عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم11%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127698 / تحميل: 8585
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

إيمان النبيّ الأكرم قبل البعثة

كان البحث عن إيمان عبد المطلب وسيّد البطحاء ووالديّ النبي، كمقدمة للبحث عن إيمان النبي الأكرم قبل البعثة، فإنّ إيمانه برسالته، وإن كان أمراً مسلّماً وواضحاً كوضوح الشمس غير محتاج إلى الإسهاب، غير أنّ إكمال البحث يجرّنا إلى أن نأتي ببعض ما ذكره التاريخ من ملامح حياته منذ صباه إلى أن بُعث نبيّاً، حتى يقترن ذلك الاتفاق بأصحّ الدلائل التاريخية، وإليك الأقوال:

١ - روى صاحب المنتقى في حديث طويل: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا تمَّ له ثلاث سنين، قال يوماً لوالدته ( لمرضعته ) ( حليمة السعدية ): ( مالي لا أري أخويّ بالنهار ؟ ) قالت له: يا بني إنّهما يرعيان غنيمات قال: ( فما لي لا أخرج معهما ؟ ) قالت له: أتحب ذلك ؟ قال: ( نعم )، فلمّا أصبح محمد دهنته وكحّلته وعلّقت في عنقه خيطاً فيه جزع يماني، فنزعه ثم قال لأُمّه: ( مهلاً يا أُمّاه، فإنّ معي مَن يحفظني )(١) .

وهذه العبارة من الطفل الذي لم يتجاوز سنّه ثلاث سنين آية على أنّه كان يعيش في رعاية الله، وكان له معلّم غيبي ( يسلك به طريق المكارم ) ويلهمه ما يعجز عن إدراكه كبار الرجال آنذاك، حيث كانت أُمّه تزعم بأنّ في الجزع اليماني مقدرة الحفظ لمَن علّقه على جيده، فعلى الرغم من ذلك فقد خالفها الطفل ونزعه وطرحه، وهذا إن دلَّ على شيء فإنّما يدل على أنّه كان بعيداً عن تلك الرسوم والأفكار السائدة في الجزيرة العربية.

____________________

١ - المنتقى الباب الثاني من القسم الثاني للكازروني، وقد نقله العلاّمة المجلسي في البحار: ١٥/٣٩٢ من الطبعة الحديثة.

٢٦١

٢ - روى ابن سعد في طبقاته: أنّ بحيرا الراهب قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا غلام أسألك بحق اللات والعزّى ألاّ أخبرتني عمّا أسألك ؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا تسألني باللاّت والعزّى، فو الله ما أبغضت شيئاً بغضهما )، قال: بالله إلاّ أخبرتني عمّا أسألك عنه ؟ قال: ( سلني عمّا بدا لك )(١) .

٣ - روى ابن سعد في طبقاته: عند ذكر خروج النبي إلى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها ( ميسرة ): إنّ محمّداً باع سلعته فوقع بينه ورجل تلاح، فقال له الرجل: احلف باللاّت والعزّى، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ما حلفت بهما قط، وإنّي لأمرُّ فأعرض عنهما ) فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة: يا ميسرة هذا والله نبي(٢) .

وممّا يشهد على توحيده أنّه لم ير قط مائلاً عن الحق، ساجداً لوثن أو متوسّلاً به، بل كان يتحنّث في كل سنة في غار حراء في بعض الشهور، فوافاه جبرئيل (عليه الصلاة والسلام) في بعض تلك المواقف وبشّ-ره بالرسالة وخلع عليه كساء النبوّة.

وهذه الوقائع التاريخية أصدق دليل على إيمانه؛ ولأجل اتفاق المسلمين على ذلك نطوي بساط البحث ونركّزه على بيان الشريعة التي كان عليها قبل بعثته، وهذا هو الذي بحث عنه المتكلّمون والأُصوليّون بإسهاب.

الشريعة التي كان يعمل بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

اختلف الباحثون في أنّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل كان متعبّداً بشرع قبل بعثته

____________________

١ - الطبقات الكبرى: ١/١٥٤، السيرة النبوية: ١/١٨٢.

٢ - الطبقات الكبرى: ١/١٥٦.

٢٦٢

أو لا ؟ على أقوال نلفت نظر القارئ إليها:

١ - لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً نُسب ذلك إلى أبي الحسن البصري.

٢ - التوقّف وعدم الجنوح إلى واحد من الأقوال ذهب إليه القاضي عبد الجبار والغزالي، وهو خيرة السيد المرتضى في ذريعته.

٣ - إنّه كان يتعبّد بشريعة مَن قبله، مردّدة بين كونها شريعة نوح أو إبراهيم أو موسى، أو المسيح بن مريمعليهما‌السلام .

٤ - كان يتعبّد بما ثبت أنّه شرع.

٥ - كان يعمل في عباداته وطاعته بما يوحى إليه سواء أكان مطابقاً لشرع مَن قبله أم لا.

٦ - إنّه كان يعمل بشرع نفسه.

والأخير هو الظاهر من الشيخ الطوسي في عدّته قال: عندنا أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن متعبّداً بشريعة مَن تقدّمه من الأنبياء لا قبل النبوّة ولا بعدها، وأنّ جميع ما تعبّد به كان شرعاً له، ويقول أصحابنا: إنّه كان قبل البعثة يوحى إليه بأشياء تخصّه، وكان يعمل بالوحي لا اتّباعاً بشريعة(١) .

وما ذكره أخيراً ينطبق على القول السادس، والأقوال الثلاثة الأخيرة متقاربة، وإليك دراستها واحداً بعد آخر ببيان مقدّمة:

____________________

١ - راجع للوقوف على الأقوال: الذريعة: ٢/٥٩٥، وذكر أقوالاً ثلاثة، وعدّة الشيخ الطوسي: ٢/٦٠، وذكر الأقوال مسهبة، البحار: ١٨/٢٧١، ونقل الأقوال عن شرح العلاّمة لمختصر الحاجبي، والمعارج للمحقّق الحلّي: ٦٠، المبادئ للعلاّمة الحلّي: ٣٠، القوانين للمحقّق القمّي: ١/٤٩٤.

٢٦٣

نظرة إجمالية على حياته

إنّ مَن أطلّ النظر على حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقف على أنّه كان يعبد الله سبحانه ويعتكف ب- (حراء ) كل سنة شهراً، ولم يكن اعتكافه مجرّد تفكير في جلاله وجماله وآياته وآثاره، بل كان مع ذلك متعبّداً لله قانتاً له، وقد نزل الوحي عليه وخلع عليه ثوب الرسالة وهو متحنّث(١) ب- ( حراء )، وذلك ممّا اتفق عليه أهل السِيَر والتاريخ.

قال ابن هشام: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم مَن جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جواره من شهره ذلك، كان أوّل ما يبدأ به إذا انصرف من جواره، الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعاً أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه الله تعالى فيها؛ وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، ورَحِمَ العبادَ بها، جاءه جبريلُعليه‌السلام بأمر الله تعالى(٢) .

ولم تكن عبادته منحصرة بالاعتكاف أو الطواف حول البيت بعد الفراغ منه، بل دلّت الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّ عشرين حجّة مستسراً(٣) .

____________________

١ - التحنّث: هو التحنّف، بدّلت الفاء ( ثاءً )، كما يقال ( جدف ) مكان جدث، بمعنى القبر، وربّما يقال: بأنّه بمعنى الخروج عن الحنث بمعنى الإثم، كما أنّ التأثّم هو الخروج عن الإثم، والأوّل هو الأولى.

٢ - السيرة النبوية: ١/٢٣٦.

٣ - الوسائل: ٨/٨٧ باب ٤٥، استحباب تكرار الحج والعمرة، البحار: ١١/٢٨٠.

٢٦٤

روى غياث بن إبراهيم، عن الإمام الصادقعليه‌السلام : ( لم يحج النبيّ بعد قدوم المدينة إلاّ واحدة، وقد حجّ بمكّة مع قومه حجّات )(١) .

ولم تكن أعماله الفردية أو الاجتماعية منحصرة في المستقلاّت العقلية، كالاجتناب عن البغي والظلم، وكالتحنّن على اليتيم والعطف على المسكين، بل كان في فترة من حياته راعياً للغنم، وفي فترات أُخرى ضارباً في الأرض للتجارة، ولم يكن في القيام بهذه الأعمال في غنى عن شرع يطبّق أعماله عليه، إذ لم يكن البيع والربا والخل والخمر ولا المذكّى وغيره عنده سواسية، وليست هذه الأمور ونظائرها ممّا يستقل العقل بأحكامها.

فطبيعة الحال تقتضي أن يكونصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عارفاً بأحكام عباداته وطاعاته، واقفاً على حرام أفعاله وحلالها، في زواجه ونكاحه في حلّه وترحاله، ولولاه أشرف على اقتراف ما حرّمه الله سبحانه في عامّة شرائعه، والاقتراف أو الدنو منه يناقض أهداف البعثة، فإنّها لا تتحقّق إلاّ بعمله قبل بعثته بما سوف يدعو إليه بعد بعثته.

