عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم17%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127745 / تحميل: 8588
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

٦ - ماذا يراد من قوله سبحانه:( فتلّقى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه ) فهل التوبة دليل العصيان ؟

٧ - ما معنى قوله:( وإن لم تغفر لنا وترحمنا ) ؟

فلنبدأ بالإجابة على هذه الأسئلة واحداً بعد واحد، وعند ختام البحث يقف القارئ على أنّ آدم أبا البشر كان نزيهاً عمّا أُلصق به من المخالفة للتكليف الإلهي الإلزامي المولوي الموجب للعقوبة.

١ - ما هي نوعية النهى في قوله تعالى:( لا تقربا )

إنّ النهي ينقسم إلى قسمين: مولوي وإرشادي، والفرق بين القسمين بعد اشتراكهما غالباً في أنّ كلاًّ منهما صادر عن آمر عالٍ إلى مَن هو دونه، هو أنّه الآمر قد ينطلق في أمره ونهيه من موقع المولوية والسلطة، متخذاً لنفسه موقف الآمر، الواجبة إطاعته، فيأمر بما يجب أن يطاع، كما أنّه ينهى عمّا يجب أن يُجتنب، فعند ذلك يترتّب الثواب على الطاعة، والعقاب على المخالفة، وهذا هو شأن أكثر الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنّة.

وقد ينطلق في ذلك من موقع النصح والإرشاد، والعظة والهداية، من دون أن يتخذ لنفسه موقف الآمر، الواجبة طاعته، بل يتخذ لنفسه موقف الناصح المشفق، القاصد لإسعاد المخاطب وإنجائه من الشقاء، وعند ذلك يترك انتخاب أحد الجانبين للمخاطب ذاكراً له ما يترتّب على نفس العمل من آثار خاصّة، من دون أن تترتّب على ذات المخالفة أيّة تبعة.

وإن شئت قلت: إنَّ نفس العمل والفعل ذو آثار طبيعية ومضاعفات تترتّب عليه في كل حين وزمان، من دون فرق بين فاعل وآخر، فيذكر المولى العالم

١٠١

بعواقب الأعمال وآثار الأفعال، بما يترتّب على ذات العمل من سعادة وشقاء، فيجعل المخاطب في موقف العالم بآثار الشيء ويترك اختيار أحد الطرفين إليه، حتى يكون هو المختار في العمل، فإن اتّبع نصحه وإرشاده فقد نجا عمّا يترتّب على العمل من الهلاك والخسران، وإن خالفه تصيبه المضاعفات التي تكمن في ذات العمل.

ولتوضيح ذلك نأتي بمثال:

إنّ الطبيب إذا وصف دواءً لمريض وأمره بتناول ذلك الدواء والاجتناب عن أُمور أُخرى، فلو قام المريض بالطاعة والامتثال، تترتّب عليه الصحّة والعافية، وإن خالف أمر الطبيب لم يترتّب على تلك المخالفة سوى المضاعفات المترتّبة على نفس العمل؛ وذلك لأنّ الطبيب لم يكتب له تلك الوصفة إلاّ بما أنّه طبيب ناصح ومعالج مشفق.

ومثل ذلك ما إذا قال سبحانه:( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) بعدما أمر الناس بواجبات ونهى عن أُمور، فلو خالف المكلّف وترك الواجب كالصلاة والصوم وارتكب المنهيّات كالكذب والغيبة، فقد خالف عندئذٍ أمرين:

١ - الأمر بالصلاة والصوم.

٢ - الأمر بإطاعة الله ورسوله.

فلا يترتّب على تينك المخالفتين سوى عقاب واحد لا عقابان؛ وذلك لأنّ الأمر الثاني لم يكن أمراً مولوياً، بل كان أمراً إرشادياً لا يترتّب على مخالفته سوى ما يترتّب على مخالفة الأمر الأوّل؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ الآمر لم يتخذ لنفسه عند الأمر بإطاعة الله ورسوله، موقف الآمر الواجب الطاعة، بل أمر بلباس النصح

١٠٢

والإرشاد.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ مخالفة النهي عن الشجرة إنّما تُعدّ معصية بالمعنى المصطلح إذا كان النهي مولوياً صادراً عنه سبحانه على وجه المولوية، لا أمراً إرشادياً وارداً بصورة النصح، والقرائن الموجودة في الآيات تشهد بأنّه إرشادي، لا يترتّب على مخالفته سوى ما يترتّب على ذات العمل من الآثار الوضعية والطبيعية، لا مولوي حتى يترتّب عليه وراء تلك الآثار، عقاب المخالفة ومؤاخذة التمرّد، وإليك هذه القرائن:

١ - لو كان النهي عن الشجرة نهياً مولوياً يجب أن يرتفع أثره بعد التوبة والإنابة، مع أنّا نرى أنّ الأثر المترتّب على المخالفة بقي على حاله رغم توبة آدم وإنابته إلى الله سبحانه، وهذا دليل على أنّ الخروج عن الجنّة والتعرّض للشقاء والتعب، كان أثراً طبيعياً لنفس العمل، وكان النهي لغاية صيانة آدمعليه‌السلام عن هذه الآثار والعواقب، كما إذا نهى الطبيبُ المصابَ بمرض السكر عن تناول المواد السكرية.

٢ - إنّ الآيات الواردة في سورة ( طه ) تكشف النقاب عن نوعية هذا النهي، وتصرّح بأنّ النهي كان نهياً إرشادياً لصيانة آدمعليه‌السلام عمّا يترتّب عليه من الآثار المكروهة والعواقب غير المحمودة، قال سبحانه:( فَقُلْنَا يا آدمُ إنَّ هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى * إنّ لَكَ ألاّ تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤا فِيهَا ولاَ تَضْحَى ) (١) فإنّ قوله سبحانه:( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى ) صريح في أنّ أثر امتثال النهى هو البقاء في الجنّة، ونيل السعادة التي تتمثّل في قوله:( إنّ لَكَ ألاّ تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤا فِيهَا ولاَ

____________________

١ - طه: ١١٧ - ١١٩.

١٠٣

تَضْحَى ) وأنّ أثر المخالفة هو الخروج من الجنّة والتعرّض للشقاء الذي يتمثّل في الحياة التي فيها الجوع والعري، والظمأ وحرّ الشمس، كل ذلك يدلّ على أنّه سبحانه لم يتخذ لدى النهي موقف الناهي، الواجبة طاعته، بل كان ينهى بصورة الإرشاد والنصح والهداية، وأنّه لو خالفه لترتّب عليه الشقاء في الحياة والتعب فيها.

٣ - إنّه سبحانه - بعد ما أكل آدم وزوجته من الشجرة وبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة - ناداهما:( أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُمَا عَدُوّ مُبِينٌ ) (١) .

فإنّ هذا اللسان، لسان الناصح المشفق الذي أرشد مخاطبه لمصالحه ومفاسده في الحياة، ولكنّه خالفه ولم يسمع قوله، فعندئذٍ يعود ويخاطبه بقوله: ألم أقل لك ألم أنهك عن هذا الأمر ؟

٤ - إنّه سبحانه يبيّن أنّ وسوسة الشيطان لهما لم يكن إلاّ لإبداء ما وُرى عنهما من سوءاتهما حيث يقول:( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءاتِهِمَا ) (٢) .

وهذا يكشف عن أنّ ما يترتب على الوسوسة ومخالفة آدمعليه‌السلام بعدها لم يكن إلاّ إبداء ما وُري عنهما من السوأة، الذي هو أثر طبيعي للعمل من دون أن يكون له أثر آخر من ابتعاده عن لطفه سبحانه، وحرمانه عن قربه، الذي هو أثر المخالفة للخطابات المولوية.

٥ - إنّه سبحانه يحكي أنّ وسوسة الشيطان لهما كانت بصورة النصح

____________________

١ - الأعراف: ٢٢.

٢ - الأعراف: ٢٠.

١٠٤

والإرشاد حيث قال:( وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) (١) وهذا يكشف عن أنّ خطابه سبحانه إليهما كان بصورة النصح أيضاً، وهذا واضح لمَن له أدنى إلمام بأساليب الكلام.

فهذه القرائن وغيرها الموجودة في الآيات الواردة حول قصّة آدمعليه‌السلام تدل بوضوح على أنّ النهي في هذا المقام كان نهياً إرشادياً لا مولوياً، وكان الهدف تبقية آدمعليه‌السلام بعيداً عن عوامل الشقاء والتعب، ولكنّه لم يسمع قول ناصحه فعرّض نفسه للشقاء، وصار مستحقّاً لأن يخاطب بقوله سبحانه:( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعضٍ عدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرّ وَمَتاعٌ إِلَى حِين ) (٢) ، وقوله سبحانه:( قال اهْبِطَا مِنْهَا جَميعَاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدوّ ) (٣) .

