الإسلام والفن

الإسلام والفن30%

الإسلام والفن مؤلف:
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 191

الإسلام والفن
  • البداية
  • السابق
  • 191 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68781 / تحميل: 26351
الحجم الحجم الحجم
الإسلام والفن

الإسلام والفن

مؤلف:
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الاخرى، وينال من علمائها والقائمين عليها. وكان أئمة أهل البيتعليهم‌السلام في هذا العصر ينتقدون مدرسة الرأي والقياس بشدة، ويؤكدون على أن القياس من فعل إبليس. وكان الإمام الرضاعليه‌السلام ينشر آراء مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام العقائدية منها والفقهية، وكان في فترة ولاية العهد يعقد المؤتمرات والندوات في تعبيرنا المعاصر، يروى أن المأمون جمع علماء الملل والنحل مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئة والنصارى والمتكلم سليمان المروزي، فكان الإمام الرضاعليه‌السلام يدحض حججهم ويصحح مفاهيمهم الخاطئة، وينشر الوعي الإيماني حتى أسلم على يديه بعض الملاحدة والنصارى(١) . وكانت شهرته قد طبقت الآفاق، وغدا شخصه العظيم حديث الساعة حينئذ، ومحط اهتمام العلماء لغزارة علمه ومتانة استدلاله، وقد حفظ لنا التاريخ روائع رضوية كثيرة في هذا المجال. هذا وفي الوقت الذي كان فيه المأمون العباسي يقوم بترجمة ونشر الفلسفة اليونانية، كان الإمام الرضاعليه‌السلام يقوم بنشر الثقافة القرآنية الخالصة، فقد كان جوابه كله وتمثله انتزاعات من القرآن المجيد(٢) .

وعموماً كان عصره (سلام اللّه عليه) عصر الجدل والنظر والبحث، وبتعبير معاصر عصر «التعددية الثقافية» فقد حاور الإمامعليه‌السلام - كما سيأتي في الفصل الخامس - أهل الملل والنحل والأهواء وعلماء المذاهب الاسلامية. وعلى العكس من الجو السياسي السيء والمضطرب، الذي عاصره الإمامعليه‌السلام كان الجو الثقافي يمتاز بالتفتح النسبي، ملائماً للحوار

__________________

(١) انظر: أعيان الشيعة ٢: ١٤.

(٢) انظر: الأنوار البهية: ١٧٩.

٢١

وعرض الافكار، وكان المأمون يشجع هكذا حوار لاشغال الناس في مشاكل جانبية بعيدا عن مشاكل الحكم والسياسة، بدليل أن المأمون الذي كان في زمن ضعفه وصراعه مع أخيه الأمين يشجع على الحوار والنظر وكان ينصر التشيع في الظاهر، تغير موقفه هذا بعد وفاة الإمام الرضاعليه‌السلام بعد أن وطد أركان حكمه فقمع الرأي الآخر وتبنّى فكر المعتزلة وأظهر فتنة خلق القرآن عام ( ٢١٢ ه- )، وفرضها بالقوة وأقام محاكم تفتيش من نوع آخر، يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن، وفتك بوحشية وقسوة بكل من عارض هذه المسألة أو أبدى حياده حولها، فأظهر البعض منهم موافقته وهم كارهون.

* * *

٢٢

٢٣

الفصل الثانى

الامام الرضاعليه‌السلام قبل تولي الإمامة

المبحث الأول: الولادة والنشأة

أولاً: الولادة

يوجد اختلاف بين المحدثين الشيعة في تحديد اليوم والشهر والسنة التي ولد فيها الإمام الرضاعليه‌السلام: فقيل إن مولده كان بالمدينة سنة 148 ه-(١) وروى الصَّدوق أنه ولد بالمدينة يوم الخميس لاحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ١٥٣ ه- بعد وفاة أبي عبد اللّهعليه‌السلام بخمس سنين(٢) . أما المحقق الأربلي فيساند هذا الرأي، ولكن يذكر أنه ولد في الحادي عشر من ذي الحجّة(٣) . وأشار الشيخ الطبرسي إلى القولين ولكن لم يرجح أحدهما(٤) .

وذكر الذهبي: أنه ولد بالمدينة في سنة ١٤٨ ه- عام وفاة جدّه الإمام

__________________

(١) انظر: الإرشاد ٢: ٢٤٧، والكافي ١: ٤٨٦ / ١١.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٨، ح ١، باب (٣).

(٣) كشف الغمّة ٣: ٥٣.

(٤) اعلام الورى ٢: ٤١.

٢٤

الصادقعليه‌السلام (١) ، وهو الموافق للقول الأول.

من جانب آخر وردت روايات عن جدّه الإمام الصادقعليه‌السلام مفعمة بشحنة عاطفية كبيرة، تبشر بولادته المباركة وتكشف عن المكانة المرموقة التي سيحتلها في العالم الإسلامي، فعن يزيد بن سليط، قال: لقينا أبا عبد اللّهعليه‌السلام في طريق مكة ونحن جماعة، فقلت له: بأبي أنت وأمي أنتم الأئمة المطهرون والموت لايعرى منه أحد، فاحدث اليّ شيئا القيه إلى من يخلفني، فقال لي: « نعم هؤلاء ولدي، وهذا سيدهم » وأشار إلى ابنه موسىعليه‌السلام « يخرج اللّه تعالى منه غوث هذه الأمة وغياثها وعلمها ونورها وفهمها وحكمها، خير مولود وخير ناشى ء يحقن اللّه به الدماء ويصلح به ذات البين ويلمّ به الشعث(٢) ويشعب به الصدع(٣) ويكسو به العاري ويشبع به الجائع ويؤمن به الخائف وينزل به القطر ويأتمر له العباد، خير كهل وخير ناشى ء، يبشر به عشيرته قبل أوان حلمه، قوله حكم وصمته علم، يبين للناس ما يختلفون فيه »(٤) .

ثانياً: النشأة

نشأ الإمام الرضاعليه‌السلام بين أحضان بيت أذهب اللّه تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، فهو ابن الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام الذي كان

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٩: ٣٨٨، ترجمة ١٢٥.

(٢) أي يسد به الخلل.

(٣) أي يجمع به الشقّ والفرقة.

(٤) اعلام الورى ٢: ٤٨، وعيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٣، ح ٩٦، باب (٤).

٢٥

( أعبد أهل زمانه وأفقههم وأسخاهم كفّا، وأكرمهم نفسا وكان الناس بالمدينة يُسمونه زين المتهجِّدين، ويعرف بالعبد الصالح )(١) .

ولما كانت الفروع تتبع الأصول، والأصل الطيب يعطي ثمرا طيبا فمن الطبيعي والحال هذه أن يتحلى الابن بتلك الصفات الطيبة والخصال الحميدة، يقول الشيخ المفيد: « كان - أي الرضاعليه‌السلام - أفضل ولد أبي الحسن موسى: وأنبهَهُم وأعظمهُم قدرا وأعلمهم وأجمعهم فضلاً»(٢) .

أما أمه فعلى الرغم من وجود الاختلاف في اسمها وكنيتها، فهناك اتفاق على كونها من أفضل نساء زمانها من حيث العقل والدين.

قيل: تسمى الخيزران، وقيل: أروى، وتلقب بشقراء النوبية. وقيل أمّه أم ولد يقال لها أمّ البنين وقيل: اسمها تكتم، وقد يرجَّح ان الأخير هو اسمها، وما سبقه ألقاب لها، ويستدل لهذا بقول بعض مادحي الإمام:

ألا إن خير الناس نفسا ووالدا

ورهطا وأجدادا علي المعظم

أتتنا به للعلم والحلم ثامنا

إماما يؤدّي حجة اللّه (تكتم)(٣)

والشيخ الصدوق يشير إلى القول الأخير برواية عن محمد بن يحيى الصولي ويقول: إن أمه هي أم ولد تسمى تكتم. ثم يروي عن عون بن محمد الكندي، قال: سمعت أبا الحسن علي بن ميثم يقول: ما رأيت أحدا قط أعرف بأمور الأئمةعليهم‌السلام وأخبارهم ومناكحهم منه، قال: اشترت حميدة

__________________

(١) انظر: الارشاد ٢: ٢٣١، ٢٣٥.

(٢) الارشاد ٢: ٢٤٤.

(٣) راجع: الارشاد ٢: ٢٤٧، اعلام الورى ٢: ٤١، دلائل الإمامة: ٣٤٨.

٢٦

المصفاة وهي أم أبي الحسن موسى بن جعفر - وكانت من أشراف العجم - جارية مولدة(١) واسمها تكتم، وكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفاة، حتى انها ما جلست بين يديها منذ ملكتها اجلالاً لها، فقالت لابنها موسىعليه‌السلام : يا بني ان تكتم جارية ما رأيت جارية قط أفضل منها، ولست أشك أن اللّه تعالى سيظهر نسلها ان كان لها نسل، وقد وهبتها لك فاستوصِ خيرا بها، فلما ولدت له الرضاعليه‌السلام سماها الطاهرة(٢) .

ولقد تناهت شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام في السمو والجلال حتى تطرزت بألقاب لامعة، تعكس جوانب مختلفة من أخلاقه وآدابه، منها: الصابر والرضي، والوفي، والزكي، والولي، ونور الهدى، وسراج اللّه، والفاضل، وقرّة عين المؤمنين، ومكيد الملحدين، وأشهر ألقابهعليه‌السلام هو الرّضا(٣) .

قيل: إن المأمون العباسي هو الذي أطلق عليه لقب «الرّضا» حين عهد إليه ولاية العهد، ولكن الإمام أبا جعفر الجوادعليه‌السلام قد نفى ذلك بشدة، فعن البزنطي، قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام ان قوما من مخالفيكم يزعمون أن أباك انما سمّاه المأمون الرّضا لما رضيه لولاية عهده، فقال: « كذبوا واللّه وفجروا بل اللّه تبارك وتعالى سمّاه الرضا لأنه كان رضيّ اللّه

__________________

(١) المولدة: هي التي ولدت بين العرب، ونشأت مع أولادهم.

(٢) اعلام الورى / الطبرسي ٢: ٤٠، ح ٢، عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٤، باب (٢)، كشف الغمة ٣: ٩٠.

(٣) دلائل الإمامة: ٣٥٩، الإمام الرضاعليه‌السلام ، لقبه.

٢٧

عزّوجلّ ورضي رسوله والأئمة بعده في أرضه ». قال: فقلت له: الم يكن كل واحد من آبائك الماضين رضيّ اللّه عزّوجلّ ورسوله والأئمة بعده؟ فقال: « بلى »، فقلت: فلم سمّي أبوكعليه‌السلام من بينهم الرضا؟ قال: « لأنه رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه، ولم يكن ذلك لأحد من آبائهعليهم‌السلام فلذلك سمّي من بينهم الرضا »(١) .

كان يكنى بأبي الحسن، وورد على لسان بعض الرواة أبو الحسن الثاني، قال علي بن يقطين: كنت عند العبد الصالح - يعني الإمام الكاظمعليه‌السلام - فقال: « يا علي بن يقطين، هذا علي سيد ولدي، اما أنه قد نحلته كنيتي »(٢) .

