عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم0%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 321
المشاهدات: 105834
تحميل: 6492

توضيحات:

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105834 / تحميل: 6492
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

النبيُّ زيد الخيل ب- ( زيد الخير ) وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة ) وكيف لا يكون خيراً، وهو لم يزل يعد وسيلة الحياة في عامة الحضارات.

٤ -( الحب ) : ضد البغض، قال في اللسان: أحببته وحببته بمعنى واحد.

٥ -( حب الخير ) : بدل عن المفعول المحذوف، وتقديره إنّي أحببت الخيل حبَّ الخير، ويريد أنّ حبّي للخيل نفس الحب للخير؛ لأنّ الخيل كما عرفت وسيلة نجاح الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية، خصوصاً عند الجهاد مع العدو والهجوم عليه، ويحتمل أن يكون ( حب الخير) مفعولاً لا بدلاً عن المفعول.

٦ -( عن ذكر ربّي ) : بيان لمنشأ حبّه للخير وسببه، وأنّ حبه له ناشٍ عن ذكر ربّه.

وتقدير الجملة: أحببت الخير حبّاً ناشئاً عن ذكر الله سبحانه وأمره، حيث أمر عباده المخلصين بالإعداد للجهاد ومكافحة الشرك وقلع الفساد بالسيف والخيل؛ ولأجل ذلك قمت بعرض الخيل، كل ذلك امتثالاً لأمره سبحانه لا إجابة لدعوة الغرائز التي لا يخلو منها إنسان كما أشار إليه سبحانه بقوله:( زُيّنَ للِنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ والْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأنعامِ والْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ ) (١) .

____________________

١ - آل عمران: ١٤.

١٨١

ويجد نظير تلك الدعوة في الذكر الحكيم، قال سبحانه:( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ) (١)

٧ - فاعل الفعل في قوله:( حتى توارت بالحجاب ) أي الصافنات الجياد، والمقصود: إنّ الخيل أخذت بالركض حتى غابت عن بصره.

٨ - إنّ الضمير في قوله:( ردّوها ) يرجع إلى الخيل التي تدل عليها الصافنات الجياد، والمقصود أنّه أمر بردّها عليه بعدما غابت عن بصره.

٩ - وعند ذلك يطرح السؤال، وهو: أنّه لماذا أمر بالرد، وما كان الهدف منه ؟ فبيّنه بقوله:( فطفق مسحاً بالسوق والأعناق ) أي شرع بمسح أعراف خيله وعراقيبها بيده تقديراً لركّابها ومربّيها الذين قاموا بواجبهم بإعداد وسائل الجهاد.

إلى هنا اتضح مفاد مفردات الآية وجملها، وعلى هذا تكون الآيات هادفة إلى تصوير عرض عسكري قام به أحد الأنبياء ذوي السلطة والقدرة في أيّام ملكه وقدرته.

وحاصله: إنّ سليمان النبي ( الذي أشار القرآن إلى ملكه وقدرته وسطوته وسيطرته على جنوده من الإنس والجن، وتعرّفه على منطق الطير، إلى غير ذلك من صنوف قدرته وعظمته التي خصّها به بين الأنبياء ) قام في عشيّة يوم بعرض عسكري، وقد ركب جنوده من الخيل السراع، فأخذت تركض من بين يديه إلى أنْ غابت عن بصره، فأمر أصحابه بردّها عليه، حتّى إذا ما وصلت إليه قام تقديراً لجهودهم بمسح أعناق الخيل وعراقيبها.

____________________

١ - الأنفال: ٦٠.

١٨٢

ولم يكن قيامه بهذا العمل صادراً عنه لجهة إظهار القدرة والسطوة أو للبطر والشهوة، بل إطاعة لأمره سبحانه وذكره حتى يقف الموحّدون على وظائفهم، ويستعدّوا للكفاح والنضال ما تمكّنوا، ويهيّئوا الأدوات اللازمة في هذا المجال(١) .

وهذا هو الذي تهدف إليه الآيات وينطبق عليها انطباقاً واضحاً، فهلّم معي ندرس المعنى الذي فُرض على الآيات، وهي بعيدة عن تحمّله وبريئة منه.

نقد التفسير المفروض على القرآن

إنّ في نفس الآيات قرائن وشواهد تدل على بطلان القصة التي اتخذت تفسيراً للآيات، وإليك بيانها:

١ - إنّ الذكر الحكيم يذكر القصة بالثناء على سليمان ويقول:( وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدِ إِنَّهُ أوَّابٌ ) فأُسلوب البلاغة يقتضي أن لا يذكر بعده ما يناقضه ويضادّه، فأين وصفه بحسن العبودية والرجوع إلى الله في أُمور دينه ودنياه، من انشغاله بعرض الخيل وغفلته عن الصلاة المفروضة عليه ؟!

