عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم0%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 321
المشاهدات: 107465
تحميل: 6619

توضيحات:

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107465 / تحميل: 6619
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

من الكاذب في ادّعائه، كما يعرب عنه قوله:( حتى يتبيّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) .

توضيحه: إنّ المنافقين كانوا مصمّمين على عدم الخروج مع المؤمنين إلى غزو الروم، وكان لهم تخطيط في غياب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبطله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتخليفه عليّاً مكانه، قال سبحانه:( وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) (١) ، والآية تدلُّ على أنّهم كانوا عازمين على الإقامة في المدينة، وكان الاستئذان نوع تغطية لقبح عملهم حتى يتظاهروا بأنّ عدم ظعنهم مع المؤمنين كان بإذن من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن جانب آخر أنّهم لو خرجوا مع المسلمين ما زادوهم إلاّ فتنة وخبالاً وإضعافاً لعزائم المؤمنين، وفيهم سمّاعون لهم يتأثّرون بدعاياتهم وإغوائهم كما يقول سبحانه:( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (٢) .

وبما أنّهم كانوا عازمين على القعود أوّلاً، وعلى الإضرار والفتنة في جبهات الحرب ثانياً؛ لذلك لم يكن في الإذن أيّة تبعة سوى فوت تميّز الخبيث من الطيب، ومعرفة المنافق من المؤمن، إذ لو لم يأذن لهم لظهر فسقهم وتمرّدهم على كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومثل هذا لا يعد عمل خلاف حتى يكون الاعتراض عليه دليلاً على صدور الذنب.

ولو كانت المخطّئة عارفة بأساليب البلاغة وفنون الكلام لعرفت أنّ أسلوب

____________________

١ - التوبة: ٤٦.

٢ - التوبة: ٤٧.

٢٢١

الكلام في الآية، أسلوب عطف وحنان، وأشبه باعتراض الولي الحميم، على الصديق الوفي، إذا عامل عدوّه الغاشم بمرونة ولين، فيقول بلسان الاعتراض: لماذا أذنت له، ولم تقابله بخشونة حتى تعرف عدوّك من صديقك، ومَن وفى لك ممّن خانك، على أنّه وإن فات النبي معرفة المنافق عن هذا الطريق لكنّه لم يفته معرفته من طريق آخر، صرّح به القرآن في غير هذا المورد، فإنّ النبي الأكرم كان يعرف المنافق من المؤمن بطريقين آخرين:

١ - كيفيّة الكلام، ويعبّ-ر عنه القرآن بلحن القول، وذلك أنّ الخائن مهما أصرّ على كتمان خيانته، تظهر بوادرها في ثنايا كلامه، قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه )(١) وفي ذلك يقول سبحانه:( وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) (٢) .

٢ - التعرّف عليهم بتعليم منه سبحانه قال:( مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَن يَشاءُ ) (٣) ، والدقّة في الآية تفيد بأنّ الله سبحانه يجتبي من رسله مَن يشاء ويطلعه على الغيب، ويعرف من هذا الطريق الخبيث ويميّزه عن الطيب.

وعلى ذلك فلم يفت على النبي الأكرم شيء وإن فاتته معرفة المنافق من هذا الطريق، ولكنّه وقف عليها من الطريق الآخر أو الطريقين الآخرين.

____________________

١ - نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم ٢٦.

٢ - محمد: ٣٠.

٣ - آل عمران: ١٧٩.

٢٢٢

الآية الثالثة: العصمة والأمر بطلب المغفرة

إنّه سبحانه يأمر نبيّه الأعظم، بطلب الغفران منه ويقول مخاطباً رسوله:( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ الْنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (١) .

ويقول سبحانه:( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ) (٢) وعندئذ يخطر في ذهن الإنسان: كيف تجتمع العصمة مع الأمر بطلب الغفران ؟

أقول: التعرّف على ما مرّ في الآيتين ونظائرهما، رهن الوقوف على الأصل المسلَّم بين العقلاء، وهو أنّ عظمة الشخصية وخطر المسؤولية متحالفان، وربَّ عمل يُعد صدوره من شخص جرماً وخلافاً، وفي الوقت نفسه لا يعد صدوره من إنسان آخر كذلك.

توضيح ذلك: إنّ الأحكام الشرعية تنقسم إلى واجب وحرام ومستحب ومكروه ومباح، ولا محيص عن الإتيان بالواجب وترك الحرام، نعم هناك رخصة في ترك المستحب والإتيان بالمكروه ولكن المترقّب من العارف بمصالح الأحكام ومفاسدها، تحلية الواجبات بالمستحبات، وترك المحرّمات مع ترك المكروهات ولا يقصر عنه المباح، فهو وإن أباحه الله سبحانه ولكن ربّما يترجّح فعله على تركه أو العكس لعنوان ثانوي.

