كتاب الصلاة الجزء ١

كتاب الصلاة0%

كتاب الصلاة مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 410

كتاب الصلاة

مؤلف: الميرزا محمد حسين الغروي النائيني
تصنيف:

الصفحات: 410
المشاهدات: 18504
تحميل: 3918


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 410 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18504 / تحميل: 3918
الحجم الحجم الحجم
كتاب الصلاة

كتاب الصلاة الجزء 1

مؤلف:
العربية

الآخر خارجا عنه؟ الظاهر هو الثاني لعدم صدق الاستقبال كذلك، فتأمل.

وإنما قلنا: إن ذلك يختص بالقريب لان البعيد لايتصور فيه ذلك بعد ما كان قبلته الجهة بالمعنى المتقدم، فإن المعتبر في مواجهته أن يكون خطا خارجا من أحد أجزاء جبهته واصلا إلى الخط الخارج من الكعبة الممتد إلى عنان السماء، بحيث يحدث منهما زوايا قوائم، وهذه المواجهة إما أن تكون وإما أن لاتكون، ولايمكن التبعيض والمواجهة بنصف البدن كما لايخفى.

فرع: الظاهر أن حجر إسماعيل خارج عن البيت وإن وجب إدخاله في الطواف، فلايكفي استقباله كما ورد به النص الصريح، وهو ما رواه معاوية بن عمار أنه سأل الصادقعليه‌السلام عن الحجر أمن البيت هو؟ فقال: لا، ولاقلامة ظفر، ولكن إسماعيلعليه‌السلام دفن امه فيه، فكره أن يوطأ فجعل عليه حجرا، وفيه قبور أنبياء(١) . وبمضمونه أخبار اخر(٢) . وإدخاله في الطواف لايكون قرينه على كونه من البيت مع تعليل الامامعليه‌السلام ذلك بأن إسماعيل دفن امه في ذلك المكان، فوجب إدخاله في الطواف لئلا يوطأ، وأين هذا من جواز استقباله في الصلاة؟ فقياس بعض الاعلام الصلاة بالطواف في غير محله.

تنبيه: قد ظهر مما ذكرنا أن القبلة هي محل البناء والفضاء لانفس الابنية

____________________

(١) الوسائل: ج ٩ ص ٤٢٩ باب ٣٠ من أبواب الطواف، ح ١ نقلا بالمعنى.

(٢) الوسائل: ج ٩ ص ٤٢٩ باب ٣٠ من أبواب الطواف. [ * ]

١٤١

والجدران، وعليه يجوز الصلاة في جوف الكعبة ولو إلى بابها المفتوحة، وكذا على سطح الكعبة اختيارا وإن لم يكن هناك ضرورة، وتقييد بعض بها في غير محله، نعم يشترط أن يبرز بين يديه شيئا من السطح حتى لايكون سجوده على منتهى السطح ليكون مستقبل القبلة في جميع أحوال الصلاة، وكذا يجوز الصلاة على جبل أبي قبيس أو جبل آخر أو في سرداب منخفضا عن الكعبة، لما تقدم من أن الكعبة من تخوم الارض إلى عنان السماء.

بيان ما يعرف به قبلة كل إقليم من العلامات المذكورة

في الكتب المبسوطة.

فاعلم أن معرفة قبلة كل البلاد يتوقف على معرفة طول البلاد وعرضها، ونسبة طول كل بلد وعرضه إلى طول وعرض مكة حتى يعرف قبلة كل بلد. وكان القدماء من علماء الهيئة يجعلون مبدأ طول البلاد من جزائر خالدات وعرضها من خط الاستواء الذي هو مار بنقطتي المشرق والمغرب تحت دائره المعدل، ولكن المتجددين نم علماء الهيئة في هذا الزمان يجعلون مبدأ الطول من قرية قريبة بدار سلطنة الانجليز لندن، بل أهل كل مملكة يجعل مبدأ طول البلاد دار سلطنة تلك المملكة، كطهران في إيران وباريس في فرانسة وكذا سائر الممالك، وعلى أي حال لايختلف الحال في ذلك، فإن من أي مكان جعل مبدأ الطول لابد من ملاحظة نسبة طول البلد وعرضه إلى طول مكة وعرضها.

والاقسام المتصورة في المقام ثمانية، فإن الاختلاف إما أن يكون في الطول والعرض معا وإما أن يكون في أحدهما، ولايعقل اتفاق بلد مع مكة في الطول والعرض معا كما لايخفى، ثم إن الاختلاف في الطول تارة يكون البلد في غربي مكة واخرى يكون في شرقيهها، وكذا الاختلاف في العرض تارة يكون البلد في

١٤٢

جنوب مكة واخرى يكون في شمالها، فهذه أقسام أربعة فيما إذا كان الاختلاف في الطول فقط أو في العرض فقط، وأربعة أقسام اخر حاصلة من الاختلاف في كليهما، وهي ما إذا كان البلد في غربي مكة وعرضه في جنوبها أو في شمالها فهذا قسمان، والقسمان الآخران هو ما إذا كان البلد في شرقي مكة وعرضه في جنوبها أو شمالها، فهذه أقسام ثمانية تختلف قبلة البلاد حسب هذا الاختلاف، وليس المقام مقام التعرض لطول البلاد وعرضها والنسبة بينها، فإن ذلك موكول إلى محله ومطلوب من أهله من علماء الهيئة.

ولعل استخراجات أهل هذا العصر من أهل الفن يكون أضبط وأتقن من استخراجات القدماء، ولذلك(١) لسهولة أسباب الاستخراج في هذا الزمان، حتى أنه يمكن معرفة قبلة عامة البلاد بتوسط القوة البرقية من التلكراف، وذلك لان الشمس في كل سنة تسامت رؤوس أهل مكة بيومين، وهما اليوم الثامن من الجوزاء والثاني والعشرين من السرطان على ما نقل فالشمس في هدين اليومين هي فوق الكعبة، ولذا يعدم الظل فيها في هذين اليومين كما تقدم في باب المواقيت، فلو عرف أول الزوال في مكة وهو ان انعدام الظل فيها يكون الظل الشاخص في كل بلد من البلاد في ذلك الآن مواجها للكعبة لامحالة، بحيث لواخرج من ذلك الظل خطا مستقيما لاتصل بالكعبة.

