عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم11%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127777 / تحميل: 8589
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ودخل عدي بن حاتم بعد مقتل أمير المؤمنينعليه‌السلام على معاوية ، فسأله معاوية عما أبقى الدهر من حب علي. قال عدي : كله. وإذا ذكر ازداد.

قال معاوية : ما أريد بذلك إلا إخلاق ذكره.

فقال عدي : « قلوبنا ليست بيدك يامعاوية »(1) .

واجتمع عند معاوية عمرو بن العاص ، والوليد بن عقبة ، والمغيرة ، وغيرهم ، فقالوا له : « إن الحسن قد أحيا أباه وذكره ، وقال فصدِّق ، وأمر فأطيع ، وخفقت له النعال ، وإن ذلك لرافعه إلى ماهو أعظم ثم طلبوا منه إحضاره للحط منه الخ »(2) . والشواهد على ذلك كثيرة

وقد بدأت بوادر نجاح هذه السياسة تجاه أهل البيت تظهر في وقت مبكر ، ويكفي أن نشير إلى ما تقدم من أن عمر يسأل عمن يقول الناس : إنه يتولى الأمر بعده ، فلا يسمع ذكراً لعليعليه‌السلام .

هـ : عقائد جاهلية وغريبة :

ثم يأتي دور الاستفادة من بعض العقائد الجاهلية ، أو العقائد الموجودة لدى أهل الكتاب ، وذلك من أجل تكريس الحكم لصالح أولئك المستأثرين ، والقضاء على مختلف عوامل ومصادر المناوأة والمنازعة لهم. هذه العقائد التي قاومها الأئمة بكل ما لديهم من قوة وحول

__________________

1 ـ الفتوح لابن أعثم ج 3 ص 134.

2 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 6 ص 285 والاحتجاج ج 1 ص 402 والبحار ج 44 ص 70 والغدير ج 2 ص 133 عن المعتزلي وعن المفاخرات للزبير بن بكار ، وعن جمهرة الخطب ج 2 ص 12. ونقل عن شرح النهج للآملي ج 18 ص 288 وعن أعيان الشيعة ج 4 ص 67.

٨١

ونذكر من هذه العقائد على سبيل المثال :

تركيز الاعتقاد بلزوم الخضوع للحاكم ، مهما كان ظالماً ومتجبراً وعاتباً ـ وهي عقيدة مأخوذة من النصارى ، حسب نص الإنجيل(1) ـ وقد وضعوا الأحاديث الكثيرة على لسان النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لتأييد ما يرمون إليه في هذا المجال(2) وقد أصبح ذلك من عقائدهم(3) .

ومن قبيل الإصرار على عقيدة الجبر ، التي هي من بقايا عقائد المشركين ، وأهل الكتاب(4) . الأمر الذي يعني : أن كل تحرك ضد حكام الجور لا يجدي

__________________

1 ـ راجع رسالة بولس إلى أهل رومية ، وراجع الهدى إلى دين المصطفى ج 2 ص 316.

2 ـ راجع : سنن البيهقي ج 8 ص 157 و 159 و 164 و ج 4 ص 115 و ج 6 ص 310. وصحيح مسلم ج 6 ص 17 و 20 ج 2 ص 119 و 122 وكنز العمال ج 5 ص 465 و ج 3 ص 168 و 167 و 170 والعقد الفريد ج 1 ص 8 و 9 والمصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 329 ـ 335 و 339 ـ 344 ولباب الآداب ص 260 والدر المثور ج 2 ص 177 و178 و 176 ومقدمة ابن خلدون ص 194 والإسرائيليات في التفسير والحديث ، ونظرية الإمامة ص 417 وقبلها وبعدها ، وتاريخ بغداد ج 5 ص 274 وطبقات الحنابلة ج 3 ص 58 و ص 56 ، والإبانة للأشعري ص 9 ومقالات الإسلاميين ج 1 ص 323 ومسند أحمد ج 2 ص 28 و ج 4 ص 382 / 383 البداية والنهاية ج 4 ص 249 و 226 ومجمع الزوائد ج 5 ص 229 و 224 وحياة الصحابة ج 2 ص 68 و 69 و 72 و ج 1 ص 12 والإصابة ج 2 ص 296 والكنى والألقاب ج 1 ص 167 والاذكياء ص 142 و الغدير ج 7 ص 136 حتى ص 146 و ج 6 ص 117 و 128 و ج 9 ص 393 و ج 10 ص 46 و 302 و ج 8 ص 256 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 513 و 290 والسنة قبل التدوين ص 467 ونهاية الإرب ج 6 ص 12 و 13 ولسان الميزان ج 3 ص 387 و ج 6 ص 226 عن أبي الدرداء رفعه : « صلوا خلف كل إمام ، وقاتلوا مع كل أمير » وراجع : المجروحون لابن حبان ج 2 ص 102.

3 ـ راجع كتابنا : الحياة السياسية للإمام الرضا (ع) ص 312 متناً وهامشاً.

4 ـ راجع : الكفاية في علم الرواية للخطيب ص 166 وجامع بيان العلم ج 2 ص 148 و 149 و 150 وضحى الإسلام ج 3 ص 81 زشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 1 ص 340 و ج 12 ص 78 / 79 وقاموس الرجال ج 6 ص 36 ، والإمامة والسياسة ج 1 ص 183 والغدير ج 9 ص 34 و 95 و 192 و ج 5 ص 365 و ج 10 ص 333 و 245 و 249 و ج 7 ص 147 و 154 و 158 و ج 8 ص132 والإخبار الدخيلة ( المستدرك )

=

٨٢

ولا ينفع ، ما دام الإنسان مجبراً على كل حركة ، ومسيراً في كل موقف

ثم هناك عقيدة : أنه لا تضر مع الإيمان معصية. وأن الإيمان اعتقاد بالقلب ، وإن أعلن الكفر

قالوا : « الإيمان عقد بالقلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية ، وعبد الأوثان ، أو لزم اليهودية ، أو النصرانية في دار الإسلام ، وعبد الصليب ، وأعلن

__________________

=

ج 1 ص 193 و 197 ومقارنة الإديان ( اليهودية ) ص 271 و 249 وأنيس الأعلام ج 1 ص 279 و 257 والتوحيد وإثبات صفات الرب ص 82 و 80 و 81 ومقدمة ابن خلدون ص 143 و 144 والإغاني ج 3 ص 76 ، وتأويل مختلف الحديث ص 35 والعقد الفريد ج 1 ص 206 و ج 2 ص 112 وتاريخ الطبري ط الاستقامة ج 2 ص 445 وبحوث مع أهل السنة والسلفية من ص 43 حتى 49 عن العديد من المصادر ، والمغزي للواقدي ص 904 وربيع الأبرار ج 1 ص 821 والموطأ ج 3 ص 92 و 93 وطبقات ابن سعد ج 7 ص 417 و ج 5 ص 148 وأنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 2 ص 265 و 83 /84 ومصابيح السنة للبغوي ج 2 ص 67 ومناقب الشافعي ج 1 ص 17 والبخاري ج 8 ص 208 وفي خطط المقريزي ج 3 ص 297 : إن جهماً انفرد بالقول بجواز الخروج عل السلطان الجائر وحياة الصحابة ج 2 ص 12 و 95 و 94 و 330 و ج 3 ص 229 و 487 و 492 و 501 و 529 عن المصادر التالية : كنز العمال ج 3 ص 138 / 139 و ج 8 ص 208 و ج 1 ص 86. وصحيح مسلم ج 2 ص 86 وأبي داود ج 2 ص 16 والترمذي ج 1 ص 202 وابن ماجة ج 1 ص 209 وسنن البيهقي ج 9 ص 50 و ج 6 ص 349 ومسند أحمد ج 5 ص 245 ومجمع الزوائد ج 6 ص 3 و ج 1 ص 135 والطبري في تاريخه مقتل برير و ج 4 ص 124 و ج 3 ص 281 والبداية والنهاية ج 7 ص 79. انتهى.

والمعتزلة ص 7 و 87 و 39 / 40 و 91 و 201 و 265 عن المصادر التالية : المنية والأمل ص 12 وعن الخطط ج 4 ص 181 / 182 و 186 والملل والنحل ج 1 ص 97 / 98 والعقائد النسفية ص 85 ووفيات الأعيان ص 494 والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 3 ص 45 عن الطبري ج 6 ص 33 و ج 3 ص 207 وعن الترمذي ص 508 في رسالة عمر بن عبد العزيز

والتصريح بذلك في الكتب الكلامية ، وكتب فرق أهل السنة ، لا يكاد يحصى كثرة. وكنت قد جمعت فيما مضى قسماً كبيراً من كلمات التوراة وغيرها حول هذا الموضوع ، أسأل الله التوفيق لإتمامه.

٨٣

التثليث ، في دار الإسلام ، ومات على ذلك »(1) .

وهذه العقيدة ، وإن كانت هي عقيدة المرجئة ، إلا أنها كانت عامة في الناس آنئذٍ ، حيث لم يكن المذهب العقائدي لأهل السنة قد غلب وشاع بعد.

ومعنى هذا هو أن الحكام مؤمنون مهما ارتكبوا من جرائم وعظائم.

بل إنهم ليقولون : إن يزيد بن عبد الملك أراد أن بسيرة عمر عمر بن عبد العزيز ، فشهد له أربعون شيخاً : أن ليس على الخليفة حساب ولا عذاب(2) .

وحينما دعا الوليد الحجاج ليشرب النبيذ معه ، قال له : « يا أمير المؤمنين ، الحلال ما حللت »(3) .

