الإسلام والفن

الإسلام والفن0%

الإسلام والفن مؤلف:
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 191

الإسلام والفن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور محمود البستاني
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
تصنيف: الصفحات: 191
المشاهدات: 60273
تحميل: 24123

توضيحات:

الإسلام والفن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 191 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60273 / تحميل: 24123
الحجم الحجم الحجم
الإسلام والفن

الإسلام والفن

مؤلف:
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عنصر ( المفاجأة ) وعملية احتراق ( المزرعة ).. وهذا يعني أن عنصر المقارنة ( تشبيهاً أو استعارةً أو رَمزاً أو مطلق الصورة الفنية ) قد اعتمد ( الحكاية أو الأُقصوصة ) بدلاً من أداة التشبيه أو الاستعارة أو الرمز...

طبيعياً ثَمَّة مسوِّغ فني لأنْ تُصاغ الصورة ( حكاية ) بدلاً من مجرد التركيب لظواهر عامة، ففضلاً عن جمالية هذا النمط من التركيب الصوري الذي يعتمد الحكاية عنصر مقارنة أو مزاوجةٍ، نجد أن الأُقصوصة أو الحكاية لها وظيفتها المتميّزة في التعبير عن الظاهرة المبحوث عنها. فسواء أكان الهدف منها هو إبراز الندم الذي يصدر عن المرائي مثلاً، أو المنغمس في متاع الحياة أو غيرهما، فإن المهم هو إبراز المفهوم المشار إليه: أي ( الندم)، طالما نعرف بأن من الندم ما ينحصر في إشباعات غير ضرورية.. ومنه ما يتلافى مثلاً.

إلاَّ أنّ من الظواهر ما لا يحتمل الندم عليها، بل يظل التمزّق والانسحاق والانشطار النفسي يُلاحق الشخص، مثل الحكاية التي افترضتها الصورة الفنية التي نحن في صددها. إن المزرعة هي المصدر الوحيد للشخص المشار إليه، يتوقّف عليها تأمين جميع حاجاته الرئيسة مثل المطعم والملبس والمسكن، وحاجاته الثانوية في مختلف مستوياتها.. ومن الممكن أن يعوّض الشخص عن ذلك في حالة كونه شاباً، أو كهلاً بمقدوره أن يلتمس مصدراً آخر للرزق، كما يمكن لذُرِّيته - لو كانوا كباراً - أن يتولّوا نفقته ونفقتهم.. إلاّ أنه وقد كَبِرَ دون أن يستطيع عمل شيء ما، كما أنه مسئول عن ذرية ضعفاء: حينئذٍ فإن تأمين حاجته من جانب، وحاجة الذرية من جانب آخر، يظل أمراً لا يمكن تلافيه ؛ ممَّا يستتلي وقوعه في صراع وتمزّق لا حدود لهما، طالما لا يسعفه التحسّر أو الندم على ما أصاب مزرعته من الاحتراق..

إذاً سرد مثل هذه ( الحكاية ) أو الأُقصوصة، ينطوي على مهمة فنِّية في غاية الخطورة، حينما تصاغ في تركيب صُوَري يستهدف لفت النظر إلى الندم والحسرات التي تلحق الشخصية في اليوم الآخر، عندما يجد أن الإمتاع الدنيوي الذي غرق فيه قد انحسر تماماً، حيث لا ينفعه الندم على ما فاته من التقصير العبادي.

ومن الواضح أن تعميق مثل هذا المفهوم من الممكن أن يتم وفق صورة تركيبية حيوية ( أبطال، حوادث، بيئات )، بما يواكبها من تحليل وتعقيب، وبما تنتظمها من عناصر تشويق مختلفة، حينئذٍ تشدّ المتلقِّي إلى الحكاية أكثر من غيرها، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن صياغة هذه الصورة التمثيلية جاءت عقب صورة حقّقت هدفها الفني، صورة ( الحجر الذي أصابه وابل ) فيما تحدثنا مفصّلاً عنها، كما أنها جاءت في صياغة تساؤل يستهدف تأكيد الحقيقة المشار إليها( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ.. ) .

١٤١

كل أولئك يشكّل مسوِّغاً لأنْ تُصاغ الصورة بنحوها ( التمثيلي)، يحقّقه بذلك: عنصر التنوّع في التركيب الصوري من جانب ؛ تحقيقاً لمزيد من الإمتاع الفني.

مضافاً إلى أن العنصر القصصي ذاته ينطوي على إمتاع آخر. ثم عنصر التعميق لهدف خطير هو: حمل الشخصية على تعديل سلوكها قبل أن يمتنع عليها ذلك، علماً بأن نفس هذه الصورة تتضمَّن الهدف المشار إليه.

١٤٢

العنصر الإيقاعي:

في عرضنا للعنصر البنائي والقصصي والصُوَري، نكون قد ألممنا - عابراً - بمجمل السِّمات الفنية للنص القرآني الكريم. وحين نتَّجه إلى العنصر الإيقاعي، نجده ملحوظاً بشكل لافت، لا يكاد يجهله أحد من القرّاء في هذا الصدد. فالسُّوَر جميعاً - عدا النادر - لا تخلو من عنصر ( القرار ) أو ( القافية ) التي تنتهي إليها الآية، مع ملاحظة أن البعض من السور ( تتوحّد ) قوافيها، والغالبية ( تتنوّع ) في ذلك.

وفيما يتّصل بالبُعد الثاني من عناصر الإيقاع، وهو ( التجانس ) بين أصوات العبارة المتنوّعة، فهذا ما لا تكاد أية سورة تخلو منه، حتى إنك لو قرأت سورة ( المُلك ) مثلاً، لوجدتَ أن حروف ( س، ص، ز ) بصفتها تنتسب إلى أصل صوتي واحد، تلاحق عبارة السورة حتى نهايتها، بخاصة ( س - ص )، مثل: أحسن، سَبع، سماوات، البصر، السماء، بمصابيح، السعير، المصير، سمعوا، سألهم، زَيَّنَّا، نَزَّلَ، نسمع، السعير، حاصباً، فَسَتَعْلَمُون، صافات، يُمْسِكُهُنَّ، بصير، ينصركم، يرزقكم، أَمْسَكَ، رِزْقَه، تَمَيَّز، سَوِيَّاً، صراط، مستقيم، السمع، الأبصار، زُلْفَةً، سِيئَتْ، فستعلمون، أصبح...

إنَّ هذه المفردات التي شكّلت نسبة تقريبية ( ٢٠% ) من عدد كلمات السورة بأجمعها، تمثِّل نموذجاً ل- ( التجانس ) الصوتي في العبارة القرآنية الكريمة، وحتى لو فَصَلْنا أحد حروفها، وهو ( س )، لوجدناه يمثّل نسبة تقريبية هي ( ١٢%).

وهذا كله من حيث صلة الصوت بمجموع السورة.

