ( واقع حسّي ) للحور، فثمّة قيمة أخلاقية لا تسمح للمتلقّي بأن يتعامل مع عنصر ( الجنس ) بنفس التعامل مع عنصر ( الطبيعة ) ؛ لأنّ الأخير موضع تعامل الجميع، بينا الأول موضع تعامل خاص ينحصر في الحياة الزوجية الخاصة، حيث يتطلَّب الموقف عدم الوصف المباشر من جانب ( وهو المسوّغ الفني للرمز )، وعدم تفصيلات ذلك من جانب آخر ( وهو المسوّغ الفني لكون الرمز يأخذ شكل الصورة المفردة وليس الصورة المتعدّدة ).

وأيَّاً كان، فإنّ ( الصورة ) بعامة تظلّ أداة من أدوات ( الفن ) المرتبطة بعنصر ( التخيّل )، ألا وهي: إحداث علاقة جديدة بين مفردات الواقع. وبالرغم من أنّ هناك أشكالاً، أو أدوات أخرى، ترتبط بعنصر ( التخيّل )، فيما نتحدّث عنها عند معالجتنا لأشكال الفن: ( مسرحية، قصة، خطبة، خاطرة... إلخ )، إلاّ أنّ هدفنا هنا هو: تبيين ( عناصر ) الفن العامة، حيث يجيء ( التخيّل ) في مقدّمتها، وحيث تجيء العناصر الأخرى متمّمة لماهية ( الفن ) من حيث عناصره، ومنه عنصر:

٢١

العنصرُ العاطفي

يُقصد ب-( العاطفة ) ما يقابِل( الفكر ) ، فالإدراك البشري يقوم على العنصرين المذكورَين أساساً، كلّ ما في الأمر أنّ النسبة العاطفية ينبغي أن تأخذ حجماً صغيراً من مساحة الاستجابة البشرية للأشياء. فإذا تلقّينا نبأً سعيداً أو مؤلماً مثلاً، ينبغي ألاّ نسمح للبُعد العاطفي أن يسيطر على استجابتنا، وفقاً للآية الكريمة التي تطالب بألاّ نأسى على ما فاتنا ولا نفرح بما أتانا...

طبيعياً أنّ العنصر ( العاطفي ) يفرض ضرورته في موقف مثل: عاطفة الأُبوّة والأمومة والبنوّة ونحوها، حتى إنّ الأُم - على سبيل المثال - لو لم تتضخّم عاطفتها حيال طفلها لمَا أمكنَ أن تتحمّل متاعبه... بَيْدَ أنّ ذلك كلّه - وفقاً للتصور الإسلامي - ينبغي ألاّ يتجاوز المنحني المتوسط للتعامل، فالمشرِّع الإسلامي يطالب الأبوين - مثلاً - ألاّ يُضخِّموا عواطفهم حيال الأولاد إذا لم يفلحوا في تعديل سلوكهم، مطالِباً إياهم أن يَكِلُوا أمرهم إلى الواقع.

إنّ مثل هذه المطالبة بتوكيل أمر الأولاد إلى الله، ولفت نظر الأبوين إلى أنّ سلوك أولادهم لو لم يكن مرضيّاً عند الله فلا حاجة إلى القلق حيالهم، وإذا كانوا مرشّحين إلى أن يصبحوا أسوياء ذات يوم، فإنّ أمرهم موكول إلى الله... ففي الحالتين يطالب الشرع الإسلامي الأبوين بعدم تصعيد عاطفتهما حيال الأولاد، مع أنّهم أشدّ المنبّهات إثارة لديهم...

لقد طالبَ الله إبراهيم بأن يتخلّى عن أبيه، وطالبَ نوحاً بأن يتخلّى عن ابنه، وأن يتّجها بمحبّتهما إلى الله بدلاً من الابن والأب، وهذا يعني أنّ التصعيد العاطفي بنَمطيه - المشروع وغير المشروع - محظور في التصوّر الإسلامي لعنصر ( العاطفة )، بل أشدّ المواقف إثارة، وهو فقدان القريب أباً أم ابناً مثلاً، يطالب المشرّع الإسلامي بعدم شقّ الجيب وخمش الوجه، وحتى بعدم مجرّد ضرب اليد على الجسم مثلاً عند المصيبة، وهو أمر يكشف بوضوح أنّ المبالغة العاطفية أمرٌ - كما أشرنا - محظور عند المشرّع الإسلامي...

إذا أدركنا هذه الحقيقة، عندئذٍ يمكننا أن نتعرّف حقيقة الاستجابة العاطفية حيال أشدّ المواقف إثارة... أمّا لو نقلنا الحقيقة إلى الاستجابات العادية للأشياء، لأمكننا ملاحظة أنّ الحظر العاطفي يأخذ شكلاً حادّاً عند المشرّع الإسلامي، فهو يمنع الغضب والغيبة والعدوان عموماً بصفتها تعبيرات عاطفية... كما يطالب بالعفو، والإحسان، والإنفاق ونحوها من الاستجابات التي

٢٢

تكظم الانفعال...

كل أولئك يكشف لنا أنّ ( التعبير العاطفي ) إذا اكتسبَ سمة المبالغة يظلّ مطبوعاً بالحظر، ومن ثمّ يظلّ مطبوعاً - في اللغة النفسية - بِسمِة المرض أو الشذوذ... وإذا كان الأمر كذلك، حينئذٍ فإنّ نقل هذه الحقيقة إلى ( العمل الفني ) لابدّ أن تأخذ نفس السمة المحظورة، بصفة أنّ الفن أحد أشكال الاستجابة البشرية حيال الأشياء.

بَيْدَ أنّ ثمّة فرقاً بين مطلق التعبير العاطفي - كما قلنا - وبين المبالغة فيه، فالعاطفة ما دامت تُشكّل أحد وجْهَي الاستجابة ( الفكر والعاطفة ) حينئذٍ لابدّ أن تأخذ نصيبها من العمل الفني أيضاً، مع ملاحظة أنّ أدواته من ( تخيّل ) و( إيقاع ) ونحوهما تساهم في التصعيد العاطفي، إلاّ أنّه في نطاق محدّد.

وبكلمة جديدة : إذا كان المشرّع الإسلامي يسمح - على سبيل المثال - بالتصعيد العاطفي في مواقف خاصة، مثل: عاطفة الأُم حيال طفلها الصغير، أو عاطفة الجندي في ساحة المعركة، أو عاطفة الشخص حيال قريبه، فإنّ ( العمل الفني ) يُعدّ واحداً من هذه المواقف التي يتصاعد من خلاله العنصر العاطفي لإحداثه إثارة خاصة عند المتلقّي.

فنقلُ الفنان لأحد مشاهد الطبيعة الجميلة، أو لأحدى المعارك العسكرية، أو التثمين لإحدى شخصيات المعصومينعليهم‌السلام مثلاً، عندما يقترن بالتصعيد العاطفي لها، حينئذٍ يكتسب صفة المشروعية دون أدنى شك ؛ لأنّ التصعيد المذكور يجعل التواصل مع الله تعالى من خلال مشاهد الطبيعة، أو المعارك الإسلامية، أو شخصيات المعصومينعليهم‌السلام ، أشدّ حجماً من الاستجابة العادية.

