عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم17%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127774 / تحميل: 8589
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وانتهت الوفود إلى دمشق لعرض آرائها على عاهل الشام ، وقد قام معاوية بضيافتهم والإحسان إليهم.

مؤتمرُ الوفود الإسلاميّة :

وعقدت وفود الأقطار الإسلاميّة مؤتمراً في البلاط الاُموي في دمشق لعرض آرائها في البيعة ليزيد ، وقد افتتح المؤتمر معاوية بالثناء على الإسلام ، ولزوم طاعة ولاة الاُمور ، ثمّ ذكر يزيد وفضله وعمله بالسّياسة ، ودعاهم لبيعته.

المؤيّدون للبيعة :

وانبرت كوكبة مِنْ أقطاب الحزب الاُموي فأيّدوا معاوية ، وحثّوه على الإسراع للبيعة ، وهم :

1 ـ الضحّاك بن قيس

2 ـ عبد الرحمن بن عثمان

3 ـ ثور بن معن السلمي

4 ـ عبد الله بن عصام

5 ـ عبد الله بن مسعدة

وكان معاوية قد عهد إليهم بالقيام بتأييده ، والردّ على المعارضين له.

٢٠١

خطابُ الأحنف بن قيس :

وانبرى إلى الخطابة زعيم العراق وسيّد تميم الأحنف بن قيس ، الذي تقول فيه ميسون اُمّ يزيد : لو لمْ يكن في العراق إلاّ هذا لكفاهم(1) . وتقدّم فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ التفت إلى معاوية قائلاً :

أصلح الله أمير المؤمنين ، إنّ الناس في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف ، وقد حلبت الدهر أشطره.

يا أمير المؤمنين ، فاعرف مَنْ تسند إليه الأمر مِنْ بعدك ثمّ اعصِ أمر مَنْ يأمرك ، ولا يغررك مَنْ يُشير عليك ولا ينظر لك ، وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّاً.

وأثار خطاب الأحنف موجةً مِن الغضب والاستياء عند الحزب الاُموي ، فاندفع الضحّاك بن قيس مندِّداً به ، وشتم أهلَ العراق ، وقدح بالإمام الحسن (عليه السّلام) ، ودعا الوفد العراقي إلى الإخلاص لمعاوية والامتثال لما دعا إليه. ولمْ يعن به الأحنف ، فقام ثانياً فنصح معاوية ودعاه إلى الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه مِنْ تسليم الأمر إلى الحسن (عليه السّلام) مِنْ بعده ؛ حسب اتفاقية الصلح التي كان من أبرز بنودها إرجاع الخلافة مِنْ بعده إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) ، كما أنّه هدّد معاوية بإعلان الحرب إذا لمْ يفِ بذلك.

__________________

(1) تذكرة ابن حمدون / 81.

٢٠٢

فشلُ المؤتمر :

وفشلَ المؤتمر فشلاً ذريعاً بعد خطاب الزعيم الكبير الأحنف بن قيس ، ووقع نزاع حاد بين أعضاء الوفود وأعضاء الحزب الاُموي ، وانبرى يزيد بن المقفّع فهدّد المعارضين باستعمال القوّة قائلاً : أمير المؤمنين هذا ـ وأشار إلى معاوية ـ ، فإنْ هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ، ومَنْ أبى فهذا ـ وأشار إلى السيف ـ.

فاستحسن معاوية قوله ، وراح يقول له : اجلس فأنت سيّد الخطباء وأكرمهم.

ولمْ يعن به الأحنف بن قيس ، فانبرى إلى معاوية فدعاه إلى الإمساك عن بيعة يزيد ، وأنْ لا يُقدّمَ أحداً على الحسن والحسين (عليهما السّلام). وأعرض عنه معاوية ، وبقي مصرّاً على فكرته التي هي أبعد ما تكون عن الإسلام.

وعلى أي حالٍ ، فإنّ المؤتمر لمْ يصل إلى النتيجة التي أرادها معاوية ؛ فقد استبان له أنّ بعض الوفود الإسلاميّة لا تُقِرّه على هذه البيعة ولا ترضى به.

سفرُ معاوية ليثرب :

وقرّر معاوية السفر إلى يثرب التي هي محطّ أنظار المسلمين ، وفيها أبناء الصحابة الذين يُمثّلون الجبهة المعارضة للبيعة ؛ فقد كانوا لا يرون يزيداً نِدّاً لهم ، وإنّ أخذ البيعة له خروجٌ على إرادة الأُمّة ، وانحراف عن الشريعة الإسلاميّة التي لا تُبيح ليزيد أنْ يتولّى شؤون المسلمين ؛ لما عُرِفَ به مِن الاستهتار وتفسّخ الأخلاق.

٢٠٣

وسافر معاوية إلى يثرب في زيارة رسمية ، وتحمّل أعباء السفر لتحويل الخلافة الإسلاميّة إلى مُلْكٍ عضوض ، لا ظل فيه للحقّ والعدل.

اجتماعٌ مغلق :

وفور وصول معاوية إلى يثرب أمر بإحضار عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، وعقد معهم اجتماعاً مغلقاً ، ولمْ يُحضر معهم الحسن والحسين (عليهما السّلام) ؛ لأنّه قد عاهد الحسن (عليه السّلام) أنْ تكون الخلافة له مِنْ بعده ، فكيف يجتمع به؟ وماذا يقول له؟ وقد أمر حاجبه أنْ لا يسمح لأي أحدٍ بالدخول عليه حتّى ينتهي حديثه معهم.

كلمةُ معاوية :

وابتدأ معاوية الحديث بحمد الله والثناء عليه ، وصلّى على نبيّه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فقد كبر سنّي ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أنْ اُدعى فأُجيب ، وقد رأيت أنْ استخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا. وأنتم عبادلة قريش وخيارهم وأبناء خيارهم ، ولمْ يمنعني أنْ أُحضِرَ حسناً وحُسيناً إلاّ أنّهما أولاد أبيهما علي ، على حُسنِ رأي فيهما ، وشدّة محبّتي لهما ، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً رحمكم الله.

ولم يستعمل معهم الشدّة والإرهاب ؛ استجلاباً لعواطفهم ، ولمْ يخفَ عليهم ذلك ، فانبروا جميعاً إلى الإنكار عليه.

٢٠٤

كلمةُ عبد الله بن عباس :

وأوّل مَنْ كلّمه عبد الله بن عباس ، فقال بعد حمد الله ، والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس مَنْ تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأُمّة التسليم لنبيّها إذا اختاره الله له ؛ فإنّه إنّما اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم.

وكانت دعوة ابن عباس صريحةً في إرجاع الخلافة لأهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم ألصق الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأمسّهم به رحماً ؛ فإنّ الخلافة إنّما هي امتداد لمركز رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فأهل بيته أحقّ بمقامه وأولى بمكانته.

كلمةُ عبد الله بن جعفر :

وانبرى عبد الله بن جعفر ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة إنْ أُخذ فيها بالقرآن فاُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاُولوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر مِنْ آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟ وأيمُ الله ، لو ولّوها بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه ؛ لحقّه وصدقه ، ولأُطيع الرحمن وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان ، فاتقِ الله يا معاوية ، فإنّك قد صرت راعياً ونحن رعيّة ، فانظر لرعيتك فإنّك مسؤول عنها غداً ،

٢٠٥

وأمّا ما ذكرت مِن ابنَي عمّي وتركك أنْ تحضرهم ، فوالله ما أصبت الحقّ ، ولا يجوز ذلك إلاّ بهما ، وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، واستغفر الله لي ولكم.

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى الحقّ ، والإخلاص للأُمّة ، فقد رشّح أهل البيت (عليهم السّلام) للخلافة وقيادة الأُمّة ، وحذّره مِنْ صرفها عنهم كما فعل غيره مِن الخلفاء ، فكان مِنْ جرّاء ذلك أنْ مُنِيَتِ الأُمّة بالأزمات والنّكسات ، وعانت أعنف المشاكل وأقسى الحوادث.

كلمةُ عبد الله بن الزبير :

وانطلق عبد الله بن الزبير للخطابة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصة ، نتناولها بمآثرها السنيّة وأفعالها المرضيّة ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتّقِ الله يا معاوية وأنصف نفسك ؛ فإنّ هذا عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وعلي خلّف حسناً وحُسيناً ، وأنت تعلم مَنْ هما وما هما؟ فاتّقِ الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وقد حفّزهم بذلك لمعارضة معاوية وإفساد مهمّته.

