عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم17%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127776 / تحميل: 8589
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وانتهت الوفود إلى دمشق لعرض آرائها على عاهل الشام ، وقد قام معاوية بضيافتهم والإحسان إليهم.

مؤتمرُ الوفود الإسلاميّة :

وعقدت وفود الأقطار الإسلاميّة مؤتمراً في البلاط الاُموي في دمشق لعرض آرائها في البيعة ليزيد ، وقد افتتح المؤتمر معاوية بالثناء على الإسلام ، ولزوم طاعة ولاة الاُمور ، ثمّ ذكر يزيد وفضله وعمله بالسّياسة ، ودعاهم لبيعته.

المؤيّدون للبيعة :

وانبرت كوكبة مِنْ أقطاب الحزب الاُموي فأيّدوا معاوية ، وحثّوه على الإسراع للبيعة ، وهم :

1 ـ الضحّاك بن قيس

2 ـ عبد الرحمن بن عثمان

3 ـ ثور بن معن السلمي

4 ـ عبد الله بن عصام

5 ـ عبد الله بن مسعدة

وكان معاوية قد عهد إليهم بالقيام بتأييده ، والردّ على المعارضين له.

٢٠١

خطابُ الأحنف بن قيس :

وانبرى إلى الخطابة زعيم العراق وسيّد تميم الأحنف بن قيس ، الذي تقول فيه ميسون اُمّ يزيد : لو لمْ يكن في العراق إلاّ هذا لكفاهم(1) . وتقدّم فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ التفت إلى معاوية قائلاً :

أصلح الله أمير المؤمنين ، إنّ الناس في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف ، وقد حلبت الدهر أشطره.

يا أمير المؤمنين ، فاعرف مَنْ تسند إليه الأمر مِنْ بعدك ثمّ اعصِ أمر مَنْ يأمرك ، ولا يغررك مَنْ يُشير عليك ولا ينظر لك ، وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّاً.

وأثار خطاب الأحنف موجةً مِن الغضب والاستياء عند الحزب الاُموي ، فاندفع الضحّاك بن قيس مندِّداً به ، وشتم أهلَ العراق ، وقدح بالإمام الحسن (عليه السّلام) ، ودعا الوفد العراقي إلى الإخلاص لمعاوية والامتثال لما دعا إليه. ولمْ يعن به الأحنف ، فقام ثانياً فنصح معاوية ودعاه إلى الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه مِنْ تسليم الأمر إلى الحسن (عليه السّلام) مِنْ بعده ؛ حسب اتفاقية الصلح التي كان من أبرز بنودها إرجاع الخلافة مِنْ بعده إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) ، كما أنّه هدّد معاوية بإعلان الحرب إذا لمْ يفِ بذلك.

__________________

(1) تذكرة ابن حمدون / 81.

٢٠٢

فشلُ المؤتمر :

وفشلَ المؤتمر فشلاً ذريعاً بعد خطاب الزعيم الكبير الأحنف بن قيس ، ووقع نزاع حاد بين أعضاء الوفود وأعضاء الحزب الاُموي ، وانبرى يزيد بن المقفّع فهدّد المعارضين باستعمال القوّة قائلاً : أمير المؤمنين هذا ـ وأشار إلى معاوية ـ ، فإنْ هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ، ومَنْ أبى فهذا ـ وأشار إلى السيف ـ.

فاستحسن معاوية قوله ، وراح يقول له : اجلس فأنت سيّد الخطباء وأكرمهم.

ولمْ يعن به الأحنف بن قيس ، فانبرى إلى معاوية فدعاه إلى الإمساك عن بيعة يزيد ، وأنْ لا يُقدّمَ أحداً على الحسن والحسين (عليهما السّلام). وأعرض عنه معاوية ، وبقي مصرّاً على فكرته التي هي أبعد ما تكون عن الإسلام.

وعلى أي حالٍ ، فإنّ المؤتمر لمْ يصل إلى النتيجة التي أرادها معاوية ؛ فقد استبان له أنّ بعض الوفود الإسلاميّة لا تُقِرّه على هذه البيعة ولا ترضى به.

سفرُ معاوية ليثرب :

وقرّر معاوية السفر إلى يثرب التي هي محطّ أنظار المسلمين ، وفيها أبناء الصحابة الذين يُمثّلون الجبهة المعارضة للبيعة ؛ فقد كانوا لا يرون يزيداً نِدّاً لهم ، وإنّ أخذ البيعة له خروجٌ على إرادة الأُمّة ، وانحراف عن الشريعة الإسلاميّة التي لا تُبيح ليزيد أنْ يتولّى شؤون المسلمين ؛ لما عُرِفَ به مِن الاستهتار وتفسّخ الأخلاق.

٢٠٣

وسافر معاوية إلى يثرب في زيارة رسمية ، وتحمّل أعباء السفر لتحويل الخلافة الإسلاميّة إلى مُلْكٍ عضوض ، لا ظل فيه للحقّ والعدل.

اجتماعٌ مغلق :

وفور وصول معاوية إلى يثرب أمر بإحضار عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، وعقد معهم اجتماعاً مغلقاً ، ولمْ يُحضر معهم الحسن والحسين (عليهما السّلام) ؛ لأنّه قد عاهد الحسن (عليه السّلام) أنْ تكون الخلافة له مِنْ بعده ، فكيف يجتمع به؟ وماذا يقول له؟ وقد أمر حاجبه أنْ لا يسمح لأي أحدٍ بالدخول عليه حتّى ينتهي حديثه معهم.

كلمةُ معاوية :

وابتدأ معاوية الحديث بحمد الله والثناء عليه ، وصلّى على نبيّه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فقد كبر سنّي ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أنْ اُدعى فأُجيب ، وقد رأيت أنْ استخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا. وأنتم عبادلة قريش وخيارهم وأبناء خيارهم ، ولمْ يمنعني أنْ أُحضِرَ حسناً وحُسيناً إلاّ أنّهما أولاد أبيهما علي ، على حُسنِ رأي فيهما ، وشدّة محبّتي لهما ، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً رحمكم الله.

ولم يستعمل معهم الشدّة والإرهاب ؛ استجلاباً لعواطفهم ، ولمْ يخفَ عليهم ذلك ، فانبروا جميعاً إلى الإنكار عليه.

٢٠٤

كلمةُ عبد الله بن عباس :

وأوّل مَنْ كلّمه عبد الله بن عباس ، فقال بعد حمد الله ، والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس مَنْ تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأُمّة التسليم لنبيّها إذا اختاره الله له ؛ فإنّه إنّما اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم.

وكانت دعوة ابن عباس صريحةً في إرجاع الخلافة لأهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم ألصق الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأمسّهم به رحماً ؛ فإنّ الخلافة إنّما هي امتداد لمركز رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فأهل بيته أحقّ بمقامه وأولى بمكانته.

كلمةُ عبد الله بن جعفر :

وانبرى عبد الله بن جعفر ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة إنْ أُخذ فيها بالقرآن فاُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاُولوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر مِنْ آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟ وأيمُ الله ، لو ولّوها بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه ؛ لحقّه وصدقه ، ولأُطيع الرحمن وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان ، فاتقِ الله يا معاوية ، فإنّك قد صرت راعياً ونحن رعيّة ، فانظر لرعيتك فإنّك مسؤول عنها غداً ،

٢٠٥

وأمّا ما ذكرت مِن ابنَي عمّي وتركك أنْ تحضرهم ، فوالله ما أصبت الحقّ ، ولا يجوز ذلك إلاّ بهما ، وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، واستغفر الله لي ولكم.

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى الحقّ ، والإخلاص للأُمّة ، فقد رشّح أهل البيت (عليهم السّلام) للخلافة وقيادة الأُمّة ، وحذّره مِنْ صرفها عنهم كما فعل غيره مِن الخلفاء ، فكان مِنْ جرّاء ذلك أنْ مُنِيَتِ الأُمّة بالأزمات والنّكسات ، وعانت أعنف المشاكل وأقسى الحوادث.

كلمةُ عبد الله بن الزبير :

وانطلق عبد الله بن الزبير للخطابة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصة ، نتناولها بمآثرها السنيّة وأفعالها المرضيّة ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتّقِ الله يا معاوية وأنصف نفسك ؛ فإنّ هذا عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وعلي خلّف حسناً وحُسيناً ، وأنت تعلم مَنْ هما وما هما؟ فاتّقِ الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وقد حفّزهم بذلك لمعارضة معاوية وإفساد مهمّته.