وثمّة فرق بين التصعيد العاطفي وبين المبالغة أو التورّم: فالأول تفرضه حقائق الواقع، والآخر يتسبّب عن شذوذ أو مرض، كما قلنا. في ضوء ما تقدّم يمكن القول: بأنّ ما يميّز العمل الفني عن غيره، هو تصعيد ( العنصر العاطفي ) فيه، دون الوقوع في المبالغة، إلاّ أنّ هذا التصعيد لا يطبع كلّ الأشكال الفنية، بل بعضها، بخاصة: (القصيدة)، بل أحد أشكالها فحسب، وهو ما يطلق عليه اسم( القصيدة الغنائية ) . ومثلها( الخطبة ) ، حيث يتطلب الموقف تحريك الجمهور واستثارة عواطفه.

كما أنّ القصيدة الغنائية - بصفتها تعبيراً عن حالة انفعالية لكاتبها - لابدّ أن تُطبع بالسمة العاطفية... وأمّا الأشكال التعبيرية الأخرى، من قصة ومسرحية ونحوهما، فإنّ العنصر العاطفي يضمر فيها وقد ينعدم أحياناً. ولكن من الممكن أن يتصاعد فيها العنصر العاطفي أيضاً تبعاً لمتطلّبات الموقف.

بعامة أنّ العنصر العاطفي يُشكل واحداً من شطرَي العملية الفنية: ( التخيّل، العاطفة )، حتى إنّه لا يكاد ينفصم أحدهما عن الآخر، فنحن عندما نصف بطلاً عسكرياً مثلاً بأنّه يهدر كالعاصفة في ساحة المعركة، إنّما نصدر عن عنصرَي: ( التخيّل والعاطفة ). أمّا عنصر التخيّل، فيتمثّل في إحداث علاقة بين البطل والعاصفة من خلال أداة التشبيه.

وأمّا عنصر العاطفة، فيتمثّل في كوننا قد انفعلنا حيال البطل حتى تصاعدَ انفعالنا إلى درجة التداعي إلى العاصفة، واستحضارها في الواقع النفسي لها، بل يمكن القول: بأنّ ( التخيّل ) هو الشكل الخارجي للفن، وأنّ ( العاطفة ) هي الشكل الداخلي له.

٢٣

وبكلمة جديدة : يمكن أن نستعير لغة خاصة فنقول: إنّ ( الفن ) يقوم على ( التخيّل العاطفي ) للأشياء، كلّ ما في الأمر أنّ ( التخيّل ) ينبغي أن يتسم بصفة الواقع النفسي أو الحسّي أو الغيبي كما تقدّمت الإشارة في حقل سابق. وإلى أنّ ( العاطفة ) ينبغي أن تضبطها سمة ( العقل )، بمعنى أنّه ينبغي ألاّ تطبعها سمة ( المبالغة ) كما قلنا ؛ انطلاقاً من التصوّر الإسلامي لعنصر ( العاطفة )، حيث تحدّثنا - قبل صفحات - عن مستوياته التي ينبغي أن يصدر الكاتب الإسلامي عنها.

وفي تصورنا أنّ مستوى التعبير العاطفي ونسبة استخدامه، يمكن أن نستخلصهما من التوصيات والنصوص الفنية: ( القرآن الكريم، النهج... إلخ ). أمّا التوصيات، فتحدّد لنا ( مستوى ) العاطفة. وأمّا النصوص الفنية، فتُحدّد الدرجة أو النسبة العاطفية. فلو قُدّر لنا أن نتأمّل أيّة سورة قرآنية كريمة ( عدا البعض الذي تتضخم أو تضمر فيه النسبة )، لأمكننا القول: بأنّ النسبة تأخذ حجماً صغيراً من مساحة السورة، بحيث لا تصل - في حالة تصاعدها - إلى درجة التكافؤ بينها وبين العنصر المباشر أو الفكر.

وهنا ينبغي لفت النظر إلى الفارقية بين النص القرآني الكريم وبين مطلق التعبير الفني البشري، فالنّص القرآني - بصفته كلام الله تعالى، وإلى أنّه تعالى ( منزّه ) عن التجسيم، حينئذٍ لا يمكن أن نتحدّث عنه من خلال المعايير البشرية، بل نستهدف الذهاب إلى أنّ الله تعالى ( يراعي ) الاستجابة البشرية، فيصاغ النص وفقاً لنسبة معيّنة من العنصر العاطفي الذي يستجيب القارئ حياله. ولذلك عندما نقول: إنّ ( العنصر العاطفي ) في النص القرآني يحتل نسبة صغيرة من مساحة النص، إنّما يُقصد بذلك: العنصر المتصل بانفعال الأشخاص حيال أحد المنبّهات التي يعرضها النص.

وبكلمة أخرى: ينبغي أن نضع فارقاً بين النص الفني الذي يأخذ استجابة الجمهور في الاعتبار، فيخاطبهم بقدر عقولهم ( فكراً وعاطفة )، وبين النص الفني الذي يصدر عن كاتبه، وذلك مثل القصيدة الغنائية، فهذه القصيدة ( تعبير عاطفي ) عن صاحبها، أي أنّ صاحبها ينفعل بأحد المواقف فيترجم انفعاله إلى قصيدة.

وأمّا القصيدة ( الموضوعية )، فلا تعبّر عن ( انفعال ) صاحبها، بل إنّ صاحبها يحاول أو يصوغ قصيدته وفقاً لانفعالات ( الآخرين )، أي أنّه يصوغها وفقاً لمعرفته بقوانين أو مبادئ الاستجابة البشرية للأشياء، وهذا ما يطبع النص القرآني الكريم الذي يخاطب المتلقّي وفق نسبة صغيرة من العواطف التي يصدر البشر عنها، بحيث يمكن القول في نهاية المطاف: إنّ العنصر العاطفي يظل - في المنحني المتوسط - بمثابة الملح للطعام أو الماء للنبت، مع مراعاة المواقف المختلفة التي تتصاعد أو تتضاءل النسب العاطفية فيها، تَبعاً للمتطلبات التي تُحدّد ذلك، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.

* * *

إنّ كلاً من عنصرَي: ( العاطفة ) و( التخيّل )، إذا كانا يجسّدان وجْهَي عملية ( الفن ) ؛ فلأنّهما - من جانب - يمكن أن يتّحدا في عملية واحدة، حيث قلنا بأنّ العاطفة هي البطانة الداخلية

٢٤

للعمل الفني، وأنّ التخيّل هو مظهره الخارجي المتمثّل في عنصر ( الصورة ). كما أنّهما - من جانب آخر - يمكن أن ينفصلا، كما لو عبّرنا انفعالياً عن أحد المواقف دون أن نرتكن إلى عنصر ( الصورة ) مثلاً، حيث يظل الانفعال أو العاطفة هو البطانة العامّة للعمل الفنّي.

والحقّ أنّ ( العاطفة ) من النادر أن تستقلّ في عمل فني بقدر ما تتوسل بأدوات أخرى مثل ( التخيّل )، الذي أوضحنا صلته بالعنصر العاطفي، ومثله أدوات أخرى يجيء في مقدّمتها عنصر:

٢٥

العنصرُ الإيقاعي

يُقصد ب-( الإيقاع ) : الأصوات التي تنتظم في شكل خاصّ من التعبير، بحيث يبتعث الإثارة والإمتاع والإحساس بالجمال عند المستمع. وبكلمة مبتذلة: يُقصد به ما يطلق عليه اسم ( الموسيقى ) في اللغة المألوفة.