فالمعيار في قبلة كل بلد هو المواجهة إلى ظل ذلك البلد في آن زوال مكة في يوم يعدم فيها الظل، ومعرفة آن زوال مكة في كل بلد بمكان من الامكان بتوسط القوة البرقية من التلكراف، وهذا المعنى أضبط شئ في معرفة القبلة في جميع الاقاليم والبلدان.

____________________

(١) هكذا في الاصل، والصحيح " وذلك ". [ * ]

١٤٣

وفي المقام طريق آخر لايحتاج إلى القوة البرقية إذا علم مقدار تفاوت البلد مع مكة في الطول، كما استخرجه المحقق الطوسيقدس‌سره على ما نقل، وحاصله: أن اليوم الذي يعدم الظل فيه في مكة تكون الشمس في أول الزوال في دائرة نصف النهار، والتفاوت بين نصف النهار في كل بلد ونصف نهار مكة بقدر الفصل بين طوليهما، لان كل بلد كان طوله أقل من مكة يتأخر الظهر فيه عن مكة، وكل بلد كان طوله أكثر من مكة يتقدم الزوال فيه عن مكة، لانه يكون حينئذ أبعد عن المغرب واقرب إلى المشرق، فإذا علم مقدار طول البلد ومقدار طول مكة فالتفاوت بينهما بكل درجة مقابل لمقدار أربع دقائق، لانه لو قسم ثلثمائة وستين درجة على أربع وعشرين ساعة فلكل خمس عشرة درجة ساعة ولكل درجة أربع دقائق.

وعلى هذا فلو كان طول مكة عشرين درجة وطول البلد خمسة وعشرين فيصير زوال البلد عشرين دقيقة قبل زوال مكة، فبعد مضي عشرين دقيقة من زوال البلد إذا جعل المصلي ظل الشاخص بين قدميه وتوجه إليه يكون متوجها إلى القبلة لامحالة، لان الشمس في هذا الآن أي عند مضي عشرين دقيقة من زوال البلد تكون مسامتة لرؤوس أهل مكة وفوق الكعبة، فالمتوجه إلى الظل يكون متوجها إلى الكعبة. ولو انعكس الفرض بأن كان طول البلد عشرين وطول مكة خمس وعشرين، فيصير زوال البلد بعد زوال مكة بعشرين دقيقة، فالعبرة حينئذ بمواجهة الظل في ذلك الحال، فتأمل تعرف.

وعلى كل تقدير العبرة إنما هو بمعرفة القبلة بأي طريق ممكن، ومعرفة ذلك لها طرق متعددة.

منها: محراب صلى فيه معصومعليه‌السلام كأحد المحاريب للمساجد الاربعة،

١٤٤

ولكن بشرط العلم ببقاء المحراب على هيئته التي جعلها المصعومعليه‌السلام من دون أن يتغير، وهذا الشرط مفقود في هذا الزمان لكثرة التغيرات، خصوصا في محراب مسجد الكوفة على ما نقل.

ومنها: قبر المعصومعليه‌السلام بالشرط المذكور.

ومنها: العلائم المنصوبة لذلك من مهرة أهل الفن، كوضع الجدي كذا ووضع سهيل كذا، وأمثال ذلك مما هو مذكور في الكتب المبسوطة، فإن الانصاف أن هذه العلائم علائم متقنة استخرجها مهرة أهل الفن، فهي إن لم تكن مفيدة للعلم فلا أقل من إفادتها الاطمئنان الملحق بالعلم المعبر عنه بالعلم العادي في بعض الكلمات. ثم لايخفي عليك أنه ليس في الاخبار علامة تعبدية لمعرفة القبلة، وإنما ورد بعض الاخبار في خصوص الجدي، كقولهعليه‌السلام في بعضها: إجعله على يمينك، وإذا كنت في طريق مكة فاجعله بين كتفيك(١) . وقولهعليه‌السلام في آخر: ضع الجدي في قفاك وصل(٢) .

ولكن من المعلوم أنه لايمكن الاخذ بإطلاق هذه الاخبار، فإن جعل الجدي على القفاء لايكون مطردا في جميع البلدان، بل هو مقصور بما إذا كان قبلة البلد نقطة الجنوب وكذا قولهعليه‌السلام " وإذا كنت في طريق الحج فاجعله بين كتفيك ".

وبالجملة: ليس فيما بأيدينا من الاخبار ما يدل على جعل الشارع شيئا خاصا علامة للقبلة تكون مطردة في جميع البلدان، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى العلامات المستخرجة من الهيئة، وقد عرفت أنها امور مضبوطة من شأنها أن تفيد

____________________

(١) الوسائل: ج ٣ ص ٢٢٢ باب ٥ من ابواب القبلة، ح ٢، وفيه اختلاف يسير.

(٢) الوسائل: ج ٣ ص ٢٢٢ باب ٥ من أبواب القبلة، ح ١، وفيه اختلاف يسير. [ * ]

١٤٥

العلم، وعلى تقدير عدم إفادتها للعلم فلا أقل من إفادتها الظن، وسيأتي أنه حجة عند تعذر العلم.