ولو فُرضت صحّة الواقعة، فلازم البلاغة ذكرها في محل آخر، لا ذكرها بعد المدح والثناء المذكورين في الآية.

٢ - إنّما يصح حمل قوله:( أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّي ) على ما جاء في القصة إذا تضمّن الفعل( أحببت ) معنى الترجيح والاختيار، والتقدير أي أحببت حب الخير مقدّماً إيّاه على ذكر ربّي ومختاراً إيّاه عليه، وهو يحتاج إلى

____________________

١ - وقد اختار هذا التفسير السيد المرتضى في تنزيه الأنبياء: ٩٥ - ٩٧، والرازي في مفاتيح الغيب: ٧/١٣٦، والمجلسي في البحار: ١٤/١٠٣ - ١٠٤ من الطبعة الحديثة.

١٨٣

الدليل.

٣ - ولو قلنا بالتضمين، فيجب أن يقال مكان( عن ذكر ربّي ) ( على ذكر ربّي أي أحببت حب الخير واخترته على ذكر الله، كما في قوله سبحانه:( فَاسْتَحَبُّوا العَمَى على الهُدَى ) (١) ، وقوله تعالى:( إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمان ) (٢) .

٤ - إنّ ضمير الفعل في قوله تعالى:( توارت ) يرجع إلى الصافنات المذكورة في الآية، وعلى التفسير المفروض يرجع إلى الشمس، وليست مذكورة في الآية، ودلالة لفظ( بالعشي ) عليها ضعيفة جداً.

٥ - الضمير في قوله:( ردّوها ) على المختار - يرجع إلى الصافنات، وعلى التفسير المفروض يرجع إلى الشمس، وهي غير مذكورة.

٦ - إنّ الخطاب في قوله:( ردّوها ) على المختار متوجه إلى رؤساء الجنود وهو واقع موقعه، وعلى التفسير المنقول عن بعضهم(٣) يكون متوجّهاً إلى الملائكة، وهو لا يناسب، إلاّ كونه منه سبحانه لعلوّه واستعلائه، لا من مثل سليمان بالنسبة إليهم.

٧ - لا شك أنّ للصفوة من عباده سبحانه ولاية تكوينية ومقدرة موهوبة على التصرّف في الكون بإذنه سبحانه، لغايات مقدّسة لإثبات نبوّتهم وكونهم مبعوثين من الله سبحانه لهداية عباده، وتدلّ عليها آيات كثيرة قدّمنا بعضها في ما سبق من هذه الموسوعة(٤) ولم يكن المقام هنا مناسباً للتحدّي حتى يتوصّل إلى

____________________

١ - فصلت: ١٧.

٢ - التوبة: ٢٣.

٣ - نسبه الطبرسي إلى ( القيل ) كما مرَّ.

٤ - لاحظ الجزء الأوّل: ٤٤٤ - ٤٤٦.

١٨٤

الإعجاز والتصرّف في الكون بالأمر برد الشمس، فإنّ الصلاة الفائتة لو كانت مفروضة فجبرانها بقضائها، ولو كانت مسنونة فلا إشكال في فوتها، فلم يكن هناك لزوم للتصرّف في الكون وأمر ملائكة الله بردّها حتى يأتي بالصلاة المسنونة.

٨ - لو كان المراد من( ردّوها ) طلب ردّ الشمس من ملائكته سبحانه، فاللازم أن يذكر الغاية من ردّها بأن يقول: حتى أتوضّأ وأُصلي، وليس لهذا ذكر في الآية، بل المذكور قوله:( فطفق مسحاً بالسوق والأعناق ) ، وهذا يعرب عن أنّ الغاية المترتّبة على الرد هي مسح السوق والأعناق، لا التوضّؤ والصلاة.

٩ - إنّ تفسير المسح بالقطع، تفسير بلا دليل، إذ المتبادر من المسح هو إمرار اليد عليها لا قطعها واجتثاثها، ولو كان هذا هو المراد ممّا ورد في القصة فالأنسب أن يقول: فطفق ضرباً بالسوق، لا مسحاً.