بل إننا لنجد الحجاج نفسه يدَّعي نزول الوحي عليه ، وأنه لا يعمل إلا بوحي من الله تعالى(4) كما يدعي نزول الوحي على الخليفة أيضاً(5)

و : قدسية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

هذا كله فضلاً عن سياستهم القاضية بتقليص نسبة الاحترام والتقديس للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتفضيل الخليفة عليه بل وسلب معنى العصنة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى لقد قالت قريش ـ في حياة الرسول ـ في محاولة منها لمنع عبد الله بن عمرو بن العاص من كتابه أقوالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه بشر يرضى

__________________

1 ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل ج 4 ص 204.

2 ـ البداية والنهاية ج 9 ص 232 وراجع : تاريخ الخلفاء ص 246 وراجع ص 223.

3 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 70.

4 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 73 وراجع الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 ص 115.

5 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 72.

٨٤

ويغضب(1)

بل لقد حاولوا المنع من التسمية باسمهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد نجحوا في ذلك بعض الشيء(2)

كما أن معاوية يتأسف ، لأنه يرى : أن اسم النبي المبارك يذكر في الاذان ويُقْسِم على دفن هذا الاسم(3)

إلى غير ذلك من الوقائع الكثير جداً وقد ذكرنا شطراً منها في تمهيد كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن أراده فليراجعه.

ولعل ذلك قد كان يهدف إلى فسح المجال للمخالفات ، التي كان يمكن أن تصدر عن الحكام ، والتقليل من شأن وأثر وأهمية ما كان يصدر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أقوال ومواقف سلبية تجاه بعض أركان الهيئة الحاكمة ، أو من تؤهلهم لتولي الأمور الجليلة في المستقبل ، ثم التقليل من شأن مواقفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإيجابية تجاه خصوم الهيئة الحاكمة ، أو من ترى فيهم منافسين لها.

ز : تولية المفضول :

ويدخل أيضاً في خيوط هذه السياسة : القول بجواز تولية المفضول مع

__________________

1 ـ راجع : سنن الدرامي ج 1 ص 125 وجامع بيان العلم ج 1 ص 85 وليراجع ج 2 ص 62 و 63 ومستدرك الحاكم ج 1 ص 104 / 105 وتلخيصه للذهبي بهامشه وليراجع أيضاً سنن أبي داود ج 3 /318 والزهد والرقائق ص 315 والغدير ج 11 ص 91 و ج 6 ص 308 و 309 والمصنف لعبد الرزاق ج 7 ص 34 و 35 و ج 11 ص 237 وإحياء علوم الدين ج 3 ص 171 وتمهيد كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى عليه وآله وسلم وغير ذلك كثير.

2 ـ الغدير ج 6 ص 309 عن عمدة القاري ج 7 ص 143 والجزء الأول من كتابنا : الصحيح في سيرة النبي (ص).

3 ـ الموفقيات ص 577 ومروج الذهب ج 3 ص 454 وشرح النهج للمعتزلي ج 5 ص 129 و 130 وقاموس الرجال ج 9 ص 20.

٨٥

وجود الفضل ، كما هو رأي أبي بكر(1) الذي صار أيضاً رأي المعتزلة فيما بعد وذلك عندما فشلت محاولاتهم التي ترمي لرفع شأن الخلفاء ، الذين ابتزوا علياً حقه في أن فشلت محاولاتهم في الحط من عليّ(2) ، ووضع الأحاديث الباطلة في ذمه والعمل على جعل الناس ينسون فضائله وكراماته حيث لم يجدهم كل ما وضعوه واختلقوه في هذا السبيل شيئاً ولا أفاد قتيلاً

ح : سياسة التجهيل :

وهناك سياسة التجهيل التي كانت تتعرض لها الأمة من قبل الحكام ، ولا سيما أهل الشام ويكفي أن نذكر : أن البعض « قال لرجل من أهل الشام ـ من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم ـ : من أبو تراب هذا الذي يلعنه الأمام على المنبر؟! فقال : أراه لصاً من لصوص الفتن »(3) !!

وفي صفين يسأل هاشم المرقال بعض مقاتلي أهل الشام : عن السبب الذي دعاه للمشاركة في تلك الحرب ، فيعلل ذلك بأنهم أخبروه : أن علياًعليه‌السلام لايصلي(4) .

__________________

1 ـ الغدير ج 7 ص 131 عن السيرة الحلبية ج 3 ص 386. ونقل أيضاً عن الباقلاني في التمهيد ص 195 إشارة إلى ذلك..

2 ـ راجع على سبيل المثال : الأغاني ط ساسي ج 19 ص 59.

3 ـ مروج الذهب ج 3 ص 38.

4 ـ تاريخ الطبري ج 4 ص 30 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 313 والفتوح لابن اعثم ج 3 ص 196 وصفين ليصر بن مزاحم ص 354 وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 36 والغدير ج 10 ص 122 و 290 عن أكثر من تقدم. وأنساب الأشراف ، بتحقيق المحمودي ج 2 ص 184 وترجمة الإمام عليعليه‌السلام لابن عساكر بتحقيق المحمودي ج 3 ص 99 ونقله المحمودي عن ابن عساكر ج 38 حديث رقم 1139. وراجع : المعيار والموازنة ص 160.

٨٦

وبلغ معاوية : أن قوماً من أهل الشام يجالسون الأشتر وأصحابه ، فكتب إلى عثمان : « إنك بعثت إلي قوماً أفسدوا مصرهم وانغلوه ، ولا آمن أن يفسدوا طاعة من قِبَلي ، ويعلموهم ما لا يحسنونه ، حتى تعود سلامتهم غائلة »(1) .

قال ابن الاسكافي : « فبلغ من عنايتهم في هذا الباب : أن أخذوا معلميهم بتعليم الصبيان في الكتاتيب، لينشئوا عليه صغيرهم ، ولا يخرج من قلب كبيرهم. وجعلوا لذلك رسالة يتدارسونها بينهم. ويكتب لهم مبتدأ الأئمة : أبو بكر بن أبي قحافة ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، ومعاوية بن أبي سفيان. حتى ان أكثر العامة منهم ما يعرف علي بن أبي طالب ولا نسبه ، ولا يجري على لسان أحد منهم ذكره.

ومما يؤكد هذا ما يؤثر عن محمد بن الحنفية يوم الجمل ، قال : حملت على رجل فلما غشيته برمحي قال : أنا على دين عمر بن أبي طالب وقال : فعلمت أنه يريد علياً فأمسكت عنه(2) .

وجاء حمصي إلى عثمان بنصيحة ، وهي : « لا تكل المؤمن إلى إيمانه ، حتىتعطيه من المال ما يصلحه. أو قال : ما يعيشه ـ ولا تكل ذا الأمانة إلى أمانته حتى تطالعه في عملك ، ولا ترسل السقيم إلى البرئ ليبرئه ، فإن الله يبرئ السقيم ، وقد يسقم البرئ. قال : ما أردت إلا الخير ـ قال : فردهم ، وهم زيد بن صوحان ، وأصحابه »(3) .

وقدمنا : أنه قد حلف للسفاح جماعة من قواد أهل الشام ، وأهل الرياسة والنعم فيها : أنهم ما كانوا يعرفون أهل البيت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرثونه غير بني أمية

__________________

1 ـ أنساب الأشراف ج 5 ص 43 ، والغدير ج 9 ص 32. وليراجع البداية والنهاية ج 7 ص 165.

2 ـ المعيار والموازنة ص 19.

3 ـ المصنف ج 11ص 334.

٨٧

بل إن أهل الشام يقبلون من معاوية أن يصلي بهم ـ حين مسيرهم إلى صفين ـ صلاة الجمعة في يوم الأربعاء ، كما قيل(1) .

وفي وصية معاوية ليزيد : « وانظر أهل الشام ، وليكونوا بطانتك ، فإن رابك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم : فاردد أهل الشام إلى بلادهم ، فإنهم إن أقاموا بها تغيرت أخلاقهم »(2) .

وحينما وقف أبو ذر في وجه طغيان معاوية ، وأثرته ، وانحرافاته ، في الشام ، قال حبيب بن مسلمة لمعاوية : « إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام ، فتدارك أهله ، إن كان لك فيه حاجة(3) .

وحسب نص آخر : « إن أبا ذر يفسد عليك الناس بقوله : كيت وكيت. فكتب معاوية إلى عثمان بذلك. فكتب عثمان : أخرجه إلي. فلما صار إلى المدينة ، نفاه إلى الربذة »(4) .

وحينما جاء المصريون إلى المدينة يسألون عمر عن سبب عدم العمل ببعض الأحكام القرآنية ، أجابهم بقوله : « ثكلت عمر أمُّه ، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ، وقد علم ربنا : أن سيكون لنا سيئات؟ ، وتلا :( إن تجتنبوا كبائِر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ، وندخلكم مدخلاً كريماً ) هل علم أهل المدينة فيما قدمتم؟! قالوا : لا. قال لو علموا لوعظت بكم ».

قال لهم هذا بعد أن أخذ منهم اعترافاً بأنهم لم يحصوا القرآن لا بالبصر ، ولا في اللفظ ، ولا في الأثر(5) .

وبعد كلام جرى بين معاوية ، وعكرشة بنت الأطرش بن رواحة ، قال لها

__________________

1 ـ مروج الذهب ج 3 ص 32 والغدير ج 10 ص 196 عنه.

2 ـ الفخري في الآداب السلطانية ص 112 والعقد الفريد ج 3 ص 373 مع تفاوت يسير.

3 ـ الغدير ج 8 ص 304 عن ابن أبي الحديد.

4 ـ الأمالي للشيخ المفيد ص 122.

5 ـ حياة الصحابة ج 3 ص 260 عن كنز العمال ج 1 ص 228 عن ابن جرير.

