لم تبهره الحياة الدنيا، بل ظلّ على تعامله الإيجابي مع الله. وذو القرنين يتعامل إيجابياً مع الله (وهو معروف لدى كل الجمهور)، يوازنه (العالِم) الذي يتعامل إيجابياً أيضاً (وهو لا يعرفه حتى موسى). وذو القرنين يمثّل خطاً من الحياة هو (البروز) أمام الدنيا كلها، بينا يمثّل أهل الكهف خطاً هو (التخفّي) عنها في مكانٍ منغلق...
إذن، كل هذه الخطوط، المتوازنة حيناً والمتقابلة حيناً آخر تتناسق فيما بينها هندسياً لتصبّ في رافدٍ واحدٍ، هو: التعامل مع الحياة الدنيا: إيجاباً أو سلباً من خلال (الزينة) وطرائق الاستجابة لها.
الموضوع الثامن والأخير من السورة، هو الحديث عن الأخسرِين(
الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً
)
، مرتبطاً ببداية السورة التي تحدثت عن هؤلاء الذين طالبت النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم
ألاَّ يهلك عليهم نفسه، وإلى أن (زينة) الحياة الدنيا جُعلت (امتحاناً) لهم ولمطلق الآدميين. هذا ولا نغفل صلة هذا الموضوع بصاحب الجنتين الذي حسب أنه يحسِن صنعاً في قوله(
وَلَئِن رّدِدتّ إلى رَبّي لَأَجِدَنّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً
)
.
إذن: جميع موضوعات السورة حامت على (هدف محدد)، هو: التعامل مع (زينة) الحياة الدنيا وموقع (الامتحان) من ذلك: بما يواكبه من عمليات الثواب والعقاب أخروياً ودنيوياً، على النحو الذي أوضحناه سريعاً.
وإليك النموذج الثالث من عمارة السورة القرآنية في السور القصيرة. وهي سورة (المطفِّفين):
لقد بدأت سورة المطفِّفين بهذا الحديث:
(
وَيْلٌ لِلْمُطَفّفِينَ * الّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلاّ يَظُنّ أُولئِكَ أَنّهُم مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ
)
.. ثم انتقلت السورة إلى موضوعٍ آخر يتصل بالمكذّبين باليوم الآخر، وإلى أنه، ران على قلوبهم ما يكسبون... وأردفت ذلك بالحديث عن الجنة والجحيم: بصفتهما ترغيباً وترهيباً لعملية تعديل السلوك. وانتهت إلى رسم يقابل بين المؤمنين والمكذبين في كلٍ من الدنيا والآخرة: حيث كان المكذِّبون يضحكون من المؤمنين في الحياة الدنيا، وهاهم الآن (في اليوم الآخر) يضحك المؤمنون من المكذّبين.
موضوعات السورة هي: المطفِّفون، ثم: المكذبون، الحساب في اليوم الآخر، التقابل بين الفريقين. طبيعياً، ان التكذيب ونتائجه في اليوم الآخر، وإبرازه متقابلاً مع الإيمان ونتائجه، ثم: الضحك المتقابل بين الفريقين: كلّ ذلك يتمّ هندسياً وفق تسلسل موضوعي. ولكن قضية (المطفِّفين) تبقى وكأنها (أجنبية) تماماً عن موضوع التكذيب ونتائجه.
إننا يمكن أن نقرّر بكل سهولة أن السورة حينما تُستهل بموضوع ما، فإن نفس هذا الاستهلال يكشف عن أهمية (الموضوع). وحينما تطرح بعد ذلك موضوعاً آخر له أهميته