٢٠٦

كلمةُ عبد الله بن عمر :

واندفع عبد الله بن عمر ، فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيّه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ، ولا قيصريّة ، ولا كسرويّة يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فوالله ما أدخلني مع الستّة مِنْ أصحاب الشورى إلاّ على أنّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنّما هي في قريش خاصة لمَنْ كان لها أهلاً ؛ ممّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، ممّن كان أتقى وأرضى ، فإنْ كنت تريد الفتيان مِنْ قريش فلعمري أنّ يزيد مِنْ فتيانها ، واعلم أنّه لا يُغني عنك مِن الله شيئاً.

ولمْ تعبّر كلمات العبادلة عن شعورهم الفردي ، وإنّما عبّرت تعبيراً صادقاً عن رأي الأغلبية السّاحقة مِن المسلمين الذين كرهوا خلافة يزيد ، ولمْ يرضوا به.

كلمةُ معاوية :

وثقلَ على معاوية كلامهم ، ولمْ يجد ثغرة ينفذ منها للحصول على رضاهم ، فراح يشيد بابنه فقال : قد قلت وقلتم ، وإنّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ مِن أبنائهم ، مع أنّ ابني إنْ قاولتموه وجد مقالاً ، وإنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ؛ لأنّهم أهل رسول الله ، فلمّا مضى رسول الله ولّى الناس أبا بكر وعمر مِنْ غير معدن المُلْك والخلافة ، غير أنّهما سارا بسيرةٍ جميلةٍ ، ثمّ رجع المُلْك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد

٢٠٧

أخرجك الله يابن الزبير ، وأنت يابن عمر منه ، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين مِن الرأي إنْ شاء الله(1) .

وانتهى اجتماع معاوية بالعبادلة ، وقد أخفق فيه إخفاقاً ذريعاً ؛ فقد استبان له أنّ القوم مصمّمون على رفض بيعة يزيد. وعلى إثر ذلك غادر يثرب ، ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا اجتماعه بسبطي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقد أهملت ذلك ، وأكبر الظن أنّه لمْ يجتمع بهما.

فزعُ المسلمين :

وذُعِرَ المسلمون حينما وافتهم الأنباء بتصميم معاوية على فرض ابنه خليفة عليهم ، وكان مِنْ أشدّ المسلمين خوفاً المدنيون والكوفيون ، فقد عرفوا واقع يزيد ، ووقفوا على اتجاهاته المعادية للإسلام.

يقول توماس آرنولد : كان تقرير معاوية للمبدأ الوراثي نقلة خطيرة في حياة المسلمين الذين ألِفوا البيعة والشورى ، والنُّظم الاُولى في الإسلام ، وهم بعدُ قريبون منها ؛ ولهذا أحسّوا ـ وخاصة في مكّة والمدينة ، حيث كانوا يتمسّكون بالأحاديث والسّنن النّبوية الاُولى ـ أنّ الاُمويِّين نقلوا الخلافة إلى حكم زمني متأثر بأسباب دنيوية ، مطبوع بالعظمة وحبّ الذات بدلاً مِنْ أنْ يحتفظوا بتقوى النّبي وبساطته(2) .

لقد كان إقدام معاوية على فرض ابنه يزيد حاكماً على المسلمين تحوّلاً خطيراً في حياة المسلمين الذين لمْ يألفوا مثل هذا النظام الثقيل الذي فُرِضَ عليهم بقوّة السّلاح.

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

(2) الخلافة ـ لتوماس / 10.

٢٠٨

الجبهةُ المعارضة :

وأعلن الأحرار والمصلحون في العالم الإسلامي رفضهم القاطع لبيعة يزيد ، ولمْ يرضوا به حاكماً على المسلمين ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) :

وفي طليعة المعارضين لبيعة يزيد الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، فقد كان يحتقر يزيد ويكره طباعه الذميمة ، ووصفه بأنّه صاحب شراب وقنص ، وأنّه قد لزم طاعة الشيطان وترك طاعة الرحمن ، وأظهر الفساد ، وعطّل الحدود ، واستأثر بالفيء ، وأحلّ حرام الله وحرّم حلاله(1) . وإذا كان بهذه الضِعة ، فكيف يبايعه ويقرّه حاكماً على المسلمين؟!

ولمّا دعاه الوليد إلى بيعة يزيد قال له الإمام (عليه السّلام) : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النّفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله».

ورفض بيعة يزيد جميع أفراد الأُسرة النّبوية تبعاً لزعيمهم العظيم ، ولمْ يشذّوا عنه.

الحرمان الاقتصادي :

وقابل معاوية الأسرة النّبوية بحرمان اقتصادي ؛ عقوبةً لهم لامتناعهم عن بيعة يزيد ، فقد حبس عنهم العطاء سنةً كاملة(2) ، ولكنّ ذلك لمْ يثنهم عن عزمهم في شجب البيعة ورفضها.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 252 ، الإمامة والسياسة 1 / 200.

٢٠٩

2 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

ومِن الذين نقموا على بيعة يزيد عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقد وسمها بأنّها هرقلية ، كلّما مات هرقل قام مكانه هرقل آخر(1) . وأرسل إليه معاوية مئة ألف درهم ليشتري بها ضميره فأبى ، وقال : لا أبيع ديني(2) .

3 ـ عبد الله بن الزبير :

ورفض عبد الله بن الزبير بيعة يزيد ، ووصفه بقوله : يزيد الفجور ، ويزيد القرود ، ويزيد الكلاب ، ويزيد النشوات ، ويزيد الفلوات(3) . ولمّا أجبرته السّلطة المحلّية في يثرب على البيعة فرّ منها إلى مكّة.

4 ـ المنذر بن الزبير :

وكره المنذر بن الزبير بيعة يزيد وشجبها ، وأدلى بحديث له عن فجور يزيد أمام أهل المدينة ، فقال : إنّه قد أجازني بمئة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أنْ أخبركم خبره. والله ، إنّه ليشرب الخمر. والله ، إنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة(4) .

5 ـ عبد الرحمن بن سعيد :

وامتنع عبد الرحمن بن سعيد مِن البيعة ليزيد ، وقال في هجائه :

__________________

(1) الاستيعاب.

(2) الاستيعاب ، البداية والنهاية 8 / 89.

(3) أنساب الأشراف 4 / 30.

(4) الطبري 4 / 368.

٢١٠

لستَ منّا وليس خالُك منّا

يا مضيعَ الصلاةِ للشهواتِ(1)

6 ـ عابس بن سعيد :

ورفض عابس بن سعيد بيعة يزيد حينما دعاه إليها عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال له : أنا أعرَفُ به منك ، وقد بعتَ دينك بدنياك(2) .

7 ـ عبد الله بن حنظلة :

وكان عبد الله بن حنظلة مِن أشدّ الناقمين على البيعة ليزيد ، وكان مِن الخارجين عليه في وقعة الحرّة ، وقد خاطب أهل المدينة ، فقال لهم : فو الله ، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أنْ نُرمى بالحِجارة مِن السّماء.

حياة الإمام الحُسين

إنّ رجلاً ينكح الأُمّهات والبنات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لمْ يكن معي أحدٌ مِن الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً(3) .

وكان يرتجز في تلك الواقعة :

بعداً لمَنْ رام الفساد وطغى

وجانب الحقّ وآيات الهدى

لا يبعد الرحمنُ إلاّ مَنْ عصى(4)

__________________

(1) الحُسين بن علي (عليه السّلام) 2 / 6.

(2) القضاة ـ للكندي / 310.

(3) طبقات ابن سعد.

(4) تاريخ الطبري 7 / 12.

٢١١

موقفُ الأُسرة الاُمويّة :

ونقمت الأُسرة الاُمويّة على معاوية في عقده البيعة ليزيد ، ولكن لمْ تكن نقمتهم عليه مشفوعة بدافع ديني أو اجتماعي ، وإنّما كانت مِنْ أجل مصالحهم الشخصية الخاصة ؛ لأنّ معاوية قلّد ابنه الخلافة وحرمهم منها ، وفيما يلي بعض الناقمين :

1 ـ سعيد بن عثمان :

وحينما عقد معاوية البيعة ليزيد أقبل سعيد بن عثمان إلى معاوية ، وقد رفع عقيرته قائلاً : علامَ جعلت ولدك يزيد وليّ عهدك؟! فوالله لأبي خير مِنْ أبيه ، وأُمّي خير مِنْ أُمّه ، وأنا خيرٌ مِنه ، وقد ولّيناك فما عزلناك ، وبنا نلت ما نلت!