معاصرته لمدرسة جدّه

قد تقدّم أن الإمام الرضاعليه‌السلام قد ولد في نفس السنة التي توفي فيها جدّه الامام الصادقعليه‌السلام - أي في سنة ١٤٨ ه- - على قول جمع كبير من العلماء والمؤرخين مثل الشيخ المفيد في الإرشاد(٣) ، والكليني في الكافي(٤) ، والطبرسي في أعلام الورى(٥) وغير هؤلاء كثير.

وهناك من يذهب أبعد من ذلك، فيرى أنه ولد بعد وفاة جدّه بخمسة

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٢، ح١، باب (١).

(٢) روضة الواعظين / الفتال النيسابوري ١: ٢٢٢.

(٣) الإرشاد ٢: ٢٤٧.

(٤) أصول الكافي ١: ٤٠٦.

(٥) اعلام الورى ٢: ٤٠.

٢٨

أعوام(١) . وعليه يصح القول بأنه لم يعاصر مدرسة جدّه، وقد أشرنا إلى أن الإمام الصادقعليه‌السلام كان يتمنى أن يدرك حفيده الرضاعليه‌السلام ، مع ذلك فاننا لانتجاوز الحقيقة إذا ما ادعينا بأن الإمام الرضاعليه‌السلام قد عاصر مدرسة جدّه من الناحية العلمية، فإذا تأملنا الحقبة الزمنية التي تأسست فيها مدرسة الامام الصادقعليه‌السلام في مطلع القرن الثاني الهجري، تلك المدرسة الكبرى التي امتدّت اشعاعاتها إلى عصور ما بعد التأسيس، وانتشر شذاها إلى جميع البلدان.

يقول الشيخ المفيد: نقل الناس عن الإمام الصادقعليه‌السلام من العلوم ما سارت به الرُّكبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته ما نُقل عنه، ولا لقي أحدٌ منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرُّواة عنه من الثِّقات، على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعةَ آلاف رجلٍ(٢) .

لقد اغتنم الإمام الصادقعليه‌السلام فترة الصراع الدائر بين الأمويين والعباسيين، فشمّر عن ساعد الجدّ، وقام بجهد علمي كبير من أجل التعريف بعلوم أهل البيتعليهم‌السلام ، وغدا مظلّة رحبة يأوى إليها طلاب العلم والمعرفة الحقّة.

ولما قوي ساعد العباسيين وخلا لهم الجو بعد انتصارهم على الأمويين، استشعروا الخطر المحدق بهم من العلويين هذه المرّة، فأخذوا

__________________

(١) أعيان الشيعة ٢: ١٢.

(٢) الارشاد ج ٢: ١٧٩.

٢٩

يضيقون الخناق عليهم، ولم يقتصر التضييق على الأرزاق، وحرية التعبير، بل سدّوا عليهم المنافذ والمجالات من جهاتها، ومن هذه المنافذ نافذة العلم والتدريس، فبينما كان الطريق العلمي يكاد يكون مفتوحا على مصراعيه أمام الإمام الصادقعليه‌السلام حتى وصلت مدرسته إلى أوج مجدها العلمي، وجد نفسه أمام عاصفة التحول السياسي التي أطاحت بالحكم الأموي وجاءت بالحكم العباسي، الذي وقف بعنف تجاه كل التيارات التي يشمّ من ورائها رائحة السياسة، وفي مقدمتها التيار العلوي الذي كان بعض رجاله يقودون حركات تمرّد على السلطة العباسية هنا أو هناك ..

وجاء دور أبي جعفر المنصور، ثاني خلفاء بني العباس، فلم يستطع تحمّل ما يراه من امتداد مجد الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام فمنذ تولّي السلطة (لم يهدأ خاطره، فلم يزل يقلب وجوه الرأي، ويدير الحيل للتخلص من الامام الصادقعليه‌السلام لأن مدرسته قد اكتسبت شهرة علمية بعيدة المدى فلم ترق له هذه الشهرة الواسعة)(١) .

ومن الشواهد على ذلك ما رواه نقلة الآثار من خبره مع المنصور لما أمر الرَّبيع باحضار أبي عبد اللّهعليه‌السلام فأحضره، فلما بصر به المنصور، قال له: قتلني اللّه إن لم أقتلك، أتلحدُ في سلطاني وتبغيني الغوائل؟! فقال له أبو عبد اللّهعليه‌السلام : « واللّه ما فعلتُ ولا أردتُ، فإن كان بلغك فمن كاذب »(٢) . فاتجه الى التضييق على الإمام الصادقعليه‌السلام مدّة حياته.

__________________

(١) الإمام الصادق / د. حسين الحاج: ٨.

(٢) الارشاد ٢: ١٨٢.

٣٠

المدرسة السرية

نهل الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام من فيض غدير هذه المدرسة المباركة مدة عقدين من الزمن، فقد ولد سنة ١٢٨ ه- أو ١٢٩ ه- - على اختلاف الروايتين - وتُوفي أبوه الصادقعليه‌السلام عام ١٤٨ ه-، فكان من الطبيعي - بعد انتقال الإمامة إليه - أن يشغل كرسي الاستاذية مكان أبيه، ( ..واجتمع جمهور شيعة أبيه على القول بإمامته والتّعظيم لحقِّه والتسليم لأمره، ورووا عن أبيهعليه‌السلام نصوصا عليه بالإمامة، وإشارات إليه بالخلافة، وأخذوا عنه معالم دينهم، ورووا عنه من الآيات والمعجزات ما يُقطع به على حجّته وصواب القول بإمامته)(١) .

من أجل ذلك كان الاستاذ الأكبر بعد أبيه في هذه المدرسة الكبرى (فقد روى عنه العلماء في فنون العلم من علم الدين وغيره ما ملأ بطون الدفاتر وألّفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنه بالأسانيد المتصلة، وكان يُعرف بين الرواة بالعالم)(٢) .

قال الشيخ المفيد: وقد روى الناس عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب اللّه(٣) .

كان هذا في أجواءٍ قد تعرّضعليه‌السلام فيها لضغط متزايد من حكام عصره العباسيين، ولكنه وعى المتغيرات السياسية جيدا، فأخذ يبثّ

__________________

(١) الإرشاد ٢: ٢١٤.

(٢) الارشاد ٤: ٨٤.

(٣) الارشاد ٢: ٢٣٥.

٣١

علومه ومعارفه بصورة سرية، ويتصرف في حدود الهامش الضيق المتاح له، وقد أشرنا لرواية هشام بن سالم التي ذكر فيها أن الإمام الكاظمعليه‌السلام دعاه إلى التمسك بالسرية التامة، فإذا أذاع فهو الذبح! وأشار بيده إلى حلقه.

وقد وصل الأمر في زمانه الى حد (أن الراوي إذا روى الحديث عنه لايسنده إليه بصريح اسمه، بل بكناه: مرة بأبي ابراهيم، وأبي الحسن، وبألقابه الاخرى ؛ العبد الصالح، والعالم وأمثالهما، وبالإشارة إليه تارة كقوله عن رجل، اذ قلما تجد اسمه الشريف صريحا في حديث، لشدة التقية في أيامه ولكثرة التضييق عليه ممن عاصره من العباسيين كالمنصور والمهدي والهادي، وبقي سلام اللّه عليه يحمل إلى السجن مرة ويطلق منه أخرى أربعة عشر سنة، وهي مدة أيامه مع الرشيد)(١) إلى أن انتهت رحلة العذاب التي قطعها بوفاته مسجونا مسموما.

المدرسة السّيارة

مع كل ذلك واصلت مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام عطاءها العلمي ولكن في الخفاء والتستر، وقد قيض اللّه تعالى لها رائدا جديدا، وعلما خفاقا، ذاع صيته في جميع الآفاق، ألا وهو الإمام الرضاعليه‌السلام .

صحيح أن امامنا الرضاعليه‌السلام لم يعاصر جدّه تاريخيا، ولكن الصحيح أيضا أنه عاصره علميا، وذلك لأن والده الكاظمعليه‌السلام كان قد عاش مع أبيه الصادقعليه‌السلام مدة عقدين من الزمن، والامام الرضاعليه‌السلام - بدوره - قد عاصر

__________________

(١) جهاد الشيعة: ٣٠٠.

٣٢

أباه ثلاثة عقود من الزمن.

وقد استغل إمامنا فترة الصراع بين الأخوة - الأعداء (الأمين والمأمون) فرفع راية الهدى واستخدم أسلوباً جديداً لتفعيل مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام يمكن أن نطلق عليه أسلوب «المدرسة السّيارة» بعد أن وجد أن مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام قد حوصرت في المدينة المنورة. هذا الاستنتاج لا نذهب إليه جزافا، فهناك أقوال وروايات تشهد على أن الإمام الرضاعليه‌السلام - عميد هذه المدرسة - كانت له جهود قيّمة في عدةٍ من بلدان العالم الاسلامي ومدنه الهامّة وترك فيها آثاراً جليلة، ولعل من أهمها:

أولاً: المدينة المنورة

كان الإمام الرضاعليه‌السلام يقوم بحركة علمية نشطة، حتى أن بعض الشيعة - كما أسلفنا - قد حذره من سيف هارون الذي يقطر دما - حسب تعبيرهم - ودعوه إلى مراعاة التقية والتبليغ بسرية.

ومما يعكس مدى نشاطه العلمي في المدينة، ما ورد من أقوال أبرز علماء التراجم والرجال بحقّه، أكد «الواقدي» على أن الإمام الرضاعليه‌السلام كان يفتي بمسجد رسول اللّه رغم حداثة سنّه، قال: « سمع عليٌ الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم، وكان ثقة، يفتي بمسجد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن نيف وعشرين سنة، وهو من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة »(١) .

أما الحافظ الذهبي فقد أشاد بمكانة الرضاعليه‌السلام العلمية ومنزلته الدينية معا، عندما قال: « كان من العلم والدِّين والسُّودد بمكان يقال: أفتى وهو

__________________

(١) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي: ٣٥١ - ٣٥٢.

٣٣

شابٌ في أيام مالك »(١) .

ثانياً: البصرة

جاء في بعض الروايات أن الإمام الرضاعليه‌السلام سافر إلى البصرة بعد وفاة أبيه الإمام الكاظمعليه‌السلام للتدليل على إمامته، وإبطال شبهة المنحرفين عن الحق، وقد نزل ضيفا في دار الحسن بن محمد العلوي، وعقد في داره مؤتمرا عاما ضمّ جمعا من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب، وهو من المنحرفين عن آل البيتعليهم‌السلام والمعادين لهم، كما دعا فيه جاثليق النصارى، ورأس الجالوت، والتفت إليهم الإمام فقال لهم:

« إني انما جمعتكم لتسألوني عما شئتم من آثار النبوة وعلامات الامامة التي لا تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت، فهلموا » وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجابعليه‌السلام عنها بلغته، فبهر القوم وعجبوا(٢) والرواية طويلة اقتصرنا منها على موضع الحاجة.

ثالثاً: الكوفة

وقصد الإمام الرضاعليه‌السلام الكوفة، وهناك استقبل استقبالاً حافلاً يليق بشأنه، ونزل ضيفا في دار حفص بن عمير اليشكري، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل، وهو يجيبهم عنها، كان بمثابة «مؤتمر عام» حضره بعض علماء النصارى واليهود وجرت بينه

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٩: ٣٨٨، ترجمة ١٢٥.