أضف إلى ذلك أنّ الظرف الذي تلقّى فيه آدم هذا النهي ( النهي عن الأكل من الشجرة ) لم يكن ظرف تكليف حتى تُعدّ مخالفته عصياناً لمقتضاه، فإنّ ظرف التكليف هو المحيط الذي هبط إليه مع زوجته بعد رفض النصح، أمّا ذلك المحيط فكان مُعدّاً لتبصير الإنسان بأعدائه وأصدقائه، ودورة تعليمية لمشاهدة نتائج الطاعة وآثار المخالفة، أي ما يترتّب على قبول قوله سبحانه من السعادة، وما يترتّب على قبول قول إبليس من الشقاء، وفي مثل ذلك المحيط لا يُعدّ النهي ولا الأمر تكليفاً، بل يُعد وسيلة للتبصير وتحصيل الاستعداد لتحمّل التكاليف في المستقبل، وكانت تلك الدورة من الحياة دورة إعدادية لأبي البشر وأُمّهم، حتى يلمس الحقائق لمس اليد.

____________________

١ - الأعراف: ٢١.

٢ - الأعراف: ٢٤.

٣ - طه: ١٢٣.

١٠٥

إلى هنا تمّت الإجابة على السؤال الأوّل، غير أنّ هناك جواباً آخر ذكره أكثر المفسّرين، ونحن نأتي به بشكل موجز:

جواب آخر عن الإشكال

إنّ أكثر المفسّرين من العدلية اختاروا أنّ مخالفة آدم لم تكن إلاّ مخالفة لنهي مولوي غير إلزامي، وهو ما يعبّر عنه بترك الأولى وترك الأفضل، وأمّا إطلاق العصيان وغيره من الكلمات الموهمة في المقام، فحاصل كلامهم في ذلك: أنّ الذنب على قسمين: ذنب مطلق، وهو مخالفة الإرادة القطعية الإلزامية للمولى الحكيم من غير فرق بين إنسان وإنسان، فمَن خالفه يكون عاصياً سواء فيه العاكف والباد.

وذنب نسبي، وهو ما يعد ذنباً وأمراً غير صحيح بالنسبة إلى شخص دون شخص، وهو ما يكون العمل بالذات مباحاً وجائزاً غير قبيح في حد نفسه، غير أنّ العرف والمجتمع يستقبح صدوره من شخص خاص، ويعده أمراً غير صحيح، ومثاله ما يلي:

إنّ المساعدة المالية القليلة ممّن يمتلك الآلاف المؤلّفة وإن كانت جائزة، لكنّها تثير اعتراض الناس على فاعلها مع أنّه لم يرتكب عملاً قبيحاً بالذات.

كما أنّ إقامة الصلاة مع عدم تفرّغ البال مبرئة للذمة ومسقطة للتكليف، إلاّ أنّه إذا أتى بها النبيّ بهذه الصورة يُعد أمراً غير لائق بمقامه وغير مترقّب منه، فوزان الأكل من الشجرة الممنوعة وزان صدور بعض الأعمال المباحة بالذات من الشخصيات الكبيرة المحترمة.

ونزيد توضيحاً في ذلك: إذا وقفنا على أنّه سبحانه أعزّ آدم بتعليمه الأسماء ،

١٠٦

وجعله معلّماً للملائكة ومسجوداً لهم، وفي هذه الحالة طلب منه أن يترك الأكل من الشجرة المعيّنة، كان المترقّب من مثله أن يتورّع عن أيّة مخالفة مهما صغرت، ومهما كان الأمر والنهي غير إلزاميين، ولأجل ذلك يُعد هذا العمل - مع ملاحظة ما حفّه من الشرائط - عصياناً محتاجاً إلى التوبة.

جواب ثالث عن الإشكال

وهاهنا جواب ثالث: وهو أنّ محور البحث عند المتكلّمين في عصمة الأنبياء عبارة عن مخالفة الإنسان المكلّف، للتكليف الإلهي بعد تشريع الشرائع، وإنزال الكتب، ولو كان هذا هو المعيار لما صدق في قصّة آدم؛ لأنّ البيئة التي كان أبو البشر يعيش فيها قبل الهبوط، لم تكن دار التشريع والتكليف، ولم تكن هناك أيّة شريعة، والمخالفة في هذا المحيط لا تُعدّ نقضاً للعصمة، فلاحظ، فقد تقدّم بعض ذلك الكلام في ذيل الجواب الأوّل.

إلى هنا تبيّن أنّ مخالفة آدم لنهيه سبحانه لا تضاد عصمته، وقد عرفت الأجوبة الثلاثة، فحان حين البحث عن بعض المفاهيم الواردة في الآيات التي تقدّمت عليك، وربّما يُعد بعضها دليلاً على أنّ المخالفة من آدم كانت ذنباً شرعيّاً، ولأجل ذلك يجب علينا توضيح هذه المفاهيم الواردة في القصّة.

٢ - ما معنى وسوسة الشيطان لآدم ؟

وحقيقة هذا السؤال ترجع إلى أنّ ظاهر الآيات الماضية هو تأثير الشيطان في نفس آدم بالوسوسة قال سبحانه:( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ ) (١) ، وقال

____________________

١ - الأعراف: ٢٠.

١٠٧

سبحانه:( فَوسْوَسَ إِلَيهِ الشَّيْطانُ ) (١) ، وعندئذ يتساءل: إنّ تطرق الوسوسة إلى آدم من جانب الشيطان، كيف تجتمع مع ما حكاه سبحانه من عدم تسلّط الشيطان على عباد الله المخلصين إذ قال:( إِنَّ عباديَ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوينَ ) (٢) ، وقال سبحانه حاكياً قول إبليس:( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٣) ؟

والجواب عن ذلك: إنّ المراد من ( المخلصين ) هم الذين اجتباهم الله سبحانه من بين خلقه، قال تعالى مشيراً إلى ثلّة من الأنبياء:( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيّينَ مِن ذُرّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْ-رائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ) (٤) وقال سبحانه مشيراً إلى طائفة من الأنبياء:( وَمِن آبائِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَ اجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ) (٥) .

فإذا كان المخلصون هم الذين اجتباهم الله سبحانه بنوع من الاجتباء، لم يكن آدمعليه‌السلام يوم خالف النهي من المجتبين، وإنّما اجتباه سبحانه بعد ذلك قال سبحانه:( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) (٦) وعلى ذلك فوسوسة الشيطان لآدم لا تنافي ما ذكره سبحانه في حق المجتبين، وأنّ الشيطان ليس له نصيب في حق تلك الصفوة وليس له طريق إليهم.

____________________

١ - طه: ١٢٠.

٢ - الحجر: ٤٢.

٣ - ص: ٨٢ - ٨٣.

٤ - مريم: ٥٨.

٥ - الأنعام: ٨٧.

٦ - طه: ١٢١ - ١٢٢.

١٠٨

أضف إلى ذلك: أنّ وسوسة الشيطان في صدور الناس إنّما هي بصورة النفوذ في قلوبهم والسلطان عليهم بنحو يؤثّر فيهم، وإن كان لا يسلب عنهم الاختيار والحرية، ويؤيّد كون الوسوسة بصورة النفوذ، الإتيان بلفظة ( في ) في قوله سبحانه:( يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النَّاسِ ) (١) . وأمّا وسوسة الشيطان بالنسبة إلى أبي البشر فلم تكن بصورة النفوذ والتسلّط بشهادة تعديته بلفظة ( لهما ) أو ( إليه )(٢) وهذا التفاوت في التعبير يفيد الفرق بين الوسوستين، وأنَّ إحداهما على نحو الدخول والولوج في الصدور، والأخرى بنحو القرب والمشارفة.

٣ - ماذا يُراد من قوله:( فأزلّهما الشيطان ) ؟

وأمّا قوله سبحانه:( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ) (٣) وقوله:( فَدَلاّهُمَا بُغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا ) (٤) ، فلا يدلاّن على كون العمل الصادر منهما عصياناً بالمعنى المصطلح، وأمّا التعبير الوارد في الآية فهو لأجل أنّ عمل آدم لم يكن مقروناً بالمصلحة، بل كان مقروناً بالشقاء والبعد عن الحياة السعيدة، فكل مَن افتقد هذه البركات والمصالح يصدق عليه أنّه ( زلَّ ) أو ( إنّ الشيطان أنزلهما عن مكانتهما بغرور ).

وبالجملة: إنّ هذه التعابير تجتمع مع كون النهي إرشادياً غير مولوي، أو نهياً مولوياً تنزيهياً كما هو المقرّر في الجوابين الأوّلين.

٤ - ما معنى قوله:( وعصى ) و( فغوى ) ؟

ربّما يتمسّك المخالف بهذين اللفظين، حيث قال سبحانه:( وَعَصى آدَمُ

____________________

١ - الناس: ٥.

٢ - الأعراف: ٢٠، طه: ١٢٠.

٣ - البقرة: ٣٦.

٤ - الأعراف: ٢٢.

١٠٩

رَبَّهُ فَغَوى ) لكن لا دلالة لهما على ما يرتئيه المستدل.

