تكظم الانفعال...
كل أولئك يكشف لنا أنّ ( التعبير العاطفي ) إذا اكتسبَ سمة المبالغة يظلّ مطبوعاً بالحظر، ومن ثمّ يظلّ مطبوعاً - في اللغة النفسية - بِسمِة المرض أو الشذوذ... وإذا كان الأمر كذلك، حينئذٍ فإنّ نقل هذه الحقيقة إلى ( العمل الفني ) لابدّ أن تأخذ نفس السمة المحظورة، بصفة أنّ الفن أحد أشكال الاستجابة البشرية حيال الأشياء.
بَيْدَ أنّ ثمّة فرقاً بين مطلق التعبير العاطفي - كما قلنا - وبين المبالغة فيه، فالعاطفة ما دامت تُشكّل أحد وجْهَي الاستجابة ( الفكر والعاطفة ) حينئذٍ لابدّ أن تأخذ نصيبها من العمل الفني أيضاً، مع ملاحظة أنّ أدواته من ( تخيّل ) و( إيقاع ) ونحوهما تساهم في التصعيد العاطفي، إلاّ أنّه في نطاق محدّد.
وبكلمة جديدة
: إذا كان المشرّع الإسلامي يسمح - على سبيل المثال - بالتصعيد العاطفي في مواقف خاصة، مثل: عاطفة الأُم حيال طفلها الصغير، أو عاطفة الجندي في ساحة المعركة، أو عاطفة الشخص حيال قريبه، فإنّ ( العمل الفني ) يُعدّ واحداً من هذه المواقف التي يتصاعد من خلاله العنصر العاطفي لإحداثه إثارة خاصة عند المتلقّي.
فنقلُ الفنان لأحد مشاهد الطبيعة الجميلة، أو لأحدى المعارك العسكرية، أو التثمين لإحدى شخصيات المعصومينعليهمالسلام
مثلاً، عندما يقترن بالتصعيد العاطفي لها، حينئذٍ يكتسب صفة المشروعية دون أدنى شك ؛ لأنّ التصعيد المذكور يجعل التواصل مع الله تعالى من خلال مشاهد الطبيعة، أو المعارك الإسلامية، أو شخصيات المعصومينعليهمالسلام
، أشدّ حجماً من الاستجابة العادية.
وثمّة فرق بين التصعيد العاطفي وبين المبالغة أو التورّم: فالأول تفرضه حقائق الواقع، والآخر يتسبّب عن شذوذ أو مرض، كما قلنا. في ضوء ما تقدّم يمكن القول: بأنّ ما يميّز العمل الفني عن غيره، هو تصعيد ( العنصر العاطفي ) فيه، دون الوقوع في المبالغة، إلاّ أنّ هذا التصعيد لا يطبع كلّ الأشكال الفنية، بل بعضها، بخاصة: (القصيدة)، بل أحد أشكالها فحسب، وهو ما يطلق عليه اسم( القصيدة الغنائية )
. ومثلها( الخطبة )
، حيث يتطلب الموقف تحريك الجمهور واستثارة عواطفه.
كما أنّ القصيدة الغنائية - بصفتها تعبيراً عن حالة انفعالية لكاتبها - لابدّ أن تُطبع بالسمة العاطفية... وأمّا الأشكال التعبيرية الأخرى، من قصة ومسرحية ونحوهما، فإنّ العنصر العاطفي يضمر فيها وقد ينعدم أحياناً. ولكن من الممكن أن يتصاعد فيها العنصر العاطفي أيضاً تبعاً لمتطلّبات الموقف.
بعامة أنّ العنصر العاطفي يُشكل واحداً من شطرَي العملية الفنية: ( التخيّل، العاطفة )، حتى إنّه لا يكاد ينفصم أحدهما عن الآخر، فنحن عندما نصف بطلاً عسكرياً مثلاً بأنّه يهدر كالعاصفة في ساحة المعركة، إنّما نصدر عن عنصرَي: ( التخيّل والعاطفة ). أمّا عنصر التخيّل، فيتمثّل في إحداث علاقة بين البطل والعاصفة من خلال أداة التشبيه.
وأمّا عنصر العاطفة، فيتمثّل في كوننا قد انفعلنا حيال البطل حتى تصاعدَ انفعالنا إلى درجة التداعي إلى العاصفة، واستحضارها في الواقع النفسي لها، بل يمكن القول: بأنّ ( التخيّل ) هو الشكل الخارجي للفن، وأنّ ( العاطفة ) هي الشكل الداخلي له.