اللمعة الدمشقية

اللمعة الدمشقية21%

اللمعة الدمشقية مؤلف:
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 272

اللمعة الدمشقية
  • البداية
  • السابق
  • 272 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81014 / تحميل: 7950
الحجم الحجم الحجم
اللمعة الدمشقية

اللمعة الدمشقية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

يقوم فيجدّد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلّي حتى يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام إنّ الفجر قد طلع؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل لي ).

وهكذا كان الإمام سيّد المتقين، وإمام المنيبين قد طبع على قلبه حب الله تعالى، وهام بعبادته وطاعته.

ولمّا رأى عبد الله الفضل للإمام حذّره من أن يستجيب لهارون باغتياله قائلاً له: ( اتق الله، ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة فقد تعلم أنّه لم يفعل أحد سوء إلاّ كانت نعمته زائلة ).

فانبرى الفضل يؤيّد ما قاله عبد الله.

( قد أرسلوا إليّ غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك )(1) .

لقد خاف الفضل من نقمة الله وعذابه في الدنيا والآخرة إن اغتال الإمام، أو تعرّض له بمكروه.

نصّه على إمامة الرضا:

ونصب الإمام موسىعليه‌السلام ولده الإمام الرضاعليه‌السلام علماً لشيعته ومرجعاً لأمّته وقد خرجت من السجن عدّة ألواح كتب فيها ( عهدي إلى ولدي الأكبر )(2) .

وقد أهتم الإمام موسى بتعيين ولده إماماً من بعده، وعهد بذلك إلى جمهرة كبيرة من أعلام شيعته كان من بينهم ما يلي:

1 - محمد بن إسماعيل:

روى محمد بن إسماعيل الهاشمي قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر، وقد اشتكى شكاة شديدة فقلت له: ( أسأل الله أن لا يريناه - أي فقدك - فإلى مَن؟ ).

قالعليه‌السلام :

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 469 - 471.

(2) نفس المصدر.

٨١

( إلى ابني علي، فكتابه كتابي، وهو وصيي، وخليفتي من بعدي )(1) .

2 - علي بن يقطين:

روى علي بن يقطين، قال: كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وعنده علي ابنه، فقال: يا علي هذا ابني سيد ولدي، وقد نحلته كنيتي، وكان في المجلس هشام بن سالم فضرب على جبهته، وقال: إنّا لله نعى والله إليك نفسه(2) .

3 - نعيم بن قابوس:

روى نعيم بن قابوس، قال: قال أبو الحسنعليه‌السلام : علي ابني أكبر ولدي، واسمعهم لقولي: وأطوعهم لأمري، ينظر في كتاب الجفر والجامعة، ولا ينظر فيهما إلاّ نبي أو وصي نبي(3) .

4 - داود بن كثير:

روى داود بن كثير الرقي، قال: قلت لموسى الكاظم: جُعلت فداك، إنّي قد كبرت، وكبر سنّي، فخذ بيدي، وأنقذني من النار، مَن صاحبنا بعدك؟

فأشارعليه‌السلام إلى ابنه أبي الحسن الرضا، وقال: هذا صاحبكم بعدي(4) .

5 - سليمان بن حفص:

روى سليمان بن حفص المروزي، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وأنا أريد أن أسأله عن الحجّة على الناس بعده، فلمّا نظر إليّ ابتداني، وقال: يا سليمان إنّ عليّاً ابني ووصيي، والحجّة على الناس بعدي، وهو أفضل ولدي، فإن بقيت بعدي فاشهد له بذلك عند شيعتي وأهل ولايتي، المستخبرين عن خليفتي بعدي(5) .

____________________

(1) كشف الغمّة 3 / 88.

(2) كشف الغمّة 3 / 88.

(3) كشف الغمّة 3 / 88.

(4) الفصول المهمّة (ص 225).

(5) عيون أخبار الرضا 1 / 26.

٨٢

6 - عبد الله الهاشمي:

قال عبد الله الهاشمي: كنّا عند القبر - أي قبر النبي (ص) - نحو ستين رجلاً منا ومن موالينا، إذ أقبل أبو إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ويد علي ابنه في يده فقال: أتدرون من أنا!

قلنا: أنت سيدنا وكبيرنا، فقال: سمّوني وانسبوني، فقلنا: أنت موسى بن جعفر بن محمد، فقال: من هذا؟ - وأشار إلى ابنه - قلنا: هو علي بن موسى بن جعفر، قال: فاشهدوا أنّه وكيلي في حياتي، ووصيي بعد موتي(1).

7 - عبد الله بن مرحوم:

روى عبد الله بن مرحوم قال: خرجت من البصرة أريد المدينة، فلمّا صرت في بعض الطريق لقيت أبا إبراهيم، وهو يذهب به إلى البصرة، فأرسل إليّ فدخلت عليه فدفع إلي كتباً، وأمرني أن أوصلها إلى المدينة، فقلت: إلى مَن ادفعها جُعلت فداك؟ قال: إلى علي ابني، فإنّه وصيي، والقيّم بأمري، وخير بنيّ(2).

8 - عبد الله بن الحرث:

روى عبد الله بن الحرث، قال: بعث إلينا أبو إبراهيم فجمعنا ثم قال: أتدرون لم جمعتكم!

قلنا: لا، قال: اشهدوا أنّ عليّاً ابني هذا وصيي، والقيّم بأمري، وخليفتي من بعدي، مَن كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا، ومَن كانت له عندي عدّة فليستنجزها منه، ومَن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه(3)

9 - حيدر بن أيوب:

روى حيدر بن أيوب، قال: كنّا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا فيه محمد بن زيد بن علي، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه فقلنا له: جعلنا الله فداك ما حبسك؟ - أي ما أخّرك عن المجيء - قال: دعانا أبو إبراهيم اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته، وإنّ أمره جايز - أي نافذ - عليه، وله، ثم قال محمد: والله يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم، وليقولن الشيعة به من بعده، قلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 26 - 27.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا.

٨٣

بل يبقيه الله، وأي شيء هذا؟

يا حيدر إذا أوصى إليه فقد عقد له بالإمامة(1).

10 - الحسين بن بشير:

قال الحسين بن بشير: أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر ابنه عليّاً، كما أقام رسول الله (ص)، عليّاً يوم غدير خم، فقال: يا أهل المدينة أو قال: يا أهل المسجد هذا وصيي من بعدي(2) .

11 - جعفر بن خلف:

روى جعفر بن خلف قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر يقول: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام يقول: سعد امرؤ لم يمت حتى يرى منه خلف، وقد أراني الله من ابني هذا خلفا وأشار إليه - يعني الرضا -(3).

12 - نصر بن قابوس:

روى نصر بن قابوس قال: قلت لأبي إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ، إنّي سألت أباك مَن الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنّك أنت هو، فلمّا توفّي أبو عبد الله ذهب الناس يميناً وشمالاً، وقلت: أنا وأصحابي بك، فأخبرني مَن الذي يكون بعدك؟ قال: ابني علي(4) .

13 - محمد بن سنان:

روى محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن قبل أن يحمل إلى العراق بسنة، وعلي ابنه بين يديه، فقال لي: يا محمد، فقلت: لبّيك، قال: إنّه سيكون في هذه السنة حركة، فلا تجزع منها، ثم أطرق، ونكت بيده في الأرض، ورفع رأسه إليّ وهو يقول: ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء، قلت: وما ذاك؟

قال: مَن ظلم ابني هذا حقّه، وجحد إمامته من بعدي، كان كمَن ظلم علي بن أبي طالبعليه‌السلام حقّه، وجحد إمامته من بعد محمد (صلي الله عليه وآله). فعلمت أنّه قد نعى إلى نفسه، ودلّ على ابنه، فقلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا 1 / 30.