أمّا لفظة( عصى ) فهي وإن كانت مستعملة في مصطلح المتشرّعة في الذنب والمخالفة للإرادة القطعية الملزمة، ولكنّه اصطلاح مختص بالمتشرّعة ولم يجر القرآن على ذلك المصطلح، بل ولا اللغة، فإنّ الظاهر من القرآن ومعاجم اللغة أنّ العصيان هو خلاف الطاعة، قال ابن منظور: العصيان خلاف الطاعة، عصى العبد ربّه: إذا خالف ربّه، وعصى فلان أميره، يعصيه، عصياً وعصياناً ومعصية: إذا لم يطعه وعلى ذلك فيجب علينا أن نلاحظ الأمر الذي خولف في هذا الموقف، فإن كان الأمر مولوياً إلزامياً كان العصيان ذنباً، وإذا كان أمراً إرشادياً أو نهياً تنزيهياً لم تكن المخالفة ذنباً في المصطلح، ولأجل ذلك لا يصلح التمسّك بهذا اللفظ وإثبات الذنب على آدمعليه‌السلام .

وأمّا اللفظة الثانية: أعني( فغوى ) فالجواب عنها: إنّ الغي يستعمل بمعنى الخيبة، قال الشاعر:

فمَن يلق خيراً يحمد الناس أمره

ومَن يغو لا يعدم على الغيّ لائماً

أي ومَن حرم من الخير ولم يلقه، لا يحمده الناس ويلومونه.

وفي حديث موسى وآدم:( أغويت الناس ) أي خيّبتهم، كما أنّه يستعمل في معنى الفساد، وبه فسّر قوله سبحانه:( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) أي فسد عليه عيشه كما سيأتي(١) .

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ المراد من الغي في الآية هو خيبة آدم وخسرانه وحرمانه من العيش الرغيد الذي كان مجرداً عن الظمأ والعرى، بل من المنغصات

____________________

١ - لاحظ لسان العرب: ١٥/١٤٠.

١١٠

والمشقات، وليس كل خيبة تتوجّه إلى الإنسان ناشئة من الذنب المصطلح، كما أنّه يحتمل أن يكون المراد منه هو الفساد، وبذلك فسّر ابن منظور المصري في لسانه قوله سبحانه:( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) أي فسد عليه عيشه(١) ، ولا شك أنّ العيش في الجنّة لا يقاس بالعيش في عالم المادة الذي هو دار الفساد والانحلال.

ولو سلم أنّ الغي بمعنى الضلال في مقابل الرشد، لكن ليس كل ضلال معصية، فإنّ من ضل في طريق الكسب أو في طريق التعلّم يصدق عليه أنّه غوى: أي ضل، ولكنّه لا يلازم المعصية.

وكان سيّدنا الأستاذ العلاّمة الطباطبائي - رضوان الله عليه - يقول في مجلس بحثه: إنّ لفظة( غَوى ) تعني الحالة التي تعرض للغنم عندما تنفصل عن القطيع فتبقى حائرة تنظر يميناً وشمالاً ولا تشق طريقاً لنفسها، وكان آدم أبو البشر حائراً بعد ما خالف نهي ربّه وابتلي بما ابتلي به لا يدري كيف يعالج مشكلته، وكيف يتخلّص من هذا المأزق الحرج ؟!

وبالجملة: فالغي إن أُريد منه الخروج عن جادّة التوحيد، والانحراف عمّا رسم للإنسان من الواجبات والمحرمات، فهو يلازم الكفر تارة والذنب أُخرى، ولكن ليس كل ضلال - على فرض كون الغي بمعنى الضلال - ملازماً للجرم والذنب، فمَن ضلّ عن الطريق وتاه عن مقاصده الدنيوية أو المصالح التي يجب أن ينالها، يصدق عليه أنّه( غَوى ) مقابل أنّه ( رشد ) ولكنّه لا يلازم المعصية المصطلحة.

ولا شك أنّ آدم بعدما أكل من الشجرة بدت له سوأته وخرج من الجنّة وهبط إلى دار الفساد، فعندئذ غوى في طريقه وضل عن مصلحته.

____________________

١ - لاحظ لسان العرب: ١٥/١٤٠، مادة ( غوى ).

١١١

وبالجملة: فهذه الوجوه الثلاثة المذكورة حول( غوى ) تثبت وهن الاستدلال بها على العصيان.

٥ - ما معنى قول آدمعليه‌السلام :( ربَّنَا ظَلَمنا أنْفُسَنا ) ؟

إنّ الظلم ليس إلاّ بمعنى وضع الشيء في غير موضعه، ومن أمثال العرب قولهم ( من أشبه أباه فما ظلم ) قال الأصمعي: الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وفي المثل ( مَن استرعى الذئب فقد ظلم ) ولأجل ذلك يُعد العدول عن الطريق ظلماً، يقال: ( لزموا الطريق فلم يظلموه) أي لم يعدلوا عنه(١) فإذا كان معنى الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه وتجاوز الحد، لا يلزم أن يكون كل ظلم ذنباً بل يشمله وغيره، فمن لم يسمع قول الناصح المشفق وعمل بخلاف قوله فقد وضع عمله في غير موضعه، كما أنّ مَن خالف النهي التنزيهي فقد عدل عن الطريق الصحيح.

وبالجملة: فكل مخالفة وانحراف عن طريق الصواب ظلم سواء أكان الأمر المخالف مولوياً أم إرشادياً، إلزامياً أم غيره.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يعد الظلم للنفس مقابلاً لعمل السوء، ويقول:( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً ) (٢) .

والآية تُعرب عن أنَّ الظلم للنفس ربّما يكون غير عمل السوء، وعند ذلك يتضح أنّ قول آدم: ( رَبَّنَا ظَلَمنَا أَنْفُسَنا ) لا يستلزم الاعتراف بالذنب؛ لأنّ الظلم

____________________

١ - لسان العرب: مادة ( ظلم ).

٢ - النساء: ١١٠.

١١٢

للنفس غير عمل السوء، فالأوّل موجب لحط النفس عن مكانتها ولا يستلزم تجاوزاً عن حدود الله، بخلاف عمل السوء فإنّه تجاوز على حدوده؛ وبذلك يعلم أنّ المراد من قوله سبحانه:( وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) (١) هو الظلم للنفس المستلزم لحط النفس عن مكانتها، في مقابل عمل السوء المستلزم للتجاوز على حدوده سبحانه.

٦ - ما المراد من قوله:( فتاب عليه ) ؟

( التوبة ) بمعنى الرجوع، فإذا نسبت إلى الله تتعدّى بكلمة ( على ) قال سبحانه:( لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيّ وَالمُهَاجِرِينَ والأنصار الّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ) (٢) ، أي رجع عليهم بالرحمة.

وإذا نسبت إلى العبد تتعدّى بكلمة ( إلى ) قال سبحانه:( فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) (٣) .

وقال سبحانه:( أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (٤) .

فإذا كانت التوبة بمعنى الرجوع، فعندما تعدّت ب- ( على ) يكون معنى قوله:( فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (٥) أنّ الله رجع عليه بالرحمة، فالتوبة في هذه الجملة توبة من الله على العبد لا من العبد إلى الله، ومعنى الأوّل هو رجوعه سبحانه على العبد باللطف والمرحمة.

____________________

١ - البقرة: ٣٥.

٢ - التوبة: ١١٧.

٣ - البقرة: ٥٤.

٤ - المائدة: ٧٤.

٥ - البقرة: ٣٧.

١١٣

ومثله قوله سبحانه:( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) (١) فالتوبة هنا من الله على عبده، ومعنى الآية أنّه سبحانه اصطفى آدم لأجل تلقّيه الكلمات وسؤاله بها، فعندئذ رجع الله عليه بالرحمة وهداه سبحانه وأخرجه من الغواية التي غشيته، والظلمة التي اكتنفته، لأجل عدم الإصغاء إلى نصحه سبحانه وتقديم نصح غيره عليه.

نعم إنّ لفظة( فَتَابَ عَلَيْهِ ) في سورتى البقرة وطه، دالة على أنَّ آدم ( تاب إلى ربه )، ولأجل توبته إلى الله ورجوعه إليه بالندامة، تاب الله عليه ورجع عليه بالرحمة والهداية، ولكن لا دلالة لكل رجوع وإنابة إلى الله، على وقوع الذنب وصدوره منه، خصوصاً بالنظر إلى ما قدّمناه في التفسير الثاني لمخالفة آدم، وقلنا إنَّ من الممكن أن يكون نفس العمل جائزاً ومباحاً ولكن يعد صدوره من بعض الشخصيات محظوراً وأمراً غير صحيح، فإنابة تلك الشخصيات إلى الله في تلك المجالات لا تعد دليلاً على صدور الذنب، بل تعد دليلاً على سعة علمها بالعظمة الإلهية؛ ولأجل ذلك يقال: ( حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّه ليران على قلبي وإنّي استغفر الله كل يوم سبعين مرّة )(٢) وليس هذا الاستغفار دليلاً على صدور الذنب، بل هو دليل على سعة علمه وعمق إدراكه لعظمة الله.

٧ - ما معنى الغفران في قوله:( وإن لم تغفر لنا ) ؟

بقيت هنا كلمة وهي توضيح قوله سبحانه:( وإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا

____________________

١ - طه: ١٢٢.

٢ - صحيح مسلم: ٨/٧٢، كتاب الذكر، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه وفيه: ( ليغان ) مكان ( ليران )، وهو من مادة ( الغين ) أي الستر.

