عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم11%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127664 / تحميل: 8584
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

أبي طالب وعلّمه(١) .

وكان مع ابنه أبي هاشم في الكتّاب، ثم صحبه بعد موت أبيه مدة طويلة، وحكي عن بعض السلف أنّه قيل له: كيف كان علم محمد بن علي، فقال: إذا أردت أن تعلم ذلك فانظر إلى أثره ( واصل ).

وهكذا ذكروا في عمرو بن عبيد أنّه أخذ عن أبى هاشم أيضاً، وقال القاضي ( عبد الجبار ): فأمّا أبو هاشم عبد الله بن محمد بن علي فلو لم يظهر علمه وفضله إلاّ بما ظهر عن واصل بن عطاء لكفى، وكان يأخذ العلم عن أبيه وكان واصل بمنزلة كتاب صنعه أبو هاشم، وكذلك أخوه غيلان بن عطاء يقال إنّه أخذ العلم عن الحسن بن محمد بن الحنفية أخي أبي هاشم(٢) .

وقال الجاحظ: ومن مثل محمد الحنفية وابنه أبي هاشم الذي قرأ علوم التوحيد والعدل حتى قالت المعتزلة: غلبنا الناس كلّهم بأبي هاشم الأوّل.

قال ابن أبي الحديد: إنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي؛ لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف، ومن كلامه - (علي)عليه‌السلام - اقتبس، وعنه نقل، ومنه ابتدئ وإليه انتهى، فإنّ المعتزلة - الذين هم أصل التوحيد والعدل وأرباب النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفن - تلامذته، وأصحابه؛ لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه.

وأمّا الأشعرية فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة فالأشعرية

____________________

١ - فضل الاعتزال: ٢٣٤.

٢ - فضل الاعتزال: ٢٢٦.

٢١

ينتهون بالآخرة إلى أُستاذ المعتزلة ومعلّمهم، وهو علي بن أبي طالب(١) .

وقال المرتضى في أماليه: اعلم أنّ أُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - وخطبه؛ فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه، ولا غاية وراءه، ومَن تأمّل المأثور في ذلك من كلامه، علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعده في تصنيفه وجمعه إنّما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأُصول، وروي عن الأئمّة من أبنائهعليه‌السلام في ذلك ما لا يكاد يحاط به كثرة، ومَن أحب الوقوف عليه وطلبه من مظانّه، أصاب منه الكثير، الغزير، الذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة، ونتاج للعقول العقيمة(٢) .

وقال العلاّمة السيد مهدي الروحاني في تعليقه على نظرية أحمد أمين: إنّ أحمد أمين قد لفّق ذلك التوجيه والرد ليقطع انتساب الاعتزال والمعتزلة إلى أمير المؤمنين، ولم نر أحداً من الشيعة قال بتتلمذ واصل للإمام الصادقعليه‌السلام حتى يرد عليه أنّ الصادق كان يمسك الركاب لتلميذ واصل، وهو زيد فتتلمذه للصادق بعيد، بل وجه اتصال المعتزلة بأمير المؤمنين هو ما ذكروه أنفسهم - حسب ما عرفت - ومجرّد إمساك الإمام الصادق بالركاب لعمّه زيدرحمه‌الله لا يدل على أنّ الصادق تتلمذ لعمّه زيد، وإنّما فعل أحمد أمين ذلك بدافع من هواه المعروف عنه، والظاهر في كتبه، وهو أن يسلب عن علي ما ينسب إليه من الفضائل مهما أمكن ولكن بصورة التحقيق العلمي علّ ذلك ينطلي على الناس وذلك بعد ما ظهر من الغربيين تقريظات ومقالات فيها تعظيم للمعتزلة وتعريف لهم بأنّ-هم أصحاب الفكر الحر، لم تسمح نفس أحمد أمين بأن تكون جماعة كهؤلاء ينتسبون في أُصول مذهبهم وأفكارهم إلى علي، فلفّق ذلك التوجيه والرد والإغفال.

____________________

١ - الشرح الحديدي: ١/١٧.

٢ - غرر الفوائد ودرر القلائد أو أمالي المرتضى: ١/١٤٨.

٢٢

كما أنّه قد أنكر بلا دليل انتساب علم النحو إليه مع أنّ ابن النديم قال في الفهرست: زعم أكثر العلماء أنّ النحو أخذه أبو الأسود عن أمير المؤمنينعليه‌السلام (١) .

عود على بدء

فلنرجع إلى دراسة وجود جذور عصمة النبي في كلام عليعليه‌السلام حيث إنّه يصف النبي في الخطبة القاصعة بقوله:

ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره(٢) .

ودلالة هذه القمّة العالية من هذه الخطبة على عصمة النبي في القول والعمل عن الخطأ والزلل واضحة، فإنّ مَن ربّاه أعظم ملك من ملائكة الله سبحانه من لدن أن كان فطيماً، إلى أُخريات حياته الشريفة، لا تنفك عن المصونية من الانحراف والخطأ، كيف وهذا الملك يسلك به طريق المكارم، ويربّيه على محاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، وليست المعصية إلاّ سلوك طريق المآثم ومساوئ الأخلاق، ومَن يسلك الطريق الأوّل يكون متجنّباً عن سلوك الطريق الثاني.

إنّ الإمام أمير المؤمنين لا يصف خصوص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعصمة في هذه الخطبة، بل يصف آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله: ( هم عيش العلم، وموت الجهل، يخبرهم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه، هم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد

____________________

١ - بحوث مع أهل السنّة والسلفية: ١٠٨، وقد نقلنا بعض النصوص السابقة في حق المعتزلة عن ذلك الكتاب.

٢ - نهج البلاغة الخطبة: ١٨٧، طبعة عبده.

٢٣

الحق في نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ودعاية )(١) .

لاحظ هذا الكلام وأمعن النظر فيه هل ترى كلمة أوضح في الدلالة على مصونيتهم من الذنوب، وعصمتهم عن الآثام من قوله: ( لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه ) أي لا يعدلون عن الحق، ولا يختلفون فيه، قولاً وفعلاً كما يختلف غيرهم من الفرق، وأرباب المذاهب، فمنهم مَن له في المسألة قولان، أو أكثر، ومنهم مَن يقول قولاً ثم يرجع عنه، ومنهم مَن يرى في أُصول الدين رأياً ثم ينفيه ويتركه.

إنّ الإمام يصف آل النبي بقوله: ( عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية ) أي عرفوا الدين، وعلموه، معرفة مَن فهم الشيء وأتقنه، ووعوا الدين وحفظوه، وحاطوه ليس كما يعقله غيرهم عن سماع ودعاية.

وعلى الجملة: إنّ قولهعليه‌السلام : ( لا يخالفون الحق )، دليل على العصمة عن المعصية وقوله: ( عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية ) دليل على مصونيتهم عن الخطأ، وسلامتهم في فهم الدين ووعيه.

والإمام لا يكتفي ببيان عصمة آل رسول الله بهذين الكلامين، بل يصف أحب عباد الله إليه بعبارات وجمل تساوق العصمة، وتعادلها، إذ يقول:

( أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه، وأعدّ القرى ليومه النازل به فقرّب على نفسه البعيد، وهوّن الشديد، نظر فأبصر، وذكر فاستكثر، وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده فشرب نهلاً، وسلك سبيلاً جدداً، قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلّى من الهموم إلاّ

____________________

١ - نهج البلاغة الخطبة ٢٣٤، طبعة عبده.

٢٤

همّاً واحداً انفرد به، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى وصار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الردى، قد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور من إصدار كل وارد عليه، وتصيير كل فرع إلى أصله، مصباح ظلمات، كشّاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفّاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم، قد أخلص لله فاستخلصه فهو من معادن دينه، وأوتاد أرضه، قد ألزم نفسه العدل فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلاّ أمّها، ولا مظنّة إلاّ قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه، يحل حيث حل ثقله، وينزل حيث كان منزله )(١) .

ولا أرى أحداً نظر في هذه الخطبة، وأمعن النظر في عباراته وجمله، إلاّ وأيقن أنّ الموصوف بهذه الصفات في القمّة الأعلى من العصمة فهل ترى من نفسك أنّ مَن لا يكون له إلاّ هم واحد وهو الوقوف عند حدود الشريعة، ومَن ألزم على نفسه العدل ونفي الهوى عن نفسه، أن لا يكون مصوناً من المعصية، ومعتصماً من الزلل، كيف وقد أمكن القرآن من زمامه، فهو قائده وإمامه يحل حيث حل، وينزل حيث نزل.

قال ابن أبي الحديد: إنّ هذا الكلام منه أخذ أصحابه علم الطريقة والحقيقة وهو تصريح بحال العارف ومكانته من الله، والعرفان درجة حال رفيعة شريفة جداً مناسبة للنبوّة، ويختص الله تعالى بها مَن يقرّبه إليه من خلقه.

وقال أيضاً: إنّ هذه الصفات والشروط والنعوت التي ذكرها في شرح حال العارف إنّما يعني بها نفسه، وهو من الكلام الذي له ظاهر وباطن، فظاهره أن

____________________

١ - نهج البلاغة الخطبة ٨٣، طبعة عبده.

٢٥

يشرح حال العارف المطلق، وباطنه أن يشرح حال العارف المعين وهو نفسهعليه‌السلام .