١٠ - إنّ التفسير المذكور ينتهي إلى كذّاب الأحبار، وهو كعب الذي لم يزل يدسّ في القصص والأخبار بنزعاته اليهودية، ومَن أراد أن يقف على دوره في الوضع والكذب وغير ذلك في هذا المجال فعليه أن يرجع إلى أبحاثنا في الملل والنحل.

١١ - إنّ بعض المفسّرين قاموا بتفسير قوله:( فطفق مسحاً بالسوق والأعناق ) بمسحها بالماء كناية عن الوضوء وهو في ضعفه كما ترى، إذ لو كان المراد ما ذكره ذلك البعض، فلماذا بدل الغسل بالمسح، والساقين بالسوق والعنق بالأعناق، مع أنّه لم يكن لسليمان إلاّ ساقان وعنق واحد ؟

١٢ - إنّ قتل الخيل التي عبّر عنها نفس سليمان( بالخير ) بحجّة أنّ الاشتغال بعرضها صار سبباً لفوت الصلاة أشبه بعمل إنسان لا يملك من العقل شيئاً، وحاشا سليمان الذي آتاه الله الحكم والعلم وسلّطه على الأرض من الإنس

١٨٥

والجن والسماء، من هذا العمل الذي لا يقترفه السفلة من الناس إلاّ المجانين منهم، ولا العاديّون من السوقة، فضلاً عن أنبياء الله وأوليائه المنزّهين.

وفي الختام نلفت نظر القارئ إلى ما ذكره ( سيّد قطب ) في تفسير هذه الآيات في تفسيره، قال:

أمّا قصة الخيل: إنّ سليمانعليه‌السلام استعرض خيلاً له بالعشيّ، ففاتته صلاة كان يصلّيها قبل الغروب، فقال: ردّوها علىّ، فردّوها عليه، فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربّه.

وفي رواية: روي أنّه جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها؛ لأنّها كانت خيلاً في سبيل الله.

ثم قال: وكلتا الروايتين لا دليل عليها، ويصعب الجزم بشيءٍ منها(١) .

والعجب من السيد أنّه أعطى الروايتين مكانة واحدة مع أنّ الأُولى تضاد حكم العقل، وسيرة الأنبياء والعلماء؛ لذلك يسهل الجزم ببطلانها، وأمّا الثانية فهي تنطبق على ظاهر الآيات كمال الانطباق، وهو المروي عن حَبْر الأُمّة ابن عباس.

وقد نقل الرواية الأُولى عن أُناس كانوا لا يتحرّزون من الأخذ عن الأحبار المستسلمين، فنقلها الطبري في تفسيره، عن السدّي وقتادة، حتى أنّ الطبري مع نقله أُولى الروايتين اختار قول ابن عباس واستوجهه، وقال: إنّ نبي الله لم يكن ليعذّب حيواناً بالعرقبة، ويهلك مالاً من ماله بغير سبب، سوى أنّه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها(٢) .

____________________

١ - في ظلال القرآن الكريم: ٢٣/١٠٠.

٢ - تفسير الطبري: ٣/١٠٠.

١٨٦

ولا يقصر عنه ما نقله السيوطي في ( الدر المنثور ) من الأساطير حول هذه الخيول، فروي عن إبراهيم التميمي أنّه قال: كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة، فعقرها؛ وفي الوقت نفسه نقل قول ابن عباس في تفسير المسح: ظلّ سليمان يمسح أعراف الخيل وعراقيبها(١) .

هذا حال التفسير المفروض على الآية، وهناك مستمسك آخر في مورد سليمان للمخطّئة نأتي به.

الفتنة التي امتحن بها سليمان

قال سبحانه:( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لاَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) (٢) .

وتوضيح مفاد الآيات يترتّب على البحث عن الأُمور التالية:

١ - ما هي الفتنة التي امتحن بها سليمان ؟

٢ - ما معنى طلب المغفرة مع التمسّك بحبل العصمة ؟

٣ - لماذا يطلب لنفسه الملك ؟

٤ - لماذا يطلب ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ؟

أمّا السؤال الأوّل: فليس في الآيات الواردة في المقام ما يكشف عن حقيقتها.

وأمّا الروايات فقد نقل أهل الحديث حول تبيين الفتنة روايات يلوح منها

____________________

١ - الدر المنثور: ٥/٣٠٩.

٢ - ص: ٣٤ - ٣٥.

١٨٧

أنّها إسرائيليات، بثّها أحبار اليهود بين المسلمين، وقد ابتلي بها المسلمون في كثير من المجالات التفسيرية والتاريخية والعقائدية و... فالرجاء من الله سبحانه أن يقيّض جماعة من المثقّفين والمحقّقين ويوفّقهم لتهذيب الكتب الإسلامية منها وتنقيحها عن مرويّاتهم.

