الإسلام والفن

الإسلام والفن30%

الإسلام والفن مؤلف:
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 191

الإسلام والفن
  • البداية
  • السابق
  • 191 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68785 / تحميل: 26352
الحجم الحجم الحجم
الإسلام والفن

الإسلام والفن

مؤلف:
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الله وسنة رسوله ؛ ثم نعود إلى موضع الحساب ، فنتبرأ من هؤلاء الضالين كما تبرءوا منا ، ونسعد بعملنا حيث هم أشقياء بأعمالهم.

( كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ ) أي إنه كما أراهم العذاب ، سيريهم أعمالهم حسرات عليهم ، والمراد من إراءتهم ذلك ، أنه يظهر لهم أن أعمالهم قد كان لها أسوأ الآثار في نفوسهم ، حتى جعلتها مستعبدة لغير الله ، فيورثهم ذلك حسرة وشقاء ، فالأعمال هى التي كونت هذه الحسرات في النفوس ، ولكن ذلك لا يظهر إلا في الدار الآخرة التي تسعد فيها النفوس أو تشقي.

( وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) إلى الدنيا وهم على صحة العقيدة وصلاح الأعمال ، فيشفوا غيظهم من رؤسائهم وأندادهم ، ولا إلى الجنة ، لأن سبب دخولهم هو ما طبعوا عليه من خرافات الشرك وحب الأنداد.

( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) )

تفسير المفردات

الحلال هو ما أباحه الشارع ، والحرام ضده ، والخطوات واحدها خطوة (بالضم) وهى ما بين قدمى الماشي ، يقال اتبع خطواته ، ووطئ على عقبه إذا اقتدى به واستن بسنته ، ومبين أي ظاهر العداوة لذوى البصائر ، والسوء ما يسوءك وقوعه أو عاقبته ، والفحشاء كل ما يفحش قبحه في أعين الناس من المعاصي والآثام وهى أقبح وأشد

٤١

من السوء ، ويأمركم أي يوسوس لكم ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع ، وأنتم فى انقيادكم له ، كأنكم مأمورون ، ألفينا أي وجدنا ، وعقل الشيء عرفه بدليل ، وفهمه بأسبابه ونتائجه.

المعنى الجملي

بعد أن بين في الآية قبلها حال متحذى الأنداد يوم القيامة وذكر ما سيلاقونه من العذاب ، وأن الذين اتّبعوا سيتبرءون ممن اتبعوهم حين رؤية العذاب ، وتقطع الأسباب بينهم ، وهى المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرءوسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض ، وقد علمت فيما سلف أن الأنداد قسمان :

(1) قسم يتّخذ شارعا يؤخذ رأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغا من الله ورسوله.

(2) قسم يعتمد عليه في دفع المضارّ وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب.

بين في هذه الآيات أن تلك الأسباب محرمة ، لأنها ترجع إلى أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان ، وأن سبب جمودهم على الباطل والضلال هو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى.

الإيضاح

( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ) أي كلوا بعض ما في الأرض من أصناف المأكولات التي من جملتها ما حرّمتموه افتراء على الله من الحرث والأنعام أكلا حلالا طيبا.

قال ابن عباس : نزلت في قوم من ثقيف وبنى عامر بن صعصعة وخزاعة وبنى مدلج حرّموا على أنفسهم ما حرموا من الحرث والبحائر والسوائب والوصائل والحام.

٤٢

وقد بين ما حرم من المآكل في الآية الكريمة «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ » فما عدا هذا فهو مباح بشرط أن يكون طيبا وهو ما لا يتعلق به حق الغير ، وبيانه أن المحرم قسمان :

(1) محرم لذاته لا يخل إلا للمضطر.

(2) محرم لعارض ، وهو ما يؤخذ بغير وجه صحيح كما يأخذه الرؤساء من المرءوسين بلا مقابل ، أو يأخذه المرءوسون بجاه الرؤساء ، وكأخذ الربا والرّشوة والغصب والسرقة والغش ، فكل هذا خبيث غير طيب.

( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) أي ولا تتبعوا سيرته فى الإغواء ووسوسته في الأمر بالسوء والفحشاء ، فهو عدو لكم بين العداوة ، إذ هو منشأ الخواطر الرديئة ، والمحرّض على ارتكاب الجرائم والآثام قال تعالى : «شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً » فهذا نهى عن اتباع وحي الباطل والشر ، لأنه من إغواء الشيطان ، فإذا عرض للإنسان داعي البذل لمعاونة بائس فقير ، فهمّت نفسه بالعمل ، ثم جاش في صدره خاطر الاقتصاد والتوفير ، فليعلم أن هذا من وحي الشيطان. ولا ينخدع لما يسوّله له من إرجاء هذا العطاء ووضعه فى موضع أنفع ، أو بذله لفقير أحوج.

ثم بين كيفية عداوته وفنون شره وإفساده فقال :

( إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ ) أي إنما يوسوس الشيطان ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع بأن تفعلوا ما يسوءكم في دنياكم وآخرتكم وأن تجترحوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

فالذين يتركون الأسباب الطبيعية التي قضت سنة الله بربط المسببات بها ، اعتمادا على أشخاص من الموتى أو الأحياء يظنون أن لهم نصيبا من السلطة الغيبية ، والتصرف

٤٣

فى الأكوان بدون اتخاذ الأسباب ـ قد ضلوا ضلالا بعيدا واتبعوا أمر الشيطان ، ومثلهم من اتخذ رأى الرؤساء حجة في الدين من غير أن يكون بيانا أو تبليغا لما جاء عن الله ، فهؤلاء قد أعرضوا عن سنن الله وأهملوا نعمة العقل ، واتخذوا من دون الله الأنداد «ومن يضلل الله فلا هادى له».

( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) أي ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون علم اليقين أنه شرعه لكم من عقائد وشعائر دينية ، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم ، أو تحريم ما الأصل فيه الإباحة ، ففى كل ذلك اعتداء على حق الربوبية بالتشريع ، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان ، فإنه الأصل في إفساد العقائد ، وتحريف الشرائع.

ومن هذا زعم الرؤساء أن لله وسطاء بينه وبين خلقه ، لا يفعل شيئا إلا بوساطتهم ، فحولوا قلوب عباده عنه وعن سننه في خلقه ، ووجهوها إلى قبور لا تعد ولا تحصى ، وإلى عبيد ضعفاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، ويسمون مثل هذا توسلا : أي تقربا إلى الله ، وحاشى أن يتقبّل التقرب إليه بالشرك به ، ودعاء غيره معه وهو يقول «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ».

ثم سجل عليهم كمال ضلالهم وعدّد جناياتهم فقال :

( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ) أي وإذا قيل لمن اتبع خطوات الشيطان من المشركين : اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحى ولا تتبعوا من دونه أولياء ـ جنحوا إلى التقليد ، وقالوا نحن لا نعرف إلا ما وجدنا عليه السادة والكبراء والشيوخ من آبائنا ، استئناسا بما ألفوه مما ألفه آباؤهم من قبل.

ثم رد عليهم سبحانه مقالتهم الحمقاء وأظهر بطلان آرائهم فقال :

( أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) أي أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم فى كل حال وفي كل شىء ، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من عقائد الدين وعباداته : أي حتى لو تجردوا من دليل عقلى أو نقلى في عقائدهم وعباداتهم.

٤٤

وفي الآية إرشاد إلى منع التقليد لمن قدر على الاجتهاد.

فإذا اتبع المرء غيره في الدين ممن علم أنه على حق كالأنبياء والمجتهدين ـ فهذا ليس بتقليد ، بل اتباع لما أنزل الله ، كما قال تعالى «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » فأقرب الناس إلى معرفة الحق هم الباحثون الذين ينظرون في الدلائل بقصد صحيح ، فإنهم إذا أخطئوا يوما أصابوا في آخر ، وأبعدهم عن معرفة الحق المقلدون ، لأنهم قطعوا على أنفسهم طريق العلم وسجلوا على عقولهم الحرمان من الفهم ، وهم لا يوصفون بإصابة الصواب ، لأن المصيب من يعرف أن هذا هو الحق ، والمقلد إنما يعرف أن فلانا قال هذا هو الحق ، فهو عارف بالقول فقط.

( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) )

تفسير المفردات

المثل الصفة والحال ، ونعق الراعي والمؤذن صاح ، وما لا يسمع أي لا يدرك بالاستماع إلا دعاء ونداء ، والفارق بينهما أن الدعاء للقريب والنداء للبعيد ، والفارق بين الكافر والضال أن الأول يرى الحق ويعرض عنه ، ويصرف نفسه عن دلائله ، فهو كالحيوان يرضى بأن يقوده غيره ويصرّفه كيف شاء ، والثاني يخطئ الطريق مع طلبه أو جهله بمعرفته بنفسه أو بدلالة غيره.

المعنى الجملي

بعد أن نعى سبحانه وتعالى على المقلدين من الكفار سوء حالهم من اتباعهم لآبائهم وساداتهم من الرؤساء دون استنادهم إلى برهان يعتمدون عليه ، أو حجة يركنون إليها.

٤٥

أعقبه بمثل يبين خطل آرائهم ، وسخف عقولهم ، فذكر أنهم كالغنم التي تقبل بدعاء راعيها ، وتنزجر بزجره ، مسخّرة لإرادته ، ولا تفهم لما ذا دعا ، ولما ذا زجر ، وهكذا شأن من يسلّمون معتقدا بلا دليل ويقبلون تكليفا بلا فهم ولا تعليل ، فهم كالصم لا يسمعون الحق سماع تدبر وفهم ، وكالبكم الذين لا يستجيبون لما دعوا إليه ، وكالعمى فى الإعراض عن الأدلة حتى كأنهم لم يشاهدوها ، فهم لا يصلون إلى معرفة الحق ، لأن اكتسابه إنما يكون بالنظر والاستدلال ، وأنى لمن فقد هذه الحواس أن يصل إلى الحق ويقبله؟ ومن ثم قالوا : من فقد حسا فقد فقد علما.

الإيضاح

( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً ) أي إن مثل الكافرين في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم ، وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلال ، وعدم تأملهم فيما يلقى إليهم من الأدلة ، مثل البهائم التي ينعق عليها الراعي ، ويسوقها إلى المرعى ، ويدعوها إلى الماء ، ويزجرها عن الحمى ، فتستجيب دعوته وتنزجر بزجره ، وهى لا تعقل مما يقول شيئا ، ولا تفهم له معنى ، وإنما تسمع أصواتا تقبل لسماع بعضها وتدبر لسماع بعض آخر بالتعود ، ولا تعقل سببا للإقبال والإدبار.

وفي الآية إرشاد إلى أن التقليد بلا عقل ولا فهم من شأن الكافر ، وأما المؤمن فمن شأنه أن يعقل دينه. ويعرفه بنفسه ، ويقتنع بصحته ، إذ ليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان ، بل المقصد منه أن يرتقى عقله وتتزكى نفسه بالعلم والعرفان ، فهو يعمل الخير لأنه نافع يرضى الله ، ويترك الشر لأنه يضره فى دينه ودنياه.

( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) أي إنهم يتصامّون عن سماع الحق ، فكأنهم صم ولا يستجيبون لما يدعون إليه فكأنهم خرس ، ولا ينظرون في آياته تعالى في الآفاق وفي أنفسهم فكأنهم عمى ، لا يعقلون لعملهم مبدأ ولا غاية ، بل ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان ، ومن ثم اتبعوا من لا يعقلون ولا يهتدون.

٤٦

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) )

تفسير المفردات

الإهلال رفع الصوت ، وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها ، ويقولون : باسم اللات. أو باسم العزّى ، ثم قيل لكل ذابح (مهلّ) وإن لم يجهر بالتسمية ، والباغي الطالب للشىء الراغب فيه كما

ورد في الحديث (يا باغي الخير هلّم)

والعادي المتجاوز قدر الضرورة كما جاء في التنزيل «وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ » أي لا تتجاوزهم إلى غيرهم ، والإثم الذنب والمعصية.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه حال الذين يتخذون الأنداد من دونه ، ثم خاطب الناس جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها بشرط أن يكون حلالا طيبا ، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم ، لأنه لا استقلال لهم برأى ولا يهتدون بعقل.

هنا وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة ، لأنهم أحق بالفهم ، وأحرى بالاهتداء ، فطلب إليهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروا الله على ما أنعم به عليهم ، ثم حصر محرمات المطاعم في أنواع معينة ، ليعلموا أن التحريم لا يعدوها ، وأن أكثر ما خلق الله من الأرزاق والأطعمة مباح لهم ، فمن الحق أن يكون الشكران غدوّا وعشيا على تلك المنن التي لا تحصى ، والنعم التي لا تحصر ولا تعدّ.