أما صلته بفقرة، أو آية، أو قرار، فأمرٌ من الوضوح بمكان ملحوظ. فلو وقفنا عند نفس السورة، لوجدنا - مثلاً - هذه الفقرة:( وَلَقَدْ زَيّنّا السّماءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) ، للحظنا التجانس الصوتي في حروف ( السين والصاد والزاي ) في( وَزَيّنّا السّماءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) ، وهكذا في فقرة( فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السّعِيرِ ) ، ومثلهما( الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ) ، ومثلهما( سَوِيّاً عَلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ، ومثلها( السّماءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ

١٤٣

حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ ) ومثلها( يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ) ، فحتى مع افتراض أن نسبة الصوت إلى مجموع السورة قد ينسحب على سور كثيرة أخرى، حينئذٍ فإن تجانس حتى فقرة واحدة يعدّ إفصاحاً عن جمالية العبارة المذكورة.

ففي السورة ذاتها مجموعة من الفقرات المتجانسة ( صوتياً ) من حروف أخرى مثل:( وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السّعِيرِ ) حيث يجيء الحرف ( ع ) هو العنصر المُجانس بين الأصوات. إنه من الممكن حالة قِيام أحد الباحثين برصد هذا الجانب لسور القرآن الكريم، أن يكتشف أسراراً صوتية بالغة المدى، ليس في حدود السمة الجمالية فحسب، بل: السمة الإعجازية أيضاً (١)، كما أن رصد العلاقة بين الدلالة والإيقاع: أي بين معنى العبارة وحروفها، يساهم في اكتشاف سمات جمالية بالغة الدهشة. بَيْد أن تناول هذه الجوانب يتطلّب وقتاً قد لا نتوفّر عليه في صعيد التناول المُجمل للفن القرآني الكريم.

____________________

(١) نهضت إحدى الدراسات برصد أوائل السور، مثل:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو ( ق )... وسواهما، وعلاقتها بمجموعة أصوات السورة، وملاحظة الاطراد بين افتتاحيَّتها ونسبتها الغالبة على سائر الحروف في السورة. ومعلوم أن مثل هذه الدراسة تعزّز الاتجاه المؤكَّد الذاهب إلى عدم ( التحريف ) في القرآن الكريم.

١٤٤

[ أدب السُّنَّة ]

الخطبة:

الخطبة شكل فني يعتمد الإثارة العاطفية عنصراً في صياغته. وبالرغم من أن العمل الفنّي بعامة يظلّ متميّزاً عن التعبير العلمي، بخلو هذا الأخير من العنصر العاطفي وتجسّده في العمل الأول، إلاّ أن النِسَبَ العاطفية تحتفظ بتفاوتٍ ملحوظ من شكل لآخر: ففي حين تكاد القصيدة الغنائية - مثلاً - تتمحّض للعنصر العاطفي، نجد أن العنصر المذكور تضؤل نِسَبُه في الأشكال الشعرية الأخرى، ويكاد يختفي في العمل القصصي في بعض أشكاله ويطغى في أشكال أخرى، وهكذا.

وفيما يتصل بالخطبة، فإن العنصر العاطفي يظلّ طابعاً ملازماً لهذا النمط من الفن، نظراً لطبيعة ( الموقف ) الذي يستدعيه.

ومن الحقائق المألوفة في حقل ( الاجتماع )، أن ( الجمع ) يكتسب سمة جماعية يفقد من خلالها كلُّ فرد سمته الشخصية ليندمج في المجموع. وعملية الاندماج المذكورة تقوم أساساً على ( عاطفية شديدة ). ويحدِّد علماء الاجتماع ثلاث سمات، هذا الجمع هي: الانبهار، الإيحاء، العدوى. وكلّ من السمات المذكورة تقوم على الأساس الانفعالي الذي أشرنا إليه.

ومعلوم أن ( الخطبة ) هي التي تضطلع بمخاطبة هذا ( الجمع )، فيما تستثمر هذه السمات لتمرير أفكارها التي تستهدف إيصالها للجمع، ومن ثَم تستطيع الخطبة أن تكسب ( الجمع ) بنحوٍ لا تستطيع الأشكال الفنية الأخرى أن تحقّقه.

المهم، مادام العنصر ( الانفعالي ) هو السمة المميزة لفنّ الخطبة، حينئذٍ فإن السمة المذكورة ستحدِّد أيضاً بناء الخطبة وسائر عناصر الشكل الذي تقوم عليه. وبالرغم من أن ( الأساس الانفعالي ) الذي تقوم عليه ( الخطبة )، تتطلّب مجرد انتقاء ( المواقف ) وطريقة طرحها، إلاّ أن الأدوات الفنية من إيقاع وصورةٍ، ستساهم دون شك في تصعيد الموقف الانفعالي أيضاً.

١٤٥

من هنا تجيء الخطبة مماثلة لسائر أجناس الأدب الإنشائي، من حيث توفّر العناصر الأساسية الأربعة للفن، وهي: الصوت والصورة والبناء والطرافة.

مع ذلك، فإن ( السمة الانفعالية ) لا تعدّ في كلّ الحالات أمراً ضرورياً في الخطبة، بخاصة فيما يتصل ( بالفن التشريعي )، الذي لا يلجأ في الغالب إلى الاستثارة العاطفية إلاّ في نطاق محدّد، يلتئم مع الجديّة والرصانة اللتين تتميّز بهما الشخصية الإسلامية. حتى في نطاق تجارب الأرض لا يمكننا - في الواقع - أن نقرّ الاتجاه الأدبي الذاهب إلى ضرورة طغيان العنصر الانفعالي في الخطبة، مادمنا نلحظ نماذج كثيرة من أدب الخطبة تحتفظ بالموضوعية، أو لا أقل بالنضج الانفعالي قبال الهياج العاطفي الذي لا يلتئم مع سويّة الشخصية. هذا إلى أن كثيراً من المواقف لا تتطلّب انفعالات حادة بقدر ما تتطلّب طرح الظاهرة بنحوٍ منطقي هادئ، كما لو كان الموقف يتّصل بطرح مفهومات فلسفية عن الكون والمجتمع والإنسان مثلاً.

أخيراً، ينبغي إلاّ نرسم حدوداً فاصلة بين ما ألِفَه الأدب الموروث من ( الخطبة )، وبين ما نألفه في حياتنا المعاصرة من شكل نصطلح عليه ب- ( الكلمة). فكلتاهما - أي الخطبة والكلمة - تخضعان لنفس المعايير التي يستلزمها ( موقف جمعي)، مستعد للاستماع إلى معرفة حقيقة من حقائق الحياة الاجتماعية في تطلّبها تغييراً اجتماعياً ما.