٨٨

معاوية : « هيهات يا أهل العراق ، نبهكم علي بن أبي طالب ، فلن تطاقوا ، ثم أمر برد صدقاتهم فيهم ، وإنصافها »(1) .

والعجيب في الأمر هنا : أننا نجد عمر بن الخطاب يصر على الهمدانيين ـ إصراراً عجيباً ـ أن لا يذهبوا إلى الشام ، وإنما إلى العراق(2) !!

ونظير ذلك أيضاً قد جرى لقبيلة بجيلة ، فراجع(3) .

وقال عبد الملك بن مروان لولده سليمان ، حينما أخبره : أنه أراد أن يكتب سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومغازيه ، ورأى ما للأنصارمن المقام المحمود في العقبتين ، قال له : « وما حاجتك أن تُقدِم بكتاب ليس لنا فيه فضل ، تعرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها؟! » ، فأخبره بتخريقه ما كان نسخه فصوب رأيه(4) .

وحينما طلب البعض من معاوية : أن يكف عن لعن عليعليه‌السلام ، قال : « لا والله ، حتى يربو عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر ذاكر له فضلاً »(5) .

وحينما أرسل عليعليه‌السلام إلى معاوية كتاباً فيه :

محمـد النبـي أخـي وصهـري

وحمـزة سيـد الشهـداء عمّـي

الأبيات

__________________

1 ـ العقد الفريد ج 2 ص 112 وبلاغات النساء ص 104 ط دار النهضة وليراجع صبح الأعشى أيضاً.

2 ـ المصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 50.

3 ـ راجع : الكامل في التاريخ ج 2 ص 441.

4 ـ أخبار الموفقيات ص 332 ـ 334 وليراجع الأغاني ط ساسي ج 19 ص 59 في قضية أخرى.

5 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 4 ص 57 والإمام الحسن بن عليعليه‌السلام لآل يس ص125 ، والنصائح الكافية ص 72.

٨٩

« قال معاوية : أخفوا هذا الكتاب ، لا يقرأه أهل الشام : فيميلون إلى علي بن أبي طالب »(1) .

وليراجع كلام المدائني في هذا المجال ، فإنه مهم أيضاً(2) .

عليُّ عليه‌السلام يبثّ العلم والإيمان :

ولكن أمير المؤمنينعليه‌السلام قد حاول بكل ما أوتي من قوة وحول : أن يبث المعارف الإسلامية في الناس ، وينقذهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، حتى لقد قال ـ كما سيأتي ـ : « وركزت فيكم راية الإيمان ، ووقفتكم على معالم الحلال والحرام ». هذاً فضلاً عن التوعية السياسية ، التي كان هو ووُلْدُه الأماجد يتمون في بثها وتركيزها.

ط : موقفهم من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ثم هناك التدبير الذكي والدقيق ، الذي كان من شأنه أن يحرم الأمة من الإطلاع على كثير من توجيهات ، وأقوال ، وقرارات ، ومواقف الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، المتمثلة في المنع عن رواية الحديث النبوي مطلقاً ، أو ببينة ، والضرب ، ثم الحبس ، بل والتهديد بالقتل على ذلك.

المنع عن كتابته والاحتفاظ به ،

ثم إحراق ما كتبه الصحابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) .

__________________

1 ـ البداية والنهاية ج 8 ص 8 و9.

2 ـ النصائح الكافية ص 72 / 73 /74.

3 ـ راجع في ذلك كله وحول كل ما يشير إلى التحديد والتقليل في رواية الحديث : المصادر التالية : جامع بيان العلم ج 1 ص 42 و 65 و 77 و ج 2 ص 173 و 174 و 135 و 203 و 147 و 159 و 141 و 148 والمصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 258 و 262 و 325 و 377 و ج 10 ص 381 وهوامش الصفحات عن مصادر كثيرة ، والسنة

٩٠

..................................................................................

____________

=

قبل التدوين ص 97 / 98 و 91 و 103 و 113 و 92 و 104 وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 5 و 7 و 6 و 8 و 3 / 4 وشرف أصحاب الحديث ص 88 و 89 و 91 و 92 و 87 و 93 وتاريخ الطبري ج 3 ص 273 وكنز العمال ج 5 ص 406 عن التيهقي و ج 10 ص 179 و 174 و 180 ومجمع الزوائد ج 1 ص 149 وتأويل مختلف الحديث ص 48 والتراتيب الإدارية ج 2 ص 248 و 427 حتى 432 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 2 و ج 4 قسم 1 ص 13 ـ 14 و ج 3 قسم 1 ص 306 و ج 5 ص 140 و 70 و 173 ، و ج 2 قسم 2 ص 274 ومكاتيب الرسول ج 1 ص 61 وأضواء على السنة المحمدية ص 47 و54 و 55 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 4 ص 64 و 61 وكشف الأستار عن مسند البزار ج 2 ص 196 وحياة الصحابة ج 2 ص 82 و 569 و 570 و ج 3 ص 257 و 258 و 259 و 272 و 273 و 252 و 630 عن مصادر عديدة ، والبداية والنهاية ج 8 ص 106 و 107 وتقييد العلم ص 50 و 51 و 52 و 53 ومستدرك الحاكم ج 1 ص 102 و 110 وتاريخ الخلفاء ص 138 عن السلفي في الطيورات بسند صحيح ، ومسكل الآثار ج 1 ص 499 حتى 501 ومسند أحمد ص 157 و ج 4 ص 370 و 99 و ج 3 ص 19 والدر المنثور ج 4 ص 159 ووفاء الوفاء ج 1 ص 488 و 483 وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 6 ص 114 وحلية الأولياء ج 1 ص 160 ومآثر الإناقة. وراجع أيضاً : تاريخ الخلفاء ص 138 والمجروحون ج 1 ص 35 / 36.

ونقل أيضاً في الغدير ج 6 ص 294 حتى 302 و 265 و 263 و 158 و ج 10 ص 351 و 352 عن المصادر التالية : الكامل لابن الاثير ج 2 ص 227 وابن الشحنة بهامشه ج 7 ص 176 وفتوح البلدان ص 53 وصحيح البخاري ط الهند ج 3 ص 837 وسنن أبي داود ج 2 ص 340 وصحيح مسلم ج 2 ص 234 كتاب الأدب انتهى.

ونقله في النص والاجتهاد ص 151 عن المصادر التالية : كنز العمال ج 5 ص 239 رقم 4845 و 4860 و 4865 و 4861 و 4862 والأم للشافعي ، وشرح النهج للمعتزلي ج 3 ص 120 والمعتصر من المختصر ج 1 ص 459 وابن كثير في مسند الصديق وصفين ص 248 والتاج المكلل ص 265 وشرح صحيح مسلم للنووي ج 7 ص 127.

ونقل أيضاً عن المصادر التالية : قبول الأخبار للبلخي ص 29 ، والمحدث الفاصل ص 133 والبخاري بحاشية السندي ج 4 ص 88 وصحيح مسلم ج 3 ص 1311 و 1694 والموطأ ج 2 ص 964 ورسالة الشافعي ص 435 ومختصر جامع بيان العلم

٩١

ي ـ تشجيع القصاصين ورواية الإسرائيليات :

مع تشجيعهم للقصاصين ، ولرواية الإسرائيليات.

وقد وضعوا الأحاديث المؤيدة لذلك(1) .

ثم السماح بالرواية لأشخاص معينين ، دون من عداهم(2) حتى إن أبا

__________________

=

ص 32 و 33. وثمة مصادر أخرى لامجال لتتبعها..

1 ـ راجع فيما تقدم حول رواية الاسرائيليات وتشجيع القصاصين ، المصادر التالية : التراتيب الإدارية ج 2 ص 224 حتى 227 و 238 و 338 و 345 و 325 و 326 و 327 وأضواء على السنة المحمدية ص 124. حتى 126 و 145 حتى 192 وشرف أصحاب الحديث ص 14 و 15 و 16 و 17 وفجر الإسلام ص 158 حتى 162 وبحوث في تاريخ السنة المشرفة ص 34 حتى 37 والزهد والرقائق ص 17 و 508 وتقييد العلم ص 34 وفي هامشه عن حسن التنبيه ص 192 وعن مسند أحمد ج 3 ص 12 و 13 و 56. وراجع أيضاً : جامع بيان العلم ج 2 ص 50 و 53 ، ومجمع الزوائد ج 1 ص 150 و151 و 191 و 192 و 189 والمصنف لعبد الرزاق ج 6 ص 109 و 110 وهوامشه ومشكل الآثار ج 1 ص 40 و 41 والبداية والنهاية ج 1 ص 6 و ج 2 ص 132 و 134 وكشف الأستار ج 1 ص 120 و 122 و 108 و 109 وحياة الصحابة ج 3 ص 286.

2 ـ راجع : الصحيح من سيرة النبي ج 1 ص 26.

بل لم يسمحوا بالفتوى إلا للأمراء ، راجع : جامع بيان العلم ج 2 ص 175 203 وراجع ص 194 و 174 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 4 ص 62 وسنن الدرامي ج 1 ص 61 والتراتيب اللإدارية ج 2 ص 367 و 368 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 179 ط ليدن و 258 ط صادر وكنز العمال ج 10 ص 185 عن غير واحد وعن الدينوري في المجالسة ، وعن ابن عساكر. والمصنف لعبد الرزاق ج 8 ص 301 وفي هامشه عن أخبار القضاة لوكيع ج 1 ص 83.

بل إن عثمان يتوعد رجلاً بالقتل ، إن كان قد استفتى أحداً غيره ، راجع تهذيب تاريخ دمشق ج 1 ص 54 وحياة الصحابة ج 2 ص 390 / 391 عنه

٩٢

موسى ليمسك عن الحديث ، حتى يعلم ما أحدثه عمر(1) .