٤٧

الإيضاح

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) كان المشركون وأهل الكتاب قبل مجىء الإسلام فرقا وأصنافا ، فمنهم من حرم على نفسه أشياء معينة كالبحيرة والسائبة عند العرب ، وبعض الحيوان عند غيرهم ، وكان الشائع لدى النصارى أن أقرب القربات تعذيب النفس وحرمانها من جميع اللذات ، واحتقار الجسد وما يلزمه ، وأن الله لا يرضى إلا بإحياء الروح ، وافتنّوا في الحرمان من الطيبات ، فمنها ما خصصوه بالقديسين أو الرهبان والقسيسين ، ومنها ما هو عام كالحرمان من اللحم والسمن في بعض أنواع الصوم كصوم العذراء والقديسين ، والحرمان من السمك واللبن والبيض في بعض آخر منها.

وكل هذه الأحكام وضعها الرؤساء ، ولا وجود لها في التوراة ، ولا نقلت عن المسيح عليه السلام ، ولكن نقلوها عن الوثنيين الذين كانوا يحرمون كثيرا من الطيبات ، اعتقادا منهم أن التقرب إلى الله لا يكون إلا بتعذيب النفس وترك حظوظ الجسد.

وقد جعل الله هذه الأمة وسطا تعطى الجسد حقه والروح حقه ، فأحل لنا الطيبات وأمرنا بالشكر عليها ، ولم يجعلنا جثمانيين خلّصا كالأنعام ، ولا روحانيين خلصا كالملائكة بل جعلنا أناسىّ كملة.

وقصارى ذلك ـ إن الله أباح لنا أن نتمتع بما طاب كسبه من الحلال ولا نمتنع عنه تدينا ولا تعذيبا للنفس ولا نحرم بعضا ونحل بعضا تقليدا للرؤساء ووساوس الشياطين.

وأمرنا بشكره على خلقها لنا وتيسر أسباب الحصول عليها ، ونهانا أن نجعل له ندّا نطلب منه الرزق ، أو نرجع إليه في التحليل والتحريم ، وإلا كنا مشركين به ، كافرين لنعمه ، كما فعل من اتخذ وسطاء بينه وبين ربه ، يطلب منهم الرزق ، ويشرعون لهم من الدين ما لم يشرعه الله.

٤٨

وبعد أن ذكر إباحة الطيبات ، بين ما حرم من الأطعمة فقال :

( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ) أي إنه تعالى حرم الميتة لما يتوقع من ضررها ، لأنها إما أن تكون قد ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة ، وكلاهما لا يؤمن ضرره ، ولأن الطباع تستقذرها.

(والدم) أي الدم المسفوح ، لأنه قذر وضارّ كالميتة.

( وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ) لأنه ضار ولا سيما في البلاد الحارة كما دلت على ذلك التجربة.

( وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) أي وحرم ما رفع به الصوت عند ذبحه لصم وغيره مما يعبد من دون الله ، لأنه من أعمال الوثنية ، وفيه إشراك واعتماد على غير الله ، وقد نص الفقهاء على أن كل ما ذكر عليه اسم غير الله ولو مع اسم الله فهو محرم ، ومثل ذلك ما يفعله العامة في القرى إذ يقولون عند الذبح : باسم الله الله أكبر ، يا سيد يا بدوي ، يريدون بذلك أن يتقبل منهم النذر ويقضى حاجة صاحبه.

( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) أي فمن ألجئ إلى أكل شىء مما حرم الله ، بأن لم يجد غيره وخاف على نفسه الهلاك إن لم يأكل منه ، ولم يكن راغبا فيه لذاته ، ولم يتجاوز قدر الحاجة فلا إثم عليه ، لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة أو الدم ، بل الضرر في ترك الأكل محقق وهو في فعله مظنون ؛ كما أن من أكل مما أهلّ به لغير الله مضطرا ، لم يقصد إجازة عمل الوثنية. ولا استحسانه.

وإنما ذكر قوله : غير باغ ولا عاد ، لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار إذا وكل إليهم تحديده ، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر ، ويذهب ذلك بشهواته إلى ما وراء حد الضرورة.

( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة ، إذ وكل ذلك إلى اجتهادهم ، رحيم بهم ، إذ رخص لهم في تناولها ولم يوقعهم في الحرج والعسر ، وجعل الضرورة تقدر بقدرها.

٤٩

( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) )

تفسير المفردات

الضلالة : هى العماية التي لا يهتدى فيها الإنسان لمقصده ، والهدى : الشرائع التي أنزلها الله على لسان أنبيائه ، والشقاق : هو العداء والتنازع وهو أثر الاختلاف ، وحقيقته أن يكون كل من الخصمين في شق أي جانب غير ما فيه الآخر.

المعنى الجملي

بعد أن بين فيما سلف إباحة أكل الطيبات على خلاف ما عليه أهل الملل الأخرى ، وأوجب عليهم شكر ربهم على نعمه التي أسداها إليهم ، ذكر في هذه الآيات أن بعض الرؤساء الذين حرموا على الناس ما لم يحرمه الله ، وشرعوا لهم ما لم يشرعه ، قد كتموا ما شرعه الله بالتأويل أو بالترك ؛ فاليهود والنصارى ومن حذا حذوهم كتموا أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم وأوجبوا التقشف في المآكل والمشارب ، ونحو ذلك مما لهم فيه منفعة كما قال : «تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً ».

٥٠

الإيضاح

( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) أي إن الذين يخفون ما أنزل الله من وحيه على رسله ، أو يؤولونه ويحرفونه ويضعونه في غير موضعه برأيهم واجتهادهم ، فى مقابل الثمن القليل من حطام الدنيا كالرشوة على ذلك أو الجعل (الأجر) على الفتاوى الباطلة أو نحو ذلك مما يستفيده الرؤساء من المرءوسين ، وسمى قليلا لأن كل عوض عن الحق فهو قليل في جنب ما يفوت آخذه من سعادة الحق الدائمة بدوام المحافظة عليه ، والمبطل وإن تمتع بثمن الباطل فذاك إلى أمد الحياة القصير كما قال : «فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ».

( أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ) أي إن أولئك الكاتمين لكتاب الله المتّجرين به ، ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلا ما يكون سببا لدخول النار ، وانتهاء مطامعهم بعذابها ، وقد يكون المعنى : إنه لا تملأ بطونهم إلا النار أي لا يشبع جشعهم إلا النار التي يصيرون إليها على نحو ما جاء في الحديث «ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» وهذا الحكم عامّ يصدق على المسلمين كما يصدق على غيرهم ، فسنة الله مطردة في تأييد أنصار الحق وخذلان أهل الباطل.

( وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي إن الله يعرض عنهم ويغضب عليهم ، وقد جرت عادة الملوك إذا غضبوا أعرضوا عن المغضوب عليهم ولم يكلموهم ، كما أنهم حين الرضا يلاطفون من يرضون عنه ، ويقابلونه بالبشاشة والبشر.

( وَلا يُزَكِّيهِمْ ) أي ولا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة والصفح عنهم إذا ماتوا وهم مصرّون على كفرهم.

( وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) أي ولهم عذاب شديد الألم موجع.

( أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى ) أي إن أولئك الذين جزاؤهم ما تقدم ، هم الذين تركوا الهدى الواضح البين الذي لا خلاف فيه ، وهو ما جاء به الرسل

٥١

عن ربهم ، واتبعوا آراء الناس في الدين وهى لا ضابط لها ، وهى مشتبه الأعلام يضلّ بها الفهم ، ومن ثم كان أهلها في خلاف وشقاق.

( وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ ) أي إن متبع الضلال استحق العذاب بدل المغفرة ، وهو باختياره إياه بعد قيام الحجة قد اشترى العذاب بالمغفرة ، وكان هو الجاني على نفسه حين اغترّ بالعاجل واستهان بالآجل.

( فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) أي إنّ انهماكهم في العمل الذي يوصلهم إلى النار المبين فى الآيتين السالفتين هو مثار العجب ، فسيرهم في الطريق التي يجرهم إليها ، وعدم مبالاتهم بمآل أعمالهم ، دليل على أنهم يطيقون الصبر عليها ، وتلك حال تستحق العجب أشد العجب ، وأعجب من ذلك أن يرضاها عاقل لنفسه ومثل هذا الأسلوب ما يقال لمن يتعرض لما يوجب غضب ملك من الملوك :

ما أصبرك على القيد والسجن! أي إنه لا يتعرض لمثل هذا إلا من هو شديد الصبر على العذاب.

( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ) أي ذلك العذاب الذي تقرّر لهم بسبب أن الكتاب جاء بالحق ، والحق لا يغالب ، فمن غالبه غلب.

( وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) أي وإن الذين اختلفوا فى الكتاب الذي نزله الله لجمع الكلمة على اتباع الحق وإزالة الاختلاف ، لفى شقاق بعيد عن سبيل الحق ، فلا يهتدون إليه ، إذ كل منهم يخالف الآخر بما ابتدعه من رأى ومذهب ، وينأى بجانبه عن الآخر ، فيكون الشقاق بينهما بعيدا.

وهذا وعيد آخر بعد الوعيد الأول على كتمان الحق ، فالمختلفون لا يسلكون سبيلا واحدة كما يدعو إلى ذلك القرآن «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » فلا يجوز أهل الكتاب الإلهى أن يكونوا شيعا ومذاهب شتى كما قال : «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ».

٥٢

فإذا وجد خلاف في الفهم (وهو ضرورى في طباع البشر) وجب التحاكم إلى الكتاب والسنة حتى يزول كما قال : «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ » وليس هناك عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم ، لأن الله أوجد لكل مشكل مخرجا ، على أن ما تختلف فيه الأفهام لا يقتضى الشقاق والنزاع ، بل يسبهل على جماعة المسلمين من أهل العلم أن ينظروا فيما اختلف فيه ، وما يرون أنه الراجح يعتمدون عليه ، إذا تعلق بمصلحة الأمة والأحكام المشتركة بينها.

( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) )

تفسير المفردات

البر : لغة التوسع في الخير ، وأصله من البر المقابل للبحر ، وفي لسان الشرع كل ما يتقرب به إلى الله من الإيمان به وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق ، قبل المشرق والمغرب أي ناحيتيهما ، وآتى المال أي أعطاه ، والمسكين هو الدائم السكون لأن الحاجة أسكنته ، والعجز قد أقعده عن طلب ما يكفيه ، وابن السبيل هو المسافر البعيد عن ماله ولا يمكنه الاتصال بأهل أو بذي قرابة ، والسائل من ألجأته الحاجة إلى السؤال وتكفّف الناس ، والسؤال محرم شرعا إلا لضرورة يجب على السائل ألا يتعداها ، وفي الرقاب أي وفي تحرير الرقاب وعتقها ، وأقام الصلاة أي أداها على أقوم وجه وأحسنه ، والعهد ما يلتزم به إنسان

٥٣

لآخر والبأساء من البؤس وهو الفقر والشدة ، والضراء كل ما يضر الإنسان من مرض أو فقد حبيب من أهل ومال ، صدقوا أي في دعوى الإيمان ، والتقوى هى الوقاية من سخط الله وغضبه بالبعد عن الآثام والذنوب

المعنى الجملي

لما أمر الله تعالى بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة ، طال خوض أهل الكتاب في ذلك ، واحتدم الجدل بينهم وبين المسلمين حتى بلغ أشده ، وكانوا يرون أن الصلاة إلى غير قبلتهم لا يقبلها الله تعالى ، ولا يكون صاحبها متبعا دين الأنبياء ، كما كان المسلمون يرون أن الصلاة لا يرضى عنها الله إلا إدا كانت إلى المسجد الحرام قبلة إبراهيم أبي الأنبياء جميعا.

من قبل هذا بين الله في تلكم الآيات أن تولية الوجوه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود من الدين ، لأنه إنما شرع لتذكير المصلى بأنه يناجى ربه ، ويدعوه وحده ، ويعرض عن كل ما سواه ، وليكون شعارا لاجتماع الأمة على مقصد واحد ، فيكون في ذلك تعويدهم الاتفاق في سائر شئونهم وأغراضهم وتوحيد جهودهم.

الإيضاح

( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) أي ليس توجيه الوجه إلى المشرق والمغرب لذاته نوعا من أنواع البر ، فهو في نفسه ليس عملا صالحا.

( وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ) أي ولكن البر هو الإيمان وما يتبعه من الأعمال باعتبار اتصاف البارّ بها وقيامه بعملها.

فالإيمان بالله أساس البر ، ولن يكون كذلك إلا إذا كان متمكنا من النفس

٥٤

مصحوبا بالإذعان والخضوع واطمئنان القلب بحيث لا تبطره نعمة ، ولا تؤيسه نقمة ، كما قال تعالى : «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ».

والإيمان به يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية ، ودعوى الوساطة عند الله ، ودعوى التشريع والقول على الله بلا إذنه ، فلا يرضى مؤمن أن يكون عبدا ذليلا لأحد من البشر ، وإنما يخضع لله وشرعه.

والإيمان باليوم الآخر يعلم الإنسان أن له حياة أخرى في عالم غيبى غير هذا العالم ، فلا يقصر سعيه وعمله على ما يصلح الجسد ، ولا يجعل أكبر همه لذّات الدنيا وشهواتها فحسب.

والإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحى والنبوة واليوم الآخر ، فمن أنكرها أنكر كل ذلك ، لأن ملك الوحى هو الذي يفيض العلم بإذن الله على النبي بأمور الدين كما قال تعالى : «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ » وقال : «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ».

والإيمان بالكتب السماوية التي جاء بها الأنبياء يستدعى امتثال ما فيها من أوامر ونواه ، إذ من أيقن أن هذا الشيء حسن نافع توجهت نفسه لعمله ، ومن اعتقد أنه ضار ابتعد عنه ونفرت نفسه منه.

والإيمان بالنبيين يستدعى الاهتداء بهديهم والتخلق بأخلاقهم والتأدب بآدابهم. وقدران الجهل على قلوب كثير من الناس فظنوا أن صياحهم بالأدعية والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل ما في كتاب دلائل الخيرات والمدائح الشعرية ، مع الجهل بأخلاقه الشريفة ، وسيرته الكاملة ، والتأسى به إذا دعوا إلى ذلك أو نهوا عن البدع في دينه ، والزيادة في شريعته ، فيها غناء لهم أيّما غناء ، وقد ضلوا ضلالا بعيدا.

٥٥

فقد جاء في الصحيحين «أن جماعة من أمته صلى الله عليه وسلم يردون الحوض يوم القيامة فيذادون عنه (يطردون دونه) فيقول أمتى فيقال : إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك ، فيقول. سحقا لمن بدّل بعدي».

( وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ ) أي وأعطى المال مع حبه له الأصناف الآتية من ذوى الحاجة ، رحمة بهم وشفقة عليهم وهم :

(1) ذوو القربي المحتاجون ، وهم أحق الناس بالبر ، إذ المركوز في الفطرة أن الإنسان يألم لفاقة ذوى رحمه وعدمهم أشد مما يألم لغيرهم ، فهو يرى أن هوانه بهوانهم وعزه بعزهم ، فمن قطع رحمه وامتنع عن مساعدتهم ، وهم بائسون وهو في نعمة من الله وفضل ، فقد بعد عن الدين والفطرة ، وجاء في الحديث الصحيح «صدقتك على المسلمين صدقة ، وعلى ذى رحمك اثنتان» أي لأنها صدقة وصلة رحم.

(2) اليتامى ، لأن صغار الفقراء الذين لا والد لهم ولا كاسب ، فى حاجة إلى معونة ذوى اليسار من المسلمين كيلا تسوء حالهم وتفسد تربيتهم ، فيكونوا ضررا على أنفسهم وعلى الناس.

(3) المساكين ، الذين أقعدهم العجز عن طلب ما يكفيهم ، فيجب على المسلمين أن يساعدوهم ويقدموا لهم المعونة ، إذ هم أعضاء من جسم الأمة ، ومن مصلحة أفرادها التعاون والتآزر حفظا لكيانها ، وإبقاء على بنيانها من التداعي إلى الهدم والزوال.

(4) ابن السبيل ، وفي أمر الشارع بمواساته وإعانته في سفره ترغيب منه في السياحة والضرب في الأرض.

(5) السائلون ، الذين اضطروا إلى تكفف الناس ، لشدة عوزهم.

(6) فى تحرير الرقاب وعتقها ، ويشمل ذلك ابتياع الأرقاء وعتقهم ، ومساعدة

٥٦

الأسرى على الافتداء ، وإعانة المكاتبين على أداء نجومهم (المكاتب هو الرقيق يشترى نفسه من مولاه بثمن يجعله نجوما (أقساطا).

وفي جعل هذا نوعا من البذل واجبا على المسلمين ، دليل على رغبة الشارع في فكّ الرقاب ، واعتباره أن الإنسان خلق ليكون حرا إلا في أحوال عارضة تقضى المصلحة العامة فيها أن يكون الأسير رقيقا.

والبذل لهذه الأصناف لا يتقيد بزمن معين ، ولا بامتلاك نصاب محدود من المال ولا بتقدير المال المبذول بمقدار معين كالزكاة الواجبة ، بل هو موكول إلى أريحيّة المعطى وحال المعطى.

وقد أغفل الناس أداء هذه الحقوق التي حث عليها الكتاب الكريم ، مع ما فيها من التكافل العامّ بين المسلمين ، ولو أدوها لكانوا في معايشهم من خير الأمم ، ولدخل كثير من الناس في الإسلام ، لما يرون فيه من جميل العناية بالفقراء ، وأن لهم حقوقا فى أموال الأغنياء ، فتتوثق الصلة بين الطوائف المختلفة من المسلمين.

( وَأَقامَ الصَّلاةَ ) أي أداها على أقوم وجه ، ولا يتحقق ذلك بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فحسب ، بل إنما يكون بوجود سرّ الصلاة وروحها ، ومن آثاره تحلّى المصلى بالأخلاق الفاضلة ، وتباعده من الرذائل ، فلا يفعل فاحشة ولا منكرا ، كما قال تعالى مبينا فوائدها : «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ » ولا يكون هلوعا جزوعا إذا مسه الضرّ ، ولا بخيلا منوعا إذا ناله الخير كما قال عزّ اسمه : «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ » كما لا يخشى فى الحق لوم اللائمين ، ولا يبالى في سبيل الله ما يلقى من الشدائد ، ولا بما ينفق من فضله ابتغاء مرضاته.

( وَآتَى الزَّكاةَ ) أي أعطى الزكاة المفروضة ، وقلما تجئ الصلاة في القرآن الكريم إلا وهى مقترنة بالزكاة ؛ ذاك أن الصلاة تهذب الروح ، والمال قرين الروح ، فبذله

٥٧

ركن عظيم من أعمال البرّ ، ومن ثمّ أجمع الصحابة على محاربة مانعى الزكاة من العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن مانعها يهدم ركنا من أركان الإسلام ، وينقض أساس الإيمان.

وقد افتنّ الناس في منعها بما سموه حيلا شرعية ، وهى ليست من الشرع في شىء ، فكيف يؤكد الله علينا الزكاة ويذكرها في كتابه سبعين مرّة ، ثم يرضى أن نحتال عليه ونخادعه في تركها ، فلم إذا فرض وأوجب ، ورغّب ورهّب؟ وأحرى بمثل هذه الحيل أن تسمى حيلا شيطانية لا حيلا شرعية ، لأن فيها احتيالا على الله في إبطال فريضته.

ومن ذلك أن يأتي المزكى قبل تمام الحول (وهو شرط في وجوب الزكاة) بيوم أو يومين ويهب ماله لامرأته على أن ترده إليه بعد ذلك الميقات المضروب ، وهو بهذا يدكّ صرح الكتاب والسنة ، ويزعم مع هذا أنه مسلم مؤمن بالله ورسوله وكتابه.

وقد بينت السنة العملية والقولية قدر المأخوذ وحددته بمقدار 1/40 من رأس المال ، وسبيل الأخذ ، وسائر أحكام الزكاة.

وبعد أن ذكر البر في الأعمال ذكر البر في الأخلاق ، فقال :

( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ) أي والذين يوفون بعهودهم إذا عاهدوا عليها ، وهذا شامل لما يعاهد عليه الناس بعضهم بعضا ، ولما يعاهد عليه المؤمنون ربهم من السمع والطاعة لكل ما جاء به في دينه ، ولا يجب الوفاء به إذا كان في معصية.

ومثل العهود العقود ، فيجب علينا الوفاء بها ما لم تكن مخالفة لقواعد الدين العامة.

وفي الوفاء بالعهود والعقود حفظ كيان المجتمع من أن ينفرط عقده ، كما أن الغدر والإخلاف فيها هادم للنظام ، مفسد للعمران ؛ فما من أمة فقدت الوفاء بالعهد (وهو ركن الأمانة وقوام الصدق) إلا حل بها العقاب الإلهى ، فانتزعت الثقة من بين أفرادها حتى بين الأهل والعيال ، فيعيشون متخاذلين وكأنهم وحوش مفترسة ، ينتظر كل واحد وثبة الآخر عليه ، إذا أمكن يده أن تصل إليه ، ومن ثمّ يضطر أفرادها إلى الاستيثاق فى عقودهم بكل ما يقدرون عليه ، ويحترس كل منهم من غدر الآخر ، فلا يكون هناك

٥٨

تعاون ولا تناصر ، بل تباغض وتحاسد ، ولا سيما بين الأقارب ، ولو شمل الناس الوفاء لسلموا من هذا البلاء.

( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) أي والصابرين لدى الفقر والشدة ، وعند الضر من مرض وفقد أهل وولد ومال ، وفي ميادين القتال ، ولدى الضرب والطعان ومنازلة الأقران.

وخص هذه المواطن الثلاثة مع أن الصبر محمود في جميع الأحوال ، لأن من صبر فيها كان في غيرها أصبر ؛ فالفقر إذا اشتدت وطأته ضاق به الصدر ، وكاد يفضى إلى الكفر ، والضرّ إذا برّح بالبدن أضعف الأخلاق والهمم ، وفي الحرب التعرض للهلاك بخوض غمرات المنيّة والظفر مقرون بالصبر ، وبالصبر يحفظ الحقّ الذي يناضل صاحبه دونه ، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن الفرار من الزّحف من أكبر الكبائر.

وباتباع هذه الأوامر كانت الأمة الإسلامية أعظم أمة حربية في العالم ، وما زال استبداد الحكام يفسد من بأسها ، وترك الاهتداء بالكتاب والسنة يضعف من قوتها ، حتى سبقتها الأمم كلها في ميادين الكفاح.

( أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ) فى دعواهم الإيمان ، دون الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.

( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) أي وأولئك هم الذين جعلوا بينهم وبين سخط الله وقاية ، بالبعد عن المعاصي التي توجب خذلان الله في الدنيا ، وعذابه في الآخرة.

وقال بعض العلماء : من عمل بهذه الآية فقد كمل إيمانه ، ونال أقصى مراتب إيقانه.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ

٥٩

بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179))

تفسير المفردات

كتب : فرض ولزم عند مطالبة صاحب الحق به ، والقصاص : لغة يفيد العدل والمساواة ، ومنه سمى المقصّ مقصا لتعادل جانبيه ، والقصة قصة لأن الحكاية تساوى المحكي ، وشرعا أن يقتل القاتل ، لأنه مساو للمقتول في نظر الشارع ، فاتباع بالمعروف : أي فمطالبة للدية بالمعروف بلا تعسف ، وأداء إليه بإحسان : أي أداء بلا مماطلة ولا بخس حق ، اعتدى : أي انتقم من القاتل بعد العفو ، والألباب : واحدها لبّ وهو العقل.

المعنى الجملي

كان القصاص على القتل أمرا محتوما عند اليهود كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج ، وكانت الدية أمرا مقضيا عند النصارى ، وكانت العرب تتحكم في ذلك بحسب قوة القبائل وضعفها ، فكثيرا ما كانت القبيلة تأبي أن تقتص من القاتل ، بل تقتصّ من رئيس القبيلة ، وربما طلبوا بالواحد عشرة ، وبالأنثى ذكرا وبالعبد حرّا ، فإن أجيبوا فيها ونعمت ، وإلا قاتلوا قبيلة القاتل وسفكوا دماء كثيرة ، وهذا ظلم عظيم ، وقسوة شديدة ، وقتل القاتل فحسب وهو ما جاء في التوراة إصلاح لهذا الظلم.