فراوغ معاوية وقال له : أمّا قولك إنّ أباك خير مِنْ أبيه فقد صدقت ، لعمر الله إنّ عثمان لخير مِنّي ؛ وأمّا قولك إنّ أُمّك خير مِنْ أُمّه فحسب المرأة أنْ تكون في بيت قومِها ، وأنْ يرضاها بعلها ، ويُنجب ولدها ؛ وأمّا قولك إنّك خير مِنْ يزيد ، فوالله ما يسرّني أنّ لي بيزيد ملء الغوطة ذهباً مثلك ؛ وأمّا قولك إنّكم ولّيتموني فما عزلتموني ، فما ولّيتموني إنّما ولاّني مَنْ هو خير مِنكم عمر بن الخطاب فأقررتموني.

وما كنت بئس الوالي لكم ؛ لقد قمت بثأركم ، وقتلتُ قتلة أبيكم ، وجعلت الأمر فيكم ، وأغنيت فقيركم ، ورفعت الوضيع منكم ...

٢١٢

وكلّمه يزيد فأرضاه ، وجعله والياً على خراسان(1) .

2 ـ مروان بن الحكم :

وشجب مروان بن الحكم البيعة ليزيد وتقديمه عليه ، فقد كان شيخ الاُمويِّين وزعيمهم ، فقال له : أقم يابن أبي سفيان ، واهدأ مِنْ تأميرك الصبيان ، واعلم أنّ لك في قومك نُظراء ، وأنّ لهم على مناوئتك وزراً.

فخادعه معاوية ، وقال له : أنت نظير أمير المؤمنين بعده ، وفي كلّ شدّة عضده ، فقد ولّيتك قومك ، وأعظمنا في الخراج سهمك ، وإنّا مجيرو وفدك ، ومحسنو وفدك(2) .

وقال مروان لمعاوية : جئتم بها هرقلية ، تُبايعون لأبنائكم!(3) .

3 ـ زياد بن أبيه :

وكره زياد بن أبيه بيعة معاوية لولده ؛ وذلك لما عرف به مِن الاستهتار والخلاعة والمجون.

ويقول المؤرّخون : إنّ معاوية كتب إليه يدعوه إلى أخذ البيعة بولايته العهد ليزيد ، وإنّه ليس أولى مِن المغيرة بن شعبة. فلمّا قرأ كتابه دعا برجل مِنْ أصحابه كان يأتمنه حيث لا يأتمن أحداً غيره ، فقال له : إنّي اُريد أنْ ائتمنك على ما لم ائتمن على بطون الصحائف ؛ ائت معاوية وقل له : يا أمير المؤمنين ، إنّ كتابك ورد عليّ بكذا ، فماذا يقول

__________________

(1) وفيات الأعيان 5 / 389 ـ 390.

(2) الإمامة والسّياسة 1 / 128.

(3) الإسلام والحضارة العربية 2 / 395.

٢١٣

الناس إنْ دعوناهم إلى بيعة يزيد ، وهو يلعب بالكلاب والقرود ، ويلبس المصبغ ، ويدمن الشراب ، ويمسي على الدفوف ، ويحضرهم ـ أي الناس ـ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر؟! ولكن تأمره أنْ يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين ، فعسانا أنْ نموه على الناس. وسار الرسول إلى معاوية فأدّى إليه رسالة زياد ، فاستشاط غضباً ، وراح يتهدّده ويقول :

ويلي على ابن عُبيد! لقد بلغني أنّ الحادي حدا له أنّ الأمير بعدي زياد. والله ، لأردّنه إلى أُمّه سُميّة وإلى أبيه عُبيد(1) .

هؤلاء بعض الناقدين لمعاوية مِن الأُسرة الاُمويّة وغيرهم في توليته لخليعه يزيد خليفة على المسلمين.

إيقاعُ الخلاف بين الاُمويِّين :

واتّبع معاوية سياسة التفريق بين الاُمويِّين حتّى يصفو الأمر لولده يزيد ؛ فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مكانه مروان بن الحكم ، ثمّ عزل مروان واستعمل سعيداً مكانه ، وأمره بهدم داره ومصادرة أمواله ، فأبى سعيد مِنْ تنفيذ ما أمره به معاوية فعزله وولّى مكانه مروان ، وأمره بمصادرة أموال سعيد وهدم داره ، فلمّا همّ مروان بتنفيذ ما عهد إليه أقبل إليه سعيد وأطلعه على كتاب معاوية في شأنه ، فامتنع مروان مِن القيام بما أمره معاوية.

وكتب سعيد إلى معاوية رسالة يندّد فيها بعمله ، وقد جاء فيها : العجب ممّا صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا له ، أنْ يضغن بعضنا

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 196.

٢١٤

على بعض! فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره مِن الأخبثين ، وعفوه وإدخاله القطيعة بنا والشحناء ، وتوارث الأولاد ذلك!(1) .

وعلّق عمر أبو النّصر على سياسة التفريق التي تبعها معاوية مع أُسرته بقوله : إنّ سبب هذه السّياسة هو رغبة معاوية في إيقاع الخلاف بين أقاربه الذين يخشى نفوذهم على يزيد مِنْ بعده ، فكان يضرب بعضهم ببعضٍ حتّى يظلّوا بحاجة إلى عطفه وعنايته(2) .

تجميدُ البيعة :

وجمّد معاوية رسمياً البيعة ليزيد إلى أجل آخر حتّى يتمّ له إزالة الحواجز والسدود التي تعترض طريقه. ويقول المؤرّخون : إنّه بعد ما التقى بعبادلة قريش في يثرب ، واطّلع على آرائهم المعادية لما ذهب إليه ، أوقف كلّ نشاط سياسي في ذلك ، وأرجأ العمل إلى وقت آخر(3) .

اغتيالُ الشخصيات الإسلاميّة :

ورأى معاوية أنّه لا يمكن بأي حالٍ تحقيق ما يصبوا إليه مِنْ تقليد ولده الخلافة مع وجود الشخصيات الرفيعة التي تتمتّع باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، فعزم على القيام باغتيالهم ؛ ليصفو له الجو ، فلا يبقى أمامه أي مزاحم ،

__________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 18.

(2) السياسة عند العرب ـ عمر أبو النّصر / 98.

(3) الإمامة والسياسة 1 / 182.

٢١٥

وقد قام باغتيال الذوات التالية :

1 ـ سعد بن أبي وقاص :

ولسعد المكانة العليا في نفوس الكثيرين مِن المسلمين ، فهو أحد أعضاء الشورى ، وفاتح العراق ، وقد ثقل مركزه على معاوية فدسّ إليه سُمّاً فمات منه(1) .

2 ـ عبد الرحمن بن خالد :

وأخلص أهل الشام لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأحبّوه كثيراً ، وقد شاورهم معاوية فيمَنْ يعقد له البيعة بعد وفاته ، فقالوا له : رضينا بعبد الرحمن بن خالد ، فشقّ ذلك عليه ، وأسرّها في نفسه.

ومرض عبد الرحمن ، فأمر معاوية طبيباً يهودياً كان مكيناً عنده أنْ يأتيه للعلاج فيسقيه سقية تقتله ، فسقاه الطبيب فمات على أثر ذلك(2) .

3 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

وكان عبد الرحمن بن أبي بكر مِنْ أقوى العناصر المعادية لبيعة معاوية لولده ، وقد أنكر عليه ذلك ، وبعث إليه معاوية بمئة ألف درهم فردّها عليه ، وقال : لا أبيع ديني بدنياي. ولمْ يلبث أنْ مات فجأة بمكة(3) .

وتعزو المصادر سبب وفاته إلى أنّ معاوية دسّ إليه سُمّاً فقتله.

__________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 29.

(2) الاستيعاب.

(3) المصدر نفسه.

٢١٦

4 ـ الإمام الحسن (عليه السّلام) :

وقام معاوية باقتراف أعظم جريمة وإثم في الإسلام ، فقد عمد إلى اغتيال سبط النّبي (صلّى الله عليه وآله) وريحانته الإمام الحسن (عليه السّلام) ، الذي عاهده بأنْ يكون الخليفة مِنْ بعده.

ولم يتحرّج الطاغية مِنْ هذه الجريمة في سبيل إنشاء دولة اُمويّة تنتقل بالوارثة إلى أبنائه وأعقابه ، وقد وصفه (الميجر اُوزبورن) بأنّه مخادع ، وذو قلب خال مِنْ كلّ شفقة ، وأنّه كان لا يتهيّب مِنْ الإقدام على أيّة جريمة مِنْ أجل أنْ يضمن مركزه ؛ فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه ، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، كما تخلّص مِنْ مالك الأشتر قائد علي بنفس الطريقة(1) .