وعلى ضوء هذه المقدّمة يبطل القول الأوّل من أنّه لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً؛ لما عرفت من أنّ العبادة والطاعة لا تصح إلاّ بعد معرفة حدودها وخصوصيّاتها عن طريق الشرع، كما أنّ الاجتناب عن محارم الله في العقود والإيقاعات وسائر ما يرجع إلى أعماله وأفعاله الفردية والاجتماعية، يتوقّف على معرفة الحلال والحرام، حتى يتخذه مقياساً في مقام العمل، وعند ذاك كيف يصح القول بأنّه لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً ؟ وإلاّ يلزم أن ننكر عباداته وطاعاته قبل

____________________

١ - الوسائل: ٨/٨٨ باب ٤٥، استحباب تكرار الحج والعمرة، الحديث ٤.

٢٦٥

البعثة أو نرميه باقتراف الكبائر في تلك الفترة، وهو يضاد عصمته قبل البعثة كما يضاد أهدافها.

قال العلاّمة المجلسي: قد ورد في أخبار كثيرة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يطوف وأنّه كان يعبد الله في حراء، وأنّه كان يراعي الآداب المنقولة من التسمية والتحميد عند الأكل وغيره، وكيف يجوّز ذو مسكة من العقل، على الله تعالى أن يهمل أفضل أنبيائه أربعين سنة بغير عبادة ؟! والمكابرة في ذلك سفسطة، فلا يخلو إمّا أن يكون عاملاً بشريعة مختصة به أوحى الله إليه بها، وهو المطلوب، أو عاملاً بشريعة غيره(١) .

نعم روى أحمد في مسنده، عن سعيد بن زيد قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة هو وزيد بن حارثة، فمرَّ بهما زيد بن عمرو بن نفيل فدعوه إلى سفرة لهما، فقال يا بن أخي إنّي لا آكل ممّا ذبح على النصب، قال: فما رُؤي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك أكل شيئاً ممّا ذبح على النصب، قال: قلت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أبي كان كما قد رأيت وبلغك، ولو أدركك لآمن بك واتبعك فاستغفر له ؟ قال: نعم، فاستغفر له فإنّه يبعث يوم القيامة أُمَّة واحدة(٢) .

نحن لا نعلّق على هذا الحديث شيئاً سوى أنّه يستلزم أن يكون زيد أعرف بأحكام الله تعالى من النبي الأكرم، الذي كان بمقربة من البعث إلى هداية الأُمّة، أضف إليه أنّ الحديث مرويّ عن طريق سعيد بن زيد الذي يَدّعي فيه شرفاً لأبيه، وفي الوقت نفسه نقصاً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أفَواهِهِم ) (٣) .

هذا كلّه حول القول الأوّل.

____________________

١ - البحار: ١٨/٢٨٠.

٢ - مسند أحمد: ١/١٨٩ - ١٩٠.

٣ - الكهف: ٥.

٢٦٦

نظرية التوقّف في تعبّده

أمّا الثاني : أعني التوقّف، فقد ذهب إليه المرتضى، واستدلّ على مختاره بقوله: والذي يدل عليه أنّ العبادة بالشرائع تابعة لما يعلمه الله تعالى من المصلحة بها في التكليف العقلي، ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى أنّه لا مصلحة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل نبوّته في العبادة بشيء من الشرائع، كما أنّه غير ممتنع أن يعلم أنّ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك مصلحة، وإذا كان كل واحد من الأمرين جائزاً ولا دلالة توجب القطع على أحدهما وجب التوقّف(١) .

وما ذكره محتمل في حد نفسه، ولكنّه مدفوع بما في الأخبار والآثار من عبادته واعتكافه، وقد عرفت أنّه كان يتعبّد لله، وكانت له أعمال فردية واجتماعية تحتاج إلى أن تكون وفق شريعة ما.

نظرية عمله بالشرائع السابقة

وهذا هو القول الثالث بشقوقه الأربعة: فيتصوّر على وجهين:

الأوّل : أن يعمل على طبق أحد الشرائع الأربع تابعاً لصاحبها ومقتدياً به بوجه يعد أنّه من أُمّته؛ وهذا الشق مردود من جهات:

أ - إنّ هذا يتوقّف على ثبوت عموم رسالات أصحاب هذه الشرائع، وهو غير ثابت، وقد أوضحنا حالها في الجزء الثالث من موسوعة مفاهيم القرآن(٢) .

ب - إنّ العمل بهذه الشرائع فرع الاطّلاع عليها، وهو إمّا أن يكون حاصلاً

____________________

١ - الذريعة: ٢/٥٩٦.

٢ - لاحظ الجزء الثالث: ٧٧ - ١١٦.

٢٦٧

من طريق الوحي، فعندئذ يكون عاملاً بشريعة مَن تقدّم ولا يكون تابعاً لصاحبها ومقتدياً به، وإن كان عاملاً بالشريعة التي نزلت قبله، وهذا نظير أنبياء بني إسرائيل فقد كانوا مأمورين بالحكم على طبق التوراة مع أنّهم لم يكونوا من أُمّة موسى، قال سبحانه:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) (١) وإلى هذا الشق يشير المرتضى بقوله: إنّه غير ممتنع أن يوجب الله تعالى عليه بعض ما قامت الحجّة من بعض الشرائع المتقدّمة لا على وجه الاقتداء بغيره فيها ولا الاتباع.

وإمّا أن يكون حاصلاً من طريق مخالطة أهل الكتاب وعلمائهم وهذا ممّا لا تصدّقه حياته؛ إذ لم يكن مخالطاً لهم ولم يتعلّم منهم شيئاً ولم يسألهم.

يقول العلاّمة المجلسي: لو كان متعبّداً بشرع لكان طريقه إلى ذلك إمّا الوحي أو النقل، ويلزم من الأوّل أن يكون شرعاً له لا شرعاً لغيره، ومن الثاني التعويل على اليهود، وهو باطل(٢) .

ج - إنّ العمل بشريعة مَن قبله ما سوى المسيح بن مريم، يستلزم أن يكون عاملاً بالشرائع المنسوخة فهو أشدّ فساداً، فكيف يجوز العمل بشريعة نسخت ؟

قال الشيخ الطوسي: فإن قالوا: كان متعبّداً بشريعة موسى، فإنَّ ذلك فاسد حيث إنّ شريعته كانت منسوخة بشريعة عيسى، وإن قالوا: كان متعبّداً بشريعة عيسى فهو أيضاً فاسد؛ لأنّ شريعته قد انقطعت واندرس نقلها ولم تتصل كاتصال نقل المعجزة، وإذا لم تتصل لم يصح أن يعمل بها(٣) .

____________________

١ - المائدة: ٤٤.

٢ - البحار: ١٨/٢٧٦.

٣ - عدّة الأُصول: ٢/٦١.

٢٦٨

أضف إلى ذلك أنّه لم يثبت أنّ عيسى جاء بأحكام كثيرة، بل الظاهر أنّه جاء لتحليل بعض ما حرّم في شريعة موسىعليه‌السلام قال سبحانه:( وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بآيَةٍ مِن رَبِّكُم فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ) (١) ، فلو كان النبيّ عاملاً بشريعة عيسى ففي الحقيقة يكون عاملاً بشريعة موسى المعدّلة بما جاء به عيسى.

د - اتفقت الآثار على كونه أفضل الخلق، واقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلاً، قال الشيخ الطوسي: إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من جميع الأنبياء، ولا يجوز أن يُؤمر الفاضل باتّباع المفضول، ولم يخص أحد تفضيله على سائر الأنبياء، بوقت دون وقت، فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات.

وهذه الوجوه وإن كان بعضها غير خالٍ من الإشكال لكنّ الجميع يزيّف القول بأنّه كان يعمل بشريعة مَن قبله.

وأمّا دليل مَن قال بهذا القول فضعيف جداً حيث قال: كيف يصح أن يقال: إنّه لم يكن متعبّداً بشريعة مَن تقدّم مع أنّه كان يطوف بالبيت، ويحج ويعتمر، ويذكّي ويأكل المذكّى، ويركب البهائم ؟(٢) .

وفيه أوّلاً : إنّ بعض ما ذكره يعد من المستقلاّت العقلية، فتكفي فيه هداية العقل ودلالته.

وثانياً : إنّ الدليل أعمّ من المدّعى؛ لأنّ عمله كما يمكن أن يكون مستنداً إلى شريعة مَن قبله، يمكن أن يكون مستنداً إلى الوحي إليه، لا اتّباعاً لشريعة، وسوف

____________________

١ - آل عمران: ٥٠.

٢ - الذريعة: ٢/٥٩٦، العدّة: ٦٠ - ٦١.

٢٦٩

يوافيك أنّه كان يوحى إليه قبل أن يتشرّف بمقام الرسالة وأنّ نبوّته كانت متقدّمة على رسالته، وأنّ جبريل نزل إليه بالرسالة عندما بلغ الأربعين، والاستدلال مبنيّ على أنّ نبوّته ورسالته كانتا في زمان واحد، وهو غير صحيح كما سيأتي.

وعلى هذا الوجه الصحيح لا نحتاج إلى الإجابة عن الاستدلال بما تكلّف به المرتضى في ذريعته، والطوسي في عدّته.