ولكن قد تقع أحيانا بعض جرائم يكون الحكم فيها بقتل القاتل ضارّا وتركه لا مفسدة فيه ، كأن يقتل المرء أخاه أو أحد أقار به لغضب فجائي اضطره إلى قتله ، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت. فإذا قتل يفقدون بفقده النصير والمعين ،

٦٠

النقد الأدبي أو الفنّي

يمكن تعريف ( النقد ) بأنَّّه عملية ( كشف ) للنصوص، أي تبيين قيمها الفنية من حيث الجودة أو الرداءة، وذلك من خلال ( تحليل ) أجزائها و( تفسيرها ) و( الحكم ) عليها.

وهذا يعني أنَّ عملية ( الكشف ) تتضمن ثلاثة عناصر هي:

١ - التحليل : كما لو قمنا بتفكيك القصيدة - مثلاً - إلى أجزاء مختلفة تتصل بعناصرها، من ( فكر ) و( انفعال ) و( صورة ) و( إيقاع ) و( تخيّل )... إلخ، أو تفكيك ( الصورة ) وتحديد أطرافها، أو تفكيك إيقاعها من فرز لعناصر التفعيلة - مثلاً - إلى التجانس الصوتي للعبارة، إلى ( الجرس ) الخاص بها... إلخ. كلّ أولئك يجسّد عنصر ( التحليل ) لمركَّبات القصيدة.

٢ - التفسير : وهو تبيين أو شرح أو إلقاء الإنارة على الأجزاء المحللة المشار إليها، كما لو قمنا بعملية فكّ لرموزها وصورها الغامضة مثلاً.

٣ - الحكم : وهو إلقاء وجهة نظرنا الايجابية أو السلبية على النص، مشفوعة بعنصر ( التعليل ) للحكم المذكور، أي: تقديم الأسباب الفنية الكامنة وراء ( حكمنا ) على النص.

والجدير بالملاحظة أن هناك اتجاهاً يكتفي من عملية ( النقد ) بعنصري ( التحليل ) و( التفسير ) فحسب، دون أن يعنى بعنصر ( الحكم ) ؛ مستنداً في ذلك إلى وجهة النظر الذاهبة إلى أن ( المتلقِّي ) ينبغي أن ( يساهم ) في عملية الكشف للنص، لا أن نحصر الكشف في نشاط الناقد وحده، وذلك لجملة من الاعتبارات:

منها: أن مساهمة المتلقِّي في عملية ( الكشف ) سوف تزيد من إمتاعه لتذوّق النص، وتثرى تجربته في عملية التذوق، بدلاً من أن نقدّم له وصفة جاهزة تحتجزه من ممارسة الإبداع، وهذا يعني أن المتلقِّي يقوم بعملية فنية مكمّلة لمهمة الناقد.

ومنها: أن للمتلقّي وجهة نظره الخاصة في عملية التذوّق، ممّا يتنافى مع ( الحكم ) الذي يطلقه الناقد على النص، وهو أمر يجعل كون النقد منحصراً في عمليتي ( التحليل ) و( التفسير ) دون ( الحكم) له مسوغاته في هذا الميدان، مادامت معايير الفن وقوانينه ( نسبية ) وليست مطلقة.

ومنها: أن الأعمال الفنية ، بخاصة الأعمال الخالدة لكبار الفنانين، لا حاجة لإصدار ( الحكم )

٦١

عليها مادامت مستوفية لشرائط الفن.

ومنها: أن عمليتي التحليل والتفسير ذاتهما تكشفان عن ( قيمة ) النص دون الحاجة لإصدار الحكم.

وفي تصورنا، أن الركون إلى ( التقويم ) أو ( التفسير والتحليل )، يظل محكوماً بطبيعة الموقف. فقد يستدعي السياق مجرد عملية ( وصفية ) للنص، وقد يتطلّب الموقف ( أحكاماً ) عليه، إلاّ أن عملية ( الحكم ) بنحو عام تظل هي المهمة الرئيسة للنقد، مادمنا - إسلامياً - مطالبين بنصح الآخرين وإرشادهم، حيث يفيد صاحب النصّ من الملاحظات النقدية على نتاجه، كما يفيد الفنانون الآخرون من الملاحظات المذكورة، فضلاً عما يفيده ( المتلقِّي / القارئ ) من ذلك أيضاً.

* * *

إن عملية ( الكشف ) للنص تقترن بجملة من المبادئ، منها ما يثيره النقّاد حيال عمليات التفسير أو التحليل أو الحكم، من حيث تناولها للنص وشطره إلى ( شكل ) و( مضمون ). فيما يذهب النقاد الجماليون بخاصة ( وهم النقّاد الذين يعنون بالفن من حيث كونه تعبيراً ( جميلاً ) فحسب، بغض النظر عن دلالته ) إلى صعوبة عزل الشكل عن ( دلالة ) النص، حيث يترتب على مثل هذا الاتجاه غياب المضمون الفكري أساساً، وهو ما يتنافى مع العناية الإسلامية بالمضمون كما هو واضح.

الناقد الإسلامي بمقدوره أن يتجاوز هذا المبدأ ( المفتعل )، ويتجه إلى عزل الشكل القصصي أو الشعري - مثلاً - عن مضمونه، دون أن يترتب على ذلك: تضييع ل- ( قيمة ) النص.

صحيح أن الإمتاع الفني لا يتحقَّق إلاّ من خلال وحدة العمل الأدبي - وهو أمر يؤكّده الالتزام الإسلامي كما سبقت الإشارة إلى ذلك - إلاّ أن ذلك لا يحتجز الناقد من فكّ ( الوحدة ) أو ( المركب ) وإرجاعه إلى ( الأجزاء ) التي انتظمت فيه، بل يمكن القول إن الفارق بين العمل الفني وبين دراسته هو: قيام العمل الفني على شكل ( تركيبي )، وقيام الدراسة على شكل ( تحليلي )، أي أن تحليل المركبات هو الوظيفة الرئيسية لعملية النقد.

من هنا فإن إكساب المهمة النقدية نفس المهمة الفنية يظل أمراً مضاداً تماماً لطبيعة العمل النقدي.

يترتب على المبدأ المذكور، مبدأ آخر يتمثّل في ذهاب النقّاد الجماليين إلى ضرورة تناول النص من خلال ( الوحدة ) المشار إليها، دون التناول ( الجزئي ) لها. فإذا افترضنا أن القصيدة - مثلاً - تتركّب من ( تخيّل ) و( عاطفة ) و( إيقاع)، حينئذٍ يظل من الممتنع - في نظر الاتجاه الجمالي في النقد - تناول الجزئيات المذكورة منفصلة عن ( الشكل ) الكلّي لها.

هنا نكرّر نفس الكلام السابق من أن وظيفة الناقد هي تفكيك المركّب وتناول جزئياته منفصلة عنه حيناً، أو وصلها - من جديد - بالمركب المذكور، حسب ما يتطلبه الموقف.

٦٢

إن بعض المواقف تتطلّب رصد أفكار جزئية من النص، كما لو حاولنا - على سبيل المثال - أن ننتزع من السورة القرآنية (وهي أساساً تقوم على هيكل عماري محكَم ) العنصر القصصي، أو الصوري أو الإيقاعي أو الفكري ( ظاهرة الجهاد، الإنفاق،.. إلخ )، حينئذٍ فإن التناول الجزئي المذكور قد يفرض ضرورته، كما لو استهدفنا الحديث عن ( الجهاد ) أو (الإنفاق) - مثلاً - حيث تفرض المهمة العبادية على الناقد أن يعنى بهذا الجانب السياسي أو الاقتصادي من النص، لكن دون أن يحتجزه ذلك من التناول الفني للظاهرة كما لو وصل بين إحدى الصور الفنية للإنفاق مثلاً( كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ... ) وبين الأهمية العبادية للإنفاق ذاته، ويكون الناقد - بهذا التناول الجزئي - قد حقّق مهمته العبادية من خلال اللغة الفنية التي توفّر عليها، كما هو الأمر في المثال السابق.

وقد يستدعي الموقف إبراز الظاهرة الإعجازية للقرآن الكريم مثلاً، حينئذٍ بمقدوره أن يتحدّث عن السورة كاملة من حيث كونها عمارة محكمة تتلاحم أجزاؤها بعضا مع الآخر.

إذاً: في الحالات جميعاً، تظل تجزئة النص أو وحدته محكومة بمتطلّبات الموقف ( العبادي ) للناقد، دون أن يترتّب على ذلك أي إخلال بمهمته الفنية أيضاً، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

لغة النقد

والآن، بعد أن ألممنا عابراً بطبيعة النقد وقضاياه، يحسن بنا أن نعرض ل- ( لغة النقد ) من حيث التصور الإسلامي لهذا الجانب.

إن عملية ( النقد ) بنحو عام، وجدت لها نماذج ( شرعية ) لدى المعصومينعليهم‌السلام ، فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة ( ع ) طالما ثمّنوا مواقف الشعراء وأغدقوا عليهم الهدايا ؛ تعبيراً عن ( الحكم ) على نتاجهم، أي الحكم بالجودة على ذلك، ممّا يعين أن نقد النص من خلال إظهار محاسنه ( وهو أحد عناصر التقويم الثلاثة: إظهار المحاسن، إظهار المساوئ، الوقوف عند التحليل والتفسير فحسب ) يظل أمراً مشروعاً، بل يمكن القول بأنه يظل أمراً ( مندوباً )، طالما يقتاد التقويم الايجابي إلى تشجيع الفنان لمواصلة المزيد من وظيفته الإسلامية.

كما أن التقويم السلبي ( أي إظهار المعائب ) وجد له نماذج شرعية أيضاً، حيث إن المعصومينعليهم‌السلام كانوا يقترحون على الشاعر أن يستبدل بيتا بآخر مثلاً، أو يطالبونه بإلقاء الموضوعات الهادفة فحسب، وعدم قراءة مقدمة القصيدة التي تستهل، وفقا للتقاليد الفنية عصرئذٍ، بالغزل ونحوه.

إن أمثلة هذه الاقتراحات تفصح عن أن ملاحظة النص من حيث جوانبه السلبية، يظل أمراً له مشروعيته أيضاً، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن ملاحظة الجانب السلبي والتنبيه عليه في مطلق السلوك، يظل في الصميم من توصيات المشرّع الإسلامي، الذي يطالبنا جميعاً بنصح الآخرين وتنبيههم على أخطائهم، حيث يدخل ( العمل الفني ) ضمن مفردات ( السلوك ) العام أيضاً.

٦٣

إذاً، لا غبار على عملية النقد أساساً من حيث الحكم على النص بالجودة أو الرداءة، كلّ ما في الأمر أن لغة النقد - كما أشرنا - ينبغي أن تحكمها الموضوعية من جانب، وأن تتسم بالبعد الأخلاقي من جانب آخر. بمعنى أن التعامل بالحسنى ( في حالة النقد السلبي ) يظل غير منفصل عن السلوك العام الذي يطالبنا المشرّع الإسلامي بالصدور عنه.

ولعل التوصيات الإسلامية المطالبة بمفهومات من نحو: ( العدل ) ( قول الحقّ ) ( الإنصاف )... إلخ، ممّا تشكّل جوهر السلوك السوي، تظل منسحبةً على ( العمل النقدي ) أيضاً. بل يمكننا أن نستخلص هذه الحقيقة بوضوح حينما نقف على توصيات خاصة في هذا الميدان، أو حينما نقف على نماذج تطبيقية للمعصومينعليهم‌السلام تكشف عن أهمية ( البعد الموضوعي ) في النقد... من ذلك مثلاً: ما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنه لو ( احتكم ) طفلان مثلاً إلى أحد الأشخاص حيال أفضلهما خطاً أو كتابة، كان من الضروري على الشخص أن يحكم ب- ( العدل ) حيال هذه القضية.

فإذا كان مجرد الخط أو الكتابة لطفلين، وهو عمل عادى، يتطلّب - في التوصيات الإسلامية - ( موضوعية ) في الحكم، حينئذٍ فإن ( الموضوعية - الحياد ) في إصدار الحكم على العمل الفني، تفرض ضرورتها - دون أدنى شك - على الكاتب الإسلامي.

الاستشهاد بالنموذج المعروف الذي أصدره الإمام عليّعليه‌السلام حيال أحد شعراء الجاهلية، حينما حكم (ع) بجودة نتاجه ( من حيث الأداة الفنية )، مع أنهعليه‌السلام وسم النتاج المذكور، أو وسم صاحبه، بالطابع الانحرافي (الضلال)،... وهو أمر يكشف عن ( الموضوعية ) في أرفع مستوياتها، مما يعني أن الطابع الموضوعي في النقد، يظل في الحالات جميعاً، موضع عناية المشرع الإسلامي.