لايقال: كيف يمكن التعويل على العلامات المذكورة في كتب القوم مع أنها بنفسها مختلفة لايمكن الجمع بينها؟ والاختلاف في ذلك يكون أقوى شاهدا على اشتباههم، وكيف يتصور الجمع بين جعل الجدي خلف المنكب الايمن مع جعل المغرب والمشرق الاعتداليان على اليمين والشمال؟ فإن جعل المشرق والمغرب كذلك يقتضي مقابلة نقطة الجنوب، وجعل الجدي كذلك يقتضي الانحراف عنه إلى المغرب بما يقرب من اثني عشرة درجة.

فإنه يقال: إن هذا الاختلاف إنما هو لاجل ما ذهبوا إليه من التوسعة في جهة القبلة بحيث لايضر هذا المقدار من الزيادة والنقيصة في الانحراف، والشاهد على ذلك أنه جمع بين هذين العلامتين من هو استاذ الفن الذي لايمكن في حقه الاشتباه كالعلامة على ما حكي عنه فيعلم من هذا أن ذلك لايكون إلا من جهة التوسعة في جهة القبلة عندهم، وهذا المقدار من التفاوت لايوجب الخروج عن الجهة بالمعنى الذي ذكرناه، ولايكون شاهدا على أن المراد من الجهة هو السمت والطرف مع عدم اتصال خط من المصلي إلى الكعبة، فتأمل جيدا.

وعلى أي حال لابد من الرجوع إلى العلائم التي ذكرها أهل الهيئة لمعرفة القبلة، فإن هذا هو المتيسر للبعيد، نعم حيث كان قدماء أهل الهيئة مختلفين مع المتجددين في تشخيص طول البلاد وعرضها ومقدار الانحراف، حتى نقل أن القدماء ذهبوا إلى انحراف قبلة النجف الاشرف من الجنوب إلى المغرب بمقدار اثني عشرة درجة، والمتجددون ذهبوا إلى أن الانحراف بمقدار ثمانية درجات، فلابد حينئذ من الاخذ بالاحتياط والمتوسط بين القولين. وقد عرفت سابقا أن العلامات المنصوصة في الاخبار لايمكن الاخذ بإطلاقها

١٤٦

وحملها على التعبد طابقت الكعبة أو لم تطابق، وما ورد في صحيح زرارة عن الباقرعليه‌السلام لاصلاة إلا إلى القبلة قال: قلت: أنى حد القبلة؟ قال: ما بين المغرب والمشرق قبلة كله(١) . لايكون صريحا في جواز التوجه إلى أي نقطة مما بين المغرب والمشرق اختيارا، لاحتمال أن يكون السؤال عن حد القبلة هو الحد الذي إذا صلى الانسان فيه تكون صلاته صحيحة ولو في الجملة وفي بعض الاوقات، كما إذا تبين له الخطأ بعد الجهد وأن صلاته لم تكن على جهة القبلة، فإن في هذا الحال تصح الصلاة إذا كانت بين المشرق والمغرب ولم يكن مستدبرا للقبلة، كما هو رأي المعظم.

والحاصل: أنه يمكن أن يكون السؤال عند حد القبلة هو الحد الذي يجوز إيقاع الصلاة فيه اختيارا، ويمكن أن يختص ببعض الاحوال. ومما يبعد المعنى الاول هو أنه من المستبعد جدا أن يختفي لمثل زرارة حد القبلة مع وروده في الكتاب العزيزى بقوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد الحرام(٢) .

فمن المحتمل أن يكون جهة السؤال هو المعنى الثاني، فتأمل.

كما أنه يمكن أن يكون المعنى أن ما بين المغرب والمشرق قبلة كله لكن لالكل أحد بل تختلف الاشخاص في ذلك، فرب شخص تكون قبلته منحرفة عن المغرب بقليل، ورب شخص يكون انحرافه أزيد وكذا إلى أن يصل إلى حد يكون قبلة الشخص مما تقرب المشرق، وهذا الاختلاف إنما ينشأ من اختلاف البلدان في الطول والعرض، فما بين المغرب والمشرق كله قبلة على حسب اختلاف البلاد، فتأمل وعلى كل تقدير لايمكن الاخذ بإطلاق الصحيحة والقول بجواز استقبال أي نقطة مما بين المغرب والمشرق، هذا مع أنه يمكن أن يدعى الاجماع على خلافه،

____________________

(١) الوسائل: ج ٣ صص ٢٢٨ باب ١٠ من أبواب القبلة، ح ٢.

(٢) البقرة: الآية ١٤٣. [ * ]

١٤٧

وإن نسب الخلاف إلى من لايضر بالاجماع.

ثم إن العلامةقدس‌سره جعل من جملة العلامات لاهل العراق جعل القمر ليلة السابع عند الغروب على العين اليمنى، وجعله كذلك عند انتصاف الليل في الليلة الرابع عشر، وجعله كذلك أيضا عند الفجر في الليلة الاحدى والعشرين(١) ولكن قال شيخنا الاستاذ مد ظله: إني جربت ذلك في الليلة السابعة فرأيت في ذلك اختلافا بحسب اختلاف الشهور بالنقص والتمام، فلاحظ.

وكيف كان لابد من معرفة القبلة والعلم بها مع التمكن كما هو الشأن في جميع الشرائط، ولايعتبر في العلم حصوله من سبب خاص بل من أي سبب حصل، ومع عدم التمكن من العلم لابد إلى التنزل إلى الظن. ولكن يقع الكلام في أنه مع التعذر من تحصيل العلم هل يجوز التعويل على مطلق الظن، أو أن مرتبة الاخذ بالعلامات المنصوبة المستخرجة من الهيئة مقدمة رتبة على الظن المظلق على تقدير عدم إفادتها للعلم؟ فربما يقال: إن العلامات مع عدم إفادتها للعلم تكون في عرض الظن المطلق ولاوجه لتقدمها عليه.