ثم إنّ الشارح الحديدي أخذ في تفسير هذه الصفات والشروط واحداً بعد آخر، إلى أن بلغ إلى الشرط السادس عشر(١) ومَن أراد الوقوف على أهداف الخطبة فليرجع إليه وإلى غيره من الشروح.

هذه جذور المسألة في الكتاب والسنّة، نعم إنّ المتكلّمين هم الذين عنونوا مسألة العصمة وطرحوها في الأوساط الإسلامية، فذهبت العدلية من الشيعة والمعتزلة إلى جانب النفي والسلب على أقوال وتفاصيل بين طوائفهم، وقد أقام كل فريق دليلاً على مدّعاه.

ولا يمكن أن ينكر أنّ المناظرات التي دارت بين الإمام على بن موسى الرضا وأهل المقالات من الفرق الإسلامية قد أعطت للمسألة مكانة خاصة، فقد أبطل الإمام الرضاعليه‌السلام كثيراً من حجج المخالفين في مجال نفي العصمة عن الأنبياء عامّة والنبي الأعظم خاصّة، ولولا خوف الإطالة لأتينا ببعض هذه المناظرات التي دارت بين الإمامعليه‌السلام وأهل المقالات من الفرق الإسلامية، وإن شئت الوقوف عليها فراجع بحار الأنوار(٢) وسوف نرجع في نهاية المطاف إلى تفسير بعض الآيات التي تمسّك بها المخالف في مجال نفي العصمة عن الأنبياء.

ما هي حقيقة العصمة ؟

عرّف المتكلّمون العصمة على الإطلاق بأنّها قوّة تمنع الإنسان عن اقتراف

____________________

١ - الشرح الحديدي: ٦/٣٦٧ - ٣٧٠.

٢ - بحار الأنوار: ١١/٧٢ - ٨٥.

٢٦

المعصية والوقوع في الخطأ(١) .

وعرّفها الفاضل المقداد بقوله: العصمة عبارة عن لطف يفعله الله في المكلّف بحيث لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة ولا إلى فعل المعصية مع قدرته على ذلك، ويحصل انتظام ذلك اللطف بأن يحصل له ملكة مانعة من الفجور والإقدام على المعاصي، مضافاً إلى العلم بما في الطاعة من الثواب، والعصمة من العقاب، مع خوف المؤاخذة على ترك الأولى، وفعل المنسي(٢) .

أقول : إذا كانت حقيقة العصمة عبارة عن القوّة المانعة عن اقتراف المعصية والوقوع في الخطأ، كما عرّفه المتكلِّمون فيقع الكلام في موردين:

الأوّل : العصمة عن المعصية.

الثاني : العصمة عن الخطأ.

ولتوضيح حال المقامين من حيث الاستدلال والبرهنة يجب أن يبحث قبل كل شيء عن حقيقة العصمة.

إنّ حقيقة العصمة عن اقتراف المعاصي ترجع إلى أحد أُمور ثلاثة على وجه منع الخلو، وإن كانت غير مانعة عن الجمع:

____________________

١ - الميزان: ٢/١٤٢، طبعة طهران.

٢ - إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: ٣٠١ - ٣٠٢، ومن العجب تفسير الأشاعرة للعصمة على ما يقتضيه أصلهم من استناد الأشياء كلّها إلى الخالق المختار ابتداءً: ب-أن لا يخلق الله فيهم ذنباً (*).

أفبعد هذا هل يصح أن تُعدّ العصمة كرامة وترك الذنب فضيلة ؟ وليس معنى التوحيد في الخالقية سلب التأثير عن سائر العلل، وقد أوضحنا الحال في الجزء الأوّل من هذه السلسلة عند البحث عن هذا القسم من التوحيد، فلاحظ.

(*) إبطال نهج الباطل لفضل بن روزبهان على ما نقله عنه صاحب دلائل الصدق: ١/٣٧٠ - ٣٧١.

٢٧

١ - العصمة الدرجة القصوى من التقوى

العصمة ترجع إلى التقوى بل هي درجة عليا منها، فما توصف به التقوى وتعرف به تعرف وتوصف به العصمة.

لا شك أنّ التقوى حالة نفسانية تعصم الإنسان عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي، فإذا بلغت تلك الحالة إلى نهايتها تعصم الإنسان عن اقتراف جميع قبائح الأعمال، وذميم الفعال على وجه الإطلاق، بل تعصم الإنسان حتى عن التفكير في المعصية، فالمعصوم ليس خصوص مَن لا يرتكب المعاصي ويقترفها بل هو مَن لا يحوم حولها بفكره.

إنّ العصمة مَلَكة نفسانية راسخة في النفس لها آثار خاصة كسائر المَلَكات النفسانية من الشجاعة والعفّة والسخاء، فإذا كان الإنسان شجاعاً وجسوراً، سخيّاً وباذلاً، وعفيفاً ونزيهاً، يطلب في حياته معالي الأمور، ويتجنّب عن سفاسفها فيطرد ما يخالفه من الآثار، كالخوف والجبن والبخل والإمساك، والقبح والسوء، ولا يرى في حياته أثراً منها.

ومثله العصمة، فإذا بلغ الإنسان درجة قصوى من التقوى، وصارت تلك الحالة راسخة في نفسه يصل الإنسان إلى حد لا يرى في حياته أثر من العصيان والطغيان، والتمرّد والتجرّي، وتصير ساحته نقيّة عن المعصية.

وأمّا أنّ الإنسان كيف يصل إلى هذا المقام ؟ وما هو العامل الذي يمكنه من هذه الحالة ؟ فهو بحث آخر سنرجع إليه في مستقبل الأبحاث.

فإذا كانت العصمة من سنخ التقوى والدرجة العليا منها، يسهل لك تقسيمها إلى العصمة المطلقة والعصمة النسبية.

فإنّ العصمة المطلقة وإن كانت تختص بطبقة خاصة من الناس لكن

٢٨

العصمة النسبية تعم كثيراً من الناس، من غير فرق بين أولياء الله وغيرهم؛ لأنّ الإنسان الشريف الذي لا يقل وجوده في أوساطنا، وإن كان يقترف بعض المعاصي لكنّه يجتنّب عن بعضها اجتناباً تامّاً بحيث يتجنّب عن التفكير بها فضلاً عن الإتيان بها.

مثلاً الإنسان الشريف لا يتجوّل عارياً في الشوارع والطرقات مهما بلغ تحريض الآخرين له على ذلك الفعل، كما أنّ كثيراً من اللصوص لا يقومون بالسرقة في منتصف الليل متسلحين لانتهاب شيء رخيص، كما أنّ كثيراً من الناس لا يقومون بقتل الأبرياء ولا بقتل أنفسهم، وإن عرضت عليهم مكافآت مادية كبيرة، فإنّ الحوافز الداعية إلى هذه الأفاعيل المنكرة غير موجودة في نفوسهم، أو أنّها محكومة ومردودة بالتقوى التي تحلّوا بها، ولأجل ذلك صاروا بمعزل عن تلك الأفعال القبيحة حتى أنّهم لا يفكّرون فيها ولا يحدّثون بها أنفسهم أبداً.

والعصمة النسبية التي تعرّفت عليها تقرّب حقيقة العصمة المطلقة في أذهاننا، فلو بلغت تلك الحالة النفسانية الرادعة في الإنسان مبلغاً كبيراً ومرحلة شديدة بحيث تمنعه من اقتراف جميع القبائح، يصير معصوماً مطلقاً، كما أنّ الإنسان في القسم الأوّل صار معصوماً نسبياً.

وعلى الجملة: إذا كانت حوافز الطغيان والعصيان والبواعث على المخالفة محكومة عند الإنسان، منفورة لديه لأجل الحالة الراسخة، يصير الإنسان معصوماً تامّاً منزّهاً عن كل عيب وشين.

٢ - العصمة: نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي

قد تعرّفت على النظريّة الأُولى في حقيقة العصمة وأنّها عبارة عن: الدرجة

٢٩

العليا من التقوى، غير أنّ هناك نظرية أُخرى في حقيقتها، لا تنافي النظرية الأُولى، بل ربّما تُعد من علل تحقّق الدرجة العليا من التقوى التي عرفنا العصمة بها وموجب تكوّنها في النفس، وحقيقة هذه النظرية عبارة عن ( وجود العلم القطعي اليقيني بعواقب المعاصي والآثام ) علماً قطعياً لا يغلب ولا يدخله شك، ولا يعتريه ريب، وهو أن يبلغ علم الإنسان درجة يلمس في هذه النشأة لوازم الأعمال وآثارها في النشأة الأُخرى وتبعاتها فيها، ويصير على حد يدرك بل يرى درجات أهل الجنّة ودركات أهل النار، وهذا العلم القطعي هو الذي يزيل الحجب بين الإنسان وتوابع الأعمال، ويصير الإنسان مصداقاً لقوله سبحانه:( كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم ) (١) ، وصاحب هذا العلم هو الذي يصفه الإمام عليعليه‌السلام بقوله: ( فهم والجنّة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمَن قد رآها فهم فيها معذبون )(٢) .

فإذا بلغ العلم إلى هذه الدرجة من الكشف يصد الإنسان عن اجتراء المعاصي واقتراف المآثم، بل لا يجول حولها فكره.