(4) عيون أخبار الرضا 1 / 31.

٨٤

والله لئن مدّ الله في عمري لأسلمن إليه حقه، ولأقرن له بالإمامة، وأشهد أنّه من بعدك حجّة الله تعالى على خلقه، والداعي إلى دينه، فقال لي: يا محمد يمد الله في عمرك، وتدعو إلى إمامته، وإمامة مَن يقوم مقامه من بعده، فقلت: مَن ذاك جُعلت فداك؟ قال: محمد ابنه، قال: قلت: فالرضا والتسليم، قال: نعم كذلك وجدتك في شيعتنا أبين من البرق في الليلة الظلماء، ثم قال: يا محمد إنّ المفضل كان أنسي ومستراحي، وأنت أنسهما ومستراحهما(1) حرام على النار أن تمسّك أبداً(2) .

هذه بعض النصوص التي أُثرت عن الإمام موسىعليه‌السلام على إمامة ولده الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد حفلت باهتمام الإمام موسى في هذا الموضوع، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى تفنيد القائلين بالوقف على إمامته، وإبطال شبههم، وتحذير المسلمين منهم.

وصيّة الإمام:

وأقام الإمام موسىعليه‌السلام ولده الرضا وصيّاً من بعده، وقد أوصاه بوصيّتين، وهما يتضمّنان ولايته على صدقاته، ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة، وإلزام أبنائه باتباعه، والانصياع لأوامره، كما عهد إلى السيدات من بناته أن يكون زواجهن بيد الإمام الرضا؛ لأنّه اعرف بالكفؤ من غيره، فينبغي أن لا يتزوجن إلاّ بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ومنزلتهن.

أمّا الوصية الثانية فقد ذكرناها في كتابنا حياة الإمام موسىعليه‌السلام فلا حاجة لذكرها فإنّي لا أحب أن أذكر شيئاً قد كتبته.

سجن السندي:

وأمر الرشيد بسجن الإمام في سجن السندي بن شاهك وهو شرّير لم تدخل الرحمة إلى قلبه، وقد تنكّر لجميع القيم، لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لله وقاراً، فقابل الإمام بكل قسوة وجفاء فضيق عليه في مأكله ومشربه، وكبّله بالقيود، ويقول الرواة إنّه قيّده بثلاثين رطلاً من الحديد.

____________________

(1) الضمير يرجع إلى الإمام الرضا وابنه محمد الجواد.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 32 - 33.

٨٥

وأقبل الإمام على عادته على العبادة فكان في أغلب أوقاته يصلّي لربّه، ويقرأ كتاب الله، ويمجّده ويحمده على أن فرّغه لعبادته.

كتابه إلى هارون:

وأرسل الإمام رسالة إلى هارون أعرب فيها عن نقمته عليه وهذا نصّها: ( إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعاً إلى يوم ليس فيه انقضاء، وهناك يخسر المبطلون )(1) .

وحكت هذه الرسالة ما ألمّ بالإمام من الجزع والأسى من السجن وأنّه سيحاكم الطاغية أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون.

اغتيال الإمام:

وعهد الطاغية إلى السندي أو إلى غيره من رجال دولته باغتيال الإمام، فدسّ له سمّاً فاتكاً في رطب، وأجبره السندي على تناوله، فأكل منه رطبات يسيرة، فقال له السندي: ( زد على ذلك... )..

فرمقه الإمام بطرفه، وقال له: ( حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه... ).(2) .

وتفاعل السم في بدن الإمام، وأخذ يعاني الآلام القاسية وقد حفّت به الشرطة القساة، ولازمه السندي، فكان يسمعه مرّ الكلام وأقساه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليعجل له النهاية المحتومة.

لقد عانى الإمام في تلك الفترة الرهيبة أقسى ألوان المحن والخطوب، فقد تقطّعت أوصاله من السم، وكان أشق عليه ما يسمعه من انتهاك لحرمته وكرامته من السندي وجلاوزته.

إلى الرفيق الأعلى:

وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الإمامعليه‌السلام ، وأخذ يعاني أقسى ألوان الأوجاع والآلام، واستدعى الإمام السندي فلمّا مثل عنده أمره أن يحضر مولى

____________________

(1) البداية والنهاية 10 / 183.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 1 / 499 - 500.

٨٦

له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولّى تجهيزه، وسأله السندي أن يأذن له في تجهيزه فأبى، وقال: إنّا أهل بيت مهور نسائنا، وحج صرورتنا، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفني(1) واحضر له السندي مولاه فعهد له بتجهيزه.

ولمّا ثقل حال الإمام، وأشرف على النهاية المحتومة استدعى المسيب بن زهرة، وقال له: ( إنّي على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجل فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ، واخضرّ، وأتلوّن ألواناً، فأخبر الطاغية بوفاتي... ).

قال المسيب: فلم أزل أراقب وعده، حتى دعاعليه‌السلام بشربة فشربها، ثم استدعاني فقال: ( يا مسيب إنّ هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنّه يتولّى غسلي، ودفني، وهيهات، هيهات أن يكون ذلك أبداً فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به فإنّ كل تربة لنا محرّمة إلاّ تربة جدّي الحسين بن علي فإنّ الله عزّ وجل جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا... ).

قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه، وكان عهدي بسيّدي الرضاعليه‌السلام وهو غلام فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى وقال: أليس قد نهيتك، ثم إنّه غاب ذلك الشخص، وجئت إلى الإمام فإذا به جثّة هامدة قد فارق الحياة، فانتهيت بالخبر إلى الرشيد(2) .

لقد سمت روح الإمام إلى خالقها العظيم تحفّها ملائكة الرحمن بطاقات من زهور الجنّة، وتستقبلها أرواح الأنبياء والأوصياء والمصطفين الأخيار.

سيّدي أبا الرضا: لقد مضيت إلى دار الخلود بعد أن أدّيت رسالتك، ورفعت كلمة الله عالية في الأرض، ونافحت عن حقوق المظلومين، والمضطهدين، وقاومت الطغيان والاستبداد، فما أعظم عائدتك على الإسلام والمسلمين.

سيّدي أبا الرضا:

____________________

(1) مقاتل الطالبيين (ص 504).

(2) حياة الإمام موسى 2 / 514 - 515.

٨٧

لقد تجرّعت أنواع المحن والغصص والخطوب من طاغية زمانك فأودعك في سجونه، وضيّق عليك في كل شيء، وحال بينك وبين شيعتك وأبنائك وعائلتك؛ لأنّك لم تسايره ولم تبرّر منكره، فقد تزعّمت الجبهة المعارضة للظلم والطغيان، ورحت تندد بسياسته الهوجاء التي بنيت على سرقة أموال المسلمين، وإنفاقها في ملذّاته، ولياليه الحمراء، فسلام الله عليك غادية ورائحة، وسلام الله عليك يوم ولدت ويوم متّ ويوم تُبعث حيّاً.

تحقيق الشرطة في الحادث:

وقامت الشرطة بدورها في التحقيق في سبب وفاة الإمام، وقد بذلت قصارى جهودها في أنّ الإمام مات حتف أنفه؛ لتبرئ ساحة الطاغية هارون، وقد قام بذلك السندي ابن شاهك، وكان ذلك في مواضع منها ما رواه عمرو بن واقد، قال: أرسل إليّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد فخشيت أن يكون لسوء يريده لي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ثم ركبت إليه، فلمّا رآني مقبلاً قال: ( يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأزعجناك؟... ).

( نعم )...

( ليس هنا إلاّ الخير... ).

( فرسول تبعثه إلى منزلي ليخبرهم خبري... ).

( نعم )... ولمّا هدأ روعه، وذهب عنه الخوف، قال له السندي: ( يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك؟... )..

( لا ).

( أتعرف موسى بن جعفر؟... ).