على أيّة حال، يعنينا من العرض المتقدم لفنّ الخطبة أو الكلمة، أن نتّجه إلى ( الأدب التشريعي ) في هذا الصدد، لملاحظة القيم الفنيّة والفكرية التي تنطوي عليها نماذج الفنّ المذكور. وسلفاً سنأخذ بنظر الاعتبار أن الأُسس الانفعالية من جانب، وإبقاء التخوم الفاصلة بين الخطبة والكلمة، سوف لن تبقى موضع عناية كبيرة في النموذج الذي نختاره، فضلاً عن أننا لا نحرص على عرض النماذج بكاملها: إما لعدم وصول البعض من الخطب إلينا كاملةً، أو أن الاكتفاء ببعضٍ من أقسامها كافٍ في التعرّف على قيم الخطبة فنياً وفكرياً.

نموذج (١)

من خطبة للإمام عليّعليه‌السلام ، يقول فيها بعد حمد الله ( تع ) والصلاة على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( أُوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضَرب الأمثال، ووقّت لكم الآجال، وألبسكم

١٤٦

الرياش، وأَرْفَغَ لكم المعاش، وأحاطكم بالإحصاء، وأرصد لكم الجزاء، وآثركم بالنعم السوابغ والرفَّد الرَّوَافِغِ، وأنذركم بالحجج البوالغ. وأحصاكم عدداً، ووظَّفَ لكم مُدَداً، في قرار خِبْرَةٍ ودار عِبْرةٍ، أنتم مختَبَرون فيها ومحاسبون عليها. فإن الدنيا رَنِقٌ مشربُها رَدِغٌ مشرعُها، يُونِقُ منظرها ويُوِبقُ مخبرها، غرور حائل وظلّ زائل وسناد مائل. حَتَّى إِذَا أَنِس نافِرُهَا واطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا، قَمَصَتْ بأَرجُلِها، وقَنَصَتْ بأَحْبُلِها، وأَقْصَدَتْ بأَسْهُمِها، وأَعْلَقَتِ المرءَ أَوْهَاقَ المَنيَّةِ، قائدةً له إلى ضَنْك المضجع، ووحشة المرْجِع... ).

ثم تتّجه الخطبة أو الكلمة إلى ظاهرة النشور حيث ينتهي بذلك القسْم.

ويعيننا من هذا النموذج أن نعرض عابراً إلى قيمها الفنية أولاً، حيث نلحظ ( القيم الصوتية ) متمثِّلة في ما أسميناه ب- ( القرار الإيقاعي )، ثم ( التجانس )، ثم ( التوازي ). فالخطبة في غالبيتها ذات قرارات متنوِّعة: ( رياش / معاش، سوابغ / بوالغ، حائل / زائل / مائل،... ).

أما عنصر ( التوازي )، فيحتل مساحة ضخمة من النصّ، تكاد تتكافأ مع مساحة (القرارات) ذاتها.

ولنقرأ مثلاً:

مختَبرون فيها - محاسبون عليها

رَنِق مشربها - رَدِغ مشرعها

يُونِق منظرها - يُوبِق مخبرها

قمصت بأرجلها - قنصت بأحبلها

إلخ

حيث إن كلَّ ( قرارٍ ) مسبوقٌ بجملة متوازية مع الأخرى كما هو واضح.

أخيراً: ( التجانس ) الصوتي بين مختلف أنماط العبارة، حتى إنّ ( الجملة المتوازية ) أيضاً تخضع للتجانس بين أصواتها، مثل (يُونِق / يُوبِق، قَمَصَتْ / قَنَصَت )، مضافاً إلى التجانس الذي يتجاوزها ليشمل فقرات لاحقة، مثل الفقرات الثلاث: (قمصت بأرجلها، وقنصت بأحبلها، وأقصدت بأسهمها )، حيث يلاحظ المتذوّق إيقاعاً بالغ المدى في تجانس الأصوات الثلاثةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مضافاً إلى الصوت ( س ) في الفقرة الأخيرة، فيما تتجانس معصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانتسابهما مع حرف ( الزاي ) إلى مجموعة صوتية واحدة كما هو واضح.

ونتّجه إلى عنصر ( الصورة )، فنجدها محتشدةً في المقطع الخاص بالحياة الدنيا. ولا نحتاج إلى أدنى تأمّل لندرك السرّ النفسي وراء الارتكان إلى العنصر الصوَري في هذا المقطع ؛ متمثِّلاً في الحرص على تعرّفها تماماً، فيما يجيء العنصر الصوَري معمِّقاً ومجلّياً ومبلوراً مفهوم الحياة الدنيا، وفيما تتركّز عندها وظيفتنا الخلافية، فضلاً عمّا يتوقّف عليها مصير الحياة

١٤٧

الأبدية.

والمهم، أن العنصر الصوَري يتلاحق في هذا المقطع الذي استشهدنا ببعض نماذجه، المتصلة برنق المشرب وردغ المشرع، وقمص الأرجل وقنص الأحبل... إلخ. فلو وقفنا - على سبيل المثال - على الصورتين الأخيرتين: ( قمص الأرجل وقنص الأحبل )، للحظنا أنهما تنتسبان إلى خبرات مألوفة يومياً، لكنّها متسمة بالطرافة في الوقت ذاته، وهما سمتا الصورة الناجحة فنياً، أي: قدرتها على الاستثارة. فقمص الأرجل هو ( رفعها وطرحها معاً )، وقنص الأحبل هو ( الاصطياد بحبائلها )، وهذا يعني أن الصورتين تريدان أن تقولا لنا: إن الموت هو النهاية للحياة التي صوّرتها الخطبة قبل هذه الفقرات. إلاّ أن هذا القول تَمَّ من خلال صورتين: أولاهما: تجسّد عنصر ( المباغتة ) التي ترفع الأرجل وتضعها فجأةً لينتهي كل شيء، والثانية: تجسّد عنصر ( المخادعة ) التي تصطاد ضحيّتها بشباكها.

إذن: كلّ من ( المباغتة ) و( المخادعة)، وهما - كما نعرف جميعاً - من أبرز مظاهر ( الحرب )، وأنجح وسائلها في إحراز النصر، يظلان من سمات ( الحياة الدنيا ) في حربها مع الكائن الآدمي... من هنا ينبغي أن ينتبه القارئ إلى أهمية هذا العنصر ( الصوَري ) في الخطبة، بالرغم ممّا يبدو للمتأمل العابر بساطة هذه الصور وأُلفَتَها في الحياة اليومية، إِلاّ أن هذه البساطة أو الأُلفة كانت من العمق والاصطفاء، والغنى والتنوّع، إلى الدرجة التي جسّدت من خلالها أبرز ما يمكن استخدامه في الممارسات العسكرية، التي تفصح عن ( العداء المستحكم ) بين طرفي الحرب.

ولا نعتقد أن ثَمَّة صورة أخرى يمكنها أن تكشف لنا طبيعة المظهر الدنيوي في ( محاربته ) للآدميين، واستخفاء ذلك عليهم، بمثل الصورة المتقدِّمة، بالرغم من بساطة الصورة وأُلْفَتِها في الحياة اليومية، وهي حركة الفَرس المذكورة. وهذا هو ما يفصل بين (فنٍ تشريعي ) لا يصدر عن بشرٍ عادي، وبين ( فنّ وضعي ) لا يمكنه أن يحقّق كل أطراف الصورة الناجحة بالنحو الذي لحظناه.