* * *

هذا كلّه فيما يتصل بالبعد ( الموضوعي ) في النقد.

أما ما يتصل بالبعد ( الأخلاقي ) منه، فإن لغة النقد، وفق التصور الإسلامي لها، ينبغي أن تتسم بنفس لغة التعامل الاجتماعي مع الآخرين، من حيث الالتزام بالآداب العامة من عمليات الإرشاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ حيث لا فارق البتة بين لغة منطوقة ولغة مكتوبة...، بين لغة تتناول السلوك الفردي والاجتماعي ولغة تتناول السلوك الفني.

إن كلاًّ من عمليتي ( التجريح ) و( الفضح ) اللذين نألفهما في النقد الأرضي، ينبغي أن يتنزّه الناقد الإسلامي عنهما.

صحيح أن إبراز المساوئ الفنية في النص تفضي إلى عملية ( فضح ) لصاحب النص، إلا أن هذا الأخير ينبغي أن يتقبّل ذلك برحابة صدر مادام النص الأدبي ملكا للآخرين وليس لكاتبه فحسب، وهو ما يفترق تماماً عن السلوك الشخصي فيما يتعين إرشاد الشخص مباشرة دون فضحه أمام الآخرين... وهذا يعني أن هناك فارقاً بين نقد السلوك الفردي وبين نقد نتاجه الفني، وهو أمر

٦٤

يتعيّن التشدد عليه في هذا الجانب. كما يترتب عليه جانب آخر يظل في غاية الأهمية بالنسبة للناقد الإسلامي... إننا نعرف - مثلاً - أن هناك اتجاهاً نفسياً في النقد ( حيث سنتحدّث عنه في حقل لاحق ) يحاول ربط النص الأدبي بنفسية كاتبه، حيث يُلاحظ أن روّاد هذا الاتجاه يجنحون في الغالب إلى ( فضح ) كاتب النص وإخضاع شخصيته للتحليل النفسي، وهو تحليل يُعنى بإبراز السمات الشاذة للكاتب.

إن الشاعر أو القاص مثلاً يظل - مثل سائر النماذج البشرية - محكوماً بعقده المختلفة، وإفرازاتها المتمثلة في سمات من نحو: الإحساس بالنقص أو العظمة الموهومة أو المخاوف أو الوساوس، بما يستتبعها من الصدور عن ( آليات ) مختلفة، مثل: الإسقاط، النكوص، التسويغ... إلخ. فإذا اتجه الناقد إلى إبراز هذه السمات، حينئذٍ تظل هذه العملية بمثابة ( تشهير ) و( فضح ) للقاص أو الشاعر، يتنافى أساساً مع ( أخلاقية ) الشخصية المسلمة.

إن الناقد نفسه من الممكن أن تطبعه نفس السمات المرضية التي خلعها على كاتب النص، بل إن ( التشهير ) نفسه يجسد ( نزعة عدوانية ) تفصح عن شذوذ صاحبه،... وحينئذٍ ما فائدة أن يشخّص الناقد ( حالة مرضية ) تطبع شخصه بمثل ما تطبع شخصية كاتب النص... إن أمثلة هذا النقد دفعت الكثير من روّاده إلى الوقوع في أحكام لا تقف عند مجرد التشهير أو الفضح لعيوب خفية، بل تجاوزت ذلك إلى محاولة ( افتعال ) التهم وإلصاقها بكاتب النص، من نحو ما نلحظه من تفسيرات تتحدث عن شعراء وقصَّصين أخضعوا نتاجهم لتقاليد فنية لا علاقة لها بسلوكهم الشخصي، أو لوحظ أنهم - في السلوك الشخصي - قد طبعهم بعض الشذوذ، فالتمسوا لنتاجهم تفسيرات متعسّفة في ضوء وقوفهم على الشذوذ المذكور. فضلاً عن محاولتهم تفسير ما هو إيجابي عند بعض الفنانين - كما لو كانوا إسلاميين أو زهّاداً مثلاً - بأنه عملية ( تعويض ) لفشل، أو ( قناع ) لنزعة عدوانية، أو ( تصعيد ) لرغبة جنسية... إلخ.

أمثلة هذا النقد تظل غير متوافقة أساساً مع الاتجاه الإسلامي الذي لا يصدر ( الحكم ) إلاّ بعد اليقين بوجود الصلة بين نتاج الكاتب وشخصيته، وحتى بعد يقينه بذلك، لا يحقّ له - كما قلنا - فضح الشخصية، بل يجب أن يتستر عليها كما هو صريح التوصيات الإسلامية المطالبة بذلك، وبعدم الجهر بالسوء مادام الأمر غير مرتبط بالجانب الفنّي من النتاج، بل بالجانب الشخصي الصرف.

لكن تستثنى من ذلك - بطبيعة الحال - النماذج المنحرفة التي تجهر بممارسة الرذيلة، أو النماذج المنحرفة التي ( تتقنّع ) بما هو ايجابي من السلوك بغية تمرير نزعتها الشريرة على الآخرين، حيث يتطلّب مثل هذا الموقف عملية فضح وإدانة للنماذج المشار إليها.

٦٥

النقد واتجاهاته

بعد أن وقفنا على طبيعة النقد الفني ولغته، يحسن بنا أن نقف على تياراته أو اتجاهاته الأرضية، لملاحظة الموقف الإسلامي منها.

لا شك أن الناقد - أيَّاً كان اتجاهه - يتوسّل عبر تقويمه للنصوص بالأداة الرئيسة للفن. فإذا كان في صدد دراسة القصيدة الفنية التي تنتظم هذا الشكل الأدبي أو ذاك، فللقصيدة مثلاً لغتها الخاصة، وعناصرها التخيلية والعاطفية، وللمسرحية: لغتها وشكلها وبناؤها الخاص... وهكذا.

والأصل في الممارسة النقدية أن يعتمد الباحث الأداة الفنية الخاصة بذلك النص الذي يعتزم دراسته، بَيْد أن النص - في الآن ذاته - يرتبط بمقومات اجتماعية أو دلالات نفسية أو دلالات فكرية، مما يفرض على الناقد لقاء الإنارات المذكورة عليه، فيتجه إلى ( خارجه ) أيضاً، وهو أمر يجعل عملية ( النقد ) مقترنة بمبادئ أخرى قد يتفاوت الباحثون حيالها، بخاصة أن ذلك يظل خاضعاً لنسبية هذه الإنارة الخارجية، كما يخضع لوجهة النظر العقائدية للناقد. كلّ أولئك يقتادنا إلى عرض المبادئ ( الخارجة ) عن النص، وملاحظة التيارات أو الاتجاهات النقدية في هذا الصدد، ثم عرض التصور الإسلامي لهذا الجانب.

ونبدأ - أولاً - ب-:

الاتجاه العقائدي:

يقصد ب- ( الاتجاه العقائدي أو الأيدلوجي): دراسة النص في ضوء الموقف الفلسفي الذي يصدر الكاتب عنه. والملاحظ أن الكتّاب - قديماً وحديثاً - أثاروا هذه الظاهرة في حقل الدراسات العلمية، حيث انشطروا حيال ذلك إلى اتجاه رافض لإقحام ( الموقف الفلسفي ) في دراسة النص، واتجاه ملتزم بأهمية مثل هذا الإقحام.

أما إسلامياً، فإننا في غنى عن أثاره هذه الظاهرة ؛ مادمنا مقتنعين تماماً أن الشخصية الإسلامية ( موظّفة ) أساساً في كلّ تصرفاتها، بما في ذلك السلوك العلمي.

٦٦

الشخصية الإسلامية مدركة تماماً بأن ( السماء ) أبدعتنا لهدف خاص هو ( الخلافة في الأرض )، بمعنى أننا نمارس هذا السلوك أو ذاك، تبعاً لإحساسنا بمسئولية ( الخلافة )، بما في ذلك السلوك الحيوي الذي لا مناص من إشباعه، مثل: الطعام والنوم ونحوهما. وقد وردت التوصيات الإسلامية بضرورة أن تضع الشخصية الإسلامية في اعتبارها ( هدفاً ) عبادياً بالنسبة لكل تصرف يصدر عنها بما في ذلك الأكل والنوم، مطالبة إيانا أن تكون لنا ( نية ) حيالهما، وحيال سائر أنماط سلوكنا.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن السلوك العلمي يجيء في مقدمة الوظائف الخلافية التي أوكلتها ( السماء ) إلينا، مما يعني أن ( المنهج العقائدي ) في دراسة النصوص، يظل ( هدفاً أوحد ) بالنسبة للباحث ؛ إذ بدون وضع الهدف المذكور في حسبانها، يظل البحث عقيماً لا جدوى فيه، وهو أمر تطالبنا السماء بالتنزّه عنه.

لذلك، لا نجد أي معنى لطرح التساؤلات عن مشروعية دراسة النص في ضوء ( العقيدة ) أو عدمها، مادام هدفنا أساساً هو ( العقيدة ) ذاتها، من حيث إشاعتها في النفوس ونشرها بين الجمهور.

بَيْد أن الباحث الإسلامي عبر ممارسته لهذه المهمة ( العقائدية )، ينبغي - كما أشرنا سابقاً - ألاَّ يغيب عن ذهنه بأن البحث العلمي لابد أن يتسم بطابع ( الموضوعية ) أو ( الحياء ) من حيث دراسته للظواهر التي يتناولها، ليس بمعنى عدم تصوير ( هدفه العقائدي )، بل بمعنى أن الدراسة ينبغي ألاّ تتأثر ( عاطفياً ) بالموقف الفلسفي، بحيث يخرجها من دائرة المعالجة الموضوعية، بل تتناول النص بروح خالية من آثار العاطفة وانفعالاتها، ملتزمة بالحياد العلمي، مجادلة بالتي هي أحسن.

بكلمة جديدة: الكاتب الإسلامي مدعو إلى أن يدرس الموضوع بشكل ( محايد ) أولاً، ثم يتجه إلى تقويمه ( عقائدياً ). فإذا افترضنا أن الكاتب كان في صدد دراسة قصيدة مثلاً، حينئذٍ يتعيّن عليه أن يعالج القصيدة المذكورة من حيث قيمتها الفنية، بما تنطوي عليه من صياغة الصورة والإيقاع واللغة ونحوها، ثم يتّجه إلى تقويها ( عقائدياً ). فإذا كانت القصيدة - على سبيل المثال - رديئة الصياغة، بالرغم من كونها ( إسلامية ) المنحى، ينبغي ألاّ يتعصّب لها فيحكم بجودتها ( فنياً ) مع أنها رديئة، بل يتعيّن عليه أن يقر بكونها غير جيدة، من الزاوية الفنية.

بالمقابل، ينبغي على الباحث أيضاً إذا كان في صدد دراسة إحدى القصائد ( غير الإسلامية ) مثلاً، ألاَّ يتعصب ضدها من الزاوية الفنية، إذا كانت مستجمعة لشروط ( الفن )، بل يقوّمها بنحو ( موضوعي )، ثم يتجه إلى إسقاط قيمتها ( عقائدياً ). وهذا ما نلحظه لدى أئمة أهل البيت ( ع ) فيما كانوا يصدرون في أحكامهم عن هذا التناول الموضوعي للظواهر، حيث يطالبون الشاعر ( العقائدي ) مثلاً، بإسقاط أو تعديل العبارة أو البيت الشعري ( من الزاوية الفنية )، كما يقرّون الشاعر ( غير العقائدي ) بجودته فنياً، إلاّ أنهم يحكمون بضلالة أفكاره.

٦٧

إذن، ليس ثَمَّة منافاة البتة بين أن يجمع الباحث بين ( الحياد ) العلمي وبين معالجته للنص ( من الزاوية العقائدية )، بل يتعيّن عليه أن يتوفّر على مثل هذا المنهج الذي يزاوج بين الحياد العلمي والالتزام العقائدي، مادام عدم التحامهما يفضى إما إلى الوقوع في هاوية ( العبث )، في حالة معالجته للنص ( فنياً ) فحسب، دون إقحام البُعد العقائدي فيه، وهذا ما يتنافي أساساً مع وظيفته العبادية الهادفة. وإما أن يقع في تشويه الحقائق وتحريفها، في حالة عدم تقويمه للنص فنياً.