( أي والله أعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر... ).

هل ببغداد ممّن يقبل قوله تعرفه أنّه يعرفه؟... ).

( نعم ).

ثم إنّه سمّى له أشخاصاً ممّن يعرفون الإمام، فبعث خلفهم فقال لهم: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟

فسمّوا له قوماً فأحضرهم، وقد استوعب الليل فعله حتى انبلج نور الصبح، ولمّا كمل عنده من الشهود نيّف وخمسون رجلاً،

٨٨

أمر بإحضار كاتبه، ويعرف اليوم بكاتب الضبط، فأخذ في تسجيل أسمائهم ومنازلهم وأعمالهم وصفاتهم وبعد انتهائه من الضبط أخبر السندي بذلك فخرج من محلّه، والتفت إلى عمرو فقال له: قم يا أبا حفص فاكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر، فكشف عمرو الثوب عن وجه الإمام، والتفت السندي إلى الجماعة، فقال لهم: انظروا إليه، فدنا واحد منهم بعد واحد، فنظروا إليه جميعاً، ثم قال لهم:

( تشهدون كلّكم أنّ هذا موسى بن جعفر؟... ).

( نعم ).

ثم أمر غلامه بتجريد الإمام من ملابسه، ففعل الغلام ذلك، ثم التفت إلى القوم فقال لهم: ( أترون به أثراً تنكرونه؟... ) فقالوا: ( لا ). ثم سجّل شهادتهم وانصرفوا(1) .

كما استدعى فقهاء بغداد ووجوهها، وفيهم الهيثم بن عدي فسجّل شهادتهم بإنّ الإمام مات حتف أنفه(2). وفعل هارون مثل ذلك من الإجراءات والسبب في ذلك تنزيهه من اقتراف الجريمة، ونفي المسؤولية عنه.

وضعه على الجسر:

ووضع جثمان الإمام سليل النبوّة على جسر الرصافة ينظر إليه القريب والبعيد، وتتفرّج عليه المارّة، وقد احتفت به الشرطة، وكشفت وجهه للناس، وقد حاول الطاغية بذلك إذلال الشيعة والاستهانة بمقدّساتها وكان هذا الإجراء من أقسى ألوان المحن التي عانتها الشيعة؛ فقد كوى بذلك قلوبهم وعواطفهم، يقول الشيخ محمد ملة:

مَن مبلغ الإسلام أنّ زعيمه

قد مات في سجن الرشيد سميما

فالغيّ بات بموته طرب الحشا

وغدا لمأتمه الرشاد مقيما

ملقىً على جسر الرصافة نعشه

فيه الملائك أحدقوا تعظيما

وقال الخطيب المفوّه الشيخ محمد علي اليعقوبي:

مثل موسى يرمى على الجسر ميتاً

لم يشيّعه للقبور موحّد

حملوه وللحديد برجليه هزيج

له الأهاضيب تنهد(3)

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(3) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 521.

٨٩

النداء الفظيع:

يا لهول المصاب، يا لروعة الخطب، لقد انتهك السندي جميع حرمات الإسلام، فقد أمر الجلادين أن ينادوا على الجثمان المقدس بنداء مؤلم، فبدل أن ينادوا بالحضور لجنازة الطيب ابن الطيب أمرهم أن ينادوا بعكس ذلك، وانطلق العبيد والأنذال يجوبون في شوارع بغداد رافعين أصواتهم بذلك النداء القذر، وأمرهم ثانياً أن ينادوا بنداء آخر: ( هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت فانظروا إليه ميتاً... )(1) .

قيام سليمان بتجهيز الإمام:

وكان سليمان مطلاًّ على نهر دجلة في قصره، فرأى الشرطة وقطعات من الجيش تجوب في الشوارع، والناس مضطربة، فزعة، فهاله ذلك، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلاً: ( ما الخبر؟ ).

فقالوا له: ( هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر... ).

وأخبروه بندائه الفظيع، فخاف سليمان من حدث الفتنة وانفجار الوضع بما لا تحمد عقباه، وصاح بولده:

( انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد - وهو لباس الشرطة والجيش - )(2) .

وانطلق أبناء سليمان مسرعين ومعهم غلمانهم وحرّاسهم إلى الشرطة، فأخذوا الجثمان المقدس من أيديهم، ولم تبد الشرطة أيّة مقاومة معهم، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الأسرة العباسية.

وحمل جثمان الإمام إلى سليمان فأمر أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي، وانطلق المنادون رافعين أصواتهم بهذا النداء:

( ألا مَن أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر ).

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر.

٩٠

وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين والعابدين، وخرجت الشيعة وهي تلطم الصدور وتذرف الدموع وخرجت السيدات من نسائهم، وهن يندبن الإمام، ويرفعن أصواتهن بالنياحة عليه. وسارت مواكب التشييع وهي تجوب شوارع بغداد، وتردد أهازيج اللوعة والحزن، وأمام النعش المقدس مجامير العطور، وانتهى به إلى موضع في سوق سُمّي بعد ذلك بسوق الرياحين، كما بني على الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس لئلاّ تطأه الناس بأقدامهم تكريماً له(1) ، وانبرى شاعر ملهم فأبّن الإمام بهذه الأبيات الرائعة:

قد قلت للرجل المولّى غسله

هلاّ أطعت وكنت من نصائحه

جنبه ماءك ثم غسّله بما

أذرت عيون المجد عند بكائه

وأزل أفاويه الحنوط ونحّها

عنه وحنّطه بطيب ثنائه

ومر الملائكة الكرام بحمله

كرماً ألست تراهم بإزائه

لا توه أعناق الرجال بحمله

يكفي الذي حملوه من نعمائه(2)

وسارت المواكب متجهة إلى محلّة باب التبن، وقد ساد عليها الوجوم والحزن، حتى انتهت إلى مقابر قريش فحفر للجثمان العظيم قبر، وأنزله فيه سليمان بن أبي جعفر، وهو مذهول اللب، فواراه فيه، وارى فيه الحلم والكرم والعلم، والإباء.

وانصرف المشيعون، وهم يعددون فضائل الإمام، ويذكرون بمزيد من اللوعة الخسارة التي منّي بها المسلمون، فتحيّات من الله على تلك الروح العظيمة التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها ومآثرها.

تقلّد الإمام الرضا للزعامة الكبرى:

وتقلّد الإمام الرضاعليه‌السلام بعد وفاة أبيه الزعامة الدينية الكبرى، والمرجعية العامة للمسلمين، وقد احتف به العلماء والفقهاء وهم يسجلون آراءه في ميادين الآداب والحكمة، وما يفتي به من المسائل الشرعية وغير ذلك من صنوف المعارف والعلم.

____________________

(1) الأنوار البهية (ص 99).

(2) الإتحاف بحب الأشراف (ص 57).

٩١

سفره إلى البصرة:

وبعد وفاة الإمام الكاظمعليه‌السلام سافر الإمام الرضاعليه‌السلام إلى البصرة للتدليل على إمامته، وإبطال شبه المنحرفين عن الحق، وقد نزل ضيفاً في دار الحسن بن محمد العلوي، وقد عقد في داره مؤتمراً عاماً ضمّ جمعاً من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب، وهو من المنحرفين عن آل البيتعليهم‌السلام والمعادين لهم، كما دعا فيه جاثليق النصارى، ورأس الجالوت، والتفت إليهم الإمام فقال لهم:

( إنّي إنّما جمعتكم لتسألوني عمّا شيءتم من آثار النبوة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت، فهلموا أسألكم... ).

وبادر عمرو بن هداب فقال له: ( إنّ محمد بن الفضل الهاشمي أخبرنا عنك أنك تعرف كل ما أنزله الله، وانك تعرف كل لسان ولغة... ).