أما فيما يتصل بالعنصر الرابع من أدوات الفن، ونعني به ( البناء)، فلا يمكننا أن نتحدّث عنه مادمنا قد اخترنا قسماً من الخطبة. علماً بأن أهمية البناء الهندسي للنص لا يمكن أن يتّضح إلاّ بالوقوف على النص بأكمله، لكن مع ذلك يمكننا أن نتعرّف بوضوح على ( نموّ ) مقاطع هذا القسم الصغير الذي اقتطعناه من الخطبة، حيث لحظنا كيف أنها ابتدأت بتعريف الوظيفة الخلافية لنا، وانتقالها إلى رسم معالم ( الحياة الدنيا )، ثم انتقالها إلى حدث ( الموت )، وانتقالها بعد ذلك إلى الحياة (الآخرة )، حيث أخذت كلاً من التسلسل الزمني و

١٤٨

النفسي بنظر الاعتبار، وهو أمرٌ له أهميته الكبيرة في عملية الاستجابة الفنية للنص.

الآن، بعد أن لحظنا عناصر: الإيقاع والصورة والطرافة والبناء، يتعيّن علينا أن نتّجه إلى ( قيمها الفكرية ) وعناصرها ( الانفعالية ) بالنسبة للقارئ والمستمع، وليس بالنسبة إلى صاحب الخطبة بطبيعة الحال.

أما قيمها الفكرية، فمن الوضوح بمكانٍ، وقد لحظناه من خلال العرض السريع لأفكار الخطبة الحائمة على التعريف بطبيعة الحياة الدنيا، وموقعنا العبادي منها.

وأما قيمها العاطفية، فقد لحظنا أن هذا العنصر قد صيغ بطريقة رصينة لا مجال للتهريج الانفعالي فيها، بل إن ( المنطق ) الممتزج بإثارة عاطفية هادئة هو السمة المُحكمة للخطبة.

ولو تابعنا سائر أجزاء الخطبة، للحظنا أن هذا العنصر يتصاعد حيناً ويتراخى حيناً آخر ؛ تبعاً للموقف النفسي الذي نستجيب له حيال هذه الظاهرة أو تلك. فمثلاً نجد أن ( التصاعد ) بالعاطفة يأخذ مساره حين نواجه هذه التحذيرات:

( فاتّقوا تقيّة مَن سمع فخشع، واقترف فاعترف، ووَجِل فعَمِل، وحاذر فبادر، وأيقن فأحسن، وعُبِّر فاعتبر، وحُذِّر فازدجر، وأجاب فأناب ).

بغض النظر عن الجمال الإيقاعي لهذه الفقرات، التي احتفظت كلّ واحدة منها ب- ( قرارين متصلين )، مثل: سمع فخشع، اقترف فاعترف، وَجِل فعَمِل... إلخ، بغض النظر عن هذا الإيقاع الذي احتلّ له صياغةً خاصة في هذا القسم من الخطبة، وأهميّة ( التنوّع ) في أشكال الإيقاع من مقطع لآخر،... بغض النظر عن هذا كله، نجد أن الإيقاع - بشكله المتقدّم - ساهم في ( التصاعد ) بالموقف العاطفي للمستمع والقارئ، حيث جاء توالي الفقرات وتوالي تجانسها - بالشكل المتقدم - متناسباً مع توالي ( التحذيرات )، التي تتصاعد بمشاعرنا إلى أن ( ننفعل ) أكثر بهذه التوصيات، وأن نتحمّس بنحو أشدّ في الإفادة من التجارب، بحيث تصبح فُرصُ ( التعديل ) لسلوكنا أكثر ملائمةً في هذا الموقف.

ثم يتصاعد الموقف ( الانفعالي ) بنا نحو درجة أعلى حينما نواجه هذا التهديد:

( فهل ينتظر أهل بضاضة الشباب إلاّ حواني الهرم، وأهل غضارة الصحّة إلاّ نوازل السَّقَم، وأهل مدة البقاء إلاّ آونة الفناء: مع قرب الزِّيَال وأُزوف الانتقال، وعَلَزِ القلق، وألم المضض... ).

أيضاً، بغض النظر عن العنصر ( الصوَري ) الذي احتشد في هذا المقطع من الخطية، بالقياس إلى العنصر ( الإيقاعي ) الذي احتشد في سابقه،... بغض النظر عن هذا البناء الهندسي الذي يُرْسَم حيناً - في أحد جوانب العمارة - هيكلاً إيقاعياً،

١٤٩

وحيناً آخر - في جانب ثانٍ - منها يُرْسَم صوَرياً، ويُناسَق بين مختلف الجوانب... بغض النظر عن جمالية هذا المبنى الهندسي للخطبة، نجد أن ( التصاعد ) بالموقف الانفعالي يأخذ طابعه الملحوظ، من خلال نقلنا إلى الموجَّهة المباشرة مع وقائع الحياة، فالهرم والسَّقَم والقلق وسواها، تشكّل مظاهر يومية نأسى لها وننفعل بمشاهدتها لدى الآخرين أو لدى أنفسنا بالذات، فالشاب مثلاً حينما يواجه قريباً له قد احتوشه الهرم أو المرض الذي لا شفاء منه، أو المرض الذي لا يسمح بممارسة العمل العبادي المطلوب،... مثل هذا الشاب ( ينفعل ) بالضرورة، حيال مشاهدته أو تذكُّره بأمثلة هذه الوقائع التي يواجهها يومياً.

إذن: التصاعد العاطفي بلغ درجة أعلى من سابقتها في نطاق هذا الموقف الذي يتطلّب مثل هذا التصاعد.

أخيراً، لو تابعنا تمام الخطبة المذكورة، لأدهشنا ما تنطوي عليه من قيم فكرية وعاطفية، مصوغة بطرائق هندسية متنوِّعة من المدّ أو التراخي العاطفيين، فضلاً عن الصياغة الإيقاعية والصوَرية التي لحظنا جانباً من تنوّعها وتواسقها، وفضلاً عن ( البناء ) الضخم الذي ( يوحّد ) بين مختلف أفكار الخطبة وموضوعاتها، وهو أمرٌ نحيله إلى القارئ ليمارس بنفسه عملية كشف لهذا النمط من الفنّ عند أهل البيتعليهم‌السلام .

الخطبة المتقدمة تمثّل نموذجاً من النصوص التي تُعنى بقيم الإيقاع والصورة، مصحوبة بدرجات متفاوتة من ملاحظة البُعد ( الانفعالي ) عند المتلقِّي تبعاً للموقف ومتطلباته.