١١٤

لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ) ، فربّما يتبادر إلى الذهن من هذا المقطع من الآية صدور الذنب من أبينا آدمعليه‌السلام ، فنقول: لا دلالة فيه ولا في واحدة من كلماته على ما يتوخّاه الخصم، وإليك بيان هدف الآية ومفرداتها.

أمّا الغفران فإنّ أصله ( الغفر ) بمعنى التغطية والستر، يقال: غفره، يغفره، غفراً: ستره، وكل شيء سترته فقد غفرته، فإذا كان الغفران بمعنى الستر فلا ملازمة بين الستر والذنب، فإنّ المستور ربّما يكون ذنباً وربّما يكون أمراً جائزاً غير مترقّب الصدور من الإنسان؛ ولأجل ذلك طلب آدم من الله سبحانه على عادة الأولياء والصالحين في استصغارهم ما يقومون به من الحسنات واستعظامهم الصغير من العيوب فقال:( وإن لم تغفر لنا ) أي لم تستر عيبنا ولم( ترحمنا ) أي لم ترجع علينا بالرحمة( لنكوننّ من الخاسرين ) ولا شك أنّ آدم قد خسر النعيم الذي كان فيه، بسبب عدم سماعه لنصح الله سبحانه؛ ولأجل ذلك طفق يطلب منه أن يرجع عليه بالمغفرة أي بستر عيبه، والرحمة أي بإخراجه من الخسران الذي عرض له.

إذا وقفت على ما ذكرنا حول هذه الآيات والجمل وتأمّلت فيها بإمعان ودقّة، يظهر لك أنّ الاستدلال بها على صدور الذنب المصطلح من آدم من غرائب الاستدلالات وعجائبها، ولا يصح لباحث أن يُفسّر آية دون أن يستعين لفهمها بأُختها، وبذلك يتضح أنّ ما سلكناه من المنهج في تفسير القرآن، هو الطريق الصحيح الذي يرفع النقاب عن وجوه كثير من الحقائق التي قد تخفى على الباحثين، وهذا الطريق هو تفسير كتابه سبحانه بالتفسير الموضوعي، أي جمع الآيات الواردة في موضوع واحد وعرض بعضها على بعض.

١١٥

عصمة آدمعليه‌السلام وجعل الشريك لله !

قد وقفت على أعظم شبه المخطّئة للأنبياء، كما وقفت على الجواب عنها، فهلم معي ندرس شبهة أُخرى لهم جعلوها ذريعة لفكرتهم الفاسدة حيث استدلّوا على عدم عصمة آدمعليه‌السلام بقوله سبحانه:( هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيَما آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُون * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (١) .

استدل المخطّئة لعصمة الأنبياء بقوله سبحانه:( فَلَمَّا آتاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ ) قائلين بأنّ ضمير التثنية في كلا الموردين يرجع إلى آدم وحواء اللّذين أُشير إليهما بقوله سبحانه في صدر الآية:( مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) .

ولكن الاستدلال بالآية مبني على القول بأنّ المراد من ( مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) هي الواحدة الشخصية لا الواحدة النوعية، أعنى كل أب وأُم بالنسبة إلى أولادهما، ولكن القرائن تشهد بأنّ المراد هو الواحد النوعي لا الشخصي.

توضيح ذلك: أنّ تلك اللفظة قد استعملت في القرآن الكريم بوجهين:

الأوّل: ما أُريد منه الواحد الشخصي كقوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً

____________________

١ - الأعراف: ١٨٩ - ١٩٢.

١١٦

وَنِسَاءً ) (١) فالمراد من ( نفس واحدة ) هو آدم، ومعنى خلق الزوجة منها كونها من جنسها، والدليل على أنّ المراد هو الواحد الشخصي قوله:( وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء ) والمعنى أنّه سبحانه خلق الخلق من أب واحد وأُم واحدة، فهذه الجماهير على كثرتها تنتهي إليهما ومثله قوله سبحانه:( يا أَيُّها النَّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعارَفُوا ) (٢) .

الثاني: ما أُريد منه الواحد النوعي أي الأب لكل إنسان ومثله الأُم، وذلك مثل قوله:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُم مِنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَث ) (٣) ، فالمراد من (نفس واحدة ) هو الواحد النوعي، والمراد أنّ كل واحد منّا قد ولد من أب واحد وأُم واحدة، والدليل على ذلك قوله سبحانه:( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَث ) .

ومثلها الآية المبحوث عنها في المقام، إذ ليس المراد منها شخص آدم أبي البشر بعينه، بل المراد والد كل إنسان ووالدته، فالجنسان يتقاربان ويتولّد منهما الولد، وتدل على ما اخترنا من المعنى قرائن في نفس الآيات.

الأُولى : إنّ الآية وقعت في عداد الآيات التي تعرب عن الميثاق الذي أعطاه الإنسان لربّه في شرائط خاصّة، ولكنّه حينما نال النعم ورفل فيها، طفق ينقض ميثاقه، وهذه طبيعة الإنسان المجهّز بالغرائز، ويشير إليها قوله سبحانه:( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ) (٤) ،

____________________

١ - النساء: ١.

٢ - الحجرات: ١٣.

٣ - الزمر: ٦.

٤ - فصلت: ٥١.

١١٧

فإذا كانت هذه طبيعة الإنسان فلا يبعد أن يسأل الله أن يرزقه ولداً صالحاً، معطياً لله ميثاقاً بأن يشكره على تلك النعمة، ولكنّه عندما ينال النعمة يجعل له شركاء فيما آتاه، وعلى ذلك فالآية جارية مجرى المثل المضروب لبني آدم في نقضهم ميثاقهم الذي واثقوه به.

والدليل على أنّ الآية واردة في ذاك المجال، ما ورد قبل هذه الآية من حديث الميثاق الذي أعطاه الإنسان لربّه ولكنّه نقضه بعده قال سبحانه قبيل هذه الآيات:( وَإِذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرّيّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ ) (١) .

والميثاق الذي ورد في الآية، معطوف على ذلك الميثاق الذي ورد في الآيتين، وهذا دليل واضح على أنّ المراد هو تعريف طبيعة الإنسان وتوصيفها بالتعهّد أوّلاً، والنقض ثانياً، وليس بصدد بيان حال الإنسان الشخصي، أعني: أبانا آدم.

الثانية : إنّ سياق الآية ولحنها يوحيان بأنّ الشخص الذي سأل الله أن يرزقه ولداً صالحاً، كان يعيش في بيئة كان فيها آباء وأولاد بين صالح وطالح، فنظر إليهم فتمنّى أنْ يرزقه الله ولداً صالحاً على غرار ما رآه، غير أنّه لمّا رزقه الله ذلك الولد الصالح، نقض ميثاقه أي شكره لله على ما رزقه من صالح الأولاد، وهذا غير صادق في شأن أبينا آدم وأُمّنا حواء؛ إذ لم يكن في بيئتهم آباء وأولاد صالحون وطالحون حتى يتمنّيا لنفسهما ولداً مثل ما رزقهم الله سبحانه.

الثالثة : إنّ ذيل الآية يشهد بوضوح على أنّها غير مرتبطة بصفي الله آدم ؛

____________________

١ - الأعراف: ١٧٢ - ١٧٣.

١١٨

وذلك لأنّه سبحانه يقول في ذيلها:( فَتَعَالى الله عَمَّا يُشْرِكُون ) ، فلو كان المراد من النفس وزوجها في الآية شخصين معيّنين كآدم وحواء، كان من حق الكلام أن يقول:( فتعالى الله عمّا يشركان ) وهذا بخلاف ما أُريد من النفس وزوجها، الطبيعة الإنسانية في جانبي الذكر والأنثى، إذ حينئذ يصح الجمع لكثرة أفراده.

الرابعة : إنّه سبحانه يقول:( أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ) ، ومن المعلوم أنّ المراد من الشرك هو الشرك في العبادة، وحاشا أنْ يكون آدم صفي الله مشركاً في العبادة، كيف ؟ وقد وصفه الله سبحانه بالاجتباء حيث قال:( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيهِ وَهَدَى ) (١) ، وقال سبحانه:( وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) (٢) وقال سبحانه:( ومن يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ) (٣) ، وقال أيضاً:( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ) (٤) .

كل هذه الآيات تشهد بوضوح على أنّ الآية تهدف إلى ذكر القصة على سبيل ضرب المثل، وبيان أنّ هذه الحالة صورة تعم جميع الأفراد من الإنسان، إلاّ مَن التجأ إلى الإيمان، فكأنّه سبحانه يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية، فلمّا تغشى الزوج الزوجة وظهر الحمل دعوا ربّهما بأنّه سبحانه لو آتاهما ولداً صالحاً سوياً ليكونا من الشاكرين لآلائه ونعمائه، فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً جعل الزوج والزوجة لله شركاء في ذلك الولد الذي آتاهما، فتارة نسبوه إلى الطبيعة كما هو قول الدهريين، وأُخرى إلى الكواكب كما هو قول المنجّمين، وثالثة إلى الأصنام كما هو

____________________

١ - طه: ١٢٢.

٢ - الإسراء: ٩٧.

٣ - الزمر: ٣٧.

٤ - الأحقاف: ٥.