وقد استعرض الطاغية السفّاكين ليعهد إليهم القيام باغتيال ريحانة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فلمْ يرَ أحداً خليقاً بارتكاب الجريمة سوى جُعيدة بنت الأشعث ؛ فإنّها مِنْ بيت قد جُبِلَ على المكر ، وطُبِعَ على الغدر والخيانة ، فأرسل إلى مروان بن الحكم سُمّاً فاتكاً كان قد جلبه مِنْ مَلكِ الروم ، وأمره بأنْ يُغري جُعيدة بالأموال وزواج ولده يزيد إذا استجابت له ، وفاوضها مروان سرّاً ففرحت ، فأخذت مِنه السُّمّ ودسّته للإمام (عليه السّلام) ، وكان صائماً في وقت ملتهب مِن شدّة الحرّ ، ولمّا وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، والتفت إلى الخبيثة فقال لها : «قتلتيني قتلك الله. والله لا تصيبنَّ مِنّي خَلفاً ، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر مِنك ، يخزيك الله ويخزيه».

وأخذ حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) يعاني الآلام الموجعة مِنْ شدّة السُّمّ ،

__________________

(1) روح الإسلام / 295.

٢١٧

وقد ذبلت نضارته ، واصفرّ لونه حتّى وافاه الأجل المحتوم. وقد ذكرنا تفصيل وفاته مع ما رافقها مِن الأحداث في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

إعلانُ البيعة رسميّاً :

وصفا الجو لمعاوية بعد اغتياله لسبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) وريحانته ، فقد قضى على مَنْ كان يحذر منه ، وقد استتبت له الاُمور ، وخلت السّاحة مِنْ أقوى المعارضين له ، وكتب إلى جميع عمّاله أنْ يبادروا دونما أي تأخير إلى أخذ البيعة ليزيد ، ويُرغموا المسلمين على قبولها. وأسرع الولاة في أخذ البيعة مِن الناس ، ومَنْ تخلّف عنها نال أقصى العقوبات الصارمة.

مع المعارضين في يثرب :

وامتنعت يثرب مِنْ البيعة ليزيد ، وأعلن زعماؤهم وعلى رأسهم الإمام الحُسين (عليه السّلام) رفضهم القاطع للبيعة ، ورفعت السّلطة المحلّية ذلك إلى معاوية ، فرأى أنْ يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين ، فإنْ أبوا أجبرهم على ذلك. واتّجه معاوية إلى يثرب في موكب رسميّ تحوطه قوّة هائلة مِن الجيش ، ولمّا انتهى إليها استقبله أعضاء المعارضة فجفاهم وهدّدهم.

وفي اليوم الثاني أرسل إلى الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وإلى عبد الله بن عباس ، فلمّا مَثُلا عنده قابلهما بالتكريم والحفاوة ، وأخذ يسأل الحُسين (عليه السّلام) عن أبناء أخيه والإمامُ (عليه السّلام) يُجيبه ، ثمّ خطب معاوية فأشاد بالنّبي (صلّى الله عليه وآله) وأثنى عليه ، وعرض إلى بيعة يزيد ، ومنح ابنه الألقاب الفخمة ، والنعوت الكريمة ، ودعاهما إلى بيعته.

٢١٨

خطابُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

وانبرى أبيّ الضيم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد يا معاوية ، فلن يؤدّي المادح وإنْ أطنب في صفة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مِنْ جميع جزءاً ، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مِنْ إيجاز الصفة ، والتنكّب عن استبلاغ النّعت ، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السُّرج ، ولقد فضلّتَ حتّى أفرطت ، واستأثرتَ حتّى أجحفت ، ومنعتَ حتّى بخلت ، وجُرْتَ حتّى جاوزت ، ما بذلت لذي حقٍّ مِنْ اسمٍ حقّه مِنْ نصيب حتّى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد مِن اكتماله ، وسياسته لأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ؛ تريد أنْ توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تُخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد مِنْ نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به مِن استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحَمام السبق لأترابهنَّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصراً ، ودع عنك ما تحاول ؛ فما أغناك أنْ تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه ، فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتُقدم على عمل محفوظ ، في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تُراثاً ، ولعمر الله أورثنا الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائمَ عند موت الرسول ، فأذعن للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النّصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم : كان

٢١٩

ويكون ، حتّى أتاك الأمر يا معاوية مِنْ طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا اُولي الأبصار.

وذكرتَ قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وتأميره له ، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار ـ لعمر الله ـ يومئذ مبعثهم حتّى أنِفَ القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : لا جرم يا معشر المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري. فكيف تحتجّ بالمنسوخ مِنْ فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه مِن الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً وحولك مَنْ لا يُؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أنْ تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين! واستغفر الله لي ولكم».

وفنّد الإمام (عليه السّلام) في خطابه جميع شبهات معاوية ، وسدّ عليه جميع الطرق والنوافذ ، وحمّله المسؤولية الكبرى فيما أقدم عليه مِنْ إرغام المسلمين على البيعة لولده. كما عرض للخلافة وما منيت به مِن الانحراف عمّا أرادها الله مِنْ أنْ تكون في العترة الطاهرة (عليهم السّلام) ، إلاّ أنّ القوم زووها عنهم ، وحرفوها عن معدنها الأصيل.

وذُهل معاوية مِنْ خطاب الإمام (عليه السّلام) ، وضاقت عليه جميع السّبل ، فقال لابن عباس : ما هذا يابن عباس؟!

ـ لعمر الله إنّها لذرّيّة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وأحد أصحاب الكساء ، ومِن البيت المطهّر ، فاله عمّا تريد ؛ فإنّ لك في الناس مقنعاً حتّى يحكم الله

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

وعلى هذا الأساس، فالآية تهدف إلى بيان النعم التي أنعمها سبحانه على حبيبه منذ صباه فآواه بعد ما صار يتيماً لا مأوى له ولا ملجأ، وأفاض عليه الهداية بعدما كان فاقداً لها حسب ذاتها، وأمّا تحديد زمن هذه الإفاضة فيعود إلى أوليات حياته وأيّام صباه بقرينة ذكره بعد الإيواء الذي تحقّق بعد اليتم، وتمّ بجدّه عبد المطلب فوقع في كفالته إلى ثماني سنين ويؤيّد ذلك قول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( ولقد قرن الله بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره )(١) .

والحاصل : أنّ الهداية في الآية نفس الهداية الواردة في قوله:( أَعْطَى كُلَّ شيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ، وفي قوله:( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) إلى غير ذلك من الآيات التي أوعزنا إليها، والاعتقاد بكونه ضالاً أي فاقداً لها في مقام الذات ثم أُفيضت عليه الهداية، هو مقتضى التوحيد الإفعالي ولازم كون النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممكناً بالذات، فاقداً في ذاته كل كمال وجمال، مفاضاً عليه كل جميل من جانبه سبحانه، وأين هو من الضلالة المساوقة للكفر والشرك أو الفسق والعصيان ؟!

وإن شئت قلت: إنّ الضلالة في الآية ترادف الخسران الوارد في قوله سبحانه:( إنّ الإنسانَ لفي خسر ) والهداية فيها ترادف الإيمان والعمل الصالح الواردين بعده( إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) (٢) ، فالإنسان بما أنّه يصرف رأس ماله، أعني: عمره الغالي كل يوم، خاسر بالذات، إلاّ إذا اكتسب به ما يبقى ولا ينفد أثره وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح، والنبي وغيره في هذه الأحكام سواسية، بل في كل التوصيفات الواردة في مجال الإنسان التي يثبتها القرآن له ولا

____________________

١ - نهج البلاغة: الخطبة ١٧٨، والتي تسمّى بالقاصعة.

٢ - العصر: ٢ - ٣.

٢٨١

وجه لإرجاعها إلى صنف دون صنف، بعد كونها من خواص الطبيعة الإنسانية ما لم تقع تحت رعاية الله وهدايته.

وبذلك يتبيّن أنّ الضلالة في الآية - لو فُسّرت بضد الهدى والرشاد - لا تدلّ على ما تدّعيه المخطّئة، بل هي بصدد بيان قانون كلّي سائد على عالم الإمكان من غير فرق بين الإنسان وغيره، وفي الأوّل بين النبي وغيره.