قبال ذلك، نلحظ نماذج أخرى من الخطب التي لا تُعنى بقيم الإيقاع والصورة بقدر ما تُعنى بملاحظة الاستجابة الانفعالية عند المتلقِّي، أو لا تعنى بهذه السمة الأخيرة بقدر ما تُعنى بالعنصر الإيقاعي والصوري، أو لا تعنى بهما جميعاً بقدر ما تحرص على إيصال حقيقة من الحقائق العبادية إلى الجمهور، معوِّضةٍ عن القيم الصوَرية وغيرها بقيم الحديث المباشر مع الجمع، لكن وفق انتقاءٍ للعبارة المثيرة، المتوازية هندسياً، المتعاقبة سريعاً، المنْتَقاة أصواتاً، مع سهولة وإشراق وتمكّن وليونة لفظية.

ولعل خطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعروفة، التي ألقاها بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، تمثّل هذا النمط من الخطب التي تتميّز بما هو ( سهل ) وبما هو ( ممتنع )، ولنقرأ:

( أيُّها الناس، إنَّه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات. شهرٌ دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله: أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم

١٥٠

فيه مقبول....

أُذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقّروا فيه كباركم، وارحموا صغاركم , وصِلُوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عمّا لا يحلّ إليه النظر أبصاركم، وعمّا لا يحلّ إليه الاستماع أسماعكم، وتحنّنوا على أيتام الناس يُتحنّن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم... أيُّها الناس، إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم، وظهوركم مثقلة من أوزاركم فخفّفوها بطول سجودكم... ).

المُلاحَظ أن هذه الخطبة تبتعث الإثارة، بالقدر ذاته من الإثارة التي نلحظها في خطب أو أحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت ( ع )، ذات الطابع الإيقاعي والصوَري، وهذا يعني أن الإثارة الفنية لا تنحصر في نمط محدّد من الإيقاع أو الرسم، بل يتمّ ذلك من خلال أية لغة تأخذ البطانة الانفعالية والفكرية للجمهور المتلقِّي، حيث يكون لتوازن الجمل وتعاقبها أثراً في ذلك، أو يكون للانتقاء الصوتي غير المنتظم في ( قرار ) أثره أيضاً، أو يكون للتسلسل النفسي أو الزمني المصاحب لعرض أفكار الخطبة، أثره أيضاً، وهكذا...

إن الخطبة المذكورة لم تهجر نهائيّاً كلاًّ من الصوت المنتظم والصورة، بل توكّأت عليهما في أمثلة هذا البُعد الإيقاعي:

( وقّروا فيه كباركم، وارحموا صغاركم... وغضّوا عمّا لا يحلّ إليه النظر أبصاركم ).

ومن أمثلة هذا البُعد الصوَري:

( إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم، وظهوركم مثقلة من أوزاركم فخفّفوها بطول سجودكم ).

ولكن جاء كلٌّ من البُعد الإيقاعي والصوري المذكور، عابراً بالقياس إلى الإيقاع العام لمجموع الخطبة، والرسم العام لمجموعها. فالإيقاع العام يتمثّل في ذلك ( الجرس ) الذي تبتعثه الجمل المتوازية والمتعاقبة والمتكرِّرة:

( شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام , ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات ).

إن كلاًّ من التكرار والتعاقب والتوازي يشكّل ( عناصر ) إثارة لدى المستجيب، لا تقل عن الإثارة التي يبتعثها الإيقاع المنظّم أو الصورة المركّبة. والأهم من ذلك كلّه، أن ندرك بأنَّ السياق هو الذي يتدخل في تحديد هذا العنصر الفني أو ذاك. ففي سياق شهر رمضان المبارك الذي يقترن بخشوع عبادي خاص، لا يجيء الحثّ على استقباله من خلال كثافة

١٥١

إيقاعية أو صورية، بقدر ما يجيء ذلك من خلال لغة ميسّرة، خاطفة، متوازنة، متعاقبة، آخذٌ بعضها برقاب البعض: حتى يتساوق التطلّع الخاشع نحو هذا الشهر مع تماوج العبارة الفنية التي تحضر في عصب المتلقِّي تطلّعاً يُماثل ذلك.

المهم، أن الخطبة المذكورة تمثّل النمط الآخر من النصوص التي تتميّز بما هو ( سهل ) - كما قلنا - وبما هو ( ممتنع)، من خلال تحسّسنا بإشراقها وسحرها الفني، اللذين يندّان عن إمكان تفصيل الحديث فيهما، بقدر ما يفصحان عن ذاتهما بنحو عفوي نتذوّقه، ولا نعيه بلغة المنطق الفني وتحليله لمقوِّماته.

( الكتاب... )

يمكننا أن نذهب إلى أن هناك نمطاً من الكتابة الفنية، تتميّز عن ( الخطبة ) بكونها لا تعتمد ( البُعد الانفعالي ) للجمهور، بقدر ما تعتمد تقرير مجموعة من الحقائق العبادية بلغة علمية: إلاّ أنها موشّحة بأدوات الفنّ، من قيم صورية وإيقاعية ونحوهما، ممّا يجعلها مثل ( الخطبة )، مندرجة ضمن الشكل الأدبي.

ويتميّز ( الكتاب ) بكونه موجهاً إلى شخص - أو أكثر - أو جهة أو جمهور، ولكن ليس على نحو ( الخطاب )، بل على نحو ( الكتابة ) إليهم.

وهذا النمط من الكتابة يشمل جنسين فنّيين، هما:

١ - الرسالة.

٢ - الوصية.

ويُلاحظ أن كلاًّ منهما قد يفترق عن الآخر في السمات الأسلوبية، إلاّ أنهما قد يندمجان حيناً، إلى الدرجة التي لا نكاد نتبيّن خطوط الفارق بينهما.

( الرسالة ) تتّجه إلى شخص يتحمّل مسؤولية اجتماعية، مثل: القاضي، الحاكم، الموظفين بشكل عام، حيث تدور محتويات ( الرسالة ) حول أمور اجتماعية خاصة لها سمة السلوك العبادي بعامة. بَيْد أن تنفيذها يظلّ على صلة بالموظف المسئول كما قلنا.

أما ( الوصيّة )، فتحوم بدورها على موضوعات عامة، مثل ( الرسالة ) تماماً، كما قد توجَّه إلى شخص محدّد، أو إلى جمهور مبهم، إلاّ أنها - في بعض أشكالها - قد تكتسب بُعداً خاصاً يتصل بالوصيّ أو الموصى له، بحيث تنسلخ من صعيد الشكل الفني إلى مسائل خاصة تتصل بالأموال والحقوق، ممّا لا علاقة لها بموضوع دراستنا.