ولتوضيح تأثير هذا العلم في صيرورة الإنسان معصوماً من اقتراف الذنب نأتي بمثال:

إنّ الإنسان إذا وقف على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها قتل الإنسان إذا مسّها من دون حاجز أو عائق بحيث يكون المسّ والموت مقترنين، أحجمت نفسه عن مس تلك الأسلاك والاقتراب منها دون عائق.

هذا نظير الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم، فإنّه إذا وقف على ماء اغتسل فيه مصاب بالجذام أو البرص أو السل، لم يقدم على شربه والاغتسال منه ومباشرته مهما اشتدّت حاجته إلى ذلك لعلمه بما يجرّ عليه الشرب

____________________

١ - التكاثر: ٥ - ٦.

٢ - نهج البلاغة:٢: الخطبة ١٨٨، ص ١٨٧، طبعة عبده.

٣٠

والاغتسال بذلك الماء الموبوء، فإذا وقف الإنسان الكامل على ما وراء هذه النشأة من نتائج الأعمال وعواقب الفعال، ورأى بالعيون البرزخية تبدّل الكنوز المكتنزة من الذهب والفضّة إلى النار المحماة التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم، امتنع عن حبس الأموال والإحجام عن إنفاقها في سبيل الله.

قال سبحانه:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبيلِ اللهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) (١) .

إنّ ظاهر قوله سبحانه:( هذا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ ) هو أنّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم، ليست إلاّ نفس الذهب والفضّة، لكن بوجودهما الأُخرويّين، وأنّ للذهب والفضّة وجودين أو ظهورين في النشأتين فهذه الأجسام الفلزّية، تتجلّى في النشأة الدنيوية في صورة الذهب والفضّة، وفي النشأة الأُخروية في صورة النيران المحماة.

فالإنسان العادي اللامس لهذه الفلزّات المكنوزة وإن كان لا يحس فيها الحرارة ولا يرى فيها النار ولا لهيبها، إلاّ أنّ ذلك لأجل أنّه يفقد حين المس، الحس المناسب لدرك نيران النشأة الآخرة وحرارتها، فلو فرض إنسان كامل يمتلك هذا الحس إلى جانب بقية حواسه العادية المتعارفة ويدرك بنحو خاص الوجه الآخر لهذه الفلزّات، وهو نيرانها وحرارتها، يجتنبها كاجتنابه النيران الدنيوية، ولا يقدم على كنزها، وتكديسها.

وهذا البيان يفيد أنّ للعلم مرحلة قويّة راسخة تصد الإنسان عن الوقوع في المعاصي والآثام، ولا يكون مغلوباً للشهوات والغرائز.

قال جمال الدين مقداد بن عبد الله الأسدي السيوري الحلّي في كتابه القيم

____________________

١ - التوبة: ٣٤ - ٣٥.

٣١

( اللوامع الإلهية ): ( ولبعضهم كلام حسن جامع هنا قالوا: العصمة مَلَكة نفسانية يمنع المتصف بها من الفجور مع قدرته عليه، وتتوقّف هذه المَلَكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات؛ لأنّ العفّة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء، والطاعة من السعادة، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس فتصير ملكة )(١) .

يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد: إنّ القوّة المسمّاة بقوّة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك، لتسرّب إليها التخلّف، ولتخبّط الإنسان على أثره أحياناً، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والإدراكات المتعارفة، التي تقبل الاكتساب والتعلّم، وقد أشار الله في خطابه الذي خصّ به نبيّه بقوله:( وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) (٢) وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه، إذ لا تذوّق لنا في هذا المجال(٣) .

وهوقدس‌سره يشير إلى كيفية خاصة من العلم والشعور الذي أوضحناه بما ورد حول الكنز وآثاره.

٣ - الاستشعار بعظمة الربّ وكماله وجماله

إنّ هاهنا نظرية ثالثة في تبيين حقيقة العصمة يرجع لبّها إلى أنّ استشعار العبد بعظمة الخالق وحبّه وتفانيه في معرفته وعشقه له، يصدّه عن سلوك ما يخالف رضاه سبحانه.

____________________

١ اللوامع الإلهيّة: ١٧٠.

٢ النساء: ١١٣.

٣ الميزان: ٥/٨١.

٣٢

وتلك النظرية مثل النظرية الثانية لا تخالف النظرية الأُولى التي فسّرناها من أنّ العصمة هي الدرجة العليا من التقوى، بل يكون الاستشعار والتفاني دون الحق، والعشق لجماله وكماله، أحد العوامل لحصول تلك المرتبة من التقوى، وهذا النحو من الاستشعار لا يحصل إلاّ للكاملين في المعرفة الإلهيّة البالغين أعلى قممها.

إذا عرف الإنسان خالقه كمال المعرفة الميسورة، وتعرّف على معدن الكمال المطلق وجماله وجلاله؛ وجد في نفسه انجذاباً نحو الحق، وتعلّقاً خاصاً به بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً، فهذا الكمال المطلق هو الذي إذا تعرف عليه الإنسان العارف، يؤجّج في نفسه نيران الشوق والمحبّة، ويدفعه إلى أن لا يبتغي سواه، ولا يطلب سوى إطاعة أمره وامتثال نهيه، ويصبح كل ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه، مقبوحاً في نظره، أشدّ القبح وعندئذ يصبح الإنسان مصوناً عن المخالفة، بعيداً عن المعصية بحيث لا يؤثر على رضاه شيئاً، وإلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام بقوله: ( ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك إنّما وجدتك أهلاً للعبادة)(١) .

هذه النظريات الثلاث أو النظرية الواحدة المختلفة في البيان والتقرير، تعرب عن أنّ العصمة قوّة في النفس تعصم الإنسان عن الوقوع في مخالفة الرب سبحانه وتعالى، وليست العصمة أمراً خارجاً عن ذات الإنسان الكامل وهويته الخارجية.

نعم هذه التحاليل الثلاثة لحقيقة العصمة، كلّها راجعة إلى العصمة عن المعصية والمصونية عن التمرد كما هو واضح لمن أعطى التأمّل لها، وأمّا العصمة في مقام تلقّي الوحي والتحفّظ عليه وإبلاغه إلى الناس، أو العصمة عن الخطأ في

____________________

١ - حديث معروف.

٣٣

الحياة والأمور الفردية أو الاجتماعية فلا بد أن توجّه بوجوه غير هذه الثلاثة - كما سيوافيك بيانها عند البحث عن المقام الثاني - أعني: العصمة عن الخطأ والاشتباه، والمهم هو البحث عن المقام الأوّل؛ ولذلك قدّمنا الكلام فيه.

نعم هناك عدّة روايات تصرّح بأنّ، هناك ( روحاً ) تعصم الأنبياء والرسل عن الوقوع في المهالك والخطايا، وإليك بيانها:

الروح التي تسدّد الأولياء

روى أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله تبارك وتعالى:( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلاَ الإيمان ) (١) قال: ( خلق من خلق الله عزّ وجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله يخبره ويسدّده وهو مع الأئمّة من بعده )(٢) .

وهذه الرواية مع أنّ ظاهرها لا ينطبق على الآية؛ لأنّ الوحي يتعلّق بالمفاهيم والألفاظ لا بالجواهر والأجسام، فالملك الذي هو أعظم من جبرئيل وميكائيل لا يمكن أن يتعلّق به الوحي، ويكون هو الموحى به، وإنّما يتعلّق به الإرسال والبعث ونحو ذلك، لا صلة لها بباب المعاصي بل هي راجعة إلى التسديد في تلقّي الوحي وإبلاغه إلى الناس، وحفظهم عن الخطأ على وجه الإطلاق.

على أنّ هناك روايات تشعر بأنّ هذه الروح التي تؤيّد الأنبياء غير خارجة عن ذواتهم، وهذا جابر الجعفي يروي عن الإمام الصادق في تفسير قوله سبحانه:( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصحابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصحابُ

____________________

١ - الشورى: ٥٢.

٢ - الكافي: ١/٢٧٣، باب ( الروح التي يسدّد بها الأئمّة ) الحديث ١ و٢.

٣٤

الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (١) .

( فالسابقون هم رسل الله، وخاصة الله من خلقه جعل فيهم خمسة أرواح أيّدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء، وأيّدهم بروح الإيمان فبه خافوا الله عزّ وجلّ، وأيدهم بروح القوّة فبه قدروا على طاعة الله، وأيّدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله عزّ وجلّ وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون )(٢) .

ولا يخفى أنّ الأرواح الأربعة غير خارجة عن ذواتهم، ولا يبعد أن تكون الخامسة وهي روح القدس غير خارجة عن ذواتهم ويكون المراد كمال نفوسهم إلى حد يعرفون الأشياء على ما هي عليها.

قال الشيخ صالح المازندراني في تفسير هذه الأرواح الخمسة: جعل الله تعالى بالحكمة البالغة والمصلحة الكاملة في الرسل والخاصة، خمسة أرواح لحفظهم من الخطاء وتكميلهم بالعلم والعمل ليكون قولهم صدقاً، وبرهاناً، والاقتداء بهم رشداً وإيقاناً كيلا يكون لمن سواهم على الله حجّة يوم القيامة، ولعلّ المراد بالأرواح هنا النفوس(٣) .

وعلى أيّ تقدير فهذه الروايات التي تشهد بتسديد الأنبياء بها، إمّا راجعة إلى تسديدهم في مقام تلقّي الوحي، أو راجعة إلى تسديدهم عن الخطاء في الأحكام والموضوعات، والكل خارج عن إطار البحث، وإنّما الكلام في صيانتهم عن المعاصي.