وانبرى الإمامعليه‌السلام فصدّق مقالة محمد بن الفضل في حقّه قائلاً: ( صدق محمد بن الفضل أنا أخبرته بذلك... ).

سارع عمرو قائلاً: ( إنّا نختبرك قبل كل شيء بالألسن، واللغات، هذا رومي، وهذا هندي، وهذا فارسي، وهذا تركي، قد أحضرناهم... ).

فقالعليه‌السلام : ( فليتكلّموا بما أحبوا، أجب كل واحد منهم بلسانه إن شاء الله... ).

وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجابعليه‌السلام عنها بلغته، وبهر القوم وعجبوا، والتفت الإمام إلى عمرو فقال له: ( إن أنا أخبرتك أنّك ستبتلي في هذه الأيام بدم ذي رحم لك هل كنت مصدقاً لي؟... ).

( لا، فإنّ الغيب لا يعلمه إلاّ الله تعالى... ).

وردّ الإمام عليه مقالته: ( أو ليس الله تعالى يقول:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ ) فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند الله مرتضى، ونحن ورثة ذلك

٩٢

الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة. وإنّ الذي أخبرتك به يا بن هداب لكائن إلى خمسة أيام وإن لم يصح في هذه المدة فإنّي.. وإن صحّ فتعلم أنّك راد على الله ورسوله.

وأضاف الإمام قائلاً: ( أما إنّك ستصاب ببصرك، وتصير مكفوفاً، فلا تبصر سهلاً، ولا جبلاً وهذا كائن بعد أيام، ولك عندي دلالة أخرى، إنّك ستحلف يميناً كاذبة فتضرب بالبرص... ).

وأقسم محمد بن الفضل بالله بأنّ ما أخبر به الإمام قد تحقّق، وقيل لابن هداب: ( هل صدق الرضا بما أخبر به؟... ).

فقال: والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنّه كائن، ولكنّي كنت أتجلّد.

والتفت الإمام إلى الجاثليق فقال له: ( هل دلّ الإنجيل عل نبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( لو دلّ الإنجيل على ذلك ما جحدناه... ).

ووجّه الإمام له السؤال التالي: ( اخبرني عن السكنة التي لكم في السفر الثالث؟... ). وأجاب الجاثليق: ( إنّها اسم من أسماء الله تعالى لا يجوز لنا أن نظهره... ).

وردّ عليه الإمام قائلاً: ( فان قربه ربّك أنّه اسم محمد، وأقر عيسى به، وأنّه بشر بني إسرائيل بمحمد لتقربه، ولا تنكره؟... ).

ولم يجد الجاثليق بُدّاً من الموافقة على ذلك قائلاً: ( إن فعلت أقررت، فإنّي لا أرد الإنجيل ولا أجحده... ).

وأخذ الإمام يقيم عليه الحجّة قائلاً: ( خذ على السفر الثالث الذي فيه ذكر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وبشارة عيسى

٩٣

بمحمد؟... ).

وسارع الجاثليق قائلا: ( هات ما قلته... ).

فأخذ الإمامعليه‌السلام يتلو عليه السفر من الإنجيل الذي فيه ذكر الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال للجاثليق: ( من هذا الموصوف؟... ).

قال الجاثليق: ( صفه ).

وأخذ الإمامعليه‌السلام في وصفه قائلاً: ( لا أصفه إلاّ بما وصفه الله، وهو صاحب الناقة، والعصا، والكساء، النبي الأمي، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم، يهدي إلى الطريق الأقصد، والمنهاج الأعدل، والصراط الأقوم. سألتك يا جاثليق بحق عيسى روح الله، وكلمته، هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وأطرق الجاثليق مليّاً برأسه إلى الأرض، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فقد سدّ عليه الإمام كل نافذة يسلك منها، ولم يسعه أن يجحد الإنجيل، فأجاب الإمام قائلاً: نعم هذه الصفة من الإنجيل، وقد ذكر عيسى في الإنجيل هذا النبي ولم يصح عند النصارى أنّه صاحبكم ).

وانبرى الإمام يقيم عليه الحجّة، ويبطل أوهامه قائلاً: ( أما إذا لم تكفر بجحود الإنجيل، وأقررت بما فيه من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخذ على السفر الثاني، فإنّه قد ذكره وذكر وصيّه، وذكر ابنته فاطمة وذكر الحسن والحسين... ).

وقد استبان للجاثليق ورأس الجالوت أنّ الإمامعليه‌السلام عالم بالتوراة والإنجيل، وأنّه واقف على جميع ما جاء فيهما، وفكّرا في التخلص من حجج الإمام فأبديا الشك في أن الذي بشر به موسى والسيد المسيح هو النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطفقا قائلين:

٩٤

( لقد بشر به موسى وعيسى جميعاً، ولكن لم يتقرّر عندنا أنّه محمد هذا، فأمّا كون اسمه محمد، فلا يجوز أن نقر لكم بنبوته، ونحن شاكون أنّه محمّدكم أو غيره... ).

وانبرى الإمام ففنّد شبهتهم قائلاً: ( احتججتم بالشك، فهل بعث الله قبل أو بعد من ولد آدم إلى يومنا هذا نبيّاً اسمه محمد أو تجدونه في شيء من الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء غير محمد؟... ).

وأحجما عن الجواب، ولم يجدا شبهة يتمسكان بها، وأصرّا على العناد والجحود قائلين: ( لا يجوز لنا أن نقر لك بأنّ محمّداً هو محمّدكم، فإنّا إن أقررنا لك بمحمد ووصيّه وابنته وابنيها على ما ذكرتم أدخلتمونا في الإسلام كرهاً... ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( أنت يا جاثليق آمن في ذمّة الله، وذمّة رسوله أنّه لا يبدؤك منّا شيء تكرهه... ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( إذ قد آمنتني، فان هذا النبي الذي اسمه محمد، وهذا الوصي الذي اسمه علي، وهذه البنت التي اسمها فاطمة، وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور، وطفق الإمام قائلاً: ( هل هذا صدق وعدل؟... ).

( بل صدق وعدل... ).

وسكت الجاثليق، واعترف بالحق، والتفت الإمام إلى رأس الجالوت فقال له: ( اسمع يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود... ).

قال رأس الجالوت: ( بارك الله فيك وفيمَن ولدك: هات ما عندك... ).

وأخذ الإمام يتلو عليه السفر الأول من الزبور حتى انتهى إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن الحسين، ووجه الإمام له السؤال التالي: ( سألتك يا رأس الجالوت بحق الله هذا في زبور داود؟... ).

( نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم... ).

٩٥

وانبرى الإمام قائلاً: ( بحق عشر الآيات التي أنزلها الله على موسى بن عمران في التوراة هل تجد صفة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل؟ ).

ولم يسع رأس الجالوت إلاّ الإقرار والاعتراف بذلك، وأخذ الإمام يتلو في سفر آخر من التوراة، وقد بهر رأس الجالوت من اطلاع الإمام ومن فصاحته وبلاغته، وتفسيره ما جاء في النبي وعلي وفاطمة والحسنين، فقال رأس الجالوت: ( والله يا بن محمد لولا الرياسة التي حصلت لي على جميع اليهود لآمنت بأحمد، واتبعت أمرك، فو الله الذي أنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، ما رأيت اقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منك، ولا رأيت أحسن تفسيراً وفصاحة لهذه الكتب منك ).

وقد استغرقت مناظرة الإمام معهم وقتاً كثيراً حتى صار وقت صلاة الظهر فقامعليه‌السلام فصلّى بالناس صلاة الظهر، وانصرف إلى شؤونه الخاصة، وفي الغد عاد إلى مجلسه، وقد جاءوا بجارية رومية لامتحان الإمامعليه‌السلام ، فكلّمها الإمام بلغتها، والجاثليق حاضر، وكان عارفاً بلغتها، فقال الإمام للجارية: ( أيّما أحب إليك محمد أم عيسى؟... ).