إنّ الإيقاع يعدّ من أهم السمات التي تميّز ( الفن ) عن سواه، من حيث الشكل الخارجي له ؛ ولعلّ سرّ ذلك مرتبط بطبيعة التركيبية البشرية التي تقوم حركاتها وتعبيراتها على أساس من الانتظام في الحركة الجسمية، وفق العبارة المنطوقة.

وإذا كان ( الفن ) قائماً على أساس انفعالي أو عاطفي، فإنّ الإيقاع يظلّ واحداً من أشدّ الأشكال تعبيراً عنه، بصفة أنّ العاطفة تُستثار حينما تواجه ( منبّهاً ) يلّح على وجدان الشخص أو تركيبته النفسية، وهي تركيبة قائمة على أساس ( منتظم ) في الحركة والنطق كما أشرنا. ولعلّ الإثارة التي تبتعثها أناشيد الحماسة مثلاً، أو الخطب الخاصّة، أو القراءة المنغّمة والمرتّلة، تفسّر لنا صلة ذلك بالتركيبة البشرية المشار إليها.

من هنا، فإنّ النص القرآني الكريم أخذَ هذا الجانب الإرثي من الشخصية بنظر الاعتبار، حيث تحتشد عباراته بصنوف مختلفة من الإيقاع المدهش، كما تحتفظ بنسبة ضخمة جداً من العنصر المذكور إلى الدرجة التي تلفت الانتباه، حتى إنّنا لا نكاد نمرّ بسورة، أو مقطع، أو حتى الآية المفردة، إلاّ ونجدها ذات طابع إيقاعي خاصّ، وهو أمر يفسّر لنا أهمية هذا العنصر وضرورته التي لا مناص منها في العمل الفنّي.

طبيعياً ثمّة فوارق بين نمَطين من الإيقاع: أحدهما يتسم بالضرورة الفنية التي أشرنا إليها، بينا يتّسم النمط الآخر من الإيقاع بسمة معكوسة تماماً، أي الحظر التشريعي له، حتى ليصل ذلك إلى درجة الحرمة وليس مجرّد الكراهة ( وهو أمر نتحدّث عنه مفصّلاً، عند معالجتنا لظاهرة الغناء التي حرّمها المشرّع الإسلامي تحريماً قاطعاً ).

المهم : أنّ النمط المتَّسم بالضرورة الفنية، يمكن - في ضوء النصوص الفنية التشريعية - استخلاص مبادئه أو أشكاله متمثِّلة في: جرس العبارة، التجانس، التوازن.

ونقصد ب- ( الجرس ): طبيعة الحروف التي تتنظم في كلمة ( بما أنّها منطوقة )، وتأخذ سياقاً خاصاً

٢٦

في مجموع الكلمات.

ونقصد ب-( التجانس ) : تماثل الأصوات بين المجموع المشار إليه، أي تماثل صوت الكلمة الواحدة مع الأخرى.

وأمّا( التوازن ) : فنقصد به خضوع الأصوات لنظام صوتي متكرّر موحّد، مثل أوزان الشعر، ومثل العبارة الخاضعة لنمط موزون.

وهناك نمط رابع من ( الإيقاع ) يُطلق عليه في اللغة الفنية اسم( الإيقاع الداخلي ) ، ويُقصد به تجانس الأصوات مع دلالة العبارة.

إنّ هذه الأشكال الأربعة من ( الإيقاع ) يمكن استخلاصها بوضوح من النصّ القرآني الكريم، والنصوص الواردة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته (ع)، ومن ثمّ يمكن الإفادة منها في استخلاص مبادئ عامّة في التصوّر الإسلامي لظاهرة ( الإيقاع )، واستثمار ذلك في العمل الفنّي الإسلامي.

إنّ ما نستهدفه - في الحديث عن الإيقاع - هو: الإفادة من العنصر المذكور في إكساب العمل الفني بُعداً جمالياً يساهم في شدّ المتلقّي نحو هذا العمل. كلّ ما في الأمر أنّ استخدام هذا العنصر ينبغي أن يتمّ وفقاً للمزاج الذي يطبع عصر الفنان.

فالسجع - على سبيل المثال - لا يأتلف مع الحياة المعاصرة، التي هَجرت ذلك التراث المسجوع الذي أفرزته القرون الغابرة مطبوعاً بسمة التكلّف، وهي سمة فرضها انغلاق التيار الثقافي عصرئذٍ، على الضدّ من العصر الحديث الذي ألِفَ مختلف التيارات، ممّا جعلهُ يُؤثر التلقائية والسهولة والوضوح بدلاً من التكلّف والالتواء.

إنّ الكاتب الحديث قد يلجأ إلى العمارة المسجوعة، إلاّ أنّ ذلك يتم في موقع أو موقعين من مساحة النص مثلاً، مع انسيابية ملحوظة وإحكام في العبارة... هذه الانسيابية ذاتها تنسحب على الأشكال والمستويات الإيقاعية الأخرى من حيث: ( جرس ) الكلمة، و( تجانس ) الأصوات، و( توازن ) الجُمل، أو التعديلات، أو الأسطر الشعرية.

المهم أنّ مراعاة المناخ الثقافي تفرض على الفنان الإسلامي أن ينتخب من الإيقاع ما يتوافق مع المناخ المذكور، وهو أمر لعلّه يفسّر لنا سرّ التنوّع والتفاوت الملحوظَين في النصوص التشريعية - في مقدّمتها نصوص القرآن الكريم - حيث لا ينحصر عنصر الإيقاع في عبارات مسجوعة أو مرسلة، بل يراوح بينهما حيناً، ويؤثر أحدهما على الآخر حيناً آخر، حسب ما يقتضيه السياق، فضلاً عن أنّ التنوّع في ذلك يدع كلّ عصر يتجاذب فنياً مع النوع الإيقاعي الملائم له.

وإذا كان الإيقاع المتصل بما أسميناه ب- ( التوازن ) يخضع لنسبية العصر الذي ينتمي الفنان إليه، مثل انتخابه للإيقاع العمودي أو الحرّ أو النثري ( في مجال القصيدة )، ومثل: انتخابه للإرسال أو السجع، أو انتخابه للجملة المتوازنة مع أختها، أو المتحرّرة من ذلك ( في مجال النثر )، إلاّ أنّ الأشكال الإيقاعية الأخرى تظل مطلقة غير خاضعة لنسبية العصر ؛ بصفة أنّ ( جرس ) الكلمة، و( تجانس ) الأصوات، وتجاوب الدلالة الفكرية مع الإيقاع اللفظي لها ( أي الإيقاع الداخلي )، أولئك

٢٧

جميعاً تظل من السمات المشتركة للفن، بحيث إنّ الانسلاخ عنها يُفقد العمل الفني جماليّته التي تميّزه عن الكلام العادي أو العلمي.

٢٨

العنصرُ البنائي

إنّ كلاً من عناصر: ( التخيّل ) و( الانفعال ) و( الإيقاع )، لا يأخذ أهميته إلاّ من خلال انصبابه في هيكل موحّد، تتلاحم أجزاؤه وتتفاعل بعضاً مع الآخر، بحيث يمكن القول بأنّ: ( الموضوع ) - أو ( الأفكار ) الإسلامية المصاغة وفق عناصر التخيّل والانفعال والإيقاع - يبدأ من خط معيّن وينتهي إلى خط نهائي، تتواشج جزئياته على نحو ما نلحظه في الخطوط الهندسية التي تنتظم عمارة فخمة تبتعث الدهشة بناءً وجماليّة.