____________________

١ - الواقعة: ٦ - ١١.

٢ - الكافي: ١/٢٦١ باب فيه ( ذكر الأرواح التي في الأئمّة ) الحديث ١ و ٢ و ٣.

٣ - هامش أُصول الكافي: ١٣٦، الطبعة القديمة.

٣٥

هل العصمة موهبة إلهيّة أو أمر اكتسابي ؟

قد وقفت على حقيقة ( العصمة ) والعوامل التي توجب صيانة الإنسان عن الوقوع في حبال المعصية، ومهالك التمرّد والطغيان، غير أنّ هاهنا سؤالاً هامّاً يجب الإجابة عنه وهو: أنّ العصمة سواء أفسّرت بكونها هي الدرجة العليا من التقوى، أو بكونها العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي، أم فُسّرت بالاستشعار بعظمة الرب وجماله وجلاله، وعلى أيّ تقدير فهو كمال نفساني له أثره الخاص، وعندئذ يسأل عن أنّ هذا الكمال هل هو موهوب من الله لعباده المخلصين، أو أمر حاصل للشخص بالاكتساب ؟ فالظاهر من كلمات المتكلّمين أنّها موهبة من مواهب الله سبحانه يتفضّل بها على مَن يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة وقابليات مصحّحة لإفاضتها عليهم.

قال الشيخ المفيد: العصمة تفضّل من الله على مَن علم أنّه يتمسّك بعصمته(١) .

وهذه العبارة تشعر بأنّ إفاضة العصمة من الله سبحانه أمر خارج عن إطار الاختيار، غير أنّ إعمالها والاستفادة منها يرجع إلى العبد وداخل في إطار إرادته، فله أن يتمسّك بها فيبقى معصوماً من المعصية، كما له أن لا يتمسّك بتلك العصمة.

وقال أيضاً: والعصمة من الله تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان ممّا يكره إذا أتى بالطاعة(٢) .

وقال المرتضى في أماليه: العصمة: لطف الله الذي يفعله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع عن فعل قبيح.

____________________

١ - شرح عقائد الصدوق: ٦١.

٢ - أوائل المقالات: ١١.

٣٦

ونقل العلاّمة الحلّي عن بعض المتكلّمين بأنّه فسر العصمة بالأمر الذي يفعله الله بالعبد من الألطاف المقرّبة إلى الطاعات التي يعلم معها أنّه لا يقدم على المعصية بشرط أن لا ينتهي ذلك إلى الإلجاء.

ونقل عن بعضهم: العصمة لطف يفعله الله تعالى بصاحبها لا يكون معه داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية.

ثم فسّر أسباب هذا اللطف بأُمور أربعة(١) .

وقال جمال الدين مقداد بن عبد الله الشهير بالفاضل السيوري الحلّي (المتوفّى عام ٨٢٦ ه-) في كتابه القيّم ( اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية ):

قال أصحابنا ومَن وافقهم من العدلية: هي ( العصمة ) لطف يفعله الله بالمكلّف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية لانتفاء داعيه، ووجود صارفه مع قدرته عليها ثم نقل عن الأشاعرة بأنّها هي القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية(٢) .

كما نقل عن بعض الحكماء أنّ المعصوم خلقه الله جبلّة صافية، وطينة نقيّة، ومزاجاً قابلاً، وخصّه بعقل قوي وفكر سوي، وجعل له ألطافاً زائدة، فهو قويّ بما خصّه على فعل الواجبات واجتناب المقبّحات، والالتفات إلى ملكوت السماوات، والإعراض عن عالم الجهات، فتصير النفس الأمّارة مأسورة مقهورة في حيّز النفس العاقلة(٣) .

وقال العلاّمة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى:( إِنّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ

____________________

١ - كشف المراد: ٢٢٨، طبعة صيدا.

٢ - سيوافيك أنّ العصمة لا تنافي القدرة، والهدف من نقل قول الأشاعرة هو إثبات اتفاق القائلين بالعصمة، على أنّها موهبة إلهيّة.

٣ - اللوامع الإلهية: ١٦٩.

٣٧

عَنْكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) : إنّ الله تستمر إرادته أن يخصّكم بموهبة العصمة بإذهاب الاعتقاد الباطل وأثر العمل السيّئ عنكم أهل البيت، وإيراد ما يزيل أثر ذلك عليكم وهي العصمة(٢) .

إلى غير ذلك من الكلمات التي تصرّح بكون العصمة من مواهبه سبحانه إلى عباده المخلصين، وفي الآيات القرآنية تلويحات وإشارات إلى ذلك مثل قوله سبحانه:( وَاذْكُرْ عَبْدَنا إِبْراهيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصارِ * إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ * وَإِنَّهُمْ عَنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيارِ * وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيارِ ) (٣) ، وقوله سبحانه في حق بني إسرائيل والمراد أنبياؤهم ورسلهم:( وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ * وَآتَيْناهُمْ مِنَ الآياتِ ما فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ ) (٤) .

فإنّ قوله: ( إنّهم عندنا لمَن المصطفين الأخيار ) وقوله: ( ولقد اخترناهم على علم على العالمين ) يدل على أنّ النبوّة والعصمة، وإعطاء الآيات لأصحابها من مواهب الله سبحانه إلى الأنبياء، ومَن يقوم مقامهم من الأوصياء.

فإذا كانت العصمة أمراً إلهيّاً وموهبة من مواهبه سبحانه، فعندئذٍ ينطرح هاهنا سؤالان تجب الإجابة عنهما، والسؤالان عبارة عن:

١ - لو كانت العصمة موهبة من الله مفاضة منه سبحانه إلى رسله وأوصيائهم لم تعد كمالاً ومفخرة للمعصوم حتى يستحق بها التحسين والتحميد والتمجيد، فإنّ الكمال الخارج عن الاختيار كصفاء اللؤلؤ، لا يستحق التحسين

____________________

١ - الأحزاب: ٣٣.

٢ - الميزان: ١٦/٣١٣.

٣ - ص: ٤٥ - ٤٨.

٤ - الدخان: ٣٢ - ٣٣.

٣٨

والتمجيد، فإنّ الحمد والثناء إنّما يصحّان في مقابل الفعل الاختياري، وما هو خارج عن إطار الاختيار لا يصح أن يحمد صاحبه عليه، إذ هو وغيره في هذا المجال سواء، ولو أفيض ذاك الكمال على فرد آخر لكان مثله ؟

٢ - إذا كانت العصمة تعصم الإنسان عن الوقوع في المعصية، فالإنسان المعصوم عاجز عن ارتكاب المعاصي واقتراف المآثم، وعندئذٍ لا يستحق لترك العصيان مدحاً ولا ثواباً إذ لا اختيار له؟

والفرق بين السؤالين واضح، إذ السؤال الأوّل يرجع إلى عد نفس إفاضة العصمة مفخرة من مفاخر المعصوم؛ لأنّه إذا كانت موهبة إلهية لما صحّ عدّها كمالاً للمعصوم، بخلاف السؤال الثاني فإنّه يتوجّه إلى أنّ العصمة تسلب القدرة عن المعصوم على ارتكاب المعاصي، فلا يعد الترك كمالاً ولا عاملاً لاستحقاق الثواب.

وهذان السؤالان من أهم الأسئلة في باب العصمة، وإليك الإجابة عن كليهما.

العصمة المفاضة كمال لصاحبها

إنّ العصمة الإلهية لا تفاض للأفراد إلاّ بعد وجود أرضيات صالحة في نفس المعصوم، تقتضي إفاضة تلك الموهبة إلى صاحبها، وأمّا ما هي تلك الأرضيات والقابليات التي تقتضى إفاضتها فخارج عن موضوع البحث، غير إنّا نقول على وجه الإجمال: إنّ تلك القابليات على قسمين: قسم خارج عن اختيار الإنسان، وقسم واقع في إطار إرادته واختياره.

أمّا القسم الأوّل، فهي القابليات التي تنتقل إلى النبي من آبائه وأجداده عن طريق الوراثة، فإنّ الأولاد كما يرثون أموال الآباء وثرواتهم، يرثون أوصافهم

٣٩

الظاهرية والباطنية، فترى أنّ الولد يشبه الأب أو العم، أو الأُم أو الخال، وقد جاء في المثل: الولد الحلال يشبه العم أو الخال.

وعلى ذلك فالروحيات الصالحة أو الطالحة تنتقل من طريق الوراثة إلى الأولاد، فنرى ولد الشجاع شجاعاً، وولد الجبان جباناً إلى غير ذلك من الأوصاف الجسمانية والروحانية.

إنّ الأنبياء - كما يحدّثنا التاريخ - كانوا يتولّدون في البيوتات الصالحة العريقة بالفضائل والكمالات، وما زالت تنتقل تلك الكمالات والفضائل الروحية من نسل إلى نسل وتتكامل إلى أن تتجسّد في نفس النبي، ويتولّد هو بروح طيّبة وقابلية كبيرة لإفاضة المواهب الإلهية عليه.

نعم ليست الوراثة العامل الوحيد لتكوّن تلك القابليات، بل هناك عامل آخر لتكوّنها في نفوس الأنبياء وهو عامل التربية، فإنّ الكمالات والفضائل الموجودة في بيئتهم تنتقل من طريق التربية إلى الأولاد.