ولكن الانصاف أنه ليس كذلك، فإن العلامات على فرض تسليم عدم إفادتها للعلم ليست في رتبة الظن المطلق، إذ لاإشكال في كونها منضبطة في نوعها مستخرجة من أسا مستحكم مفيدة للاطمئنان غالبا، فهي مقدمة على الظن المطلق كتقدم البينة عليه أيضا، لما عرفت من عموم حجية البينة في باب المواقيت، وأنها لاتختص بباب الترافع وما كان الشك فيه من جهة الحلية والحرمة الذاتيان، كما ربما يتوهم من قولهعليه‌السلام : والاشياء كلها على ذلك حتى يستبين أو تقوم به البينة(٢) . إلا أنه قد تقدم أن ورودها في ذلك لايوجب الاختصاص

____________________

(١) منتهى المطلب: ص ٢١٩ في القبلة.

(٢) الوسائل: ج ١٢ ص ٦٠ باب ٤ من أبواب ما يكتسب به، ح ٤، وفيه اختلاف يسير. [ * ]

١٤٨

فالاقوى أن البينة في عرض العلم مقدمة في الرتبة على الظن المطلق، لان الظن متأخر عن العلم، والمفروض أن البينة في عرض العلم لعدم تقييد في دليل حجيتها، فيكون الظن متأخرا عن البينة أيضا، ولا يعقل أن يكون ما في طول الشئ في عرضه.

وبعبارة اخرى: أن من قامت عنده البينة يكون عارفا بالقبلة بالتعبد، فيخرج عن موضوع " من لايعلم " الذي اخذ موضوعا لحجية الظن. نعم في خصوص المقام إشكال وهو أن حجية البينة في الموضوعات كحجية الخبر الواحد في الاحكام مقصورة بما إذا كان الاخبار عن حس وشهود لاالحدس والاجتهاد، وهذا المعنى في باب الاخبار عن القبلة منسد، لان مستند الشهود إما الاجتهاد وهو حدسي، وإما العلامات المنصوبة المأخوذة من الهيئة وهي أيضا حدسية، فلايجوز التعويل على البينة في أمثال المقام(١) ، هذا.

ولكن لايخفى عليك ضعف الاشكال، فإن العلامات المستخرجة من الهيئة ليست حدسية، لان الضابط في الامور الحدسية هو أن يكون ذلك بإعمال نظر واجتهاد، واستعمال المقدمات النظرية والاقيسة الاجتهادية لاستنتاج المطالب، كاستنتاج الفقيه الحكم الشرعي من الادلة بحسب ما يفهمه منها، ومن المعلوم أن علم الهيئة ليس من هذا القبيل، بل هو كعلم الحساب مأخوذ من مبادئ حسية ومقدمات مشهورة، بداهة أن معرفة طول البلاد وعرضصها من الامور الحسية التي يعرفها كل من كان أهلا لها، ومجرد عدم معرفة كل أحدلها لايخرجها عن الحسية، فهو من قبيل معرفة الصائغ مقدار الغش في الذهب ومعرفة المقوم مقدار

____________________

(١) ويمكن أن يقال: إن اعتبار البينة في أمثال المقام إنما هو من باب اعتبار قول أهل الخبرة، لامن باب الشهادة حتى يقال: إنه يعتبر أن تكون عن حس والحس مفقود في مثل المقام فتأمل فانه لوكان اعتبار ذلك من باب أهل الخبر لم يكن وجه لاعتبار التعدد، فتأمل. " منه ". [ * ]

١٤٩

قيمة الدار، وهل يمكن ان يدعي أحد أن معرفة الصائغ مقدار الغش يكون حدسيا والحاصل: أن الضابط في الحسيات أن تكون مأخوذة من مباد حسية وإن احتاجت إلى إعمال نظر في استخراجات المحسوسات، إذ ليس كل محسوس مشاهدا بالبصر، بداهة أن معرفة هذا الحامض وأنه من ماء النارنج أو الحصرم يحتاج إلى إعمال نظر مع أنه من المحسوسات، فالقول بأن علم الهيئة مبني على الحدسيات في غاية الوهن والسخافة.

وعليه لاإشكال في حجية البينة إذا كان مستندها العلائم المنصوبة المستخرجة من الهيئة، نعم لو كان مستندها امورا اخر اجتهادية تكون حينئذ في عرض الظن المطلق إذا أفاد من قولها الظن، ولا وجه حينئذ لتقدمها عن الظن الحاصل باجتهاد نفس المكلف كما لايخفى.

فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن العلم والعلائم والبينة تكون في عرض واحد ومقدمة على الظن المطلق، كما أنها مقدمة على الامتثال الاجمالي من الصلاة إلى أربع جهات، بناء على أن الامتثال التفصيلي مقدم على الامتثال الاجمالي كما بين في محله، وكما أن البينة تكون مقدمة على الامتثال الاجمالي كذلك الظن الحاصل بالاجتهاد في مورد اعتباره يكون مقدما على الامتثال الاجمالي، لان الظن يكون حينئذ حجة شرعية، والامتثال به يكون امتثالا تفصيلا فيقدم على الامتثال الاجمالى وما يظهر من خبر خراش(١) من نفي اعتبار الاجتهاد وأن الحكم عند تعذر

____________________

(١) وهو أنه قال للصادقعليه‌السلام : جعلت فداك إن هؤلاء المخالفين علينا يقولون إذا أطبقت السماء علينا او أظلمت فلم نعرف مما كنا وأنتم سواء في الاجتهاد، فقالعليه‌السلام : ليس كما يقولون، إذا كان ذلك فليصلي إلى أربع وجوه (*). " منه ".

(*) الوسائل: ج ٣ ص ٢٢٦ من أبواب القبلة، ح ٥ وفيه اختلاف يسير. [ * ]

١٥٠

العلم هو الصلاة إلى أربع جهات فمأول أو مطروح، لما سيمر عليك إن شاء‌الله من صراحة الاخبار في أن الحكم عند تعذر العلم هو التحري والاجتهاد والعمل بما أدى إليه اجتهاده، وهذه الاخبار مع صراحتها وصحتها وعمل المشهور عليها، لايمكن طرحها لاجل خبر يحتاج العمل به إلى جابر مفقود في المقام.