فالعارف بعظمة الرب يتحمّل من المسؤولية ما لا يتحمّله غيره، فيكون المترقّب منه غير ما يترقّب من الآخر، ولو صدر منه ما لا يليق، وتساهل في هذا

____________________

١ - النساء: ١٠٥ - ١٠٦.

٢ - محمد: ١٩.

٢٢٣

الطريق، يتأكّد منه الاستغفار وطلب المغفرة، لا لصدور الذنب منه، بل من باب قياس عمله إلى علوّ معرفته وعظمة مسؤوليته.

وإن شئت فاستوضح ذلك من ملاحظة حال المتحضّر والبدوي، فالمرجوّ من الأوّل القيام بالآداب والرسوم الرائجة في الحضارات الإنسانية، ولكنّ المرجوّ من الثاني أبسط الرسوم والآداب، فما ذلك إلاّ لاختلافهما من ناحية التربية والمعرفة، كما أنّ الترقّب من نفس المتحضّرين مختلف جداً، فالمأمول من المثقّف أشدّ وأكثر من غيره، كما أنّ الانضباط المرجوّ من الجندي يغاير المترقّب من غيره، والغفلة القصيرة من العاشق يعد جرماً وخلافاً في منطق العشق، وليست كذلك إذا صدرت من غيره.

وهذه الأمثلة ونظائرها الوافرة تثبت الأصل الذي أوعزنا إليه في صدر البحث من أنّ عظمة الشخصية وكبر المسؤولية متحالفان وأنّ الوظائف لا تنحصر في الإتيان بالواجبات، والتحرّز عن المحظورات بل هناك وظائف أُخرى، وكلّما زاد العلم والعرفان توفّرت الوظائف وتكثّرت المسؤوليات؛ ولأجل ذلك تُعدّ بعض الغفلات أو اقتراف المكروهات من الأولياء ذنباً، وهو في الواقع ليس بالنسبة إليهم ذنباً مطلقاً، بل ذنباً إذا قيس إلى ما أُعطوا من الإيمان والمعرفة ولو قاموا بطلب المغفرة والعفو، فإنّما هو لأجل هذه الجهات.

نرى أنّ شيخ الأنبياء نوحاًعليه‌السلام يقول:( ربِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤمِناً ) (١) .

ويقتفيه إبراهيمعليه‌السلام ويقول:( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤمِنينَ يَوْمَ يَقُومُ

____________________

١ - نوح: ٢٨.

٢٢٤

الْحِسَابُ ) (١) .

ويقول النبي الأعظم:( سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (٢) .

والمنشأ الوحيد لهذا الطلب مرّة بعد أُخرى هو وقوفهم على أنّ ما قاموا به من الأعمال والطاعات، وإن كانت في حد نفسها بالغة حدّ الكمال، لكنّ المطلوب والمترقّب منهم أكمل وأفضل منه.

وعلى ذلك يحمل ما رواه مسلم في صحيحه، عن المزني، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ( ليُغان على قلبي وإنّي لاَستغفر الله في اليوم مائة مرّة )(٣) .

وقد ذكر المحدّثون حول الحديث نكات عرفانية، مَن أراد التعرّف عليها، فليرجع إلى كتاب ( شفاء القاضي ).

يقول العلاّمة المحقّق علي بن عيسى الإربلي: الأنبياء والأئمّة: تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى، وقلوبهم مملوءة به، وخواطرهم متعلّقة بالمبدأ، وهم أبداً في المراقبة، كما قالعليه‌السلام : ( اعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تره، فإنّه يراك ) فهم أبداً متوجّهون إليه ومقبلون بكلّهم عليه، فمتى انحطّوا عن تلك المرتبة العالية، والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالأكل والشرب والتفرّغ إلى النكاح وغيره من المباحات، عدّوه ذنباً واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه.

وإلى هذا أشارصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّه ليُران على قلبي وإنّي لأستغفر الله بالنهار سبعين مرّة ) ولفظة سبعين ترجع إلى الاستغفار لا إلى الرين وقوله: حسنات الأبرار

____________________

١ - إبراهيم: ٤١.

٢ - البقرة: ٢٨٥.

٣ - صحيح مسلم: ٨/٧٢، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه وقوله: ( ليغان ) من الغين بمعنى الستر والحجاب والمزن.