٢٠٦

كلمةُ عبد الله بن عمر :

واندفع عبد الله بن عمر ، فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيّه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ، ولا قيصريّة ، ولا كسرويّة يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فوالله ما أدخلني مع الستّة مِنْ أصحاب الشورى إلاّ على أنّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنّما هي في قريش خاصة لمَنْ كان لها أهلاً ؛ ممّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، ممّن كان أتقى وأرضى ، فإنْ كنت تريد الفتيان مِنْ قريش فلعمري أنّ يزيد مِنْ فتيانها ، واعلم أنّه لا يُغني عنك مِن الله شيئاً.

ولمْ تعبّر كلمات العبادلة عن شعورهم الفردي ، وإنّما عبّرت تعبيراً صادقاً عن رأي الأغلبية السّاحقة مِن المسلمين الذين كرهوا خلافة يزيد ، ولمْ يرضوا به.

كلمةُ معاوية :

وثقلَ على معاوية كلامهم ، ولمْ يجد ثغرة ينفذ منها للحصول على رضاهم ، فراح يشيد بابنه فقال : قد قلت وقلتم ، وإنّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ مِن أبنائهم ، مع أنّ ابني إنْ قاولتموه وجد مقالاً ، وإنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ؛ لأنّهم أهل رسول الله ، فلمّا مضى رسول الله ولّى الناس أبا بكر وعمر مِنْ غير معدن المُلْك والخلافة ، غير أنّهما سارا بسيرةٍ جميلةٍ ، ثمّ رجع المُلْك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد

٢٠٧

أخرجك الله يابن الزبير ، وأنت يابن عمر منه ، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين مِن الرأي إنْ شاء الله(1) .

وانتهى اجتماع معاوية بالعبادلة ، وقد أخفق فيه إخفاقاً ذريعاً ؛ فقد استبان له أنّ القوم مصمّمون على رفض بيعة يزيد. وعلى إثر ذلك غادر يثرب ، ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا اجتماعه بسبطي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقد أهملت ذلك ، وأكبر الظن أنّه لمْ يجتمع بهما.

فزعُ المسلمين :

وذُعِرَ المسلمون حينما وافتهم الأنباء بتصميم معاوية على فرض ابنه خليفة عليهم ، وكان مِنْ أشدّ المسلمين خوفاً المدنيون والكوفيون ، فقد عرفوا واقع يزيد ، ووقفوا على اتجاهاته المعادية للإسلام.

يقول توماس آرنولد : كان تقرير معاوية للمبدأ الوراثي نقلة خطيرة في حياة المسلمين الذين ألِفوا البيعة والشورى ، والنُّظم الاُولى في الإسلام ، وهم بعدُ قريبون منها ؛ ولهذا أحسّوا ـ وخاصة في مكّة والمدينة ، حيث كانوا يتمسّكون بالأحاديث والسّنن النّبوية الاُولى ـ أنّ الاُمويِّين نقلوا الخلافة إلى حكم زمني متأثر بأسباب دنيوية ، مطبوع بالعظمة وحبّ الذات بدلاً مِنْ أنْ يحتفظوا بتقوى النّبي وبساطته(2) .

لقد كان إقدام معاوية على فرض ابنه يزيد حاكماً على المسلمين تحوّلاً خطيراً في حياة المسلمين الذين لمْ يألفوا مثل هذا النظام الثقيل الذي فُرِضَ عليهم بقوّة السّلاح.

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

(2) الخلافة ـ لتوماس / 10.

٢٠٨

الجبهةُ المعارضة :

وأعلن الأحرار والمصلحون في العالم الإسلامي رفضهم القاطع لبيعة يزيد ، ولمْ يرضوا به حاكماً على المسلمين ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) :

وفي طليعة المعارضين لبيعة يزيد الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، فقد كان يحتقر يزيد ويكره طباعه الذميمة ، ووصفه بأنّه صاحب شراب وقنص ، وأنّه قد لزم طاعة الشيطان وترك طاعة الرحمن ، وأظهر الفساد ، وعطّل الحدود ، واستأثر بالفيء ، وأحلّ حرام الله وحرّم حلاله(1) . وإذا كان بهذه الضِعة ، فكيف يبايعه ويقرّه حاكماً على المسلمين؟!

ولمّا دعاه الوليد إلى بيعة يزيد قال له الإمام (عليه السّلام) : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النّفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله».

ورفض بيعة يزيد جميع أفراد الأُسرة النّبوية تبعاً لزعيمهم العظيم ، ولمْ يشذّوا عنه.

الحرمان الاقتصادي :

وقابل معاوية الأسرة النّبوية بحرمان اقتصادي ؛ عقوبةً لهم لامتناعهم عن بيعة يزيد ، فقد حبس عنهم العطاء سنةً كاملة(2) ، ولكنّ ذلك لمْ يثنهم عن عزمهم في شجب البيعة ورفضها.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 252 ، الإمامة والسياسة 1 / 200.

٢٠٩

2 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

ومِن الذين نقموا على بيعة يزيد عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقد وسمها بأنّها هرقلية ، كلّما مات هرقل قام مكانه هرقل آخر(1) . وأرسل إليه معاوية مئة ألف درهم ليشتري بها ضميره فأبى ، وقال : لا أبيع ديني(2) .

3 ـ عبد الله بن الزبير :

ورفض عبد الله بن الزبير بيعة يزيد ، ووصفه بقوله : يزيد الفجور ، ويزيد القرود ، ويزيد الكلاب ، ويزيد النشوات ، ويزيد الفلوات(3) . ولمّا أجبرته السّلطة المحلّية في يثرب على البيعة فرّ منها إلى مكّة.

4 ـ المنذر بن الزبير :

وكره المنذر بن الزبير بيعة يزيد وشجبها ، وأدلى بحديث له عن فجور يزيد أمام أهل المدينة ، فقال : إنّه قد أجازني بمئة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أنْ أخبركم خبره. والله ، إنّه ليشرب الخمر. والله ، إنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة(4) .

5 ـ عبد الرحمن بن سعيد :

وامتنع عبد الرحمن بن سعيد مِن البيعة ليزيد ، وقال في هجائه :

__________________

(1) الاستيعاب.

(2) الاستيعاب ، البداية والنهاية 8 / 89.

(3) أنساب الأشراف 4 / 30.

(4) الطبري 4 / 368.

٢١٠

لستَ منّا وليس خالُك منّا

يا مضيعَ الصلاةِ للشهواتِ(1)

6 ـ عابس بن سعيد :

ورفض عابس بن سعيد بيعة يزيد حينما دعاه إليها عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال له : أنا أعرَفُ به منك ، وقد بعتَ دينك بدنياك(2) .

7 ـ عبد الله بن حنظلة :

وكان عبد الله بن حنظلة مِن أشدّ الناقمين على البيعة ليزيد ، وكان مِن الخارجين عليه في وقعة الحرّة ، وقد خاطب أهل المدينة ، فقال لهم : فو الله ، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أنْ نُرمى بالحِجارة مِن السّماء.

حياة الإمام الحُسين

إنّ رجلاً ينكح الأُمّهات والبنات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لمْ يكن معي أحدٌ مِن الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً(3) .

وكان يرتجز في تلك الواقعة :

بعداً لمَنْ رام الفساد وطغى

وجانب الحقّ وآيات الهدى

لا يبعد الرحمنُ إلاّ مَنْ عصى(4)

__________________

(1) الحُسين بن علي (عليه السّلام) 2 / 6.

(2) القضاة ـ للكندي / 310.

(3) طبقات ابن سعد.

(4) تاريخ الطبري 7 / 12.

٢١١

موقفُ الأُسرة الاُمويّة :

ونقمت الأُسرة الاُمويّة على معاوية في عقده البيعة ليزيد ، ولكن لمْ تكن نقمتهم عليه مشفوعة بدافع ديني أو اجتماعي ، وإنّما كانت مِنْ أجل مصالحهم الشخصية الخاصة ؛ لأنّ معاوية قلّد ابنه الخلافة وحرمهم منها ، وفيما يلي بعض الناقمين :

1 ـ سعيد بن عثمان :

وحينما عقد معاوية البيعة ليزيد أقبل سعيد بن عثمان إلى معاوية ، وقد رفع عقيرته قائلاً : علامَ جعلت ولدك يزيد وليّ عهدك؟! فوالله لأبي خير مِنْ أبيه ، وأُمّي خير مِنْ أُمّه ، وأنا خيرٌ مِنه ، وقد ولّيناك فما عزلناك ، وبنا نلت ما نلت!