ولكن من بين هذه الروايات ما يمكن أن يعتمد عليه، وهو ما قيل: كان لسليمان ولد شاب ذكي كان يحبّه حبّاً شديداً، فأماته الله على بساطه فجأة بلا مرض، اختباراً من الله تعالى لسليمان وابتلاءً لصبره في إماتة ولده، وألقى جسمه على كرسيّه(١) .

ولا شك أنّ الابتلاء بموت الولد الشاب من أعظم الابتلاءات، والصبر في هذا المجال، وتفويض الأمر إلى الله سبحانه آية كمال النفس، فلم يكن الهدف من الابتلاء إلاّ أن يتفتّح الكمال المركوز في ذاته، حتى يخرج من القوّة إلى الفعل، وسنوضح فلسفة الابتلاء عند البحث عن ابتلاء إبراهيم بالكلمات، فانتظر.

والعجب أن سيّد قطب قد اعتمد في تفسير الفتنة على رواية يبدو أنّها من الإسرائيليات التي أخذها أبو هريرة عن كعب الأحبار، قال: ولم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسير ( الجسد الذي أُلقي على كرسي سليمان ) سوى حديث صحيح، في ذاته، ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة وهذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً، ونصّه: ( قال سليمان: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل ( إن شاء الله ) ، فطاف سليمان عليهنّ، فلم تحمل إلاّ امرأة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده: لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل

____________________

١ - تنزيه الأنبياء: ٩٩ الطبعة القديمة.

١٨٨

الله فرساناً أجمعون ).

ثم قال السيد: وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق، ولكن هذا مجرد احتمال(١) .

نحن لا نعلّق على هذا الحديث شيئاً وإنّما نترك القضاء فيه إلى القارئ لكي يقضي فيه، وكفى في ضعفه أنّه من مرويات أبي هريرة، وقد وصفها سيّد قطب بأنّها مجرّد احتمال، كما عرفت.

وبذلك يعلم الجواب عن السؤال الثاني، فالظاهر أنّه كان لهعليه‌السلام فيه رجاء أو أُمنية، فأماته وألقاه على كرسيّه، حتى يوقفه على أنّ حق العبودية تفويض الأمر إلى الله والتسليم إليه، ولعلّ هذا المقدار من الرجاء وعقد الأُمنية على الولد يعد نحو انقطاع من الله إلى الولد.

وهو وإن لم يكن معصية، ولكن الأليق بحال الأولياء غيره، ولأجل ذلك لمّا استشعر بوظيفته التي يوجبها مقامه، أناب إلى الله ورجع إليه وطلب المغفرة كما يقول سبحانه:( ثمّ أناب * قال ربّ اغفر لي ) .

وقد تكرّر منّا أنّ طلب المغفرة ليس دليلاً على العصيان وصدور الذنب، بل كل فعل أو ترك صدر من الرجال العارفين بحقيقة الربوبية وعمق العبودية، وكان الأولى والأليق خلافه، استوجب طلب الغفران، وإن لم يكن معصية وخلافاً في منطق الشرع؛ ولأجل ذلك: إنّ أولياء الله لم يزالوا مستغفرين كل يوم وليلة لسعة استشعارهم بعظمة الوظيفة في مقابل عظمة الخالق.

وأمّا السؤال الثالث: أعني طلب الملك من الله سبحانه، فلم يكن الملك

____________________

١ - في ظلال القرآن الكريم: ٢٣/٩٩.

١٨٩

مقصوداً لذاته؛ لأنّ مثل هذا الملك لا ينفك عن الظلم والتعدّي وهضم الحقوق إلى غير ذلك ممّا أُشير إليه في قوله تعالى:( إنَّ المُلُوكَ إذا دَخَلُوا قَريةً أفْسَدُوها وجَعَلُوا أعِزَّةَ أهْلِها أذِلَّةً وكَذَلِكَ يَفْعَلُون ) (١) وفي قوله عزّ اسمه:( أمّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدْتُ أنْ أعِيبَها وكانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينةٍ غَصْباً ) (٢) .

هكذا كانت طبيعة الملوكية في الأعصار الغابرة والحاضرة، فهي مع الاستبداد والاستعباد وغصب الأموال وقتل النفوس المحترمة متلازمة، كما هو واضح لمَن لاحظ تاريخ السلاطين في الأدوار الماضية والحاضرة.