مع أنه ليس بصريح في نفي الاجتهاد والاخذ بالظن عند تعذر العلم، بل لاظهور فيه لاحتمال أن يكون المراد من قولهعليه‌السلام " ليس كما يقولون إذا كان ذلك فليصل إلى أربع وجوه " هو أنه ليس كما يزعمون من أنه لوغمت عليه الامارات ولم يمكن الاجتهاد والتحري صلى إى أي جهة شاء، بل يعتبر أن يصلي حينئذ إلى أربع جهات، ويحتمل أن يكون المراد من الاجتهاد في كلام السائل هو العمل بالرأي والاستحسان من دون أن يكون ذلك بتحري واستناد إلى أمارة مفيدة للظن، وهذا المعنى من الاجتهاد ليس بمعتبر عندنا، ولايجوز التعويل عليه عند فقد العلم، بل لابد حينئذ من الصلاة إلى أربع جهات.

والحاصل: أنه لابد إما من طرح الخبر وإما من تأويله، لعدم مقاومته لما دل من أن الحكم عند تعذر العلم هو التحري والاجتهاد، وأن ذلك مقدم على الصلاة إلى أربع جهات، كقولهعليه‌السلام في صحيح زرارة: يجزي التحري أبدا إذ لم يعلم أين وجه القبلة(١) . وكموثق سماعة سألته عن الصلاة بالليل والنار إذا لم ير الشمس والقمر ولا النجوم، فقالعليه‌السلام : اجتهد رأيك وتعمد القبلة جهدك(٢) . وغير ذلك من النصوص الدالة على اعتبار الاجتهاد. ثم إنه لايخفى عليك أنه لافرق فيما ذكرناه من وجوب التحري والاجتهاد عند

____________________

(١) الوسائل: ج ٣ ص ٢٢٣ باب ٦ من أبواب القبلة، ح ١.

(٢) الوسائل: ج ٣ ص ٢٢٤ باب ٦ من أبواب القبلة، ح ٣ وفيه اختلاف يسير. [ * ]

١٥١

فقد العلم بين الاعمى وغيره، وما في بعض الكلمات من أن الاعمى يقلد ليس المراد منه التقليد الاصطلاحي الذي هو عبارة عن الاخذ بقول الغير تعبدا وبلا دليل، بل المراد منه هو أن الاعمى إذا لم يتمكن من تحصيل العلم وكان المورد مورد الاجتهاد والتحري يسأل عن الغير ويأخذ بقوله، لكن لامطلقا بل إذ حصل له الظن من قوله، لان هذا هو التحري الممكن في حق الاعمى غالبا، فإنه لادليل على اعتبار التقليد في الموضوعات.

وما ورد(١) في بعض الروايات من أن الاعمى إذا لم يعرف القبلة يرى من يسدده إليها ويوجهه نحوها ليس المراد من التقليد، بل المراد منه أنه يرى من يعرفه القبلة حتى يصلي نحوها، فهذه الروايات تدل على وجوب تحصيل العلم على الاعمى إذا كانت القبلة معلومة مشخصة عند الناس، وهذا مما لاكلام فيه، فإنه لو كانت القبلة معلومة كما إذا كان في مسجد الحرام يجب على الاعمى تحصيل العلم بها ولو بالسؤال، وليس في مثل هذا موقع للاجتهاد والتحري، لان الظاهر من أخبار التحري إنما هو فيما إذا لم تكن القبلة معلومة مشخصة كيوم غيم وأمثال ذلك، وأما إذا كانت القبلة معلومة غاية الامر أن الاعمى لخصوص عماه لم يعرف القبلة فليس هذا مورد التحري والاجتهاد، بل يجب عليه أولا السؤال حتى يحصل له العلم، ومع فرض عدم حصوله يصلي إلى أربع جهات ولاعبرة بالظن حينئذ، بل غير الاعمى أيضا كذلك.

والحاصل: أن في المقام دعويين: (الاولى) أن الحكم عند فقد العلم هو الاجتهاد والتحري، سواء في ذلك الاعمى وغيره، ولاعبرة بالتقليد ولادليل عليه (الثانية) أن مورد الاجتهاد والتحري إنما هو فيما إذا لم تكن القبلة معلومة، كما إذا

____________________

(١) الوسائل: ج ٣ ص ٢٢٥ باب ٧ من أبواب القبلة، ح ١ و ٢ و ٣. [ * ]

١٥٢

كان يوم غيم بحيث لم ير الشمس والقمر كما هو مورد الاخبار(١) ، وأما إذا كانت القبلة معلومة ولم يكن مانع من ملاحظة العلامات المنصوبة لمعرفتها فليس هذا مورد الاجتهاد والتحري، بل اللازم في مثل هذا العلم، ومع التعذر لمانع شخصي كالعمى فالصلاة إلى أربع جهات، ولافرق في ذلك أيضا بين الاعمى وغيره.

فتحصل من جميع ما ذكرناه: أن لمعرفة القبلة مرتبتين

(الاولى) العلم وما يلحق به من الامارات والبينة

(الثانية) التحري والاجتهاد والاخذ بالاحرى. ولو فقد المرتبتان جميعا فاللازم هو الصلاة إلى أربع جهات كما عليه المعظم، ويدل عليه مضافا على الاجماع المحكي في عدة من كتب الاصحاب مرسل خداش(٢) المتقدم، وهو إن اشتمل على ما لايقول به المشهور من نفي الاجتهاد إلا أنه قد عرفت الجواب عن ذلك، مع أن المشهور أخذوا به فيما نحن فيه، إذ الظاهر أنه ليس لهم مستند في الصلاة إلى أربع جهات سواه، وإن حكي عن الكافي والفقيه أنهما قالا: روي أن المتحير يصلي إلى أربع جوانب كما عن الاول(٣) ، وأنه قد روي فيمن لايهتدي إلى القبلة في مفازة أن يصلي إلى أربع جوانب كما عن الثاني(٤) ، وقد استفاد بعض الاعلام أن هاتين الروايتين غير مرسل خداش وليس بكل البعيد، وعلى أي حال يكفيدليلا لما نحن فيه مرسل خداش بعد جبره بعمل المشهور. وبذلك يكون مقدما على ما دل من أن الحكم عند التحير هو الصلاة إلى جهة

____________________

(١) الوسائل: ج ٣ ص ٢٢٣ باب ٦ من أبواب القبلة.