ففي ظل ذينك العاملين: ( الوراثة والتربية ) نرى كثيراً من أهل تلك البيوتات ذوي إيمان وأمانة، وذكاء ودراية، وما ذلك إلاّ لأنّ العائشين في تلك البيئات والمتولّدين فيها يكتسبون جلّ هذه الكمالات من ذينك الطريقين، وعلى ذلك فهذه الكمالات الروحية أرضيات صالحة لإفاضة المواهب الإلهية إلى أصحابها ومنها العصمة والنبوّة.

نعم هناك عوامل أُخر لاكتساب الأرضيات الصالحة داخلة في إطار الاختيار وحرية الإنسان، وإليك بعضها:

١ - إنّ حياة الأنبياء من لدن ولادتهم إلى زمان بعثتهم مشحونة بالمجاهدات الفردية والاجتماعية؛ فقد كانوا يجاهدون النفس الأمّارة أشدّ الجهاد، ويمارسون تهذيب أنفسهم بل ومجتمعهم، فهذا هو يوسف الصدّيقعليه‌السلام جاهد نفسه الأمّارة

٤٠

وألجمها بأشدّ الوجوه عندما راودته مَن هو في بيتها( وَغَلَّقَتِ الأبوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَك ) فأجاب بالرد والنفي بقوله:( مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ ) (١) .

وهذا موسى كليم الله وجد في مدين امرأتين تذودان واقفتين على بعد من البئر، فقدم إليهما قائلاً: ما خطبكما فقالتا: إنّا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير، وعند ذلك لم يتفكّر في شيء إلاّ في رفع حاجتهما، ولأجل ذلك سقى لهما ثم تولّى إلى الظل قائلاً:( رَبّ إِنّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) (٢) ،(٣)

وكم هناك من شواهد تاريخية على جهاد الأنبياء وقيامهم بواجبهم إبّان شبابهم إلى زمان بعثتهم التي تصدّت لذكرها الكتب السماوية وقصص الأنبياء وتواريخ البشر.

فهذه العوامل، الداخل بعضها في إطار الاختيار والخارج بعضها عن إطاره أوجدت قابليات وأرضيات صالحة لإفاضة وصف العصمة عليهم وانتخابهم لذلك الفيض العظيم، فعندئذ تكون العصمة مفخرة للنبي صالحة للتحسين والتبجيل والتكريم.

وإن شئت قلت: إنّ الله سبحانه وقف على ضمائرهم ونيّاتهم ومستقبل أمرهم، ومصير حالهم وعلم أنّهم ذوات مقدّسة، لو أُفيضت إليهم تلك الموهبة لاستعانوا بها في طريق الطاعة وترك المعصية بحرّية واختيار، وهذا العلم كافٍ لتصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم بخلاف مَن يعلم من حاله خلاف ذلك.

____________________

١ - يوسف: ٢٣.

٢ - القصص: ٢٣ - ٢٤.

٣ - لاحظ قصة موسى في دفعه القبطي المعتدي على إسرائيلي في سورة القصص الآيات: ١٥ - ٢٠ وفي ذلك يقول: ( ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين ) (القصص: ١٧).

٤١

يقول العلاّمة الطباطبائي: إنّ الله سبحانه خلق بعض عباده على استقامة الفطرة، واعتدال الخلقة، فنشأوا من بادئ الأمر بأذهان وقّادة، وإدراكات صحيحة ونفوس طاهرة، وقلوب سليمة، فنالوا بمجرّد صفاء الفطرة وسلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب بل أعلى وأرقى لطهارة داخلهم من التلوّث بألواث الموانع والمزاحمات، والظاهر أنّ هؤلاء هم المخلصون ( بالفتح ) لله في مصطلح القرآن، وهم الأنبياء والأئمّة، وقد نصّ القرآن بأنّ الله اجتباهم، أي جمعهم لنفسه وأخلصهم لحضرته، قال تعالى:( وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (١) وقال:( هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٢) ،(٣) .

وهذه العبارة من العلاّمة الطباطبائي تشير إلى القسم الثاني وهو القابليات الخارجة عن اختيار الأنبياء غير أنّ هناك أُموراً واقعة في اختيارهم كما عرفت، فالكل يعطي الصلاحية لإفاضة الموهبة الإلهية على تلك النفوس المقدّسة.

كلام السيّد المرتضى

إنّ للسيّد المرتضى كلاماً في الإجابة عن هذا السؤال نأتي بنصّه:

فإن قيل: إذا كان تفسير العصمة ما ذكرتم فألاَّ عَصَمَ الله تعالى جميع المكلّفين وفعل بهم ما يختارون عنده الامتناع من القبائح ؟

قلنا: كل مَن علم الله تعالى أنّ له لطفاً يختار عنده الامتناع من القبائح فإنّه لا بد أن يفعل به وإن لم يكن نبيّاً ولا إماماً؛ لأنّ التكليف يقتضي فعل اللطف على

____________________

١ - الأنعام: ٨٧.

٢ - الحج: ٧٨.

٣ - الميزان: ١١/١٧٧.

٤٢

ما دلّ عليه في مواضع كثيرة غير أنّه لا يمتنع أن يكون في المكلّفين من ليس في المعلوم أنّ شيئاً متى فعل، اختار عنده الامتناع من القبيح، فيكون هذا المكلّف لا عصمة له في المعلوم ولا لطف، وتكليف مَن لا لطف له يحسن ولا يقبح وإنّما القبيح منع اللطف في مَن له لطف مع ثبوت التكليف(١) .

وحاصل ما أفاده هو: أنّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الأفراد في المستقبل فكل مَن علم سبحانه أنّه لو أُفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الامتناع من القبائح، فعندئذ تفاض عليه العصمة، وأن لم يكن نبيّاً ولا إماماً، وأمّا مَن علم أنّه متى أُفيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الامتناع من القبيح لما أُفيضت عليه العصمة؛ لأنّه لا يستحق الإفاضة.

وعلى ذلك فوصف العصمة موهبة إلهية تُفاض لمَن يعلم من حاله أنّه ينتفع منها في ترك القبائح عن حرية واختيار.

ولأجل ذلك يعد مفخرة قابلة للتحسين والتكريم ولا يلزم أن يكون المعصوم نبيّاً أو إماماً، بل كل مَن ينتفع منها في طريق كسب رضاه سبحانه تُفاض عليه.

إلى هنا تمّت الإجابة على السؤال الأوّل، وبقيت الإجابة على السؤال الثاني، وإليك ذلك:

هل العصمة تسلب الاختيار ؟

ربّما يتخيّل أنّ المعصوم لا يقدر على ارتكاب المعصية واقتراف المآثم، فالعصمة تسلب القدرة والاختيار عن صاحبها، وعند ذاك لا يُعد ترك العصيان مكرمة.

____________________

١ - أمالي المرتضى: ٢/٣٤٧ - ٣٤٨، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

٤٣

وفي هذا الصدد يقول السيد المرتضى:

ما حقيقة العصمة التي يُعتقد وجوبها للأنبياء والأئمّة:؟ وهل هي معنىً يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية، أو معنى يضام الاختيار ؟ فإن كان معنى يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية، فكيف يجوز الحمد والذم لفاعلها ؟ وإن كان معنىً يضامّ الاختيار فاذكروه، ودُلّوا على صحّة مطابقته له(١) .

والجواب: أنّ العصمة لا تسلب الاختيار عن الإنسان بأيّ معنى فُسّرت، سواء أقلنا بأنّها الدرجة العليا من التقوى، أو أنّها نتيجة العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي، أو أنّها أثر الاستشعار بعظمة الرب والمحبّة لله سبحانه، وعلى كل تقدير فالإنسان المعصوم مختار في فعله، قادر على كلا طرفي القضية من الفعل والترك، وتوضيح ذلك بالمثال الآتي:

إنّ الإنسان العاقل الواقف على وجود الطاقة الكهربائية في الأسلاك المنزوعة من جلدها، لا يمسّها كذلك، كما أنّ الطبيب لا يأكل سؤر المجذومين والمسلولين لعلمهما بعواقب فعلهما، وفي الوقت نفسه يرى كل واحد منهما نفسه قادراً على ذلك الفعل، بحيث لو أغمض العين عن حياته وهيّأ نفسه للمخاطرة بها، لفعل ما يتجنّبه، غير أنّهما لا يقومان به لكونهما يحبّان حياتهما وسلامتهما.

فإن شئت قلت: إنّ العمل المزبور ممكن الصدور بالذات من العاقل والطبيب، غير أنّه ممتنع الصدور بالعرض والعادة، وليس صدوره محالاً ذاتياً وعقلياً، وكم من فرق بين المحالين، ففي المحال العادي يكون صدور الفعل من الفاعل ممكناً بالذات، غير أنّه يرجّح أحد الطرفين على الآخر بنوع من الترجيح بخلاف الثاني فإنّ الفعل فيه يكون ممتنعاً بالذات، فلا يصدر لعدم إمكانه الذاتي.

____________________

١ - أمالي المرتضى: ٢/٣٤٧.

٤٤

وإن شئت فلاحظ صدور القبيح منه سبحانه فإنّ صدوره منه أمر ممكن بالذات، داخل في إطار قدرته فهو يستطيع أن يدخل المطيع في نار الجحيم والعاصي في نعيم الجنّة، غير أنّه لا يصدر منه ذلك الفعل لكونه مخالفاً للحكمة ومبايناً لما وعد به وأوعد عليه، وعلى ذلك فامتناع صدور الفعل عن الإنسان مع التحفّظ على الأغراض والغايات، لا يكون دليلاً على سلب الاختيار والقدرة.