١٥٢

تأسيساً على ما تقدّم، يمكننا الذهاب إلى أن ( الرسالة ) و( الوصية ) - في شكلها الأول الذي أشرنا إليه - تندرجان ضمن شكل فنّي يتوسّل ب- ( الكتابة ) في توصيل الحقائق التي يستهدفها الكاتب، موجَّهة إلى شخص أو فئة أو جهة، وهذا من نحو ( الكتب ) التي وجّهها الإمام عليّ (ع) إلى الولاة مثلاً، ونحو الوصايا التي وجّهها (ع) لابنه الحسن (ع) والحسينعليه‌السلام ، فكلّ من ( الرسائل ) الموجَّهة إلى الولاة، و( الوصايا ) الموجَّهة إلى أفراد بأعيانهم، لا تختلف في مضموناتها الفكرية بعضاً عن الآخر، من حيث كونها ( إرشاداً ) إلى ظواهر عبادية ذات طابع فردي أو اجتماعي ( مع ملاحظة أن الرسائل الموجَّهة إلى الولاة وغيرهم من المسئولين قد تشدّد على السلوك السياسي مثلاً ).

ولكن مع ذلك فإن الموضوعات قد تتماثل في الشئون العبادية الأخرى. فحين يتحدّث الإمام (ع) عن الزهو والتكبر والأحجام عن قضاء الحاجات ( فيما يتصل بسلوك الولاة حيال الرعية )، فإن نفس ظواهر التواضع والاهتمام بحوائج الآخرين يطرحها الإمام (ع) في ( وصاياه ) لخاصة الناس وعوامّهم.

المهم: يعنينا من الملاحظة المتقدمة أن نتجه إلى السمات ( الفنية ) لكلّ من ( الرسائل ) و( الوصايا ) فيما أدرجناهما ضمن ما أسميناه ب- ( الكتاب ) الموجّه إلى مسئولٍ أو غير مسئول.

ويجدر بنا أن نتقدّم بنماذج لكلٍ من النمطين المتقدِّمين، ونبدأ ذلك بالحديث عن:

١٥٣

١ - الرسالة:

قلنا إن ( الرسالة ) صياغة فنيّة خاصة، تُوجّه إلى شخصيّة ذات طابع مسئول، وإن موضوعها - من الغالب - ( محدّد )، يخصّ نمط المسئولية التي يضطلع بها المسئول التي تُوجّه الرسالة إليه، وقد تتسع حيناً إلى آفاق متنوِّعة تتناول مختلف الموضوعات: على نحو ما نلحظه من رسالة الإمام علي (ع) إلى ( الأشتر ) مثلاً، بالقياس إلى الرسائل التي تتناول موضوعاً محدّداً، مثل رسالته (ع) إلى أُمراء الجيش، فيما تحوم على موضوعات عسكرية خاصة.

والمهم أنها تتناول ( موضوعاً محدداً )، موجهاً إلى ( مسؤول )، مصوغاً بشكل ( فنّي ).

نموذج رقم (١):

من رسالة للإمام عليّ (ع) إلى أحد عمّاله، عندما بلغه تراخيه من حمل الناس على الجهاد:

( أما بعد، فقد بلغني عنك قول هو لك وعليك. فإذا قَدِم رسولي عليك: فارفع ذيلك، واشدد مئزرك، واخرج من جُحْرِك، واندب من معك. فإن حقّقت فانفذ، وإنْ تَفَشَّلْت فابعد. وايّم الله لَتُوتيّن حيث أنت، ولا تُترك حتى يُخلط زبدُك بخاثرك، وذائبك بجامدك، وحتى تعجل في قعدتك وتحذر من أمامك كحذرك من خلفك... ).

الرسالة تتناول الحث على الجهاد كما هو واضح، وتتناول نتائجه إيجاباً أو سلباً، من خلال لغة ( العامل ) المُرسَل إليه.

ويعنينا منها: الصياغة الجمالية للرسالة. فبالرغم من أنها تتناول عملية ( حثٍّ ) يتطلّب مجرّد التعبير المباشر، أي غير المصوغ فنّيّاً، إلاّ أنَّه (ع) اتّجه إلى التعبير غير المباشر، فارتكن إلى عنصر ( الصورة ) أو ( الرمز )، حتى ينفذ بدلالاتها إلى ما هو أكثر استثارةً للنفوس.

إننا لو وقفنا عند الصورة ( الاستمرارية )، أي الصورة التي تتركَّب من جملة صور

١٥٤

متتابعة، ونعني بها صورة ( فارفع ذيلك، واشدد مئزرك، واخرج من حجرك )، ومثلها صورة ( حتى يُخلط زبدُك بخاثرك، وذائبك بجامدك )، للحظنا أن تينك الصورتين تتحدَّثان عن موقفين ل- ( الصراع )، لابدَّ أن يختار ( العامل ) أحدهما: فإما أن ينهض إلى الجهاد، وإمّا أن يتراخى عن ذلك. وفي الحالتين تتّجه ( الرسالة ) إلى التعبير ب- ( الصورة ) في تجسيد الصراع المذكور، وترسم نتائجه من خلال كلٍّ من الحثّ أو الابتعاد عن الساحة.

ولعل أبراز ( الصراع ) - في أشدّ حالاته - جسّدته الصورةُ الاستمرارية المتصلةُ، بخلط الزبد بالخاثر والذائب بالجامد.

وأحسبُ - من الزاوية الفنيّة - أن تجسيد ( الصراع ) لا يمكن أن تبلوره - من حيث العمليات النفسية والشدائد التي يواجهها الشخص - بصورة أشدّ عمقاً ووضوحاً من ( الصورة الفنية ) التي رسمها الإمام (ع) في هذا الصدد.

فبالرغم من أن هذه ( الصورة ) تبدو وكأنها ( مألوفة ) زمن التشريع، وأعني بها صورة ( اختلاط خاثر السَّمن برقيقه )، حيث إذا أُوقدت النار لتصفيته يحترق، وإن تُرك بقِيَ كدِراً... أقول: بالرغم من أن التجربة المذكورة تخص بيئةً محدّدة، إلاّ أنها تتجاوز ذلك إلى مطلق الزمن، فتوحي - كما هو شأن الصورة الفنية الناجحة - بمطلق التجارب التي يخلتط فيها ما هو ( خاثر ) بما هو ( رقيق )، سواء أكان سَمناً أم غيره، بخاصة أن الصورة المتقدّمة أردفها الإمام (ع) بصورة أُخرى هي: ( اختلاط الذائب بالجامد )، فهذه الأخيرة لم تُصَغْ لمجرّد التكرار، بل لتكملة أبعاد الصورة الأُولى: حتى يتبلور لدى القارئ مفهوم الصورة بأوضح أطرافها: بصفة أن كل ( ذائب )، مهما كان، حينما يخلط بما هو ( جامد ) لا يأخذ سمة ( الاستقرار )، ممّا يوحي بامتداد عملية ( الصراع ) النفسي الذي ألمح الإمام (ع) إليه.

نموذج رقم (٢):

وحين نتجه إلى رسالة أُخرى للإمام السّجاد (ع)، وجّهها إلى أحد المتعاونين مع السلطة الظالمة، نجد العنصر ( الصوَري ) يأخذ بُعداً آخر من الصياغة، التي تجسّد نمطاً آخر من أشكال العمليات النفسية التي تترتّب على التعاون مع الظالم، ولنقرأ:

( أوليس بدعائه إياك، حين دعاك، جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسُلّماً إلى ضلالتهم. داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم... ).