قال الأوّل: لم يثبت عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قبل النبوّة حجّ أو اعتمر، وبالتظنّي لا يثبت مثل ذلك، ولم يثبت أيضاً أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تولّى التذكية بيده، وقد قيل أيضاً: إنّه لو ثبت أنّه ذكّى بيده، لجاز أن يكون من شرع غيره في ذلك الوقت، ( أن يستعان بالغير في الذكاة )(١) فذكّى على سبيل المعونة لغيره، وأكل اللحم المذكّى لا شبهة في أنّه غير موقوف على الشرع؛ لأنّه بعد الذكاة قد صار مثل كل مباح من المأكل، وركوب البهائم والحمل عليها، يحسن عقلاً إذا وقع التكفّل بما يحتاج إليه من علف وغيره، ولم يثبت أنّهعليه‌السلام فعل من ذلك ما لا يستباح بالعقل فعله(٢) .

وقريب منه ما في عدّة الشيخ الطوسى(٣) .

ولا يخفى أنّ بعض ما ذكره وإن كان صحيحاً، لكنّ إنكار حجّه واعتماره وعبادته في حراء واتجاره الذي يتوقّف الصحيح منه على معرفة الحلال والحرام، ممّا لا يمكن إنكاره، فلا محيص عن معرفته بالمقاييس الصحيحة في هذه الموارد، إمّا من عند نفسه، أو من ناحية الاتّباع لشريعة غيره.

____________________

١ - يريد أنّ من أحكام الشريعة السابقة أن يستعين الرجل في تذكية الحيوان بالغير - وعلى ذلك - فالنبي ذكّى نيابة عن الغير، ولأجله ولم يذكّ لنفسه.

٢ - الذريعة: ٢/٥٩٧ - ٥٩٨.

٣ - عدّة الأُصول: ٢/٦٣.

٢٧٠

الوجوه الأخيرة الثلاثة المتقاربة

إذا تبيّن عدم صحّة هذه الأقوال الثلاثة تثبت الوجوه الأخيرة التي يقرب بعضها من بعض، ويجمع الكل أنّه كان يعمل حسب ما يلهم ويوحى إليه، سواء أكان مطابقاً لشرع مَن قبله أم مخالفاً، وأنّ هاديه وقائده منذ صباه إلى أن بُعث هو نفس هاديه بعد البعثة.

ويدل على ذلك وجوه:

١ - ما أُثر عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام من أنّه من لدن كان فطيماً كان مؤيّداً بأعظم ملك يعلّمه مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، وهذه مرتبة من مراتب النبوّة وإن لم تكن معها رسالة.

قالعليه‌السلام : ( ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره )(١) .

إنّا مهما جهلنا بشيء، فلا يصح لنا أن نجهل بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّلها إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس، ولا يقوم بأعبائها إلاّ مَن عمّر قلبه بالإيمان، وزوّد بالخلوص والصفاء، وغمره الطهر والقداسة وأُعطى مقدرة روحية عظيمة، لا يتهيّب حينما يتمثّل له رسول ربّه وأمين وحيه، ولا تأخذه الضراعة والخوف عند سماع كلامه ووحيه، وتلك المقدرة لا تفاض من الله على عبد إلاّ أن يكون في رعاية ملك كريم من ملائكته سبحانه، يرشده إلى معالم الهداية ومدارج الكمال، ويصونه من صباه إلى شبابه، وإلى كهولته عن كل سوء وزلّة وهذا هو السرّ في وقوعه تحت كفالة أكبر ملك من ملائكته حتى تستعد نفسه لقبول

____________________

١ - نهج البلاغة: ٢/٨٢، من خطبة تسمّى القاصعة ١٨٧، طبعة عبده.

٢٧١

الوحي، وتتحمّل القول الثقيل الذي سيلقى عليه.

٢ - ما رواه عروة بن الزبير عن عائشة أُمّ المؤمنين أنّها قالت: أوّل ما بدئ به رسول الله من الوحي، الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنَّث فيه - وهو التعبّد - الليالي ذوات العدد، قبل أن يَنزعَ إلى أهله ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ(١) .

٣ - روى الكليني بسند صحيح عن الأحول قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن الرسول والنبي والمحدّث؛ قال: ( الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً وأمّا النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيمعليه‌السلام ، ونحو ما كان رأى رسول الله من أسباب النبوّة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل من عند الله بالرسالة )(٢) .

وهذه المأثورات تثبت بوضوح أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يُبعث، كان تحت كفالة أكبر ملك من ملائكة الله، يرى في المنام ويسمع الصوت، قبل أن يبلغ الأربعين سنة، فلمّا بلغها بُشّ-ر بالرسالة، وكلّمه الملك معاينة ونزل عليه القرآن، وكان يعبد الله قبل ذلك بصنوف العبادات، إمّا موافقاً لما سيُؤمر به بعد تبليغه، أو مطابقاً لشريعة إبراهيم أو غيره، ممّن تقدّمه من الأنبياء، لا على وجه كونه تابعاً لهم وعاملاً بشريعتهم، بل بموافقة ما أُوحي إليه مع شريعة مَن تقدّم عليه.

ثم إنّ العلاّمة المجلسي استدلّ على هذا القول بوجهٍ آخر، وهو: إنّ يحيى وعيسى كانا نبيّين وهما صغيران، وقد ورد في أخبار كثيرة أنّ الله لم يعط نبيّاً فضيلة

____________________

١ - صحيح البخاري: ١/٣، باب بدء الوحي إلى رسول الله ٦، السيرة النبوية: ١/٢٣٤ - ٢٣٦.

٢ - الكافي: ١/١٧٦.

٢٧٢

ولا كرامة ولا معجزة إلاّ وقد أعطاها نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف جاز أن يكون عيسىعليه‌السلام في المهد نبيّاً ولم يكن نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أربعين سنة نبياً ؟!(١) .

قال سبحانه حاكياً عن المسيح:( قَالَ إِنّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيَّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيَّاً ) (٢) .

وقال سبحانه مخاطباً ليحيى:( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ) (٣) .

ولازم ذلك أنّ النبيّ قبل بعثته في صباه، أو بعد ما أكمل الله عقله، كان نبيّاً مؤيّداً بروح القدس يكلّمه الملك، ويسمع الصوت ويرى في المنام.

وإنّما بُعث إلى الناس بعد ما بلغ أربعين سنة، وعند ذاك كلّمه الملك معاينة ونزل عليه القرآن وأُمر بالتبليغ.

ويؤيّد ذلك ما رواه الجمهور عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّه كان نبيّاً وآدم بين الروح والجسد(٤) .

هذا كلّه راجع إلى حاله قبل بعثته، وأمّا بعدها فنأتي بمجمل القول فيه:

حاله بعد البعثة

قد عرفت حال النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل بعثته، فهلمّ معي ندرس حاله بعدها ،

____________________

١ - البحار: ١٨/٢٧٩.

٢ - مريم: ٣٠ - ٣١.

٣ - مريم: ١٢.

٤ - نقل العلاّمة الأميني مصادره عن عدّة من الكتب، وذكر أنّ للحديث عدّة ألفاظ من طرقٍ شتّى، لاحظ الجزء ٩/٢٨٧.

٢٧٣

وقد اختلفوا فيه أيضاً على قولين:

فمن قائلٍ: إنّه كان يتعبّد بشرع مَن قبله.

ومن قائلٍ آخر ينفيه بتاتاً.

وقد بسط الكلام في هذا المقام السيد المرتضى في ( ذريعته ) وتلميذه الجليل في ( عدّته ) فاختارا القول الثاني وأوضحا برهانه(١) .

غير أنّي أرى البحث في ذلك عديم الفائدة؛ لأنّ المسلمين اتفقوا على أنّه بعد البعثة، ما كان يقول إلاّ ما يوحى إليه، ولا يصدر عنه شيء إلاّ عن هذا الطريق، فإذا كان الواجب علينا اقتفاء أمره ونهيه، والعمل بالوحي الذي نزل عليه، فأيّ فائدة في البحث عن أنّه هل كان ما يأمر به وينهى عنه، صدر عن التعبّد بشريعة مَن قبله، أو صدر عن شريعته ؟ إذ الواجب علينا الأخذ بما أتى به، بأيّ لون وشكل كان، وفي ذلك يقول المحقّق الحلّ-ي: إنّ هذا الخلاف عديم الفائدة؛ لأنّا لا نشك أنّ جميع ما أتى به لم يكن نقلاً عن الأنبياء، بل عن الله تعالى بإحدى الطرق الثلاث التي أُشير إليها في قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٢) .

فإذا كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصدر عنه شيء إلاّ عن طريق الوحي، فلا تترتّب على البحث أيّة فائدة، فسواء أكان متعبّداً بشرع مَن قبله أم لم يكن، فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يأمر ولا ينهى إلاّ بإذنه سبحانه(٣) .

____________________

١ - الذريعة: ٢/٥٩٨، العدة: ٢/٦١.

٢ - الشورى: ٥١.

٣ - لاحظ المعارج: ٦٥، بتوضيح منّا.

٢٧٤

قال سبحانه:( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (١) ، وقال عزّ من قائل:( كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (٢) ، وقال تعالى:( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل بوضوح على أنّ كل ما يأمر وينهي، مستند إلى الوحي منه سبحانه إليه، سواء أمره بالأخذ من الشرع السابق أم أمره بما يماثله أو يخالفه.