(٢) الخرائج والجرائح / قطب الدين الراوندي ١: ٣٤٢ - ٣٤٣، ح ٦، باب (٩).

٣٤

وبينهم مناظرات عرض فيها حججاً مجلجلة تقرع آذانهم وتفحم ألسنتهم(١) .

رابعاً: نيسابور

وفي مروره بنيسابور قاصدا مرو انساب صوته الهادى ء يلف أرجاء هذه المدينة ليلامس الاسماع برفق، ويلج القلوب المتعطشة إلى المعرفة الحقة، فقد عمت الفرحة والبهجة أرجاء المدينة حين قدومه إليها، وقد استقبل استقبالاً شعبيا منقطع النظير، فلم تشاهد نيسابور في جميع تاريخها مثل ذلك الاستقبال، وكان في طليعة المستقبلين كبار العلماء والفضلاء ورجال الحديث، وعرض له أشهر حفاظ الحديث من أهل السنة في ذلك الزمان كأبي زرعة الرازي(٢) ، ومحمد بن أسلم الطوسي(٣) ومعهما خلائق لايحصون من طلبة العلم مع اقطاب كل فن فالتمسوا منه أن يتحفهم بحديث سمعه من آبائه عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتحفهم بحديثه الذي عرف اسناده بسلسلة الذهب(٤) ، وفي ذلك يقول عبد السلام بن صالح أبو الصلت

__________________

(١) اُنظر: الخرائج والجرائح ١: ٢٠٤ - ٢٠٦.

(٢) أبو زرعة الرازي، يطلق على ثلاثة، والظاهر أن المراد هنا أبو زرعة الكبير الإمام الحافظ عبيد اللّه بن عبد الكريم، لكن قيل في ولادته أنها كانت بعد نيف ومائتين، وذكر ابن ابي حاتم أن أبا زرعة هذا سمع من عبد اللّه بن صالح العجلي، والحسن بن عطية بن نجيح وهما ممّن توفي سنة ٢١١ ه-، وبذلك تثبت معاصرته للإمام الرضاعليه‌السلام . راجع: سير اعلام النبلاء ١٣: ٦٥ / ٤٨ و ١٧: ٥١ / ٢٠.

(٣) محمد بن أسلم الطوسي: هو ابن سالم بن يزيد، الإمام الحافظ الرباني، شيخ الإسلام أبو الحسن الكندي مولاهم الخراساني الطوسي. مولده حدود ١٨٠ وتوفي سنة ٢٤٢ ه- بنيسابور. سير أعلام النبلاء: ١٢: ١٩٥ / ٧٠.

(٤) اُنظر: الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي: ٢٥٠.

٣٥

الهروي: كنت مع علي بن موسى الرضاعليه‌السلام حين رحل من نيسابور وهو راكب بغلة شهباء فإذا محمد بن رافع(١) وأحمد بن الحرث(٢) ويحيى بن يحيى(٣) واسحاق بن راهويه(٤) وعدة من أهل العلم قد تعلقوا بلجام بغلته في المربعة، فقالوا: بحق آبائك الطاهرين حدثنا بحديث سمعته من أبيك فاخرج رأسه من العمارية وعليه مطرف خزّ ذو وجهين، وقال: « سمعت أبي العبد الصالح موسى بن جعفر - وعدد سلسلة آبائه - ثم قال: سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: سمعت جبرئيل يقول: قال اللّه جل جلاله: اني أنا اللّه لا إله إلاّ أنا فاعبدوني، من جاء منكم بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه بالاخلاص دخل في حصني ومن دخل في حصني أمن من عذابي »(٥) .

وعن إسحاق بن راهويه، أنه قال: فلما مرت الراحلة نادانا « بشروطها وأنا من شروطها »(٦) .

__________________

(١) محمد بن رافع، ابن أبي زيد، واسمه سابور، الإمام الحافظ الحجة القدوة، بغية الاعلام، أبو عبد اللّه القشيري مولاهم النيسابورين ولد سنة نيِّف وسبعين ومئة في أيام الإمام مالك، ورحل سنة نيف وتسعين. سير أعلام النبلاء: ١٢: ٢١٤ / ٧٤.

(٢) كذا في عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ، ولعلّه أحمد بن حرب بن فيروز، شيخ نيسابور، أبو عبد اللّه النيسابوري، كان من كبار الفقهاء والعباد، توفي سنة ٢٣٤ ه- وقد قارب الستين. راجع: سير أعلام النبلاء ١١: ٣٢ / ١٤.

(٣) هو يحيى بن يحيى بن بكر، شيخ الإسلام، وعالم خراسان، أبو زكريا المنقري النيسابوري الحافظ المتوفي سنة ٢٢٦ ه. سير أعلام النبلاء ١٠: ٥١٢ / ١٦٧.

(٤) هو الإمام الكبير، شيخ المشرق، سيد الحفّاظ، أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي، نزيل نيسابور، مولده ١٦١ ه-، توفي سنة ٢٣٨ ه. سير أعلام النبلاء ١١: ٣٥٨ / ٧٩.

(٥) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ١٤٣، ح ١، باب (٣٧).

(٦) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٤٥، ح ٤، باب (٣٧).

٣٦

وحدّث أبو الصلت الهروي أن الإمام الرضاعليه‌السلام قال في نيسابور بعد أن ذكر الإسناد المتقدم عن آبائهعليهم‌السلام أن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، قال: « سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: الإيمان معرفة بالقلب، واقرار باللسان، وعمل بالأركان »، قال: وقال أحمد بن حنبل: لو قرأت هذه الإسناد على مجنون لبرأ من جنونه(١) .

خامساً: مرو

تحرك الإمام من نيسابور ليتابع رحلته إلى مرو حيث المأمون يستعد لاستقباله والحفاوة به، ولما دخلها أنزله منزلاً كريما محاطا بكل مظاهر التقدير والاحترام. وهناك حيث استقر الإمام الرضاعليه‌السلام صرف معظم وقته لبثّ العلوم، وعقد العديد من المجالس العلمية الكبيرة التي كان يحضرها جلّ علماء المصر، فعاش حياته القصيرة في مرو معلّماً ناشراً للعلوم، حيث سنرى لاحقاً أنه قد انصرف عن دوره السياسي كولي للعهد ومارس دوره العلمي من موقعه الديني الرفيع.

وهناك حظي العديد من أهل العلم ورواة الحديث بلقائه والنقل عنه والاستماع إلى أحاديثه، فعرفه من لم يكن يعرفه، وذاع صيته أكثر فأكثر في أصقاع البلاد، كأبرز رجال العلم وأوسعهم معرفة وأكثرهم جلالة وشرفاً ..

قال أبو الصلت عبد السلام الهروي، وهو من أعلام عصره: ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ولا رآه عالم إلاّ شهد له بمثل

__________________

(١) اُنظر: كشف الغمة ٣: ١٠٠.

٣٧

شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجلس له عددا من علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي منهم أحد إلاّ أقرّ له بالفضل وأقرَّ على نفسه بالقصور(١) . فقد قام هؤلاء العلماء بالتفتيش عن أعقد المسائل وأكثرها صعوبة وعمقا في جميع أنواع العلوم، وعرضوها على الإمام فأجاب عنها جواب العالم الخبير المتمرِّس فيها، يقول الرواة: أنه سئل عن أكثر من عشرين ألف مسألة في نوب مختلفة عاد فيها بلاط المأمون إلى مركز علمي، وخرجت الوفود العلمية وهي مليئة بالاعجاب والاكبار بمواهب الإمام وعبقريته، وأخذت تذيع على الناس ما يملكه الامام من طاقات هائلة من العلم والفضل، كما ذهب معظمهم إلى القول بإمامته(٢) .

هذه الجولة العلمية وما رافقها من جهد علمي كبير تثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - بأن امامنا قد اتبع أسلوبا جديدا ومبتكرا في بث علوم آل البيتعليهم‌السلام وهو ما أطلقنا عليه تعبير «المدرسة السّيارة»، ويبدو أن الظروف السياسية هي التي حملته على اتباع هذا الأسلوب.

روى الصدوق بسنده عن الريّان بن الصلت وكان من رجال الحسن ابن سهل: أن مسير الإمام الرضاعليه‌السلام كان عن طريق البصرة والأهواز وفارس، قال: فكتب إليه المأمون لا تأخذه على طريق الكوفة وقم، فحمل على طريق البصرة والأهواز وفارس حتى وافى مرو(٣) . ومنذ أن

__________________

(١) اعلام الورى ٢: ٦٤، الفصل الرابع.

(٢) حياة الإمام علي الرضاعليه‌السلام / القرشي: ١٠٢.

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٦١ ح ٢١، باب (٤٠).

٣٨

غادر الإمام الرضاعليه‌السلام بيت اللّه الحرام متوجها إلى خراسان قوبل بمنتهى الحفاوة والتكريم والاجلال في كل بلد أو حي يمرّ به، وكان الناس يسألونه عن أحكام دينهم وهو يجيب عنها.

لقد أراد المأمون أن يكون سفر الإمامعليه‌السلام غامضا عبر الطريق الصحراوي القاحل، ولكن امامنا استغل هذه الفرصة المناسبة لنشر علوم مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ، وادامة عطائها العلمي والمعرفي.

المبحث الثاني: الإمام الرضا في ظل أبيهعليهما‌السلام

لازم الإمام أباهعليهما‌السلام ملازمة الظل منذ نعومة أظفاره إلى أن فرّق الأجل بينهما، وكان الأب العظيم يصب في اذن ولده الأغر أعذب الألفاظ وأرق المعاني، ويغذيه من علوم آبائه وأجدادهعليهم‌السلام ويشيد دائما بفضله ويقدمه على جميع ولده، ومن مصاديق ذلك، ماقاله الإمام الكاظمعليه‌السلام لسليمان بن حفص المروزي الذي سأل الكاظمعليه‌السلام عن الحجّة على الناس بعده، قال: « يا سليمان، إن عليا ابني ووصيي والحجّة على الناس بعدي، وهو أفضل ولدي »(١) .

وروى الصدوق عن نُعيم القابوسي، عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام أنه قال: « ابني عليّ أكبر ولدي وآثرهم عندي، وأحبَّهم إليَّ »(٢) .

تكلّم الإمام الرضاعليه‌السلام ذات يوم بين يدي أبيهعليه‌السلام فأجاد وأحسن أيّما

__________________

(١) دلائل الإمامة: ٣٩٦.

(٢) الارشاد ٢: ٢٤٩.

٣٩

إجادة وإحسان، فتهلّل وجه أبيهعليه‌السلام فرحا، قائلاً: « يا بني الحمد للّه الذي جعلك خلفا من الآباء، وسرورا من الأبناء، وعوضا عن الأصدقاء »(١) .

كان يجلسه في حجره يقبله ويمص لسانه، ويقعده على عاتقه، يسبغ عليه عطفه وحنانه، ويرعاه من دون إخوته رعاية خاصة فقد كان يعلم بأنه سوف يخلفه للامامة من بعده، وكان يهمس في أذنه عبارات الود والثناء، ويقول له: « ما أطيب ريحك، وأطهر خلقك، وأبين فضلك! »(٢) .