١١٩

قول عبدتها، فردَّ الله سبحانه على تلك المزاعم بقوله:( فَتَعَالى الله عَمَّا يُشْرِكُون ) (١) وعلى ما ذكرنا يحتمل أن يكون المراد من الشرك هو الشرك في التدبير، ومثل هذا لا يليق أن ينسب إلى من هو دون الأنبياء والأولياء، فكيف يمكن أن يوصف به صفي الله آدمعليه‌السلام ؟!

وأقصى ما يمكن أن يقال هو أنّ المراد من النفس الواحدة وزوجها في صدر الآية هو آدم وحواء الشخصيّان، ولكنّه سبحانه عندما انتهى إلى قوله:( ليسكن إليها ) التفت من شخصهما إلى مطلق الذكور والإناث من أولادهما أو إلى خصوص المشركين من نسلهما، فيكون تقدير الكلام( فلما تغشاها ) أي تغشى الزوج الزوجة من نسلهما( حملت حملاً خفيفا فمرت به ) إلى آخر الآية.

وهذا ما يسمّى في علم المعاني بالالتفات، وله نظائر في القرآن الكريم قال تعالى:( هُوَ الذي يُسَيّرُكُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ حَتّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ ) (٢) ترى أنّه سبحانه خاطب الجماعة بالتسيير ثم خصّ راكب البحر بأمر آخر ومثله الآية، ترى أنّه سبحانه أخبر عن عامّة أمر البشر بأنّهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها وهما آدم وحواء، ثم ساق الكلام إلى مطلق ذرّيّة آدم من البشر.

وهذا الوجه نقله المرتضى في ( تنزيه الأنبياء ) عن أبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني(٣) .

وتوجد وجوه أُخر في تفسير الآية غير تامّة(٤) وفيما ذكرنا غنى وكفاية.

____________________

١ - مفاتيح الغيب: ٤/٣٤٣.

٢ - يونس: ٢٢.

٣ - تنزيه الأنبياء: ١٦.

٤ - لاحظ مفاتيح الغيب: ٤/٣٤١ - ٣٤٣؛ مجمع البيان: ٤/٥٠٨ - ٥١٠؛ أمالي المرتضى: ١٣٧ - ١٤٣.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

بأمره ، وهو خير الحاكمين(1) .

ونهض أبيّ الضيم ، وترك معاوية يتميّز مِن الغيظ ، وقد استبان له أنّه لا يتمكّن أنْ يخدع الإمام الحُسين (عليه السّلام) ويأخذ البيعة منه.

إرغامُ المعارضين :

وغادر معاوية يثرب متّجهاً إلى مكّة وهو يطيل التفكير في أمر المعارضين ، فرأى أنْ يعتمد على وسائل العنف والإرهاب ، وحينما وصل إلى مكّة أحضر الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، وعرض عليهم مرّة أُخرى البيعة إلى يزيد فأعلنوا رفضهم له ، فانبرى إليهم مغضباً ، وقال : إنّي أتقدّم إليكم أنّه قد أُعذِرَ مَنْ أنذر. كنتُ أخطب فيكم فيقوم إليّ القائم منكم فيكذّبني على رؤوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح ، وإنّي قائم بمقالة فأُقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتّى يسبقها السّيف إلى رأسه ، فلا يسبقني رجل إلاّ على نفسه.

ودعا صاحب حرسه بحضرتهم ، فقال له : أقم على رأس كلّ رجل مِن هؤلاء رجلين ، ومع كلّ واحد سيف ، فإنْ ذهب رجل منهم يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما.

ثمّ خرج وخرجوا معه ، فرقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتزّ أمرٌ دونهم ،

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٢٢١

ولا يُقضى إلاّ عن مشورتهم ، وإنّهم رضوا وبايعوا ليزيد ، فبايعوا على اسم الله.

فبايعه الناس ، ثمّ ركب رواحله وغادر مكّة(1) ، وقد حسب معاوية أنّ الأمر قد تمّ لولده ، واستقر المُلْكُ في بيته ، ولمْ يعلم أنّه قد جرّ الدمار على دولته ، وأعدّ المجتمع للثورة على حكومة ولده.

موقفُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

كان موقف الإمام الحُسين (عليه السّلام) مع معاوية يتّسم بالشدّة والصرامة ، فقد أخذ يدعو المسلمين بشكل سافر إلى مقاومة معاوية ، ويحذّرهم مِنْ سياسته الهدّامة ، الحاملة لشارات الدمار إلى الإسلام.

وفودُ الأقطار الإسلاميّة :

وأخذت الوفود تترى على الإمام (عليه السّلام) مِنْ جميع الأقطار الإسلاميّة وهي تعجّ بالشكوى إليه ، وتستغيث به ممّا ألمّ بها مِن الظلم والجور ، وتطلب منه القيام بإنقاذها مِن الاضطهاد.

ونقلت الاستخبارات في يثرب إلى السّلطة المحلية تجمّع الناس واختلافهم على الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وكان الوالي مروان ، ففزع مِنْ ذلك وخاف إلى حدٍّ بعيدٍ.

__________________

(1) الكامل 3 / 252 ، الأمالي 2 / 73 ، ذيل الأمالي / 177 ، عيون الأخبار 2 / 210 ، البيان والتبيين 1 / 300.

٢٢٢

مذكّرةُ مروان لمعاوية :

ورفع مروان مذكّرة لمعاوية سجّل فيها تخوّفه مِنْ تحرك الإمام (عليه السّلام) ، واختلاف الناس عليه ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فقد كثُر اختلاف الناس إلى حُسين ، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً(1) .

جوابُ معاوية :

وأمره معاوية بعدم القيام بأيّ حركة مضادّة للإمام (عليه السّلام) ، فقد كتب إليه : اترك حُسيناً ما تركك ولمْ يُظهر لك عداوته ويبد صفحته ، وأكمن عنه كمون الثرى إنْ شاء الله ، والسّلام(2) .

لقد خاف معاوية مِنْ تطور الأحداث ، فعهد إلى مروان بعدم التعرّض له بأيّ أذى أو مكروه.

رأيُ مروان في إبعاد الإمام (عليه السّلام) :

واقترح مروان على معاوية إبعاد الإمام (عليه السّلام) عن يثرب ، وفرض الإقامة الجبرية عليه في الشام ؛ ليقطعه عن الاتصال بأهل العراق ، ولمْ يرتضِ معاوية ذلك ، فردّ عليه : أردت والله أنْ تستريح منه وتبتليني به ، فإنْ صبرت عليه صبرت على ما أكره ، وإنْ أسأت إليه قطعت رحمه(3) .

__________________

(1) و (2) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(3) العقد الفريد 2 / 116.

٢٢٣

رسالةُ معاوية للحُسين (عليه السّلام) :

واضطرب معاوية مِنْ تحرك الإمام (عليه السّلام) واختلاف الناس عليه ، فكتب إليه رسالة ، وقد رويت بصورتين :

1 ـ رواها البلاذري ، وهذا نصّها : أمّا بعد ، فقد أُنهيت إليّ عنك اُمورٌ إنْ كانت حقّاً فإنّي لمْ أظنّها بك ؛ رغبة عنها ، وإنْ كانت باطلة فأنت أسعد الناس بمجانبتها ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله توفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكِدْكَ ، فاتّقِ الله يا حُسين في شقّ عصا الأُمّة ، وأنْ ترِدهم في فتنة(1) .

2 ـ رواها ابن كثير ، وهذا نصّها : إنّ مَنْ أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء ، وقد أُنبئتُ أنّ قوماً مِنْ أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق ، وأهل العراق مَنْ قد جرّبت ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك ، فاتّقِ الله واذكر الميثاق ؛ فإنّك متى تكدْني أكِدْكَ(2) .

واحتوت هذه الرسالة حسب النّص الأخير على ما يلي :

1 ـ أنّ معاوية قد طالب الإمام (عليه السّلام) بتنفيذ ما شرطه عليه في بنود الصلح أنْ لا يخرج عليه ، وقد وفّى له الإمام (عليه السّلام) بذلك ، إلاّ أنّ معاوية لمْ يفِ بشيء ممّا أبرمه على نفسه مِنْ شروط الصلح.

2 ـ أنّ معاوية كان على علمٍ بوفود أهل الكوفة التي دعت الإمام (عليه السّلام) للخروج عليه ، وقد وسمهم بأنّهم أهل الشقاق ، وأنّهم قد غدروا بعلي والحسن (عليهما السّلام) مِنْ قبل.

3 ـ التهديد السافر للإمام (عليه السّلام) بأنّه متى كاد معاوية فإنّه يكيده.

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(2) تاريخ ابن كثير 8 / 162.

٢٢٤

جوابُ الإمام (عليه السّلام) :

ورفع الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت جواباً لرسالته ، حمّله مسؤوليات جميع ما وقع في البلاد مِن سفك الدماء ، وفقدان الأمن ، وتعريض الأُمّة للأزمات ، وهي مِنْ أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت مِنْ معاوية ، وهذا نصّها :

«أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور أنت عنها راغب ، وأنا بغيرها عندك جدير ، وإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يُسدّد إليها إلاّ الله تعالى.