(٢) الوسائل: ج ٣ ص ٢٢٦ باب ٨ من أبواب القبلة، ح ٥.

(٣) الكافي: ج ٣ ص ٢٨٦ ح ١٠ من كتاب الصلاة.

(٤) الفقيه: ج ١ ص ٢٧٨ باب القبلة ذيل ح ٨٥٤. [ * ]

١٥٣

من الجهات حيث شاء، كما في مرسل إبن أبي عمير عن زرارة: سألت أبا جعفر عن قبلة المتحير، فقال: يصلي حيث يشاء(١) . وفي صحيحة زرارة: يجزي المتحير أبدا أينما يتوجه(٢) . وقد اطنب في الجواهر(٣) في مقام الجواب عن هذه الروايات وضعفها وأنها مجعولة أو محرفة، ولكن الانصاف أنه لاحاجة إلى هذا التطويل، فإن نسبة هذه الروايات مع مرسل خداش(٤) بالاعم والاخص المطلق، فإن الموضوع في خبر خداش هو المتمكن من الصلاة إلى أربع جهات، وهذه الاخبار أعم من ذلك، فيجب حملها على من لايتمكن من الصلاة إلى أربع جهات على قواعد باب التعارض بالاعم المطلق، فتأمل. بقي في المقام امور ينبغي التنبية عليها.

الاول: أنه يعتبر أن تكون الصلوات الاربع إلى جهات أربع متساوية النسبة تقريبا، ولايكفي صلاتها إلى جهة واحدة أو جهتين، لان المتبادر من قولهعليه‌السلام في خبر خداش " فليصل إلى أربع وجوه " هو ذلك كما لايخفى، مضافا إلى أن الصلاة إلى أربعة وجوه متساوية النسبة إما محصلة للقبلة وإما أن لايبلغ الانحراف عنها إلى اليمين والشمال، وهو مجز أيضا في الجملة وفي بعض الاحوال، وهذا بخلاف ما إذا صلى الاربع إلى جهة واحدة أو جهتين، فإنه ربما يكون الانحراف إلى ماوراء اليمين والشمال، وهو لايجزي في حال من الاحوال.

وما يقال من أنه بناء على هذا يمكن الاكتفاء بثلاث صلوات على ثلاث جهات متساوية، لان الانحراف على تقديره أيضا لايبلغ اليمين والشمال، فلا وجه

____________________

(١) الوسائل: ج ٣ ص ٢٢٦ باب ٨ من أبواب القبلة، ح ٣.

(٢) الوسائل: ج ٣ ص ٢٦ باب ٨ من أبواب القبلة، ح ٢.

(٣) جواهر الكلام: ج ٧ ص ٤١٢.

(٤) الوسائل: ج ٣ ص ٢٢٦ باب ٨ من أبواب القبلة، ح ٥. [ * ]

١٥٤

للالتزام بأربع صلوات.

ففساده غني عن البيان بعد ورود النص بأربع صلوات، مضافا إلى أنه لو خلينا وأنفسنا لكان اللازم هو الصلاة بمقدار يعلم بوقوع أحدها إلى القبلة، كما هو الشأن في جميع الموارد التي يحكم فيها بلزوم الاتيان بالمقدمات العلمية، غاية الامر أنه بالنص أسقطنا الزائد على أربع صلوات، وتبقى الاربع على حالها من لزوم الاتيان بها من باب المقدمة العلمية، فلاوجه للاكتفاء بثلاث صلوات.

وما يتوهم من أنه بعد سقوط الزائد على الاربع لاتكون الاربع حينئذ مقدمة علمية حتى يلزم الاتيان بها لذلك، لعدم كونها محصلة للعلم بالصلاة إلى القبلة. فليس بشئ فإنه مضافا إلى أن سقوط بعض مقدمات العلمية لايوجب سقوط بعضها الآخر كما بين في الاصول، وعليه بنينا بوجوب(١) بما أمكن من المحتملات في الشبهة الوجوبية الغير المحصورة يمكن أن يقال: إنه من ورود النص بأربع صلوات يستكشف أن الشارع وسع القبلة في هذا الحال إلى ربع الفلك، وجعل المواجهة إلى ربع الدائرة التي تكون الكعبة فها مجز في هذا الحال، وعليه يكون الصلوات إلى أربعع جهات من باب المقدمة العلمية لاحراز المواجه إلى ربع الدائرة التي تكون القبلة فيها، فتأمل جيدا.

الامر الثاني: هل يعتبر أن يستوفي أولا محتملات الظهر ثم يعقبه بمحتملات العصر، أولا يعتبر ذلك بل له أن يصلي الظهر والعصرمعا إلى جهة وهكذا إلى أن يستوفي محتملاتهما معا، نعم ليس له أن يستوفي محتملات العصر قبل استيفاء محتملات الظهر، وكذا ليس له أن يصلي العصرإلى جهة مغايرة لصلاة الظهر، بل لابد أن يصلي العصر إلى الجهة التي صلى الظهر إليها؟

____________________

(١) سقط من هنا كلمة " الاتيان ". [ * ]

١٥٥

أقول: هذه المسألة مبنية على أن الامتثال الاجمالي هل هو في عرض الامتثال التفصيلي أو في طوله، فلو قلنا بالاول فلا يعتبر أن تقع محتملات العصر عقيب جميع محتملات الظهر، ولو قلنا بالثاني فيعتبر ذلك.