١٥٥

هذه الرسالة تمثّل أيضاً ( موضوعاً ) محدّداً، هو: التعاون مع الظالم. وتوجّه إلى ( شخص ) محدّد، وتُرسم وفق صورة (فنيّة).

وقد اتجه الإمام السجاد (ع) إلى صورة ( مألوفة ) أيضاً، على نحو ما لحظناه عند الإمام عليّ (ع)، هي صورة الرحى والجسر والسُّلّم. وبالرغم من أن الصورة التي لحظناها عند عليّ (ع) كانت أشدّ تكثيفاً من الصورة التي قدّمها السّجاد (ع)، إلاّ أن لكلٍّ منهما وظيفته النفسية في التعبير عن الحقائق. فالصورة التي تكتسب سمة ( النجاح ) في لغة النقد الفني، ينبغي أن تتّسم ب- ( الأُُلفة )، أي: وضوح أطرافها بالنسبة إلى القارئ. وهذه ( الأُلفة ) قد تتشابك بعض أطرافها كما هي الحال بالنسبة إلى الصور التي لحظناها في الرسالة السابقة، وقد تتوضّح بالنحو الذي نلحظه في الصورة التي نتدارسها الآن، وفي الحالين فإن السياق هو الذي يحدِّد نمط ( الأُلفة ): تشابكاً أو وضوحاً.

والآن، حين نعود إلى الصورة المألوفة ( الرحى، الجسر، السُّلّم )، نجدها قد اكتسبت أُلفتها من خلال استخدامها - في مختلف أزمنة الأدب - ( رمزاً ) تراثياً كما هو واضح. والمهم أن الإمام (ع) كان مستهدفاً توضيح الأبعاد المختلفة لعملية التعاون مع الظالم، فجاءت الصورةُ تمثيلاً للعملية المذكورة.

هنا، ينبغي أن ننتبه أيضاً إلى أن ( التكرار ) لصور ثلاثٍ متماثلة، ليست لمجرد ( التكرار )، بل إن استمرارية الصورة بهذا النحو استدعاها الموقف، ( فالرحى ) تمثّل مطلق المفارقات التي يمارسها الأشخاص، دون أن تبرز شخصية ( محددة ) في هذا النطاق. أما ( الجسر )، فيمثّل بروز الشخصية المتقدمة، حيث استُغلّت لتمرير أهدافهم، بملاحظة انسحاق الشخصية. وامَّا ( السلّم )، فيجسّد صعوداً على شخصية مُستغلَّة أيضاً، ولكن بملاحظة ارتفاعها، وليس انسحاقها.

وفي الحالات الثلاث جميعاً، تظل حيال ( شخصية ) مُستَثْمَرةٌ لتمرير المظالم على اختلاف المظاهر، وهذا ما يدلنا على مدى الدقة الفنية في صياغة الصور.

وبعامة: فإن النموذجَين المتقدِّمَين من ( الرسائل )، كانا متناولين لموضوعَين محدَّدَين، مثل الجهاد وعدم التعاون مع الظالم. وقد اكتفينا من العرض لهما ببعض الصياغة الفنية المتصلة بعنصر ( الصورة )، ومساهمتها في تعميق ( الغرض ) الذي تستهدفه الرسالة في الموضوعين المحددَين اللذين أشرنا إليهما.

والأمر نفسه يمكننا ملاحظته في ( الرسائل ) التي تتسم بالطول، وبموضوعات مختلفة، من حيث ارتكانها إلى عنصر ( الصورة ) وسواها من أدوات ( الفنّ ) التي تساهم في تعميق

١٥٦

الهدف.

ومنها - على سبيل المثال - رسالة الإمام علي (ع) إلى ( الأشتر )، فيما لا حاجة إلى الاستشهاد بها ( حيث تناولها الدارسون مفصَّلاً )، عِبْر اشتمالها على موضوعات تتصل بالولاة والعمّال والقضاة والعسكريين والتجار وذوي المهن والكتّاب... إلخ. وقد صيغت وفق لغة متينة مطبوعة بالوضوح واليُسر، وبتوازن الجُمل وتقابلها وبتراوحها الإيقاعي بين الطول والقصر، حسب ما يستدعيه الموقف.

وأهم ما في ذلك أنَّها تشتمل على دلالات فكرية ونفسية لم تقف عند مجرّد ( الإرشاد ) السياسي العام، بل على توشيحه ببطانة عميقة من الفكر، تجمع بين الإرشاد والاستدلال الفكري عليه، وهذا من نحو قولهعليه‌السلام :

( وإن ظنّت الرعيّة بك حيفاً، فاصحر لهم بعذرك... ).

إن ( الإصحار ) هنا يمثّل ( صورة فنية )، وليس تعبيراً مباشراً عن إظهار العذر. وأهمية هذه ( الصورة ) التي تتداعى بذهن المتلقِّي إلى ( الخروج إلى الصحراء ) - كما هو المدلول اللغويّ لها. حينئذٍ فإن الوصل بين ( الصحراء )، التي تعني الفسحة والسعة وعدم التحدّد، وبين إبراز ( العذر ) وإظهاره... مثل هذا الوصل بينهما، سيجعل القارئ متداعياً بذهنه بين بروز الصحراء وبروز العذر على نحو ( صوري ) وليس التعبير المباشر.

ولكن الأهم من ذلك هو، الوصل بين الدلالة النفسية لإبراز العذر وبين انعكاسه على استجابة الآخرين. فالعالِم النفسي يقدّر تماماً أهمية العمليات النفسية التي يستجيب لها الشخص من خلال ( إظهار العذر )، بحيث تزاح من أعماقه أية توترات وصراعات يخلّفها عدم الإعلان عن العذر. وهذا يعني أن ( الصورة الفنية - الإصحار بالعذر ) لم تنفصل عن ( العملية النفسية أو الصورة النفسية )، وهو أمرٌ يكسب الشكل الفنّي للرسالة قيمة جديدة كما هو واضح.

وأياً كان، يعنينا ممّا تقدّم أن نخلص إلى القول: بأن ( الرسالة ) ليست مجرّد ممارسة لفظية بتوصيات عامة، بقدر ما هي ( عملٌ فنّي ) تتآزر فيه جملة من العناصر الفكرية والنفسية المصوغة بأدوات الفن: من صورة وإيقاع وبناء هندسي... وما إليها.

أما البناء الهندسي للرسالة، فإن طولها يحتجزنا عن معالجة هذا الجانب. بَيْد أنَّه يكفينا أن نشير إلى أن ( الرسالة ) بدأت بالتوصية بالعمل الصالح، وشدّدت على ( تملك الهوى ) من جانبٍ وعلى ( الرحمة ) للرعيّة من جانب آخر:

( فليكن أحبُّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح... فاملك هواك... واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بالإحسان إليهم ).