٢٢٥

سيئات الأقربين فقد بان بهذا أنّه كان بعد اشتغاله في وقت ما، بما هو ضرورة للأبدان معصية يستغفر الله منها، وعلى هذا فقس البواقي وكلّما يرد عليها من أمثالها ثم قال: إنّ هذا معنى شريف يكشف بمدلوله حجاب الشبهة ويهدي به الله مَن حسر عن بصره وبصيرته رين العمى والعمه(١) .

وما ذكره من الجواب فإنّما يتمشّى مع الآيات التي تمسّك بها المخالف، وأمّا الأدعية التي اعترف فيها الأئمّة بالذنب من قوله في الدعاء الذي علّمه لكميل بن زياد: ( اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم ) فهذا من باب التعليم للناس.

وأمّا ما كانوا يناجون ربّهم في ظلمات الليل وفي سجداتهم، فيحمل على ما حقّقه العلاّمة الإربلي وأوضحنا حاله.

الآية الرابعة: العصمة وغفران الذنب

إذا كان النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوماً من العصيان ومصوناً من الذنب، فكيف أخبر سبحانه عن غفران ذنبه: ما تقدّم منه وما تأخّر ؟ قال سبحانه:( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) (٢) .

الجواب: إنّ الآية تُعدّ أكبر مستمسك لمخطّئة عصمة الأنبياء، مع أنّ إمعان النظر في فقرات الآيات خصوصاً في جعل غفران الذنب غاية للفتح المبين، يوضح المقصود من الذنب وأنّ المراد منه الاتهامات والنسب التي كانت الأعداء

____________________

١ - كشف الغمّة: ٣/٤٣ - ٤٥.

٢ - الفتح: ١ - ٣.

٢٢٦

تصفه بها، وأنّ ذلك الفتح المبين دلّ على افتعالها وعدم صحّتها من أساسها وطهّر صحيفة حياته عن تلك النسب، وإليك توضيح ذلك ببيان أُمور:

١ - ما هو المراد من الفتح في الآية ؟

لقد ذكر المفسّرون هنا وجوهاً، فتردّدوا بين كون المقصود فتح مكّة، أو فتح خيبر، أو فتح الحديبية.

لكنّ سياق آيات السورة لا يساعد الاحتمالين الأوّلين؛ لأنّها ناظرة إلى قصّة الحديبية والصلح المنعقد فيها في العام السادس من الهجرة، والفتح الذي يخبر عن تحقّقه ووقوعه، يجب أن يكون متحقّقاً في ذاك الوقت، وأين هو من فتح مكّة الذي لم يتحقّق إلاّ بعد عامين من ذلك الصلح حيث إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتحها في العام الثامن من هجرته ؟!

ولأجل ذلك حاول مَن قال: إنّ المراد منه فتح مكّة، أن يفسّره: بأنَّ إخباره عن الفتح، بمعنى قضائه وتقديره ذلك الفتح، والمعنى قضى ربُّكَ وقدَّر ذاك الفتح المبين، فالقضاء كان متحقّقاً في ظرف النزول وإنْ لم يكن نفس الفتح متحقّقاً.

ولكنّه تكلّف غير محتاج إليه، وقصّة الحديبية وإن كانت صلحاً في الظاهر على ترك الحرب والهدنة إلى مدّة معيّنة لكن ذلك الصلح فتح أبواب الظفر للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجزيرة العربية، وفسح للنبي أن يتوجّه إلى شمالها ويفتح قلاع خيبر، ويسيطر على مكامن الشر والمؤامرة، ويبعث الدعاة والسفراء إلى أرجاء العالم، ويسمع دعوته أُذن الدنيا، كل ذلك الذي شرحناه في أبحاثنا التاريخية كان ببركة تلك الهدنة، وإن كان بعض أصحابه يحقّرها ويندّد بها في أوائل الأمر.

٢٢٧

لكنّ مرور الزمان، كشف النقاب عن عظمتها وثمارها الحلوة، فصحّ أن يصفها القرآن: ( الفتح المبين ).

وعلى كل حال: فسياق الآيات يَدل بوضوح على أنّ المراد من الفتح هو وقعة الحديبية قال سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤَتيِهِ أَجْرَاً عَظِيماً ) (١) .

وأيضاً يقول:( لَقَدْ رضيَ اللهُ عَنِ الْمُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الْشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأثَابَهُمْ فَتْحَاً قَرِيباً ) (٢) .

وقال أيضاً:( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) (٣) .

ولا شك أنّ المراد من البيعة هو بيعة الرضوان التي بايع المؤمنون فيها النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة وأعرب سبحانه عن رضاه عنهم.

روى الواحدي عن أنس: أنّ ثمانين رجلاً من أهل مكّة هبطوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جبل التنعيم متسلّحين يريدون غرّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه، فأخذهم أُسراء فاستحياهم، فأنزل الله:( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) (٤) .