أضف إلى ذلك كله : حبسهم لكبار الصحابة بالمدينة ، وعدم توليتهم الأعمال الجليلة ، خوفاً من نشر الحديث ، ومن استقلالهم بالأمر(2) : وذلك بعد أن قرروا عدم السماح بالفتوى إلا للأمراء كما أوضحناه في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ك : لا خير في الإمارة لمؤمن :

وإذا كان الأمراء هم الذين ينفذون هذه السياسات ، وقد يتردد المؤمنون منهم في تنفيذها على النحو الأفضل والأكمل ، فقد اتجه العلم نحو الفجار ليكونوا هم أعوانه وأركانه.

وقد رووا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنه قال : لا خير في الإمارة لرجل مؤمن(3) .

__________________

1 ـ مسند أحمد ج 4 ص 393 وفي ص 372 يمتنع أنس عن الحديث.

2 ـ راجع : تاريخ الطبري حوادث سنة 35 ج 3 ص 426 ومروج الذهب ج 2 ص 321 و 322 وراجع مستدرك الحاكم ج 3 ص 120 و ج 1 ص 110 وكنز العمال ج 10 ص 180 وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 7 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 20 ص 20 وسيرة الأئمة الإثني عشر ج 1 ص 317 و 334 و 365 وراجع : التاريخ الإسلامي والمذهب المادي في التفسير ص 208 و 209 والفتنة الكبرى ص 17 و 46 و 77 وشرف أصحاب الحديث ص 87 ومجمع الزوائد ج 1 ص 149 وطبقات ابن سعد ج 4 ص 135 و ج 2 قسم 2 ص 100 و 112 وحياة الصحابة ج 2 ص 40 و 41 و ج 3 ص 272 و 273 عن الطبري ج 5 ص 134 وعن كنز العمال ج 7 ص 139 و ج 5 ص 239.

وفي هذا الأخير عن ابن عساكر : أن عمر بن الخطاب جمع الصحابة من الآفاق ووبخهم على إفشائهم الحديث.

3 ـ البداية والنهاية ج 5 ص 83 ومجمع الزوائد ج 5 ص 204 عن الطبراني. وحياة الصحابة ج 1 ص 198 / 199 عنهما وعن كنز العمال ج 7 ص 38 وعن البغوي وابن

=

٩٣

وقد قال حذيفة لعمر : إنك تستعين بالرجل الفاجر. فقال : إني أستعمله لأستعين بقوته ، ثم أكون على قفائه.

وذكر أيضاً : أن عمر قال غلبني أهل الكوفة ، استعمل عليهم المؤمن فيضعف ، واستعمل الفاجر ، فيفجر(1) .

ل : أينعت الثمار واخضرّ الجناب :

وبعد ذلك كله فقد تهيأت الفرصة لمن سمح لهم بالرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن بني إسرائيل ، لأن يمدّوا الأمة بما يريدون ، ويتوافق مع أهدافهم ومراميهم ، من أفكار ومعارف ، وأقوال ومواقف ، حقيقية ، أو مزيفة

ثم تحريف ، بل وطمس الكثير من الحقائق التي رأوا أنها لا تتناسب مع أهدافهم ، ولا تخدم مصالحهم.

بل لقد طمست معظم معالم الدين ، ومحقت أحكام الشريعة ، كما أكدته نصوص كثيرة(2) .

بل يذكرون : أنه لم يصل إلى الأمة سوى خمس مئة حديث في أصول

__________________

= عساكر وغيرهما.

1 ـ الفائق للزمخشري ج 3 ص 215 و ج 2 ص 445 والنصائح الكافية ص 175 ولسان العرب ج 13 ص 346 و ج 11 ص 452. والاشتقاق ص 179.

2 ـ راجع الصحيح من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ج 1 ص 27 ـ 30 بالإضافة إلى : المصنف ج 2 ص 63و مسند أبي عوانة ج 2 ص 105 والبحر الزخار ج 2 ص 254 وكشف الأستار عن مسند البزار ج 1 ص 260 ومسند أحمد ج 4 ص 428 و 429 و 432 و 441 و 444 والغدير ج 8 ص 166 ، وراجع أيضاً مروج الذهب 3 ص 85 ومكاتيب الرسول ج 1 ص 62.

٩٤

لأحكام ومثلها من أصول السنن(1) الأمر ، الذي يلقي ضلالاً ثقيلة من الشك والريب في عشرات بل مئات الألوف ، بل في الملايين(2) من الأحاديث ، التي يذكرون : أنها كانت عند الحفاظ ، أو لاتزال محفوظة في بطون الكتب إلى الأن. ولأجل ذلك ، فإننا نجدهم يحكمون بالكذب والوضع على عشرات بل مئات الألوف منها(3) .

وقد بلغ الجهل بالناس : أننا نجد جيشاً بكامله ، لايدري : أن من لم يُحْدِث ، فلا وضوء عليه ، « فأمر ( أبو موسى ) مناديه : ألا ، لا وضوء إلا على من أحدث. قال : أوشك العلم أن يذهب ويظهر الجهل ، حتى يضرب الرجل أمه بالسيف من الجهل »(4) .

بل لقد رأينا : أنه : « قد أطبقت الصحابة إطباقاً واحداً على ترك كثير من النصوص ، لما رأوا المصلحة في ذلك »(5) .

ويقول المعتزلي الشافعي عن عليعليه‌السلام : « وإنما قال أعداؤه : لا رأي له ؛ لأنه كان متقيداً بالشريعة لا يرى خلافها ولا يعمل بما يقتضي الدين

__________________

1 ـ مناقب الشافعي ج 1 ص 419 وعن الوحي المحمدي لمحمد رشيد رضا ص 243.

2 ـ راجع على سبيل المثال : الكنى والألقاب ج 1 ص 414 ، ولسان الميزان ج 3 ص 405 وتذكرة الحفاظ ج 2 ص 641 و 430 و 434 و ج 1 ص 254 و 276.

وهذا الكتاب مملوء بهذه الأرقام العالية ، فمن أراد فليراجعه.

والتراتيب الإدارية ج 2 ص 202 حتى ص 208 و 407 و 408.

3 ـ راجع لسان الميزان ج 3 ص 405 و ج 5 ص 228 والفوائد المجموعة ص 246 و 427 وتاريخ الخلفاء ص 293 وأنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 3 ص 96 وميزان الاعتدال ج 1 ص 572 و 406 و 509 و 316 و 321 و 12 و 17 و 108 و 148 والكفاية للخطيب ص 36 و سائر الكتب التي تتحدث عن الموضوعات في الأخبار. وراجع : المجرمون لابن حبان ج 1 ص 156 و 185 و 155 و 142 و 96 و 63 و 62 و ص 65 حول وضع الحديث للملوك وراجع أيضاً ج 2 ص 189 و 163 و 138 و ج 3 ص 39 و 63.

4 ـ حياة الصحابة ج 1 ص 505 عن كنز العمال ج 5 ص 114 وعن معاني الآثار للطحاوي ج 1 ص 27.

5 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 12 ص 83.

٩٥

تحريمه. وقد قالعليه‌السلام لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب. وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوقفه ، سواء أكان مطابقاً للشرع أم لم يكن. ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ولا يقف مع ضوابط وقيود يمنتع لأجلها مما يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب »(1) انتهى.

ولعل ما تقدم من موقف عمر من المصريين المعترضين يشير إلى ذلك أيضاً.

كما أن الفقهاء ، قد « رجح كثير منهم القياس على النص ، حتى استحالت الشريعة ، وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة »(2) .

كما أن أبا أيوب الأنصاري لا يجرؤ على العمل بسنة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمن عمر ، لأن عمر كان يضرب من عمل بها(3) .

ويصرح مالك بن أنس ، بالنسبة لغير أهل المدينة من المسلمين بـ : « أن غيرهم إنما العمل فيهم بأمر الملوك »(4) .

وسيأتي المزيد مما يدل على إصرار الخلفاء ، وغير الخلفاء منهم ، على مخالفة أحكام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى من أمثال مروان بن الحكم ، والحجاج بن يوسف.

ماذا بعد أن تمهد السبيل :

وبعد هذا فإن الحكام والأمراء الذين مُنِحُوا ـ دون غيرهم ـ حق

__________________

1 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 28.

2 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 12 ص 84.

3 ـ المصنف ج 2 ص 433.

4 ـ جامع بيان العلم ج 2 ص 194.

٩٦

الفتوى! ، من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب قد أصبح بإمكانهم أن يفتوا بغير علم. بل أن يفتوا بما يعلمون مخالفته لما ورد عن سيد الخلق أجمعين ، محمد رسول الله صلى عليه وآله وسلم ، ما داموا قد أمنوا غائلة اعتراض من يعلمون الحق ، ولم يعد يخشى من انكشاف ذلك للملأ من غيرهم الأمر الذي ربما يؤدي ـ لو انكشف ـ إلى التقليل من شأنهم ، وإضعاف مراكزهم ، ويقلل ويحد من فعالية القرارات والأحكام التي يصدرونها.

كما أن ذلك قد هيأ الفرصة لكل أحد : أن يدعي ما يريد ، وضع له الحديث الذي يناسبه ، بأييداً ، أو نفياً وتفنيداً.

كما أنهم قد أمنوا غائلة ظهور كثير من الأقوال ، والأفعال ، والمواقف النبوية ، والوقائع الثابتة ، التي تم مركز وشخصية من يهتمون بالتنويه باسمه ، وإعلاء قدره وشأنه ، أو ترفع من شأن ومكانة الفريق الآخر : أهل البيتعليهم‌السلام ، ولا سيما سيدهم وعظيمهم أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، وكل من يمت إليه وإليهم بأية صلة أو رابطة ، أو له فيهم هوى ، أو نظرة إيجابية وواقعية ، انطلاقاً مما يملكه من فكر واع ، ووجدان حي.