حول الاحتمالين الآخرين

ولكن هذا المعنى غير متعيّن في الآية، إذ من المحتمل أن تكون الضلالة فيها مأخوذة من ( ضلّ الشيء: إذا لم يعرف مكانه ) و ( ضلّت الدراهم: إذا ضاعت وافتقدت ) و ( ضلّ البعير: إذا ضاع في الصحارى والمفاوز ) وفي الحديث: ( الحكمة ضالّة المؤمن أخذها أين وجدها ) أي مفقودته ولا يزال يتطلّبها، وقد اشتهر قول الفقهاء في باب ( الجعالة ): ( مَن ردّ ضالّتي فله كذا).

فالضال بهذا المعنى ينطبق على ما نقله أهل السِيَر والتاريخ عن أوّليات حياته من أنّه ضلّ في شعاب مكّة وهو صغير، فمنَّ الله عليه إذ ردّه إلى جدّه، وقصّته معروفة في كتب السِيَر(١) .

ولولا رحمته سبحانه لأدركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً، فشملته العناية الإلهية فردّه إلى مأواه وملجأه.

وهناك احتمال ثالث لا يقصر عمّا تقدّمه من احتمالين، وهو أن تكون

____________________

١ - لاحظ السيرة الحلبية: ١/١٣١ ويقول: عن حيدة بن معاوية العامري: سمعت شيخاً يطوف بالبيت وهو يقول:

يا ربّ ردّ راكبي محمّدا

أردده ربّي واصطنع عندي يدا

٢٨٢

الضلالة في الآية مأخوذة من ( ضلّ الشيء إذا خفي وغاب عن الأعين ) قال سبحانه:( أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرضِ أَءِنَّا لفي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (١) ، فالإنسان الضال هو الإنسان المخفيّ ذكره، المنسيّ اسمه، لا يعرفه إلاّ القليل من الناس، ولا يهتدي كثير منهم إليه، ولو كان هذا هو المقصود، يكون معناه أنّه سبحانه رفع ذكره وعرّفه بين الناس عندما كان خاملاً ذكره منسيّاً اسمه، ويؤيّد هذا الاحتمال قوله سبحانه في سورة الانشراح التي نزلت لتحليل ما ورد في سورة الضحى قائلاً:

( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) (٢) .

فرفع ذكره في العالم، عبارة عن هداية الناس إليه ورفع الحواجز بينه وبين الناس، وعلى هذا فالمقصود من ( الهداية ) هو هداية الناس إليه لا هدايته، فكأنّه قال: فوجدك ضالاً، خاملاً ذكرك، باهتاً اسمك، فهدى الناس إليك، وسيّر ذكرك في البلاد.

وإلى ذلك يشير الإمام الرضاعليه‌السلام على ما في خبر ابن الجهم - بقوله: ( قال الله عزّ وجلّ لنبيّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أَلم يجدك يتيماً فآوى ) يقول:( ألم يجدك ) وحيداً( فآوى ) إليك الناس( ووجدك ضالاً ) يعني عند قومك( فهدى ) أي هداهم إلى معرفتك )(٣) .

هذه هي المحتملات المعقولة في الآية ولا يدل واحد منها على ما تتبنّاه المخطِّئة وإن كان الأظهر هو الأوّل.

ويعجبني في المقام ما ذكره الشيخ محمد عبده في ( رسالة التوحيد ) فقال:

____________________

١ - السجدة: ١٠.

٢ - الانشراح: ١ - ٤.

٣ - البحار: ١٦/١٤٢.

٢٨٣

وفي السنة السادسة من عمره فقد والدته أيضاً فاحتضنه جدّه عبد المطلب، وبعد سنتين من كفالته، توفّي جدّه، فكفله من بعده عمّه أبو طالب وكان شهماً كريماً غير أنّه كان من الفقر بحيث لا يملك كفاف أهله.

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بني عمّه وصبية قومه، كأحدهم على ما به من يتم، فقد فيه الأبوين معاً، وفقر لم يسلم منه الكافل والمكفول، ولم يقم على تربيته مهذِّب، ولم يعن بتثقيفه مؤدِّب بين أتراب من نبت الجاهلية، وعشراء من خلفاء الوثنية، وأولياء من عبدة الأوهام، وأقرباء من حفدة الأصنام، غير أنّه مع ذلك كان ينمو ويتكامل بدناً وعقلاً وفضيلة وأدباً، حتى عرف بين أهل مكّة وهو في ريعان شبابه بالأمين، أدب إلهي لم تجر العادة بأن تزين به نفوس الأيتام من الفقراء خصوصاً مع فقر القوّام، فاكتهلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاملاً والقوم ناقصون، رفيعاً والقوم منحطّون، موحِّداً وهم وثنيّون، سلماً وهم شاغبون، صحيح الاعتقاد وهم واهمون، مطبوعاً على الخير وهم به جاهلون، وعن سبيله عادلون.

من السنن المعروفة أنّ يتيماً فقيراً أُميّاً مثله تنطبع نفسه بما تراه من أوّل نشأته إلى زمن كهولته، ويتأثّر عقله بما يسمعه ممّن يخالطه، ولا سيّما إن كان من ذوي قرابته، وأهل عصبته، ولا كتاب يرشده ولا أُستاذ ينبّهه، ولا عضد إذا عزم يؤيّده، فلو جرى الأمر فيه على مجاري السنن لنشأ على عقائدهم، وأخذ بمذاهبهم، إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم كما فعل القليل ممّن كانوا على عهده، ولكنّ الأمر لم يجر على سنّته، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة، وما جاء في الكتاب من قوله:( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ) لا يفهم منه أنّه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم

٢٨٤

قبل الخلق العظيم، حاش لله، إنّ ذلك لهو الإفك المبين، وإنّما هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين وإرشاد الضالين(١) .

الآية الثانية: الأمر بهجر الرجز

يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالْرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) (٢) .

استدلت المخطِّئة بأنّ الرجز بمعنى الصنم والوثن، ففي الأمر بهجره إيعاز لوجود أرضية صالحة لعبادتهما في شخصية النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول : إنّ الرجز في القرآن الكريم استعمل في المعاني الثلاثة التالية:

١ - العذاب.

٢ - القذارة.

٣ - الصنم.

ولك أن تقول: إنّ المفاهيم الثلاثة أشكال لمعنى واحد جوهراً، وليست بمعان متعدّدة، ولكنّ تعيين أحد الأمرين لا يؤثّر فيما نرتئيه، توضيح ذلك:

إنّ ( الرجز ): بكسر الراء قد استعمل في القرآن تسع مرّات، وقد أُريد منه في جميعها العذاب إلاّ في مورد واحد، وإليك مظانّها: البقرة/٥٩، الأعراف/١٣٤ وجاءت اللفظة فيها مرّتين، والأعراف/١٤٥ و ١٦٢، الأنفال/١١، سبأ/٥، الجاثية/١١، والعنكبوت/٢٩.

____________________

١ - رسالة التوحيد: ١٣٥ - ١٣٦.

٢ - المدّثر: ١ - ٧.

٢٨٥

وأمّا ( الرجز ): بضمّ الراء، فقد جاء في القرآن الكريم مرّة واحدة، وهي الآية التي نحن بصدد تفسيرها، فسواء أُريد منها العذاب أم غيره من المعنيين، فلا يدل على ما ذهبت إليه المخطّئة، وإليك بيان ذلك:

أ - ( الرجز ) العذاب : فلو كان المقصود منه العذاب فيدل على الأمر بهجر ما يسلتزم العذاب، وبما أنّ الآيات القرآنية نزلت بعنوان التعليم فلا تدلّ على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشرفاً على ما يجرّ العذاب؛ لأنّ هذه الخطابات من باب ( إيّاك أعني واسمعي يا جارة )، وهذا النوع من الخطاب بمكان من البلاغة؛ لأنّه سبحانه إذا خاطب أعزّ الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أولى به، ومن هنا يقدر القارئ الكريم على حلّ كثيرٍ من الآيات التي تخاطب النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحنٍ حادٍّ وشديد، فتقول:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (١) ، وليست الآية دليلاً على وجود أَرضية الشرك في شخصية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنهاه عنه سبحانه، بل الآيات آيات عامّة نزلت للتعليم، والخطاب موجّه إليه والمقصود منها عامّة الناس، نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيَّه الأكرم في سورة القصص بالخطابات الناهية الأربعة المتوالية، الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقصود منه هو الأُمّة ويقول:( وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ * وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٢) .

وهذا هو المقياس في أكثر الخطابات الناهية الواردة في القرآن الكريم.

ب - الرجز بمعنى القذارة : ثمّ إنّ القذارة على قسمين: القذارة المادية ،

____________________

١ - الزمر: ٦٥.

٢ - القصص: ٨٦ - ٨٨.