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يخبر في نفس السورة عن فتح قريب، وهذا

____________________

١ - الفتح: ١٠.

٢ - الفتح: ١٨.

٣ - الفتح: ٢٤.

٤ - أسباب النزول: ٢١٨.

٢٢٨

يعرب عن أنّ الفتح المبين غير الفتح القريب، قال سبحانه:( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تُخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحَاً قَرِيباً ) (١) ، وهذا الفتح القريب إمّا فتح خيبر، أو فتح مكّة، والظاهر هو الثاني وأمّا رؤيا النبي فقد تحقّقت في العام القابل، عام عمرة القضاء، فدخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون مكّة المكرّمة آمنين محلّقين رؤوسهم ومقصّ-رين، وأقاموا بها ثلاثة أيام، ثم خرجوا متوجّهين إلى المدينة، وذلك في العام السابع من الهجرة، وفي العام الثامن توفّق النبي لفتح مكّة وتحقّق قوله سبحانه: ( فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً ).

هذا كلّه حسب سياق الآيات، وأمّا الروايات فهي مختلفة بين تفسيرها بالحديبية، وتفسيرها بفتح مكّة، والقضاء فيها موكول إلى وقت آخر، ولا يؤثر هذا الاختلاف فيما نحن بصدده في هذا المقام.

٢ - ما هو المراد من الذنب ؟

قال ابن فارس في المقاييس: ذنب له أُصول ثلاثة: أحدها الجرم، والآخر: مؤخّر الشيء، والثالث: كالحظ والنصيب(٢) .

وقال ابن منظور: الذنب: الإثم والجرم والمعصية، والجمع ذنوب، وذنوبات جمع الجمع، وقد أذنب الرجل، وقوله عزّ وجلّ في مناجاة موسى على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام:( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ ) (٣) ، عنى بالذنب قتل الرجل الذي وكزه

____________________

١ - الفتح: ٢٧.

٢ - معجم مقاييس اللغة: ٢/٣٦١.

٣ - الشعراء: ١٤.

٢٢٩

موسى فقضى عليه، وكان الرجل من آل فرعون(١) .

وقد وردت تلك اللفظة في الذكر الحكيم سبع مرّات، وأُريد بها في الجميع الجرم قال سبحانه:( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ:( وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بأيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (٣) .

وعلى ذلك فكون الذنب بمعنى الجرم ممّا لا ريب فيه، غير أنّ الذي يجب التنبيه عليه، هو أنّ اللفظ لا يدل على أزيد من كون صاحبه عاصياً وطاغياً وناقضاً للقانون، وأمّا الذي عصي وطغي عليه ونقض قانونه فهو يختلف حسب اختلاف البيئات والظروف، وليست خصوصية العصيان لله سبحانه مأخوذة في صميم اللفظ بحيث لو أُطلق ذلك اللفظ يتبادر منه كونه سبحانه هو المعصي أمره، وإنّما تستفاد الخصوصية من القرائن الخارجية، وهذا هو الأساس لتحليل الآية وفهم المقصود منها.

٣ - الغفران في اللغة

الغفران في اللغة، هو: الستر، قال ابن فارس في المقاييس: عظم بابه الستر، ثم يشذُّ عنه ما يُذكر، فالغَفر: السَّتر، والغفران والغَفْر بمعنى يقال: غفر الله ذنبه غَفراً ومغفرةً وغفراناً(٤) وقال في اللسان بمثله(٥) .

____________________

١ - لسان العرب: ٣/٣٨٩.

٢ - غافر: ٣.

٣ - التكوير: ٨ و ٩.

٤ - معجم مقاييس اللغة: ٤/٣٨٥.

٥ - لسان العرب: ٥/٢٥.

٢٣٠

٤ - الفتح لغاية مغفرة الذنب

الآية تدل على أنّ الغاية المتوخّاة من الفتح هي مغفرة ذنب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما تقدّم منه وما تأخّر، غير أنّ في ترتّب تلك الغاية على ذيها غموضاً في بادئ النظر، والإنسان يستفسر في نفسه كيف صار تمكينه سبحانه نبيّه من فتح القلاع والبلدان، أو المهادنة والمصالحة في أرض الحديبية مع قريش، سبباً لمغفرة ذنوبه، مع أنّه يجب أن تكون بين الجملة الشرطية والجزائية رابطة عقلية أو عادية، بحيث تعدّ إحداهما علّة لتحقّق الأُخرى أو ملازمة لها، وهذه الرابطة خفيّة في المقام جداً، فإنّ تمكين النبي من الأعداء والسيطرة عليهم يكون سبباً لانتشار كلمة الحق ورفض الباطل، واستطاعته التبليغ في المنطقة المفتوحة، فلو قال: إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً، لتتمكن من الإصحار بالحق، ونشر التوحيد، ودحض الباطل، كان الترتّب أمراً طبيعياً، وكانت الرابطة محفوظة بين الجملتين.