فراوغ معاوية وقال له : أمّا قولك إنّ أباك خير مِنْ أبيه فقد صدقت ، لعمر الله إنّ عثمان لخير مِنّي ؛ وأمّا قولك إنّ أُمّك خير مِنْ أُمّه فحسب المرأة أنْ تكون في بيت قومِها ، وأنْ يرضاها بعلها ، ويُنجب ولدها ؛ وأمّا قولك إنّك خير مِنْ يزيد ، فوالله ما يسرّني أنّ لي بيزيد ملء الغوطة ذهباً مثلك ؛ وأمّا قولك إنّكم ولّيتموني فما عزلتموني ، فما ولّيتموني إنّما ولاّني مَنْ هو خير مِنكم عمر بن الخطاب فأقررتموني.

وما كنت بئس الوالي لكم ؛ لقد قمت بثأركم ، وقتلتُ قتلة أبيكم ، وجعلت الأمر فيكم ، وأغنيت فقيركم ، ورفعت الوضيع منكم ...

٢١٢

وكلّمه يزيد فأرضاه ، وجعله والياً على خراسان(1) .

2 ـ مروان بن الحكم :

وشجب مروان بن الحكم البيعة ليزيد وتقديمه عليه ، فقد كان شيخ الاُمويِّين وزعيمهم ، فقال له : أقم يابن أبي سفيان ، واهدأ مِنْ تأميرك الصبيان ، واعلم أنّ لك في قومك نُظراء ، وأنّ لهم على مناوئتك وزراً.

فخادعه معاوية ، وقال له : أنت نظير أمير المؤمنين بعده ، وفي كلّ شدّة عضده ، فقد ولّيتك قومك ، وأعظمنا في الخراج سهمك ، وإنّا مجيرو وفدك ، ومحسنو وفدك(2) .

وقال مروان لمعاوية : جئتم بها هرقلية ، تُبايعون لأبنائكم!(3) .

3 ـ زياد بن أبيه :

وكره زياد بن أبيه بيعة معاوية لولده ؛ وذلك لما عرف به مِن الاستهتار والخلاعة والمجون.

ويقول المؤرّخون : إنّ معاوية كتب إليه يدعوه إلى أخذ البيعة بولايته العهد ليزيد ، وإنّه ليس أولى مِن المغيرة بن شعبة. فلمّا قرأ كتابه دعا برجل مِنْ أصحابه كان يأتمنه حيث لا يأتمن أحداً غيره ، فقال له : إنّي اُريد أنْ ائتمنك على ما لم ائتمن على بطون الصحائف ؛ ائت معاوية وقل له : يا أمير المؤمنين ، إنّ كتابك ورد عليّ بكذا ، فماذا يقول

__________________

(1) وفيات الأعيان 5 / 389 ـ 390.

(2) الإمامة والسّياسة 1 / 128.

(3) الإسلام والحضارة العربية 2 / 395.

٢١٣

الناس إنْ دعوناهم إلى بيعة يزيد ، وهو يلعب بالكلاب والقرود ، ويلبس المصبغ ، ويدمن الشراب ، ويمسي على الدفوف ، ويحضرهم ـ أي الناس ـ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر؟! ولكن تأمره أنْ يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين ، فعسانا أنْ نموه على الناس. وسار الرسول إلى معاوية فأدّى إليه رسالة زياد ، فاستشاط غضباً ، وراح يتهدّده ويقول :

ويلي على ابن عُبيد! لقد بلغني أنّ الحادي حدا له أنّ الأمير بعدي زياد. والله ، لأردّنه إلى أُمّه سُميّة وإلى أبيه عُبيد(1) .

هؤلاء بعض الناقدين لمعاوية مِن الأُسرة الاُمويّة وغيرهم في توليته لخليعه يزيد خليفة على المسلمين.

إيقاعُ الخلاف بين الاُمويِّين :

واتّبع معاوية سياسة التفريق بين الاُمويِّين حتّى يصفو الأمر لولده يزيد ؛ فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مكانه مروان بن الحكم ، ثمّ عزل مروان واستعمل سعيداً مكانه ، وأمره بهدم داره ومصادرة أمواله ، فأبى سعيد مِنْ تنفيذ ما أمره به معاوية فعزله وولّى مكانه مروان ، وأمره بمصادرة أموال سعيد وهدم داره ، فلمّا همّ مروان بتنفيذ ما عهد إليه أقبل إليه سعيد وأطلعه على كتاب معاوية في شأنه ، فامتنع مروان مِن القيام بما أمره معاوية.

وكتب سعيد إلى معاوية رسالة يندّد فيها بعمله ، وقد جاء فيها : العجب ممّا صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا له ، أنْ يضغن بعضنا

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 196.

٢١٤

على بعض! فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره مِن الأخبثين ، وعفوه وإدخاله القطيعة بنا والشحناء ، وتوارث الأولاد ذلك!(1) .

وعلّق عمر أبو النّصر على سياسة التفريق التي تبعها معاوية مع أُسرته بقوله : إنّ سبب هذه السّياسة هو رغبة معاوية في إيقاع الخلاف بين أقاربه الذين يخشى نفوذهم على يزيد مِنْ بعده ، فكان يضرب بعضهم ببعضٍ حتّى يظلّوا بحاجة إلى عطفه وعنايته(2) .

تجميدُ البيعة :

وجمّد معاوية رسمياً البيعة ليزيد إلى أجل آخر حتّى يتمّ له إزالة الحواجز والسدود التي تعترض طريقه. ويقول المؤرّخون : إنّه بعد ما التقى بعبادلة قريش في يثرب ، واطّلع على آرائهم المعادية لما ذهب إليه ، أوقف كلّ نشاط سياسي في ذلك ، وأرجأ العمل إلى وقت آخر(3) .

اغتيالُ الشخصيات الإسلاميّة :

ورأى معاوية أنّه لا يمكن بأي حالٍ تحقيق ما يصبوا إليه مِنْ تقليد ولده الخلافة مع وجود الشخصيات الرفيعة التي تتمتّع باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، فعزم على القيام باغتيالهم ؛ ليصفو له الجو ، فلا يبقى أمامه أي مزاحم ،

__________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 18.

(2) السياسة عند العرب ـ عمر أبو النّصر / 98.

(3) الإمامة والسياسة 1 / 182.

٢١٥

وقد قام باغتيال الذوات التالية :

1 ـ سعد بن أبي وقاص :

ولسعد المكانة العليا في نفوس الكثيرين مِن المسلمين ، فهو أحد أعضاء الشورى ، وفاتح العراق ، وقد ثقل مركزه على معاوية فدسّ إليه سُمّاً فمات منه(1) .

2 ـ عبد الرحمن بن خالد :

وأخلص أهل الشام لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأحبّوه كثيراً ، وقد شاورهم معاوية فيمَنْ يعقد له البيعة بعد وفاته ، فقالوا له : رضينا بعبد الرحمن بن خالد ، فشقّ ذلك عليه ، وأسرّها في نفسه.

ومرض عبد الرحمن ، فأمر معاوية طبيباً يهودياً كان مكيناً عنده أنْ يأتيه للعلاج فيسقيه سقية تقتله ، فسقاه الطبيب فمات على أثر ذلك(2) .

3 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

وكان عبد الرحمن بن أبي بكر مِنْ أقوى العناصر المعادية لبيعة معاوية لولده ، وقد أنكر عليه ذلك ، وبعث إليه معاوية بمئة ألف درهم فردّها عليه ، وقال : لا أبيع ديني بدنياي. ولمْ يلبث أنْ مات فجأة بمكة(3) .

وتعزو المصادر سبب وفاته إلى أنّ معاوية دسّ إليه سُمّاً فقتله.

__________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 29.

(2) الاستيعاب.

(3) المصدر نفسه.

٢١٦

4 ـ الإمام الحسن (عليه السّلام) :

وقام معاوية باقتراف أعظم جريمة وإثم في الإسلام ، فقد عمد إلى اغتيال سبط النّبي (صلّى الله عليه وآله) وريحانته الإمام الحسن (عليه السّلام) ، الذي عاهده بأنْ يكون الخليفة مِنْ بعده.

ولم يتحرّج الطاغية مِنْ هذه الجريمة في سبيل إنشاء دولة اُمويّة تنتقل بالوارثة إلى أبنائه وأعقابه ، وقد وصفه (الميجر اُوزبورن) بأنّه مخادع ، وذو قلب خال مِنْ كلّ شفقة ، وأنّه كان لا يتهيّب مِنْ الإقدام على أيّة جريمة مِنْ أجل أنْ يضمن مركزه ؛ فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه ، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، كما تخلّص مِنْ مالك الأشتر قائد علي بنفس الطريقة(1) .