طبيعياً، ينبغي أن يضع الكاتب الإسلامي في حسبانه بأن دراسة النص أو الموضوع غير المتسم بطابع إسلامي يظل عملاً عابثاً، بل محظوراً من الزاوية العبادية، إلاَّ في حالة اعتزامه الرد عليه وتبيين انحرافاته. ولذلك لا يرد على الكاتب الإسلامي ما يورد اعتيادياً على الباحثين غير الإسلاميين أو غير الملتزمين، طالما يتنزه الباحث الإسلامي عن دراسة النصوص المنحرفة فكرياً، ولا يجد ثَمَّة حاجة إلى تناولها إلاّ في حالة الرد عليها، كما أشرنا، نظراً إلى أن ممارساته ( ومنها الممارسة العلمية ) تتسم بكونها ( هادفة ) لا مجال للعبث فيها.

نخلص من ذلك إلى أن ( المنهج الأيدلوجي ) يظل بالنسبة إلى الباحث الإسلامي هدفاً رئيسياً في ممارسته العلمية، أي أن هدفه أساساً هو ( المنهج الأيدلوجي ). وأما سائر المناهج ( الفنية والنفسية والتاريخية )، فتجيء ( موظَّفة ) لإنارة ( عقائده )، أي تجيء ثانوية الأهمية بالقياس إلى أهمية ( المنهج العقائدي ) ؛ لبداهة أن أية ممارسة علمية ينبغي أن ( توظَّف ) من أجل ( العقيدة ).

٦٨

الاتجاه الجمالي:

يقصد ب- ( الاتجاه الجمالي ) في النقد: دراسة النص في ضوء المبادئ الفنية له، دون تسليط أي ضوء خارجي عليه. بمعنى أن الناقد إذا كان في صدد دراسة القصيدة أو القصة مثلاً، حينئذ فإن دراسته تنحصر في معالجتهما من حيث عناصر النص وأدواته ولغته، مثل: الإيقاع، الصورة، الحوار، السرد... إلخ.

وهذا الاتجاه قد تفرضه سياقات خاصة من التناول، كما لو افترضنا أن ناقداً كان في صدد دراسة البناء الفني للسورة القرآنية، من حيث كونها ذات موضوعات يرتبط أحدها مع الآخر بسببية محكمة، وتتنامى أجزاؤها وفق تماسك عضوي، بحيث تبدأ السورة بموضوع، وتتدرّج إلى آخر، وتنتهي إلى الخاتمة، وفق ترتيب منطقي ( زمني أو نفسي ). بَيْد أن كثيراً من النصوص تتطلب الاستعانة بضروب أخرى من المعرفة ( التاريخية ) أو ( النفسية ) مثلاً، وحينئذٍ فإن التوسّل بالمعرفة المذكورة يظل أمراً لا مناص منه.

ومن الممكن أن يثير بعض المعنيين بشئون الدراسات الفنية تشكيكاً بقيمة الدراسات التي تتجاوز نطاق المنهج الفني إلى ( المعرفة ) الخارجة عنه، مدّعين في ذلك أن إخضاع الدراسة إلى المعرفة الخارجية يحوّلها من نطاق الدراسة الفنية إلى دراسة تاريخية أو نفسية أو علمية بعامة، مما يفقدها السمة الأصلية لها، وهو الفنّ أو الأدب.

لكن، من الممكن أن نجيب أمثلة هؤلاء الباحثين، بأن الفارق بين الأدب والفن وبين دراستهما، لابد أن يؤخذ أولاً بنظر الاعتبار من حيث كونهما - أي الأدب والفن - عملاً إنشائياً أو إبداعياً، ومن حيث كون ( البحث العلمي ) عملاً وصفياً يستهدف تحليل النص وتفسيره وتقويمه، مما يتطلّب معالجته في ضوء المعلومات التاريخية التي ولد النص في نطاقها، وفي ضوء المعلومات النفسية التي تُسعِف القاري - فضلاً عن الباحث - في فهم أسرار العمل الفني أو الأدبي. فنحن لا يمكننا تقويم النص من خلال مجرد تحليل الصورة الفنية - كالتشبيه مثلاً - ما لم نُخضِع الدراسة للمعرفة النفسية التي تُلقي الضوء على أسرار ( التشبيه ) الجيد وفرزه عن التشبيه الرديء.

إن عملية ( الإبداع الفني ) ذاتها، تعد في الصميم من مهمات العالم النفسي، كما أن عملية ( التوصيل الفني ) تعد في الصميم أيضاً من وظائف العالم المذكور، من حيث دراسة ( الاستجابة )

٦٩

البشرية وطرائقها في هذا الصدد.

والأمر ذاته يمكننا أن نلحظه في سائر الموضوعات أو النصوص التي نتناولها بالدراسة... سواء أكانت أدباً أم تاريخاً أم اجتماعاً أم اقتصاداً أم تشريعاً أم سياسة... إلخ... طالما نعرف بأن ( العلوم ) ( إنسانية ) كانت أم ( بحتة )، تتداخل فيما بينها بشكل أو بآخر، مما تستلي بالضرورة تسليط أحدها على الآخر، ولكن وفق ( نسبية ) محدّدة وليس بالنحو المطلق.

فضلاً عن ذلك، فإن كلاًّ من المعرفة ( التاريخية والنفسية ) تكاد تنفرد عن سواها من ضروب المعرفة الأخرى، بكونها تشكل ( أداة ) لا مناص من استخدامها في أية دراسة علمية، إنسانية كانت أم بحتة، طالما ندرك بأن كل ( معرفة ) لابد أن تولّد وتنمو وتتطوّر في ( إطار تاريخي ) لها، كما أنها لابد أن تفسر في ( إطار نفسي ) لها، إذ لا يمكن أن يحيا الشيء خارجاً من ( الزمن ) - ونعني به التاريخ - ولا يمكن أن تتمثّله البشرية خارجاً عن ( استجابة النفس ) له.

إذن: ما يطلق عليه مصطلح ( المنهج الموضوعي ) لا يتاح للناقد الأدبي أن يقتصر عليه إلاَّ في نطاق ضئيل بنحو ما سبقت الإشارة إليه. وخارجاً عن ذلك، فإن الضرورة العلمية تفرض على الباحث بتجاوزه إلى تخوم المعرفة التاريخية والنفسية، وسواهما من أدوات البحث العلمي، شريطة أن يتم في سياقات خاصة تظل بمثابة ( إنارة ) لا أكثر... وإلاّ فإن البحث لو تجاوز دائرة ( الإنارة )، فَقَد أصالته العلمية... كما أنه يفتقد أصالته في حالة جمود الباحث على ( المنهج الفني أو الموضوعي) دون توشيحه بالإنارة المشار إليها.

٧٠

الاتجاه الاجتماعي:

هذا الاتجاه، يحاول دراسة النص الفني في ضوء الظروف الاجتماعية التي ولد النص فيها، بصفة أن النص ظاهرة اجتماعية لها أسسها ومكوّناتها وصلاتها بمختلف الصُّعد التي تفرزها.

إن القصيدة أو القصة أو الخطبة، مجموعة من أفكار وأشخاص ومواقف وأحداث في ( بيئة ) معينة، تتميّز من مكانٍ لآخر وزمانٍ لآخر، ولكل منهما طابع يختلف بالضرورة عن سواه، حينئذٍ فإن سلخ النص من دائرته الاجتماعية يجعل عملية ( التقويم الفني ) بتراء، لا تحقق الفائدة المستهدفة في النصّ.

وبعامة يمكن للناقد الأدبي أن يتوكأ على البعد الاجتماعي في دراسته للنص وفق مستويات متنوعة، منها: استثمار البعد الاجتماعي فكرياً، بمعنى أن الناقد حينما يتناول نصاً فنياً قديماً - على سبيل المثال - فإن الضرورة تفرض عليه أن يعتمد البعد الاجتماعي بمستويين من التناول:

أولاً : وضع النص في بيئته الاجتماعية التي عكست تأثيرها عليه، كما لو افترضنا أننا حيال ( خطبة ) سياسية، حيث يتطلّب الموقف عرض المناخ السياسي عصرئذٍ بما يواكب ذلك من ظواهر اجتماعية مرتبطة بالمناخ المذكور.

ثانياً : محاولة ربط الأفكار التي انتظمت الخطبة، بالواقع الاجتماعي الحديث الذي يحياه الناقد ؛ بصفة أن الكاتب الملتزم لا يمارس نشاطه النقدي المتمثّل في ( نصٍ قديمٍ ) لمجرد تزجية الوقت أو الإمتاع الفنّي، بل يختار النشاط النقدي وظيفة عبادية له. فإذا كانت دراسته للخطبة المذكورة تمثِّل فترة ( زمنية ) مندثرة، لا صلة لها بالواقع المعاصر، حينئذٍ يكون الناقد الإسلامي قد تخلّى عن مهمته العبادية. ولكنه حينما يصل بين دراسة الخطبة المشار إليها وبين واقعه الاجتماعي، مستثمراً ذلك لتوجيه مجتمعه وإصلاحه، يكون حينئذٍ قد أدّى مهمّته العبادية.

أما ما يتصل بدراسة النص من حيث صلته بالبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها، فضرورة ذلك من الوضوح بمكان، مادامت الدلالة الفكرية التي يستهدفها الناقد الإسلامي تتطلب الوقوف على طبيعة الظواهر السياسية التي عالجتها الخطبة، حتى يمكن الإفادة من ذلك ( إيجاباً أو سلباً ) في

٧١

تعديل السلوك.

طبيعياً، الإفادة المذكورة تحقَّق - بطريق أولى - حينما يدرس الناقد الإسلامي نصاً معاصراً خلال طرحه في البيئة الاجتماعية التي أفرزته.

المهم، أن وضع النص في إطاره الاجتماعي أو التاريخي، يتمّ من خلال مستويات متنوعة - كما قلنا. فإذا تجاوزنا قضية استثمار البعد الاجتماعي وتوظيفه عبادياً، أمكننا أن نقرّر بأن ذلك يتطلّب التوفّر على مختلف المستويات الاجتماعية بالقدر الذي تستلزمه، وهو أمر يستتلي:

١ - تحقيق النص من حيث تصحيح نسبته إلى قائله، ومن حيث سلامته من التحريف أو الخطأ ونحوهما.

إن انتحال النص أو تحريف بعض فقراته، أو زيادته أو نقصانه.. يستتلي الوقوع في عملية ( تشويه ) للحقيقة، وهو أمر يتنافى مع الأمانة التي تطبع الشخصية الإسلامية.

٢ - وضع النص في جميع الأطر التي يشّع بها: ثقافياً، سياسياً، اقتصادياً، وجغرافياً... إلخ ؛ بصفة أن إهمال بعض الجوانب يدع الدراسة بتراء، حيث ينعكس ذلك على طبيعة التفسير الذي يستخلصه الناقد.

٣ - عرض النص على البيئة الاجتماعية، وعرضها عليه أيضاً حتى يضاء أحدهما بالآخر ؛ استكمالاً لصحة التفسير الذي يقدّمه الناقد الأدبي.

هذا فيما يتصل بالتفسير الاجتماعي.

أما ما يتصل بالتفسير الفنّي، فينبغي إخضاع النص ل- ( النسبية ) في التقويم ؛ بصفة أننا لا يمكننا أن نطالب الشاعر الذي يكتب القصيدة قبل ألف عام مثلاً، أو في حقبة تاريخية سابقة لعصرنا الحديث: لا يمكننا أن نطالبه بتصوراتنا الفنية المعاصرة، بل نتعامل مع النص بأدواته ومبادئه التي خبرها مجتمعُه. لكن لا يعني هذا أن يتخلّى الناقد عن معاييره الفنية الحديثة، وإلاَّ انتفت الحاجة إلى النقد أساساً، وأصبحت الدراسة مكرورة، تتحدّث بنفس المستوى الذي تحدّثت عنه دراسات متزامنة لعصر الشاعر، بل لا مناص للناقد من أن يستخدم المعايير الحديثة أيضاً، لكن من خلال اكتشافه للقيم الفنية والفكرية التي عجز القدماء من النقاد عن اكتشافها بحكم القصور الثقافي لديهم.

٤ - ( مقارنة ) النص المدروس مع نصوص أخرى سابقة أو متزامنة أو لاحقة عليه.

إن ( المقارنة ) بين النصوص المختلفة التي تحوم على ( الموضوع ) الذي نعتزم دراسته، من أهم عناصر البحث التاريخي ؛ بصفة أن مقارنة الشيء بما يماثله من جانب، وبما يضاده من جانب آخر، إنما تساهم في بلورة الموضوع وإنارة جوانبه بنحو تام. فعن طريق ( التماثل ) أو ( التشابه ) بين الأشياء، يمكننا أن نرصد الظواهر المشتركة بين ( موضوع ) الدراسة والموضوعات الأخرى، كما يمكننا عن طريق ( التضاد ) رصد الظواهر غير المشتركة فيها، طالما نعرف أن كثيراً من الموضوعات لا تبرز قيمتها إلاَّ

٧٢

من خلال ( الضد ) لها.