٢٨٦

والقذارة المعنوية، فيحتمل أن يكون المراد هو الأوّل، وقد ورد في الروايات أنّ أبا جهل جاء بشيء قذر ونادى أصحابه، وقال: هل فيكم رجل يأخذه منّي ويلقيه على محمد ؟ فأخذه بعض أصحابه فألقاه عليه، فحينئذٍ تكون الآية ناظرة إلى تطهير الثوب عن الدنس، وإن أُريد القذارة المعنوية فالمراد هو الاجتناب عن الأفعال والصفات الذميمة، فإنّ الآية نزلت للتعليم فلا تدل على اتصاف النبي الأكرم بها.

ج - الرجز بمعنى الصنم : نفترض أنّ المقصود منه في الآية هو الصنم، لكن لا بمعنى أنّه وضع لذاك المعنى، وإنّما وضع اللفظ لمعنى جامع يعمّ الصنم والخمر والأزلام، لاشتراك الجميع في كونها رجزاً، ولأجل ذلك وصف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال:( إِنَّما الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (١) .

ولكنّ الجواب عن هذه الصورة هو الجواب عن الصورتين الأُوليين، والشاهد على ذلك أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن، بل كان مشمّراً لتحطيم الأصنام ومكافحة عبدتها، فلا يصح أن يخاطب مَن هذا شأنه، بهجر الأصنام إلاّ على الوجه الذي أوعزنا إليه.

الآية الثالثة: عدم علمه بالكتاب والإيمان

قوله سبحانه:( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإيمانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ) (٢) .

____________________

١ - المائدة: ٩٠.

٢ - الشورى: ٥٢.

٢٨٧

استدلت المخطّئة لعصمة النبي الأكرم بهذه الآية وزعمت - والعياذ بالله - دلالة الآية على أنّه كان فاقداً للإيمان قبل الإيحاء إليه، وقد انقلب وصار مؤمناً موحّداً بالوحي وبعد نزوله إليه.

لكنّ حياته المشرقة - بالإيمان والتوحيد - تفنّد تلك المزعمة، بشهادة التاريخ على أنّه من بداية عمره إلى أن لاقى ربَّه، كان مؤمناً موحّداً، وليس ذلك أمراً قابلاً للشك والترديد، وقد أصفق على ذلك أهل السير والتاريخ وحتى كان الأحبار والرهبان معترفين بأنّه نبيّ هذه الأُمّة وخاتم الرسالات الإلهية، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع تلك الشهادات منهم في فترات خاصة في ( مكة ) و ( يثرب ) و ( بصرى ) و ( الشام ) وغيرها، وعلى ذلك فكيف يمكن أن يكون غافلاً عن الكتاب الذي ينزل إليه، أو يكون مجانباً عن الإيمان بوجوده سبحانه وتوحيده، والتاريخ المسلّم الصحيح يؤكّد على عدم صدق ذلك الاستظهار، وعلى ضوء هذا، لا بدّ من إمعان النظر في مفاد الآية كما لا بد في تفسيرها من الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق فنقول:

بُعث النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهداية قومه أوّلاً، وهداية جميع الناس ثانياً - بالآيات والبيّنات، وأخص بالذكر منها: كتابه وقرآنه ( معجزته الكبرى الخالدة ) الذي بفصاحته أخرس فرسان الفصاحة، وقادة الخطابة، وببلاغته قهر أرباب البلاغة وملوك البيان، وخلب عقولهم وقد دعاهم إلى التحدّي والمقابلة، فلم يكن الجواب منهم إلاّ إثارة التهم حوله، فتارة قالوا: بأنّه( يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) ، وأُخرى بأنّه( إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) ، وثالثة: بأنّه( أساطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبها فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرةً وأصِيلاً ) ، قال سبحانه ردّاً على هذه التهم التي أوعزنا إليها:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى

٢٨٨

لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) (١) ، وقال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَ-اوَاتِ وَ الأرضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (٢) .

والآية التي تمسّكت بها المخطّئة بصدد بيان هذا الأمر وأنّه وحي سماوي لا إفك افتراه؛ ولأجل ذلك بدأ كلامه بلفظة( وكذلك أوحينا إليك ) أي كما أنّه سبحانه أوحى إلى سائر الأنبياء بإحدى الطرق الثلاثة التي بيّنها في الآية المتقدّمة، أوحى إليك أيضاً روحاً من أمرنا، وليس هذا كلامك وصنيعك، بل كلام ربّك وصنيعه.

هذا مجمل الكلام في الآية، ولأجل رفع النقاب عن مرامها نقدم أُموراً تسلّط ضوءاً عليه:

الأوّل : المراد من الروح في الآية هو القرآن، وسمّي روحاً لأنّه قوام الحياة الأُخروية، كما أنّ الروح في الإنسان قوام الحياة الدنيوية، ويؤيّد ذلك أُمور:

أ - إنّ محور البحث الأصلي في سورة الشورى، هو: الوحي والآيات الواردة فيها البالغ عددها ٥٣ آية، تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أو بغيرها.

ب - الآية التي تقدّمت على تلك، تبحث عن الطرق التي يكلّم بها سبحانه أنبياءه ويقول:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلَىّ حَكِيمٌ ) (٣) .

____________________

١ - النحل: ١٠٢ - ١٠٣.

٢ - الفرقان: ٤ - ٦.

٣ - الشورى: ٥١.

٢٨٩

ج - ما تقدّم من أنّه سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بلفظة( وكذلك ) ، أي كما أوحينا إلى من تقدّم من الأنبياء كذلك أوحينا إليك بإحدى هذه الطرق( روحاً من أمرنا ) ووجه الاشتراك بينه وبين النبيّين، هو الوحي المتجلّ-ي في نبيّنا بالقرآن وفي غيره بوجهٍ آخر.

كل ذلك يؤيّد أنّ المراد منه هو القرآن الملقى إليه، نعم وردت في بعض الروايات أنّ المراد منه هو( روح القدس ) ولكنّه لا ينطبق على ظاهر الآية؛ لأنّ( الروح ) بحكم كونه مفعولاً ل- ( أوحينا ) يجب أن يكون شيئاً قابلاً للوحي حتى يكون ( موحاً ) وروح القدس ليس موحاً، بل هو الموحي بالكسر، فكيف يمكن أن يكون مفعولاً ل- ( أوحينا ) ؟ ولأجله يجب تأويل الروايات إن صحّ إسنادها.

الثاني: إنّ هيئة ( ما كنت ) أو ( ما كان ) تستعمل في نفي الإمكان والشأن قال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) (١) ، وقال عزّ اسمه:( وَمَا كَانَ الْمُؤمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة ) (٢) .

وقال تعالى حاكياً عن بلقيس:( مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُون ) (٣) .

وعلى ضوء هذا الأصل يكون مفاد قوله:( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) أنّه لولا الوحي ما كان من شأنك أن تدري الكتاب ولا الإيمان، فإن وقفت عليهما فإنّما هو بفضل الوحي وكرامته.

الثالث : إنّ ظاهر الآية أنّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان فاقداً للعلم بالكتاب والدراية للإيمان، وإنّما حصلت الدراية بهما في ظل الوحي وفضله، فيجب إمعان

____________________

١ - آل عمران: ١٤٥.

٢ - التوبة: ١٢٢.

٣ - النمل: ٣٢.

٢٩٠

النظر في الدراية التي كان النبي فاقداً لها قبل الوحي، وصار واجداً لها بعده، فما تلك الدراية وذاك العلم ؟

فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب إليه إجمالاً، والإيمان بوجوده وتوحيده سبحانه ؟ أو المراد العلم بتفاصيل ما في الكتاب والإذعان بها كذلك ؟

لا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّ علمه إجمالاً بأنّه ينزل إليه الكتاب، أو إيمانه بوجوده سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه، ولم يكن العلم بهما ممّا يتوقّف على الوحي، فإنّ الأحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوّته ورسالته ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالاً، وقد سمع منهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فترات مختلفة - أنّه النبي الموعود في الكتب السماوية، وأنّه خاتم الرسالات والشرائع، فهل يصح أن يقال: إنّ علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنزول كتاب عليه إجمالاً كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي ؟ أو أنّه كان متقدّماً عليه وعلى بعثته ؟ ومثله الإيمان بالله سبحانه وتوحيده إذ لم يكن الإيمان بالله أمراً مشكلاً متوقّفاً على الوحي، وقد كان الأحناف في الجزيرة العربية، ومن جملتهم رجال البيت الهاشمي، موحّدين مؤمنين مع عدم نزول الوحي إليهم.