وتفصيل ذلك هو أنه لاإشكال في اشتراط الترتيب بين الظهر والعصر، ولابد من إحراز وقوع العصر عقيب الظهر كسائر الشرائط التي لابد من إحرازها في مقام الامتثال، وهذا مما لاكلام، إنما الكلام في أنه يعتبر في حسن الامتثال من إحراز الترتيب حين فعل العصر بحيث يكون حين اشتغاله بالعصر محرزا لوقوع الظهر حتى يكون محرزا للترتيب في ذلك الحال، أو أنه يكفي في تحقق الامتثال وحسنه إحراز الترتيب ولو بعد فعل العصر؟ فلو قلنا بكفاية الاحراز البعدي فله فعل الظهر والعصرمعا إلى جهة واحدة، لان حين فعل العصروإن لم يعلم بالترتيب ووقع العصر عقيب الظهر لاحتمال أن لاتكون القبلة في تلك الجهة إلا أنه بعد استيفاء جميع المحتملات يعلم بالترتيب ووقوع العصربعد الظهر، ولو قلنا بلزوم العلم بالترتيب حين فعل العصر فاللازم تأخير محتملات العصرعن محتملات الظهر، لانه يعلم حينئذ بفراغ ذمته عن الظهر حين اشتغاله بمحتملات العصر.

فإن قلت: حين فعل كل واحد من محتملات العصر لايعلم أيضا بوقوع العصر عقيب الظهر، لاحتمال أن لاتكون القبلة في تلك الجهة فلا تكون هذه الصلاة عصرا واقعيا، والمعتبر من الترتيب هو وقوع العصر الواقعي عقيب الظهر الواقعي لامطلقا، ولايمكن العلم بهذا حين فعل كل واحد من محتملات العصر، فبالاخرة ينتهي الامر إلى حصول العلم بالترتيب بعد استيفاء جميع المحتملات، ويرتفع الفارق بين القولين. قلت: الفرق بينهما في غاية الوضوح، فإنه لوصلى العصر عقيب جميع

١٥٦

محتملات الظهر يعلم إجمالا حين فعل كل واحد من محتملات العصرأن هذه الصلاة التي بيده واقعة عقيب الظهر الواقعي، فهو من جهة تكليفه الظهري فارغ الذمة، وإن كان لايعلم بأن هذه الصلاة التي بيده عصرا واقعيا لاحتمال أن لاتكون إلى القبلة، إلا أن هذا الجهل، لاجل الجهل بالقبلة لا الجهل بالترتيب، وهذا بخلاف ما إذا صلى الظهر والعصرمعا إلى جهة واحدة، فإنه كما يكون جاهلا بأن صلاته العصري واقعة إلى القبة كذلك يكون جاهلا بفراغ ذمته عن الظهر، ففي الفرض يكون جاهلا بكل من القبلة والترتيب معا، وبناء على أن يكون الامتثال التفصيلي مقدما على الامتثال الاجمالي يجب عليه رفع جهله بالنسبة إلى الترتيب، لانه يتمكن من ذلك بتأخير محتملات العصر عن محتملات الظهر مع الامكان، وإن لم يتمكن رفع جهله بالنسبة إلى القبلة ولا ملازمة بينهما، فما نحن فيه نظير ما إذا كانت القبلة اللباس كلاهما مشتبهين، ويمكنه رفع اشتباهه بالنسبة إلى اللباس وامتياز الطاهر منه عن النجس، ولايمكنه رفع اشتباهه بالنسبة إلى القبلة، فهل يمكن أن يتوهم أحد بناء على تقدم الامتثال التفصيلي على الاجمالي أنه لايلزم عليه رفع اشتباهه بالنسبة إلى اللباس لكونه مشتبه القبلة ويصلي في كل واحد من الثوبين إلى أربع جهات؟ فإن قلت: فرق بين ما نحن فيه والمثال، فإن في المثال عند عدم رفع اشتباهه عن اللباس يلزم زيادة في المحتملات ولزوم تعدد الصلاة في كل واحد من الثوبين إلى كل واحدة من الجهات الاربع، وهذا بخلاف ما نحن فيه، فإنه سواء صلى الظهر والعصرمعا إلى جهة أو عقب محتملات العصر عن محتملات الظهر لايلزم زيادة في المحتملات، ولايلزمه أكثر من صلاة الظهر أربع إلى أربع جهات وكذلك العصر، ومن المعلوم أن تقدم الامتثال التفصيلي على الاجمالي على القول به إنما هو فيما إذا استلزم من الامتثال الاجمالي التكرار، وعند استلزام التكرار

١٥٧

يكون الامتثال التفصيلي في عرض الامتثال الاجمالي كما ثبت في محله.

قلت: ليس التكرار بنفسه محذورا، بل إنما منع من التكرار لانه امتثال اجمالي وهو متأخر رتبة عن الامتثال التفصيلي، وهذا المحذور بعينه يأتي فيما نحن فيه وإن لم يلزم منه زيادة في المحتملات، والحاصل: أن تأخر رتبة الامتثال الاجمالي عن التفصيلي أوجب لمنع التكرار، لا أن لمنع التكرار أوجب تأخر رتبة الامتثال الاجمالي عن التفصيلي.

إذا عرفت ما ذكرنا من ابتناء المسألة على تلك المسألة فاعلم أن شيخنا الاستاد مد ظله حيث اختار في تلك المسألة تأخر رتبة الامتثال الاجمالي عن التفصيلي كما ذكرنا وجه ذلك في حجية القطع مفصلا فذهب في هذه المسألة إلى لزوم تأخر محتملات العصر عن محتملات الظهر، وكذا الكلام فيما كان من هذا القبيل كموارد الجمع بين القصر والاتمام وأمثال ذلك، فتأمل جيدا.