فلو أردنا أن نتناول إحدى قصص القرآن الكريم مثلاً، ولتكن قصة ( أهل الكهف ) ؛ لملاحظة قيمتها الفكرية والفنية، للاحظنا أن مقارنتها بالقصص التي ( تماثلها ) وبالقصص التي ( تضادها )، سوف تساهم بتجلية المزيد من قيمتها. فمثلاً هناك في سورة الكهف أكثر من قصة تنتظم السورة المذكورة، منها: قصة صاحب الجنَّتين، وقصة ذي القرنين... القصة الأولى تتحدّث عن مُزارع يمتلك مزرعتين معيَّنتين، إلاَّ أن صاحبها لم يتسم بطابع الشخصية الواعية لمبادئ الإيمان، فنجدها قد ركبت رأسها، وخيَّل إليها أن المزرعتين سوف تحتفظان بحيويتهما ولن تبيدا أبداً، حتى حملها هذا الغرور على أن تشرك بالله.

بينا نجد أن القصة الأخرى ( قصة ذي القرنين ) تتحدّث عن بطلٍ مَلَكَ مشرق الدنيا ومغربها ( لا أنه مَلَكَ مجرد مزرعتين صغيرتين ) لكنه لم يحتجزه هذا المُلك عن السلوك العبادي المفترض عليه بقدر ما عمّق يقينه بالله، على العكس تماماً من صاحب الجنتين الذي ساقه مجرد الإشباع الضئيل إلى أن يستجيب حيال الله استجابة مرضية.

والآن، حينما نقوم بعملية ( مقارنة ) بين قصة أهل ( الكهف ) وبين هاتين القصتين، نجد أن ( المقارنة ) ستساهم بتجلية القصة الأولى وتعميق مفهومها للقارئ:

مثلاً أبطال الكهف يشكّلون نموذجاً للشخصية التي نبذت زينة الحياة الدنيا، بحيث تركوا كل أنماط المتاع الدنيوي واتجهوا إلى الله، من خلال اللجوء إلى أشد المواقع بعداً عن الحياة، وهو ( الكهف )، حيث هتفوا قائلين:( رَبّنَا آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ) . لكننا حينما نقارن هؤلاء الأبطال - من خلال ( الضد ) - بصاحب الجنتين، نجد أن هذا الأخير يمارس سلوكاً مضاداً لأبطال الكهف، فإذا به يهتف:( مَا أَظُنّ أَن تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً ) أي أنه بدلاً من أن يتجه إلى الله كما فعل أصحاب الكهف، اتجه بدلاً من ذلك إلى ( الشيطان )، تشبثاً بزينة الحياة الدنيا، بينما نبذ أصحاب الكهف الزينة المذكورة كما لحظنا.

وأما لو قمنا بعملية ( المقارنة ) من خلال ( التماثل )، فحينئذٍ يمكننا أن نوازن بين أبطال الكهف وبين ذي القرنين، في تماثلهما من حيث الوعي العبادي. فهذا الأخير بعد أن هيمن على مشرق الأرض ومغربها، هتف قائلاً:( هذَا رَحْمَةٌ مِن رّبّي ) ، وأبطال الكهف حينما قرّروا اللجوء إلى الكهف هتفوا:( رَبّنَا آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً ) أي أن كليهما تعامل مع ( رحمة ) الله: ذلك من خلال التقرير، وهؤلاء من خلال الطلب.

إذن: حينما يتجه الدارس إلى عنصر ( المقارنة )، فيتوكّأ على الظواهر ( المتماثلة ) أو ( المتخالفة ) مع موضوع بحثه، إنما يسعف القارئ على تعميق إدراكه للموضوع، بالنحو الذي لحظناه في نموذج ( المقارنة ) القصصية.

والمقارنة يمكننا أن نتصورها على جملة أنحاء ، منها:

١ - المقارنة الموضعية.

٧٣

٢ - المقارنة الشاملة.

٣ - الدراسة المقارنة المستقلة.

ويقصد بالأولى: المقارنة الجزئية التي تحوم على النص وعلاقته بالنصوص الأخرى لموضوع محدد، كما لو قارنا بين ديوان أحد الشعراء مثلاً بدواوينه الأخرى.

وأما المقارنة الشاملة، فتجاوز ذلك إلى الشعراء الآخرين، سواء أكانوا معاصرين للشاعر أم سابقين عليه أم لاحقين له.

وأما ( البحث المقارن ) فيشكل موضوعا نقديا مستقلا بذاته وليس عنصرا من عناصر النقد، وهذا من نحو ما إذا افترضتنا مثلاً قيام أحد النقاد بدراسة مقارنة بين الشعراء الإسلاميين في صدر الرسالة وبين الشعراء الإسلاميين المعاصرين... والفارق بين هذا النمط الأخير من المقارنة وبين النمطين الأولين - كما أشرنا - هو أن المقارنة فيهما تشكل واحدا من عناصر العمل النقدي، وأما النمط الثالث فيشكل موضوعا مستقلا...

إن ما نستهدف التشدد عليه هو: أن ( المقارنة ) بأنماطها التي عرضنا لها تشكل واحدا من عناصر النقد التاريخي أو الاجتماعي: له أهميته الكبيرة في ميدان التقويم للنص من خلال عرضه على البيئات الفنية المختلفة، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

٧٤

الاتجاه النفسي:

يقصد ب- ( الاتجاه النفسي): الطريقة التي يستخدمها الباحث في دراسته لأحد الموضوعات في ضوء الظواهر النفسية له، أي: إخضاع البحث للتفسير النفسي، متمثِّلاً في الركون إلى مختلف المبادئ التي يطرحها ( علم النفس ) في هذا الميدان.

وإذا أدركنا أن ( علم النفس ) يعنى بدراسة السلوك الإنساني من حيث ( استجاباته ) حيال ( المثيرات ) المختلفة التي يواجهها الشخص، أدركنا حينئذٍ أهمية هذا الضرب من المعرفة من حيث انعكاساته على النص المدروس.

ولعل أهم ما يميّز البحوث المعاصرة هو: توسّلها بهذا الفرع من ( المعرفة ) التي وجدت طريقها إلى الظهور مع إطلالة القرن الحديث. طبيعياً، لا يعنينا أن هذا النمط من المعرفة مصحوب - مثل سائر الضروب المعرفة الإنسانية المنعزلة عن مبادئ السماء - بمفارقات علمية لا يمكن الركون إليها في تفسير الظواهر، إلاَّ أن ذلك لا يحتجز الباحث الإسلامي من الإفادة منه واستثمار الكثير من معطياته العلمية التي واكبها جانب من الصواب دون أدنى شك.

المهم، أن الكاتب الإسلامي - في ضوء وعيه العبادي - يمكنه أن يفرز بوضوح بين ما يمكن أن يفيد منه في دراساته العلمية ونبذ ما سواه... والمهم أيضاً أن يكون توسله بهذا الضرب من المعرفة، مفضياً إلى إلقاء مزيد من الإنارة على النص، واكتشاف مختلف دلالاته التي تظل غائمة - دون أدنى شك - لو اقتصر الباحث على البعد الفني والتاريخي لها فحسب... فلو افترضنا أن الباحث الإسلامي قد اعتزم أن يدرس ظاهرة ( الغناء ) ومعرفة الأسباب الكامنة - بعضاً أو كلاًّ - وراء حظر الشريعة الإسلامية لهذا النمط من الظواهر، حينئذٍ يمكنه أن يقصر بحثه على الدلالة الفقهية لها - أي يحصر البحث في صعيد المبادئ الفنية للموضوع -، كما لو استدل على ذلك بمجموعة من الروايات الحاكمة بتحريم ( الغناء)... كما يمكنه - مثلاً - أن يتجاوز ذلك إلى ( المنهج التاريخي ) فيعرض لظاهرة ( الغناء ) من حيث المناخ الاجتماعي الذي ألِفَ هذه الظاهرة، واقترانها بمجالس الشرب أو الاختلاط بين الجنسين ونحوهما. ثم تطوّر ذلك

٧٥

من خلال تأثره بالتيارات الوافدة عصرئذٍ - أي القرنين الأولين من بزوغ الإسلام - وانعكاساتها على المجتمع المذكور، وصلة ذلك بنمط من الأشكال الصوتية التي لم يرد نهي إسلامي عنها أو ندب إليها مثل... الحدر والترتيل وسواهما.

أقول: من الممكن أن يقتصر الباحث في دراسته المذكورة على استخلاص الحكم الشرعي لظاهرة ( الغناء)، ويمكنه أيضاً أن يتوسّل بالبعد التاريخي له، فيقدّم حينئذٍ مزيداً من الإنارة على الموضوع. ولكن لو اتجه الباحث بعدئذٍ إلى ( المعرفة النفسية)، لأمكنه أن يلقي الأضواء الكاملة على الظاهرة، معمِّقاً بذلك إدراك القارئ لأهمية التحريم الإسلامي ( الغناء).

فمثلاً يمكنه أن يوضح طبيعة البناء العصبي للشخصية، وصلة ذلك باستجابتها حيال ( المنبِّهات ) الصوتية التي تنتظم في طبقات مركبة من هذا الإيقاع أو ذلك. كما يمكنه أن يستعين بالدراسات التجريبية التي انتهت إلى تحديد صلة ( الغناء ) أو ( الموسيقي ) بعامة بجملة من الأمراض النفسية والعقلية والجسمية مثلاً. وحينئذٍ ستتَّسم دراسته بمزيد من الأهمية التي لا يمكن الظفر بها لو كان الباحث مقتصراً في دراسته للغناء على مجرد البعد الموضوعي والتاريخي له.

والامر ذاته فيما يتصل بظاهرة القمار مثلاً، حيث يمكن للباحث أن يستعين ب- ( المعرفة النفسية ) لتفسير سلوك ( المقامر )، من حيث كونه شخصية شاذة منحرفة، عدوانية متصارعة، متمزِّقة متوترة... إلخ.

إذن: الاستعانة بالمعرفة النفسية تظل أشد الأبعاد أهمية في إنارة الموضوع وتعميق دلالاته المختلفة... فضلاً عما تنطوى عليه من إثارة وتشويق يسهمان في دفع القارئ إلى متابعة الموضوع وتمثُّله.

ويمكننا أن نفيد من البُعد النفسي في جملة من الميادين ، منها:

١ - دراسة الموضوع - أو النص - في ضوء صلته بكاتبه . ويقصد بذلك: أن الناقد الأدبي يتعيّن عليه - في سياقات خاصة - أن يربط بين النص المدروس وسلوك كاتبه، من حيث انعكاسات سلوكه على النص، حتى تتضح دلالاته بنحو أشد عمقاً في هذا الصدد.

بَيْد أن أمثلة هذا الاستعانة بالبعد النفسي تنطوى على مزالق كثيرة ينبغي أن يظل الباحث على حذر شديد منها، بخاصة إذا عرفنا - أولاً - أن النصوص لا تعدّ في الحالات جميعاً ( وثيقة ) مفصِحة عن نفسية كاتبها، بقدر ما تعد عملاً (موضوعياً) ينفصم فيه الشخص عن نتاجه الفنّي. فقد نقرأ قصيدة - مثلاً - تتحدّث عن ( الشجاعة ) إلاَّ أن صاحبها موسوم بالجبن، وقد يتحدّث ( الخطيب ) عن أهمية الصدق إلاَّ أنه يمارس ( الكذب)... إلخ، مما يعني أن الباحث ليس بمقدوره أن يستخلص عن النص المدروس حقيقة السلوك الذي يصدر عن كاتبه، مادام النص غير مفصح بالضرورة عن كونه وثيقة عن نفسية صاحبه.

أما المفارقة الأخرى التي تترتّب على ربط الصلة بين النص وسلوك كاتبه، فتتمثّل في صعوبة

٧٦

تشخيص الدلالة النفسية ذاتها... فمثلاً إذا افترضنا أن أحد الأشخاص كان معتزماً لأن يكتب أو يتلفّظ بعبارة ( العلماء )، فكتبها أو تلفّظ بها بعبارة ( العملاء )، حينئذٍ لا يمكننا أن نرتّب أثراً نفسياً على هذه العبارة من النص المدروس، مادمنا غير واثقين بأن العبارة المذكورة قد عبّرت بالفعل عن ( سلوك لاشعوري ) حيال العلماء. من الممكن أن يكون صاحب النص ذا تركيب نفسي شاذ بالنسبة لنظرته عن ( العلماء )، بحيث قفزت عن لاشعوره، العبارة التي تختزنه أعماقه بالفعل، ونعني بها ( العملاء)، إلاَّ أن اليقين بذلك أمر لا سبيل إليه ؛ نظراً لتماثل مخارج الأصوات في العبارتين المذكورتين، بحيث نتوقّع أن يكون الخطأ المذكور ناجماً من الحقيقة الصوتية المذكورة وليس من اللاشعور.