أمّا ما ذكرت أنّه رقي إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون ، المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون. ما أردت لك حرباً ، ولا عليك خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ألست القاتل حِجْرَ بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا يُنكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظُلماً وعدواناً مِنْ بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكدة ؛ جرأة على الله واستخفافاً بعهده؟!

أوَلست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه واصفرّ لونه ، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت مِنْ رؤوس الجبال؟!

أوَلست بمدّعي زياد بن سُميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الولد للفراش ، وللعاهر الحَجَرَ

٢٢٥

فتركت سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعمّداً ، وتبعت هواك بغير هدىً مِن الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ، ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسملُ أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النّخل ، كأنّك لست مِنْ هذه الأُمّة ، وليسوا منك؟!

أوَلست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زيادٌ أنّه على دين علي (عليه السّلام) ، فكتبت إليه أنْ اقتل كلّ مَنْ كان على دين علي. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودينُ علي هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين ؛ رحلة الشتاء والصيف؟!

وقلتَ فيما قلت : انظر لنفسك ودينك ولأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، واتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة وأنْ تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأُمّة مِنْ ولايتك عليها ، ولا أعظم لنفسي ولديني ولأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل مِنْ أنْ أجاهرك ؛ فإنْ فعلتُ فإنّه قربة إلى الله ، وإنْ تركته فإنّي استغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلتَ فيما قلت : إنّني إنْ أنكرتك تنكرني ، وإنْ أكِدْك تكدني. فكِدْني ما بدا لك ؛ فإنّي أرجو أنْ لا يضرّني كيدك ، وأنْ لا يكون على أحدٍ أضر منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك.

ولعمري ما وفيتَ بشرطٍ ، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النّفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان ، والعهود والمواثيق ، فقتلتهم مِنْ غير أنْ يكونوا قاتَلوا وقُتِلوا ، ولمْ تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا ، وتعظيمهم حقّنا ؛ مخافة أمر لعلّك لو لمْ تقتلهم متّ قبل أنْ يفعلوا ، أو ماتوا قبل أنْ يدركوا.

٢٢٦

فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها. وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءَه على التّهم ، ونفيك إيّاهم مِنْ دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام الحدث ، يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك ، وتبرتَ دينك(1) ، وغششت رعيتك ، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل ، وأخفت الورع التّقي ، والسّلام»(2) .

لا أكاد أعرف وثيقةً سياسةً في ذلك العهد عرضت لعبث السلطة ، وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية ، والدماء التي سفكها ، والنفوس التي أرعبها غير هذه الوثيقة ، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.

واللهِ كم هي هذه الكلمة رقيقة شاعرة «كأنّك لست مِنْ هذه الأُمّة وليسوا مِنك». هذه الكلمة المشبعة بالشعور القومي الشريف ، وقديماً قال الصابي : إنّ الرجل مِنْ قومٍ ليست له أعصاب تقسو عليهم. وهو اتّهام مِن الحُسين لمعاوية في وطنيته وقوميته ، واتّخذ مِن الدماء الغزيرة المسفوكة عنواناً على ذلك(3) .

لقد حفلت هذه المذكّرة بالأحداث الخطيرة التي اقترفها معاوية وعمّاله ، خصوصاً زياد بن سُميّة الذي نشر الإرهاب والظلم بين الناس ؛ فقتل على الظنّة والتّهمة ، وأعدم كلّ مَنْ كان على دين الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي هو دين ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أسرف هذا الطاغية في سفك الدماء بغير حقّ.

ومِن الطبيعي أنّه لمْ يقترف ذلك إلاّ بإيعاز مِنْ معاوية ، فهو الذي عهد إليه بذلك.

__________________

(1) تبرت : أهلكت دينك.

(2) الإمامة والسياسة 1 / 284 ، رجال الكشّي / 32 ، الدرجات الرفيعة / 334.

(3) الإمام الحُسين (عليه السّلام) / 338.

٢٢٧

صدى الرسالة :

ولمّا انتهت رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية ضاق بها ذرعاً ، وراح يراوغ على عادته ، ويقول : إنّ أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً(1) .

المؤتمرُ السياسي العام :

وعقد الإمام (عليه السّلام) في مكة مؤتمراً سياسياً عامّاً ، دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ ؛ مِن المهاجرين والأنصار ، والتابعين وغيرهم مِن سائر المسلمين ، فانبرى (عليه السّلام) خطيباً فيهم ، وتحدّث ببليغ بيانه بما ألمّ بعترة النّبي (صلّى الله عليه وآله) وشيعتهم مِن المحن والخطوب التي صبّها عليهم معاوية ، وما اتّخذه مِن الإجراءات المشدّدة مِنْ إخفاء فضائلهم ، وستر ما أُثِرَ عن الرسول الأعظم في حقّهم ، وألزم حضّار مؤتمره بإذاعة ذلك بين المسلمين ، وفيما يلي نصّ حديثه ، فيما رواه سليم بن قيس :

قال : ولمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، فجمع الحُسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ، ومَنْ حجّ مِن الأنصار ممّن يعرفهم الحُسين وأهل بيته ، ثمّ أرسل رسلاً ، وقال لهم : «لا تدَعوا أحداً حجّ العام مِنْ أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، المعروفين بالصلاح والنُّسك إلاّ اجمعوهم لي». فاجتمع إليه بمِنى أكثر مِنْ سبعمئة رجل وهم في سرادق ، عامّتهم مِن التابعين ، ونحو مِنْ مئتي رجل مِنْ أصحاب النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد ، فإنّ هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد فعل بنا وبشيعتنا

__________________

(1) سير أعلام النبلاء 3 / 198.

٢٢٨

ما قد رأيتم ، وعلمتم وشهدتم ، وإنّي أُريد أنْ أسألكم عن شيء ؛ فإنْ صدقت فصدّقوني ، وإنْ كذبت فكذّبوني. اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ، فمَنْ أمنتم مِن الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون مِنْ حقّنا ؛ فإنّي أتخوف أنْ يُدرسَ هذا الأمر ويُغلب ، والله مُتِمّ نوره ولو كرِه الكافرون».

وما ترك شيئاً ممّا أنزله الله فيهم مِن القران إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أبيه وأخيه وفي نفسه وأهل بيته (عليهم السّلام) إلاّ رواه ، وكلّ ذلك يقول أصحابه : اللهمّ نعم ، قد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعي : اللهمّ قد حدّثني به مَنْ أُصدّقه وأئتمنه مِن الصحابة. فقال (عليه السّلام) : «أنشدُكم اللهَ إلاّ حدّثتم به مَنْ تثقون به وبدينه»(1) .

وكان هذا المؤتمر أوّل مؤتمر إسلامي عرفه المسلمون في ذلك الوقت ، وقد شجب فيه الإمام (عليه السّلام) سياسة معاوية ، ودعا المسلمين لإشاعة فضائل أهل البيت (عليهم السّلام) ، وإذاعة مآثرهم التي حاولت السّلطة حجبها عن المسلمين.

رسالةُ جعدة للإمام (عليه السّلام) :

وكان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب مِنْ أخلص الناس للإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وأكثرهم مودّة له ، وقد اجتمعت عنده الشيعة وأخذوا يلحّون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم ؛ ليعلن الثورة على حكومة معاوية.

ورفع جعدة رسالةً للإمام (عليه السّلام) ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ مِنْ قِبَلِنا مِنْ شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك ، لا يعدلون بك أحداً ، وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب ، وعرفوك باللين

__________________

(1) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 2 / 216 ـ 217.

٢٢٩

لأوليائك ، والغلظة على أعدائك ، والشدّة في أمر الله ، فإنْ كنت تحبّ أنْ تطلب هذا الأمر فاقدم علينا ؛ فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك.

جوابُ الإمام (عليه السّلام) :

ولم يكن مِنْ رأي الإمام الحُسين (عليه السّلام) الخروج على معاوية ؛ وذلك لعلمه بفشل الثورة وعدم نجاحها ؛ فإنّ معاوية بما يملك مِنْ وسائل دبلوماسية وعسكرية لا بدّ أنْ يقضي عليها ، ويخرجها مِنْ إطارها الإسلامي إلى حركة غير شرعية ، ويوسم القائمين بها بالتمرّد والخروج على النظام ، وقد أجابهم (عليه السّلام) بعد البسملة والثناء على الله بما يلي :

«أمّا أخي فإنّي أرجو أنْ يكون الله قد وفّقه وسدّده ، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا مِن الظنّة ما دام معاوية حيّاً ، فإنْ يُحدث الله به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي ، والسّلام»(1) .

لقد أمر (عليه السّلام) شيعته بالخلود إلى الصبر ، والإمساك عن المعارضة ، وأنْ يلزموا بيوتهم خوفاً عليهم مِن سلطان معاوية الذي كان يأخذ البريء بالسّقيم ، والمُقبل بالمُدبر ، ويقتل على الظنّة والتهمة. وأكبر الظنّ أنّ هذه الرسالة كانت في عهد زياد الذي سمل عيون الشيعة ، وصلبهم على جذوع النخل ، ودمّرهم تدميراً ساحقاً.

__________________

(1) الأخبار الطوال / 203 ، أنساب الأشراف 1 / ق 1.