فقالت الجارية: ( كان فيما مضى عيسى أحب إليّ؛ لأنّي لم أكن أعرف محمداً، وبعد أن عرفت محمداً فهو أحب إليّ من عيسى... ).

والتفت لها الجاثليق فقال لها: ( إذا كنت دخلت في دين محمد فهل تبغضين عيسى؟... ).

وأنكرت الجارية كلامه فقالت: ( معاذ الله بل أحب عيسى، وأومن به، ولكن محمداً أحب إلي... ).

والتفت الإمام إلى الجاثليق فطلب منه أن يترجم للجماعة كلام الجارية، فترجمه لهم، وطلب الجاثليق من الإمام أن يحاجج مسيحيّاً من السند له معرفة بالمسيحية، وصاحب جدل، فحاججه الإمام بلغته، فآمن السندي بالإسلام، وأقرّ للإمامعليه‌السلام بالإمامة، وطلبعليه‌السلام من محمد بن الفضل أن يأخذه إلى الحمام ليغتسل، ويطهر بدنه من درن الشرك، فأخذه محمد إلى الحمّام، وكساه بثياب نظيفة، وأمر الإمام بحمله إلى يثرب ليتلقى من علومه، ثم ودّع الإمام أصحابه

٩٦

ومضى إلى المدينة المنوّرة(1) .

سفره إلى الكوفة:

وغادر الإمامعليه‌السلام يثرب متوجّهاً إلى الكوفة، فلمّا انتهى إليها استقبل فيها استقبالاً حاشداً، وقد نزل ضيفاً في دار حفص بن عمير اليشكري، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل، وهو يجيبهم عنها، وقد عقد مؤتمراً عامّاً ضمّ بعض علماء النصارى واليهود، وجرت بينه وبينهم مناظرات أدت إلى انتصاره وعجزهم عن مجاراته، والتفت الإمامعليه‌السلام إلى الحاضرين، فقال لهم: ( يا معاشر الناس، أليس أنصف الناس مَن حاجّ خصمه بملّته وبكتابه، وشريعته؟... ).

فقالوا جميعاً: ( نعم ).

فقالعليه‌السلام : ( اعلموا أنّه ليس بإمام بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ مَن قام بما قام به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله حين يفضي له الأمر، ولا يصلح للإمامة إلاّ مَن حاج الأمم بالبراهين للإمامة... ).

وانبرى عالم يهودي فقال له: ( ما الدليل على الإمام؟... )

فقالعليه‌السلام :

( أن يكون عالماً بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن الحكيم فيحاج أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل القرآن بقرآنهم، وأن يكون عالماً بجميع اللغات حتى لا يخفي عليه لسان واحد، فيحاج كل قوم بلغتهم، ثم يكون مع هذه الخصال تقياً، نقياً من كل دنس، طاهراً من كل عيب، عادلاً، منصفاً، حكيماً، رؤوفاً، رحيماً، غفوراً، عطوفاً، صادقاً، مشفقاً، بارّاً، أميناً، مأموناً... )(2) .

وجرت بينه وبين بعض الحاضرين مناظرات أدّت إلى تمسّك الشيعة بالإمام

____________________

(1) البحار 12 / 21 - 23، بتصرف نقلنا الخبر.

(2) البحار 12 / 23، نقلنا الحديث بتصرف.

٩٧

عليه‌السلام ، وزيادة إيمانهم بقدراته العلمية الهائلة كما أدّت إلى إفحام القوى المعارضة للإمام، وعجزهم عن مجاراته وبهذا نطوي الحديث عن دور الإمام في ظلال أبيه، وبعد وفاته.

٩٨

٩٩

مناظراته واحتجاجاته

واتسم عصر الإمام الرضاعليه‌السلام بشيوع المناظرات والاحتجاجات بين زعماء الأديان والمذاهب الإسلامية وغيرها، وقد احتدم الجدال بينهم في كثير من البحوث الكلامية خصوصاً فيما يتعلّق بأصول الدين، وقد حفلت الكتب الكلامية وغيرها بألوان من ذلك الصراع العقائدي مشفوعة بالأدلة التي أقامها المتكلمون على ما يذهبون إليه.

ومن بين المسائل التي عظم فيها النزاع، واحتدم فيها الجدال بين الشيعة والسنّة: ( الإمامة )، فالشيعة تصر على أنّ الإمامة كالنبوّة غير خاضعة لاختيار الأمّة وانتخابها، وإنّما أمرها بيد الله تعالى فهو الذي يختار لها مَن يشاء من صلحاء عباده ممّن امتحن قلوبهم للإيمان كما يشترطون في الإمام أن يكون معصوماً عن الخطأ، وأن يكون أعلم الأمّة، وأدراها لا في شؤون الشريعة الإسلامية فحسب وإنما في جميع علوم الحياة، وأنكر جمهور أهل السنّة ذلك جملةً وتفصيلاً، ومن الجدير بالذكر أنّ أروقة الملوك والوزراء في عصر الإمام قد عقدت فيها مجالس للمناظرة بين زعماء المذاهب الإسلامية فقد عقدت البرامكة مجالس ضمت المتكلمين من علماء السنة، فناظروا العالم الكبير هشام بن الحكم، وحاججوه في أمر الإمامة، فتغلّب عليهم ببالغ الحجّة، وقوّة البرهان، وممّا لا ريب فيه أنّ عقد البرامكة للخوض في هذه البحوث الحساسة لم تكن بواعثه علمية فقط، وإنّما كانت للاطلاع على ما تملكه الشيعة من الأدلة الحاسمة لإثبات معتقداتها في الإمامة.

ولمّا جعل المأمون ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام التي لم تكن عن إخلاص، ولا عن إيمان بأنّ الإمام أحق وأولى بالخلافة منه، وإنّما كانت لأسباب سياسية سوف نتحدث عنها في غضون هذا الكتاب، وقد أوعز إلى ولاته في جميع

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

اعتبارها، وتملك بالعقد، ويجب تسليمها بتسليم العين، وإن كانت على عمل فبعده.

ولو ظهر فيها عيب فللاجير الفسخ أو الارش مع التعيين ومع عدمه يطالب بالبدل، وقيل له الفسخ وهو قريب إن تعذر الابدال.

ولو جعل أجرتين على تقديرين كنقل المتاع في يوم بعينه بأجرة وفي آخر بأخرى، أو في الخياطة الرومية وهي التي بدرزين والفارسية وهي التي بواحد، فالاقرب الصحة.

ولو شرط عدم الاجرة على التقدير الآخر لم يصح في مسألة النقل، وفي ذلك نظر لان قضية كل إجارة المنع من نقيضها، فيكون قد شرط قضية العقد فلم يبطل في مسألة النقل أو في غيرها، غاية ما في الباب أنه إذا أخل بالمشروط يكون البطلان منسوبا إلى الاجير ولا يكون حاصلا من جهة العقد.

ولا بد من كون المنفعة مملوكة له أو لوليه، سواء كانت مملوكة بالاصالة أو بالتبعية، فللمستأجر أن يؤجر إلا مع شرط استيفاء المنفعة بنفسه، ولو آجر الفضولي فالاقرب الوقوف على الاجازة.

ولا بد من كونها معلومة إما بالزمان كالسكنى، وإما به أو بالمسافة كالركوب، وإما به أو بالعمل كالخياطة، ولو جمع بين المدة والعمل فالاقرب البطلان إن قصد التطبيق، ولا يعمل الاجير الخاص لغير المستأجر، ويجوز للمطلق.