إذن، وصل النص بنفسية كاتبه لا يعد من الحالات جميعاً عملاً ذا قيمة، مادمنا نعرف أن تشخيص ذلك لا يتم بسهولة، بل لابد من أن يمتلك الباحث مقدرة علمية متنوّعة، تتصل ليس بثقافته النفسية فحسب، بل بسائر أدوات الفن التي انطوى عليها النص المدروس.

هذا، إلى أن الباحث الإسلامي حينما يتوسل بالأداة ( النفسية ) في دراسة النص، يضع في اعتباره جانباً من الأهمية بمكان كبير، هو: أن كثيراً من النصوص لا يمكن البتة دراستها في ضوء الصلة بمبدعها، وهذا من نحو دراسته للنصوص القرآنية الكريمة مثلاً، أو دراسته للنصوص الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ؛ نظر لتنزّه الله تعالى عن ذلك، وعصمة أهل البيت عن الخطأ وسائر الفعاليات التي تصدر عن البشر العادي.

إنه من الممكن - فيما يتصل بالنصوص الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام - أن يصل الباحث بينها وبين نفسيتهمعليه‌السلام من حيث استخلاص السلوك السوي الصادر عنهم وانعكاساته على النص، إلاَّ أن ذلك يظل في مجالات محددة، بخاصة إذا عرفنا أن وصل النص بكاتبه يقترن - في غالبية الدراسات - باستخلاص الظواهر السلبية، وهمعليه‌السلام معصومون من ذلك دون أدنى شك.

على أية حال، خارجاً عن المزالق الثلاثة التي أشرنا إليها، من المفيد جداً أن يتوكأ الباحث العلمي على هذا النمط من الوصل بين الموضوعات وأصحابها ؛ نظراً للأهمية الكبيرة التي ينطوي عليها مثل هذه الاستعانة بالبعد النفسي... فإذا افترضنا أن أحد الشعراء - مثلاً - طالبَ في قصيدة له بتمزيق جثة الميت والتمثيل بها، أو أن أحد الأشخاص مارس عملية ( التمثيل ) بعدُوِّه... حينئذٍ فإن وصل القصيدة بنفسية صاحبها أو عملية التمثيل بممارسها، يظل من الأهمية بمكان، حيث يستخلص الباحث من ذلك أن الشاعر أو القاتل يحمل نزعة عدوانية يتلذّذ بتعذيب الآخرين، وإلاَّ فإن مجرد القتل كافٍ بتحقيق الغرض الذي استهدفه الشاعر أو القاتل، وهو التخلّص من العدو. أما أن يصحب ذلك ( تمثيل ) بجثته أيضاً، فيعد مؤشراً لمرض الشخصية وشذوذها ومعاناتها لمختلف الاضطرابات النفسية.

٧٧

ومن البيّن أن اكتشاف الباحث العلمي للحقيقة النفسية المذكورة، تلقي مزيداً من الضوء على دقائق الموضوع وتفصيلاته التي لم تكن لتتضح بجلاء، لو لم يسلّط عليها الضوء النفسي المذكور.

٢ - دراسة النص وعلاقته بالجمهور . ثَمَّة فرع من العلوم النفسية يسمّى ب- ( علم نفس الجمهور )، وهدف هذا الضرب من المعرفة هو، دراسة الأساليب النفسية التي ينبغي أن تصاغ بنحو تترك تأثيرها في المتلقّي، مادمنا نعرف بأن التركيبة البشرية ذات استعداد معين لمختلف الاستجابات، تبعاً للطريقة التي ينتخبها الباحث أو المصلح أو الخطيب مثلاً.

من هنا نجد أن علماء النفس طالما يخطّطون هذا الأسلوب أو ذاك، بغية التأثير على نفسية الجمهور، سواء أكان ذلك في ميدان الصحة النفسية، أو الميادين الأخرى المتصلة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع، وسواء أكان ذلك مقترنا بهدف ايجابي أو سلبي. ولعل ما يصطلح عليه ب- ( الحرب النفسية ) مثلاً، يعد نموذجاً واحداً من أشكال هذا الضرب من المعرفة، التي تعنى بتحديد العلاقة بين المنبّه والاستجابة، وصياغتها وفقاً لِما ينطوي عليه هذا الهدف أو ذاك من انعكاسات سلبية على الجمهور.

وبالمقابل، فإن الانعكاسات الايجابية تأخذ طريقها أيضاً في هذا الميدان، من نحو دراسة مختلف الأساليب التي تساهم في تعميق دلالة الخير في النفس الإنسانية، أو في توصيل دلالة النص الفني أو العلمي إلى المتلقّي... وهذا المنحى الأخير من الدراسة، أي: دراسة عملية التوصيل الفني والعلمي، يظل في الصميم من مهمة الباحث، مادام الباحث معنياً بدراسة النصوص أو الموضوعات وفقاً لانعكاساتها على الآخرين.

ولنأخذ مثلاً على ذلك:

لقد استهدف القرآن الكريم في إشارته للإبداع الكوني تعميق الدلالة المذكورة فنِّياً، فبدأ في سورة الملك - مثلاً - بلفت أنظارنا إلى خلق السماوات:( الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى‏ فِي خَلْقِ الرّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى‏ مِن فُطُورٍ ) . هذه الآية لو دقّقنا النظر فيها، للحظنا أن دراستها في ضوء قوانين التفكير البشرى، أي: طبيعة الآلية الذهنية من حيث استجابتها لعملية ( التعلّم ) مطلقاً، سوف تسعفنا على فهم الكثير من أسرارها... فمن الواضح أن عملية التفكير تبدأ ( في بعض قوانينها ) من ( المجمل ) إلى ( المفصّل)، أو من ( الكل ) إلى ( الجزء )، فأنت حينما تفتح صفحة من الكتاب مثلاً، إنما تتصورها ( كلاّ )، ثم تبدأ بتشخيص سطورها، ثم العبارات، ثم، الحروف... وقد يحدث العكس، تبعاً للموقف، فتبدأ من الحروف إلى الأسطر إلى الصفحة.

ولو عدنا إلى الآية الكريمة، للحظناها بادئة بمجمل الإبداع المذكور، وهو( سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً ) . ثم يفرز هذه السماوات من حيث علاقتها واحدة بالأخرى، متمثّلة في ( عدم التفاوت ) بينها:( مَا تَرَى‏ فِي خَلْقِ الرّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ ) . ثم بفرز السماء الواحدة من حيث عدم مشاهدة ( الشقوق )

٧٨

فيها:( هَلْ تَرَى‏ مِن فُطُورٍ ) ، وهذا يعني أن الآية الكريمة أخذت بنظر الاعتبار قوانين التفكير أو الاستجابة التي تبدأ من المجمل أو الكل ( مطلق السماوات)، إلى تفصيلاتها الأولية ( عدم التفاوت )، إلى تفصيلاتها الثانوية ( عدم الفطور ).

ومن الواضح أن الناقد حينما يدرس النص في ضوء الحقيقة التي أشرنا إليها، إنما يكشف عن جوانب أخرى من الإعجاز الفني في القرآن الكريم، مثلما يكشف عن حقائق ( الاستجابة الذهنية ) وقوانينها.

والامر ذاته فيما يتصل بالكشف عن قوانين ( الاستجابة النفسية ) من حيث عناصر ( التشويق ) و( الإثارة ) وغيرها، ممّا نلحظه في القصص القرآني الكريم مثلاً، أو ما نلحظه في بناء السورة القرآنية الكريمة من حيث مقدمتها وخاتمتها، حيث تبدأ السور الكريمة بطرح دلالات معينة بنحو تجعلنا نتهيَّأ نفسياً لتقبّل ومعرفة ما تتضمّنه من أهداف وأفكار متنوّعة.

٣ - دراسة النص الأدبي في ضوء الظواهر النفسية العامة . يقصد ب- ( الظواهر النفسية العامة ): دراسة النص من حيث انطوائه على دلالات نفسية محدّدة، بغض النظر عن ارتباطها بسلوك الفنان أو المتلقّي، بل بما هي ظواهر يمكن إخضاعها لقوانين عامة. فإذا اعتزم الناقد دراسة عنصر فنّي، مثل ( التشبيه ) في الأعمال الشعرية، ومثل ( الحوار ) في الأعمال القصصية، حينئذٍ يمكن دراسة هذه الجوانب في ضوء ما ينطوي ( التشبيه ) أو ( الحوار ) عليه من دلالات نفسية، مثل انتقاء عنصر مشترك بين طرفي الصورة وكون ذلك أما حسيِّاً أو تجريدياً، ومثل كون ( الحوار الداخلي ) - مثلاً - أشد صدقاً من غيره في التعبير عن أسرار النفس... وهكذا.

المهم أن دراسة النص في ضوء دلالاته النفسية، يظل من أشد مستويات البحث النقدي بالقياس إلى غيره من المعرفة الإنسانية، بخاصة إذا أدركنا بأن المنهج القائم على ربط الصلة بين النص وصاحبه لا يمكن الاطمئنان إليه. وأما المنهج القائم على ربط الصلة بين النص والجمهور، فمن الممكن أن يندرج ضمن دراسة النص في دلالاته النفسية، ممّا يعني - في نهاية المطاف - أن المنهج المذكور يظل أشد فاعلية من سواه، بالنحو الذي فصلّنا الحديث عنه.

٧٩

البلاغة والنقد

البلاغة: مصطلح يطلق على أحد ضروب المعرفة المنتسبة إلى الموروث الأدبي القديم ( عربياً وأعجمياً)، وهو يتضمّن مجموعة من القواعد أو المبادئ التي ينبغي توفّرها في التعبير الأدبي ليكتسب جماليته الخاصة.. بَيْد أنّ هذا الضرب من المعرفة الذي اكتسب طابعاً استقلالياً في الموروث الأدبي، بدأ يضمر أو يختفي إلى حدٍ كبير في الأدب المعاصر، وبدأ ( النقد الأدبي ) يحتفظ لنفسه بهذه المهمة، ونعني بها: صياغة المبادئ أو القواعد التي ينبغي توفُّرها في التعبير الجميل، حيث يضطلع ما يُطلق عليه اسم ( النقد النظري ) بالمهمة المشار إليها، وهي مهمة تندرج ضمن عنوان عام هو ( نظرية الأدب )، الشاملة لعمليات (التنظير ) للظواهر الأدبية. مقابل ( دراسة الأدب وتاريخه )، الشاملة لعمليات ( التطبيق ) للظواهر المشار إليها.

إن ما نعتزم توضيحه في هذا الحقل هو: أن ( البلاغة ) في طابعها الموروث، تظل مثل غالبية ضروب المعرفة، محكومة بسمة العصر الذي ولدت في نطاقه، حيث ترتد بجذورها إلى أكثر من ألف عام، شهدت الأجيال الأدبية من خلالها تطوُّرات ملحوظةً في حقل الأدب وقواعده الفنية، بحيث لم تعد ( البلاغة ) منسجمةً مع التطورات التي أشرنا إليها. بل يمكن القول بأن الجمود والقصور والتكلّف تظل من أبرز سمات ( البلاغة ) القديمة بالقياس إلى أدوات النقد الأدبي المعاصر.

فالبلاغة - من جانب - تظل محدودة القواعد، لا تتجاوز صعيد الأشكال الأدبية التي خبرتها القرون الأُولى، مثل الشعر العمودي والخطبة والرسالة وما إليها، في حين أن الأشكال الأدبية المعاصرة - وفي مقدمتها القصة والمسرحية بكل مستوياتها - لا تخبر البلاغة أي شيء من مبادئهما: مع أن هذين الشكلين الأدبيين، يُعدّان من أكثر الفنون التعبيرية إثارةً وانتشاراً وتأثيراً في النفوس، ويكفينا أن نجد أن القرآن الكريم يعتمد الشكل القصصي بنحو ملفِت للنظر ،مما يفصح عن أهمية وخطورة الشكل الأدبي المذكور.

والغريب أن البلاغة الموروثة

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191