وقد استعرض الطاغية السفّاكين ليعهد إليهم القيام باغتيال ريحانة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فلمْ يرَ أحداً خليقاً بارتكاب الجريمة سوى جُعيدة بنت الأشعث ؛ فإنّها مِنْ بيت قد جُبِلَ على المكر ، وطُبِعَ على الغدر والخيانة ، فأرسل إلى مروان بن الحكم سُمّاً فاتكاً كان قد جلبه مِنْ مَلكِ الروم ، وأمره بأنْ يُغري جُعيدة بالأموال وزواج ولده يزيد إذا استجابت له ، وفاوضها مروان سرّاً ففرحت ، فأخذت مِنه السُّمّ ودسّته للإمام (عليه السّلام) ، وكان صائماً في وقت ملتهب مِن شدّة الحرّ ، ولمّا وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، والتفت إلى الخبيثة فقال لها : «قتلتيني قتلك الله. والله لا تصيبنَّ مِنّي خَلفاً ، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر مِنك ، يخزيك الله ويخزيه».

وأخذ حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) يعاني الآلام الموجعة مِنْ شدّة السُّمّ ،

__________________

(1) روح الإسلام / 295.

٢١٧

وقد ذبلت نضارته ، واصفرّ لونه حتّى وافاه الأجل المحتوم. وقد ذكرنا تفصيل وفاته مع ما رافقها مِن الأحداث في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

إعلانُ البيعة رسميّاً :

وصفا الجو لمعاوية بعد اغتياله لسبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) وريحانته ، فقد قضى على مَنْ كان يحذر منه ، وقد استتبت له الاُمور ، وخلت السّاحة مِنْ أقوى المعارضين له ، وكتب إلى جميع عمّاله أنْ يبادروا دونما أي تأخير إلى أخذ البيعة ليزيد ، ويُرغموا المسلمين على قبولها. وأسرع الولاة في أخذ البيعة مِن الناس ، ومَنْ تخلّف عنها نال أقصى العقوبات الصارمة.

مع المعارضين في يثرب :

وامتنعت يثرب مِنْ البيعة ليزيد ، وأعلن زعماؤهم وعلى رأسهم الإمام الحُسين (عليه السّلام) رفضهم القاطع للبيعة ، ورفعت السّلطة المحلّية ذلك إلى معاوية ، فرأى أنْ يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين ، فإنْ أبوا أجبرهم على ذلك. واتّجه معاوية إلى يثرب في موكب رسميّ تحوطه قوّة هائلة مِن الجيش ، ولمّا انتهى إليها استقبله أعضاء المعارضة فجفاهم وهدّدهم.

وفي اليوم الثاني أرسل إلى الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وإلى عبد الله بن عباس ، فلمّا مَثُلا عنده قابلهما بالتكريم والحفاوة ، وأخذ يسأل الحُسين (عليه السّلام) عن أبناء أخيه والإمامُ (عليه السّلام) يُجيبه ، ثمّ خطب معاوية فأشاد بالنّبي (صلّى الله عليه وآله) وأثنى عليه ، وعرض إلى بيعة يزيد ، ومنح ابنه الألقاب الفخمة ، والنعوت الكريمة ، ودعاهما إلى بيعته.

٢١٨

خطابُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

وانبرى أبيّ الضيم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد يا معاوية ، فلن يؤدّي المادح وإنْ أطنب في صفة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مِنْ جميع جزءاً ، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مِنْ إيجاز الصفة ، والتنكّب عن استبلاغ النّعت ، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السُّرج ، ولقد فضلّتَ حتّى أفرطت ، واستأثرتَ حتّى أجحفت ، ومنعتَ حتّى بخلت ، وجُرْتَ حتّى جاوزت ، ما بذلت لذي حقٍّ مِنْ اسمٍ حقّه مِنْ نصيب حتّى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد مِن اكتماله ، وسياسته لأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ؛ تريد أنْ توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تُخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد مِنْ نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به مِن استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحَمام السبق لأترابهنَّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصراً ، ودع عنك ما تحاول ؛ فما أغناك أنْ تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه ، فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتُقدم على عمل محفوظ ، في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تُراثاً ، ولعمر الله أورثنا الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائمَ عند موت الرسول ، فأذعن للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النّصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم : كان

٢١٩

ويكون ، حتّى أتاك الأمر يا معاوية مِنْ طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا اُولي الأبصار.

وذكرتَ قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وتأميره له ، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار ـ لعمر الله ـ يومئذ مبعثهم حتّى أنِفَ القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : لا جرم يا معشر المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري. فكيف تحتجّ بالمنسوخ مِنْ فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه مِن الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً وحولك مَنْ لا يُؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أنْ تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين! واستغفر الله لي ولكم».

وفنّد الإمام (عليه السّلام) في خطابه جميع شبهات معاوية ، وسدّ عليه جميع الطرق والنوافذ ، وحمّله المسؤولية الكبرى فيما أقدم عليه مِنْ إرغام المسلمين على البيعة لولده. كما عرض للخلافة وما منيت به مِن الانحراف عمّا أرادها الله مِنْ أنْ تكون في العترة الطاهرة (عليهم السّلام) ، إلاّ أنّ القوم زووها عنهم ، وحرفوها عن معدنها الأصيل.

وذُهل معاوية مِنْ خطاب الإمام (عليه السّلام) ، وضاقت عليه جميع السّبل ، فقال لابن عباس : ما هذا يابن عباس؟!

ـ لعمر الله إنّها لذرّيّة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وأحد أصحاب الكساء ، ومِن البيت المطهّر ، فاله عمّا تريد ؛ فإنّ لك في الناس مقنعاً حتّى يحكم الله

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

فعظم المسؤولية اقتضى أن يعاتب الله سبحانه نبيّه لترك ما هو الأولى بحاله حتى يرشده إلى ما يعد من أفاضل ومحاسن الأخلاق، وينبهه على عظم حال المؤمن المسترشد، وأن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه، أولى من تأليف المشرك طمعاً في إيمانه، ومَن هذا حاله لا يعد عاصياً لأمر الله ومخالفاً لطاعته.

وأمّا الرواية الثانية : فالظاهر أنّ الرواية نقلت غير كاملة، وكان لها ذيل يصحّح انطباق الخطابات الواردة في الآيات حقيقة على الشخص الذي عبس وتولّى، وعلى فرض كونها تامّة فالضمير الغائب في ( عبس ) و ( تولّى ) و ( جاءه ) يرجع إلى ذلك الفرد، وأمّا الخطابات فهي متوجّهة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن مَن وجّه إليه الخطاب غير مَن قُصد منه، فهو من مقولة: ( إيّاك أعني واسمعي يا جارة ) ومثل هذا يعد من أساليب البلاغة، وفنون الكلام.

٢٤١

دين النبي الأكرم قبل البعثة

دلّت الأدلة العقلية والنقلية على عصمة الأنبياء عامّة والنبي الأكرم خاصة إلاّ أنّ الحكم بعصمته قبل التشرّف بالنبوّة، يتوقّف على إحراز تديّنه بدين قبل أن يبعث، وهذا ما نتلوه عليك في هذا البحث تكميلاً لعصمتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

من الموضوعات المهمّة التي شغلت بال المحقّقين من أهل السير والتاريخ موضوع دين النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد اتفق جمهور المسلمين على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان على خط التوحيد منذ نعومة أظفاره إلى أن بُعث لهداية أُمّته، فلم يسجد لصنم ولا وثن، وكان بعيداً عن الأخلاق والعادات الجاهلية التي تستقي جذورها من الوثنية، وإن اختلفوا في أنّه هل كان متعبّداً بشريعة أحد من الأنبياء أو بشريعة نفسه، أو بما يلهم من الوظائف والتكاليف ؟ وعلى ذلك فنركّز البحث على نقطتين:

١ - إيمانه وتوحيده قبل البعثة.

٢ - الشريعة التي كان يعمل بها في حياته الفردية والاجتماعية.

أمّا بالنسبة إلى النقطة الأُولى: فقد كان النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الدين الحنيف لم يعدل عنه إلى غيره طرفة عين، وتظهر هذه الحقيقة بالتعرّف على ملامح

٢٤٢

البيت الذي وُلد فيه، وتربّى في أحضان رجاله فنقول:

كان النبي كريم المولد، شريف المحتِد، ولد من أبوين كريمين مؤمنين بالله سبحانه وموحّدين، وتربّى في حضن جدّه عبد المطلب، وبعده في حجر عمّه أبي طالبعليه‌السلام ، وقد كان الدين السائد في ذلك البيت الرفيع، دين التوحيد، ورفض عبادة غير الله تعالى والعمل بالمناسك والرسوم الواصلة إليه عن إبراهيمعليه‌السلام .