وأمّا جعل مغفرة ذنوبه جزاءً لفتحه صقعاً من الأصقاع، فالرابطة غير واضحة.

وهذه هي النقطة الحسّاسة في فهم مفاد الآية، وبالتالي دحض زعم المخطِّئة في جعلها ذريعة لعقيدتهم، ولو تبيّنت صلة الجملتين لاتّضح عدم دلالتها على ما تتبنّاه تلك الطائفة.

فنقول: كانت الوثنية هي الدين السائد في الجزيرة العربية، وكانت العرب تقدّس أوثانها وتعبد أصنامها، وتطلب منهم الحوائج، وتتقرّب بعبادتها إلى الله سبحانه، هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر: جاء النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم داعياً إلى التوحيد في مجالي الخلق والأمر، وإلى حصر التقديس والعبادة في الله، وأنّه لا معبود سواه ولا

٢٣١

شفيع إلاّ بإذنه، فأخذ بتحطيم الوثنية ورفض عبادة الأصنام، وأنّها أجسام بلا أرواح لا يملكون شيئاً من الشفاعة والمغفرة، ولا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم فضلاً عن عبدتهم، فصارت دعوته ثقيلة على قريش وأذنابهم، حتى ثارت ثائرتهم على النبي الأكرم، فقابلوا براهين النبي بالبذاءة والشغب والسب والنسب المفتعلة، فوصفوه بأنّه كاهن وساحر، ومفترٍ وكذّاب، وقد أعربوا عن نواياهم السيّئة عندما رفعوا الشكوى إلى سيّد الأباطح وقالوا: إنّ ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامَنا وضلل آباءَنا، فإمّا أن تكفّه عنّا وإمّا أن تخلّ-ي بيننا وبينه(١) ولمّا وقف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كلام قومه عن طريق عمّه أظهر صموده وثباته في طريق رسالته بقوله: ( يا عمّ والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته ) قال: ثم استعبر فبكى، ثم قام فلمّا ولّى ناداه أبو طالب فقال: اقبل يا بن أخي، قال: فأقبل عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فو الله ما أُسلمك لشيء أبداً )(٢) .

فلمّا وقفت قريش على صمود الرسول شرعوا بالمؤامرة والتخطيط عليه حتى قصدوا اغتياله في عقر داره، فنجّاه الله من أيديهم.

ولمّا استقرَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يثرب واعتزّ بنصرة الأنصار ومَن حولها من القبائل جرت بينه وبين قومه حروب طاحنة أدّت إلى قتل صناديد قريش وإراقة دمائهم على وجه الأرض في ( بدر ) و ( أُحد ) ووقعة ( الأحزاب ).

____________________

١ - تاريخ الطبري: ٢/٦٥.

٢ - السيرة النبويّة لابن هشام: ١/٢٨٥ من الطبعة الحديثة.

٢٣٢

فهذه الحوادث الدامية عند قريش، المرّة في أذواقهم بما أنّها جرّت إلى ذهاب كيانهم، وحدوث التفرقة في صفوفهم، والفتك بصناديدهم على يد النبي الأكرم؛ صوّرته في مخيلتهم وخزانة أذهانهم صورة إنسان مجرم مذنب قام في وجه سادات قومه، فسبّ آلهتهم وعاب طريقتهم بالكهانة والسحر والكذب والافتراء، ولم يكتف بذلك حتى شنّ عليهم الغارة والعدوان فصارت أرض يثرب وما حولها، مجازر لقريش، ومذابح لأسيادهم، فأيّ جرم أعظم من هذا، وأيّ ذنب أكبر منه عند هؤلاء الجهلة الغفلة، الذين لا يعرفون الخيّ-ر من الشرّير، والصديق من العدو، والمنجي من المهلك ؟

فإذن ما هو الأمر الذي يمكن أن يبرئه من هذه الذنوب ويرسم له صورة ملكوتية فيها ملامح الصدق والصفاء، وعلائم العطف والحنان حتى تقف قريش على خطئها وجهلها.