هذا ( التمهيد ) - من حيث البناء الفنّي للرسالة - هو الذي ستحوم عليه كلّ موضوعات ( الرسالة ): من ( تملّكٍ للهوى) في التعامل مع الآخرين، أي سحق

١٥٧

الذات، ومن ( محبة ) للآخرين، أي التوجّه إلى خارج الذات، وهما قطبا السلوك الإنساني في التعامل مع الآخرين. وهذا يعني أن ( الرسالة ) قد انتظمتها عمارة فنيّة تتلاحم فيها الموضوعات على نحوٍ متناسقٍ جمالياً، وليس مجرد موضوعات تتوارد على الخاطر.

١٥٨

٢ - الوصية:

الوصيّة - كما قلنا - تكاد تماثل ( الرسالة ) في بعض أشكالها، سواء أكانت موجَّهة ( على نحو الكتابة ) أو على نحوٍ ( لفظي )، كما لو تقدّم الإمام (ع) بالتوصية اللفظية للشخص بدلاً من الكتابة إليه. إلاّ أنها في الحالتين تبقى مطبوعة بالسمات الموضوعية والفنية التي لحظناها في ( الرسالة )، من حيث تحدّد أو تنوّع موضوعاتها، ومن حيث كونها موجَّهة إلى شخصٍ أو جهة، ومن حيث كونها تعتمد أدوات التعبير الفنّي.

من نماذج ذلك - على سبيل المثال - وصيّة الإمام عليّ (ع) إلى الحسنعليه‌السلام :

( من الوالد الفان، المقرّ للزمان، المُدبر العمر، المستسلِم للدهر، الذّام للدنيا... ).

إن هذا الاستهلال يفسح - كما هو بيّن - عن الشكل الأدبي لهذا النمط من الكتابة، إنه: التوصية الموجَّهة إلى شخص هو الحسنعليه‌السلام . إلاّ أنها بالرغم من اتسامها بما هو خاص ( التوجّه إلى شخص )، نجدها تتجه - بطريق غير مباشر - إلى عامة الناس. كما نجدها تعنى بمختلف الظواهر العبادية. ويمكننا ملاحظة ذلك في وصلها - منذ البدء - الاستهلالَ بذمِّ الدنيا وإدبار العمر، من خلال التعريف بموقف شخصيته (ع) من الدنيا.

وهذا الاستهلال بتعريف شخصيته (ع) يتضمّن نمطين فنّيّين من صياغة الوصيّة، فمن الحقائق المألوفة ( في حقل العمل الفني ) أنه يجمع بين الخاص والعام، أي: ينطلق الكاتب من قضية ( فردية ) أو ( خاصة )، ليصلها بما هو ( عام )، حتى يُستكمل تمرير الهدف الفكري الذي يَحرص الإمام (ع) توصيله إلى الآخرين. وها هو الإمام (ع) يواصل صياغة ( الوصية ) وفق بناءٍ عماري تتواشج وتتنامى من خلاله: الموضوعات التي انتظمتها الوصيّة، ( فيُفصّل ) ما أجمله في ( التمهيد )، قائلاً:

(أما بعد، فإني فيما بيّنتُ من إدبار الدنيا عنّي، وجموح الدهر عليّ، وإقبال الآخرة إليّ... حتى كأنَّ شيئاً لو أصابك أصابني، وكأنّ الموت لو أتاكَ أتاني، فعناني من أمرك

١٥٩

ما يعنيني من أمر نفسي... ).

في هذا المقطع، ( يفصّل ) الإمام (ع) مُجمل ( التمهيد ) المتصل بإدبار العمر وسواه، واصلاً بين شخصيته (ع) وشخصيّة ولده، من خلال الدافع ( الأبوي )، وهو بدوره يحوم على ما هو ( خاص). بَيْد أنه (ع) يواصل في المقطع الثالث حديثه عن ظواهر عامة، بالرغم من أنها موجَّهة إلى ولدهعليه‌السلام ، لكنّها تحوم على تفصيلات أكثر تنوّعاً:

( احي قلبك بالموعظة، وموّته بالزهد، وقوّه باليقين، ونوّره بالحكمة، وذلّله بذكر الموت، وقرّره بالفناء، وبصّره فجائع الدنيا، وحذّره صولة الدهر... ).

فالملاحظ أن المقطع الثالث جاء ( تنميةً عضوية )، أيّ: تطويراً لأفكار بدأت في المقطع الأوّل بمطلق ( فناء العمر )، وأُضيفَ إليها في المقطع الثاني الوصل بين شخصية الأب والابن من حيث انعكاسات ( الفناء ) المذكور. ثم جاء المقطع الثالث ليُفصّل الحديث عن ( الفناء ) وارتباطه بنمط السلوك، الذي ينبغي أن تختّطه الشخصية في تعاملها مع ظواهر الحياة المفضية إلى ( الفناء ). ثم تتوالى المقاطع واحداً بعد الآخر لتتحدّث عن تجارب الحياة والعمر، وصلة ذلك بمحدِّدات السلوك الذي طالب الإمام (ع) بممارسته.

كلّ أولئك يتمّ وفق نماءٍ وتطويرٍ فنّي لأفكار الوصية التي تتواصل أجزاؤها وتتلاحم بعضاً بالآخر ؛ ممّا يكسب النصّ جماليةً فائقة في الهيكل الهندسي له.

وإذا تركنا السمة الفنية المتصلة ب- ( البناء العماري ) للنص، إلى سائر أدوات الفنّ الأخرى، ومنها: عنصر ( الصورة )، لأمكننا ملاحظة هذا العنصر بنحوٍ يساهم - من خلاله - ببلورة المفهومات التي طرحها الإمام (ع) عن الحياة وتجربة العمر والفناء... وما إليها من الموضوعات التي وقفنا عليها في المقاطع المتقدّمة.

من ذلك مثلاً: رسمه (ع) للقلب عملياتٍ خاصة، هي: الإحياء، والأمانة، والقوّة، والتنوير، والتذليل، والتبصير، والتحذير. وهذه الرسوم ليست مجرّد عرض عابر، بقدر ما تشكّل ( صوراً فنيّة )، بالرغم من أنها لم تأخذ شكل الصورة التركيبية ذات البُعد ( الرمزي ) المكثَّف، بل أخذت شكلاً مألوفاً سهلاً، إلاّ أنها خضعت لمبدأ فنّي هو: ( التضاد ) و( التماثل ).

( فالتضاد من خلال التماثل ) يشكِّل - في لغة النقد الفنّي - واحداً من أشكال الصياغة المعاصرة لأشكال الفن. (التضاد) هنا بين ( إحياء ) القلب و( إماتته )، ولكن من خلال ( التشابه ) الذي يجسّد مفهوم ( المعرفة ) العبادية. كما أن ( التباين ): من ( تقوية ) و( تنوير ) و( تذليل )، من خلال ( التشابه ) المذكور، يجسّد نفس الفاعليّة الفنيّة

١٦٠