لا أقول إنّ جميع مَن كان ينتمي إلى البيت الهاشمي كان على خط التوحيد وعلى الشريعة الإبراهيمية، إذ لا شك أنّ بعضهم كان يعبد الأصنام، ويدافع عنها كأبي لهب، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.

بل أقول: الديانة السائدة في ذلك البيت هي عبادة الرحمن ورفض الأصنام والأوثان.

ويتضح وضع هذا البيت ببيان ديانة أشياخه وأسياده وأخصّ بالذكر منهم سيّده الكبير ( عبد المطلب ) وشيخ الأباطح ( أبو طالب )، وإليك الكلام في ديانتهما:

١ - عبد المطلب وإيمانه

عبد المطلب هو الرجل الاَوّل في هذا البيت، وكفى في صفائه وإيمانه ما ذكره الموَرّخون في حقه، وإليك بعضه:

١ - يقول اليعقوبي في الحديث عنه: ورفض عبد المطلب عبادة الأوثان والأصنام، ووحَّد الله عزّ وجلّ، ووفي بالنذر، وسنّ سنناً نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنّة الشريفة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها، وهي الوفاء بالنذر، ومائة من الإبل

٢٤٣

في الديّة، وأن لا تنكح ذات محرم، ولا تؤتى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، وتحريم الخمر، وتحريم الزنا والحد عليه، والقرعة، وأنّ لا يطوف أحد بالبيت عرياناً، وإضافة الضيف، وأن لا ينفقوا إذا حجّوا إلاّ من طيب أموالهم، وتعظيم الأشهر الحرم، ونفي ذوات الرايات(١) .

٢ - إذا اطّلعنا على موقف عبد المطّلب من جيش إبرهة، وتوكّله على الله تعالى، وأخذه بحلقة باب الكعبة، نعلم بأنّه كان الرجل الموحّد الذي لا يلتجئ في المصائب والمكاره إلى غير كهف الله، ولا يعرف إلاّ باب الله، على عكس ما كانت الوثنية عليه فإنّهم كانوا يستغيثون بالأصنام المنصوبة حول الكعبة، وإليك إجمال القضية:

قدم عبد المطلب إلى معسكر إبرهة، فلمّا رآه إبرهة أجلّه وأكرمه، وبعدما وقف الملك على أنّه جاء ليردّ عليه إبله التي استولى عليها عسكره، قال له إبرهة: أتكلّمني في إبلك وتترك بيتاً، هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه ؟! قال له عبد المطلب: أنا ربُّ الإبل، وللبيت ربّ يمنعه، قال إبرهة: ما كان يمنعه منّي وأمر بردّ إبله، فلمّا أخذها قلّدها وجعلها هدياً وبثّها في الحرم كي يصاب منها شيء فيغضب الله عزّ وجلّ، وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر، ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على إبرهة وجنده، فقال عبد المطلب:

____________________

١ - تاريخ اليعقوبي: ٢/٩، طبعة النجف أقول: في عدّ بعض ما ذكر ذلك المؤرّخ من سنن عبد المطلب نظر: فإنّ لبعضها كالوفاء بالنذر، والنهي عن قتل الموءودة، والقرعة، سابقة تاريخية ترجع إلى فترات قبله.

٢٤٤

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا رب فامنع منهم حماكا

إنَّ عدوّ البيت مَن عاداكا

امنعهم أن يخربوا فناكا

وقال أيضاً:

لاهُمَّ إنّ العبدَ يَمنع

رَحْلَه فامنع حِلالَكْ

لا يَغلِبَنَّ صَلِيبهم ومحالُهم

عدْواً محالَكْ(١)

٣ - وليست هذه الواقعة وحيدة من نوعها بل لسيد قريش مواقف أُخرى تشبه هذه الواقعة حيث توسّل لكشف غمّته فيها بالله سبحانه وتعالى، وإليك مثالين:

ألف - تتابعت على قريش سنون جدب، ذهبت بالأموال، وأشرفت على الأنفس، واجتمعت قريش لعبد المطلب وعلوا جبل أبي قبيس ومعهم النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو غلام، فتقدّم عبد المطلب وقال:

( لاهم(٢) هؤلاء عبيدك وإماؤك وبنو إمائك، وقد نزل بنا ما ترى، وتتابعت علينا هذه السنون، فذهبت بالظلف والخف والحافر، فأشرفت على الأنفس، فأذهب عنّا الجدب، وائتنا بالحياء والخصب )، فما برحوا حتى سالت الأودية، وفي هذه الحالة تقول رقيقة:

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا

وقد عدمنا الحيا واجلوّذ المطرُ

إلى أن تقول:

____________________

١ - السيرة النبويّة لابن هشام: ١/٥٠؛ الكامل لابن الأثير: ١/١٢، وغيرهما.

٢ - مخفّف ( اللّهمّ ).

٢٤٥

مبارك الاسم يستسقى الغمام به

ما في الأنام له عدلٌ ولا خطرُ(١)

وقد نقل هذه الواقعة الشهرستاني في الملل والنحل قال: وممّا يدل على معرفته ( عبد المطلب ) بحال الرسالة وشرف النبوّة أنّ أهل مكّة لمّا أصابهم ذلك الجدب العظيم وأمسك السحاب عنهم سنتين، أمر أبا طالب ابنه أن يحضر المصطفى محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأحضره وهو رضيع في قماط، فوضعه على يديه واستقبل الكعبة ورماه إلى السماء، وقال يا ربّ بحق هذا الغلام ورماه ثانياً وثالثاً وكان يقول: بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلاً، فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء وأمطر حتى خافوا على المسجد.

وقال أيضاً: وببركة ذلك النور كان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيّات الأمور، وأن يقول في وصاياه: إنّه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه وتصيبه عقوبة، إلى أن هلك رجل ظلوم حتف أنفه لم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطلب في ذلك، ففكّر وقال: والله إنّ وراء هذه الدار دار يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته(٢) .

إنّ توسّله بالله سبحانه وتولّيه عن الأصنام والأوثان والتجاءه إلى ربّ الأرباب آية توحيده الخالص، وإيمانه بالله وعرفانه بالرسالة الخاتمة، وقداسة صاحبها، فلو لم يكن له إلاّ هذه الوقائع لكفت في البرهنة على إيمانه بالله وتوحيده له.

____________________

١ - السيرة الحلبية: ١/١٣١ - ١٣٣.

٢ - الملل والنحل للشهرستاني: القسم الثاني: ٢٤٨ و ٢٤٩ من الطبعة الثانية، تخريج محمد بن فتح الله بدران القاهرة.

٢٤٦

ب - روى أصحاب السير أنّه وقع النقاش بين عبد المطلب وقريش في حفر بئر زمزم بعد ما حفره عبد المطلب، فاتفقوا على الرجوع إلى كاهنة، فقصدوا طريق الشام فعطشوا في الطريق وأشرفوا على الموت، فاقترح أن يحفر كلّ حفرة لنفسه بما بكم الآن من قوّة، فكلّما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخركم رجلاً واحداً فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً، قالوا: نعم ما أمرت به، فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثم إنّ عبد المطلب قال لأصحابه: والله إنّ إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا، لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد، ارتحلوا؛ فارتحلوا حتى إذا فرغوا، ومَن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدّم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به، انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبّ-ر عبد المطلب وكبّر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلمّ إلى الماء، فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا؛ فجاءوا فشربوا واستقوا، ثم قالوا: والله قضى لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، إنّ الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة، لهو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلّوا بينه وبينها(١) .

٤ - عن أُمّ أيمن (رضي الله عنها) قالت: كنت أحضن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي أقوم بتربيته وحفظه - فغفلت عنه يوماً فلم أدر إلاّ بعبد المطلب قائماً على رأسي يقول: يا ( بركة ) قلت: لبّيك، قال: أتدرين أين وجدت ابني ؟ قلت: لا أدري، قال: وجدته مع غلمان قريباً من السدرة، لا تغفلي عن ابني، فإنّ أهل الكتاب يزعمون

____________________

١ - سيرة ابن هشام: ١/١٤٤ - ١٤٥، طبعة مصر.