أضف إلى ذلك كله : أن سياستهم هذه تجاه الحديث ، وسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تنسجم مع رأي بعض الفرق اليهودية ، التي كان لأتباعها نفوذ كبير لدى الحكام آنئذ(1) .

ولسنا هنا في صدد شرح ذلك.

وعلي عليه‌السلام ماذا يقول :

هذا ولكننا نجد أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وشيعته ، والواعين من رجال هذه الأمة ، قد تصدوا لهذه الخطة بصلابة وحزم ، حتى لقد رفضعليه‌السلام في الشورى عرض الخلافة في مقابل اشتراط العمل بسنة الشيخين. وقد

__________________

1 ـ راجع كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ج 1 ص 26 / 27 متناً وهامشاً.

٩٧

طردعليه‌السلام القصاصين من المساجد ، ورفع الحظر المفروض على رواية الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) .

وقد رووا عنه : أنهعليه‌السلام قال : « قيدوا العلم ، قيدوا العلم » مرتين. ونحوه غيره(2) .

كما أنهعليه‌السلام يقول :

« من يشتري منا علماً بدرهم؟ قال الحارث الأعور : فذهبت فاشتريت صحفاً بدرهم ، ثم جئت بها ».

وفي بعض النصوص : « فاشترى الحارث صحفاً بدرهم ، ثم جاء بها علياً ، فكتب له علماً كثيراً »(3) .

وعن عليعليه‌السلام قال تزاوروا ، وتذاكروا الحديث ، ولا تتركوه يدرس(4) .

وعنهعليه‌السلام : « إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بإسناده ، فإن يك حقاً كنتم شركاء في الأجر ، وإن يك باطلاً كان وزره عليه »(5) . ومثل ذلك كثير

__________________

1 ـ سرگذشت حديث ( فارسي ) هامش ص 28 وراجع كنز العمال ج 10 ص 171 و 172 و122.

2 ـ تقييد العلم ص 89 و 90 وبهامشه قال : « وفي حض عليّ على الكتابة انظر : معادن الجوهر للأمين العاملي 1 : 3 ».

3 ـ التراتيب الإدارية ج 2 ص 259 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 116 ط ليدن و ص 68 ط صادر وتاريخ بغداد ج 8 ص 357 وكنز العمال ج 10 ص 156 وتقييد العلم ص 90 وفي هامشه عمن تقدم وعن كتاب العلم لابن أبي خيثمة 10 والمحدث الفاصل ج 4 ص 3.

4 ـ كنز العمال ج 10 ص 189.

5 ـ كنز العمال ج 10 ص 129 ورمز له بـ ( ك ، وأبو نعيم ، وابن عساكر ).

٩٨

عنهعليه‌السلام (1) .

والإمام الحسن عليه‌السلام أيضاً :

وفي مجال العمل على إفشال هذه الخطة تجاه العلم والحديث ، وكتابته ، وكسر الطوق المفروض ، نجد النص التاريخي يقول : « دعا الحسن بن علي بنيه ، وبني أخيه ، فقال : « يا بني ، وبني أخي ، إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين ، فتعلموا العلم ، فمن لم يستطع منكم أن يرويه ، فليكتبه ، وليضعه في بيته »(2) .

ثم روى الخطيب ما يقرب من ذلك عن الحسين بن عليعليه‌السلام ، ثم قال : « كذا قال : جمع الحسين بن علي. والصواب : الحسن ، كما ذكرناه أولاً ، والله أعلم »(3) .

ولسنا هنا في صدد تفصيل ذلك ، ونسأل الله أن يوفقنا للتوفر على دراسة هذه الناحية في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.

مشرعون جدد ، أو أنبياء صغار :

وطبيعي بعد ذلك كله وبعد أن كانت السياسة تقضي بتقليص نسبة

__________________

1 ـ راجع على سبيل المثال كنز العمال ج 10 كتاب العلم

2 ـ تقييد العلم ص 91 ونور الأبصار ص 122 وكنز العمال ج 10 ص 153 وسنن الدرامي ج 1 ص 130 وجامع بيان العلم ج1 ص 99 ، والعلل ومعرفة الرجال ج 1 ص 412 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 227 وفي هامش تقييد العلم عن بعض من تقدم ، وعن تاريخ بغداد ج 6 ص 399 ، ولم أجده ، وعن ربيع الأبرار 12 عن عليعليه‌السلام وراجع أيضاً التراتيب الإدارية ج 2 ص 246 / 247 عن ابن عساكر ، وعن البيهقي في المدخل.

3 ـ تقييد العلم ص 91.

٩٩

الاحترام للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والعمل على علو نجم قوم ، ورفعة شأنهم ، وأقول نجم آخرين ، والحط منهم وبعد أن مست الحاجة إلى المزيد من الأحكام الإسلامية ، والتعاليم الدينية ـ كان من الطبيعي ـ أن تعتبر أقوال الصحابة ، ولا سيما الخليفتين الأول ، والثاني ـ سنة كسنة النبي ، بل وفوق سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ساعد الحكام أنفسهم ـ لمقاصد مختلفة ـ على هذا الامر. وكنموذج مما يدل على ذلك ، وعلى خطط الحكام في هذا المجال ، نشير إلى قول البعض : « أنا زميل محمد » بالإضافة إلى ما يلي :

1 ـ « قال الشهاب الهيثمي في شرح الهمزية على قول البوصيري عن الصحابة : « كلهم في أحكامه ذو اجتهاد : أي صواب »(1) .

2 ـ وقال الشافعي : « لا يكون لك أن تقول إلا عن أصل ، أو قياس على أصل. والأصل كتاب ، أو سنة ، أو قول بعض أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو إجماع الناس »(2) .

3 ـ وقال البعض عن الشافعية : « والعجب! منهم من يستجيز مخالفة الشافعي لنص له آخر في مسألة بخلافه ، ثم لا يرون مخالفته لأجل نص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(3) .

4 ـ ويقول أبو زهرة بالنسبة لفتاوى الصحابة : « وجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم على أنها من السنة ، ويوازن بينها وبين الأخبار المروية ، إن تعارض الخبر مع فتوى صحابي. وهذا ينسحب على كل حديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى ولو كان صحيحاً »(4) .

ولا بأس بمراجعة كلمات الشوكاني في هذا المجال أيضاً(5) .

__________________

1 ـ التراتيب الإدارية ج 2 ص 366.

2 ـ مناقب الشافعي ج 1 ص 367 ، وراجع ص 450.

3 ـ مجموعة المسائل المنيرية ص 32.

4 ـ ابن حنبل لأبي زهرة ص 251 / 255 ومالك ، لأبي زهرة ص 290.

5 ـ ابن حنبل لأبي زهرة ص 254 / 255 عن إرشاد الفحول للشوكاني ص 214.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

شيءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (١) .

وقد نقل المفسّرون حول نزول الآيات وما بينهما من الآيات روايات رووها بطرق مختلفة، نذكر ما ذكره ابن جرير الطبري، عن ابن زيد قال: كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرحه على يهودي، فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت علىّ وكان للرجل الذي سرق جيران يبرؤونه ويطرحونه على اليهودي، ويقولون: يا رسولَ الله إنّ هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به، قال: حتى مال عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض القول فعاتبه الله عزّ وجلّ في ذلك فقال:( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً ) (٢) .

أقول : سواء أصحّت هذه الرواية أم لا، فمجموع ما ورد حول الآيات من أسباب النزول متفق على أنّ الآيات نزلت حول شكوى رُفعت إلى النبي، وكان كل من المتخاصمين يسعى ليبرئ نفسه ويتّهم الآخر، وكان في جانب واحد منهما رجل طليق اللسان يريد أن يخدع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض تسويلاته ويثير عواطفه على المتهم البريء حتى يقضي على خلاف الحق، وعند ذلك نزلت الآية ورفعت النقاب عن وجه الحقيقة فعرف المحق من المبطل.

والدقّة في فقرات الآية الثانية يوقفنا على سعة عصمة النبي من الخطأ وصيانته من السهو؛ لأنّها مؤلّفة من فقرات أربع، كل يشير إلى أمر خاص:

١ -( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا

____________________

١ - النساء: ١١٣.

٢ - تفسير الطبري: ٤/١٧٢.

٣٠١

يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شيءٍ ) .

٢ -( وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) .

٣ -( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) .

٤ -( وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) .

فالأُولى منها: تدل على أنّ نفس النبيّ بمجرّدها لا تصونه من الضلال ( أي من القضاء على خلاف الحق ) وإنّما يصونه سبحانه عنه، ولولا فضل الله ورحمته لهمّت طائفة أن يرضوه بالدفاع عن الخائن والجدال عنه، غير أنّ فضله العظيم على النبي هو الذي صدّه عن مثل هذا الضلال وأبطل أمرهم المؤدّي إلى إضلاله، وبما أنّ رعاية الله سبحانه وفضله الجسيم على النبي ليست مقصورة على حال دون حال، أو بوقت دون وقت آخر، بل هو واقع تحت رعايته وصيانته منذ أن بُعث إلى أن يلاقي ربَّه، فلا يتعدّى إضلال هؤلاء أنفسهم ولا يتجاوز إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهم الضالّون بما همّوا به كما قال:( وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شيءٍ ) .

والفقرة الثانية: تشير إلى مصادر حكمه ومنابع قضائه، وأنّه لا يصدر في ذلك المجال إلاّ عن الوحي والتعليم الإلهي، كما قال سبحانه: ( وأنزل عليك الكتاب والحكمة ) والمراد المعارف الكلّيّة العامة من الكتاب والسنّة.