ولكن حياة الرضاعليه‌السلام بجنب أبيه الهادئة والهانئة، قد عكرت صفوها دسائس بلاط بني العباس، الذين يتربصون بالعلويين الدوائر، فقد (بقي الامام الرضاعليه‌السلام مع أبيه نحوا من ثلاثين عاما أو تزيد، شاهد فيها ضروب المحن والبلايا التي أحاطت بأبيه الإمام موسى بن جعفر الذي كان وجوده، رغم وقوفه موقف المسالم للحكم بعيدا عن مواطن المجابهة معه، يثير قلق الحكام ويقض مضاجعهم، فلقد كان المنصور يتحراه ويراقب جميع تحركاته وتصرفاته حتى اضطره إلى أن يحتجب عن شيعته وخلّص أصحابه، وبعث إليه المهدي العباسي يستدعيه لبغداد، وألقاه في سجنه لمدة من الزمن وبوفاة المهدي والهادي الذي لم تطل أيامه ارتقى الرشيد سدة الخلافة وبدأت بخلافته بوادر المأساة التي حلّت بالبيت العلوي الذي كان يتزعمه الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام وكان له منها القسط الأوفر، فقد اعتقله وضيق عليه في ظلمات سجونه المرعبة مدة أحد عشر

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٣٥، ح ٤ باب (٣٥).

(٢) اُنظر: عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٤٠، ح ٢٨، باب (٤).

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

عنصر ( المفاجأة ) وعملية احتراق ( المزرعة ).. وهذا يعني أن عنصر المقارنة ( تشبيهاً أو استعارةً أو رَمزاً أو مطلق الصورة الفنية ) قد اعتمد ( الحكاية أو الأُقصوصة ) بدلاً من أداة التشبيه أو الاستعارة أو الرمز...

طبيعياً ثَمَّة مسوِّغ فني لأنْ تُصاغ الصورة ( حكاية ) بدلاً من مجرد التركيب لظواهر عامة، ففضلاً عن جمالية هذا النمط من التركيب الصوري الذي يعتمد الحكاية عنصر مقارنة أو مزاوجةٍ، نجد أن الأُقصوصة أو الحكاية لها وظيفتها المتميّزة في التعبير عن الظاهرة المبحوث عنها. فسواء أكان الهدف منها هو إبراز الندم الذي يصدر عن المرائي مثلاً، أو المنغمس في متاع الحياة أو غيرهما، فإن المهم هو إبراز المفهوم المشار إليه: أي ( الندم)، طالما نعرف بأن من الندم ما ينحصر في إشباعات غير ضرورية.. ومنه ما يتلافى مثلاً.

إلاَّ أنّ من الظواهر ما لا يحتمل الندم عليها، بل يظل التمزّق والانسحاق والانشطار النفسي يُلاحق الشخص، مثل الحكاية التي افترضتها الصورة الفنية التي نحن في صددها. إن المزرعة هي المصدر الوحيد للشخص المشار إليه، يتوقّف عليها تأمين جميع حاجاته الرئيسة مثل المطعم والملبس والمسكن، وحاجاته الثانوية في مختلف مستوياتها.. ومن الممكن أن يعوّض الشخص عن ذلك في حالة كونه شاباً، أو كهلاً بمقدوره أن يلتمس مصدراً آخر للرزق، كما يمكن لذُرِّيته - لو كانوا كباراً - أن يتولّوا نفقته ونفقتهم.. إلاّ أنه وقد كَبِرَ دون أن يستطيع عمل شيء ما، كما أنه مسئول عن ذرية ضعفاء: حينئذٍ فإن تأمين حاجته من جانب، وحاجة الذرية من جانب آخر، يظل أمراً لا يمكن تلافيه ؛ ممَّا يستتلي وقوعه في صراع وتمزّق لا حدود لهما، طالما لا يسعفه التحسّر أو الندم على ما أصاب مزرعته من الاحتراق..

إذاً سرد مثل هذه ( الحكاية ) أو الأُقصوصة، ينطوي على مهمة فنِّية في غاية الخطورة، حينما تصاغ في تركيب صُوَري يستهدف لفت النظر إلى الندم والحسرات التي تلحق الشخصية في اليوم الآخر، عندما يجد أن الإمتاع الدنيوي الذي غرق فيه قد انحسر تماماً، حيث لا ينفعه الندم على ما فاته من التقصير العبادي.

ومن الواضح أن تعميق مثل هذا المفهوم من الممكن أن يتم وفق صورة تركيبية حيوية ( أبطال، حوادث، بيئات )، بما يواكبها من تحليل وتعقيب، وبما تنتظمها من عناصر تشويق مختلفة، حينئذٍ تشدّ المتلقِّي إلى الحكاية أكثر من غيرها، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن صياغة هذه الصورة التمثيلية جاءت عقب صورة حقّقت هدفها الفني، صورة ( الحجر الذي أصابه وابل ) فيما تحدثنا مفصّلاً عنها، كما أنها جاءت في صياغة تساؤل يستهدف تأكيد الحقيقة المشار إليها( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ.. ) .

١٤١

كل أولئك يشكّل مسوِّغاً لأنْ تُصاغ الصورة بنحوها ( التمثيلي)، يحقّقه بذلك: عنصر التنوّع في التركيب الصوري من جانب ؛ تحقيقاً لمزيد من الإمتاع الفني.

مضافاً إلى أن العنصر القصصي ذاته ينطوي على إمتاع آخر. ثم عنصر التعميق لهدف خطير هو: حمل الشخصية على تعديل سلوكها قبل أن يمتنع عليها ذلك، علماً بأن نفس هذه الصورة تتضمَّن الهدف المشار إليه.

١٤٢

العنصر الإيقاعي:

في عرضنا للعنصر البنائي والقصصي والصُوَري، نكون قد ألممنا - عابراً - بمجمل السِّمات الفنية للنص القرآني الكريم. وحين نتَّجه إلى العنصر الإيقاعي، نجده ملحوظاً بشكل لافت، لا يكاد يجهله أحد من القرّاء في هذا الصدد. فالسُّوَر جميعاً - عدا النادر - لا تخلو من عنصر ( القرار ) أو ( القافية ) التي تنتهي إليها الآية، مع ملاحظة أن البعض من السور ( تتوحّد ) قوافيها، والغالبية ( تتنوّع ) في ذلك.

وفيما يتّصل بالبُعد الثاني من عناصر الإيقاع، وهو ( التجانس ) بين أصوات العبارة المتنوّعة، فهذا ما لا تكاد أية سورة تخلو منه، حتى إنك لو قرأت سورة ( المُلك ) مثلاً، لوجدتَ أن حروف ( س، ص، ز ) بصفتها تنتسب إلى أصل صوتي واحد، تلاحق عبارة السورة حتى نهايتها، بخاصة ( س - ص )، مثل: أحسن، سَبع، سماوات، البصر، السماء، بمصابيح، السعير، المصير، سمعوا، سألهم، زَيَّنَّا، نَزَّلَ، نسمع، السعير، حاصباً، فَسَتَعْلَمُون، صافات، يُمْسِكُهُنَّ، بصير، ينصركم، يرزقكم، أَمْسَكَ، رِزْقَه، تَمَيَّز، سَوِيَّاً، صراط، مستقيم، السمع، الأبصار، زُلْفَةً، سِيئَتْ، فستعلمون، أصبح...

إنَّ هذه المفردات التي شكّلت نسبة تقريبية ( ٢٠% ) من عدد كلمات السورة بأجمعها، تمثِّل نموذجاً ل- ( التجانس ) الصوتي في العبارة القرآنية الكريمة، وحتى لو فَصَلْنا أحد حروفها، وهو ( س )، لوجدناه يمثّل نسبة تقريبية هي ( ١٢%).

وهذا كله من حيث صلة الصوت بمجموع السورة.

أما صلته بفقرة، أو آية، أو قرار، فأمرٌ من الوضوح بمكان ملحوظ. فلو وقفنا عند نفس السورة، لوجدنا - مثلاً - هذه الفقرة:( وَلَقَدْ زَيّنّا السّماءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) ، للحظنا التجانس الصوتي في حروف ( السين والصاد والزاي ) في( وَزَيّنّا السّماءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) ، وهكذا في فقرة( فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السّعِيرِ ) ، ومثلهما( الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ) ، ومثلهما( سَوِيّاً عَلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ، ومثلها( السّماءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ

١٤٣

حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ ) ومثلها( يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ) ، فحتى مع افتراض أن نسبة الصوت إلى مجموع السورة قد ينسحب على سور كثيرة أخرى، حينئذٍ فإن تجانس حتى فقرة واحدة يعدّ إفصاحاً عن جمالية العبارة المذكورة.

ففي السورة ذاتها مجموعة من الفقرات المتجانسة ( صوتياً ) من حروف أخرى مثل:( وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السّعِيرِ ) حيث يجيء الحرف ( ع ) هو العنصر المُجانس بين الأصوات. إنه من الممكن حالة قِيام أحد الباحثين برصد هذا الجانب لسور القرآن الكريم، أن يكتشف أسراراً صوتية بالغة المدى، ليس في حدود السمة الجمالية فحسب، بل: السمة الإعجازية أيضاً (١)، كما أن رصد العلاقة بين الدلالة والإيقاع: أي بين معنى العبارة وحروفها، يساهم في اكتشاف سمات جمالية بالغة الدهشة. بَيْد أن تناول هذه الجوانب يتطلّب وقتاً قد لا نتوفّر عليه في صعيد التناول المُجمل للفن القرآني الكريم.

____________________

(١) نهضت إحدى الدراسات برصد أوائل السور، مثل:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو ( ق )... وسواهما، وعلاقتها بمجموعة أصوات السورة، وملاحظة الاطراد بين افتتاحيَّتها ونسبتها الغالبة على سائر الحروف في السورة. ومعلوم أن مثل هذه الدراسة تعزّز الاتجاه المؤكَّد الذاهب إلى عدم ( التحريف ) في القرآن الكريم.

١٤٤

[ أدب السُّنَّة ]

الخطبة:

الخطبة شكل فني يعتمد الإثارة العاطفية عنصراً في صياغته. وبالرغم من أن العمل الفنّي بعامة يظلّ متميّزاً عن التعبير العلمي، بخلو هذا الأخير من العنصر العاطفي وتجسّده في العمل الأول، إلاّ أن النِسَبَ العاطفية تحتفظ بتفاوتٍ ملحوظ من شكل لآخر: ففي حين تكاد القصيدة الغنائية - مثلاً - تتمحّض للعنصر العاطفي، نجد أن العنصر المذكور تضؤل نِسَبُه في الأشكال الشعرية الأخرى، ويكاد يختفي في العمل القصصي في بعض أشكاله ويطغى في أشكال أخرى، وهكذا.

وفيما يتصل بالخطبة، فإن العنصر العاطفي يظلّ طابعاً ملازماً لهذا النمط من الفن، نظراً لطبيعة ( الموقف ) الذي يستدعيه.