أضف إلى ذلك: إنّه إذا لم يجز له التعبّد بالشرع السابق قبل البعثة بالدلائل السابقة لم يجز له أيضاً بعدها.

نعم هناك بحث آخر وهو حجيّة شرع مَن قبلنا للمستنبط إذا لم يجد في الشريعة المحمّدية دليلاً على حكم موضوع خاص، فهل يجوز أن يعمل بالحكم الثابت في الشرائع السماوية السالفة ما لم يثبت خلافه في شرعنا أم لا ؟

فهذه مسألة أُصولية طرحها الأُصوليون في كتبهم قديماً وجديداً، فاستدلّ القائلون بالجواز بالآيات التالية:

١ -( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) (٤) .

٢ -( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) (٥) .

٣ -( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ) (٦) .

____________________

١ - النجم: ٣ - ٤.

٢ - الشورى: ٣.

٣ - الأحقاف: ٩.

٤ - الأنعام: ٩٠.

٥ - النحل: ١٢٣.

٦ - الشورى: ١٣.

٢٧٥

٤ -( إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) (١) .

ولكنّ الكلام في دلالة هذه الآيات على ما يتبنّاه هؤلاء وهي غير واضحة، وقد بسط المحقّق الكلام في دلالة الآيات في أُصوله،(٢) ونقله العلاّمة المجلسي في ( بحاره )(٣) ، ونحن نحيل القارئ الكريم إلى مظانّه.

الآيات التي وقعت ذريعة لبعض المخطِّئة

هذا حال النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة، وحال أجداده وآبائه وبعض أعمامه، وقد خرجنا من هذا البحث الضافي بهذه النتائج:

١ - إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وُلد في بيت كان يسوده التوحيد، وقد ترعرع وشبّ واكتهل في أحضان رجال لم يتخلّفوا عن الدين الحنيف قيد شعرة.

٢ - إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ نعومة أظفاره كان تحت رعاية أكبر ملك من ملائكته سبحانه فيلهم ويوحى إليه قبل أن يبلغ الأربعين، ويخلع عليه ثوب الرسالة.

٣ - إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مؤمناً بالله، وموحّداً له، يعبده، ولا يعبد غيره، ويتقرّب إليه بالطاعات والقربات، ويتجنّب المعاصي والمآثم.

هذه هي الحقيقة الملموسة من حياته يقف عليها مَن سبر تاريخ حياته بإمعان، وقد مرّ أنّ هناك آيات وقعت ذريعة لبعض المخطّئة لعصمته، فدخلت لأجلها في أذهانهم شبهات في إيمانه وهدايته قبل البعثة.

____________________

١ - المائدة: ٤٤.

٢ - معارج الأُصول: ١٥٧.

٣ - البحار: ١٨/٢٧٦ - ٢٧٧.

٢٧٦

وهؤلاء بدل أن يفسّروا الآيات على غرار التاريخ المسلّم من حياته، أو يسلّطوا الضوء عليها بما تضافرت الأخبار والروايات عليه، عكسوا الأمر فرفضوا التاريخ المسلّم الصحيح، والروايات المتضافرة، اغتراراً ببعض الظواهر، مع أنّها تهدف إلى مقاصد أُخر تتضح من البحث الآتي، وإليك هذه الآيات:

١ -( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ) (١) .

٢ -( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (٢) .

٣ -( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحَاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإيمانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ) (٣) .

٤ -( وَمَا كُنْتَ تَرْجُواْ أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) (٤) .

٥ -( قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (٥) .

وقد استدلّت المخطّئة بهذه الآيات على مدّعاها، بل على زعم سلب الإيمان عنه قبل أن يبعث، لكنّها لا تدل على ما يريدون؛ ولأجل تسليط الضوء على مقاصدها نبحث عنها واحدة بعد واحدة.

____________________

١ - الضحى: ٦ - ٧.

٢ - المدثّر: ٤ - ٥.

٣ - الشورى: ٥٢.

٤ - القصص: ٨٦.

٥ - يونس: ١٦.

٢٧٧

الآية الأُولى: الهداية بعد الضلالة ؟

إنّ قوله سبحانه:( وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ) هل يتضمّن هدايته بعد الضلالة ؟

وقد ذكر المفسّرون للآية عدّة احتمالات أنهاها الرازي في تفسيره إلى ثمانية، لكن أكثرها من مخترعات الذهن، لأجل الإجابة عن استدلال الخصم على كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ضالاً قبل البعثة، غير مؤمن ولا موحّد، فهداه الله سبحانه، ولكنّ الحق في الجواب أن يقال:

إنّ الضال يستعمل في عرف اللغة في موارد:

١ - الضال: من الضلالة: ضد الهداية والرشاد.

٢ - الضال: من ضلّ البعير: إذا لم يعرف مكانه.

٣ - الضال: من ضلّ الشيء: إذا ضؤل وخفي ذكره.

وتفسير الضال بأيّ واحد من هذه المعاني لا يثبت ما تدّعيه المخطِّئة سواء أجعلناها معاني مختلفة جوهراً وشكلاً، أم جعلناها معنى واحداً جوهراً ومختلفاً شكلاً وصورة، فإنّ ذلك لا يؤثّر فيما نرتئيه، وإليك توضيحه:

أمّا المعنى الأوّل : فهو المقصود من تلك اللفظة في كثير من الآيات، قال سبحانه:( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) (١) ، لكن الضلالة بمعنى ضد الهداية والرشاد يتصوّر على قسمين:

قسم: تكون الضلالة فيه وصفاً وجودياً، وحالة واقعية كامنة في النفس ،

____________________

١ - الحمد: ٧.

٢٧٨

توجب منقصتها وظلمتها، كالكافر والمشرك والفاسق، والضلالة في هاتيك الأفراد صفة وجودية تكمن في نفوسهم، وتتزايد حسب استمرار الإنسان في الكفر والشرك والعصيان والتجرّي على المولى سبحانه، قال الله سبحانه:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْ-رٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمْا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (١) .

فإنّ لازدياد الإثم بالجوارح تأثيراً في زيادة الكفر، وقد وصف سبحانه بعض الأعمال بأنّها زيادة في الكفر، قال سبحانه:( إِنَّما النسيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٢) .

وقسم منه: تكون الضلالة فيه أمراً عدمياً، بمعنى كون النفس فاقدة للرشاد غير مالكة له، وعندئذ يكون الإنسان ضالاً بمعنى أنّه غير واجد للهداية من عند نفسه، وفي الوقت نفسه لا تكمن فيه صفة وجودية مثل ما تكمن في نفس المشرك والعاصي، وهذا كالطفل الذي أشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير من الشر، والصلاح من الفساد، والسعادة من الشقاء، فهو آنذاك ضال، لكن بالمعنى الثاني، أي غير واجد للنور الذي يهتدي به في سبيل الحياة، لا ضال بالمعنى الأوّل بمعنى كينونة ظلمة الكفر والفسق في روحه.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّه لو كان المراد من الضال في الآية، ما يخالف الهداية والرشاد، فهي تهدف إلى القسم الثاني منه لا الأوّل: بشهادة أنّ الآية بصدد توصيف النعم التي أفاضها الله سبحانه على نبيّه يوم افتقد أباه ثمّ أُمّه فصار يتيماً لا ملجأ له ولا مأوى، فآواه وأكرمه، بجدّه عبد المطلب ثم بعمّه أبي طالب، وكان

____________________

١ - آل عمران: ١٧٨.

٢ - التوبة: ٣٧.

٢٧٩

ضالاً في هذه الفترة من عمره، فهداه إلى أسباب السعادة وعرّفه وسائل الشقاء.

والالتزام بالضلالة بهذا المعنى لازم القول بالتوحيد الإفعالي، فإنّ كل ممكن كما لا يملك وجوده وحياته، لا يملك فعله ولا هدايته ولا رشده إلاّ عن طريق ربّه سبحانه، وإنّما يفاض عليه كل شيء منه، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ ) (١) فكما أنّ وجوده مفاض من الله سبحانه، فهكذا كل ما يوصف به من جمال وكمال فهو من فيوض رحمته الواسعة، والاعتقاد بالهداية الذاتية، وغناء الممكن بعد وجوده عن هدايته سبحانه يناقض التوحيد الإفعالي الذي شرحناه في موسوعة مفاهيم القرآن(٢) .

وقد تضافرت الآيات على هذا الأصل، وأنّ هداية كل ممكن مكتسبة من الله سبحانه من غير فرق بين الإنسان وغيره، وفي الأوّل بين النبي وغيره، قال سبحانه:( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (٣) ، وقال سبحانه:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * والّذي قَدَّرَ فَهَدى ) (٤) ، وقال سبحانه:( وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ ) (٥) وقال سبحانه:( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) (٦) ، وقال تعالى:( إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) (٧) ، وقال تبارك وتعالى:( وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) (٨) ، إلى غير ذلك من الآيات.

____________________

١ - فاطر: ١٥.

٢ - لاحظ الجزء الأوّل: ٢٩٧ - ٣٧٦.

٣ - طه: ٥٠.

٤ - الأعلى: ٢ - ٣.

٥ - الأعراف: ٤٣.

٦ - الشعراء: ٧٨.

٧ - الزخرف: ٢٧.

٨ - سبأ: ٥٠.