إنّ المواد الأولية للعمارة تتمثَّل في ( العناصر ) المشار إليها، مضافاً إلى عنصر ( اللغة ) التي أهملنا الحديث عنها ؛ نظراً لوضوحها في الأذهان من حيث كونها ( الأداة ) التي تتم من خلالها عملية ( البناء )، وهي أداة تعتمد الوضوح والإحكام والجمالية في صياغتها.

طبيعياً ينبغي أن نفرز بين نمطين من البناء: بناء الموضوع من حيث جزئياته ( الفكرية )، وبناء العناصر المشار إليها من حيث اندماجها وتوحّدها في الموضوع المذكور. فالموضوعات تتنامى أجزاؤها وتتلاقى بالنحو الذي تتنامى من خلاله عروق الشجر وأغصانه وأوراقه وثماره، ثمّ تتلاقى وتتجانس، وتتقابل فيما بينها عِبر عملية النمو من جانب، وحصيلته من جانب آخر.

كما أنّ عناصر: التخيّل والانفعال والإيقاع ( تندمج ) ضمن عمليّة النّمو المذكورة، لتَهبها: ( لوناً ) و( حركة ) و(رائحة) لا ينفصل أحدها عن الآخر، كما لا تنفصل جميعاً عن أصولها المذكورة.

طبيعياً أيضاً أنّ عمليات التنامي والتجانس والتقابل، قد تخضع للزمن الموضوعي ( أي التسلسل التاريخي للحَدث أو الموقف الذي يعالجه النصّ الفني )، وقد تخضع للزمن النفسي ( أي عمليات التداعي الذهني واستطراداته وتوجّهاته )، حيث يفرض الموقف نمط النمو العضوي الذي يُنتجه الفنان من حيث كونه نموّاً تاريخياً أو نفسي.

المهم أنّ مطالبة الملتزم الإسلامي بتحقيق هذه الوظيفة النمائية لعمله الفنّي، إنّما تنطلق من طبيعة النصوص الشرعية التي روعيَ فيها جانب البناء العِمَاري بنحو ملحوظ، وفي مقدّمتها نصوص القرآن الكريم. فالسِّور القرآنية جميعاً - بدءاً من أصغرها حجماً إلى أكبرها حجماً - ينتظم كلاً منها بناء خاص ( بنمطيه الزمني والنفسي )، سواء أكانت موضوعاتها ( موحّدة ) كما هو شأن غالبية السور

٢٩

القصار، أو كانت ( متنوّعة ) تتضمّن عشرات الموضوعات المختلفة كما هو طابع السور الكبار، حيث يخضع الموضوع الواحد لعملية ( تنام ) لجزئياته، وحيث تخضع الموضوعات المتنوّعة لنفس ( التنامي )، بعد أن تكون هذه الموضوعات إمّا منصبّة في ( محور ) فكري واحد تحوم عليه، أو مَحاوِر متنوّعة تتلاقى عندها، أو تتقابل عندها، لتشكل في النهاية خطوطاً متوازية أو متجانسة، وبما أنّ هذه الدراسة خَصّصت الحقل الأخير منها لمعالجة النصوص الشرعية ( ومنها: الجانب العماري للسورة أو الحديث )، حينئذٍ نُحيل القارئ إلى ملاحظة الحقل المذكور.

بَيْد أنّ ما تجدر ملاحظته هنا أنّ عملية ( البناء ) الفني، فضلاً عن أنّ مسوّغاتها الشرعية هي التي تفسّر لنا السرّ الكامن وراء مطالبة الكاتب الإسلامي بالتوفّر على هذا الجانب، إلاّ أنّه - إلى جانب ذلك - يمكن التدليل فنياً على أهميته البناء ؛ من خلال إدراكنا بأنّ وظيفة العمل الفني هي إحداث الإثارة في النفوس بغية تعديل السلوك العبادي للشخصية، حينئذٍ فإنّ استخدام أشدّ الوسائل عمقاً في التأثير يظلّ هو الهدف الذي يرصده الكاتب عادة.

ومن البيّن أنّ الإدراك البشري ( وهو ما فصّلتْ الحديث عنه إحدى مدارس علم النفس الحديث - الاتجاه - الشكلي ) يستجيب فطرياً ل- ( الكل ) وليس ل- ( الجزء ) المنفصل عنه، بمعنى أنّ استجابته للكل، أو ميله إلى ( تكملة ) ذلك في حالة التفكّك أو الخلل، تظلّ أشدّ تحقيقاً لعنصر ( الإثارة ) المطلوبة.

إنّ القارئ لأيّة سورة قرآنية يحسّ، في حالة كونه جاداً ومتفاعلاً مع دلالاتها، بأنّ أثراً معيّناً قد تركته السورة في مجملها، دون أن يعي الأسرار الفنية وراء ذلك. علماً بأنّ ( الأثر ) المشار إليه يظل - في أحد مصاديقه أو في مقدّمتها - مرتبطاً بطبيعة ( الهيكل ) العام ( الكلّي )، بما تنتظمه من مواد وعناصر وطرائق تعبيرية تأخذ منحنيات الاستجابة البشرية بمختلف أشكالها بنظر الاعتبار، وهو أمر لا يتحقَّق بنحوه المطلوب، في حالة انفراط الأجزاء أو استقلالها، بل في تواشجها بعضاً مع الآخر على النحو الذي تقدّمت الإشارة إليه.

٣٠

الفنّ وأشكاله...

الشِّعر:

تاريخياً يظلّ ( الشِعر ) أسبق الفنون اللفظية ظهوراً، بصفته - من حيث الدلالة النفسية للسلوك البشري بعامّة - تعبيراً عن نظام عصبي قائم على الاستجابة ( الموزونة ) للظواهر، فعملية ( التنفّس ) مثلاً، و( المشي )، وسائر النشاط الحركي، تظل ذات بُعد ( إيقاعي ) ملحوظ، لكل مَن حاولَ رصد السلوك الحركي للإنسان. من هنا، فإنّ المسوّغ إلى التماس تعبير عن حاجة ذات أصل ( حيوي )، يبرز قبل سواه من أشكال التعبير التي يَضْؤل ارتباطها بالأصول البيولوجية.

ويقول بعض مؤرّخي الفن - عِبر محاولاتهم تحديد نشأة الشِعر -: إنّ أول عملية إيقاعية وجِدت لها تعبيراً حركياً في نشاط الإنسان، هي: ( الدَّبْكَة )، ثمّ تطوّرت هذه العملية - وهي شاذّة في تصوّرنا الإسلامي - إلى نمط آخر من النشاط - وهذا أشدّ شذوذاً من سابقه - هو: الرقص.

وقد حاول المؤرّخون أن يربطوا بين شكلَي الإيقاع: ( الوزن، والقافية )، وبين الأنماط ( الحركية )، التي سبقت ظاهرة الشِعر بأشكال متنوّعة من مختلف مراحل التاريخ.

إنّ أمثلة هذا التفسير من الممكن أن تتسم بالصواب ولو بالقدر الضئيل منه، من حيث تحديدها لنشأة الشعر وجذوره الأُولى، إلاّ أنّها مؤشر إلى كون ( الإيقاع ) قد أُسيء استخدامه حينما استُثمر في نشاط شاذ مثل: الدبكة، أو الرقص. بَيْد أنّ أمثلة هذا التفسير التاريخي تبقى - من جانب - مرتبطة بالتفسير الأسطوري ل- ( أصل الأنواع ) وتطوّرها المزعوم، حيث انسحب تفسير هؤلاء المؤرِّخين لأصل الإنسان على تفسيرهم لأصل ( الفن ) أيضاً ؛ وذلك من خلال إخضاعهم مختلف الفنون ( من: شعر، وخطابة، ورواية، ومسرحية إلخ ) لنفس خطوات التطوّر الأسطوري.