ومن الحقائق المألوفة في حقل ( الاجتماع )، أن ( الجمع ) يكتسب سمة جماعية يفقد من خلالها كلُّ فرد سمته الشخصية ليندمج في المجموع. وعملية الاندماج المذكورة تقوم أساساً على ( عاطفية شديدة ). ويحدِّد علماء الاجتماع ثلاث سمات، هذا الجمع هي: الانبهار، الإيحاء، العدوى. وكلّ من السمات المذكورة تقوم على الأساس الانفعالي الذي أشرنا إليه.

ومعلوم أن ( الخطبة ) هي التي تضطلع بمخاطبة هذا ( الجمع )، فيما تستثمر هذه السمات لتمرير أفكارها التي تستهدف إيصالها للجمع، ومن ثَم تستطيع الخطبة أن تكسب ( الجمع ) بنحوٍ لا تستطيع الأشكال الفنية الأخرى أن تحقّقه.

المهم، مادام العنصر ( الانفعالي ) هو السمة المميزة لفنّ الخطبة، حينئذٍ فإن السمة المذكورة ستحدِّد أيضاً بناء الخطبة وسائر عناصر الشكل الذي تقوم عليه. وبالرغم من أن ( الأساس الانفعالي ) الذي تقوم عليه ( الخطبة )، تتطلّب مجرد انتقاء ( المواقف ) وطريقة طرحها، إلاّ أن الأدوات الفنية من إيقاع وصورةٍ، ستساهم دون شك في تصعيد الموقف الانفعالي أيضاً.

١٤٥

من هنا تجيء الخطبة مماثلة لسائر أجناس الأدب الإنشائي، من حيث توفّر العناصر الأساسية الأربعة للفن، وهي: الصوت والصورة والبناء والطرافة.

مع ذلك، فإن ( السمة الانفعالية ) لا تعدّ في كلّ الحالات أمراً ضرورياً في الخطبة، بخاصة فيما يتصل ( بالفن التشريعي )، الذي لا يلجأ في الغالب إلى الاستثارة العاطفية إلاّ في نطاق محدّد، يلتئم مع الجديّة والرصانة اللتين تتميّز بهما الشخصية الإسلامية. حتى في نطاق تجارب الأرض لا يمكننا - في الواقع - أن نقرّ الاتجاه الأدبي الذاهب إلى ضرورة طغيان العنصر الانفعالي في الخطبة، مادمنا نلحظ نماذج كثيرة من أدب الخطبة تحتفظ بالموضوعية، أو لا أقل بالنضج الانفعالي قبال الهياج العاطفي الذي لا يلتئم مع سويّة الشخصية. هذا إلى أن كثيراً من المواقف لا تتطلّب انفعالات حادة بقدر ما تتطلّب طرح الظاهرة بنحوٍ منطقي هادئ، كما لو كان الموقف يتّصل بطرح مفهومات فلسفية عن الكون والمجتمع والإنسان مثلاً.

أخيراً، ينبغي إلاّ نرسم حدوداً فاصلة بين ما ألِفَه الأدب الموروث من ( الخطبة )، وبين ما نألفه في حياتنا المعاصرة من شكل نصطلح عليه ب- ( الكلمة). فكلتاهما - أي الخطبة والكلمة - تخضعان لنفس المعايير التي يستلزمها ( موقف جمعي)، مستعد للاستماع إلى معرفة حقيقة من حقائق الحياة الاجتماعية في تطلّبها تغييراً اجتماعياً ما.

على أيّة حال، يعنينا من العرض المتقدم لفنّ الخطبة أو الكلمة، أن نتّجه إلى ( الأدب التشريعي ) في هذا الصدد، لملاحظة القيم الفنيّة والفكرية التي تنطوي عليها نماذج الفنّ المذكور. وسلفاً سنأخذ بنظر الاعتبار أن الأُسس الانفعالية من جانب، وإبقاء التخوم الفاصلة بين الخطبة والكلمة، سوف لن تبقى موضع عناية كبيرة في النموذج الذي نختاره، فضلاً عن أننا لا نحرص على عرض النماذج بكاملها: إما لعدم وصول البعض من الخطب إلينا كاملةً، أو أن الاكتفاء ببعضٍ من أقسامها كافٍ في التعرّف على قيم الخطبة فنياً وفكرياً.

نموذج (١)

من خطبة للإمام عليّعليه‌السلام ، يقول فيها بعد حمد الله ( تع ) والصلاة على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( أُوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضَرب الأمثال، ووقّت لكم الآجال، وألبسكم

١٤٦

الرياش، وأَرْفَغَ لكم المعاش، وأحاطكم بالإحصاء، وأرصد لكم الجزاء، وآثركم بالنعم السوابغ والرفَّد الرَّوَافِغِ، وأنذركم بالحجج البوالغ. وأحصاكم عدداً، ووظَّفَ لكم مُدَداً، في قرار خِبْرَةٍ ودار عِبْرةٍ، أنتم مختَبَرون فيها ومحاسبون عليها. فإن الدنيا رَنِقٌ مشربُها رَدِغٌ مشرعُها، يُونِقُ منظرها ويُوِبقُ مخبرها، غرور حائل وظلّ زائل وسناد مائل. حَتَّى إِذَا أَنِس نافِرُهَا واطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا، قَمَصَتْ بأَرجُلِها، وقَنَصَتْ بأَحْبُلِها، وأَقْصَدَتْ بأَسْهُمِها، وأَعْلَقَتِ المرءَ أَوْهَاقَ المَنيَّةِ، قائدةً له إلى ضَنْك المضجع، ووحشة المرْجِع... ).

ثم تتّجه الخطبة أو الكلمة إلى ظاهرة النشور حيث ينتهي بذلك القسْم.

ويعيننا من هذا النموذج أن نعرض عابراً إلى قيمها الفنية أولاً، حيث نلحظ ( القيم الصوتية ) متمثِّلة في ما أسميناه ب- ( القرار الإيقاعي )، ثم ( التجانس )، ثم ( التوازي ). فالخطبة في غالبيتها ذات قرارات متنوِّعة: ( رياش / معاش، سوابغ / بوالغ، حائل / زائل / مائل،... ).

أما عنصر ( التوازي )، فيحتل مساحة ضخمة من النصّ، تكاد تتكافأ مع مساحة (القرارات) ذاتها.

ولنقرأ مثلاً:

مختَبرون فيها - محاسبون عليها

رَنِق مشربها - رَدِغ مشرعها

يُونِق منظرها - يُوبِق مخبرها

قمصت بأرجلها - قنصت بأحبلها

إلخ

حيث إن كلَّ ( قرارٍ ) مسبوقٌ بجملة متوازية مع الأخرى كما هو واضح.

أخيراً: ( التجانس ) الصوتي بين مختلف أنماط العبارة، حتى إنّ ( الجملة المتوازية ) أيضاً تخضع للتجانس بين أصواتها، مثل (يُونِق / يُوبِق، قَمَصَتْ / قَنَصَت )، مضافاً إلى التجانس الذي يتجاوزها ليشمل فقرات لاحقة، مثل الفقرات الثلاث: (قمصت بأرجلها، وقنصت بأحبلها، وأقصدت بأسهمها )، حيث يلاحظ المتذوّق إيقاعاً بالغ المدى في تجانس الأصوات الثلاثةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مضافاً إلى الصوت ( س ) في الفقرة الأخيرة، فيما تتجانس معصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانتسابهما مع حرف ( الزاي ) إلى مجموعة صوتية واحدة كما هو واضح.

ونتّجه إلى عنصر ( الصورة )، فنجدها محتشدةً في المقطع الخاص بالحياة الدنيا. ولا نحتاج إلى أدنى تأمّل لندرك السرّ النفسي وراء الارتكان إلى العنصر الصوَري في هذا المقطع ؛ متمثِّلاً في الحرص على تعرّفها تماماً، فيما يجيء العنصر الصوَري معمِّقاً ومجلّياً ومبلوراً مفهوم الحياة الدنيا، وفيما تتركّز عندها وظيفتنا الخلافية، فضلاً عمّا يتوقّف عليها مصير الحياة

١٤٧

الأبدية.

والمهم، أن العنصر الصوَري يتلاحق في هذا المقطع الذي استشهدنا ببعض نماذجه، المتصلة برنق المشرب وردغ المشرع، وقمص الأرجل وقنص الأحبل... إلخ. فلو وقفنا - على سبيل المثال - على الصورتين الأخيرتين: ( قمص الأرجل وقنص الأحبل )، للحظنا أنهما تنتسبان إلى خبرات مألوفة يومياً، لكنّها متسمة بالطرافة في الوقت ذاته، وهما سمتا الصورة الناجحة فنياً، أي: قدرتها على الاستثارة. فقمص الأرجل هو ( رفعها وطرحها معاً )، وقنص الأحبل هو ( الاصطياد بحبائلها )، وهذا يعني أن الصورتين تريدان أن تقولا لنا: إن الموت هو النهاية للحياة التي صوّرتها الخطبة قبل هذه الفقرات. إلاّ أن هذا القول تَمَّ من خلال صورتين: أولاهما: تجسّد عنصر ( المباغتة ) التي ترفع الأرجل وتضعها فجأةً لينتهي كل شيء، والثانية: تجسّد عنصر ( المخادعة ) التي تصطاد ضحيّتها بشباكها.

إذن: كلّ من ( المباغتة ) و( المخادعة)، وهما - كما نعرف جميعاً - من أبرز مظاهر ( الحرب )، وأنجح وسائلها في إحراز النصر، يظلان من سمات ( الحياة الدنيا ) في حربها مع الكائن الآدمي... من هنا ينبغي أن ينتبه القارئ إلى أهمية هذا العنصر ( الصوَري ) في الخطبة، بالرغم ممّا يبدو للمتأمل العابر بساطة هذه الصور وأُلفَتَها في الحياة اليومية، إِلاّ أن هذه البساطة أو الأُلفة كانت من العمق والاصطفاء، والغنى والتنوّع، إلى الدرجة التي جسّدت من خلالها أبرز ما يمكن استخدامه في الممارسات العسكرية، التي تفصح عن ( العداء المستحكم ) بين طرفي الحرب.

ولا نعتقد أن ثَمَّة صورة أخرى يمكنها أن تكشف لنا طبيعة المظهر الدنيوي في ( محاربته ) للآدميين، واستخفاء ذلك عليهم، بمثل الصورة المتقدِّمة، بالرغم من بساطة الصورة وأُلْفَتِها في الحياة اليومية، وهي حركة الفَرس المذكورة. وهذا هو ما يفصل بين (فنٍ تشريعي ) لا يصدر عن بشرٍ عادي، وبين ( فنّ وضعي ) لا يمكنه أن يحقّق كل أطراف الصورة الناجحة بالنحو الذي لحظناه.

أما فيما يتصل بالعنصر الرابع من أدوات الفن، ونعني به ( البناء)، فلا يمكننا أن نتحدّث عنه مادمنا قد اخترنا قسماً من الخطبة. علماً بأن أهمية البناء الهندسي للنص لا يمكن أن يتّضح إلاّ بالوقوف على النص بأكمله، لكن مع ذلك يمكننا أن نتعرّف بوضوح على ( نموّ ) مقاطع هذا القسم الصغير الذي اقتطعناه من الخطبة، حيث لحظنا كيف أنها ابتدأت بتعريف الوظيفة الخلافية لنا، وانتقالها إلى رسم معالم ( الحياة الدنيا )، ثم انتقالها إلى حدث ( الموت )، وانتقالها بعد ذلك إلى الحياة (الآخرة )، حيث أخذت كلاً من التسلسل الزمني و

١٤٨

النفسي بنظر الاعتبار، وهو أمرٌ له أهميته الكبيرة في عملية الاستجابة الفنية للنص.