٢٣٠

نصيحةُ الخدري للإمام (عليه السّلام) :

وشاعت في الأوساط الاجتماعية أنباء وفود أهل الكوفة على الإمام الحُسين (عليه السّلام) واستنجادهم به لإنقاذهم مِن ظلم معاوية وجوره ، ولمّا علم أبو سعيد الخدري بذلك خفّ مسرعاً للإمام (عليه السّلام) ينصحه ويحذّره ، وهذا نص حديثه : يا أبا عبد الله ، إنّي أنا ناصح ، وإنّي عليكم مشفق ، وقد بلغني أنّه قد كاتبك قوم مِنْ شيعتكم بالكوفة يدعونكم إلى الخروج إليهم ، فلا تخرج إليهم ؛ فإنّي سمعت أباك يقول بالكوفة : «والله لقد مللتهم وأبغضتهم ، وملّوني وأبغضوني ، وما يكون منهم وفاء قط ، ومَنْ فاز به فاز بالسّهم الأخيب. والله ما لهم ثبات ولا عزم على أمر ، ولا صبر على السّيف»(1) .

وليس مِنْ شك في أنّ أبا سعيد الخدري كان مِنْ ألمع أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وأكثرهم إخلاصاً وولاءً لأهل البيت (عليهم السّلام) ، وقد دفعه حرصه على الإمام الحُسين (عليه السّلام) وخوفه عليه مِنْ معاوية أنْ يقوم بالنصيحة له في عدم خروجه على معاوية. ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا جواب الإمام الحُسين (عليه السّلام) له.

استيلاءُ الحُسين (عليه السّلام) على أموال للدولة :

وكان معاوية يُنفق أكثر أموال الدولة على تدعيم مُلْكه ، كما كان يهبُ الأموالَ الطائلة لبني أُميّة لتقوية مركزهم السياسي والاجتماعي ، وكان الإمام الحُسين (عليه السّلام) يشجب هذه السياسة ، ويرى ضرورة إنفاذ الأموال مِنْ معاوية وإنفاقها على المحتاجين. وقد اجتازت على يثرب أموال مِن اليمن إلى خزينة دمشق ، فعمد الإمام (عليه السّلام) إلى الاستيلاء عليها ، ووزّعها على

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 161 ، تاريخ ابن عساكر 13 / 67.

٢٣١

المحتاجين مِنْ بني هاشم وغيرهم ، وكتب إلى معاوية :

«مِن الحُسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان. أمّا بعد ، فإنّ عيراً مرّت بنا مِن اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليك ، لتودعها خزائن دمشق ، وتعل بها بعد النهل بني أبيك ، وإنّي احتجت إليها فأخذتها ، والسّلام».

وأجابه معاوية : مِنْ عبد الله معاوية إلى الحُسين بن علي. أمّا بعد ، فإنّ كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك مِن اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليّ لأودعها خزائن دمشق ، وأعل بها بعد النهل بني أبي ، وإنّك احتجت إليها فأخذتها ، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ ؛ لأنّ الوالي أحقّ بالمال ، ثمّ عليه المخرج منها. وأيم الله ، لو تركت ذلك حتى صار إليّ لمْ أبخسك حظّلك منها ، ولكنّني قد ظننت يابن أخي أنّ في رأسك نزوة ، وبودّي أنْ يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك ، ولكنّني والله ، أتخوّف أنْ تُبلى بمَنْ لا ينظرك فواق ناقة.

وكتب في أسفل كتابه هذه الأبيات :

يا حُسينُ بنَ عليٍّ ليس ما

جئتَ بالسائغِ يوماً والعلل

أخذكَ المالَ ولمْ تُؤمر بهِ

إنّ هذا مِنْ حُسينٍ لَعجلْ

قد أجزناها ولمْ نغضبْ لها

واحتملنا مِنْ حُسينٍ ما فعلْ

يا حُسينُ بنَ عليٍّ ذا الأملْ

لك بعدي وثبةٌ لا تُحتملْ

وبودّي أنّني شاهدُها

فإليها مِنك بالخلقِ الأجلْ

إنّني أرهبُ أنْ تصلَ بمَنْ

عنده قد سبق السيفُ العذلْ(1)

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 4 / 327 الطبعة الأولى.

٢٣٢

وفي هذا الكتاب تهديد للإمام بمَنْ يخلف معاوية ، وهو ابنه يزيد ، الذي لا يؤمن بمقام الحُسين ومكانته مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وعلى أيّ حالٍ ، فقد قام الإمام بإنقاذ هذه الأموال مِنْ معاوية وأنفقها على الفقراء ، في حين أنّه لمْ يكن يأخذ لنفسه أيّ صلة مِنْ معاوية ، وقد قدّم له مالاً كثيراً وثياباً وافرة وكسوة فاخرة ، فردّ الجميع عليه(1) .

وقد روى الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) أنّ الحسن والحُسين كانا لا يقبلان جوائز معاوية(2) .

حديثٌ موضوع :

مِن الأخبار الموضوعة ما روي أنّ الإمام الحُسين وفد مع أخيه الحسن على معاوية فأمر لهما بمئة ألف درهم ، وقال لهم : خُذاها وأنا ابن هند ، ما أعطاها أحدٌ قبلي ، ولا يُعطيها أحد بعدي.

فانبرى إليه الإمام الحُسين قائلاً : «والله ، ما أعطى أحدٌ قبلك ولا بعدك لرجلين أشرف منّا».

ولا مجال للقول بصحة هذه الرواية ، فإنّ الإمام الحُسين (عليه السّلام) لمْ يفد على معاوية بالشام ، وإنّما وفد عليه الإمام الحسن (عليه السّلام) لا لأجل الصلة والعطاء ، كما يذهب لذلك بعض السذّج مِن المؤرّخين ، وإنّما كان الغرض إبراز الواقع الاُموي والتدليل على مساوئ معاوية ، كما أثبتت ذلك

__________________

(1) الحُسين ـ لعلي جلال 1 / 117.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) 2 / 332.

٢٣٣

مناظراته مع معاوية وبطانته ، والتي لمْ يقصد فيها إلاّ تلك الغاية ، وقد أوضحنا ذلك بصورة مفصلّة في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

الحُسين مع بني أُميّة :

كانت العداوة بين الحُسين وبين بني أُميّة ذاتية ، فهي عداوة الضد للضد ، وقد سأل سعيد الهمداني الإمام الحُسين عن بني أُميّة ، فقال (عليه السّلام) : «إنّا وهم الخصمان اللذان اختصما في ربّهم»(1) .

أجل ، إنّهما خصمان في أهدافهم ، وخصمان في اتّجاههم ، فالحُسين (عليه السّلام) كان يُمثّل جوهر الإيمان بالله ، ويُمثّل القيم الكريمة التي يشرف بها الإنسان ، وبنو أُميّة كانوا يُمثّلون مساوئ الجاهلية التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق ، وكان الاُمويّون بحسب طباعهم الشريرة يحقدون على الإمام الحُسين ، ويبالغون في توهينه ، وقد جرت منازعة بين الحُسين وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في مال كان بينهما فتحامل الوليد على الحُسين في حقّه ، فثار الإمام في وجهه ، وقال : «أحلف بالله لتنصفي مِنْ حقّي أو لآخذنّ سيفي ، ثمّ لأقومنّ في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأدعونّ بحلف الفضول».

لقد أراد أنْ يُحيي حلف الفضلول الذي أسسه الهاشميون ، والذي كان شعاره إنصاف المظلومين والأخذ بحقوقهم ، وقد حاربه الاُمويّون في جاهليتهم ؛ لأنّه يتنافى مع طباعهم ومصالحهم.

وانبرى عبد الله بن الزّبير فانضمّ للحُسين وانتصر له ، وقال :

__________________

(1) الكنى والأسماء ـ لأبي بشر الدولابي 1 / 77.

٢٣٤

وأنا أحلف بالله ، لئن دعا به لآخذنّ سيفي ثمّ لأقومنّ معه حتى ينتصف مِنْ حقّه أو نموت جميعاً.

وبلغ المسوّر بن مخرمة بن نوفل الزهري الحديث فانضمّ للحُسين وقال بمثل مقالته ، وشعر الوليد بالوهن والضعف فتراجع عن غيّه ، وأنصف الحُسين (عليه السّلام) مِنْ حقّه(1) .

ومِنْ ألوان الحقد الاُموي على الحُسين أنّه كان جالساً في مسجد النّبي (صلّى الله عليه وآله) فسمع رجلاً يُحدّث أصحابه ، ويرفع صوته ليُسمع الحُسين ، وهو يقول : إنّا شاركنا آل أبي طالب في النّبوة حتّى نلنا مِنها مثلَ ما نالوا مِنها مِن السّبب والنّسب ، ونلنا مِن الخلافة ما لمْ ينالوا فبِمَ يفخرون علينا؟

وكرّر هذا القول ثلاثاً ، فأقبل عليه الحُسين ، فقال له : «إنّي كففت عن جوابك في قولك الأول حلماً ، وفي الثاني عفواً ، وأمّا في الثالث فإنّي مجيبك. إنّي سمعت أبي يقول : إنّ في الوحي الذي أنزله الله على محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، إذا قامت القيامة الكبرى حشر الله بني أُميّة في صوَرِ الذر يطؤهم الناس حتى يفرغ مِن الحساب ، ثمّ يُؤتى بهم فيحاسبوا ويُصار بهم إلى النار»(2) . ولمْ يطق الاُموي جواباً وانصرف وهو يتميّز مِن الغيظ.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن موقف الإمام مع معاوية وبني أُميّة ، ونعرض فيما يلي إلى وفاة معاوية وما رافقها مِن الأحداث.