وإنّم-ا طلب سليمان ما وراء ذلك، فقد طلب من الله سبحانه الملك الذي يقوده إنسان أُوتي العلم والحكم وتشرّف بالنبوّة والوحي، ومَن هذا حاله، لا يكون الملك مطلوباً له بالذات، وإنّما يكون في طريق إحقاق الحق وإبطال الباطل والخدمة للخلق.

ولأجل أنّ المتبادر من الملك - في أذهان العامّة - هو السلطة الجائرة نجد الذكر الحكيم عندما يصف الله ب-( الملك ) يتابعه ب-( القدّوس ) مشيراً إلى أنّ ملكه وسلطته تفارق سائر السلطان، فهو في عين كونه ملكاً للعالم، قدّوس منزّه من كل عيب وشين، ومن كل تعدٍّ وظلمٍ، فهو:( المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤمِنُ المُهَيْمِن ) (٣) .

نقل أهل السِيَر أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: ( لست بملك ) مع أنّه كان حاكماً

____________________

١ - النمل: ٣٤.

٢ - الكهف: ٧٩.

٣ - الحشر: ٢٣.

١٩٠

إلهيّاً، ورئيس دولة إسلامية أسّسها منذ بدء وروده المدينة، ومراده هو إبعاد نفسه عمّا يتبادر إلى أذهان العامّة من سماع ذلك اللفظ، وأنّه ليس من أُولئك الزمرة، بل حاكم إلهيّ يسعى لصالح الأُمّة حسب القوانين الإلهيّة.

وبالجملة: فرق بين السلطة التي تستخدمها الغرائز المادية، والسلطة التي تراقبها النبوّة، ويكبح جماحها الخوف من الله، والعشق لرضوانه، والذي طلبه سليمان في الآية إنّما هو الثاني، وهو عمل إلهيّ وخدمة للدين وعمل مقرّب، دون الأوّل.

ولأجل أن لا تذهب أذهان الصحابة إلى المعنى المتبادر من لفظ ( الملك ) قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتوضيح ما طلب سليمان لنفسه من الله سبحانه وقال: ( أرأيتم ما أُعطي سليمان بن داود من ملكه ؟ فإنّ ذلك لم يزده إلاّ تخشّعاً، ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعاً لربّه )(١) .

وقد أوضحنا حقيقة السلطة الإسلامية التي دعا إلى استقرارها الكتاب والسنّة، وملامحها وأهدافها، فلاحظ(٢) .

ومن هنا يعلم جواب السؤال الرابع: وأنّه لماذا قال:( لا ينبغي لأحدٍ من بعدي ) ؟ فإنّه لم يقل ذلك ضنّاً وبخلاً على الغير، وإنّما قال ذلك؛ لأنّه طلب الملك الذي لا يصلح في منطق العقل والشرع أن يمارسه غيره، أو مَن هو نظيره في العلم والإيمان؛ وذلك لأنّه سبحانه يبيّ-ن ملامح هذا الحكم في آيات أُخر ويقول:( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ

____________________

١ - روح البيان: ٨/٣٩.

٢ - لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة: الفصل الاَوّل: ١١ - ٧٢.

١٩١

حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) (١) فالآيات بحكم ( الفاء ) في قوله( فسخّرنا له ) تدل على أنّه لم يطلب مطلق الحكم، وهو السلطة التي يصح أن يمارسها المتعارف من الناس، خصوصاً إذا كانوا من الصلحاء، وإنّما طلب من القدرة ما يصل بها إلى تسخير الريح والجن والشياطين ومثل هذه القدرة لا تصح في منطق العقل أن تقع في متناول المتعارف من الناس؛ لاَنّ وجود تلك السلطة في متناول غير المعصوم يؤدّي إلى الطغيان وهدم الحدود وادّعاء الربوبية، إلى غير ذلك من عظيم الفساد، وإنّما تكون مقرونة بالصلاح والفلاح إذا مارسها نبي عارف بعظمة المسؤولية أمام الله أوّلاً، وأمام العقل والوجدان ثانياً، وأمام الخلق ثالثاً.

ولأجل ذلك يقول:( لا ينبغي لأحدٍ من بعدي ) ويريد منه الإنسان المتعارف غير المتمسّك بحبل العصمة، وغير المتحلّي بالنبوّة، فإنّ هذا الملك - لما عرفت - لا ينبغي لأحد، وإنّما ينبغي لسليمان ومَن يكون بمنزلته من الصيانة والعصمة.