الآن، بعد أن لحظنا عناصر: الإيقاع والصورة والطرافة والبناء، يتعيّن علينا أن نتّجه إلى ( قيمها الفكرية ) وعناصرها ( الانفعالية ) بالنسبة للقارئ والمستمع، وليس بالنسبة إلى صاحب الخطبة بطبيعة الحال.

أما قيمها الفكرية، فمن الوضوح بمكانٍ، وقد لحظناه من خلال العرض السريع لأفكار الخطبة الحائمة على التعريف بطبيعة الحياة الدنيا، وموقعنا العبادي منها.

وأما قيمها العاطفية، فقد لحظنا أن هذا العنصر قد صيغ بطريقة رصينة لا مجال للتهريج الانفعالي فيها، بل إن ( المنطق ) الممتزج بإثارة عاطفية هادئة هو السمة المُحكمة للخطبة.

ولو تابعنا سائر أجزاء الخطبة، للحظنا أن هذا العنصر يتصاعد حيناً ويتراخى حيناً آخر ؛ تبعاً للموقف النفسي الذي نستجيب له حيال هذه الظاهرة أو تلك. فمثلاً نجد أن ( التصاعد ) بالعاطفة يأخذ مساره حين نواجه هذه التحذيرات:

( فاتّقوا تقيّة مَن سمع فخشع، واقترف فاعترف، ووَجِل فعَمِل، وحاذر فبادر، وأيقن فأحسن، وعُبِّر فاعتبر، وحُذِّر فازدجر، وأجاب فأناب ).

بغض النظر عن الجمال الإيقاعي لهذه الفقرات، التي احتفظت كلّ واحدة منها ب- ( قرارين متصلين )، مثل: سمع فخشع، اقترف فاعترف، وَجِل فعَمِل... إلخ، بغض النظر عن هذا الإيقاع الذي احتلّ له صياغةً خاصة في هذا القسم من الخطبة، وأهميّة ( التنوّع ) في أشكال الإيقاع من مقطع لآخر،... بغض النظر عن هذا كله، نجد أن الإيقاع - بشكله المتقدّم - ساهم في ( التصاعد ) بالموقف العاطفي للمستمع والقارئ، حيث جاء توالي الفقرات وتوالي تجانسها - بالشكل المتقدم - متناسباً مع توالي ( التحذيرات )، التي تتصاعد بمشاعرنا إلى أن ( ننفعل ) أكثر بهذه التوصيات، وأن نتحمّس بنحو أشدّ في الإفادة من التجارب، بحيث تصبح فُرصُ ( التعديل ) لسلوكنا أكثر ملائمةً في هذا الموقف.

ثم يتصاعد الموقف ( الانفعالي ) بنا نحو درجة أعلى حينما نواجه هذا التهديد:

( فهل ينتظر أهل بضاضة الشباب إلاّ حواني الهرم، وأهل غضارة الصحّة إلاّ نوازل السَّقَم، وأهل مدة البقاء إلاّ آونة الفناء: مع قرب الزِّيَال وأُزوف الانتقال، وعَلَزِ القلق، وألم المضض... ).

أيضاً، بغض النظر عن العنصر ( الصوَري ) الذي احتشد في هذا المقطع من الخطية، بالقياس إلى العنصر ( الإيقاعي ) الذي احتشد في سابقه،... بغض النظر عن هذا البناء الهندسي الذي يُرْسَم حيناً - في أحد جوانب العمارة - هيكلاً إيقاعياً،

١٤٩

وحيناً آخر - في جانب ثانٍ - منها يُرْسَم صوَرياً، ويُناسَق بين مختلف الجوانب... بغض النظر عن جمالية هذا المبنى الهندسي للخطبة، نجد أن ( التصاعد ) بالموقف الانفعالي يأخذ طابعه الملحوظ، من خلال نقلنا إلى الموجَّهة المباشرة مع وقائع الحياة، فالهرم والسَّقَم والقلق وسواها، تشكّل مظاهر يومية نأسى لها وننفعل بمشاهدتها لدى الآخرين أو لدى أنفسنا بالذات، فالشاب مثلاً حينما يواجه قريباً له قد احتوشه الهرم أو المرض الذي لا شفاء منه، أو المرض الذي لا يسمح بممارسة العمل العبادي المطلوب،... مثل هذا الشاب ( ينفعل ) بالضرورة، حيال مشاهدته أو تذكُّره بأمثلة هذه الوقائع التي يواجهها يومياً.

إذن: التصاعد العاطفي بلغ درجة أعلى من سابقتها في نطاق هذا الموقف الذي يتطلّب مثل هذا التصاعد.

أخيراً، لو تابعنا تمام الخطبة المذكورة، لأدهشنا ما تنطوي عليه من قيم فكرية وعاطفية، مصوغة بطرائق هندسية متنوِّعة من المدّ أو التراخي العاطفيين، فضلاً عن الصياغة الإيقاعية والصوَرية التي لحظنا جانباً من تنوّعها وتواسقها، وفضلاً عن ( البناء ) الضخم الذي ( يوحّد ) بين مختلف أفكار الخطبة وموضوعاتها، وهو أمرٌ نحيله إلى القارئ ليمارس بنفسه عملية كشف لهذا النمط من الفنّ عند أهل البيتعليهم‌السلام .

الخطبة المتقدمة تمثّل نموذجاً من النصوص التي تُعنى بقيم الإيقاع والصورة، مصحوبة بدرجات متفاوتة من ملاحظة البُعد ( الانفعالي ) عند المتلقِّي تبعاً للموقف ومتطلباته.

قبال ذلك، نلحظ نماذج أخرى من الخطب التي لا تُعنى بقيم الإيقاع والصورة بقدر ما تُعنى بملاحظة الاستجابة الانفعالية عند المتلقِّي، أو لا تعنى بهذه السمة الأخيرة بقدر ما تُعنى بالعنصر الإيقاعي والصوري، أو لا تعنى بهما جميعاً بقدر ما تحرص على إيصال حقيقة من الحقائق العبادية إلى الجمهور، معوِّضةٍ عن القيم الصوَرية وغيرها بقيم الحديث المباشر مع الجمع، لكن وفق انتقاءٍ للعبارة المثيرة، المتوازية هندسياً، المتعاقبة سريعاً، المنْتَقاة أصواتاً، مع سهولة وإشراق وتمكّن وليونة لفظية.

ولعل خطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعروفة، التي ألقاها بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، تمثّل هذا النمط من الخطب التي تتميّز بما هو ( سهل ) وبما هو ( ممتنع )، ولنقرأ:

( أيُّها الناس، إنَّه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات. شهرٌ دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله: أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم

١٥٠

فيه مقبول....

أُذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقّروا فيه كباركم، وارحموا صغاركم , وصِلُوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عمّا لا يحلّ إليه النظر أبصاركم، وعمّا لا يحلّ إليه الاستماع أسماعكم، وتحنّنوا على أيتام الناس يُتحنّن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم... أيُّها الناس، إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم، وظهوركم مثقلة من أوزاركم فخفّفوها بطول سجودكم... ).

المُلاحَظ أن هذه الخطبة تبتعث الإثارة، بالقدر ذاته من الإثارة التي نلحظها في خطب أو أحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت ( ع )، ذات الطابع الإيقاعي والصوَري، وهذا يعني أن الإثارة الفنية لا تنحصر في نمط محدّد من الإيقاع أو الرسم، بل يتمّ ذلك من خلال أية لغة تأخذ البطانة الانفعالية والفكرية للجمهور المتلقِّي، حيث يكون لتوازن الجمل وتعاقبها أثراً في ذلك، أو يكون للانتقاء الصوتي غير المنتظم في ( قرار ) أثره أيضاً، أو يكون للتسلسل النفسي أو الزمني المصاحب لعرض أفكار الخطبة، أثره أيضاً، وهكذا...

إن الخطبة المذكورة لم تهجر نهائيّاً كلاًّ من الصوت المنتظم والصورة، بل توكّأت عليهما في أمثلة هذا البُعد الإيقاعي:

( وقّروا فيه كباركم، وارحموا صغاركم... وغضّوا عمّا لا يحلّ إليه النظر أبصاركم ).

ومن أمثلة هذا البُعد الصوَري:

( إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم، وظهوركم مثقلة من أوزاركم فخفّفوها بطول سجودكم ).

ولكن جاء كلٌّ من البُعد الإيقاعي والصوري المذكور، عابراً بالقياس إلى الإيقاع العام لمجموع الخطبة، والرسم العام لمجموعها. فالإيقاع العام يتمثّل في ذلك ( الجرس ) الذي تبتعثه الجمل المتوازية والمتعاقبة والمتكرِّرة:

( شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام , ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات ).

إن كلاًّ من التكرار والتعاقب والتوازي يشكّل ( عناصر ) إثارة لدى المستجيب، لا تقل عن الإثارة التي يبتعثها الإيقاع المنظّم أو الصورة المركّبة. والأهم من ذلك كلّه، أن ندرك بأنَّ السياق هو الذي يتدخل في تحديد هذا العنصر الفني أو ذاك. ففي سياق شهر رمضان المبارك الذي يقترن بخشوع عبادي خاص، لا يجيء الحثّ على استقباله من خلال كثافة

١٥١

إيقاعية أو صورية، بقدر ما يجيء ذلك من خلال لغة ميسّرة، خاطفة، متوازنة، متعاقبة، آخذٌ بعضها برقاب البعض: حتى يتساوق التطلّع الخاشع نحو هذا الشهر مع تماوج العبارة الفنية التي تحضر في عصب المتلقِّي تطلّعاً يُماثل ذلك.

المهم، أن الخطبة المذكورة تمثّل النمط الآخر من النصوص التي تتميّز بما هو ( سهل ) - كما قلنا - وبما هو ( ممتنع)، من خلال تحسّسنا بإشراقها وسحرها الفني، اللذين يندّان عن إمكان تفصيل الحديث فيهما، بقدر ما يفصحان عن ذاتهما بنحو عفوي نتذوّقه، ولا نعيه بلغة المنطق الفني وتحليله لمقوِّماته.

( الكتاب... )

يمكننا أن نذهب إلى أن هناك نمطاً من الكتابة الفنية، تتميّز عن ( الخطبة ) بكونها لا تعتمد ( البُعد الانفعالي ) للجمهور، بقدر ما تعتمد تقرير مجموعة من الحقائق العبادية بلغة علمية: إلاّ أنها موشّحة بأدوات الفنّ، من قيم صورية وإيقاعية ونحوهما، ممّا يجعلها مثل ( الخطبة )، مندرجة ضمن الشكل الأدبي.

ويتميّز ( الكتاب ) بكونه موجهاً إلى شخص - أو أكثر - أو جهة أو جمهور، ولكن ليس على نحو ( الخطاب )، بل على نحو ( الكتابة ) إليهم.