__________________

(1) سيرة ابن هشام 1 / 142.

(2) المناقب والمثالب للقاضي نعمان المصري / 61.

٢٣٥

مرضُ معاوية :

ومرض معاوية وتدهورت صحته ، ولمْ تُجْدِ معه الوصفات الطيبة ، فقد تناهبت جسمه الأمراض ، وقد شعر بدنوّ أجله ، وكان في حزن على ما اقترفه في قتله لحِجْرِ بن عَدِي ، فكان ينظر إليه شبحاً مخيفاً ، وكان يقول :

ويلي مِنكَ يا حِجْر! إنّ لي مع ابن عَدِي ليوماً طويلاً(1) ، وتحدّث الناس عن مرضه ، فقالوا : إنّه الموت ، فأمر أهله أنْ يحشوا عينيه أثمداً ، ويسبغوا على رأسه الطيب ويجلسوه ، ثمّ أذن للناس فدخلوا وسلّموا عليه قياماً ، فلمّا خرجوا مِنْ عنده أنشد قائلاً :

وتجلُّدي للشامتين أريهمُ

أنّي لريبِ الدهرِ لا اتضعضعُ

فسمعه رجل مِن العلويِّين فأجابه :

وإذا المنيّةُ أنشبتْ أظفارَها

ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ(2)

وصاياه :

ولمّا ثقل حال معاوية عهد بوصيته إلى يزيد ، وقد جاء فيها : يا بُني ، إنّي قد كفيتك الشرّ والترحال ، ووطأت لك الأمور وذللت لك الأعداء ، وأخضعت لك رقاب العرب وجمعت لك ما لمْ يجمعه أحدٌ ، فانظر أهل الحجاز فإنّهم أصلك وأكرم مَنْ قدم عليك منهم وتعاهد مَنْ غاب ، وانظر أهل العراق فإنْ سألوك أنْ تعزل كلّ يوم عاملاً فافعل ؛ فإنّ عزل عامل

__________________

(1) الفتنة الكبرى 2 / 245.

(2) حياة الحيوان للدميري 1 / 59.

٢٣٦

أيسر مِنْ أنْ يُشهر عليك مئة ألف سيف ، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك ، فإنْ رابك مِنْ عدوك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم فارددْ أهل الشام إلى بلادهم ؛ فإنْ أقاموا بغير بلادهم تغيّرت أخلاقهم.

وإنّي لست أخاف عليك أنْ ينازعك في هذا الأمر إلاّ أربعة نفر مِنْ قريش : الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزّبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ فأمّا ابن عمر فإنّه رجل قد وقذته العبادة ، فإذا لمْ يبقَ أحدٌ غيره بايعك ، وأمّا الحُسين بن علي فهو رجل خفيف ، ولنْ يترك أهل العراق حتّى يخرجوه ، فإنْ خرج وظفرت به فاصفح عنه ؛ فإنّ له رحماً ماسة وحقّاً عظيماً وقرابة مِنْ محمّد ، وأمّا ابن أبي بكر فإنْ رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله ليس له همّة إلاّ في النساء واللّهو ، وأمّا الذي يجثم لك جثوم الأسد ، ويراوغك مراوغة الثعلب فإنْ أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزّبير ، فإنْ هو فعلها بك فظفرت به فقطّعه إرباً إرباً ، واحقنْ دماء قومك ما استطعت(1) .

وأكبر الظنّ أنّ هذه الوصية مِن الموضوعات ؛ فقد افتُعلتْ لإثبات حلم معاوية ، وإنّه عهد إلى ولده بالإحسان الشامل إلى المسلمين وهو غير مسؤول عن تصرفاته.

وممّا يؤيد وضعها ما يلي :

1 ـ إنّ المؤرّخين رووا أنّ معاوية أوصى يزيد بغير ذلك ، فقال له : إنّ لك مِنْ أهل المدينة يوماً ، فإنْ فعلوها فارمهم بمسلم بن عقبة ، فإنّه رجل قد عرفنا نصيحته(2) ، وكان مسلم بن عقبة جزّاراً جلاداً لا يعرف الرحمة والرأفة ، وقد استعمله يزيد بعهد مِنْ أبيه في واقعة الحرّة فاقترف كلّ موبقة

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 259.

(2) تاريخ خليفة خياط 1 / 229.

٢٣٧

وإثم ، فكيف تلتقي هذه الوصيّة بتلك الوصيّة التي عهد فيها بالإحسان إلى أهل الحجاز؟!

2 ـ إنّه أوصاه برعاية عواطف العراقيين والاستجابة لهم إذا سألوه في كلّ يوم عزل مَنْ ولاّه عليهم ، وهذا يتنافى مع ما ذكره المؤرّخون أنّه عهد بولاية العراق إلى عبيد الله بن زياد وهو يعلم شدّته وصرامته وغدره ؛ فهو ابن زياد الذي أغرق العراق بدماء الأبرياء ، فهل العهد إليه بولايته العراق من الإحسان إلى العراقيين والبرّ بهم؟!

3 ـ إنّه جاء في هذه الوصية أنّه يتخوّف عليه مِنْ عبد الله بن عمر وقد وصفه بأنّه قد وقذته العبادة ، وإذا كان كذلك فهو بطبيعة الحال منصرف عن السّلطة والمنازعات السّياسية فما معنى التخوّف منه؟!

4 ـ إنّه جاء في هذه الوصية أنّه يتخوّف عليه مِنْ عبد الرحمن بن أبي بكر ، وقد نصّ المؤرّخون أنّه توفي في حياة معاوية ، فما معنى التخوّف عليه مِنْ إنسان ميّت؟

5 ـ إنّه أوصاه برعاية الحُسين (عليه السّلام) وإنّ له رحماً ماسّة ، وحقًّا عظيماً وقرابةً مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومن المؤكد أنّ معاوية بالذّات لمْ يرعَ أيّ جانب مِنْ جوانب القرابة مِنْ رسول الله فقد قطع جميع أواصرها ، فقد فرض سبّها على رؤوس الأشهاد ، وعهد إلى لجان التربية والتعليم بتربية النشء ببغض أهل البيت ، ولمْ يتردّد في ارتكاب أيّ وسيلة للحطّ مِنْ شأنهم.

وقد علّق الاُستاذ عبد الهادي المختار على هذه الفقرات مِنْ الوصيّة بقوله : وتقول بعض المصادر إنّ معاوية أوصى ولده يزيد برعاية الحُسين ، والذي نعتقده أنّه لا أثر لها من الصحة ؛ فإنّ معاوية لمْ يتردّد في اغتيال

٢٣٨

الإمام الحسن حتّى بعد ما بايعه ، فكيف يوصي ولده بالعفو عن الحُسين إنْ ظفر به.

لم يكن معاوية بالذي يرعى لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) حرمةً أو قرابةً حتّى يوصي ابنه برعاية آل محمّد ، كلاّ أبداً ، فقد حارب الرسول في الجاهلية حتّى أسلم كُرها يوم فتح مكّة ، ثمّ حارب صهر الرسول وخليفته وابن عمّه علي ، ونزا على خلافة المسلمين وانتزعها قهراً ، وسمّ ابن بنت الرسول الحسن ، فهل يُصدَّق بعد هذا كلّه أنْ يوصي بمثل ما أوصى به؟!

قد يكون أوصاه أنْ يغتاله سرّاً ويدسّ له السمّ ، أو يبعث له مَنْ يطعنه بليل ، ربّما كان هذا الفرض أقرب إلى الصحة مِنْ تلك الوصية ، ولكنّ المؤرّخين ـ سامحهم الله ـ أرادوا أنْ يُبرِّئوا ساحة الأب ويلقوا جميع التبعات على الابن ، وهما في الحقيقة غرسُ إثمٍ واحدٌ وثمرةُ جريمةٍ واحدة.

وأضاف يقول : ولو أنّ الوصيّة المزعومة كانت صحيحةً لما كان يزيد لاهمَّ له بعد موت أبيه إلاّ تحصيل البيعة مِن الحُسين وتشديده على عامله بالمدينة بلزوم إجبار الحُسين على البيعة(1) .

موتُ معاوية :

واستقبل معاوية الموت غير مطمئن فكان يتوجّع ويظهر الجزع على ما اقترفه مِن الإسراف في سفك دماء المسلمين ونهب أموالهم ، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي اغتصب له الخلافة ، وحمله

__________________

(1) مجلة الغري السنة الثامنة العدد 9 و 10.

٢٣٩

على رقاب المسلمين ، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون مشغولاً عن أبيه في أثناء وفاته برحلات الصيد ، وعربدات السكر ونغمة العيدان.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية وما رافقها من الأحداث الجسام.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321