إنّ الأمر الذي يمكن أن ينزّه ساحته من هذه الأوهام والأباطيل، ليست إلاّ الواقعة التي تجلّت فيها عواطفه الكريمة، ونواياه الصالحة، حيث تصالح مع قومه - الذين قصدوا الفتك به وقتله في داره، وأخرجوه من موطنه ومهاده - بعطف ومرونة خاصة، حتى أثارت تعجّب الحضّار من أصحابه ومخالفيه، حيث تصالح معهم على أنّه ( مَن أتى محمّداً من قريش بغير إذن وليّه ردَّه عليهم، ومَن جاء قريشاً ممّن مع محمد لم يردّوه عليه، وأنّه مَن أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومَن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه )(١) .

وهذا العطف الذي أبداه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الواقعة مع كونه من القدرة بمكان، وقريش في حالة الانحلال والضعف، صوّر من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند قومه

____________________

١ - السيرة النبويّة لابن هشام: ٢/٣١٧ - ٣١٨ ط٢، ١٣٧٥ ه-.

٢٣٣

وأتباعه صورة إنسان مصلح يحب قومَه ويطلب صلاحهم، ولا تروقه الحرب والدمار والجدال؛ فوقفوا على حقيقة الحال، وعضّوا الأنامل على ما افتعلوا عليه من النسب وندموا على ما فعلوا، فصاروا يميلون إلى الإسلام زرافات ووحداناً، فأسلم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، والتحقا بالنبي قبل أن يسيطر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مكّة وحواليها.

إنّ هذه الواقعة التي لمس الكفّار منها خلقه العظيم، رفع الستار الحديدي الذي وضعه بعض أعدائه الألدّاء بينه وبين قومه، فعرفوا أنّ ما يُرمى به نبيّ العظمة ويوصف به بين أعدائه، كانت دعايات كاذبة وكان هو منزّهاً عنها، بل عن الأقلّ منها.

ولا تقصر عن هذه الواقعة، فتح مكّة، فقد واجه قومه مرّة أُخرى - وهم في هزيمة نكراء، ملتفّون حوله في المسجد الحرام - فخاطبهم بقوله: ( ماذا تقولون وماذا تظنون ؟! ) فأجابوا: نقول خيراً ونظن خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، وقدرت، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين )(١) .

وهذا الفتح العظيم وقبله وقعة الحديبية أثبتا بوضوح أنّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكرم وأجل وأعظم من أن يكون كاهناً أو ساحراً، إذ الكاهن والساحر أدون من أن يقوم بهذه الأمور الجليلة، كما أنّ لطفه العميم وخلقه العظيم آية واضحة على أنّه رجل مثالي صدوق، لا يفتري ولا يكذب، وأنّ ما جرى بينه وبين قومه من الحروب الدامية، كانت نتيجة شقاقهم وجدالهم ومؤامراتهم عليه، مرّة بعد أُخرى في موطنه ومهجره، فجعلوه في قفص الاتهام أوّلاً، وواجهوا أنصاره وأعوانه بألوان

____________________

١ - المغازي للواقدي: ٢/٨٣٥؛ وبحار الأنوار: ٢١/١٠٧ - ١٣٢.

٢٣٤

التعذيب ثانياً، فقُتل مَن قُتل وأُوذي مَن أُوذي، وضربوا عليه وعلى المؤمنين به، حصاراً اقتصادياً فمنعوهم من ضروريات الحياة ثالثاً، وعمدوا إلى قتله في عقر داره رابعاً، ولولا جرائمهم الفظيعة لما اخضرّت الأرض بدمائهم ولا لقي منهم بشيء يكرهه، فأصبحت هذه الذنوب التي كانت تدّعيها قريش على النبي بعد وقعة الحديبية، أو فتح مكّة، أُسطورة خيالية قضت عليها سيرته في كل من الواقعتين من غير فرق بين ما ألصقوا به قبل الهجرة أو بعدها، وعند ذلك يتضح مفاد الآيات كما يتضح ارتباط الجملتين: الجزائية والشرطية، ولولا هذا الفتح كان النبي محبوساً في قفص الاتهام، وقد كسرته هذه الواقعة، وعرّفته نزيهاً عن كل هذه التهم.

وعلى ذلك فالمقصود من الذنب ما كانت قريش تصفه به، كما أنّ المراد من المغفرة، إذهاب آثار تلك النسب في المجتمع.

وإلى ما ذكرنا يشير مولانا الإمام الرضاعليه‌السلام عندما سأله المأمون عن مفاد الآية فقال: ( لم يكن أحد عند مشركي أهل مكّة أعظم ذنباً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً، فلمّا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا:( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاقٌ ) (١) ، فلمّا فتح اللهُ عزّ وجلّ على نبيّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة، قال له: يا محمد:( إنّا فتحنا لك ( مكّة ) فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ) عند مشركي أهل مكّة بدعائك إلى توحيد الله عزّ وجلّ فيما تقدّم، وما تأخّر؛ لأنّ مشركي مكّة، أسلم

____________________

١ - ص: ٥ - ٧.