والحقّ إنّنا لا نجد أنفسنا بحاجة إلى مناقشة أمثلة هذا التفسير الذي ابتُذل طوال ما يقرب من القرنين، مادام الزمن قد تجاوزه، ومادام أنصار النظرية المشار إليها يقرّون بكونها ( مذهباً عقلياً ) وليس ممارسة ( تجريبية )، ومادام - وهذا هو المعيار المهم - مضاداً للتصور الإسلامي حيال الأصل الإنساني والفني.

٣١

إنّ ما نعتزم توضيحه الآن هو أنّ الحركة ( الإيقاعية ) - بعامة - لا غبار عليها. كل ما في الأمر أنّ المشرّع الإسلامي أفرزَ نمطين منها: أحدهما يتصل بالاستجابة ( السوية ) للإيقاع، والآخر يتَّصل بالاستجابة ( الشاذّة ) حياله، فأقرّ النمط الأول منه وحرّم النمط الآخر.

إنّ قضية ( الإيقاع ) لا تنحصر في كونها مجرّد ( تنظيم ) صوتي، بل في طريقة ( التنظيم ) ذاته، من حيث صلتها بطبيعة استجابتنا العصبية حياله، وفقاً لِما هو ( سويّ ) أو ( شاذ ) من الاستجابة، وهو أمر نفصّل الحديث عنه عند معالجتنا لظاهرة ( الأغنية ) بعد قليل، إلاّ أنّنا هنا نعتزم مجرّد الإشارة إلى ( الإيقاع ) من حيث ارتباط الشعر به، مضافاً إلى ارتباطه بالعنصر ( العاطفي ) أيضاً، حيث يظل ( الإيقاع والانفعال ) في مقدّمة هذا الضرب من الفن، وهو أمر يستوقفنا لاستشفاف وجهة النظر الإسلامية حيال الفن المذكور.

من حيث البُعد التاريخي يبقى الشِعر - كما نعرف جميعاً - يحتلّ من آداب اللغة العربية مساحة كبيرة منه، بل هو ( ديوان ) هذه اللغة وسجلّ تاريخها، حتى إنّ القصيدة أو البيت - كما قيل - يُقعِد قبيلة ويقيم أخرى، ويُغيّر شريحة من شرائح التاريخ أيضاً.

وجاء الإسلام فأقرّ هذا الشكل الفني، بل شجّعه وثمّن مواقف الشعراء، ووعَدَ بالثواب، ومَنَحَ الهدايا، وأشار إلى تأثيره السحري في النفوس ؛... بَيْد أنّ الملاحظ أنّ الإسلام - في الآن ذاته - وقف ( متحفّظاً ) حيال الشعر، وهذا أمر يستوقف الباحث حقّ.

من الممكن أن يجيب البعض بسهولة: بأنّ الطائفة الأُولى من النصوص، أو الأفعال المثمّنة للشِعر، ناظرة إلى ( الشِعر الملتزم ) منه، وأنّ الطائفة المانعة عنه ناظرة إلى الشعر المنحرف مثلاً. بَيْد أنّه يمكن القول بأنّ قضيَّتَي الالتزام أو الانحراف لا تنحصران في فنّ الشعر فحسب، بل تنسحبان على مطلق الفنون ( الخطبة، الخاطرة، المقالة... إلخ ) فلماذا يتجه المنع أو الندب إلى الشِعر فحسب ؟

يضاف إلى ذلك: أنّ هناك طائفة ثالثة من النصوص ( تتحفّظ ) حتى حيال الشعر الملتزم إسلامياً، حيث تمنع من إنشاده في أزمنة وأمكنة خاصة، كما أنّ تنزّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك من خلال الآية الكريمة التي تقرّر بأنّه ( لا ينبغي له )، يعزِّز ( التحفّظ ) المذكور ؛ ممّا يعني أنّ هناك ( سرّاً ) وراء ممارسة الشعر مقترناً بما هو سلبي من السلوك، المصاحب للممارسة المذكورة.

إنّ المعنيّين بشئون الفن والتفسير والفقه، يحاولون تقديم أكثر من وجهة نظر في هذا الصدد، فنجد مَن يذهب إلى ( كراهة) الشعر جميعاً بين الأحاديث. ونجد مَن ينقل الظاهرة إلى إطارها التاريخي، فيحدّد المنع بما اقترن في الشِعر من الرقص والغناء ونحوهما. ونجد مَن قَرَنه بالتصوّرات التي كانت تُغلِّف المجتمع الإسلامي عصرئذٍ، في ذهابها إلى أنّ ( جنِّيَّاً ) يتكفّل بممارسة هذه المهمة على نحو ما هو مألوف في الأساطير الإغريقية عن ( أبولو ) مثلاً.

وفي هذا الاتجاه مَن يربط بين الكاهن والساحر والشاعر... إلخ.

٣٢

وفي تصوّرنا أنّ هذه الأسباب مجتمعة ساهمت في ظاهرة ( التحفّظ ) الإسلامي حيال الشعر. بَيْد أنّ الأهم من ذلك هو: أنّ ارتكان الشعر أساساً إلى كونه استجابة ( انفعالية ) خارجة عن حدّ الاعتدال ؛ هو الأمر الذي يمكن أن نلتمسه تفسيراً للموقف الإسلامي ( المتحفّظ ) حيال الشعر.

إنّ تعامل أهل البيت (ع) في حقل ( الفن التشريعي )، أو في حقل الحياة العامة، يقتادنا إلى القناعة بأنّ مباركتهم للشعر، أو استشهادهم به، أو حتى إنشادهم أحياناً، يظلّ ناظراً إلى الشعر ( ليس من حيث كونه فنّاً )، بل من حيث كونه مجرّد أداة في التعبير عن الحقائق يتطلَّبها الموقف العابر، وإلاّ متى كانت ( الأراجيز ) - في المعارك مثلاً - تتوفَّر على صياغة خاصة تتطلبها التقنية الفنية ومعاييرها التي يرسمها نقّاد الشعر عصرئذٍ.

كما أنّ تعاملهم مع أكثر من شاعر، كان متّسماً بعدم إكساب الصوت أو الصورة أهمية ذات بال، بل إنّ أحد المواقف التي استشهد بها المعصوم (ع) ببيت شِعري ذات يوم لم يعنَ فيه بالوزن، حملَ أحد الأشخاص على أن ينتقد المعصوم (ع)، فأجابه (ع) بأنّه لا يعنيه ( الوزن )، بل تعنيه ( الدلالة ).

كما أنّ تعقيباتهم على قصائد الشعراء كانت منحصرة في ( الدلالة )، حيث طالبوا بتغيير بعض الأفكار، وطالبوا بإضافة أفكار أخرى، دون أن يتعرّضوا للجانب الفني من ذلك.