الامر الثالث: لوضاق الوقت عن استيفاء جميع محتملات الظهر والعصر كما إذا لم يسع الوقت إلا لسبع صلوات، فهل يدخل النقص على الظهر أو على العصر أو يتخير؟ وجوه: أما الوجه الاول فهو تخيل شمول أدلة الاختصاص لما نحن فيه، بدعوى أن مقدار أربع صلوات من آخرر الوقت مختص بالعصر، لان مقدمات العلمية كمقدمات الصحة مشمولة لادلة الاختصاص. ولكن قد تقدم سابقا أن مقدمات الصحة غير داخلة في أدلة الاختصاص فكيف بالمقدمات العلمية، فالوجه الاول ضعيف جدا.

وأما اوجه التخيير فهو تخيل أن ما نحن فيه إنما يكون من باب التزاحم، فإن التكليف بالظهر والعصرمعا فعلي وإنما المتأخر هو زمان الامتثال، وحيث لم يكن في البين أهم ومهم فاللازم هو التخيير على قواعد باب التزاحم. وهذا

١٥٨

التخيل أيضا فاسد، فإن ما نحن فيه وإن كان من باب التزاحم إلا أن حيث كان فعل العصر مشروطا شرعا بفعل الظهر لادلة الترتيب فاللازم هو استيفاء محتملات الظهر، لان فعل الظهر غير مشروطة بشرط فما نحن فيه نظير ما إذا عجز عن القيام في ركعة من ركعات الصلاة، وددارر الامر بين ترك القيام في الركعة الاولى أو في الركعة الثانية، لانه كما يجب القيام في الركعة الاولى لقدرته فعلا عليه والقعود في الركعة الثانية لعجزه عنه، ولايمكنه العكس إذ لاموجب للقعود في الركعة الاولى مع كونه قادرا على القيام فيها، فكذلك فيما نحن فيه يجب فعل الظهر إلى أربع جهات لقدرته على تحصيل القبلة فيها، ويدخل النقص على العصر لعجزه عنها عند فلعها. بل ما نحن فيه أولى من المثال، لان ترتب الركعة الثانية على الاولى ليس بشرعي بل هو أمر تكويني، وهذا بخلاف ترتب العصر على الظهر فإنه أمر شرعي، وصحة العصر مشروطة شرعا بفعل الظهر.

وحاصل الكلام: أنه قد تحرر في باب التزاحم أنه كل أمررين مترتبين إذا وقع التزاحم بينهما يجب صرف القدرة على الاول منهما، لعدم اشتراط الاول بشرط غير القدرة وهي حاصلة بالفرض، بخلاف الثاني فإنه مشروط بكونه عقيب الاول سواء كان شرط الوجوب أو شرط الواجب، فلابد من ملاحظه القدرة حين تحقق شرطه والمفروض أنه لاقدرة له في ذلك الحين.

نعم لو كان المتأخر في نظر الشارع، كالقيام الركني في المثال المتقدم لكان اللازم صرف قدرته إلى المتأخر، لان الاهمية موجبة لتولد خطاب إحفظ قدرتك إلى الاهم، فتأمل فإن المقام لايسع أكثر من ذلك وتفصيله موكول إلى محله. فظهر أن الاقوى من الوجوه هو الوسط.

١٥٩

الامر الرابع: لوضاق الوقت إلا عن ثلاث أو اثنتان، فهل يجب فعلها أو يقتصر على واحدة منها إلى أي جهة شاء؟ ربما يتوهم أنه لايجب عليه فعل ما تمكن من الجهات بعد عدم إمكان الاربع، لان المفروض عدم التمكن من الصلاة إلى القبلة أو ما بحكمها من استقبال ربع الفلك، فتخرج الجهات الباقية عن كونها مقدمة علمية، نعم لما كانت الصلاة لا تسقط بحال يجب عليه صلاه واحدة إلى أي جهة شاء، هذا. ولكن لايخفى عليك ضعفه، لان سقوط بعض المقدمات العلمية لايوجب سقوط الباقي، فهو كما إذا اضطر إلى بعض أطراف الشبهة المحصورة، فكما أن الاضطرار إلى بعض الاطراف لايوجب جواز فعل الباقي في الشبهة التحريمية وترك الباقي في الشبهة الوجوبية كما بين في محله فكذلك فيما نحن فيه.

فإن قلت: نعم الامر وإن كان كذلك وأن مقتضي القاعدة عند سقوط بعض المقدمة العقلية عدم سقوط الباقي، إلا أن في المقام حيث ورد الدليل على أن المتحير يكفيه الصلاة إلى أي جهة شاء، غاية الامر أنه رفعنا اليد عنه في صورة التمكن من الاربع لرواية(١) خداش، فيبقى باقي الصور داخل تحت ذلك الدليل، فلا وجه حينئذ لايجاب الثلاث أو الاثنان عليه.

قلت: لاوجه لهذا الاشكال بعد ملاحظة الادلة الواردة في المقام وملاحظة الجمع بينهما، وتفصيل ذلك هو أنه ببعد ورود اعتبار كون الصلاة إلى القبلة وأنه أينما كنتم فولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام، وبعد ورود أن ما بين المشرق والمغرب قبلة(٢) ، وبعد ورود(٣) ان غير المتمكن يصلي إلى أربع جهات، لابد من

____________________

(١) الوسائل: ج ٣ ص ٢٢٦ باب ٨ من أبواب القبلة، ح ٥.

(٢) الوسائل: ج ٣ ص ٢٨٧ باب ٢ من أبواب القبلة، ح ٩.

(٣) الوسائل: ج ٣ ص ٢٢٥ باب ٨ من أبواب القبلة. [ * ]

١٦٠