وإلى ما ذكرنا يشير المرتضى ويقول: إنّما التمس أن يكون ملكه آية لنبوّته، ليتبيّن بها عن غيره ممّن ليس بنبي وقوله:( لا ينبغي لأحدٍ من بعدي ) أراد به لا ينبغي لأحدٍ غيري ممّن أنا مبعوث إليه، ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيّين(٢) .

____________________

١ - ص: ٣٦ - ٤٠.

٢ - تنزيه الأنبياء: ١٠٠.

١٩٢

- ٨ -

عصمة أيّوبعليه‌السلام ومسّ الشيطان له بعذاب

قد وصف سبحانه نبيّه العظيم ( أيّوب ) بأوصاف كبار وقال:( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (١) ، ومع ذلك كلّه فقد استدلّت المخطِّئة على عدم عصمته بظواهر بعض الآيات، وهي لا تدل على ما يرتؤون وإليك تلكم الآيات:

قال سبحانه:( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّني الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدَنَا وَذِكْرى لِلعَابِدِين ) (٢) .

وقال سبحانه:( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضِ بِرِجلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكرى لأُولي الألباب * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنّا وَجَدْنَاه صَابِراً نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ ) (٣) .

استدلّت المخطّئة على تجويز صدور الذنب من الأنبياء بما ورد في هذه

____________________

١ - ص: ٤٤.

٢ - الأنبياء:٨٣ - ٨٤.

٣ - ص: ٤١ - ٤٤.

١٩٣

الآيات ممّا يوهم ذلك، أعني قوله:

١ -( مسّني الشيطان ) .

٢ -( بنصبٍ وعذابٍ ) .

وقد ظنّوا أنّ مسّ الشيطان يستلزم صدور الذنب منه، غافلين عن أنّ هذه الجملة عبارة أُخرى عمّا ورد في سورة الأنبياء بقوله:( مسّني الضر ) .

كما ظنّوا أنّ العذاب عبارة عن العقوبة الإلهيّة غافلين عن أنّ العذاب عبارة عن كل ما شقّ على الإنسان، وهو المراد من التعب، والنصب، والوجع، والألم.

وبالجملة: لا دلالة للآية على صدور الذنب أبداً، إنّما الكلام في بيان ما هي علّة ابتلاء أيوب بهذا الوجع والألم ؟ يتضح هذا باستعراض الآيات وتفسير مفرداتها فنقول:

قال الراغب: ( الضر ): سوء الحال، إمّا في نفسه لقلّة العلم والفضل والعفّة، وإمّا في بدنه لعدم جارحة ونقص، وإمّا في حالة ظاهرة من قلّة مال وجاه، وقوله:( فكشفنا ما به من ضر ) محتمل لثلاثتها.

غير أنّه يحتمل أن يكون الضر هنا بمعنى يساوق المرض، وهو غير المعنى الثاني الذي أشار إليه الراغب؛ ولأجل ذلك يقول العلاّمة الطباطبائي: الضرّ خصوص ما يمس النفس من الضرر كالمرض والهزال ونحوهما، وذيل الآيات يؤيّد هذا المعنى.

وأمّا ( النصب ): فهو التعب، وربّما يفتح كما قال الله سبحانه:( لا يمسّنا فيها نصب ) (١) ، يقال أنصبني كذا أي أتعبني وأزعجني.

____________________

١ - فاطر: ٣٥.

١٩٤

وأمّا ( الركض ): فهو الضرب بالرجل.

هذه هي اللغات الواردة في الآية، فإذا عرفنا معانيها فلنرجع إلى تفسير الآية، وستعرف أنّه لا يُستشمّ منها صدور أيّ معصية من النبي أيّوب مظهر الصبر والمقاومة.

تفسير قوله:( مسّني الضر )

أمّا ما ورد في سورة الأنبياء، فلا يدل على أزيد من أنّه مسّه الضر وشملته البليّة، فابتهل إليه سبحانه قائلاً:( أنّي مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين ) ، وعندئذٍ شملته العناية الإلهية، فكشف الله عنه ما به من ضر، ومن المحتمل جداً أنّ المراد هو المرض وشافاه الله من ذلك المرض الذي ابتُلي به سنين، ولم يكتف بذلك بل وآتاه أهله بإحيائهم، مضافاً إلى مثلهم، كل ذلك رحمة من عنده، ولم يكن ذلك العمل إلاّ امتحاناً منه سبحانه لأيّوب وغيره من العابدين، حتى يتذكّروا ويعلموا أنّ الله تعالى يبتلي أولياءه ثم يؤتيهم أجرهم، ولا يضيع أجر المحسنين، وليس الامتحان إلاّ لأجل تفتّح الكمالات المكنونة في ذات الممتَحن، ولا تظهر تلك الكمالات إلاّ إذا وقع الإنسان في بوتقة الامتحان فتظهر حينئذ بواطنه من الكمالات والمواهب، وقد أوضحنا ذلك في بعض مسطوراتنا، يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام في هذا المجال:

( ومعنى ذلك أنّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه والراضي بقسمه وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب )(١)

____________________

١ - نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم ٩٣.