وإذا تسلم العين ومضت مدة يمكن فيها الانتفاع استقرت الاجرة، ولا بد من كونها مباحة، فلو استأجر لتعليم كفر أو غناء أو حمل مسكر بطل، وأن يكون مقدورا على تسليمها فلا تصح إجارة

١٤١

الآبق، فإن ضم إليه أمكن الجواز، ولو طرأ المنع فإن كان قبل القبض فله الفسخ، وإن كان بعده فإن كان تلفا بطلت، وإن كان غصبا لم تبطل ويرجع المستأجر على الغاصب.

ولو ظهر في المنفعة عيب فله الفسخ وفي الارش نظر، ولو طرأ بعد العقد فكذلك كانهدام المسكن.

ويستحب أن يقاطع من يستعمله على الاجرة أولا وأن يوفيه عقيب فراغه، ويكره أن يضمن إلا مع التهمة.

مسائل: من تقبل عملا فله تقبيله لغيره بأقل على الاقرب، ولو أحدث فيه حدثا فلا بحث.

الثانية: لو استأجر عينا فله إجارتها بأكثر مما استأجرها به، وقيل بالمنع، إلا أن يكون بغير جنس الاجرة، أو يحدث فيها صفة كمال.

الثالثة: إذا فرط في العين ضمن قيمتها يوم التفريط، والاقرب يوم التلف، ولو اختلفا في القيمة حلف الغارم.

الرابعة: موؤنة الدابة أو العبد على المالك، ولو أنفق عليه المستأجر بنية الرجوع صح مع تعذر إذن المالك أو الحاكم، ولو استأجر أجيرا لينفذه في حوائجه فنفقته على المستأجر في المشهور.

الخامسة: لا يجوز إسقاط المنفعة المعينة، ويجوز إسقاط المطلقة والاجرة، وإذا تسلم أجيرا فتلف لم يضمن.

السادسة: كلما يتوقف عليه توفية المنفعة فعلى المؤجر كالقتب والزمام والحزام، والمداد في النسخ، والمفتاح في الدار.

١٤٢

السابعة: لو اختلفا في عقد الاجارة حلف المنكر، وفي قدر الشئ المستأجر حلف النافي، وفي رد العين حلف المالك، وفي هلاك المتاع المستأجر عليه حلف الاجير، وفي كيفية الاذن كالقباء والقميص حلف المالك، وفي قدر الاجرة حلف المستأجر.

١٤٣

(٢٩) كتاب الوكالة

وهي استنابة في التصرف، وإيجابها: وكلتك واستنبتك أو الاستيجاب والايجاب، أو الامر بالبيع والشراء، وقبولها قولي وفعلي.

ولا يشترط فيه الفورية فإن الغائب يوكل، ويشترط فيها التنجيز، ويصح تعليق التصرف، وهي جائزة من الطرفين، ولو عزله اشترط علمه، ولا يكفي الاشهاد، وتبطل بالموت والجنون والاغماء والحجر على الموكل فيما وكل فيه، ولا بالنوم وإن تطاول مالم يؤد إلى الاغماء، وتبطل بفعل الموكل ما تعلقت به الوكالة.

وإطلاق الوكالة في البيع يقتضي البيع بثمن المثل حالا بنقد البلد، وكذا في الشراء، ولو خالف ففضولي، وإنما تصح الوكالة فيما لا يتعلق غرض الشارع بإيقاعه من مباشر بعينه كالعتق والطلاق والبيع، لا فيما يتعلق كالطهارة والصلاة الواجبة في الحياة.

ولا بد من كمال المتعاقدين وجواز تصرف الموكل.

وتجوز الوكالة في الطلاق للحاضر كالغائب، ولا يجوز للوكيل أن يوكل إلا مع الاذن صريحا أو فحوى، كاتساع متعلقها وترفع الوكيل عما وكل فيه عادة.

١٤٤

ويستحب أن يكون الوكيل تام البصيرة عارفا بالغة التي يحاوربها، ويستحب لذوي المروء‌ات التوكيل في المنازعات، ولا تبطل الوكالة بارتداد الوكيل، ولا يتوكل المسلم للذمي على المسلم على قول، ولا الذمي على المسلم لمسلم، ولا لذمي قطعا، وباقي الصور جائزة وهي ثمان.

ولا يتجاوز الوكيل ما حد له إلا أن تشهد العادة بدخوله كالزيادة في ثمن ما وكل في بيعه، والنقيصة في ثمن ما وكل في شرائه.

وتثبت الوكالة بعدلين، ولا يقبل فيها شهادة النساء منفردات ولا منضمات، ولا تثبت بشاهد ويمين ولا بتصديق الغريم.

والوكيل أمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، ويجب عليه تسليم ما في يده إلى الموكل إذا طولب به، فلو أخر مع الامكان ضمن، وله أن يمتنع حتى يشهد، وكذا كل من عليه حق وإن كان وديعة، والوكيل في الوديعة لا يجب عليه الاشهاد بخلاف الوكيل في قضاء الدين وتسليم المبيع، ولو لم يشهد ضمن.

ويجوز للوكيل تولي طرفي العقد بإذن الموكل، ولو اختلفا في أصل الوكالة حلف المنكر، وفي الرد حلف الموكل، وقيل الوكيل، إلا أن يكون بجعل، وفي التلف حلف الوكيل، وكذا في التفريط والقيمة.

ولو زوجه امرأة بدعوى الوكالة فأنكر الزوج حلف وعلى الوكيل نصف المهر ولها التزوج، ويجب على الزوج الطلاق إن كان وكل، ويسوق نصف المهر إلى الوكيل، وقيل يبطل ظاهرا ولا غرم

١٤٥

على الوكيل.

ولو اختلفا في تصرف الوكيل حلف، وقيل الموكل.

وكذا الخلاف لو تنازعا في قدر الثمن الذي اشتريت به السلعة.

١٤٦

(٣٠) كتاب الشفعة

وهي استحقاق الشريك الحصة المبيعة في شركته، ولا تثبت لغير الواحد.

وموضوعها مالا ينقل كالارض والشجر تبعا، وفي اشتراط إمكان قسمته قولان، ولا تثبت في المقسوم إلا مع الشركة في المجاز والشرب، ويشترط قدرة الشفيع على الثمن وإسلامه إذا كان المشتري مسلما.

ولو ادعى غيبة الثمن أجل ثلاثة مالم يتضرر المشتري، وتثبت للغائب فإذا قدم أخذ، وللصبي والمجنون والسفيه ويتولى الاخذ الولي مع الغبطة، فإن ترك فلهم عند الكمال الاخذ، ويستحق بنفس العقد وإن كان فيه خيار، ولا يمنع من التخاير فإن اختار المشتري أو البائع الفسخ بطلت.

وليس للشفيع أخذ البعض بل يأخذ الجميع أو يدع، ويأخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد، ولا يلزمه غيره من دلالة أو وكالة، ثم إن كان مثليا فعليه مثله، وإن كان قيميا فقيمته يوم العقد وهي على الفور، فإذا علم وأهمل بطلت.

ولا تسقط الشفعة بالفسخ المتعقب للبيع بتقايل أو فسخ

١٤٧

لعيب، ولا بالعقود اللاحقة كما لو باع أو وهب أو وقف، بل للشفيع إبطال ذلك كله، وله أن يأخذ بالبيع الثاني، والشفيع يأخذ من المشتري ودركه عليه.

والشفعة تورث كالمال بين الورثة، فلو عفوا إلا واحد أخذ الجميع أو ترك، ويجب تسليم الثمن أولا ثم الاخذ إلا أن يرضى الشفيع بكونه في ذمته، ولا يصح الاخذ إلا بعد العلم بقدره وجنسه، فلو أخذه قبله لغى، ولو قال أخذته بمهما كان.

ولو انتقل الشقص بهبة أو صلح أو صداق فلا شفعة، ولو اشتراه بثمن كثير ثم عوضه عنه بيسير أو أبرأه من الاكثر، أخذ الشفيع بالجميع أو ترك، ولو اختلف الشفيع والمشتري في الثمن حلف المشتري، ولو ادعى أن شريكه اشترى بعده حلف الشريك، ويكفيه الحلف على نفي الشفعة، ولوتداعيا السبق تحالفا ولا شفعة.