فالنبي المعصوم قادر على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا، حسب ما أُعطي من القدرة والحرية، غير أنّه لأجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى واكتساب العلم القطعي بآثار المآثم والمعاصي واستشعاره بعظمة الخالق، يتجنّب عن اقترافها واكتسابها، ولا يكون مصدراً لها مع قدرته واقتداره عليها.

ومثلهم في ذلك المورد كمثل الوالد العطوف الذي لا يقدم على قتل ولده، ولو أُعطيت له الكنوز المكنوزة والمناصب المرموقة ومع ذلك فهو قادر على قتله، بحمل السكين والهجوم عليه وقطع أوردته، وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائي:

إنّ هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية، ولا يخرجها إلى ساحة الإجبار والاضطرار كيف ؟ والعلم من مبادئ الاختيار، ومجرّد قوّة العلم لا يوجب إلاّ قوة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سمّاً قاتلاً من حينه فإنّه يمنع باختياره من شربه قطعاً، وإنّما يضطرّ الفاعل ويجبر إذا أخرج المجبر أحد طرفي الفعل والترك من الإمكان إلى الامتناع.

ويشهد على ذلك قوله:( وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ * ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَو أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا

٤٥

يَعْمَلُونَ ) (١) تفيد الآية أنّهم في إمكانهم أن يشركوا بالله وإن كان الاجتباء أو الهدى الإلهي مانعاً من ذلك، وقوله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) (٢) ، إلى غير ذلك من الآيات.

فالإنسان المعصوم إنّما ينصرف عن المعصية بنفسه وعن اختياره وإرادته، ونسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.

ولا ينافي ذلك أيضاً ما يشير إليه كلامه تعالى وتصرّح به الأخبار من أنّ ذلك من الأنبياء والأئمّة بتسديد من روح القدس، فإنّ النسبة إلى روح القدس، كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان، ونسبة الضلال والغواية إلى الشيطان وتسويله، فإنّ شيئاً من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلاً صادراً عن فاعله مستنداً إلى اختياره وإرادته فافهم ذلك.

نعم هناك قوم زعموا أنّ الله سبحانه إنّما يصرف الإنسان عن المعصية لا من طريق اختياره وإرادته، بل من طريق منازعة الأسباب ومغالبتها بخلق إرادة، أو إرسال ملك يقاوم إرادة الإنسان، فيمنعها عن التأثير أو يغيّر مجراها ويحرفها إلى غير ما من طبع الإنسان أن يقصده، كما يمنع الإنسان القوي الضعيف عمّا يريده من الفعل بحسب طبعه.

وبعض هؤلاء - وإن كانوا من المجبّرة - لكنّ الأصل المشترك الذي يبتني عليه نظرهم هذا وأشباهه: أنّهم يرون أنّ حاجة الأشياء إلى البارئ الحق سبحانه إنّما هي في حدوثها، وأمّا في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب، إلاّ أنّه لما كان أقدر وأقوى من كل شيء كان له أن يتصرّف في

____________________

١ - الأنعام: ٨٧ - ٨٨.

٢ - المائدة: ٦٧.

٤٦

الأشياء حال البقاء أي تصرف شاء، من منع أو إطلاق وإحياء أو إماتة ومعافاة أو تمريض وتوسعة أو تقصير إلى غير ذلك بالقهر.

فإذا أراد الله سبحانه أن يصرف عبداً عن شرٍّ - مثلاً - أرسل إليه ملكاً ينازعه في مقتضى طبعه ويغيّر مجرى إرادته مثلاً من الشر إلى الخير، أو أراد أن يضل عبداً لاستحقاقه ذلك، سلّط عليه إبليس فحوّله من الخير إلى الشر، وإن كان ذلك لا بمقدار يوجب الإجبار والاضطرار.

وهذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير والشر مشاهدة عيان أنّه ليس هناك سبب آخر يغايرنا وينازعنا فيغلب علينا غير أنفسنا التي تعمل أعمالها عن شعور بها وإرادة مترتّبة عليه قائمين بها، فالذي يثبته السمع والعقل وراء نفوسنا من الأسباب كالملك والشيطان سبب طولي لا عرضي، مضافاً إلى أنّ المعارف القرآنية من التوحيد وما يرجع إليه يدفع هذا القول من أصله(١) .

____________________

١ - الميزان: ١١/ ١٧٩ - ١٨٠.

٤٧

مراحل العصمة ودلالتها

قد وقفت على حقيقة العصمة وما يرجع إليها من المباحث الاستطرادية، فيجب الآن الوقوف على مراحلها التالية:

١ - الصيانة في تلقّي الوحي والحفاظ عليه وإبلاغه إلى الناس.

٢ - الصيانة من المعصية وارتكاب الذنب المصطلح.

٣ - الصيانة من الخطأ في الأمور الفردية والاجتماعية(١) .

هذه هي مراحل العصمة، ويمكن تبيين تلك المراحل بصورة أُخرى، وهي أنّ متعلّق العصمة والصيانة لا تخلو عن أحد أُمور وهي:

إمّا كفر بالله أو عصيانه ومخالفته.

والثاني لا يخلو إمّا أن يكون معصية كبيرة، أو صغيرة؛ والصغيرة على قسمين: إمّا أن تكون حاكية عن خسّة الفاعل ودناءة طبعه كسرقة اللقمة الواحدة، أو لا؛ وعلى كل حال فصدور المعصية إمّا عمدي أو سهوي، وإمّا صادر قبل البعثة أو بعدها.

وقد فصّل القاضي عبد الجبّار شيخ المعتزلة في عصره مذهب المعتزلة في العصمة، فحكم بأنّه يجب أن يكون النبي منزّهاً عمّا يقتضى خروجه من ولاية الله تعالى إلى عداوته قبل النبوّة وبعدها، كما يجب أن يكون منزّهاً من كذب أو كتمان أو سهو أو غلط إلى غير ذلك، ومن حقّه أن لا يقع منه ما ينفر منه عن القبول منه أو

____________________

١ - وسيوافيك البحث عن هذه المرحلة في الجزء الخامس بإذنه سبحانه.

٤٨

يصرف من السكون إليه أو عن النظر في علمه، نحو الكذب على كل حال، والتورية والتعمية في ما يؤدّيه، والصغائر المستخفة(١) وقال التفتازاني في شرح العقائد النسفية: إنّهم معصومون عن الكفر قبل الوحي وبعده بالإجماع، وكذا مَن تعمّد الكبائر عند الجمهور خلافاً للحشوية، وأمّا سهواً، فجوّزه الأكثرون وأمّا الصغائر، فيجوز عمداً عند الجمهور، خلافاً للجبّائي وأتباعه، ويجوز سهواً بالاتفاق إلاّ ما يدل على الخسّة(٢) .

قال الفاضل القوشجي: إنّ المعاصي إمّا أن تكون منافيةً لما تقتضيه المعجزة، كالكذب في ما يتعلّق بالتبليغ أو لا، والثاني إمّا أن يكون كفراً أو معصية؛ وهي إمّا أن تكون كبيرة كالقتل والزنا، أو صغيره منفّرة كسرقة لقمة والتطفيف بحبّة، أو غير منفّرة ككذبة وشتمة؛ وكل ذلك إمّا عمداً أو سهواً، أو بعد البعثة أو قبلها(٣) .

فنقول: أمّا الأوّل، أعني: صدور الكفر من المعصومين، فلم يجوّزه أحد، وما ربّما ينسب إلى بعض الفرق كالأزارقة من تجويز الكفر على الأنبياء، فالمراد من الكفر هو المعصية في مصطلح المسلمين، وإنّما أطلقوا عليه لفظ الكفر، لأجل اعتقادهم بأنّ كل معصية كفر، قال الفاضل المقداد: أجمعوا على امتناع الكفر عليهم إلاّ الفضيلية من الخوارج فإنّهم جوّزوا صدور الذنب عنهم، وكل ذنب عندهم كفر، فلزمهم جواز الكفر عليهم، وجوّز قوم عليهم الكفر تقيّة وخوفاً، ومنعه ظاهر، فإنّ أولى الأوقات بالتقية زمان بدء الدعوة لكثرة المنكرين له حينئذ، لكنّ ذلك يؤدّي إلى خفاء الدين بالكلّيّة(٤) .

____________________

١ - المغني: ١٥/٢٧٩.

٢ - العقائد النسفية: ١٧١، ونسب فيه للشيعة جواز إظهار الكفر للتقيّة، وهم براء منه.

٣ - شرح التجريد: ٤٦٤.

٤ - اللوامع الإلهية: ١٧٠.

٤٩

وقال الفاضل القوشجي: قد جوّز الأزارقة من الخوارج الكفر بناءً على تجويزهم الذنب مع قولهم بأنّ كل ذنب كفر(١) .