وبالجملة: العلم الإجمالي بنزول كتاب إليه والإيمان بوجوده وتوحيده، لم يكن أمراً متوقّفاً على نزول الوحي حتى يحمل عليه قوله:( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) .

وعندئذ يتعيّن الاحتمال الثاني، وهو أنّ العلم التفصيلي بمضامين الكتاب وما فيه من الأُصول والتعاليم والقصص - ثم الإيمان والإذعان بتلك التفاصيل - كانا متوقّفين على نزول الوحي، ولولاه لما كان هناك علم بها ولا إيمان.

وإن شئت قلت: العلم والإيمان بالأمور السمعية التي لا سبيل للعقل عليها - كالمعارف والأحكام والقصص ومحاجّة الأنبياء مع المشركين والكفّار وما

٢٩١

نزل بساحة أعدائهم من إهلاك وتدمير - لا يحصلان إلاّ من طريق الوحي، حتى قصص الأُمم السالفة وحكاياتهم لتسرّب الوضع والدس إلى كتب القصّاصين، والصحف السماوية النازلة قبل القرآن.

تفسير الآية بآية أُخرى

إنّ الرجوع إلى ما ورد في هذا المضمار من الآيات، يوضح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلاً، والإيمان ثانياً:

أمّا الأوّل: فيقول سبحانه:( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) فالآية صريحة في أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عالماً بتفاصيل الأنباء، وقد وقف عليها من جانب الوحي، فعبّر عن عدم وقوفه عليها في هذه الآية بقوله: ( ما كنت تعلمها أنت ولا قومك ) وفي تلك الآية: بقوله: (ما كنت تدري ما الكتاب) والفرق هو أنّ ( الكتاب ) أعم من ( أنباء الغيب ) والأول يشتمل على الأنباء وغيرها ( وأمّا الأنباء ) فإنّها مختصة بالقصص، والكل مشترك في عدم العلم بهما قبل الوحي والعلم بهما بعده.

وأمّا الثاني:

فقوله سبحانه:( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (٢) فقوله: ( آمن الرسول بما أنزل إليه ) صريح في

____________________

١ - هود: ٤٩.

٢ - البقرة: ٢٨٥.

٢٩٢

أنّ متعلّق الإيمان الحاصل بعد الوحي، هو الإيمان( بما أُنزل إليه ) ، أعني: تفاصيل الكتاب في المجالات المختلفة، لا الإيمان بالله وتوحيده، وعندئذٍ يرتفع الإبهام في الآية التي تمسّكت بها المخطّئة، ويتبيّن أنّ متعلّق الإيمان المنفي في قوله: ( ولا الإيمان ) هو ( ما أنزل إليه ) لا الإيمان بالمبدأ وتوحيده.

والحاصل: أنّ هنا شيئاً واحداً، أعني: الإيمان بما أُنزل من المعارف والأحكام والأنباء، فقد نفى عنه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرة إلى ما قبل البعثة، وأثبت له في الآية الأُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد البعثة.

ومن هنا تتضح أهمّيّة عرض الآيات بعضها على بعض وتفسير الآية بأُختها، فهاتان الآيتان كما عرفت كافلتان لرفع إبهام الآية وإجمالها.

وقد تفطّن المفسّرون لما ذكرناه على وجه الإجمال، فقال الزمخشري في الكشّاف: الإيمان اسم يتناول أشياء: بعضها الطريق إليه العقل، وبعضها الطريق إليه السمع، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي(١) .

وقال الطبرسي:( ما كنت تدري ما الكتاب ) ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الإيمان(٢) .

وقال الرازي: المراد من الإيمان هو الإقرار بجميع ما كلّف الله تعالى به، وأنّه قبل النبوّة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى بل إنّه كان عارفاً بالله ثم قال: صفات الله تعالى على قسمين: منها ما تمكن معرفته بمحض دلائل العقل، ومنها ما لا تمكن معرفته إلاّ بالدلائل السمعية، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته

____________________

١ - الكشّاف: ٣/٨٨ - ٨٩.

٢ - مجمع البيان: ٥/٣٧.

٢٩٣

حاصلة قبل النبوّة(١) .

وقال العلاّمة الطباطبائي في ( الميزان ): إنّ الآية مسوقة لبيان أنّ ما عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يدعو إليه إنّما هو من عند الله سبحانه لا من قبل نفسه وإنّما أُوتي ما أُوتي من ذلك، بالوحي بعد النبوّة، فالمراد بعدم درايته بالكتاب عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية، فإنّ ذلك هو الذي أُوتي العلم به بعد النبوّة والوحي، والمراد من عدم درايته الإيمان، عدم تلبسه بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقّة والأعمال الصالحة، وقد سمّى العمل إيماناً في قوله تعالى:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) (٢) ، والمراد الصلوات التي أتى بها المؤمنون إلى بيت المقدّس قبل النسخ، والمعنى ما كان عندك قبل وحي الروح، علم الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع ولا كنت متلبّساً به بما أنت متلبّس به بعد الوحي من الالتزام التفصيلي والاعتقادي، وهذا لا ينافي كونه مؤمناً بالله موحّداً قبل البعثة صالحاً في عمله، فإنّ الذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقاداً وعملاً، لا نفي العلم والالتزام الإجماليين بالإيمان بالله والخضوع للحق(٣) .

الآية الرابعة: عدم رجائه إلقاء الكتاب إليه

قال تعالى:( وَمَا كُنْتَ تَرْجُواْ أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرينَ ) (٤) .

____________________

١ - مفاتيح الغيب: ٧/٤١٠، ولاحظ روح البيان: ٨/٣٤٧، روح المعاني: ١٥/٢٥.

٢ - البقرة: ١٤٣.

٣ - الميزان: ١٨/٨٠.

٤ - القصص: ٨٦.

٢٩٤

استدلّ الخصم بأنّ ظاهر الآية نفي علمه بإلقاء الكتاب إليه، فلم يكن النبي راجياً لذلك واقفاً عليه.

أقول : توضيح مفاد الآية يتوقّف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية، أعني قوله:( إلاّ رحمة من ربّك ) حتى يتضح المقصود، وقد ذكر المفسّرون في توضيحها وجوهاً ثلاثة نأتي بها:

١ - إنّ ( إلاّ ) استدراكية وليست استثنائية، فهي بمعنى ( لكن ) لاستدراك ما بقي من المقصود.

وحاصل معنى الآية: ما كنت يا محمد ترجو فيما مضى أن يوحي الله إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك، إلاّ أنّ ربك رحمك وأنعم به عليك وأراد بك الخير، نظير قوله سبحانه:( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَحْمَةً مِن رَبِّكَ ) (١) ، أي ولكن رحمة من ربّك خصّك بها، وهذا هو المنقول عن الفرّاء(٢) ؛ وعلى هذا لم يكن للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّ رجاء لإلقاء الكتاب إليه وإنّما فاجأه الإلقاء لأجل رحمة ربّه، ولكن لا يصار إلى هذا الوجه إلاّ إذا امتنع كون الاستثناء متصلاً لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.

٢ - أن يكون ( إلاّ ) للاستثناء لا للاستدراك، وهو متصل لا منقطع، ولكنّ المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام، وهو كما في الكشّاف: ( وما ألقى إليك الكتاب إلاّ رحمة من ربّك )(٣) ، أي لم يكن لإلقائه عليك وجه إلاّ رحمة من ربّك، وعلى هذا الوجه أيضاً لا يعلم أنّه كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجاء لإلقاء الكتاب

____________________

١ - القصص: ٤٦.

٢ - مجمع البيان: ٤/٢٦٩، مفاتيح الغيب: ٦/٤٠٨.

٣ - الكشّاف: ٢/٤٨٧ - ٤٨٨.

٢٩٥

عليه وإن كان الاستثناء متصلاً، وهذا الوجه بعيد أيضاً لكون المستثنى منه محذوفاً مفهوماً من الجملة على خلاف الظاهر، وإنّما يصار إليه إذا لم يصح إرجاعه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيّ-ن في الوجه الثالث.