١٤٨

(٣١) كتاب السبق والرماية

إنما ينعقد السبق من الكاملين الخاليين من الحجر على الخيل والبغال والحمير والابل والفيلة، وعلى السيف والسهم والحراب، لا بالمصارعة والسفن والطيور والعدو.

ولا بد فيها من إيجاب وقبول على الاقرب، وتعيين العوض، ويجوز كونه منهما ومن بيت المال، ومن أجنبي.

ولا يشترط المحلل، ويشترط في السبق تقدير المسافة ابتداء وغاية والخطر وتعيين ما يسابق عليه واحتمال السبق في المعينين، فلو علم قصور أحدهما بطل، وأن يجعل السبق لاحدهما أو للمحلل إن سبق لا لاجنبي.

ولا يشترط التساوي في الموقف، والسابق هو الذي يتقدم بالعنق، والمصلي هو الذي يحاذي رأسه صلوي السابق وهما العظمان النابتان عن يمين الذنب وشماله.

ويشترط في الرمي معرفة الرشق كعشرين، وعدد الاصابة، وصفتها من المارق والخاسق والخازق والخاصل وغيرها، وقدر المسافة، والغرض، والسبق، وتماثل جنس الآلة لا شخصها.

١٤٩

ولا يشترط المبادرة ولا المحاطة، ويحمل المطلق على المحاطة.

فإذا أتم النضال ملك الناضل العوض، وإذا فضل أحدهما صاحبه فصالحه على ترك الفضل لم يصح، ولو ظهر استحقاق العوض وجب على الباذل مثله، أو قيمته.

١٥٠

(٣٢) كتاب الجعالة

صيغة ثمرتها تحصيل المنفعة بعوض مع عدم اشتراط العلم فيهما، وتجوز على كل عمل محلل مقصود، ولا تفتقر إلى قبول ولا إلى مخاطبة شخص معين، فلو قال من رد عبدي أو خاط ثوبي فله كذا صح، أو فله مال أو شئ، إذ العلم بالعوض غير شرط في تحقق الجعالة، وإنما هو في تشخصه وتعينه، فإن أراد ذلك فليذكر جنسه وقدره وإلا تثبت بالرد أجرة المثل.

ويشترط في الجاعل وعدم الحجر.

ولو عين الجعالة لواحد ورد غيره فهو متبرع لا شئ له، ولو شارك المعين فإن قصد التبرع عليه فالجميع للمعين، وإلا فالنصف ولا شئ للمتبرع.

وتجوز الجعالة من الاجنبي ويجب عليه الجعل مع العمل المشروط، وهي جائزة من طرف العامل مطلقا، وأما الجاعل فجائزة قبل التلبس، وأما بعده فجائزة بالنسبة إلى ما بقي من العمل، أما الماضي فعليه أجرته، ولو لم يعلم العامل رجوعه فله كمال الاجرة، ولو أوقع صيغتين عمل بالاخيرة إذا سمعهما العامل، وإلا فالمعتبر ما سمع.

١٥١

وإنما يستحق الجعل على الرد بتسليم المردود، فلو جاء به إلى باب منزل المالك فهرب فلا شئ للعامل، ولا يستحق الاجرة إلا ببذل الجاعل، فلو رد بغيره كان متبرعا.

مسائل: كلما لم يعين جعل فأجرة المثل إلا في رد الآبق من المصر فدينار، ومن غيره فأربعة دنانير، والبعير كذا، ولو بذل جعلا فرده جماعة استحقوه بينهم بالسوية، ولو جعل لكل من الثلاثة مغايرا فردوه فلكل ثلث ما جعل له، ولو لم يسم لبعضهم فله ثلث أجرة المثل، ولو كانوا أزيد فبالنسبة.

ولو اختلفا في أصل الجعالة حلف المالك، وكذا في تعيين الآبق، ولو اختلفا في السعي بأن قال المالك حصل في يدك قبل الجعل، حلف للاصل، وفي قدر الجعل كذلك، فيثبت للعامل أقل الامرين من أجرة المثل ومما ادعاه إلا أن يزيد ما ادعاه المالك، وقال ابن نما (ره): إذا حلف المالك ثبت ما ادعاه، وهو قوي كمال الاجارة.

١٥٢

(٣٣) كتاب الوصايا

وفيه فصول، الاول: الوصية تمليك عين أو منفعة أوتسلط على تصرف بعد الوفاة.

وإيجابها أوصيت، أو افعلوا كذا بعد وفاتي، أو لفلان بعد وفاتي.

والقبول الرضا، تأخر أو قارن، مالم يرد فإن رد في حياة الموصي جاز القبول بعد وفاته، وإن رد بعد الوفاة قبل القبول بطلت وإن قبض، وإن رد بعد القبول لم تبطل وإن لم يقبض.

وينتقل حق القبول إلى الوارث، وتصح مطلقة مثل ما تقدم، ومقيدة مثل بعد وفاتي في سنة كذا وفي سفر كذا، فتخصص، وتكفي الاشارة مع تعذر اللفظ وكذا الكتابة مع القرينة.

والوصية للجهة العامة مثل الفقراء والمساجد والمدارس لا تحتاج إلى القبول، والظاهر أن القبول كاشف عن سبق الملك بالموت.

ويشترط في الموصي الكمال، وفي وصية من بلغ عشرا قول مشهور، أما المجنون والسكران ومن جرح نفسه بالمهلك فالوصية باطلة.

وفي الموصى له الوجود وصحة التملك، فلو أوصى للحمل

١٥٣

اعتبر بوضعه لدون ستة أشهر منذ حين الوصية، أو بأقصى الحمل إذا لم يكن هناك زوج ولا مولى، ولو أوصى للعبد لم يصح إلا أن يكون عبده فينصرف إلى عتقه، وإن زاد المال عن ثمنه فله، وتصح الوصية للمشقص بالنسبة، ولام الولد فتنعتق من نصيبه وتأخذ الوصية، والوصية لجماعة تقتضي التسوية إلا مع التفضيل، ولو قال على الكتاب الله، فللذكر ضعف الاثنى، والقرابة من عرف بنسبه، والجيران لمن يلي داره إلى أربعين ذراعا، وللموالي يحمل على العتيق والمعتق إلا مع القرينة، وقيل تبطل، وللفقراء ينصرف إلى فقراء ملة الموصي، ويدخل فيهم المساكين إن جعلناهم مساوين أو أسوأ، وإلا فلا، وكذا العكس.

الفصل الثاني، في متعلق الوصية : وهو كل مقصود يقبل النقل، ولا يشترط كونه معلوما ولا موجودا حال الوصية، فتصح الوصية بالقسط والنصيب وشبهه، ويتخير الوارث، أما الجزء فالعشر، وقيل السبع، والسهم الثمن، والشئ السدس.

وتصح الوصية بما ستحمله الامة أو الشجرة وبالمنفعة، ولا تصح الوصية بما لا يقبل النقل كحق القصاص، وحد القذف والشفعة، وتصح بأحد الكلاب الاربعة لا بالخنزير وكلب الهراش، ويشترط في الزائد عن الثلث إجارة الوارث وتكفي حال حياة الموصي، والمعتبر بالتركة حين الوفاة، فلو قتل فأخذت ديته حسبت من تركته، ولو أوصى بما يقع اسمه على المحرم والمحلل صرف

١٥٤

إلى المحلل كالعود والطبل.