٢٨٠

وعلى هذا الأساس، فالآية تهدف إلى بيان النعم التي أنعمها سبحانه على حبيبه منذ صباه فآواه بعد ما صار يتيماً لا مأوى له ولا ملجأ، وأفاض عليه الهداية بعدما كان فاقداً لها حسب ذاتها، وأمّا تحديد زمن هذه الإفاضة فيعود إلى أوليات حياته وأيّام صباه بقرينة ذكره بعد الإيواء الذي تحقّق بعد اليتم، وتمّ بجدّه عبد المطلب فوقع في كفالته إلى ثماني سنين ويؤيّد ذلك قول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( ولقد قرن الله بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره )(١) .

والحاصل : أنّ الهداية في الآية نفس الهداية الواردة في قوله:( أَعْطَى كُلَّ شيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ، وفي قوله:( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) إلى غير ذلك من الآيات التي أوعزنا إليها، والاعتقاد بكونه ضالاً أي فاقداً لها في مقام الذات ثم أُفيضت عليه الهداية، هو مقتضى التوحيد الإفعالي ولازم كون النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممكناً بالذات، فاقداً في ذاته كل كمال وجمال، مفاضاً عليه كل جميل من جانبه سبحانه، وأين هو من الضلالة المساوقة للكفر والشرك أو الفسق والعصيان ؟!

وإن شئت قلت: إنّ الضلالة في الآية ترادف الخسران الوارد في قوله سبحانه:( إنّ الإنسانَ لفي خسر ) والهداية فيها ترادف الإيمان والعمل الصالح الواردين بعده( إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) (٢) ، فالإنسان بما أنّه يصرف رأس ماله، أعني: عمره الغالي كل يوم، خاسر بالذات، إلاّ إذا اكتسب به ما يبقى ولا ينفد أثره وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح، والنبي وغيره في هذه الأحكام سواسية، بل في كل التوصيفات الواردة في مجال الإنسان التي يثبتها القرآن له ولا

____________________

١ - نهج البلاغة: الخطبة ١٧٨، والتي تسمّى بالقاصعة.

٢ - العصر: ٢ - ٣.

٢٨١

وجه لإرجاعها إلى صنف دون صنف، بعد كونها من خواص الطبيعة الإنسانية ما لم تقع تحت رعاية الله وهدايته.

وبذلك يتبيّن أنّ الضلالة في الآية - لو فُسّرت بضد الهدى والرشاد - لا تدلّ على ما تدّعيه المخطّئة، بل هي بصدد بيان قانون كلّي سائد على عالم الإمكان من غير فرق بين الإنسان وغيره، وفي الأوّل بين النبي وغيره.

حول الاحتمالين الآخرين

ولكن هذا المعنى غير متعيّن في الآية، إذ من المحتمل أن تكون الضلالة فيها مأخوذة من ( ضلّ الشيء: إذا لم يعرف مكانه ) و ( ضلّت الدراهم: إذا ضاعت وافتقدت ) و ( ضلّ البعير: إذا ضاع في الصحارى والمفاوز ) وفي الحديث: ( الحكمة ضالّة المؤمن أخذها أين وجدها ) أي مفقودته ولا يزال يتطلّبها، وقد اشتهر قول الفقهاء في باب ( الجعالة ): ( مَن ردّ ضالّتي فله كذا).

فالضال بهذا المعنى ينطبق على ما نقله أهل السِيَر والتاريخ عن أوّليات حياته من أنّه ضلّ في شعاب مكّة وهو صغير، فمنَّ الله عليه إذ ردّه إلى جدّه، وقصّته معروفة في كتب السِيَر(١) .

ولولا رحمته سبحانه لأدركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً، فشملته العناية الإلهية فردّه إلى مأواه وملجأه.

وهناك احتمال ثالث لا يقصر عمّا تقدّمه من احتمالين، وهو أن تكون

____________________

١ - لاحظ السيرة الحلبية: ١/١٣١ ويقول: عن حيدة بن معاوية العامري: سمعت شيخاً يطوف بالبيت وهو يقول:

يا ربّ ردّ راكبي محمّدا

أردده ربّي واصطنع عندي يدا

٢٨٢

الضلالة في الآية مأخوذة من ( ضلّ الشيء إذا خفي وغاب عن الأعين ) قال سبحانه:( أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرضِ أَءِنَّا لفي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (١) ، فالإنسان الضال هو الإنسان المخفيّ ذكره، المنسيّ اسمه، لا يعرفه إلاّ القليل من الناس، ولا يهتدي كثير منهم إليه، ولو كان هذا هو المقصود، يكون معناه أنّه سبحانه رفع ذكره وعرّفه بين الناس عندما كان خاملاً ذكره منسيّاً اسمه، ويؤيّد هذا الاحتمال قوله سبحانه في سورة الانشراح التي نزلت لتحليل ما ورد في سورة الضحى قائلاً:

( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) (٢) .

فرفع ذكره في العالم، عبارة عن هداية الناس إليه ورفع الحواجز بينه وبين الناس، وعلى هذا فالمقصود من ( الهداية ) هو هداية الناس إليه لا هدايته، فكأنّه قال: فوجدك ضالاً، خاملاً ذكرك، باهتاً اسمك، فهدى الناس إليك، وسيّر ذكرك في البلاد.

وإلى ذلك يشير الإمام الرضاعليه‌السلام على ما في خبر ابن الجهم - بقوله: ( قال الله عزّ وجلّ لنبيّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أَلم يجدك يتيماً فآوى ) يقول:( ألم يجدك ) وحيداً( فآوى ) إليك الناس( ووجدك ضالاً ) يعني عند قومك( فهدى ) أي هداهم إلى معرفتك )(٣) .

هذه هي المحتملات المعقولة في الآية ولا يدل واحد منها على ما تتبنّاه المخطِّئة وإن كان الأظهر هو الأوّل.

ويعجبني في المقام ما ذكره الشيخ محمد عبده في ( رسالة التوحيد ) فقال:

____________________

١ - السجدة: ١٠.

٢ - الانشراح: ١ - ٤.

٣ - البحار: ١٦/١٤٢.

٢٨٣

وفي السنة السادسة من عمره فقد والدته أيضاً فاحتضنه جدّه عبد المطلب، وبعد سنتين من كفالته، توفّي جدّه، فكفله من بعده عمّه أبو طالب وكان شهماً كريماً غير أنّه كان من الفقر بحيث لا يملك كفاف أهله.

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بني عمّه وصبية قومه، كأحدهم على ما به من يتم، فقد فيه الأبوين معاً، وفقر لم يسلم منه الكافل والمكفول، ولم يقم على تربيته مهذِّب، ولم يعن بتثقيفه مؤدِّب بين أتراب من نبت الجاهلية، وعشراء من خلفاء الوثنية، وأولياء من عبدة الأوهام، وأقرباء من حفدة الأصنام، غير أنّه مع ذلك كان ينمو ويتكامل بدناً وعقلاً وفضيلة وأدباً، حتى عرف بين أهل مكّة وهو في ريعان شبابه بالأمين، أدب إلهي لم تجر العادة بأن تزين به نفوس الأيتام من الفقراء خصوصاً مع فقر القوّام، فاكتهلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاملاً والقوم ناقصون، رفيعاً والقوم منحطّون، موحِّداً وهم وثنيّون، سلماً وهم شاغبون، صحيح الاعتقاد وهم واهمون، مطبوعاً على الخير وهم به جاهلون، وعن سبيله عادلون.

من السنن المعروفة أنّ يتيماً فقيراً أُميّاً مثله تنطبع نفسه بما تراه من أوّل نشأته إلى زمن كهولته، ويتأثّر عقله بما يسمعه ممّن يخالطه، ولا سيّما إن كان من ذوي قرابته، وأهل عصبته، ولا كتاب يرشده ولا أُستاذ ينبّهه، ولا عضد إذا عزم يؤيّده، فلو جرى الأمر فيه على مجاري السنن لنشأ على عقائدهم، وأخذ بمذاهبهم، إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم كما فعل القليل ممّن كانوا على عهده، ولكنّ الأمر لم يجر على سنّته، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة، وما جاء في الكتاب من قوله:( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ) لا يفهم منه أنّه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم

٢٨٤

قبل الخلق العظيم، حاش لله، إنّ ذلك لهو الإفك المبين، وإنّما هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين وإرشاد الضالين(١) .

الآية الثانية: الأمر بهجر الرجز

يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالْرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) (٢) .

استدلت المخطِّئة بأنّ الرجز بمعنى الصنم والوثن، ففي الأمر بهجره إيعاز لوجود أرضية صالحة لعبادتهما في شخصية النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول : إنّ الرجز في القرآن الكريم استعمل في المعاني الثلاثة التالية:

١ - العذاب.

٢ - القذارة.

٣ - الصنم.

ولك أن تقول: إنّ المفاهيم الثلاثة أشكال لمعنى واحد جوهراً، وليست بمعان متعدّدة، ولكنّ تعيين أحد الأمرين لا يؤثّر فيما نرتئيه، توضيح ذلك:

إنّ ( الرجز ): بكسر الراء قد استعمل في القرآن تسع مرّات، وقد أُريد منه في جميعها العذاب إلاّ في مورد واحد، وإليك مظانّها: البقرة/٥٩، الأعراف/١٣٤ وجاءت اللفظة فيها مرّتين، والأعراف/١٤٥ و ١٦٢، الأنفال/١١، سبأ/٥، الجاثية/١١، والعنكبوت/٢٩.