٢٣٥

بعضهم وخرج بعضهم عن مكّة، ومَن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم.

فقال المأمون: لله درّك يا أبا الحسن(١) .

وقد أشرنا في صدر البحث إلى اختلاف الروايات في المراد من الفتح الوارد في الآية وقلنا بأنّ هذا الاختلاف لا يؤثّر فيما نرتئيه، فلاحظ.

الآية الخامسة: العصمة والتولّي عن الأعمى

استدلّ المخالف لعصمة النبي الأعظم بالعتاب الوارد في الآيات التالية:( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى * أَمّا مَنِ اسْتَغْنَى * فأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) (٢) .

روى المفسّرون أنّ عبد الله بن أُمّ مكتوم الأعمى أتى رسول الله وهو يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأُبيّاً وأُمية ابني خلف، يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم؛ فقال عبد الله: اقرئني وعلّمني ممّا علّمك الله، فجعل ينادي ويكرّر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنّما أتباعه العميان والسفلة والعبيد، فعبسصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين يكلّمهم، فنزلت الآيات، وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه يقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي(٣) ويقول: هل لك من حاجة واستخلفه

____________________

١ - بحار الأنوار: ١٧/٩٠.

٢ - عبس: ١ - ١٠.

٣ - أسباب النزول للواحدي: ٢٥٢.

٢٣٦

على المدينة مرتين في غزوتين(١) .

وهناك وجه آخر لسبب النزول رُوي عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وحاصله: أنّ الآية نزلت في رجل من بني أُميّة كان عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء ابن أُمّ مكتوم، فلمّا رآه تقذّر منه، وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه(٢) .

والاعتماد على الرواية الأُولى مشكل؛ لأنّ ظاهر الآيات عتاب لمَن يقدّم الأغنياء والمترفين، على الضعفاء والمساكين من المؤمنين، ويرجّح أهل الدنيا ويضع أهل الآخرة، وهذا لا ينطبق على النبي الأعظم من جهات:

الأُولى : أنّه سبحانه - حسب هذه الرواية - وصفه بأنّه يتصدّى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء، وليس هذا ينطبق على أخلاق النبي الواسعة وتحنّنه على قومه وتعطّفه عليهم، كيف ؟ وقد قال سبحانه:( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤمِنينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (٣) .

الثانية : أنّه سبحانه وصف نبيّه في سورة القلم، وهي ثانية السور التي نزلت في مكّة ( وأُولاها سورة العلق ) بقوله:( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٤) ، ومع ذلك كيف يصفه بعد زمن قليل بخلافه، فأين هذا الخلق العظيم ممّا ورد في هذه السورة من العبوسة والتولّي ؟

وهذه السورة حسب ترتيب النزول وإن كانت متأخّرة عن سورة القلم، لكنّها متقاربة معها حسب النزول، ولم تكن هناك فاصلة زمنية طويلة

____________________

١ - مجمع البيان: ١٠/٤٣٧ وغيره من التفاسير.

٢ - مجمع البيان: ١٠/٤٣٧؛ تفسير القمّي: ٢/٤٠٥.

٣ - التوبة: ١٢٨.

٤ - القلم: ٤.

٢٣٧

الأمد(١) .

الثالثة : انّه سبحانه يأمر نبيه بقوله:( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ ) (٢) ، كما يأمره أيضاً بقوله:( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤمِنينَ ) (٣) ،( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) (٤) .

إنّ سورتي الشعراء والحجر، وإن نزلتا بعد سورة ( عبس )، لكن تضافرت الروايات على أنّ الآيات المذكورة في السورتين نزلت في بدء الدعوة، أي العام الثالث من البعثة، عندما أمره سبحانه بالجهر بالدعوة والإصحار بالحقيقة، وعلى ذلك فهي متقدّمة حسب النزول على سورة ( عبس ) أو يصح بعد هذه الخطابات، أن يخالف النبي هذه الخطابات بالتولّي عن المؤمن ؟! كلاّ ثم كلاّ.

الرابعة : إنّ الرواية تشتمل على ما خطر في نفس النبي عند ورود ابن أُمّ مكتوم من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في نفسه: ( يقول هؤلاء الصناديد: إنّما أتباعه العميان والسفلة والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم ) وعندئذ يسأل عن كيفية وقوف الراوي على ما خطر في نفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهل أخبر به النبي ؟ أو أنّه وقف عليه من طريق آخر ؟!

والأوّل بعيد جداً، والثاني مجهول.