١٩٥

تفسير قوله:( مسّني الشيطان )

وأمّا الآيات الواردة في سورة ( ص ) فهي التي وقعت ذريعة لبعض المخطِّئة من أنّه سبحانه ابتلى أيّوب ببعض الأمراض المنفِّرة، مع أنّه ليست في الآية إشارة ولا تلويح إلى ذلك إلاّ في بعض الأحاديث التي تشبه الإسرائيليات، قال سبحانه في سورة ( ص ):( واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسّني الشيطان بنصبٍ وعذابٍ ) وقد عرفت معنى النصب، وأمّا العذاب فلا يتجاوز معناه ما يؤذي الروح من سوء الحال فقوله:( مسّني الشيطان ) عبارة عمّا ذكره في سورة الأنبياء بقوله:( مسّني الضر ) ، فنسب نزول النصب والعذاب في هذه الآية إلى الشيطان ولكنّه سكت عن فاعله في سورة الأنبياء، وعندئذٍ يجب إمعان النظر في معنى هذه الجملة فنقول: إنّه يحتمل أحد معنيين:

١ - أن يكون ما مسّه من الضرّ والمرض مستنداً إلى الشيطان بنحو من السببية والتأثير مكان استناده إلى الأسباب العادية الطبيعية، فكما أنّ الإنسان يصيبه التعب بواسطة العلل المادية، يصيبه التعب بنحو من مسّ الشيطان، كل ذلك بإذن منه سبحانه، وهذا المعنى هو الذي يستفاد من الروايات، وهو وإن لم يكن له مؤيّد في ظاهر الآية، غير أنّه ليس من الأمور المستحيلة، فإنّه إذا كان للعلل الطبيعية سلطان على الأنبياء في أمراضهم، فلا مانع من أن تكون للشيطان سلطة في خصوص هذا المجال لا في إضلالهم والتصرّف في قلوبهم وعقيدتهم، كل ذلك بإذن الله سبحانه، خصوصاً إذا كان ذلك لأجل الامتحان.

نعم، أنكر الزمخشري هذا السلطان قائلاً: بأنّه لا يجوز أن يسلّط الله الشيطان على أنبيائه ليقضي من تعذيبهم وإتعابهم وطره، فلو قدر على ذلك لم يدع صالحاً

١٩٦

إلاّ وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرّر في القرآن أنّه لا سلطان له إلاّ الوسوسة فحسب(١) .

أقول : إنّما يصحّ ما ذكره إذا كانت للشيطان مقدرة مطلقة وعامة على كل الصالحين والمؤمنين، وعند ذلك لم يدع صالحاً إلاّ وقد نكبه وأهلكه، وهو غير القول بتسلّطه على مورد خاص، وهو أيّوب بإذن منه سبحانه، ولا دليل على امتناع القضية الجزئية، كيف ؟ وقد حكى الله سبحانه عن فتى موسى وهو يوشع النبي قوله:( فَإِنّي نَسِيتُ الْحُوتَ وما أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) (٢) .

٢ - أن يكون المراد من ( مس الشيطان بالنصب والعذاب ) هو وسوسة الشيطان إلى الناس عندما اشتدّ مرض أيوب، حيث حثّهم على أن يجتنبوه ويهجروه، فكان التعيير من الناس والتكلّم منهم لكن بوسوسة من الشيطان، ونفس هذا التعيير كان نصباً وعذاباً على أيّوب، فالمراد من النصب والعذاب هو التعيير المستند إلى وسوسة الشيطان، وعلى كل تقدير فلا دلالة لكلمة العذاب بعد كلمة النصب على أنّه كان عقاباً منه سبحانه له، يقول الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الله ابتلى أيوب بلا ذنبٍ فصبر حتى عُيّ-ر، وإنّ الأنبياء لا يصبرون على التعيير )(٣) .