____________________

١ - رسالة التوحيد: ١٣٥ - ١٣٦.

٢ - المدّثر: ١ - ٧.

٢٨٥

وأمّا ( الرجز ): بضمّ الراء، فقد جاء في القرآن الكريم مرّة واحدة، وهي الآية التي نحن بصدد تفسيرها، فسواء أُريد منها العذاب أم غيره من المعنيين، فلا يدل على ما ذهبت إليه المخطّئة، وإليك بيان ذلك:

أ - ( الرجز ) العذاب : فلو كان المقصود منه العذاب فيدل على الأمر بهجر ما يسلتزم العذاب، وبما أنّ الآيات القرآنية نزلت بعنوان التعليم فلا تدلّ على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشرفاً على ما يجرّ العذاب؛ لأنّ هذه الخطابات من باب ( إيّاك أعني واسمعي يا جارة )، وهذا النوع من الخطاب بمكان من البلاغة؛ لأنّه سبحانه إذا خاطب أعزّ الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أولى به، ومن هنا يقدر القارئ الكريم على حلّ كثيرٍ من الآيات التي تخاطب النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحنٍ حادٍّ وشديد، فتقول:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (١) ، وليست الآية دليلاً على وجود أَرضية الشرك في شخصية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنهاه عنه سبحانه، بل الآيات آيات عامّة نزلت للتعليم، والخطاب موجّه إليه والمقصود منها عامّة الناس، نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيَّه الأكرم في سورة القصص بالخطابات الناهية الأربعة المتوالية، الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقصود منه هو الأُمّة ويقول:( وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ * وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٢) .

وهذا هو المقياس في أكثر الخطابات الناهية الواردة في القرآن الكريم.

ب - الرجز بمعنى القذارة : ثمّ إنّ القذارة على قسمين: القذارة المادية ،

____________________

١ - الزمر: ٦٥.

٢ - القصص: ٨٦ - ٨٨.

٢٨٦

والقذارة المعنوية، فيحتمل أن يكون المراد هو الأوّل، وقد ورد في الروايات أنّ أبا جهل جاء بشيء قذر ونادى أصحابه، وقال: هل فيكم رجل يأخذه منّي ويلقيه على محمد ؟ فأخذه بعض أصحابه فألقاه عليه، فحينئذٍ تكون الآية ناظرة إلى تطهير الثوب عن الدنس، وإن أُريد القذارة المعنوية فالمراد هو الاجتناب عن الأفعال والصفات الذميمة، فإنّ الآية نزلت للتعليم فلا تدل على اتصاف النبي الأكرم بها.

ج - الرجز بمعنى الصنم : نفترض أنّ المقصود منه في الآية هو الصنم، لكن لا بمعنى أنّه وضع لذاك المعنى، وإنّما وضع اللفظ لمعنى جامع يعمّ الصنم والخمر والأزلام، لاشتراك الجميع في كونها رجزاً، ولأجل ذلك وصف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال:( إِنَّما الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (١) .

ولكنّ الجواب عن هذه الصورة هو الجواب عن الصورتين الأُوليين، والشاهد على ذلك أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن، بل كان مشمّراً لتحطيم الأصنام ومكافحة عبدتها، فلا يصح أن يخاطب مَن هذا شأنه، بهجر الأصنام إلاّ على الوجه الذي أوعزنا إليه.

الآية الثالثة: عدم علمه بالكتاب والإيمان

قوله سبحانه:( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإيمانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ) (٢) .

____________________

١ - المائدة: ٩٠.

٢ - الشورى: ٥٢.

٢٨٧

استدلت المخطّئة لعصمة النبي الأكرم بهذه الآية وزعمت - والعياذ بالله - دلالة الآية على أنّه كان فاقداً للإيمان قبل الإيحاء إليه، وقد انقلب وصار مؤمناً موحّداً بالوحي وبعد نزوله إليه.

لكنّ حياته المشرقة - بالإيمان والتوحيد - تفنّد تلك المزعمة، بشهادة التاريخ على أنّه من بداية عمره إلى أن لاقى ربَّه، كان مؤمناً موحّداً، وليس ذلك أمراً قابلاً للشك والترديد، وقد أصفق على ذلك أهل السير والتاريخ وحتى كان الأحبار والرهبان معترفين بأنّه نبيّ هذه الأُمّة وخاتم الرسالات الإلهية، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع تلك الشهادات منهم في فترات خاصة في ( مكة ) و ( يثرب ) و ( بصرى ) و ( الشام ) وغيرها، وعلى ذلك فكيف يمكن أن يكون غافلاً عن الكتاب الذي ينزل إليه، أو يكون مجانباً عن الإيمان بوجوده سبحانه وتوحيده، والتاريخ المسلّم الصحيح يؤكّد على عدم صدق ذلك الاستظهار، وعلى ضوء هذا، لا بدّ من إمعان النظر في مفاد الآية كما لا بد في تفسيرها من الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق فنقول:

بُعث النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهداية قومه أوّلاً، وهداية جميع الناس ثانياً - بالآيات والبيّنات، وأخص بالذكر منها: كتابه وقرآنه ( معجزته الكبرى الخالدة ) الذي بفصاحته أخرس فرسان الفصاحة، وقادة الخطابة، وببلاغته قهر أرباب البلاغة وملوك البيان، وخلب عقولهم وقد دعاهم إلى التحدّي والمقابلة، فلم يكن الجواب منهم إلاّ إثارة التهم حوله، فتارة قالوا: بأنّه( يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) ، وأُخرى بأنّه( إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) ، وثالثة: بأنّه( أساطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبها فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرةً وأصِيلاً ) ، قال سبحانه ردّاً على هذه التهم التي أوعزنا إليها:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى

٢٨٨

لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) (١) ، وقال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَ-اوَاتِ وَ الأرضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (٢) .

والآية التي تمسّكت بها المخطّئة بصدد بيان هذا الأمر وأنّه وحي سماوي لا إفك افتراه؛ ولأجل ذلك بدأ كلامه بلفظة( وكذلك أوحينا إليك ) أي كما أنّه سبحانه أوحى إلى سائر الأنبياء بإحدى الطرق الثلاثة التي بيّنها في الآية المتقدّمة، أوحى إليك أيضاً روحاً من أمرنا، وليس هذا كلامك وصنيعك، بل كلام ربّك وصنيعه.

هذا مجمل الكلام في الآية، ولأجل رفع النقاب عن مرامها نقدم أُموراً تسلّط ضوءاً عليه:

الأوّل : المراد من الروح في الآية هو القرآن، وسمّي روحاً لأنّه قوام الحياة الأُخروية، كما أنّ الروح في الإنسان قوام الحياة الدنيوية، ويؤيّد ذلك أُمور:

أ - إنّ محور البحث الأصلي في سورة الشورى، هو: الوحي والآيات الواردة فيها البالغ عددها ٥٣ آية، تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أو بغيرها.

ب - الآية التي تقدّمت على تلك، تبحث عن الطرق التي يكلّم بها سبحانه أنبياءه ويقول:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلَىّ حَكِيمٌ ) (٣) .

____________________

١ - النحل: ١٠٢ - ١٠٣.

٢ - الفرقان: ٤ - ٦.

٣ - الشورى: ٥١.

٢٨٩

ج - ما تقدّم من أنّه سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بلفظة( وكذلك ) ، أي كما أوحينا إلى من تقدّم من الأنبياء كذلك أوحينا إليك بإحدى هذه الطرق( روحاً من أمرنا ) ووجه الاشتراك بينه وبين النبيّين، هو الوحي المتجلّ-ي في نبيّنا بالقرآن وفي غيره بوجهٍ آخر.

كل ذلك يؤيّد أنّ المراد منه هو القرآن الملقى إليه، نعم وردت في بعض الروايات أنّ المراد منه هو( روح القدس ) ولكنّه لا ينطبق على ظاهر الآية؛ لأنّ( الروح ) بحكم كونه مفعولاً ل- ( أوحينا ) يجب أن يكون شيئاً قابلاً للوحي حتى يكون ( موحاً ) وروح القدس ليس موحاً، بل هو الموحي بالكسر، فكيف يمكن أن يكون مفعولاً ل- ( أوحينا ) ؟ ولأجله يجب تأويل الروايات إن صحّ إسنادها.

الثاني: إنّ هيئة ( ما كنت ) أو ( ما كان ) تستعمل في نفي الإمكان والشأن قال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) (١) ، وقال عزّ اسمه:( وَمَا كَانَ الْمُؤمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة ) (٢) .

وقال تعالى حاكياً عن بلقيس:( مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُون ) (٣) .

وعلى ضوء هذا الأصل يكون مفاد قوله:( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) أنّه لولا الوحي ما كان من شأنك أن تدري الكتاب ولا الإيمان، فإن وقفت عليهما فإنّما هو بفضل الوحي وكرامته.

الثالث : إنّ ظاهر الآية أنّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان فاقداً للعلم بالكتاب والدراية للإيمان، وإنّما حصلت الدراية بهما في ظل الوحي وفضله، فيجب إمعان

____________________

١ - آل عمران: ١٤٥.