ولما كان هذا النوع من العلم الكلي أحد ركني القضاء وهو بوحده لا يفي بتشخيص الموضوعات وتمييز الصغريات، فلابد من الركن الآخر وهو تشخيص المحق من المبطل، والخائن من الأمين، والزاني من العفيف، أتى بالفقرة الثالثة وقال:( وعلّمك ما لم تكن تعلم ) ومقتضى العطف، مغائرة المعطوف، مع المعطوف عليه، فلو كان المعطوف عليه ناظراً إلى

٣٠٢

تعرّفه على الركن الأوّل وهو العلم بالأصول والقواعد الكليّة الواردة في الكتاب والسنّة، يكون المعطوف ناظراً إلى تعرّفه على الموضوعات والجزئيات التي تعد ركناً ثانياً للقضاء الصحيح، فالعلم بالحكم الكلّي الشرعي وتشخيص الصغريات وتمييز الموضوعات جناحان للقاضي، يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق من دون أن يجنح إلى جانب الباطل، أو يسقط في هوّة الضلال.

قال العلاّمة الطباطبائي: إنّ المراد من قوله سبحانه:( وعلّمك ما لم تكن تعلم ) ليس علمه بالكتاب والحكمة، فإنّ مورد الآية، قضاء النبي في الحوادث الواقعة، والدعاوى المرفوعة إليه، برأيه الخاص، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء، وإن كان متوقّفاً عليهما، بل المراد رأيه ونظره الخاص(١) ولمّا كان هنا موضع توهّم وهو أنّ رعاية الله لنبيّه تختص بمورد دون مورد، دفع ذلك التوهّم بالفقرة الرابعة فقال سبحانه:( وكان فضل الله عليك عظيماً ) حتى لا يتوهّم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أُخرى، بل مقتضى عظمة الفضل، سعة شموله لكل الوقائع والحوادث، سواء أكانت من باب المرافعات والمخاصمات، أم الأمور العادية، فتدل الفقرة الأخيرة على تعرّفه على الموضوعات ومصونيته عن السهو والخطاء في مورد تطبيق الشريعة، أو غيره، ولا كلام أعلى وأغزر من قوله سبحانه في حق حبيبه:( وكان فضل الله عليك عظيماً ) .

٢ - قال سبحانه:( وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (٢) .

إنّ الشهادة المذكورة في الآية حقيقة من الحقائق القرآنية تكرّر ذكرها في كلامه سبحانه، قال تعالى:( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤلاَءِ شَهِيداً ) (٣) .

وقال تعالى:( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ

____________________

١ - الميزان: ٥/٨١.

٢ - البقرة: ١٤٣.

٣ - النساء: ٤١.

٣٠٣

كُلِّ أُمّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (١) .

وقال تعالى:( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) (٢) والشهادة فيها مطلقة، وظاهر الجميع هو الشهادة على أعمال الأُمم وعلى تبليغ الرسل كما يومي إليه قوله تعالى:( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (٣) وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة ويوم القيامة لكن يتحمّلها الشهود في الدنيا على ما يدل عليه قوله سبحانه حكاية عن عيسى:( وكُنْتُ عَلَيِهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فلمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأنْتَ عَلَى كُلِّ شيءٍ شَهِيدٌ ) (٤) .

وقال سبحانه:( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) (٥) ومن الواضح أنّ الشهادة فرع العلم، وعدم الخطأ في تشخيص المشهود به، فلو كان النبي من الشهداء يجب ألاّ يكون خاطئاً في شهادته، فالآية تدلّ على صيانته وعصمته من الخطأ في مجال الشهادة كما تدلّ على سعة علمه؛ لأنّ الحواس لا ترشدنا إلاّ إلى صور الأعمال والأفعال، والشهادة عليها غير كافية عند القضاء، وإنّما تكون مفيدة إذا شهد على حقائقها من الكفر والإيمان، والرياء والإخلاص، وبالجملة على كل خفي عن الحس ومستبطن عند الإنسان، أعني ما تكسبه القلوب وعليه يدور حساب ربّ العالمين، قال تعالى:( وَلَكِن يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) (٦) ، ولا شك أنّ الشهادة على حقائق أعمال الأُمّة خارج عن وسع الإنسان العادي إلاّ إذا تمسّك

____________________

١ - النحل: ٨٤.

٢ - الزمر: ٦٩.

٣ - الأعراف: ٦.

٤ - المائدة: ١١٧.

٥ - النساء: ١٥٩.

٦ - البقرة: ٢٢٥.

٣٠٤

بحبل العصمة وولي أمر الله بإذنه، ولنا في الاَجزاء الآتية من هذه الموسوعة بحث حول الشهداء في القرآن، فنكتفى بهذا القدر في المقام.

ثم إنّ العلاّمة الحجّة السيد عبد الله شبر أقام دلائل عقلية ونقلية على صيانة النبي عن الخطأ ولكن أكثرها كما صرّح به نفسه - قدس الله سره - مدخولة غير واضحة، ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى كتابه(١)

أدلّة المخطّئة

إنّ بعض المخطّئة استدلّ على تطرّق الخطأ والنسيان إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض الآيات غافلة عن أهدافها، وإليك تحليلها:

١ - قال سبحانه:( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمينَ ) (٢) .

زعمت المخطّئة أنّ الخطاب للنبي وهو المقصود منه، غير أنّها غفلت عن أنّ وزان الآية وزان سائر الآيات التي تقدّمت في الأبحاث السابقة، وقلنا بأنّ الخطاب للنبي ولكن المقصود منه هو الأُمّة، ويدل على ذلك، الآية التالية لها قال:( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِن شيءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (٣) ، فإنّ المراد أنّه ليس على المؤمنين الذين اتقوا معاصي الله من حساب الكفرة شيء بحضورهم مجلس الخوض، وهذا يدل على أنّ النهي عن الخوض تكليف

____________________

١ - مصابيح الأنوار في حلّ مشكلات الأخبار: ٢/١٢٨ - ١٤٠.

٢ - الأنعام: ٦٨.

٣ - الأنعام: ٦٩.

٣٠٥

عام يشترك فيه النبي وغيره، وإنّ الخطاب للنبي لا ينافي كون المقصود هو الأُمّة.

والأوضح منها دلالة على أنّ المقصود هو الأُمّة قوله سبحانه:( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) (١) .

والآية الأخيرة مدنية، والآية المتقدّمة مكّيّة، وهي تدل على أنّ الحكم النازل سابقاً متوجّه إلى المؤمنين وإنّ الخطاب وإن كان للنبي لكن المقصود منه غيره.

٢ -( وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُر رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يهديني رَبِّى لأقربَ مِنْ هَذَا رَشَداً ) (٢) والمراد من النسيان نسيان الاستثناء ( إلاّ أن يشاء الله ) ووزان هذه الآية، وزان الآية السابقة في أنّ الخطاب للنبي والمقصود هو الأُمّة.

٣ -( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ) (٣) ، ومعنى الآية سنجعلك قارئاً بإلهام القراءة فلا تنسى ما تقرأه، لكنّ المخطّئة استدلّت بالاستثناء الوارد بعده، على إمكان النسيان، لكنّها غفلت عن نكتة الاستثناء، فإنّ الاستثناء في الآية نظير الاستثناء في قوله سبحانه:( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمواتُ وَالأرضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (٤) ، ومن المعلوم أنّ الوارد إلى الجنّة لا يخرج منها، ولكن

____________________

١ - النساء: ١٤٠.

٢ - الكهف: ٢٣ - ٢٤.

٣ - الأعلى: ٦ - ٧.

٤ - هود: ١٠٨.

٣٠٦

الاستثناء لأجل بيان أنّ قدرة الله سبحانه بعد باقية، فهو قادر على الإخراج مع كونهم مؤبّدين في الجنّة، وأمّا الآية فالاستثناء فيها يفيد بقاء القدرة الإلهية على إطلاقها، وإنّ عطية الله أعني ( الإقراء بحيث لا تنسى ) لا ينقطع عنه سبحانه بالإعطاء، بحيث لا يقدر بعد على إنسائك، بل هو باق على إطلاق قدرته، فلو شاء أنساك متى شاء، وإن كان لا يشاء ذلك.

وبما أنّ البحث مركّز على عصمة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخطأ والنسيان دون سائر الأنبياء، ذكرنا الآيات التي استدلّت بها المخطّئة على ما تتبنّاه في حق النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا بيان الآيات التي يمكن أن يستدل بها على إمكان صدور السهو والنسيان عن سائر الأنبياء وتفسيرها فمتروك إلى مجال آخر، ونقول على وجه الإجمال: إنّه يستظهر من بعض الآيات صحّة نسبة النسيان إلى غير النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أعني قوله سبحانه:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (١) .

وقوله سبحانه في حق موسى:( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ) (٢) .

وقوله سبحانه أيضاً عنه:( فَإِنّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) (٣) .

وقوله سبحانه في حقّه أيضاً:( لا تُؤاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) (٤) .

لكنّ البحث عن مفاد هذه الآيات موكول إلى مجالٍ آخر.

____________________

١ - طه: ١١٥.

٢ - الكهف: ٦١.

٣ - الكهف: ٦٣.

٤ - الكهف: ٧٣.

٣٠٧

بقي هنا أمران:

الأوّل: ما هي النظرية السائدة بين الإمامية في مسألة سهو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

الثاني: كيفية معالجة المأثورات الظاهرة في صدور السهو عن النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

وإليك بيان الأمرين على نحو الإجمال:

١ - الرأي السائد بين الإماميّة حول سهو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

يظهر من الشيخ الصدوق أنّ إنكار سهو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان شعار الغلاة والمفوّضة، قال في كتابه ( مَن لا يحضره الفقيه ): إنّ الغلاة والمفوّضة ينكرون سهو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقولون: لو جاز أن يسهو في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ؛ لأنّ الصلاة عليه فريضة كما أنّ التبليغ عليه فريضة.