ويتخير الوارث في المتواطي كالعبد وفي المشترك كالقوس، والجمع يحمل على الثلاثة قلة كان كأعبد أو كثرة كالعبيد، ولو أوصى بمنافع العبد دائما أو بثمرة البستان دائما قومت المنفعة على الموصى له، والرقبة على الوارث إن فرض لها قيمة، ولو أوصى بعتق مملوكه وعليه دين قدم الدين، وعتق من الفاضل ثلثه، ولو نجز عتقه فإن كانت قيمته ضعف الدين صح العتق، وسعى في نصفه للديان، وفي ثلثه للوارث، ولو أوصى بعتق ثلث عبيده أو عدد منهم استخرج منهم بالقرعة، ولو أوصى بأمور فإن كان فيها واجب قدم، وإلا بدئ بالاول فالاول حتى يستوفى الثلث.

ولو لم يرتب بسط الثلث على الجميع، ولو أجاز الورثة فادعوا ظن القلة فإن كان الايصاء بعين لم يقبل منهم، وإن كان بجزء شائع كالنصف قبل مع اليمين.

ويدخل في الوصية بالسيف جفنه وبالصندوق أثوابه وبالسفينة متاعها، إلا مع القرينة، ولو عقب الوصية بمضادها عمل وبالاخيرة، ولو أوصى بعتق رقبة مؤمنة وجب، فإن لم يجد أعتق من لا يعرف بنصب، ولو ظنها مؤمنة كفى وإن ظهر خلافه، ولو أوصى بعتق رقبة بثمن معين وجب، ولو تعذر إلا بالاقل اشترى وأعتق ودفع إليه ما بقي.

١٥٥

الفصل الثالث، في الاحكام : تصح الوصية للذمي وإن كان أجنبيا بخلاف الحربي وإن كان رحما وكذا المرتد، ولو أوصى في سبيل الله فلكل قربة، ولو قال أعطوا فلانا كذا ولم يبين ما يصنع به، دفع إليه يصنع به ما شاء.

ويستحب الوصية لذي القرابة وارثا كان أو غيره، ولو أوصى للاقرب نزل على مراتب الارث، ولو أوصى بمثل نصيب ابنه فالنصف إن كان له ابن واحد، والثلث إن كان له ابنان، وعلى هذا.

ولو قال مثل سهم أحد وراثي، أعطي مثل سهم الاقل.

ولو أوصى بضعف نصيب ولده فمثلاه، وبضعفيه ثلاثة أمثاله.

ولو أوصى بثلثه للفقراء جاز صرف كل ثلثه إلى فقراء بلدالمال، ولو صرف الجميع في فقراء بلد الموصي جازه ولو أوصي له بأبيه فقبل وهو مريض ثم مات عتق من صلب ماله.

ولو قال أعطوا زيدا والفقراء، فلزيد النصف، وقيل الربع.

ولو جمع بين منجزة ومؤخرة قدمت المنجزة، ويصح الرجوع في الوصية قولا مثل رجعت أو نقضت أو أبطلت أولا تفعلوا كذا، وفعلا مثل بيع العين الموصى بها أو رهنها أو طحن الطعام أو عجن الدقيق أو خلطه بالاجود.

١٥٦

الفصل الرابع، في الوصاية : إنما تصح الوصية على الاطفال بالولاية من الاب والجد له، أو الوصي المأذون له من أحدهما.

ويعتبر في الوصي الكمال والاسلام إلا أن يوصي الكافر إلى مثله، والعدالة في قول قوي، والحرية إلا أن يأذن المولى.

وتصح الوصية إلى الصبي منضما إلى كامل، وإلى المرآة، والخنثى.

ويصح تعدد الوصي فيجتمعان إلا أن يشرط لهما الانفراد، فإن تعاسرا صح فيما لا بد منه كمؤونة اليتيم، وللحاكم إجبارهما على الاجتماع، فإن تعذر استبدل بهما وليس لهما قسمة المال، ولو شرط لهما الانفراد ففي جواز الاجتماع نظر، ولو نهاهما عن الاجتماع اتبع، ولو جوز لهما الامرين أمضي، فلو اقتسما المال جاز.

ولو ظهر من الوصي عجز ضم الحاكم إليه، ولو خان عزله وأقام مكانه.

ويجوز للوصي استيفاء دينه مما في يده، وقضاء ديون الميت التي يعلم بقاء‌ها، ولا يوصي إلا بإذن.

ويكون النظر بعده إلى الحاكم، وكذا من مات ولا وصي له، ومع تعذر الحاكم بعض عدول المؤمنين.

والصفات المعتبرة في الوصي يشترط حصولها حال الايصاء، وقيل حال الوفاة، وقيل من حين الايصاء إلى حين الوفاة.

وللوصي أجرة المثل عن نظره في مال الموصى عليهم مع

١٥٧

الحاجة، ويصح الرد ما دام حيا، فلو رد ولما يبلغ الرد بطل الرد، ولو لم يعلم بالوصية إلا بعد وفاة الموصي لزمه القيام بها إلا مع العجز.

١٥٨

(٣٤) كتاب النكاح

وفيه فصول، الاول، في المقدمات: النكاح مستحب مؤكد، وفضله مشهور محقق حتى أن المتزوج يحرز نصف دينه، وروي ثلثا دينه.

وهومن أعظم الفوائد بعد الاسلام، وليتخير البكر العفيفة الولود الكريمة الاصل، ولا يقتصر على الجمال أو الثروة.

ويستحب صلاة ركعتين والاستخارة والدعاء بعدهما بالخيرة، وركعتي الحاجة والدعاء، والاشهاد والاعلان، والخطبة أمام العقد، وإيقاعه ليلا.

وليجتنب إيقاعه والقمر في العقرب، فإذا أراد الدخول صلى ركعتين ودعا والمرأة كذلك، وليكن ليلا، ويضع يده على ناصيتها، ويسمي عند الجماع دائما، ويسأل الله الولد الذكر السوي الصالح، وليولم يوما أو يومين ويدعو المؤمنين وتستحب الاجابة، ويجوز أكل نثار العرس وأخذه بشاهد الحال.

ويكره الجماع عند الزوال والغروب حتى يذهب الشفق، وعاريا، وعقيب الاحتلام قبل الغسل أو الوضوء، والجماع عند ناظر إليه، والنظر إلى الفرج حال الجماع وغيره، والجماع مستقبل القبلة

١٥٩

ومستدبرها، والكلام عند التقاء الختانين إلا بذكر الله تعالى، وليلة الخسوف، ويوم الكسوف، وعند هبوب الريح الصفراء، أو السوداء، أوالزلزلة، وأول ليلة من كل شهر إلا شهر رمضان، ونصفه، وفي السفرمع عدم الماء.

ويجوز النظر إلى وجه امرأة يريد نكاحها وإن لم يستأذنها بل يستحب، ويختص الجواز بالوجه والكفين، وينظرها قائمة وماشية، وروي جواز النظر إلى شعرها ومحاسنها.

ويجوز النظر إلى وجه الامة والذمية لا لشهوة.

وينظر الرجل إلى مثله وإن كان شابا حسن الصورة لا لريبة ولا تلذذ، والنظر إلى جسد الزوجة باطنا وظاهرا وإلى المحارم خلا العورة ولا ينظرإلى الاجنبية إلا مرة من غير معاودة إلا لضرورة كالمعاملة والشهادة والعلاج.

كذا يحرم على المرأة أن تنظر إلى الاجنبي أو تسمع صوته إلا لضرورة وإن كان أعمى، وفي جواز نظر المرأة إلى الخصي المملوك لها أو بالعكس خلاف.

ويجوز استمتاع الزوج بما شاء من الزوجة إلا القبل في الحيض والنفاس، والوطء في دبرها مكروه كراهة مغلظة، وفي رواية يحرم.

ولا يجوز العزل عن الحرة بغير شرط، فتجب دية النطفة لها عشرة دنانير، ولا يجوز ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر، ولا الدخول قبل تسع فتحرم لو أفضاها، ويكره للمسافر أن يطرق أهله ليلا.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272