٢ - التوبة: ١٢٢.

٣ - النمل: ٣٢.

٢٩٠

النظر في الدراية التي كان النبي فاقداً لها قبل الوحي، وصار واجداً لها بعده، فما تلك الدراية وذاك العلم ؟

فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب إليه إجمالاً، والإيمان بوجوده وتوحيده سبحانه ؟ أو المراد العلم بتفاصيل ما في الكتاب والإذعان بها كذلك ؟

لا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّ علمه إجمالاً بأنّه ينزل إليه الكتاب، أو إيمانه بوجوده سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه، ولم يكن العلم بهما ممّا يتوقّف على الوحي، فإنّ الأحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوّته ورسالته ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالاً، وقد سمع منهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فترات مختلفة - أنّه النبي الموعود في الكتب السماوية، وأنّه خاتم الرسالات والشرائع، فهل يصح أن يقال: إنّ علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنزول كتاب عليه إجمالاً كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي ؟ أو أنّه كان متقدّماً عليه وعلى بعثته ؟ ومثله الإيمان بالله سبحانه وتوحيده إذ لم يكن الإيمان بالله أمراً مشكلاً متوقّفاً على الوحي، وقد كان الأحناف في الجزيرة العربية، ومن جملتهم رجال البيت الهاشمي، موحّدين مؤمنين مع عدم نزول الوحي إليهم.

وبالجملة: العلم الإجمالي بنزول كتاب إليه والإيمان بوجوده وتوحيده، لم يكن أمراً متوقّفاً على نزول الوحي حتى يحمل عليه قوله:( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) .

وعندئذ يتعيّن الاحتمال الثاني، وهو أنّ العلم التفصيلي بمضامين الكتاب وما فيه من الأُصول والتعاليم والقصص - ثم الإيمان والإذعان بتلك التفاصيل - كانا متوقّفين على نزول الوحي، ولولاه لما كان هناك علم بها ولا إيمان.

وإن شئت قلت: العلم والإيمان بالأمور السمعية التي لا سبيل للعقل عليها - كالمعارف والأحكام والقصص ومحاجّة الأنبياء مع المشركين والكفّار وما

٢٩١

نزل بساحة أعدائهم من إهلاك وتدمير - لا يحصلان إلاّ من طريق الوحي، حتى قصص الأُمم السالفة وحكاياتهم لتسرّب الوضع والدس إلى كتب القصّاصين، والصحف السماوية النازلة قبل القرآن.

تفسير الآية بآية أُخرى

إنّ الرجوع إلى ما ورد في هذا المضمار من الآيات، يوضح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلاً، والإيمان ثانياً:

أمّا الأوّل: فيقول سبحانه:( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) فالآية صريحة في أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عالماً بتفاصيل الأنباء، وقد وقف عليها من جانب الوحي، فعبّر عن عدم وقوفه عليها في هذه الآية بقوله: ( ما كنت تعلمها أنت ولا قومك ) وفي تلك الآية: بقوله: (ما كنت تدري ما الكتاب) والفرق هو أنّ ( الكتاب ) أعم من ( أنباء الغيب ) والأول يشتمل على الأنباء وغيرها ( وأمّا الأنباء ) فإنّها مختصة بالقصص، والكل مشترك في عدم العلم بهما قبل الوحي والعلم بهما بعده.

وأمّا الثاني:

فقوله سبحانه:( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (٢) فقوله: ( آمن الرسول بما أنزل إليه ) صريح في

____________________

١ - هود: ٤٩.

٢ - البقرة: ٢٨٥.

٢٩٢

أنّ متعلّق الإيمان الحاصل بعد الوحي، هو الإيمان( بما أُنزل إليه ) ، أعني: تفاصيل الكتاب في المجالات المختلفة، لا الإيمان بالله وتوحيده، وعندئذٍ يرتفع الإبهام في الآية التي تمسّكت بها المخطّئة، ويتبيّن أنّ متعلّق الإيمان المنفي في قوله: ( ولا الإيمان ) هو ( ما أنزل إليه ) لا الإيمان بالمبدأ وتوحيده.

والحاصل: أنّ هنا شيئاً واحداً، أعني: الإيمان بما أُنزل من المعارف والأحكام والأنباء، فقد نفى عنه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرة إلى ما قبل البعثة، وأثبت له في الآية الأُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد البعثة.

ومن هنا تتضح أهمّيّة عرض الآيات بعضها على بعض وتفسير الآية بأُختها، فهاتان الآيتان كما عرفت كافلتان لرفع إبهام الآية وإجمالها.

وقد تفطّن المفسّرون لما ذكرناه على وجه الإجمال، فقال الزمخشري في الكشّاف: الإيمان اسم يتناول أشياء: بعضها الطريق إليه العقل، وبعضها الطريق إليه السمع، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي(١) .

وقال الطبرسي:( ما كنت تدري ما الكتاب ) ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الإيمان(٢) .

وقال الرازي: المراد من الإيمان هو الإقرار بجميع ما كلّف الله تعالى به، وأنّه قبل النبوّة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى بل إنّه كان عارفاً بالله ثم قال: صفات الله تعالى على قسمين: منها ما تمكن معرفته بمحض دلائل العقل، ومنها ما لا تمكن معرفته إلاّ بالدلائل السمعية، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته

____________________

١ - الكشّاف: ٣/٨٨ - ٨٩.

٢ - مجمع البيان: ٥/٣٧.

٢٩٣

حاصلة قبل النبوّة(١) .

وقال العلاّمة الطباطبائي في ( الميزان ): إنّ الآية مسوقة لبيان أنّ ما عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يدعو إليه إنّما هو من عند الله سبحانه لا من قبل نفسه وإنّما أُوتي ما أُوتي من ذلك، بالوحي بعد النبوّة، فالمراد بعدم درايته بالكتاب عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية، فإنّ ذلك هو الذي أُوتي العلم به بعد النبوّة والوحي، والمراد من عدم درايته الإيمان، عدم تلبسه بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقّة والأعمال الصالحة، وقد سمّى العمل إيماناً في قوله تعالى:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) (٢) ، والمراد الصلوات التي أتى بها المؤمنون إلى بيت المقدّس قبل النسخ، والمعنى ما كان عندك قبل وحي الروح، علم الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع ولا كنت متلبّساً به بما أنت متلبّس به بعد الوحي من الالتزام التفصيلي والاعتقادي، وهذا لا ينافي كونه مؤمناً بالله موحّداً قبل البعثة صالحاً في عمله، فإنّ الذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقاداً وعملاً، لا نفي العلم والالتزام الإجماليين بالإيمان بالله والخضوع للحق(٣) .

الآية الرابعة: عدم رجائه إلقاء الكتاب إليه

قال تعالى:( وَمَا كُنْتَ تَرْجُواْ أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرينَ ) (٤) .

____________________

١ - مفاتيح الغيب: ٧/٤١٠، ولاحظ روح البيان: ٨/٣٤٧، روح المعاني: ١٥/٢٥.

٢ - البقرة: ١٤٣.

٣ - الميزان: ١٨/٨٠.

٤ - القصص: ٨٦.

٢٩٤

استدلّ الخصم بأنّ ظاهر الآية نفي علمه بإلقاء الكتاب إليه، فلم يكن النبي راجياً لذلك واقفاً عليه.

أقول : توضيح مفاد الآية يتوقّف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية، أعني قوله:( إلاّ رحمة من ربّك ) حتى يتضح المقصود، وقد ذكر المفسّرون في توضيحها وجوهاً ثلاثة نأتي بها:

١ - إنّ ( إلاّ ) استدراكية وليست استثنائية، فهي بمعنى ( لكن ) لاستدراك ما بقي من المقصود.

وحاصل معنى الآية: ما كنت يا محمد ترجو فيما مضى أن يوحي الله إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك، إلاّ أنّ ربك رحمك وأنعم به عليك وأراد بك الخير، نظير قوله سبحانه:( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَحْمَةً مِن رَبِّكَ ) (١) ، أي ولكن رحمة من ربّك خصّك بها، وهذا هو المنقول عن الفرّاء(٢) ؛ وعلى هذا لم يكن للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّ رجاء لإلقاء الكتاب إليه وإنّما فاجأه الإلقاء لأجل رحمة ربّه، ولكن لا يصار إلى هذا الوجه إلاّ إذا امتنع كون الاستثناء متصلاً لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.

٢ - أن يكون ( إلاّ ) للاستثناء لا للاستدراك، وهو متصل لا منقطع، ولكنّ المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام، وهو كما في الكشّاف: ( وما ألقى إليك الكتاب إلاّ رحمة من ربّك )(٣) ، أي لم يكن لإلقائه عليك وجه إلاّ رحمة من ربّك، وعلى هذا الوجه أيضاً لا يعلم أنّه كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجاء لإلقاء الكتاب

____________________

١ - القصص: ٤٦.

٢ - مجمع البيان: ٤/٢٦٩، مفاتيح الغيب: ٦/٤٠٨.

٣ - الكشّاف: ٢/٤٨٧ - ٤٨٨.