ثم أجاب عنه بقوله: وهذا لا يلزمنا؛ وذلك لأنّ جميع الأحوال المشتركة يقع على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها ما يقع على غيره فالحالة التي اختصّ بها هي النبوّة، والتبليغ من شرائطها، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع عليه في الصلاة؛ لأنّها عبادة مخصوصة، والصلاة عبادة مشتركة، وبها تثبت له العبودية، وبإثبات النوم له عن خدمة ربّه عزّ وجلّ من غير إرادة له وقصد منه إليه، نفي الربوبية عنه؛ لأنّ الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم هو الله الحي القيّوم وليس سهو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كسهونا؛ لأنّ سهوه من الله عزّ وجلّ، وإنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق فلا يتخذ ربّاً معبوداً دونه، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا، وسهونا عن الشيطان، وليس للشيطان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة - صلوات الله عليهم - سلطان( إنّما سُلطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَولَّوْنَهُ والَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشركون ) (١) وعلى مَن تبعه من الغاوين.

____________________

١ - النحل: ١٠٠.

٣٠٨

ثم نقل عن شيخه محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (المتوفّ-ى ٣٤٣ ه-) أنّه كان يقول: أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وحاصل كلامه: إنّ السهو الصادر عن النبي إسهاء من الله إليه لمصلحة، كنفي وهم الربوبية عنه، وإثبات أنّه بشر مخلوق، وإعلام الناس حكم سهوهم في العبادات وأمثالها، وأمّا السهو الذي يعترينا من الشيطان فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه بريء، وهو منزّه عنه، وليس للشيطان عليه سلطان ولا سبيل.

ومع ذلك كلّه، فهذه النظرية مختصة به، وبشيخه ابن الوليد، ومَن تبعهما كالطبرسي في ( مجمعه ) على ما سيأتي؛ والمحقّقون من الإمامية متفقون على نفي السهو عنه في أُمور الدين حتى مثل الصلاة.

قال المفيد: أقول إنّ الأئمّة القائمين مقام الأنبياء:في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وحفظ الشرائع وتأديب الأنام معصومون كعصمة الأنبياء، وإنّه لا يجوز منهم سهو في شيء في الدين، ولا ينسون شيئاً من الأحكام، وعلى هذا مذهب سائر الإمامية إلاّ مَن شذّ منهم وتعلّق بظاهر روايات لها تأويلات على خلاف ظنّه الفاسد من هذا الباب، والمعتزلة بأسرها تخالف في ذلك ويجوّزون من الأئمّة وقوع الكبائر والردّة عن الإسلام(٢) .

وقال في شرحه على عقائد الصدوق: فأمّا نص أبى جعفر -رحمه‌الله - بالغلو على مَن نسب مشايخ القمّيّين وعلمائهم ( الذين جوّزوا السهو على النبي ) إلى التقصير، فليس نسبة هؤلاء القوم إلى التقصير علامة على غلو الناس، إذ في جملة المشار إليهم بالشيخوخة والعلم مَن كان مقصّراً، وإنّما يجب الحكم بالغلو على مَن

____________________

١ - مَن لا يحضره الفقيه: ١/٢٣٢.

٢ - أوائل المقالات: ٣٥.

٣٠٩

نسب المحقّقين إلى التقصير سواء أكانوا من أهل قم أم من غيرها من البلاد ومن سائر الناس، وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد -رحمه‌الله - لم نجد لها دافعاً وهي ما حكي عنه أنّه قال: أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمامعليه‌السلام .

ثم إنّ الشيخ المفيد لم يكتف بهذا القدر من الرد بل ألّف رسالة مفردة في ردّه، وقد أدرجها العلاّمة المجلسي في ( بحاره )(١) .

وعلى هذا الرأي استقرّ رأي الإمامية، فقال المحقّق الطوسي: وتجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق وعدم السهو.

وقال العلاّمة الحلّي في شرحه: وأن لا يصح عليه السهو لئلاّ يسهو عن بعض ما أُمر بتبليغه(٢) وقال المحقّق الحلّي في ( النافع ): والحق رفع منصب الإمامة عن السهو في العبادة(٣) .

وقال العلاّمة في ( المنتهى ) في مسألة التكبير في سجدتي السهو: احتجّ المخالف بما رواه أبو هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال: ثم كبّر وسجد.

والجواب: هذا الحديث عندنا باطل، لاستحالة السهو على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقال في مسألة أُخرى: قال الشيخ: وقول مالك باطل، لاستحالة السهو على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) .

____________________

١ - راجع البحار: ١٧/١٢٢ - ١٢٩.

٢ - كشف المراد: ١٩٥.

٣ - النافع: ٤٥.

٤ - منتهى المطلب: ٤١٨ - ٤١٩.

٣١٠

وقال الشهيد في ( الذكرى ): وخبر ذي اليدين متروك بين الإمامية، لقيام الدليل العقلي على عصمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن السهو، لم يصر إلى ذلك غير ابن بابويه(١) .

هذا هو الرأي السائد بين الإمامية، ولم يشذّ عنهم أحد من المتأخّرين سوى أمين الإسلام الطبرسي في ( تفسيره ) حيث قال: وأمّا النسيان والسهو فلم يُجْوّزوهما عليهم فيما يؤدّونه عن الله تعالى، وأمّا ما سواه فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل(٢) .

وأمّا غيره، فلم نجد مَن يوافقه، ومَن أراد التفصيل فليرجع إلى المصادر المذكورة في الهامش(٣) .

وقد قام العلاّمة المجلسي بإيفاء حق المقام في ( بحاره )(٤) .

٢ - كيفية معالجة المأثورات حول سهو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

روى الفريقان أحاديث حول سهو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

روى البخاري في كتاب الصلاة، باب ( مَن يكبّر في سجدتي السهو ) عن أبي هريرة قال: صلّى النبي إحدى صلاتي العشية ركعتين، فقالوا: أقصرت الصلاة ؟ ورجل يدعوه النبي ذو اليدين، فقال: أنسيت الصلاة أم قصرت ؟ فقال:

____________________

١ - الذكرى: ٢١٥.

٢ - مجمع البيان: ٢/٣١٧.

٣ - حق اليقين في معرفة أُصول الدين: للسيد عبد الله شبر: ١/١٢٤؛ مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار، له أيضاً: ٢/١٣٤ - ١٤٢؛ تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى، منهج الصادقين: ٣/٣٩٣، و ٥/٣٤٦.

٤ - لاحظ البحار: ١٧/٩٧ - ١٢٩.

٣١١

لم أنس ولم تقصر، قال: بلى قد نسيت فصلّى ركعتين ثم سلّم، ثم كبّر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبّر، ثم وضع رأسه فكبّر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبّر(١) . هذا ما رواه أهل السنّة كما رووا غيره أيضاً.

أمّا الشيعة فقد رووا أحاديث حول الموضوع نقلها العلاّمة المجلسي في ( بحاره )(٢) ولا يتجاوز مجموع ما ورد في هذا الموضوع عن اثني عشر حديثاً، كما أنّ أخبار نوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن صلاة الصبح لا تتجاوز عن ستة أحاديث(٣) .

لكنّ الجواب عن هذه الروايات بأحد أمرين:

الأوّل: ما ذكره المفيد في الرسالة المومأ إليها من أنّها أخبار آحاد لا تثمر علماً، ولا توجب عملاً، ومَن عمل على شيء منها فعلى الظن يعتمد في عمله بها دون اليقين(٤) .

الثاني: ما ذكره الصدوق من التفريق بين سهو النبي وسهو الآخرين بما عرفت، والله العالم بالحقائق.

ثم الظاهر من السيد المرتضى، تجويز النسيان على الأنبياء، حيث قال في تفسير قوله سبحانه:( لاَ تُؤاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) (٥) : إنّ النبي إنّما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤدّيه عن الله تعالى أو في شرعه أو في أمر يقتضي التنفير عنه، فأمّا فيما هو خارج عمّا ذكرناه، فلا مانع من النسيان(٦) .

____________________

١ - صحيح البخاري: ٢/٦٨.

٢ - راجع البحار: ١٧/٩٧ - ١٢٩.

٣ - راجع البحار: ١٧/١٠٠ - ١٠٦.

٤ - البحار: ١٧/١٢٣.

٥ - الكهف: ٧٣.

٦ - تنزيه الأنبياء: ٨٧.

٣١٢

وممّن وافق الصدوق من المتأخّرين، شيخنا المجيز: الشيخ محمد تقي التستري؛ فقد ألّف رسالة في الموضوع نصر فيها الشيخ الصدوق وأُستاذه ابن الوليد، وطبعها في ملحقات الجزء الحادي عشر من رجاله ( قاموس الرجال ) والرسالة تقع في ٢٤ صفحة.

وأمّا العلاّمة المجلسي، فالظاهر منه التوقّف في المسألة، قال: اعلم أنّ هذه المسألة في غاية الإشكال؛ لدلالة كثير من الآيات ( الآيات التي يُستظهر منها نسبة النسيان إلى بعض الأنبياء غير النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قدّمناها ) والأخبار على صدور السهو عنهم، وإطباق الأصحاب إلاّ ما شذّ على عدم جواز السهو عليهم مع دلالة بعض الآيات والأخبار عليه في الجملة، وشهادة بعض الدلائل الكلامية والأُصول المبرهنة عليه، مع ما عرفت في أخبار السهو من الخلل والاضطراب وقبول الآيات للتأويل، والله يهدي إلى سواء السبيل(١) .