وربّما يتوهّم تجويز الكفر على النبي لأجل التقيّة، وهو باطل؛ لأنّ للتقية شرائط خاصة تجوز إذا حصلت ولا تقية في هذا المورد، وفي ذلك يقول القاضي عبد الجبار الهمداني الأسدآبادي: فإن قال: أفتجوزون على الرسول التقية في ما يؤدّيه ؟ قيل له: لا يجوز ذلك عليه في ما يلزمه أن يؤدّيه، ولو كانت مجوّزة لم تعظم مرتبة النبي؛ لأنّها إنّما تعظم لأنّه يتكفّل بأداء الرسالة، والصبر على كل عارض دونه - إلى أن قال: - فلو هُدّد بالقتل إذا أدّى شريعته فما الحكم فيه ؟ قيل له: يلزمه أن يؤدّيه ويعلم أنّه تعالى يصرف ذلك عنه(٢) .

وأمّا غير الكفر فتفصيل المذاهب هو أنّ الشيعة اتفقت على عصمة الأنبياء عن المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، سهواً كانت أو عمداً، قبل البعثة أو بعدها نعم يظهر من الشيخ المفيد تجويز بعض المعاصي الصغيرة على غير عمد على الأنبياء قبل العصمة؛ حيث قال: إنّ جميع أنبياء الله (صلّى الله عليهم) معصومون من الكبائر قبل النبوّة وبعدها وبما يستخف فاعله من الصغائر كلها، وأمّا ما كان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوّة، وعلى غير عمد، وممتنع منهم بعدها على كل حال ( ثم قال: ) وهذا مذهب جمهور الإمامية(٣) ويظهر ذلك من المحقق الأردبيلي في تعاليقه على شرح التجريد للفاضل القوشجي حيث إنّ المحقّق الطوسي استدلّ على العصمة بأنّه لولاها لما حصل الوثوق بقول الأنبياء، وأورد عليه الشارح بأنّ صدور الذنوب لا سيّما الصغيرة

____________________

١ - شرح التجريد: ٤٦٤.

٢ - المغني: ١٥/٢٨٤.

٣ - أوائل المقالات: ٢٩ و ٣٠.

٥٠

سهواً لا يخل بالوثوق، وعلّق عليه الأردبيلي بقوله: ( خصوصاً قبل البعثة )(١) .

وأمّا غير الشيعة فقد عرفت نظرية الاعتزال غير أنّ الفاضل القوشجي يفصّل بقوله: الجمهور على وجوب عصمتهم عمّا ينافي مقتضى المعجزة، وقد جوّزه القاضي سهواً، زعماً منه أنّه لا يخل بالتصديق المقصود بالمعجزة، وكذا عن تعمّد الكبائر، بعد البعثة، وجوّزه الحشوية، وكذا عن الصغائر المنفّرة لإخلالها بالدعوة إلى الإتباع، ولهذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضاً، والمذهب عند محقّقي الأشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقاً، والصغائر غير الخسيسة عمداً لا سهواً، وذهب إمام الحرمين من الأشاعرة وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمداً(٢) .

هذه هي الأقوال المعروفة بين المتكلّمين، وستعرف شذوذ الكل عن الكتاب والسنّة وحكم العقل غير القول الأوّل، فنقول يقع الكلام في مراحل:

المرحلة الأُولى: عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة

ذهب الأكثرون من الجمهور والشيعة أجمع إلى عصمتهم في تلك المرحلة ونسب إلى الباقلاني تجويز الخطاء في إبلاغ الرسالة سهواً ونسياناً لا عمداً وقصداً، وقال أبو الحسن عبد الجبّار المعروف بالقاضي رئيس الاعتزال في وقته (المتوفّ-ى سنة ٤١٥): لا يجوز الكذب في ما يؤدّيه - أي النبي - عن الله تعالى؛ لأنّه تعالى، مع حكمته، ومع أنّ غرضه بالبعثة تعريف المصالح، لو علم أنّه يختار الكذب في ما يؤدّيه لم يكن ليبعثه؛ لأنّ ذلك ينافي الحكمة، ولمثل هذه العلّة لا يجوز أن لا يؤدّيه ما حمله من الرسالة، ولا أن يكتمه أو يكتم بعضه.

____________________

١ - تعاليق المحقّق الأردبيلي على شرح التجريد: ٤٦٤.

٢ - شرح التجريد للفاضل القوشجي: ٦٦٤.

٥١

إلى أن قال: إنّا لا نجوّز عليه السهو والغلط في ما يؤدّيه عن الله تعالى لمثل العلّة التي تقدم ذكرها؛ لأنّه لا فرق، في خروجه من أن يكون موَدّياً بين أن يسهو أو يغلط أو يكتم أو يكذب، فحال الكل يتفق في ذلك ولا يختلف.

وإنّما نجوّز أن يسهو في فعل قد بيّنه من قبل وأدّى ما يلزم فيه حتى لم يغادر منه شيئاً، فإذا فعله لمصالحه لم يمتنع أن يقع فيه السهو والغلط؛ ولذلك لم يشتبه على أحد الحال في أنّ الذي وقع منه من القيام في الثانية هو سهو، وكذلك ما وقع منه في خبر ذي اليدين إلى غير ذلك(١) .

وفي ما ذكره من تجويز السهو على النبي في الفعل الذي بيّن حكمه سيأتي الكلام فيه.

وقد استدلّ المحقّقون من المتكلّمين على عصمتهم في تلك المرحلة بوجوه أشار إليها المحقّق الطوسي في تجريده بقوله: ليحصل الوثوق بأفعاله وأقواله، ويحصل الغرض من البعثة وهو متابعة المبعوث إليهم له في أوامره ونواهيه(٢) .

وما ذكره من الدليلين، وإن كان لا يختص بهذه المرحلة بل يعم المراحل الأُخر، ولكنّه برهان تام يعتمد عليه العقل والوجدان في مسألة عصمة الأنبياء في مجال تبليغ الرسالة.

توضيحه:

إنّ الهدف الأسمى والغاية القصوى من بعث الأنبياء هو هداية الناس إلى التعاليم الإلهية والشرائع المقدّسة، ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بإيمانهم بصدق

____________________

١ - المغني: ١٥/٢٨١.

٢ - شرح التجريد للفاضل القوشجي: ٤٦٣، وكشف المراد: ٢١٧ طبع صيدا.

٥٢

المبعوثين، وإذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه، وإنّ كلامهم وأقوالهم كلامه وقوله سبحانه، وهذا الإيمان والإذعان لا يحصل إلاّ بإذعان آخر وهو الإذعان بمصونيّتهم عن الخطاء في المراحل الثلاث في مجال تبليغ الرسالة، وهي المصونية في مقام أخذ الوحي، والمصونية في مقام التحفّظ عليه، والمصونية في مقام الإبلاغ والتبيين، ومثل هذا لا يحصل إلاّ بمصونية النبي عن الزلل والخطاء عمده وسهوه قال القاضي أبو الحسن عبد الجبار: إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول - ممّن يخالف فعله قوله - سكونها إلى مَن كان منزّهاً عن ذلك، فيجب أن لا يجوز في الأنبياء: إلاّ ما نقوله من أنّهم منزّهون عمّا يوجب العقاب والاستخفاف والخروج من ولاية الله تعالى إلى عداوته.

يبيّن ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر والمعاصي بالمنع والردع والتخفيف فلا يجوز أن يكونوا مقدّمين على مثل ذلك؛ لأنّ المتعالم أنّ المقدم على الشيء لا يقبل منه منع الغير منه للنهي والزجر، وانّ هذه الأحوال منه لا تؤثّر ولو أنّ واعظاً انتصب يخوف من المعاصي من يشاهده مقدّماً على مثلها لاستخف به وبوعظه(١) .

وقال في موضع آخر: إنّ الواعظ والمذكِّر وإن غلب على ظنّنا من حاله أنّه مقلع تائب لما أظهره من أمارات التوبة والندامة حتى عرفنا من حاله الانهماك في الشرب والفجور من قبل، لم يؤثّر وعظه عندنا كتأثير المستمر على النظافة والنزاهة في سائر أحواله(٢) .

وما ذكره أخيراً دليل وجوب العصمة حتى قبل البعثة.

وهذا البرهان لو قرّر على الوجه الكامل لكفي برهاناً في جميع مراحل

____________________

١ - المغني: ١٥/٣٠٣.

٢ - المصدر نفسه: ٣٠٥.

٥٣

العصمة التي سنبيّنها في الأبحاث الآتية.

هذا منطق العقل، وأمّا منطق الوحي فهو يؤكّد على مصونية النبي في تبليغ الرسالة في المجالات الثلاثة الماضية، وإليك بيان ذلك:

القرآن وعصمة النبي في مجال تلقّي الوحي و

هناك آيات تدلّ على العصمة في ذلك المجال نذكرها واحدة بعد الأُخرى:

الآية الأُولى

( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ) (١) .

( إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) (٢) .

( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شيءٍ عَدَداً ) (٣) .

إنّ دلالة الآيات هذه على مصونية الرسل والأنبياء في مجال تلقّي الوحي، وما يليه من التحفّظ والتبليغ؛ تتوقّف على توضيح بعض مفرداته:

١ - قوله:( فلا يظهر ) من باب الأفعال بمعنى الإعلام كما في قوله سبحانه:( وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عرّف بَعْضَهُ وَأَعْرضَ عَن بَعْضٍ ) (٤) .

٢ - لفظة( من ) في قوله:( من رسول ) بيانية تبيّن المرضي عند الله ،

____________________

١ - الجن: ٢٦.

٢ - الجن: ٢٧.

٣ - الجن: ٢٨.

٤ - التحريم: ٣.