٢٩٥

عليه وإن كان الاستثناء متصلاً، وهذا الوجه بعيد أيضاً لكون المستثنى منه محذوفاً مفهوماً من الجملة على خلاف الظاهر، وإنّما يصار إليه إذا لم يصح إرجاعه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيّ-ن في الوجه الثالث.

٣ - أن يكون ( إلاّ ) استثناء من الجملة السابقة عليه، أعني قوله:( وما كنت ترجوا ) ويكون معناه: ما كنت ترجوا إلقاء الكتاب عليك إلاّ أن يرحمك الله برحمة فينعم عليك بذلك، فتكون النتيجة: ما كنت ترجو إلاّ على هذا(١) ، فيكون هنا رجاءٌ منفي ورجاءٌ مثبت أمّا الأوّل: فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً، وأمّا رجاؤه به عن طريق الرحمة الإلهية فكان موجوداً، فنفي أحد الرجاءين لا يستلزم نفي الآخر، بل المنفيّ هو الأوّل، والثابت هو الثاني، وهذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية، وقد سبق منّا أنّ جملة( ما كنت ) وما أشبهه تستعمل في نفى الإمكان والشأن، وعلى ذلك يكون معنى الجملة: لم تكن راجياً لأن يلقى إليك الكتاب وتكون طرفاً للوحي والخطاب إلاّ من جهة خاصة، وهي أن تقع في مظلّة رحمته وموضع عنايته فيختارك طرفاً لوحيه، ومخاطباً لكلامه وخطابه، فالنبي بما هو إنسان عادي لم يكن راجياً لأن ينزل إليه الوحي ويلقى إليه الكتاب، وبما أنّه صار مشمولاً لرحمته وعنايته وصار إنساناً مثالياً قابلاً لتحمل المسؤولية وتربية الأُمّة، كان راجياً به، وعلى ذلك فالنفي والإثبات غير واردين على موضع واحد.

فقد خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إنساناً مؤمناً موحّداً عابداً لله ساجداً له قائماً بالفرائض العقلية والشرعية، مجتنباً عن المحرّمات، عالماً بالكتاب، ومؤمناً به إجمالاً، وراجياً لنزوله إليه إلى أن بُعثَ لإنقاذ البشرية عن

____________________

١ - مفاتيح الغيب: ٦/٤٩٨.

٢٩٦

الجهل، وسوقها إلى الكمال، فسلام الله عليه يوم وُلد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً، وبقيت هنا آية أُخرى نأتي بتفسيرها إكمالاً للبحث وإن لم تكن لها صلة تامّة لما تتبنّاه المخطِّئة.

الآية الخامسة: لو لم يشأ الله ما تلوته

قال سبحانه:( قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (١) .

والآية تؤكّد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لابثاً في قومه، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن أو تالياً لآيٍ من آياته، وليس هذا الشيء ينكره القائلون بالعصمة، فقد اتفقت كلمتهم على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف على ما وقف من آي الذكر الحكيم من جانب الوحي ولم يكن قبله عالماً به، وأين هو من قول المخطِّئة من نفي الإيمان منه قبلها ؟!

وإن أردت الإسهاب في تفسيرها فلاحظ الآية المتقدّمة عليها فترى فيها اقتراحين للمشركين، وقد أجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدّمة وعن الآخر في نفس هذه الآية، وإليك نصّها:( قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (٢) .

اقترح المشركون على النبيّ أحد أمرين:

١ - الإتيان بقرآن غير هذا، مع المحافظة على فصاحته وبلاغته.

____________________

١ - يونس: ١٦.

٢ - يونس: ١٥.

٢٩٧

٢ - تبديل بعض آياته ممّا فيه سبّ لآلهتهم وتنديد بعبادتهم الأوثان والأصنام.

فأجاب عن الثاني في نفس الآية بأنّ التبديل عصيان لله، وأنّه يخاف من مخالفة ربّه، ولا محيص له إلاّ اتّباع الوحي من دون أن يزيد فيه أو ينقص عنه.

وأجاب عن الأوّل في الآية المبحوث عنها بأنّه أمر غير ممكن؛ لأنّ القرآن ليس من صنعي وكلامي حتى أذهب به وآتي بآخر، بل هو كلامه سبحانه، وقد تعلّقت مشيئته على تلاوتي، ولو لم يشأ لما تلوته عليكم ولا أدراكم به، والدليل على ذلك: إنّي كنت لابثاً فيكم عمراً من قبل فما تكلّمت بسورة أو بآية من آياته، ولو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلّم به طيلة معاشرتي معكم في المدّة الطويلة.

قال العلاّمة الطباطبائي في تفسير الآية: إنّ الأمر فيه إلى مشيئة الله لا إلى مشيئتي فإنّما أنا رسول، ولو شاء الله أن ينزل قرآناً غير هذا لأنزل، أو لم يشأ تلاوة هذا القرآن ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فإنّي مكثت فيكم عمراً من قبل نزوله ولو كان ذلك إليّ وبيدي لبادرت إليه قبل ذلك وبدت من ذلك آثار ولاحت لوائحه(١) .

هذا آخر الكلام في عصمته عن العصيان، وصيانته عن الخلاف، بقي الكلام في عصمته عن الخطأ والنسيان، فنطرحها على بساط البحث إجمالاً.

عصمة النبيّ الأعظم عن الخطأ(٢)

إنّ صيانة النبي عن الخطأ والاشتباه سواء أكان في مجال تطبيق الشريعة، أم

____________________

١ - الميزان: ١٠/٢٦ ولاحظ تفسير المنار: ١١/٣٢٠.

٢ - البحث كما يعرب عنه عنوان البحث، مركّز على صيانة خصوص نبيّنا الأعظم عن الخطأ استدلالاً وإشكالاً وجواباً، وأمّا البحث عن عصمة غيره من الأنبياء فموكول إلى مجال آخر.

٢٩٨

في مجال الأمور العادية الفردية المرتبطة بحياته، ممّا طرح في علم الكلام وطال البحث فيه بين متكلّمي الإسلام.

غير أنّ تحقّق الغاية من البعثة رهن صيانته عن الخطأ في كلا المجالين، وإلاّ فلا تتحقق الغاية المتوخّاة من بعثته، وهذا هو الدليل العقلي الذي اعتمدت عليه العدلية، بعدما اتفق الكل على لزوم صيانته عن الخطأ والاشتباه في مجال تلقّي الوحي وحفظه، وأدائه إلى الناس، ولم يختلف في ذلك اثنان.

وإليك توضيح هذا الدليل العقلي: إنّ الخطأ في غير أمر الدين وتلقّي الوحي يتصوّر على وجهين:

أ - الخطأ في تطبيق الشريعة كالسهو في الصلاة أو في إجراء الحدود.

ب - الاشتباه في الأمور العادية المعدة للحياة كما إذا استقرض ألف دينار، وظن أنّه استقرض مائة دينار.

وهو مصون من الاشتباه والسهو في كلا الموردين؛ وذلك لأنّ الغاية المتوخّاة من بعث الأنبياء هي هدايتهم إلى طريق السعادة، ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بكسب اعتماد الناس على صحّة ما يقوله النبي وما يحكيه عن جانب الوحي، وهذا هو الأساس لحصول الغاية، ومن المعلوم أنّه لو سها النبي واشتبه عليه الأمر في المجالين الأوّلين ربّما تسرّب الشك إلى أذهان الناس، وإنّه هل يسهو في ما يحكيه من الأمر والنهى الإلهي أم لا ؟

فبأي دليل أنّه لا يخطأ في هذا الجانب مع أنّه يسهو في المجالين الآخرين ؟! وهذا الشعور إذا تغلغل في أذهان الناس سوف يسلب اعتماد الناس على النبي، وبالتالي تنتفي النتيجة المطلوبة من بعثه.

٢٩٩

نعم، التفكيك بين صيانته في مجال الوحي وصيانته في سائر الأمور، وإن كان أمراً ممكناً عقلاً، ولكنّه ممكن بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية ونحوها، وأمّا العامّة ورعايا الناس الذين يشكلون أغلبية المجتمع، فهم غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلاً على إمكان تسرّب السهو إلى المرحلة الأخرى.

ولأجل سدّ هذا الباب المنافي للغاية المطلوبة من إرسال الرسل، ينبغي أن يكون النبي مصوناً في عامّة المراحل، سواء أكانت في حقل الوحي أو في تطبيق الشريعة أو في الأمور العامة؛ ولهذا يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : ( جعل مع النبي روح القدس وهي لا تنام ولا تغفل ولا تلهو ولا تسهو).(١)

وعلى ذلك فبما أنّه ينبغي أن يكون النبي أُسوة في الحياة في عامة المجالات، يجب أن يكون نزيهاً عن العصيان والخلاف والسهو والخطأ.

القرآن وعصمة النبي عن الخطأ والسهو

قد عرفت منطق العقل في لزوم عصمة النبي من الخطأ في مجال تطبيق الشريعة، ومجال الأمور العادية المعدّة للحياة، وهذا الحكم لا يختص بمنطقه، بل الذكر الحكيم يدعمه بأحسن وجه، وإليك ما يدل على ذلك:

١ - قال سبحانه:( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ) (٢) ، وقال أيضاً:( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ

____________________

١ - بصائر الدرجات: ٤٥٤.

٢ - النساء: ١٠٥.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321