ثم إنّ الشيخ المفيد وصف القائل بصدور السهو منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الشيعة بالمقلّدة، وأراد: الصدوق وشيخه ابن الوليد ولكنّ التعبير عنهما بالمقلّدة غير مرضي عندنا، كيف ؟! ويصف الأوّل الرجالي النقّاد النجاشي بقوله: أبو جعفر، شيخنا وفقيهنا، ووجه الطائفة بخراسان، وكان ورد بغداد سنة ٣٥٥ ه-، وسمع منه شيوخ الطائفة، وهو حدث السن(٢) .

ويقول في حق شيخه: أبو جعفر، شيخ القمّيين، وفقيههم، ومتقدّمهم، ووجههم، ويقال: إنّه نزيل قم، وما كان أصله منها، ثقة، ثقة، عين مسكون إليه(٣) .

____________________

١ - البحار: ١٧/١١٨ - ١١٩.

٢ - رجال النجاشي: ٢/٣١١ برقم ١٠٥٠.

٣ - رجال النجاشي: ٢/٣٠١ برقم ١٠٤٣.

٣١٣

والمحمل الصحيح لهذه التعابير ما أشار إليه شاعر الأهرام بقوله:

يشتدّ في سبب الخصومة لهجة

لكن يرق خليقةً وطباعاً

وكذلك العلماء في أخلاقهم

يتباعدون ويلتقون سراعاً

في الحق يختلفون إلاّ أنّهم

لا يبتغون إلى الحقوق ضياعاً

اللّهمّ اغفر للماضين من علمائنا واحفظ الباقين منهم.

٣١٤

٣١٥

الفهرس

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم يبحث عن عصمة الأنبياء ويعالج أدلّة المخطِّئة لها تأليف: العلاّمة المحقّق جعفر السبحاني ١

- أ - مقدّمة الطبعة الأُولى الأنبياء والرسُل في القرآن الكريم ٦

- ب - ٧

- ج - البحث عن العصمة من صميم الحياة ٨

- ه- ٩

- و - لا ذاكرة لكذوب !! ١٠

- ز - ١١

مقدّمة الطبعة الثانية ١٢

مبدأ ظهور نظريّة العصمة ١٤

مبدأ ظهور فكرة العصمة في الأُمّة الإسلامية ١٥

القرآن يطرح مسألة العصمة ١٧

عصمة النبي في القرآن الكريم ١٨

نظريّة أحمد أمين حول كلام الشيعة ١٩

مناقشة نظريّة أحمد أمين ٢٠

عود على بدء ٢٣

ما هي حقيقة العصمة ؟ ٢٦

١ - العصمة الدرجة القصوى من التقوى ٢٨

٢ - العصمة: نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي ٢٩

٣ - الاستشعار بعظمة الربّ وكماله وجماله ٣٢

٣١٦

الروح التي تسدّد الأولياء ٣٤

هل العصمة موهبة إلهيّة أو أمر اكتسابي ؟ ٣٦

العصمة المفاضة كمال لصاحبها ٣٩

كلام السيّد المرتضى ٤٢

هل العصمة تسلب الاختيار ؟ ٤٣

مراحل العصمة ودلالتها ٤٨

المرحلة الأُولى: عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة ٥١

القرآن وعصمة النبي في مجال تلقّي الوحي و ٥٤

المرحلة الثانية: عصمة الأنبياء عن المعصية العقل وعصمة الأنبياء ٦٠

سؤال وجواب ٦١

تقرير المرتضى لهذا البرهان ٦٢

إجابة عن سؤال آخر ٦٥

القرآن وعصمة الأنبياء من المعصية ٦٦

حجّة المخالفين للعصمة الطائفة الأُولى: ما يمسّ ظاهرها عصمة جميع الأنبياء ٧٦

الرابع ( وهو المختار ) ٨٠

١ - ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟ ٨٥

٢ - ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل ؟ ٨٧

٣ - ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟ ٨٩

٤ - ما معنى إحكامه سبحانه آياته ؟ ٩٠

٥ - ما هي النتيجة من هذا الصراع ؟ ٩١

التفسير الباطل للآية ٩٣

الطائفة الثانية ما يمسّ عصمة عدّة خاصّة من الأنبياء - ١ - عصمة آدم عليه‌السلام والشجرة المنهي عنها وجعل الشريك لله ٩٨

التساؤلات حول الآيات ١٠٠

٣١٧

١ - ما هي نوعية النهى في قوله تعالى: ( لا تقربا ) ١٠١

ولتوضيح ذلك نأتي بمثال: ١٠٢

جواب آخر عن الإشكال ١٠٦

جواب ثالث عن الإشكال ٢ - ما معنى وسوسة الشيطان لآدم ؟ ١٠٧

٣ - ماذا يُراد من قوله: ( فأزلّهما الشيطان ) ؟ ٤ - ما معنى قوله: ( وعصى ) و ( فغوى ) ؟ ١٠٩

٥ - ما معنى قول آدم عليه‌السلام : ( ربَّنَا ظَلَمنا أنْفُسَنا ) ؟ ١١٢

٦ - ما المراد من قوله: ( فتاب عليه ) ؟ ١١٣

٧ - ما معنى الغفران في قوله: ( وإن لم تغفر لنا ) ؟ ١١٤

عصمة آدم عليه‌السلام وجعل الشريك لله ! ١١٦

- ٢ - عصمة شيخ الأنبياء نوح عليه‌السلام والمطالبة بنجاة ابنه العاصي ١٢١

جواب ثالث للوجه الثاني ١٢٩

الوجه الثالث: تفسير قوله تعالى: ( وإلاّ تغفر لي وترحمني ) ١٣٠

- ٣ - عصمة إبراهيم الخليل عليه‌السلام والمسائل الثلاث(١) ١٣٢

الآية الأُولى ١٣٣

الآية الثانية ١٣٥

جواب آخر عن السؤال ١٣٨

الآية الثالثة ١٣٩

جواب آخر عن الشبهة ١٤١

- ٤ - عصمة يوسف عليه‌السلام وقول الله: ( وهمّ بها ) يوسف الصدّيق هو الأُسوة ١٤٣

١- ما معنى الهم ؟ ١٤٧

٢ - ما هو جواب لولا ؟ ١٤٨

٣ - ما هو البرهان ؟ ١٥٠

٣١٨

٤ - دلالة الآية على عصمة يوسف عليه‌السلام ١٥١

أسئلة وأجوبة السؤال الأوّل: ١٥٣

السؤال الثاني: ١٥٤

السؤال الثالث: ١٥٥

السؤال الرابع: ١٥٦

المعنى الثاني للآية ١٥٧

المعنى الثالث للآية ١٥٩

- ٥ - عصمة موسى عليه‌السلام وقتل القبطي ومشاجرته أخاه ١٦١

ألف: عصمة موسى عليه‌السلام وقتل القبطي ١٦٢

ب - مشاجرته أخاه هارون عليه‌السلام ١٦٨

- ٦ - عصمة داود عليه‌السلام وقضاؤه في النعجة ١٧٣

١- توضيح المفردات ١٧٤

٢- إيضاح القصّة ١٧٥

٣ - هل الخصمان كانا من جنس البشر ؟ ١٧٦

٤ - كون الاستغفار لأجل ترك الأولى ١٧٧

- ٧ - عصمة سليمان عليه‌السلام ومسألة عرض الصافنات الجياد وطلب الملك ١٧٩

نقد التفسير المفروض على القرآن ١٨٣

الفتنة التي امتحن بها سليمان ١٨٧

- ٨ - عصمة أيّوب عليه‌السلام ومسّ الشيطان له بعذاب ١٩٣

تفسير قوله: ( مسّني الضر ) ١٩٥

تفسير قوله: ( مسّني الشيطان ) ١٩٦

- ٩ - عصمة يونس عليه‌السلام وذهابه مغضباً ٢٠٠

١ - لماذا كُشف العذاب عن قوم يونس دون غيرهم ؟ ٢٠٢

٢ - هل كان كشف العذاب تكذيباً لإيعاد يونس ؟ ٢٠٤

٣١٩

٣ - أسئلة ثلاثة حول عصمته ٢٠٦

الطائفة الثالثة عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما تمسّكت به المخطِّئة ٢١٠

أدلّة المخطِّئة ٢١٤

الأُولى: العصمة والخطابات الحادّة ٢١٥

الآية الثانية: العصمة والعفو والاعتراض ٢١٩

الآية الثالثة: العصمة والأمر بطلب المغفرة ٢٢٣

الآية الرابعة: العصمة وغفران الذنب ٢٢٦

١ - ما هو المراد من الفتح في الآية ؟ ٢٢٧

٢ - ما هو المراد من الذنب ؟ ٢٢٩

٣ - الغفران في اللغة ٢٣٠

٤ - الفتح لغاية مغفرة الذنب ٢٣١

الآية الخامسة: العصمة والتولّي عن الأعمى ٢٣٦

دين النبي الأكرم قبل البعثة ٢٤٢

١ - عبد المطلب وإيمانه ٢٤٣

٢ - شيخ الأباطح أبو طالب وإيمانه ٢٤٨

إيمانه بالله قبل البعثة ٢٤٩

إيمانه بعد البعثة ٢٥٢

إيمان والديّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ٢٥٤

إيمان النبيّ الأكرم قبل البعثة ٢٦١

الشريعة التي كان يعمل بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ٢٦٢

نظرة إجمالية على حياته ٢٦٤

نظرية التوقّف في تعبّده نظرية عمله بالشرائع السابقة ٢٦٧

الوجوه الأخيرة الثلاثة المتقاربة ٢٧١

حاله بعد البعثة ٢٧٣

٣٢٠

321