إنّ أمثلة هذه المواقف من أهل البيت تُعدّ مؤشراً واضحاً إلى أنّ تمثّلهم بالأبيات أو استماعهم أو تقويمهم، إنّما كان منصبّاً على القيَم الفكرية للشعر، وليس على قِيَمه الجمالية: من بُعد عاطفي أو تخيّلي أو إيقاعي، وهذا على العكس من عنايتهم (ع) بالصياغة النثرية، بخاصة صياغة ( الخطبة )، حيث نلحظ الفارق الكبير بين ( الخُطب ) التي توفّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الأئمة (ع) على صِناعتها، وبين الشعر.

إنّ أبسط مقارنة - على سبيل المثال - بين خُطب نهج البلاغة وبين الشعر الذي أشرنا إلى تمثّلاتهم (ع) به، يدلّنا على مدى الفارقية الكبيرة بين نهج البلاغة من حيث قِيَمه الجمالية، وبين الشعر المشار إليه في افتقاده للقيَم المذكورة.

على أنّ عدم توفّر المعصومين (ع) على كتابة الشعر - بالقياس إلى النثر الفني - ينبغي ألاّ نحصره في كون ( النثر ) أيسر توصيلاً إلى الأذهان فحسب، بل نتجاوزه إلى أنّ الشعر، بصفته عملية ( انفعالية ) لا تتسم مع النضج الإنساني، هو المفسّر لغيابه عن ممارسات المعصوم (ع).

وقد سبق أن أوضحنا عند حديثنا عن عنصرَي ( التخيّل ) أو ( العاطفة )، كيف أنّ عدم مراعاتهما، من حيث الصلة ب- ( الواقع )، يفسد عمل الفن، ونضيف الآن: أنّ التركيبة النفسية للشاعر، وهو متميّز عن غيره بكونه يرث جهازاً فطرياً من الحسّ الإيقاعي يفتقده العادي من الناس، مصحوبة عادة باستجابة خاصة، هي: التعامل الإيقاعي والصوري مع الآخرين أيضاً، وليس مع التجربة الشعرية فحسب، ومثل هذا التعامل لا يتناسق مع ما ينبغي أن

٣٣

تسلكه الشخصية الإسلامية من النضج الانفعالي في ممارساتها.

ومن الواضح أنّ الشخصية بقدر ما تسمح لجهازها الوراثي - وهو الحسّ الإيقاعي المتضخّم عند الشاعر - بالتحرّك وبممارسة هذا النشاط، يتضخّم الحسّ المذكور لديها، بحيث يسحب آثاره على استجابته الانفعالية حيال مطلق الظواهر.

من هنا ينبغي أن نضع فارقاً بين شاعر يصبّ جميع اهتماماته في تجربة الشعر، وبين آخر يستثمر الحسّ الإيقاعي لديه في تجارب شعرية محدودة، يمليها موقف عابر أو ضروري، كما لو افترضنا ذلك متمثِّلاً في دخوله لساحة القتال ( أراجيز وأناشيد عسكرية مثلاً )، أو تحريضه الجمهور عبر قضية مصيرية، أو استثارته للنفوس خلال تعبيره عن ضخامة الشدائد التي واجهها أهل البيت (ع).. إلخ.

إنّ أمثلة هذه المواقف تتطلّب التجربة الشعرية دون أدنى شك، إلاّ أنّها تتَّسم بكونها ( استثناء ) وليس ( قاعدة )، مع ملاحظة أنّ الاستثناء لا غبار عليه، بل قد يصبح ضرورياً. وبالمقابل فإنّ سلخ الاستثناء من طابعه، وجعله سلوكاً عاماً، يُفضي إلى وقوع الشخصية في وهدة الانحراف على تفاوت درجته.

وأيّاً كان الأمر، ففي ضوء الطابع الاستثنائي المذكور يمكن تفسير الموقف التشريعي حيال الشعر، من حيث مباركة المعصومين (ع) لبعض الشعراء، وإنشادهم للشعر، واستشهادهم به.

٣٤

الشِعرُ والأُغنية

أشرنا إلى أنّ الشعر - تاريخياً - قد اقترن بظاهرة ( الغناء ) وغيره من الممارسات اللفظية والحركية التي رافقت الإنسان. وبما أنّ المشرّع الإسلامي قد حكمَ على ( الغناء ) بالحرمة ( وهي أعلى درجات الحظر )، حينئذٍ يتعيّن علينا الوقوف عند هذه الظاهرة ومعالجتها تفصيلاً، بخاصة أنّها تقترن - في تصوّر المنعزلين عن السماء - بإمتاع وتقبّل يسوِّغان مشروعية هذه الممارسة، وتجاوز ذلك إلى الزعم بفائدتها الملحوظة مثلاً.

طبيعياً ينبغي ملاحظة الفارق أولاً بين الشعر والغناء، فبالرغم من أنّ كليهما يخضعان لتنظيم صوتي وفق ( وحدات ) خاصّة، إلاّ أنّ عملية ( التقطيع ) للوحدات الصوتية المذكورة هي التي تفرز حدود كلّ منهما.

إنّ ( الشعر ): تنظيم صوتي يتألّف من وحدات لا يخلو تنظيمها من أحد شكلين، من الممكن أن يتمايزا إذا أخذنا بنظر الاعتبار بعض الفوارق بين الشعر العربي مثلاً وبين بعض أنماط الشعر الأُوربي، وهذان الشكلان هما: ( التفعيلة ) و( المقطع )، حيث يظلّ الأخير منهما جزء من التفعيلة، كما هو مقرّر في المبادئ العروضية.

ف- ( المقطع ): عيّنة مفردة، و( التفعيلة ): تركيب جملة من ( المقاطع )، فعبارة ( مسترشد ) مثلاً تقابِل بالرمز العروضي ( مستفعلن )، وإذا فككنا المركّب المذكور ( مسترشد - مستفعلن ) ورددناه إلى مجموعات جزئية، حينئذٍ تكون الجزئيات ثلاثاً هي: ( مس + تر + شد ) حيث يقابلها الرمز العروضي ( مس + تف + علن ).

أمّا إذا اتجهنا إلى العبارة النثرية مثلاً، حينئذٍ بمقدورنا أيضاً أن نقسّمها إلى عدّة مقاطع دون أن نخضعها بالضرورة إلى نظام التفعيلة، بل نخضعها إلى مجرّد ( النَّبْر - المقطع )، فعبارة ( مستوح ) مثلاً إذا فككناها إلى نظام ( النبر )، حينئذٍ تكون جزئياتها ثلاثاً هي: ( مس + تو + ح ).

ويهمّنا من هذا أن نشير إلى أنّ كلاً من نظام ( التفعيلة ) و( النبر )، إنّما يأخذان شكلاً شعرياً إذا أُتيح لهما أن يتكرّرا في ( وحدات ) صوتية ( منتظمة )، تتوالى وفق نسق هندسي واحد ( كما هو نظام الشعر العمودي )، أو نسق هندسي متفاوت ( كما هو نظام الشعر الحرّ ). بَيْد أنّ ما ينبغي لفت النظر إليه هو: أنّ مجرّد انتظام الصوت في ( وحدات ) خاصة

٣٥

شعرياً لن تشمله ظاهرة ( الغناء )، إلاّ أنّ الظاهرة تقترب من تخوم الغناء.

حينما نواجه نظام ( النبر ) وإخضاع وحداته الصوتية إلى تنظيم خاص، يلعب فيه كل من ( المدّ ) و( التفخيم ) و( التقصير ) للأصوات دوراً كبيراً في تشكيل مصطلح ( الغناء )، حيث يمكن إخضاع القصيدة مثلاً - أو عدم إخضاعها - للدور المذكور، وذلك حسب تقطيعنا الصوتي في القراءة.