٢٤٧

أنّه نبيّ هذه الأُمّة وأنا لا آمن عليه منهم، وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلاّ يقول: عليّ بابني، أي احضروه، ويجلسه بجنبه وربّما أقعده على فخذه ويؤثره بأطيب طعامه(١) هذا هو عبد المطلب وتعوذّه ببيت الله الحرام ومواقفه بين قومه وكلماته في المبدأ والمعاد وعطفه على رسالة خاتم النبيين، أبعد هذا يبقى لأحدٍ شك في توحيده وإيمانه، بل واعترافه برسالة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

قضى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفيفاً من عمره في رعايته، فلمّا بلغ أجله أوصى إلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة، وإلى أبي طالب برسول الله وسقاية زمزم، وقال له: قد خلّفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطأُون به رقاب الناس، وقال لأبى طالب:

أوصيك يا عبد مناف بعدي

بمفردٍ بعد أبيه فردِ

فارقه وهو ضجيع المهدِ

فكنت كالأُمِّ له في الوجدِ

تدنيه من أحشائها والكبدِ

فأنت من أرجى بنيَّ عندي

لدفع ضيمٍ أو لشدّ عقدِ(٢)

٢ - شيخ الأباطح أبو طالب وإيمانه

قد تعرّفت على إيمان ( عبد المطلب ) الكفيل الأوّل لصاحب الرسالة، فهلمّ معي ندرس حياة كفيله الآخر بعده، وهو أبو طالب شيخ البطحاء، فقد اتفقت

____________________

١ - سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: ١/٦٤.

٢ - تاريخ اليعقوبي: ٢/١٠، طبعة النجف.

٢٤٨

كلمة أهل السِيَر والتاريخ على كفالته لصاحب الرسالة بعد جدّه، ودرئه عنه كل سوء وعادية طيلة حياته، وإن اختلفت آراؤهم في إيمانه بالرسول الأكرم بعد البعثة؛ ولأجل تحقيق الحال نركّز على البحث عن نقطتين: إيمانه قبل البعثة، وإيمانه بعد البعثة:

إيمانه بالله قبل البعثة

يكفي في إيمانه بالله وخلوص توحيده عدّة أُمور نشير إليها:

١ - ما أخرجه ابن عساكر في تاريخه، عن جلهمة بن عرفطة، قال: قدمت مكّة وهم في قحط، فقالت قريش يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال فهلمّ واستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنّه شمس دجى تجلّت عنه سحابة قتماء وحوله اغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بإصبعه الغلام وما في السماء، قزعة(١) .

فأقبل السحاب من ها هنا وها هنا وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي وأخصب البادي والنادي، ففي ذلك يقول أبو طالب ويمدح به النبي أكثر من ثمانين بيتاً:

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأراملِ

يلوذ به الهلاّك من آل هاشمٍ

فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ

وميزان عدلٍ لا يخيس شعيرة

ووزان صدق وزنه غير هائلِ(٢)

____________________

١ - القزعة: قطعة من السحاب.

٢ - السيرة الحلبية: ١/١١٦ لاحظ فتح الباري: ٢/٤٩٤، والقصيدة مذكورة في السيرة النبويّة لابن هشام: ١/٢٧٢ - ٢٨٠.

٢٤٩

وما نسبه إليه من الأشعار جزء من قصيدته المعروفة التي نظمها أيام الحصار في الشِعْب، ويشير بها إلى الواقعة التي استسقى فيها بالنبيّ وقد كان غلاماً في كفالته، ولو كان آنذاك عابداً للوثن لتوسّل باللات والعزّى وسائر الآلهة المنصوبة حول الكعبة.

٢ - روى الحافظ الكنجي الشافعي: أنّ أحد الزهّاد والعبّاد قال لأبي طالب: يا هذا إنّ العلي الأعلى ألهمني إلهاماً، قال أبو طالب: وما هو ؟ قال: ولد يولد من ظهرك وهو وليّ الله عزّ وجلّ، فلمّا كانت الليلة التي وُلد فيها عليّعليه‌السلام أشرقت الأرض، فخرج أبو طالب وهو يقول: أيّها الناس وُلد في الكعبة وليّ الله، فلمّا أصبح دخل الكعبة وهو يقول:

يا ربّ هذا الغسق الدجيّ

والقمر المنبلج المضيّ

بيّن لنا من أمرك الخفيّ

ماذا ترى في اسم ذا الصبيّ

قال: فسمع صوت هاتف يقول:

يا أهل بيت المصطفى النبي

خصصتم بالولد الزكيّ

إنّ اسمه من شامخ العليّ

عليّ اشتقّ من العليّ(١)

٣ - إنّ أبا طالب كان ممّن تعرّف على مكانة النبي الأعظم عن طريق الراهب ( بحيرا )، وذلك حينما خرج في ركب إلى الشام تاجراً، فلمّا تهيّأ للرحيل وأجمع السير هبّ له رسول الله فأخذ بزمام ناقته، وقال: يا عمّ إلى مَن تكلني لا أب لي ولا أُمّ لي ؟ فرقّ له أبو طالب وقال: والله لأخرجنّ به معي ولا يفارقنى ولا أُفارقه أبداً قال: فخرج به معه، فلمّا نزل الركب ( بصرى ) من أرض الشام نزلوا قريباً

____________________

١ - الغدير: ٧/٣٤٧، نقلاً عن كفاية الطالب للحافظ الكنجي الشافعي: ٢٦٠.

٢٥٠

من صومعة راهب يقال له ( بحيرا )، فلمّا رأى النبي جعل يلحظه لحظاً شديداً، وينظر أشياء من جسده، فجعل يسأله عن نومه وهيئته، ورسول الله يخبره، ثم نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوّة بين كتفيه، ثم قال لأبي طالب: ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت، ليبغنّه شراً، فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فاسرع به إلى بلاده، فخرج به عمّه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكّة حين فرغ من تجارته بالشام، وفي ذلك يقول أبو طالب:

إنّ ابن آمنة النبيّ محمّداً

عندي يفوق منازل الأولادِ

لمّا تعلّق بالزمامِ رحمته

والعيس قد قلّصن بالأزوادِ

فارفضّ من عينيّ دمعٌ ذارفٌ

مثل الجمان مفرّق الأفرادِ

إلى أن قال:

حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا

لاقوا على شركٍ من المرصادِ

حبراً فأخبرهم حديثاً صادقاً

عنه وردّ معاشر الحسّادِ

فما رجعوا حتى رأوا من محمّدٍ

أحاديث تجلو غمّ كلِّ فؤادِ

وحتى رأوا أحبار كلِّ مدينةٍ

سجوداً له من عصبة وفرادِ(١)

وما رأى أبو طالب من ابن أخيه في هذا السفر من الكرامات وخوارق العادات التي ضبطها التاريخ، وما سمعه من بحيرا من مستقبل أمره وأنّ اليهود له بالمرصاد، كافٍ لإرشاد كل إنسان صافي الذهن مستقيم الطريقة، فكيف بأبي طالب الذي كان بالإضافة إلى هاتين الصفتين، يحبّه حبّاً جماً أشدّ من حبّه لأولاده

____________________

١ - السيرة النبويّة لابن هشام: ١/١٨٢، الطبقات الكبرى: ١/١٢٠، تاريخ ابن عساكر: ١/٢٦٩ - ٢٧٢، ديوان أبي طالب: ٣٣ - ٣٥، إلى غير ذلك من المصادر التي اهتمّت بنقل هذه الواقعة.

٢٥١

وإخوته، فكانت هذه الكرامات كافية في هدايته لخط التوحيد ورسالة ابن أخيه، وإن لم يكن يصرّح بها لفظاً قبل البعثة، لكنّه جهر بها بعده كما سيوافيك إن شاء الله.

مضافاً إلى أنّه كان موضع الثقة من عبد المطلب، وقد أوصاه برعاية ابن أخيه بعده، فلا يصح لعبد المطلب المؤمن الموحّد أن يدلي بوصيّته وكفالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مَن لم يكن على غير خط التوحيد، ولم تكن بينهما وحدة فكرية، وإلى ذلك يشير أبو طالب في هذه القصيدة الدالية:

راعيت فيه قرابةً موصولةً

وحفظت فيه وصيّة الأجدادِ

إيمانه بعد البعثة

أمّا دلائل إيمانه بالله أوّلاً، وبرسالة ابن أخيه ثانياً، بعد بعثة النبيّ الأكرم فحدِّث عنه ولا حرج، وإن كان بعضهم قد هضم حق أبي طالب قرّة عين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا بما لا ينسجم مع الحقائق التاريخية، ولو نقل معشار ما ورد عن إيمانه من فعل أو قول، في حق غيره لاتفق الكل على إيمانه وتوحيده، ولكن - ويا للأسف - إنّ بعض الجائرين على الحق لا يريدون أن يعتبروا تلك الدلائل وافية لإثبات إيمانه.