وهذا النمط من الكتابة يشمل جنسين فنّيين، هما:

١ - الرسالة.

٢ - الوصية.

ويُلاحظ أن كلاًّ منهما قد يفترق عن الآخر في السمات الأسلوبية، إلاّ أنهما قد يندمجان حيناً، إلى الدرجة التي لا نكاد نتبيّن خطوط الفارق بينهما.

( الرسالة ) تتّجه إلى شخص يتحمّل مسؤولية اجتماعية، مثل: القاضي، الحاكم، الموظفين بشكل عام، حيث تدور محتويات ( الرسالة ) حول أمور اجتماعية خاصة لها سمة السلوك العبادي بعامة. بَيْد أن تنفيذها يظلّ على صلة بالموظف المسئول كما قلنا.

أما ( الوصيّة )، فتحوم بدورها على موضوعات عامة، مثل ( الرسالة ) تماماً، كما قد توجَّه إلى شخص محدّد، أو إلى جمهور مبهم، إلاّ أنها - في بعض أشكالها - قد تكتسب بُعداً خاصاً يتصل بالوصيّ أو الموصى له، بحيث تنسلخ من صعيد الشكل الفني إلى مسائل خاصة تتصل بالأموال والحقوق، ممّا لا علاقة لها بموضوع دراستنا.

١٥٢

تأسيساً على ما تقدّم، يمكننا الذهاب إلى أن ( الرسالة ) و( الوصية ) - في شكلها الأول الذي أشرنا إليه - تندرجان ضمن شكل فنّي يتوسّل ب- ( الكتابة ) في توصيل الحقائق التي يستهدفها الكاتب، موجَّهة إلى شخص أو فئة أو جهة، وهذا من نحو ( الكتب ) التي وجّهها الإمام عليّ (ع) إلى الولاة مثلاً، ونحو الوصايا التي وجّهها (ع) لابنه الحسن (ع) والحسينعليه‌السلام ، فكلّ من ( الرسائل ) الموجَّهة إلى الولاة، و( الوصايا ) الموجَّهة إلى أفراد بأعيانهم، لا تختلف في مضموناتها الفكرية بعضاً عن الآخر، من حيث كونها ( إرشاداً ) إلى ظواهر عبادية ذات طابع فردي أو اجتماعي ( مع ملاحظة أن الرسائل الموجَّهة إلى الولاة وغيرهم من المسئولين قد تشدّد على السلوك السياسي مثلاً ).

ولكن مع ذلك فإن الموضوعات قد تتماثل في الشئون العبادية الأخرى. فحين يتحدّث الإمام (ع) عن الزهو والتكبر والأحجام عن قضاء الحاجات ( فيما يتصل بسلوك الولاة حيال الرعية )، فإن نفس ظواهر التواضع والاهتمام بحوائج الآخرين يطرحها الإمام (ع) في ( وصاياه ) لخاصة الناس وعوامّهم.

المهم: يعنينا من الملاحظة المتقدمة أن نتجه إلى السمات ( الفنية ) لكلّ من ( الرسائل ) و( الوصايا ) فيما أدرجناهما ضمن ما أسميناه ب- ( الكتاب ) الموجّه إلى مسئولٍ أو غير مسئول.

ويجدر بنا أن نتقدّم بنماذج لكلٍ من النمطين المتقدِّمين، ونبدأ ذلك بالحديث عن:

١٥٣

١ - الرسالة:

قلنا إن ( الرسالة ) صياغة فنيّة خاصة، تُوجّه إلى شخصيّة ذات طابع مسئول، وإن موضوعها - من الغالب - ( محدّد )، يخصّ نمط المسئولية التي يضطلع بها المسئول التي تُوجّه الرسالة إليه، وقد تتسع حيناً إلى آفاق متنوِّعة تتناول مختلف الموضوعات: على نحو ما نلحظه من رسالة الإمام علي (ع) إلى ( الأشتر ) مثلاً، بالقياس إلى الرسائل التي تتناول موضوعاً محدّداً، مثل رسالته (ع) إلى أُمراء الجيش، فيما تحوم على موضوعات عسكرية خاصة.

والمهم أنها تتناول ( موضوعاً محدداً )، موجهاً إلى ( مسؤول )، مصوغاً بشكل ( فنّي ).

نموذج رقم (١):

من رسالة للإمام عليّ (ع) إلى أحد عمّاله، عندما بلغه تراخيه من حمل الناس على الجهاد:

( أما بعد، فقد بلغني عنك قول هو لك وعليك. فإذا قَدِم رسولي عليك: فارفع ذيلك، واشدد مئزرك، واخرج من جُحْرِك، واندب من معك. فإن حقّقت فانفذ، وإنْ تَفَشَّلْت فابعد. وايّم الله لَتُوتيّن حيث أنت، ولا تُترك حتى يُخلط زبدُك بخاثرك، وذائبك بجامدك، وحتى تعجل في قعدتك وتحذر من أمامك كحذرك من خلفك... ).

الرسالة تتناول الحث على الجهاد كما هو واضح، وتتناول نتائجه إيجاباً أو سلباً، من خلال لغة ( العامل ) المُرسَل إليه.

ويعنينا منها: الصياغة الجمالية للرسالة. فبالرغم من أنها تتناول عملية ( حثٍّ ) يتطلّب مجرّد التعبير المباشر، أي غير المصوغ فنّيّاً، إلاّ أنَّه (ع) اتّجه إلى التعبير غير المباشر، فارتكن إلى عنصر ( الصورة ) أو ( الرمز )، حتى ينفذ بدلالاتها إلى ما هو أكثر استثارةً للنفوس.

إننا لو وقفنا عند الصورة ( الاستمرارية )، أي الصورة التي تتركَّب من جملة صور

١٥٤

متتابعة، ونعني بها صورة ( فارفع ذيلك، واشدد مئزرك، واخرج من حجرك )، ومثلها صورة ( حتى يُخلط زبدُك بخاثرك، وذائبك بجامدك )، للحظنا أن تينك الصورتين تتحدَّثان عن موقفين ل- ( الصراع )، لابدَّ أن يختار ( العامل ) أحدهما: فإما أن ينهض إلى الجهاد، وإمّا أن يتراخى عن ذلك. وفي الحالتين تتّجه ( الرسالة ) إلى التعبير ب- ( الصورة ) في تجسيد الصراع المذكور، وترسم نتائجه من خلال كلٍّ من الحثّ أو الابتعاد عن الساحة.

ولعل أبراز ( الصراع ) - في أشدّ حالاته - جسّدته الصورةُ الاستمرارية المتصلةُ، بخلط الزبد بالخاثر والذائب بالجامد.

وأحسبُ - من الزاوية الفنيّة - أن تجسيد ( الصراع ) لا يمكن أن تبلوره - من حيث العمليات النفسية والشدائد التي يواجهها الشخص - بصورة أشدّ عمقاً ووضوحاً من ( الصورة الفنية ) التي رسمها الإمام (ع) في هذا الصدد.

فبالرغم من أن هذه ( الصورة ) تبدو وكأنها ( مألوفة ) زمن التشريع، وأعني بها صورة ( اختلاط خاثر السَّمن برقيقه )، حيث إذا أُوقدت النار لتصفيته يحترق، وإن تُرك بقِيَ كدِراً... أقول: بالرغم من أن التجربة المذكورة تخص بيئةً محدّدة، إلاّ أنها تتجاوز ذلك إلى مطلق الزمن، فتوحي - كما هو شأن الصورة الفنية الناجحة - بمطلق التجارب التي يخلتط فيها ما هو ( خاثر ) بما هو ( رقيق )، سواء أكان سَمناً أم غيره، بخاصة أن الصورة المتقدّمة أردفها الإمام (ع) بصورة أُخرى هي: ( اختلاط الذائب بالجامد )، فهذه الأخيرة لم تُصَغْ لمجرّد التكرار، بل لتكملة أبعاد الصورة الأُولى: حتى يتبلور لدى القارئ مفهوم الصورة بأوضح أطرافها: بصفة أن كل ( ذائب )، مهما كان، حينما يخلط بما هو ( جامد ) لا يأخذ سمة ( الاستقرار )، ممّا يوحي بامتداد عملية ( الصراع ) النفسي الذي ألمح الإمام (ع) إليه.

نموذج رقم (٢):

وحين نتجه إلى رسالة أُخرى للإمام السّجاد (ع)، وجّهها إلى أحد المتعاونين مع السلطة الظالمة، نجد العنصر ( الصوَري ) يأخذ بُعداً آخر من الصياغة، التي تجسّد نمطاً آخر من أشكال العمليات النفسية التي تترتّب على التعاون مع الظالم، ولنقرأ:

( أوليس بدعائه إياك، حين دعاك، جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسُلّماً إلى ضلالتهم. داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم... ).

١٥٥

هذه الرسالة تمثّل أيضاً ( موضوعاً ) محدّداً، هو: التعاون مع الظالم. وتوجّه إلى ( شخص ) محدّد، وتُرسم وفق صورة (فنيّة).

وقد اتجه الإمام السجاد (ع) إلى صورة ( مألوفة ) أيضاً، على نحو ما لحظناه عند الإمام عليّ (ع)، هي صورة الرحى والجسر والسُّلّم. وبالرغم من أن الصورة التي لحظناها عند عليّ (ع) كانت أشدّ تكثيفاً من الصورة التي قدّمها السّجاد (ع)، إلاّ أن لكلٍّ منهما وظيفته النفسية في التعبير عن الحقائق. فالصورة التي تكتسب سمة ( النجاح ) في لغة النقد الفني، ينبغي أن تتّسم ب- ( الأُُلفة )، أي: وضوح أطرافها بالنسبة إلى القارئ. وهذه ( الأُلفة ) قد تتشابك بعض أطرافها كما هي الحال بالنسبة إلى الصور التي لحظناها في الرسالة السابقة، وقد تتوضّح بالنحو الذي نلحظه في الصورة التي نتدارسها الآن، وفي الحالين فإن السياق هو الذي يحدِّد نمط ( الأُلفة ): تشابكاً أو وضوحاً.

والآن، حين نعود إلى الصورة المألوفة ( الرحى، الجسر، السُّلّم )، نجدها قد اكتسبت أُلفتها من خلال استخدامها - في مختلف أزمنة الأدب - ( رمزاً ) تراثياً كما هو واضح. والمهم أن الإمام (ع) كان مستهدفاً توضيح الأبعاد المختلفة لعملية التعاون مع الظالم، فجاءت الصورةُ تمثيلاً للعملية المذكورة.

هنا، ينبغي أن ننتبه أيضاً إلى أن ( التكرار ) لصور ثلاثٍ متماثلة، ليست لمجرد ( التكرار )، بل إن استمرارية الصورة بهذا النحو استدعاها الموقف، ( فالرحى ) تمثّل مطلق المفارقات التي يمارسها الأشخاص، دون أن تبرز شخصية ( محددة ) في هذا النطاق. أما ( الجسر )، فيمثّل بروز الشخصية المتقدمة، حيث استُغلّت لتمرير أهدافهم، بملاحظة انسحاق الشخصية. وامَّا ( السلّم )، فيجسّد صعوداً على شخصية مُستغلَّة أيضاً، ولكن بملاحظة ارتفاعها، وليس انسحاقها.