والحقّ لا يمكننا أن نُقدّم للقارئ تحديداً خاصاً لعمليات ( المدّ، والتفخيم، والتقصير ) في الأصوات، لكي نفرزها عن سواها من التنظيمات الصوتية التي تندرج ضمن الغناء ؛ والسّر في ذلك يعود إلى طبيعة استجابتنا العصبية للصوت، فالأعصاب ( المورِدة ) للمثير الصوتي و( المصدّرة ) لذلك، إنّما تحّددها استجابة غامضة يرافقها ( شذوذ )، أو حالة غير طبيعية يتحسّسها المستجيب ويميّزها عن غيرها من الاستجابة الطبيعية ( السَّويَّة ).

من هنا تركَ المشرّع الإسلامي تحديد ( الغناء ) وأوكله إلينا ؛ بصفة أنّ عمليات ( المدّ، والتقصير، والتفخيم ) تندّ عن الوصف، ولا يمكن إخضاعها لعمل تجريبي، بل إنّه قدّم نماذج مألوفة جاء بعضها في سياق زمني خاص، وبعضها مطلقاً، فمثلاً تطالعنا بعض النصوص المأثورة عن أهل البيت (ع) فيما تمنع قراءة القرآن الكريم ب- ( ألحان ) غير العرب.، ولكن ما هي ألحان العرب مثلاً ؟ ذلك أمر لا يمكن تحديده تجريبي، لكنّنا إذا عدنا إلى المؤرّخين لحظنا أنّهم يشيرون إلى أنّ ( ألحاناً ) شتّى دخلت البلاد الإسلامية بعد الفتح، وإلى أنّها لم تنسجم مع الألحان المألوفة محلّياً، وهو أمر لا يمكن معرفته إلاّ لِمن أُتيح له عصرئذٍ أن يخبر بنفسه الألحان ( العربية ) ويميّزها عن الألحان المألوفة.

وهناك نموذج آخر قدّمته نصوص التشريع وحكمت عليه ب- ( التحريم ) أيضاً، ولكنّه غير مقترن بجهاز النطق، بل بمجرّد ( الصوت المنتظم )، وهذا من نحو استخدام ( الناي ) مثلاً وسواه من أدوات ( العزف )، حيث جاءت مصطلحات: ( المعزف ) و( المزمار ) و( العود ) في لسان النصوص الإسلامية التي حرّمت استخدامها.

بالمقابل قدّمت النصوص الإسلامية بعض التشكيلات الصوتية ( المباحة )، بل ( المندوبة )، مثل ( الترتيل ) في القراءة والأذان، و( الحدر ) في الإقامة مثلاً.

إنّ نصوص التشريع الإسلامي، حينما تُقدّم لنا نماذج من التشكيلات الصوتية المباحة والمندوبة والمحرّمة، إنّما تترك لنا تحديد ذلك في ضوء معرفتنا بالاستجابة العصبية لصوت لا يُخرج الإنسان عن التوازن العصبي المألوف، وهذا أمر يمكن فرزه بسهولة، وإن كان ( تجريبياً ) ممتنعاً كل الامتناع.

ويمكننا مقارنة ذلك بحالة خاصة تنتابنا حينما نُغمر بفرح غير طبيعي عند سماعنا لنبأ سعيد، أو رؤيتنا لجمال مدهش، حيث نفقد توازننا الطبيعي ونسمح لخيالنا بممارسة خبرات ملتوية نستحضرها في الذهن، متصلة بما هو مكبوت في أعماقنا، بخاصة الخبرات الجنسية التي يرتبط بها الغناء بنحو لا نعيه شعورياً، ممّا يُخرجنا من نطاق المشاعر الموضوعية.

٣٦

وهناك من النصوص الإسلامية ما يشير إلى أمثلة هذه الاستجابة الشاذّة للغناء، أو ما يقترن بذلك من آثار نزعات وميول مرضية، ومنها: ظاهرة( القسوة ) ، وظاهرة( النفاق ) .

وقد ورد عن الإمام الباقر والصادق والرضاعليهم‌السلام في تفسيرهم للآية الكريمة:( وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) ، أنّهم (ع) قالوا: ( منه الغناء ) أي أنّ الغناء من اللهو الذي يضلّ عن سبيل الله.، وتعرّضوا (ع) إلى كل من ( اللهو ) و( الغناء )، مشيرين إلى كونهما يتسبّبان في إنماء النزعة العدوانية عند الشخصية، حيث أشار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصادق (ع) إلى ظاهرتين من العدوان هما: القسوة، والنفاق، مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ثلاثة يُقسين القلب: استماع اللهو،...)، ومثل قول الصادق (ع): ( استماع اللهو والغناء يُنبت النفاق كما يُنبت الماء الزرع )، وورد أيضاً قوله (ع): ( ضربُ العيدان يُنبت النفاق في القلب ).

هذه النصوص الثلاثة تُفصح عن جملة من الحقائق النفسية متمثِّلة في أنّ كلاً من ممارسة الغناء والاستماع إليه، أو ممارسة الصوت الخالص والاستماع إليه من خلال أدواته الموسيقية، تستتلي الوقوع في براثن الانحراف النفسي والفكري متجسّداً في ظاهرتَي: ( القسوة )، و( النفاق ).

إنّ معجم ( علم النفس المرضي ) - ومنه الأمراض السكوباثية - يشير بوضوح إلى خطورة ( القسوة ) عند الشخصية، وما تفرزه من أنماط عدوانية في السلوك بالغة المدى. كما أنّ ظاهرة ( النفاق ) تجسّد بدورها واحداً من طوابع الشخصية (المنحرفة) المشار إليها، حيث تتعامل بلغة ( النفع الخالص ) مع الآخرين، وليس بلغة ( الإنسان ) في عاطفته التي تفرزه عن العضويات الأخرى، حتى إنّ الإمام علياً (ع) في تقسيمه المعروف للأمراض النفسية، وصلتها بالانحراف الفكري ( الكفر والنفاق )، أرجعَ نصف السلوك المرضي إلى ظاهرة ( النفاق )، حيث أدرجَ ضمنها جملة من مفردات السلوك المنتسبة إليه.

إذاً ثمّة أسرار نفسية - وعضوية أيضاً - تظل على صلة بممارسة ( الغناء ) و( الموسيقى ) فيما أشار المشرّع الإسلامي إلى ذلك كما لحظنا، فضلاً عن إشارة الطّب الأرضي إليها أيضاً، حيث ألمحَ الطب الجسمي إلى صلة ارتفاع الدم وانخفاضه بحدّة التشكيلات الصوتية وهدوئها، كما ألمحَ الطب النفسي والعقلي إلى ظاهرة ( الإعياء العصبي والنفسي ) وصلته بالتشكيلات المذكورة، ممّا يعني أنّ ممارسة ( الغناء ) و( الموسيقى )، حيث خُيّل للبعض أنّهما يساهمان في تفجير المتعة للشخصية، تظل على العكس ممّا هو متخيّل، تماماً بمثل التصوّر الخاطئ للمخدّرات التي تحفر في أعصاب الشخصية آثاراً بالغة الضرر ( نفسياً وعقلياً وجسمياً ) ثمناً لمتعة عابرة.