لم يزل سيّدنا أبو طالب يكلأ ابن أخيه ويذبّ عنه ويدعو إلى دينه الحنيف منذ بزوغ شمس الرسالة إلى أن لقي ربّه، وكفانا من إفاضة القول في ذلك، الكتب المؤلّفة حول تضحيته لأجل الحق ودفاعه عنه شعراً ونثراً، ونكتفي بالنزر اليسير من الجم الغفير:

١ - كتب أبو طالب إلى النجاشي عندما نزل المهاجرون من المسلمين بقيادة

٢٥٢

جعفر الطيّار أرض الحبشة وهو يحضّه على حسن الجوار:

ليعلم خيار الناس أنّ محمداً

نبىّ كموسى والمسيح بن مريمِ

وإنّكم تتلونه في كتابكم

بصدق حديثٍ لا حديث المرجّمِ(١)

٢ - نحن نفترض الكلام في غير أبى طالب، فإذا أردنا الوقوف على نفسيّة فرد من الأفراد والعلم بما يكنّه من الإيمان أو الكفر، فما هو الطريق إلى كشفها ؟ فهل الطريق إليه إلاّ كلامه وقوله، أو ما يقوم به من عمل، أو ما يروي عنه مصاحبوه ومعاشروه، فلو كانت هذه هي المقاييس الصحيحة للتعرّف على النفسية، فكلّها تشهد بإيمانه القويم وتوحيده الخالص، فإنّ فيما أُثر عنه من نظم ونثر، أو نقل من عمل بار، وسعي مشكور في نصرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفظه، والدعوة لرسالته وما روى عنه مصاحبوه ومعاشروه - فإنّ في هذه - لدلالة واضحة على إيمانه بالله ورسالة ابن أخيه وتفانيه في سبيل استقرارها.

كيف، وهو يقول في أمر الصحيفة التي كتبها صناديد قريش في سبيل ضرب الحصار الاقتصادي على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبني هاشم وبني المطلب:

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّداً

نبيّاً كموسى خطّ في أوّل الكتبِ

وأنّ الذي ألصقتمُ من كتابكم

لكم كائن نحساً كراغية السقبِ(٢)

ففي هذه الأبيات التي تزهر بنور التوحيد، وتتلألأ بالإيمان بالدين الحنيف دلالة واضحة على إيمانه بالرسالات الإلهيّة عامّة، ورسالة ابن أخيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة، وكم وكم له من قصائد رائعة يطفح من ثناياها الإيمان الخالص، والإسلام

____________________

١ - مستدرك الحاكم: ٢/٦٢٣ - ٦٢٤.

٢ - السيرة النبويّة: ١/٣٥٢، وذكر من القصيدة ١٥ بيتاً.

٢٥٣

الصحيح، ونحن نكتفي في إثبات إيمان كفيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا المقدار، ونحيل التفصيل إلى الكتب المعدّة لذلك.

فإنّ نقل ما أُثر عنه من شعر ونثر، أو رُوي من عمل مشكور، يحتاج إلى تأليف كتاب مفرد، وقد قام لفيف من محقّقي الشيعة بتأليف كتب حول إيمانه، بين مسهب في الإفاضة وموجز في المقالة، وفيما حقّقه وجمعه شيخنا العلاّمة الأميني في غديره كفاية لطالب الحق(١) هذا إيمان عبد المطلب وذلك توحيد ابنه البار أبي طالب، وقد تربَّى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترعرع وشبّ واكتهل في أحضانهما، وفي قانون الوراثة أن يرث الأبناء ما في الحجور والأحضان من الخصال والأخلاق، وقد قضى النبي الأكرم قسماً وافراً من عمره الشريف في تلك الربوع واستظلّ بفيئها.

إيمان والديّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لقد تعرّفت على إيمان كفيل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهلمّ معي ندرس حياة والديه وإيمانهما، فقد ذهبت الإمامية والزيدية وجملة من محقّقي أهل السنّة إلى إيمانهما وكونهما على خط التوحيد، وشذَّ مَن قال: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كثرة ما أنعم الله عليه ووفور إحسانه إليه لم يرزقه إسلام والديه.

فإنّ هذه الكلمة صدرت من غير تحقيق، فإنّ التاريخ لم يضبط من حياتهما إلاّ شيئاً يسيراً، وفيما ضبط إيعاز لو لم نقل دلالة على إيمانهما وكونهما على الصراط المستقيم.

____________________

١ - راجع تفصيل ذلك: الغدير: ٧/٣٣٠ - ٤٠٩ و ٨/١ - ٢٩.

٢٥٤

أمّا الوالد : فقد نقلت عنه كلمات وأبيات تدلّ على إيمانه، فإليك ما نقله عنه أهل السِيَر، عندما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه فقال ردّاً عليها:

أمّا الحرام فالممات دونه

والحلّ لا حلّ فاستبينه

يحمي الكريم عرضه ودينه

فكيف بالأمر الذي تبغينه(١)

وقد رُوي عن النبي الأكرم أنّه قال: ( لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات). ولعلّ فيه إيعازاً إلى طهارة آبائه وأُمّهاته من كل دنس وشرك(٢) .

وأمّا الوالدة : فكفى في ذلك ما رواه الحفّاظ عنها عند وفاتها فإنّها (رضي الله عنها) خرجت مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن خمس أو ست سنين ونزلت بالمدينة تزور أخوال جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم بنو عدي بن النجار، ومعها أُم أيمن ( بركة ) الحبشية، فأقامت عندهم، وكان الرسول بعد الهجرة يذكر أُموراً حدثت في مقامه ويقول: ( إنّ أُمّي نزلت في تلك الدار، وكان قوم من اليهود يختلفون وينظرون إليّ، فنظر إليّ رجل من اليهود، فقال: يا غلام ما اسمك ؟ فقلت: أحمد، فنظر إلى ظهري وسمعته يقول: هذا نبي هذه الأُمّة، ثم راح إلى إخوانه فأخبرهم، فخافت أُمّي عليّ، فخرجنا من المدينة، فلمّا كانت بالأبواء توفّيت ودُفنت فيها ).

روى أبو نعيم في دلائل النبوّة عن أسماء بنت رهم قالت: شهدت آمنة أُمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علّتها التي ماتت بها، ومحمد (عليه الصلاة والسلام) غلام ( يفع )(٣) له

____________________

١ - السيرة الحلبية: ١/٤٦ وغيرها.

٢ - سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية:١/٥٨.

٣ - يفع الغلام: ترعرع.

٢٥٥

له خمس سنين عند رأسها، فنظرت إلى وجهه وخاطبته بقولها:

إنّ صح ما أبصرت في المنامِ

فأنت مبعوث إلى الأنامِ

فالله أنهاك عن الأصنامِ

أن لا تواليها مع الأقوامِ

ثم قالت: كل حيٍّ ميت، وكل جديد بالٍ، وكل كبير يفنى، وأنا ميتة، وذكري باقٍ وولدت طهراً.

وقال الزرقاني في ( شرح المواهب ) نقلاً عن جلال الدين السيوطى تعليقاً على قولها: وهذا القول منها صريح في أنّها كانت موحِّدة، إذ ذكرت دين إبراهيمعليه‌السلام وبشّ-رت ابنها بالإسلام من عند الله، وهل التوحيد شيء غير هذا ؟! فإنّ التوحيد هو الاعتراف بالله وأنّه لا شريك له والبراءة من عبادة الأصنام(١) .

هذا بعض ما ذكره المؤرّخون في أحوال والديّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والكل يدل على إخلاصهما ونزاهتهما عمّا كان هو السائد في البيئة التي كانا يعيشان فيها.

وأخيراً نوجّه نظر القارئ إلى الرأي العام بين المسلمين حول إيمانهما، قال الشيخ المفيد في ( أوائل المقالات ):

واتفقت الإمامية على أنّ آباء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب مؤمنون بالله عزّ وجلّ موحّدون له، واحتجّوا في ذلك بالقرآن والأخبار، قال الله عزّ وجلّ:( الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ ) (٢) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات حتى أخرجني في عالمكم هذا )، وأجمعوا على أنّ عمّه أبا طالبرحمه‌الله

____________________

١ - الإتحاف للشبراوي: ١٤٤؛ سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: ١/٥٧.

٢ - الشعراء: ٢١٨ - ٢١٩.

٢٥٦

مات مؤمناً، وأنّ آمنة بنت وهب كانت على التوحيد، وأنّها تحشر في جملة المؤمنين(١) .