الخامسة : إنّ الرواية تدلّ على أنّ النبي كان يناجي جماعة من المشركين، وعند ذلك أتى عبد الله ابن أُمّ مكتوم وقال: يا رسول الله أقرئني، فهل كان إسكات

____________________

١ - تاريخ القرآن للعلاّمة الزنجاني: ٣٦ - ٣٧، وقد نقل ترتيب نزول القرآن في مكّة والمدينة معتمداً على رواية محمد ابن نعمان بن بشير التي نقلها ابن النديم في فهرسته ص ٧ طبع مصر.

٢ - الشعراء: ٢١٤ - ٢١٥.

٣ - الحجر: ٨٨.

٤ - الحجر: ٩٤.

٢٣٨

ابن أُم مكتوم متوقّفاً على العبوسة والتولّ-ي عنه، أو كان أمره بالسكوت والاستمهال منه حتى يتمّ كلامه مع القوم، أمراً غير شاق على النبي، فلماذا ترك هذا الطريق السهل ؟

وهذه الوجوه الخمسة، وإن أمكن الاعتذار عن بعضها بأنّ العبوسة والتولّ-ي مرّة واحدة لا ينافي ما وصف به النبي في القرآن من الخلق العظيم وغيره، لكن محصل هذه الوجوه يورث الشك في صحة الرواية ويسلب الاعتماد عليها.

هذا كلّه حول الرواية الأُولى.

وأمّا الرواية الثانية:

فهي لا تنطبق على ظاهر الآيات؛ لأنّ محصّلها أنّ رجلاً من بني أُمية كان عند النبي فجاء ابن أُمّ مكتوم، فلمّا رآه ذلك الرجل تقذّر منه وجمع نفسه، وعبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.

ولكن هذا المقدار المنقول في سبب النزول لا يكفى في توضيح الآيات، ولا يرفع إبهامها، لاَنّ الظاهر أنّ العابس والمتولّ-ي، هو المخاطب بقول سبحانه:( وما يدريك لعلّه يزّكى ) إلى قوله:( فأنت عنه تلهّى ) ، فلو كان المتعبّس والمتولّي، هو الفرد الأموي، فيجب أن يكون هو المخاطب بالخطابات الستة لا غيره، مع أنّ الرواية لا تدل على ذلك، بل غاية ما تدل عليه أنّ فرداً من الأمويين عبس وتولّى عندما جاءه الأعمى فقط، ولا تلقي الضوء على الخطابات الآتية بعد الآيتين الأُوليين وإنّ-ها إلى مَن تهدف، فهل تقصد ذاك الرجل الأموي وهو بعيد، أو النبي الأكرم ؟

هذا هو القضاء بين السببين المرويين للنزول، وقد عرفت الأسئلة الموجهة

٢٣٩

إليهما.

وعلى فرض صحة الرواية الأُولى لابدّ أن يقال:

إنّ الرواية إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان موضع عنايته سبحانه ورعايته، فلم يكن مسؤولاً عن أفعاله وحركاته وسكناته فقط، بل كان مسؤولاً حتى عن نظراته وانقباض ملامح وجهه، وانبساطها، فكانت المسؤولية الملقاة على عاتقه من أشد المسؤوليات، وأثقلها صدق الله العلي العظيم حيث يقول:( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) (١) .

كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يناجي صناديد قومه ورؤساءهم لينجيهم من الوثنية ويهديهم إلى عبادة التوحيد، وكان لإسلامهم يوم ذاك تأثير عميق في إيمان غيرهم؛ إذ الناس على دين رؤسائهم وأوليائهم، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الظروف يناجي رؤساء قومه إذ جاءه ابن أُم مكتوم غافلاً عمّا عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأمر المهم، فلم يلتفت إليه النبي، وجرى على ما كان عليه من المذاكرة مع أكابر قومه.

وما سلكه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن أمراً مذموماً عند العقلاء، ولا خروجاً على طاعة الله، ولكنّ الإسلام دعاه وأرشده إلى خلق مثالي أعلى ممّا سلكه، وهو أنّ التصدي لهداية قوم يتصوّرون أنفسهم أغنياء عن الهداية، يجب أن لا يكون سبباً للتولّ-ي عمّ-ن يسعى ويخشى، فهداية الرجل الساعي في طريق الحق، الخائف من عذاب الله، أولى من التصدّي لقوم يتظاهرون بالاستغناء عن الهداية وعمّا أنزل إليك من الوحي، وما عليك بشيء إذا لم يزكّوا أنفسهم؛ لأنّ القرآن تذكرة فمَن شاء ذكره( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (٢) .

____________________

١ - المزمل: ٥.

٢ - الغاشية: ٢١ - ٢٢.

٢٤٠