وأمّا الأحاديث الواردة حول قصّة أيّوب من أنّه أصابه الجذام حتى تساقطت أعضاؤه، فيقول الإمام الباقرعليه‌السلام في حقّها: ( إنّ أيوب ابتُلي من غير ذنب، وإنّ الأنبياء لا يذنبون؛ لأنّهم معصومون، مطهّرون، لا يذنبون ولا يزيغون ،

____________________

١ - الكشاف: ٣/١٦.

٢ - الكهف: ٦٣.

٣ - بحار الأنوار: ١٢/٣٤٧ نقلاً عن أنوار التنزيل.

١٩٧

ولا يرتكبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً ).

وقال: ( إنّ أيّوب مع جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة، ولا قبحت له صورة، ولا خرجت منه مدّة من دم ولا قيح، ولا استقذره أحد رآه، ولا استوحش منه أحد شاهده، ولا تدوّد شيء من جسده، وهكذا يصنع الله عزّ وجلّ بجميع مَن يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرّمين عليه، وإنّما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره، لجهلهم بما له عند ربّه تعالى ذكره، من التأييد والفرج، وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أعظم الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ) وإنّما ابتلاه الله عزّ وجلّ بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلاّ يدّعوا له الربوبية، إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه، ليستدلوا بذلك على أنّ الثواب من الله تعالى ذكره على ضربين: استحقاق واختصاص، ولئلاّ يحتقروا ضعيفاً لضعفه، ولا فقيراً لفقره، وليعلموا أنّه يسقم مَن يشاء ويشفي مَن يشاء متى شاء كيف شاء، بأيّ سببٍ شاء، ويجعل ذلك عبرةً لمَن شاء وشفاء لمَن شاء وسعادة لمَن شاء، وهو عزّ وجلّ في جميع ذلك عدل في قضائه، وحكيم في أفعاله، لا يفعل بعباده إلاّ الأصلح لهم، ولا قوّة لهم إلاّ به )(١) .

وهذه الرواية - الصادرة من بيت الوحي والنبوّة - تعرب عن عقيدة الأئمّة في حق الأنبياء عامة، وفي حق النبي أيّوب خاصة، وأنّ الأنبياء لا يبتلون بالأمراض المنفِّرة؛ لأنّها لا تجتمع مع هدف البعثة، وأنّ ابتلاء أيّوب كان لأهداف تربوية أُشير إليها في الرواية.

قال السيد المرتضى: أفتصحّحون ما رُوي من أنّ الجذام أصابه حتى تساقطت أعضاؤه ؟

____________________

١ - الخصال: ٢/٤٠٠، ط الغفاري.

١٩٨

قلنا: أمّا العلل المستقذرة التي تنفّر مَن رآها وتوحشه كالبرص والجذام، فلا يجوز شيء منها على الأنبياء؛ لما تقدّم ذكره(١) .

وقال العلاّمة المجلسي بعد نقل الخبر المتقدّم عن الإمام الباقرعليه‌السلام : هذا الخبر أوفق بأُصول متكلّمي الإمامية من كونهم منزّهين عمّا يوجب تنفّر الطباع عنهم، فتكون الأخبار الأُخر محمولة على محامل أُخر(٢) .

إلى هنا استطعنا أن نخرج بهذه النتائج في مورد هذه الروايات المرتبطة بقصّة أيّوب:

١ - إنّ الألفاظ الواردة في الآية من قوله:( مسّني الشيطان بنصبٍ وعذابٍ ) لا دلالة لها على صدور الذنب.

٢ - إنّ الروايات الواردة في بعض الكتب من إصابته بأمراض منفِّرة، يخالفها العقل، وتردّها النصوص المرويّة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

____________________

١ - تنزيه الأنبياء: ٦٤.

٢ - البحار: ١٢/٣٤٩.

١٩٩

- ٩ -

عصمة يونسعليه‌السلام وذهابه مغضباً

إنّ المخطِّئة لعصمة الأنبياء استدلّوا على مقصودهم بما ورد حول قصّة يونس من الآيات، ونحن نذكر عامّة ما ورد في ذلك المجال، ثمّ نستوضح مقاصدها.

فنقول: قد وردت قصّته على نحو التفصيل والإجمال في سور أربع: يونس، الأنبياء، الصافّات، والقلم.

وإليك الآيات:

١ -( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْي فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين ) (١) .

٢ -( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَن نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (٢) .

٣ -( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤمِنِينَ ) (٣) .

٤ -( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ

____________________

١ - يونس: ٩٨.

٢ - الأنبياء: ٨٧.

٣ - الأنبياء: ٨٨.

٢٠٠