٣ - أن يكون ( إلاّ ) استثناء من الجملة السابقة عليه، أعني قوله:( وما كنت ترجوا ) ويكون معناه: ما كنت ترجوا إلقاء الكتاب عليك إلاّ أن يرحمك الله برحمة فينعم عليك بذلك، فتكون النتيجة: ما كنت ترجو إلاّ على هذا(١) ، فيكون هنا رجاءٌ منفي ورجاءٌ مثبت أمّا الأوّل: فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً، وأمّا رجاؤه به عن طريق الرحمة الإلهية فكان موجوداً، فنفي أحد الرجاءين لا يستلزم نفي الآخر، بل المنفيّ هو الأوّل، والثابت هو الثاني، وهذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية، وقد سبق منّا أنّ جملة( ما كنت ) وما أشبهه تستعمل في نفى الإمكان والشأن، وعلى ذلك يكون معنى الجملة: لم تكن راجياً لأن يلقى إليك الكتاب وتكون طرفاً للوحي والخطاب إلاّ من جهة خاصة، وهي أن تقع في مظلّة رحمته وموضع عنايته فيختارك طرفاً لوحيه، ومخاطباً لكلامه وخطابه، فالنبي بما هو إنسان عادي لم يكن راجياً لأن ينزل إليه الوحي ويلقى إليه الكتاب، وبما أنّه صار مشمولاً لرحمته وعنايته وصار إنساناً مثالياً قابلاً لتحمل المسؤولية وتربية الأُمّة، كان راجياً به، وعلى ذلك فالنفي والإثبات غير واردين على موضع واحد.

فقد خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إنساناً مؤمناً موحّداً عابداً لله ساجداً له قائماً بالفرائض العقلية والشرعية، مجتنباً عن المحرّمات، عالماً بالكتاب، ومؤمناً به إجمالاً، وراجياً لنزوله إليه إلى أن بُعثَ لإنقاذ البشرية عن

____________________

١ - مفاتيح الغيب: ٦/٤٩٨.

٢٩٦

الجهل، وسوقها إلى الكمال، فسلام الله عليه يوم وُلد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً، وبقيت هنا آية أُخرى نأتي بتفسيرها إكمالاً للبحث وإن لم تكن لها صلة تامّة لما تتبنّاه المخطِّئة.

الآية الخامسة: لو لم يشأ الله ما تلوته

قال سبحانه:( قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (١) .

والآية تؤكّد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لابثاً في قومه، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن أو تالياً لآيٍ من آياته، وليس هذا الشيء ينكره القائلون بالعصمة، فقد اتفقت كلمتهم على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف على ما وقف من آي الذكر الحكيم من جانب الوحي ولم يكن قبله عالماً به، وأين هو من قول المخطِّئة من نفي الإيمان منه قبلها ؟!

وإن أردت الإسهاب في تفسيرها فلاحظ الآية المتقدّمة عليها فترى فيها اقتراحين للمشركين، وقد أجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدّمة وعن الآخر في نفس هذه الآية، وإليك نصّها:( قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (٢) .

اقترح المشركون على النبيّ أحد أمرين:

١ - الإتيان بقرآن غير هذا، مع المحافظة على فصاحته وبلاغته.

____________________

١ - يونس: ١٦.

٢ - يونس: ١٥.

٢٩٧

٢ - تبديل بعض آياته ممّا فيه سبّ لآلهتهم وتنديد بعبادتهم الأوثان والأصنام.

فأجاب عن الثاني في نفس الآية بأنّ التبديل عصيان لله، وأنّه يخاف من مخالفة ربّه، ولا محيص له إلاّ اتّباع الوحي من دون أن يزيد فيه أو ينقص عنه.

وأجاب عن الأوّل في الآية المبحوث عنها بأنّه أمر غير ممكن؛ لأنّ القرآن ليس من صنعي وكلامي حتى أذهب به وآتي بآخر، بل هو كلامه سبحانه، وقد تعلّقت مشيئته على تلاوتي، ولو لم يشأ لما تلوته عليكم ولا أدراكم به، والدليل على ذلك: إنّي كنت لابثاً فيكم عمراً من قبل فما تكلّمت بسورة أو بآية من آياته، ولو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلّم به طيلة معاشرتي معكم في المدّة الطويلة.

قال العلاّمة الطباطبائي في تفسير الآية: إنّ الأمر فيه إلى مشيئة الله لا إلى مشيئتي فإنّما أنا رسول، ولو شاء الله أن ينزل قرآناً غير هذا لأنزل، أو لم يشأ تلاوة هذا القرآن ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فإنّي مكثت فيكم عمراً من قبل نزوله ولو كان ذلك إليّ وبيدي لبادرت إليه قبل ذلك وبدت من ذلك آثار ولاحت لوائحه(١) .

هذا آخر الكلام في عصمته عن العصيان، وصيانته عن الخلاف، بقي الكلام في عصمته عن الخطأ والنسيان، فنطرحها على بساط البحث إجمالاً.

عصمة النبيّ الأعظم عن الخطأ(٢)

إنّ صيانة النبي عن الخطأ والاشتباه سواء أكان في مجال تطبيق الشريعة، أم

____________________

١ - الميزان: ١٠/٢٦ ولاحظ تفسير المنار: ١١/٣٢٠.

٢ - البحث كما يعرب عنه عنوان البحث، مركّز على صيانة خصوص نبيّنا الأعظم عن الخطأ استدلالاً وإشكالاً وجواباً، وأمّا البحث عن عصمة غيره من الأنبياء فموكول إلى مجال آخر.

٢٩٨

في مجال الأمور العادية الفردية المرتبطة بحياته، ممّا طرح في علم الكلام وطال البحث فيه بين متكلّمي الإسلام.

غير أنّ تحقّق الغاية من البعثة رهن صيانته عن الخطأ في كلا المجالين، وإلاّ فلا تتحقق الغاية المتوخّاة من بعثته، وهذا هو الدليل العقلي الذي اعتمدت عليه العدلية، بعدما اتفق الكل على لزوم صيانته عن الخطأ والاشتباه في مجال تلقّي الوحي وحفظه، وأدائه إلى الناس، ولم يختلف في ذلك اثنان.

وإليك توضيح هذا الدليل العقلي: إنّ الخطأ في غير أمر الدين وتلقّي الوحي يتصوّر على وجهين:

أ - الخطأ في تطبيق الشريعة كالسهو في الصلاة أو في إجراء الحدود.

ب - الاشتباه في الأمور العادية المعدة للحياة كما إذا استقرض ألف دينار، وظن أنّه استقرض مائة دينار.

وهو مصون من الاشتباه والسهو في كلا الموردين؛ وذلك لأنّ الغاية المتوخّاة من بعث الأنبياء هي هدايتهم إلى طريق السعادة، ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بكسب اعتماد الناس على صحّة ما يقوله النبي وما يحكيه عن جانب الوحي، وهذا هو الأساس لحصول الغاية، ومن المعلوم أنّه لو سها النبي واشتبه عليه الأمر في المجالين الأوّلين ربّما تسرّب الشك إلى أذهان الناس، وإنّه هل يسهو في ما يحكيه من الأمر والنهى الإلهي أم لا ؟

فبأي دليل أنّه لا يخطأ في هذا الجانب مع أنّه يسهو في المجالين الآخرين ؟! وهذا الشعور إذا تغلغل في أذهان الناس سوف يسلب اعتماد الناس على النبي، وبالتالي تنتفي النتيجة المطلوبة من بعثه.

٢٩٩

نعم، التفكيك بين صيانته في مجال الوحي وصيانته في سائر الأمور، وإن كان أمراً ممكناً عقلاً، ولكنّه ممكن بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية ونحوها، وأمّا العامّة ورعايا الناس الذين يشكلون أغلبية المجتمع، فهم غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلاً على إمكان تسرّب السهو إلى المرحلة الأخرى.

ولأجل سدّ هذا الباب المنافي للغاية المطلوبة من إرسال الرسل، ينبغي أن يكون النبي مصوناً في عامّة المراحل، سواء أكانت في حقل الوحي أو في تطبيق الشريعة أو في الأمور العامة؛ ولهذا يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : ( جعل مع النبي روح القدس وهي لا تنام ولا تغفل ولا تلهو ولا تسهو).(١)

وعلى ذلك فبما أنّه ينبغي أن يكون النبي أُسوة في الحياة في عامة المجالات، يجب أن يكون نزيهاً عن العصيان والخلاف والسهو والخطأ.

القرآن وعصمة النبي عن الخطأ والسهو

قد عرفت منطق العقل في لزوم عصمة النبي من الخطأ في مجال تطبيق الشريعة، ومجال الأمور العادية المعدّة للحياة، وهذا الحكم لا يختص بمنطقه، بل الذكر الحكيم يدعمه بأحسن وجه، وإليك ما يدل على ذلك:

١ - قال سبحانه:( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ) (٢) ، وقال أيضاً:( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ

____________________

١ - بصائر الدرجات: ٤٥٤.

٢ - النساء: ١٠٥.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321