أقول : الاستدلال بالآية يتوقّف على كون المراد منها نقل روحه من ساجد إلى ساجد، وهو المروي عن ابن عباس في قوله تعالى:( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدين ) (٢) قال: من نبيٍّ إلى نبيٍّ حتى أُخرجت نبيّاً(٣) .

وقد ذكره المفسِّرون بصورة أحد الاحتمالات، ولكنّه غير متعيّن، لاحتمال أن يكون المراد: إنّه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة، وتقلّبه في الساجدين عبارة عن تصرّفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده إذا كان إماماً لهم.

وأمّا الاستدلال بالحديث، فهو مبنيٌّ على أنّ مَن كان كافراً فليس بطاهر، وقد قال سبحانه:( إنَّما المُشرِكُونَ نَجَسٌ ) (٤) .

لكنّ الحجّة هي الاتفاق والإجماع، مضافاً إلى ما تضافر من الروايات حول طهارة والديّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي جمعها الحافظ أبو الفداء ابن كثير في تاريخه، قال: وخطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال: ( أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وما افترق الناس فرقتين إلاّ جعلني الله في خيرها، فأُخرجت من بين أبويّ، فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأُمّي، فأنا خيركم نفساً، وخيركم أباً )(٥) .

وعن عائشة قالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( قال لي جبرئيل: قلّبت الأرض من مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من محمّد، وقلّبت الأرض مشارقها

____________________

١ - أوائل المقالات: ١٢ - ١٣.

٢ - الشعراء: ٢١٩.

٣ - البداية والنهاية: ٢/٢٣٩، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الرابعة - ١٤٠٨ ه-

٤ - مفاتيح الغيب: ٦/٤٣١ والآية من سورة التوبة: ٢٨.

٥ - البداية والنهاية: ٢/٢٣٨.

٢٥٧

ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم ).

قال الحافظ البيهقي: وهذه الأحاديث وإن كان في رواتها مَن لا يحتج به، فبعضها يؤكّد بعضاً، ومعنى جميعها يرجع إلى حديث واثلة بن الأسقع، والله أعلم.

قلت: وفي هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمفخرٍ

فعبدُ منافٍ سِرُّها وصميمُها

فإن حصلت أشرافُ عبدِ منافِها

ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمها

وإن فَخَرتْ يوماً فإنّ محمّداً

هو المصطفَى من سرّها وكريمها

تداعت قريشٌ غثُّها وسمينُها

علينا فلم تظفر وطاشت حُلومها

وكنّا قديماً لا نقرّ ظلامةً

إذا ما ثنوا صُعْرَ الخدود نقيمها

ونحمي حماها كلّ يومِ كريهةٍ

ونضرب عن أحجارها مَن يرومها

بنا انتعش العودُ الذواءُ وإنّما

بأكنافنا تندى وتنمى أرومها(١)

ويعجبني أن أنقل ما ذكره الشبراوي في المقام: قال: ومبدأ الكلام في ذلك: إنّ الله سبحانه قد أخرج هذا النوع الإنساني لأجلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّ آدم عليه الصلاة والسلام كان أوّل فرد من أفراد هذا النوع، وكان سائر أفراده مندرجة في صلبه بصور الذرات، فلمّا نفخ الروح في آدم كان نور نسمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلمع في جبهته كالشمس المشرقة، ثم انتقل ذلك النور من صلب آدم إلى رحم حواء، ومنها إلى صلب شيث، ثم استمر هذا ينتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات، وهو معنى قوله:( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدين ) ، وأشار إليه العلاّمة البوصيري بقوله:

لم تزل في ضمائر الكون تختا

ر لك الأُمّهات والآباء

____________________

١ - البداية والنهاية: ٢/٢٤٠.

٢٥٨

وكان كل جد من أجداده من لدن آدم يأخذ العهد والميثاق أن لا يوضع ذلك النور المحمّدي إلاّ في الطاهرات، فأوّل مَن أخذ العهد آدم، أخذه من شيث، وشيث من أنوش، وهو من ( قينن )، وهكذا إلى أن وصلت النوبة إلى عبد الله بن عبد المطلب، فلمّا أُودع ذلك الجزء، في صلبه لمع ذلك النور من جبهته، فظهر له جمال وبهجة، فكانت نساء قريش يرغبن في نكاحه، وقد أسعد الله بتلك السعادة وشرّف بذلك الشرف ( آمنة ) بنت وهب، فتزوّجها عبد الله.

وقد روى الترمذي عن العباس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّ الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم تخيّر القبائل فجعلنى في خير قبيلة، ثم تخيّر البيوت، فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً ) أي ذاتاً وأصلاً.

وقد دلّت الآيات والأحاديث على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما طابت ذاته الشريفة، بما أُوتي من الكمال الأعلى، كذلك طاب نسبه الشريف، فلم يكن في آبائه ولا أُمهاته من لدن آدم وحواء إلى عبد الله وآمنة، إلاّ مَن هو مصطفى مختار قد طابت أعراقه، وحسنت أخلاقه.

أخرج ابن جرير، عن مجاهد قال: استجاب الله تعالى دعوة إبراهيم في ولده ولم يعبد أحد منهم صنماً بعد دعوته، واستجاب له وجعل هذا البلد آمناً ورزق أهله من الثمرات وجعله إماماً وجعل من ذرّيّته مَن يقيم الصلاة.

قال السيوطي: وهذه الأوصاف كانت لأجدادهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة دون سائر ذريّة إبراهيم، وكل ما ذكر عن ذريّة إبراهيم من المحاسن فإنّ أولى الناس به سلسلة الأجداد الشريفة، الذين خصّوا بالاصطفاء وانتقل إليهم نور النبوّة واحداً بعد واحد، ولم يدخل ولد إسحاق وبقيّة ذرّيته لأنّه دعا لأهل هذا البلد، ألاّ تراه قال:( اجْعَلْ هذَا البَلَدَ آمِناً ) وعقّبه بقوله:( واجْنُبْنِي وَبنِيَّ أنْ نَعبُدَ

٢٥٩

الأصنامَ ) (١) ، فلم تزل ناس من ذريّة إبراهيمعليه‌السلام على الفطرة يعبدون الله تبارك وتعالى، ويدلّ عليه قوله:( وَجَعَلَها كَلِمة باقِيةً في عَقِبهِ ) (٢) فإنّ الكلمة الباقية هي كلمة التوحيد، وعقب إبراهيمعليه‌السلام هم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله الكرام، قال بعض الأفاضل: اللّهمّ حل بيننا وبين أهل الخسران والخذلان الذين يؤذون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنسبة ما لا يليق بأبويه الكريمين الشريفين الطاهرين - إلى أن قال -: فهما ناجيان منعّمان في أعلى درجات الجنان، وما عدا ذلك تهافت وهذيان، لا ينبغي أن تصغي له الأُذنان ولا أن يعتني بإبطاله أُولو الشان(٣) .

إذا وقفت على ما ذكرنا تعرف قيمة كلمة ابن حزم الأندلسي في أحكامه(٤) ، حيث نسب إلى والدي النبي الأكرم ما لا يليق بساحتهما، ويكفي في سقوط هذه الكلمة أنّ راويها وكاتبها ابن حزم الذي أجمع فقهاء عصره على تضليله والتشنيع عليه ونهي العوام عن الاقتراب منه وحكموا بإحراق كتبه(٥) .

وقال ابن خلّكان في وفياته: وكان كثير الوقوع في العلماء المتقدّمين لا يكاد يسلم أحد من لسانه، فنفرت عنه القلوب، واستهدف فقهاء وقته، فتمالأوا على بغضه، وردّوا قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنّعوا عليه، وحذّروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامّهم عن الدنو إليه والأخذ عنه، فأقصته الملوك وشرّدته عن بلاده حتّى انتهى إلى بادية ( لبلة )، فتوفّي بها آخر نهار الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة، وقيل إنّه توفّي في ( منت ليشم )، وهي قرية ابن حزم المذكور وفيه قال أبو العباس ابن العريف: كان لسان ابن حزم وسيف الحجّاج ابن يوسف شقيقين، وإنّما قال ذلك لكثرة وقوعه في الأئمّة(٦) .

____________________

١ - إبراهيم: ٣٥.

٢ - الزخرف: ٢٨.

٣ - الإتحاف بحب الأشراف: ١١٣ - ١١٨.

٤ - الأحكام: ٥/١٧١.

٥ - لسان الميزان: ٤/٢٠٠، وقد عرّفه الآلوسي في تفسيره: ٢١/٧٦ بالضال المضل.

٦ - وفيات الأعيان: ٣/٣٢٧ - ٣٢٨.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321