المهم أنّ تنظيم الأصوات وفق مدّ وتفخيم وتقصير خاص ( الغناء والموسيقى )، يظل على صلة باستجابة عصبية شاذّة عبر عملية توريد المثير الصوتي وتصديره، فيما تُخرج العملية المذكورة الإنسان عن نظامه العصبي الذي ركّبته السماء وفق طاقة محدّدة من الاستجابة العادية، حيث يقتاد تجاوزها

٣٧

إلى خلخلة النظام العصبي من جانب، وما تستجرّه من عمليات نفسية من جانب آخر، بما يواكب ذلك من تفجير وإنماء لميول وخبرات جنسية وعدوانية وانحرافية عامة، أشارت إليها توصيات السماء والأرض بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.

٣٨

الشِعرُ والتجربة الجنسية

بالرغم من أنّ التجربة الجنسية - التي أشرنا إلى ارتباط بعض التشكيلات الصوتية بها - لا تخصّ شكلاً فنياً دون غيره، إلاّ أنّها اقترنت - في تاريخ الشعر - بأحد اتجاهات( التشبيب ) ، وإلاّ فإنّ القصة أو المسرحية أو أي شكل فنّي، يظل موسوماً بنفس تجارب الجنس، بصفته واحداً من الموضوعات التي تشترك جميع الأشكال الفنية في تناولها.

إنّ التصوّر الإسلامي للجنس يحصر مشروعيته في ممارسة واحدة هي: الزواج، بكل ما يواكبه من سلوك رسمته الشريعة الإسلامية فيما لا يخصّ دراستنا الآن،... يعنينا من ذلك تمرير هذه التجربة من خلال ( الفن ) فحسب.

ومعلوم أنّ التجربة الجنسية شيء، وتجسيدها في عمل ( فني ) شيء آخر، فالفن - في بعض مستوياته -: اصطناع لتجربة ذهنية صرف، لا علاقة لها بأعمال الفنان، بمعنى أنّ الفن لا يجسّد تعبيراً حقيقياً عن أعمال كاتبه، بل هو عمل ذهني قد يعبّر حيناً عن ( معاناة ) حقيقية وقد لا يعبّر عن ذلك. ولعلّ الشعر العربي الموروث - على سبيل المثال - مظهر واضح للحقيقة المتقدّمة، حيث تستهلّ القصائد تجربتها بأفكار جنسية مصطنعة تمثل مجرّد ( تقليد ) فنّي لا أكثر.

والسؤال هو : هل أنّ التعبير عن الأفكار الجنسية - يلتئم مع التصور الإسلامي لهذا الدافع أم لا ؟

بعض الفقهاء - على سبيل المثال - في معرض حديثهم عن المكاسب المحرّمة، يتناولون تجربة الجنس من خلال الغزل أو التشبيب، حيث يعرضون الأدلّة المبيحة أو المتحفّظة أو المانعة من ممارسة ذلك.

إلاّ أنّ تصوّرنا حيال ذلك هو: أنّ الفن - سواء كان تعبيراً مصطنعاً عن أفكار صاحبه، أم كان تعبيراً حقيقياً عنها - لابدّ أن نعرضه في ضوء التصوّر الإسلامي لقضية الجنس، من حيث مشروعية إبراز تجربته ( لفظياً ) إلى الآخرين. فإذا قلنا بأنّ ( الغزل ) أو ( التشبيب ) إسلامياً لا غبار عليه، حينئذٍ لا غبار على تجسيده ( فنياً ) أيضاً، وأمّا إذا قلنا بأنّ ذلك لا يلتئم من الخط الإسلامي، حينئذٍ فلابدّ أن ينسحب ذلك على ( الفن ) أيضاً.

٣٩

طبيعياً لا يعنينا أن نحدّد درجة الحظر التشريعي أو الجواز، من حيث درجتهما ( حرمة أو كراهة ) و( وجوباً أو ندباً )، بل يعنينا عرض التصوّر الإسلامي لمطلق الحظر أو الجواز، وحتى ما يصطلح عليه ب- ( المباح )، نحاول النظر إليه، بأنّه داخل في دائرة ( التحفّظ ) طالما نحرص على الالتزام بما هو ( أفضل ) من السلوك، بحيث يتحوّل ما هو ( مباح ) إلى ما هو ( مندوب) مادام ذلك مقترناً بما هو ( أحبّ إلى الله تعالى ).

المهم : هل أنّ نقل التجربة الجنسية من صعيد ( الواقع ) - حتى لو كان مشروعاً مثل الممارسات الزوجية - إلى صعيد (الفن) يلتئم مع الخط الإسلامي ( بغضّ النظر عن كونه محرّماً، أو مكروهاً، أو حتى مباحاً ) ؟

ونجيب:

مادام الإسلام لا يسمح - أولاً - بأيّة ممارسة جنسية خارج أُطر الزواج، حينئذٍ فأيّة ممارسة، سواء أكانت نقلاً لتجربة مشروعة، أم كانت مجرّد ( غزل ) مصطنع أم حقيقي، تظلّ ( محظورة ) أيضاً دون أدنى شك.

لقد مَنعَنا الإسلام من النظر إلى ( المرأة )، ومنعنا من التحدّث معها إلاّ لضرورة، ومنعنا ( ممازحتها )، ومنعنا من ( التخيّل الجنسي ) أي: أحلام اليقظة وما يتصل بها من الفاعليات الأخرى. كما منع المرأة بدورها من النظر إلى الرجل، ومنعها من إظهار زينتها... إلخ.

مضافاً إلى ذلك - وهذا ما نود التأكيد عليه الآن -: قد منعها من نقل تجاربها الجنسية - بما يواكبها من ممارسات تخص الزوجين - إلى الآخرين، مثلما منع الرجل من أن ينقل مفاتن المرأة إلى الآخرين، حتى إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ( مَن وصفَ امرأة فافتُتن بها، لم يخرج من الدنيا إلاّ مغضوباً عليه... ).

والآن ماذا نستخلص من هذا النص ؟

إنّ أبسط تأمّل في هذا الصدد يقتادنا إلى قناعة كاملة بأنّ الإثارة الجنسية - أيّاً كان شكلها - ينبغي ( التحفّظ ) حيالها، إنّ الشاعر الذي ( يتغزّل ) بالمرأة - سواء أكانت زوجته، أم كانت ( مبهمة ) لا يعرفها أحد، أم كانت ( وهمية ) لا حقيقة لها - تظل موضع ( إثارة ) دون أدنى شك، فالمشرّع الإسلامي عندما منعَ المرأة من أن تنقل لصاحبتها تجربتها مع الزوج، أو عندما منعَ الرجل من أن يصف المرأة لأحد الرجال - كما هو صريح الرواية المتقدّمة - إنّما كان صريحاً في إدانة هذا العمل، حتى إنّه وسمَ مثل هذا الشخص بأنّه ( لم يخرج من الدنيا إلاّ مغضوباً عليه ).

حينئذٍ كيف يسمح الشاعر أو القاص لنفسه بأن ينقل ( مفاتن المرأة ) إلى القرّاء، ثمّ لا نتوقّع إثارتهم، ما هو الفارق بين رجل يصف مفاتن المرأة للآخرين بشكل عادي، وبين نقله ذلك من خلال الفن ؟

وممّا يزيد الأمر غرابة: أن نجد كُتّاباً إسلاميين ينقلون في قصصهم أو قصائدهم تجارب ( الحبّ ) تحت ستار مشروعيته، أو حتى بصفته ( مقدّمة ) زواج مثلاً، بل إنّ بعضهم يجعل ( حبكة ) القصة أو

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191