٥٤

فالرسول هو المرتضى الذي اختاره الله تعالى لتعريفه على الغيب.

٣ - والضمير في ( أنّه ) في قوله:( إنّه يسلك ) يرجع إلى الله، كما أنّ ضمير الفاعل في قوله:( يسلك ) أيضاً يرجع إليه، وهو بمعنى: يجعل.

٤ - والضمير في( يديه ومن خلفه ) يرجع إلى الرسول.

٥ - و( رصداً ) هو الحارس الحافظ يطلق على الجمع والمفرد.

٦ - والمراد من:( بين يديه ) أي ما بين يدي الرسول: ما بينه وبين الناس، المرسل إليهم.

كما أنّ المراد من( من خلفه ) ما بين الرسول وبين مصدر الوحي الذي هو سبحانه.

وعلى ذلك فالنبي مصون ومحفوظ في مجال تلقّي الوحي من كلا الجانبين.

وقد اعتبر في هذا التعبير ما يوهمه معنى الرسالة من أنّه فيض متصل من المرسِل ( بالكسر ) وينتهي إلى المرسَل إليه ( بالفتح ) والآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسل، وأنّ الرسول محاط بالرصد والحارس من أمامه ( ما بين يديه ) و ( خلفه ) وورائه، فلا يصيبه شيء يباين الوحي.

ومعنى الآية: أنّ الله يجعل ( يسلك ) ما بين الرسول ومَن أرسل إليه، وما بين الرسول ومصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة، وليس جعل الرصد أمام الرسول وخلفه إلاّ للتحفّظ على الوحي من كل تخليط وتشويش بالزيادة والنقص التي يقع فيها من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها.

ثم إنّه سبحانه علّل جعل الرصد بين يدي الرسول وخلفه بقوله:( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم ) .

٥٥

والمراد من العلم هو العلم الفعلي بمعنى التحقّق الخارجي على حد قوله:( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ) .(١)

أي ليتح-قّق إبلاغ رسالات ربّه-م على ما هي عليه من غير تغ-يير وتبدّل.

٧ - قوله:( وأحاط بما لديهم ) بمنزلة الجملة المتمّمة للحراسة المستفادة من قوله:( رصداً ) .

وعلى الجملة فهذه العبارات الثلاث الواردة في الآية تفيد مدى عناية الباري للحراسة والحفاظ على الوحي إلى أن يصل إلى المرسل إليهم بلا تغيير وتبديل، وهذه الجمل عبارة عن:

ا -( من بين يديه ) .

ب -( ومن خلفه ) .

ج -( وأحاط بما لديهم ) .

فالجملة الأُولى تشير إلى وجود رصد بين الرسول والناس.

كما أنّ الجملة الثانية تشير إلى وجود رصد محافظين بينه وبين مصدر الوحي.

والجملة الثالثة تشير إلى وجود الحفظة في داخل كيانهم.

فتصير النتيجة أنّ الوحي في أمن وأمان من تطرّق التحريف منذ أن يفاض من مصدر الوحي ويقع في نفس الرسول إلى أن يصل إلى الناس والمرسل إليهم.

٨ - قوله:( وأحصى كلّ شيء عدداً ) مسوق لإفادة عموم علمه بكل شيء سواء في ذلك الوحي الملقى إلى الرسول وغيره.

____________________

١ - العنكبوت: ٣.

٥٦

يقول العلاّمة الطباطبائي: إنّ قوله سبحانه:( فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه ) إلى آخر الآيتين يدل على أنّ الوحي الإلهي محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس، مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى مَن قصد نزوله إليه.

أمّا مصونيته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله:( من خلفه ) وأمّا مصونيته حين أخذ الرسول إيّاه وتلقّيه من ملك الوحي بحيث يعرفه ولا يغلط في أخذه، ومصونيته في حفظه بحيث يعيه كما أُوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيره أو يبدله.

ومصونيته في تبليغه إلى الناس من تصرّف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله:( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم ) حيث يدل على أنّ الغرض الإلهي من سلوك الرصد أن يعلم إبلاغهم رسالات ربّهم أي أن يتحقّق في الخارج إبلاغ الوحي إلى الناس، ولازمه بلوغه إيّاهم ولولا مصونية الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعاً لم يتم الغرض الإلهي وهو ظاهر.

وحيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقاً غير سلوك الرصد دلّ ذلك على أنّ الوحي محروس بالملائكة، وهو عند الرسول، كما أنّه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتى ينتهى إليه، ويؤكّده قوله بعده:( وأحاط بما لديهم ) .

وأمّا مصونيته في مسيره من الرسول حتى ينتهي إلى الناس فيكفى فيه قوله:( ومن بين يديه ) على ما تقدّم معناه.

أضف إلى ذلك دلالة قوله:( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم ) بما تقدّم من تقريب دلالته.

ويتفرّع على هذا البيان: أنّ الرسول مؤيّد بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه وفي حفظه وفي تبليغه إلى الناس، مصون من الخطأ في الجهات الثلاث جميعاً لما مرّ

٥٧

من دلالة على أنّ ما نزّله الله من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي، مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس، ومن مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي وحفظه له وتبليغه إلى الناس.

والتبليغ يعمّ القول والفعل فإنّ في الفعل تبليغاً كما في القول، فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرّمات وترك الواجبات الدينية؛ لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين، فهو معصوم من فعل المعصية كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحي وحفظه وتبليغه قولاً.

وقد تقدّمت الإشارة إلى أنّ النبوّة كالرسالة في دورانها مدار الوحي، فالنبي كالرسول في خاصة العصمة، ويتحصّل بذلك أنّ أصحاب الوحي سواء كانوا رسلاً أو أنبياء معصومون في أخذ الوحي وفي حفظ ما أُوحي إليهم وفي تبليغه إلى الناس قولاً وفعلاً(١) .

الآية الثانية

قوله سبحانه:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعثَ اللهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرينَ وَمُنْذِرينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ ) (٢) .

إنّ الآية تصرّح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو القضاء بين الناس في ما اختلفوا فيه، وليس المراد من القضاء إلاّ القضاء بالحق، وهو فرع وصول الحق إلى القاضي بلا تغيير وتحريف.

____________________

١ - الميزان: ٢٠/١٣٣.

٢ - البقرة: ٢١٣.

٥٨

ثم إنّ نتيجة القضاء هي هداية مَن آمن من الناس إلى الحق بإذنه كما هو صريح قوله:( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) .

والهادي وإن كان هو الله سبحانه في الحقيقة لكنّ الهداية تتحقّق عن طريق النبي، وبواسطته، وتحقّق الهداية منه فرع كونه واقفاً على الحق، بلا تحريف.

وكل ذلك يسلتزم عصمة النبي في تلقّي الوحي والحفاظ عليه، وإبلاغه إلى الناس.

وبالجملة: فالآية تدل على أنّ النبي يقضي بالحق بين الناس ويهدي المؤمنين إليه، وكل ذلك ( أي القضاء بالحق أوّلاً، وهداية الموَمنين إليه ثانياً ) يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه وليس المراد من الحق إلاّ ما يوحى إليه.

الآية الثالثة

قوله سبحانه:( وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْىٌ يُوحى ) (١) .

فالآية تصرّح بأنّ النبي لا ينطق عن الهوى، أي لا يتكلّم بداعي الهوى فالمراد إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجال الحياة كما هو مقتضى إطلاقه أو خصوص ما يحكيه من الله سبحانه، فعلى كل تقدير فهو يدل على صيانته وعصمته في المراحل الثلاث المتقدّم ذكرها في مجال إبلاغ الرسالة.

وبما أنّ عصمة الأنبياء في تلك المرحلة تكون من المسلّمات عند المحقّقين من أصحاب المذاهب والملل، فلنعطف عنان البحث إلى ما تضاربت فيه آراء المتكلّمين، وإن كان للشيعة فيه قول واحد، وهو عصمتهم عن العصيان والمخالفة لأوامره ونواهيه.

____________________

١ - النجم: ٣ - ٤.

٥٩

المرحلة الثانية: عصمة الأنبياء عن المعصية

لقد وقفت على دلائل عصمة الأنبياء في تلقّي الوحي، وحان الحين للبحث عن عصمتهم عن المعصية؛ ونبحث في ذلك عن وجهتين: العقلية والقرآنية:

العقل وعصمة الأنبياء

إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو تزكية نفوس الناس وتصفيتهم من الرذائل وغرس الفضائل فيها، قال سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم:( رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) .

وقال سبحانه:( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ ) (٢) .

والمراد من التزكية هو تطهير القلوب من الرذائل وإنماء الفضائل، وهذا هو ما يسمّى في علم الأخلاق ب- ( التربية ).

ولا شك أنّ تأثير التربية في النفوس يتوقّف على إذعان مَن يراد تربيته بصدق المربّي وإيمانه بتعاليمه، وهذا يعرف من خلال عمل المربّي بما يقوله ويعمله وإلاّ فلو كان هناك انفكاك بين القول والعمل، لزال الوثوق بصدق قوله وبالتالي تفقد التربية أثرها، ولا تتحقق حينئذ الغاية من البعث.

وإن شئت قلت: إنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل، هو العامل الوحيد لكسب ثقة الآخرين بتعاليم المصلح والمربّي، ولو كان هناك انفكاك بينهما

____________________

١ - البقرة: ١٢٩.

٢ - آل عمران: ١٦٤.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321