وفي الحالات الثلاث جميعاً، تظل حيال ( شخصية ) مُستَثْمَرةٌ لتمرير المظالم على اختلاف المظاهر، وهذا ما يدلنا على مدى الدقة الفنية في صياغة الصور.

وبعامة: فإن النموذجَين المتقدِّمَين من ( الرسائل )، كانا متناولين لموضوعَين محدَّدَين، مثل الجهاد وعدم التعاون مع الظالم. وقد اكتفينا من العرض لهما ببعض الصياغة الفنية المتصلة بعنصر ( الصورة )، ومساهمتها في تعميق ( الغرض ) الذي تستهدفه الرسالة في الموضوعين المحددَين اللذين أشرنا إليهما.

والأمر نفسه يمكننا ملاحظته في ( الرسائل ) التي تتسم بالطول، وبموضوعات مختلفة، من حيث ارتكانها إلى عنصر ( الصورة ) وسواها من أدوات ( الفنّ ) التي تساهم في تعميق

١٥٦

الهدف.

ومنها - على سبيل المثال - رسالة الإمام علي (ع) إلى ( الأشتر )، فيما لا حاجة إلى الاستشهاد بها ( حيث تناولها الدارسون مفصَّلاً )، عِبْر اشتمالها على موضوعات تتصل بالولاة والعمّال والقضاة والعسكريين والتجار وذوي المهن والكتّاب... إلخ. وقد صيغت وفق لغة متينة مطبوعة بالوضوح واليُسر، وبتوازن الجُمل وتقابلها وبتراوحها الإيقاعي بين الطول والقصر، حسب ما يستدعيه الموقف.

وأهم ما في ذلك أنَّها تشتمل على دلالات فكرية ونفسية لم تقف عند مجرّد ( الإرشاد ) السياسي العام، بل على توشيحه ببطانة عميقة من الفكر، تجمع بين الإرشاد والاستدلال الفكري عليه، وهذا من نحو قولهعليه‌السلام :

( وإن ظنّت الرعيّة بك حيفاً، فاصحر لهم بعذرك... ).

إن ( الإصحار ) هنا يمثّل ( صورة فنية )، وليس تعبيراً مباشراً عن إظهار العذر. وأهمية هذه ( الصورة ) التي تتداعى بذهن المتلقِّي إلى ( الخروج إلى الصحراء ) - كما هو المدلول اللغويّ لها. حينئذٍ فإن الوصل بين ( الصحراء )، التي تعني الفسحة والسعة وعدم التحدّد، وبين إبراز ( العذر ) وإظهاره... مثل هذا الوصل بينهما، سيجعل القارئ متداعياً بذهنه بين بروز الصحراء وبروز العذر على نحو ( صوري ) وليس التعبير المباشر.

ولكن الأهم من ذلك هو، الوصل بين الدلالة النفسية لإبراز العذر وبين انعكاسه على استجابة الآخرين. فالعالِم النفسي يقدّر تماماً أهمية العمليات النفسية التي يستجيب لها الشخص من خلال ( إظهار العذر )، بحيث تزاح من أعماقه أية توترات وصراعات يخلّفها عدم الإعلان عن العذر. وهذا يعني أن ( الصورة الفنية - الإصحار بالعذر ) لم تنفصل عن ( العملية النفسية أو الصورة النفسية )، وهو أمرٌ يكسب الشكل الفنّي للرسالة قيمة جديدة كما هو واضح.

وأياً كان، يعنينا ممّا تقدّم أن نخلص إلى القول: بأن ( الرسالة ) ليست مجرّد ممارسة لفظية بتوصيات عامة، بقدر ما هي ( عملٌ فنّي ) تتآزر فيه جملة من العناصر الفكرية والنفسية المصوغة بأدوات الفن: من صورة وإيقاع وبناء هندسي... وما إليها.

أما البناء الهندسي للرسالة، فإن طولها يحتجزنا عن معالجة هذا الجانب. بَيْد أنَّه يكفينا أن نشير إلى أن ( الرسالة ) بدأت بالتوصية بالعمل الصالح، وشدّدت على ( تملك الهوى ) من جانبٍ وعلى ( الرحمة ) للرعيّة من جانب آخر:

( فليكن أحبُّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح... فاملك هواك... واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بالإحسان إليهم ).

هذا ( التمهيد ) - من حيث البناء الفنّي للرسالة - هو الذي ستحوم عليه كلّ موضوعات ( الرسالة ): من ( تملّكٍ للهوى) في التعامل مع الآخرين، أي سحق

١٥٧

الذات، ومن ( محبة ) للآخرين، أي التوجّه إلى خارج الذات، وهما قطبا السلوك الإنساني في التعامل مع الآخرين. وهذا يعني أن ( الرسالة ) قد انتظمتها عمارة فنيّة تتلاحم فيها الموضوعات على نحوٍ متناسقٍ جمالياً، وليس مجرد موضوعات تتوارد على الخاطر.

١٥٨

٢ - الوصية:

الوصيّة - كما قلنا - تكاد تماثل ( الرسالة ) في بعض أشكالها، سواء أكانت موجَّهة ( على نحو الكتابة ) أو على نحوٍ ( لفظي )، كما لو تقدّم الإمام (ع) بالتوصية اللفظية للشخص بدلاً من الكتابة إليه. إلاّ أنها في الحالتين تبقى مطبوعة بالسمات الموضوعية والفنية التي لحظناها في ( الرسالة )، من حيث تحدّد أو تنوّع موضوعاتها، ومن حيث كونها موجَّهة إلى شخصٍ أو جهة، ومن حيث كونها تعتمد أدوات التعبير الفنّي.

من نماذج ذلك - على سبيل المثال - وصيّة الإمام عليّ (ع) إلى الحسنعليه‌السلام :

( من الوالد الفان، المقرّ للزمان، المُدبر العمر، المستسلِم للدهر، الذّام للدنيا... ).

إن هذا الاستهلال يفسح - كما هو بيّن - عن الشكل الأدبي لهذا النمط من الكتابة، إنه: التوصية الموجَّهة إلى شخص هو الحسنعليه‌السلام . إلاّ أنها بالرغم من اتسامها بما هو خاص ( التوجّه إلى شخص )، نجدها تتجه - بطريق غير مباشر - إلى عامة الناس. كما نجدها تعنى بمختلف الظواهر العبادية. ويمكننا ملاحظة ذلك في وصلها - منذ البدء - الاستهلالَ بذمِّ الدنيا وإدبار العمر، من خلال التعريف بموقف شخصيته (ع) من الدنيا.

وهذا الاستهلال بتعريف شخصيته (ع) يتضمّن نمطين فنّيّين من صياغة الوصيّة، فمن الحقائق المألوفة ( في حقل العمل الفني ) أنه يجمع بين الخاص والعام، أي: ينطلق الكاتب من قضية ( فردية ) أو ( خاصة )، ليصلها بما هو ( عام )، حتى يُستكمل تمرير الهدف الفكري الذي يَحرص الإمام (ع) توصيله إلى الآخرين. وها هو الإمام (ع) يواصل صياغة ( الوصية ) وفق بناءٍ عماري تتواشج وتتنامى من خلاله: الموضوعات التي انتظمتها الوصيّة، ( فيُفصّل ) ما أجمله في ( التمهيد )، قائلاً:

(أما بعد، فإني فيما بيّنتُ من إدبار الدنيا عنّي، وجموح الدهر عليّ، وإقبال الآخرة إليّ... حتى كأنَّ شيئاً لو أصابك أصابني، وكأنّ الموت لو أتاكَ أتاني، فعناني من أمرك

١٥٩

ما يعنيني من أمر نفسي... ).

في هذا المقطع، ( يفصّل ) الإمام (ع) مُجمل ( التمهيد ) المتصل بإدبار العمر وسواه، واصلاً بين شخصيته (ع) وشخصيّة ولده، من خلال الدافع ( الأبوي )، وهو بدوره يحوم على ما هو ( خاص). بَيْد أنه (ع) يواصل في المقطع الثالث حديثه عن ظواهر عامة، بالرغم من أنها موجَّهة إلى ولدهعليه‌السلام ، لكنّها تحوم على تفصيلات أكثر تنوّعاً:

( احي قلبك بالموعظة، وموّته بالزهد، وقوّه باليقين، ونوّره بالحكمة، وذلّله بذكر الموت، وقرّره بالفناء، وبصّره فجائع الدنيا، وحذّره صولة الدهر... ).

فالملاحظ أن المقطع الثالث جاء ( تنميةً عضوية )، أيّ: تطويراً لأفكار بدأت في المقطع الأوّل بمطلق ( فناء العمر )، وأُضيفَ إليها في المقطع الثاني الوصل بين شخصية الأب والابن من حيث انعكاسات ( الفناء ) المذكور. ثم جاء المقطع الثالث ليُفصّل الحديث عن ( الفناء ) وارتباطه بنمط السلوك، الذي ينبغي أن تختّطه الشخصية في تعاملها مع ظواهر الحياة المفضية إلى ( الفناء ). ثم تتوالى المقاطع واحداً بعد الآخر لتتحدّث عن تجارب الحياة والعمر، وصلة ذلك بمحدِّدات السلوك الذي طالب الإمام (ع) بممارسته.

كلّ أولئك يتمّ وفق نماءٍ وتطويرٍ فنّي لأفكار الوصية التي تتواصل أجزاؤها وتتلاحم بعضاً بالآخر ؛ ممّا يكسب النصّ جماليةً فائقة في الهيكل الهندسي له.

وإذا تركنا السمة الفنية المتصلة ب- ( البناء العماري ) للنص، إلى سائر أدوات الفنّ الأخرى، ومنها: عنصر ( الصورة )، لأمكننا ملاحظة هذا العنصر بنحوٍ يساهم - من خلاله - ببلورة المفهومات التي طرحها الإمام (ع) عن الحياة وتجربة العمر والفناء... وما إليها من الموضوعات التي وقفنا عليها في المقاطع المتقدّمة.

من ذلك مثلاً: رسمه (ع) للقلب عملياتٍ خاصة، هي: الإحياء، والأمانة، والقوّة، والتنوير، والتذليل، والتبصير، والتحذير. وهذه الرسوم ليست مجرّد عرض عابر، بقدر ما تشكّل ( صوراً فنيّة )، بالرغم من أنها لم تأخذ شكل الصورة التركيبية ذات البُعد ( الرمزي ) المكثَّف، بل أخذت شكلاً مألوفاً سهلاً، إلاّ أنها خضعت لمبدأ فنّي هو: ( التضاد ) و( التماثل ).

( فالتضاد من خلال التماثل ) يشكِّل - في لغة النقد الفنّي - واحداً من أشكال الصياغة المعاصرة لأشكال الفن. (التضاد) هنا بين ( إحياء ) القلب و( إماتته )، ولكن من خلال ( التشابه ) الذي يجسّد مفهوم ( المعرفة ) العبادية. كما أن ( التباين ): من ( تقوية ) و( تنوير ) و( تذليل )، من خلال ( التشابه ) المذكور، يجسّد نفس الفاعليّة الفنيّة

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191