عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم23%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127736 / تحميل: 8588
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

لانفضّ الناس من حوله قائلين بأنّه لو كان مذعناً بصحّة دعوته لما خالف قوله في مقام العمل.

سؤال وجواب

نعم يمكن أن يقال: يكفي في الاعتماد على النبي مصونيته عن معصية واحدة وهي الكذب، فالبرهان المذكور على تماميته لا يثبت إلاّ مصونيته عن خصوص الكذب لا مطلقاً.

أقول: الإجابة عن هذا السؤال سهلة؛ لأنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا يصح أن تقع أساساً للتربية العامة لما فيها من الإشكالات.

أمّا أوّلاً: فإنّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها عند البحث عن حقيقة العصمة فإن تمّ وجودها أو وجود بعضها تحصل المصونية المطلقة للإنسان، وإلاّ فلا يمكن التفكيك بين الكذب وسائر المعاصي بأن يجتنب الإنسان عن الكذب طيلة عمره ويرتكب سائر المعاصي، فإنّ العوامل التي تسوق الإنسان إلى ارتكابها تسوقه أيضاً إلى اقتراف الكذب واجتياح التهمة.

وأمّا ثانياً: فلو صحّ التفكيك بينهما في عالم الثبوت لا يمكن إثباته ( الداعي لا يكذب أبداً وإن كان يركب سائر المعاصي ) في حق الداعي ومدّعي النبوّة، إذ كيف يمكن الإنسان أن يقف على أنّ مدّعي النبوّة مع ركوبه المعاصي واقترافه للمآثم، لا يكذب أصلاً عندما اضطر إليه حتى ولو صرّح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك، لسرى الريب إلى نفس هذا الكلام أيضاً.

وعلى الجملة: إنّ الهدف من بعث الرسل وإنزال الكتب هو دعوة الناس إلى الهداية الإلهية التي يقوم بأعبائها الأنبياء والرسل، ولا يتحقّق ذلك الهدف إلاّ بعد

٦١

اعتماد الناس على حامل الدعوة والقائم بالهداية، فاقتراف المعاصي ومخالفة ما يدعو إليه من القيم والخلق، يزيل من النفوس الثقة به والاعتماد عليه.

وبهذا البيان تظهر الإجابة عن سؤال لا يقصر في الضآلة عن السؤال الماضي، وهو ما ربّما يقال: إنّ أقصى ما يثبته هذا البرهان هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في المجتمع، وهذا لا يخالف أن يكون عاصياً ومقترفاً للذنوب في الخلوات، وهذا القدر من النزاهة كافٍ في جلب الثقة.

والجواب عن هذا السؤال واضح تمام الوضوح، فإنّ مثل هذا التصوّر عن النبي والقول بأنّه يرتكب المعاصي في السر دون العلن يهدم الثقة به، إذ ما الذي يمنعه - عندئذٍ - من أن يكذب ويتستّر على كذبه، وبذلك تزول الثقة بكل ما يقول ويعمل.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن خداع الناس بتزيين الظاهر مدّة قليلة لا مدّة طويلة، ولا ينقضي زمان إلاّ وقد تظهر البواطن ويرتفع الستار عن حقيقته فتكشف سوأته، ويظهر عيبه.

إلى هنا ظهر أنّ ثقة الناس بالأنبياء إنّما هي في ضوء الاعتقاد بصحّة مقالهم وسلامة أفعالهم، وهو فرع كونهم مصونين عن الخلاف والعصيان في الملأ والخلأ، والسر والعلن، من غير فرق بين معصية دون أُخرى.

تقرير المرتضى لهذا البرهان

إنّ السيد المرتضى قد قرّر هذا البرهان ببيان آخر نأتي به.

قال ما هذا حاصله: إنّ تجويز الكبائر يقدح في ما هو الغرض من بعث الرسل، وهو قبول قولهم وامتثال أوامرهم ولا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى مَن لا نجوّز عليه شيئاً من ذلك، وهذا هو معنى قولنا:

٦٢

إنّ وقوع الكبائر ينفّر عن القبول، والمرجع فيما ينفّر ومالا ينفّر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه، وليس ذلك ممّا يستخرج بالأدلة والمقاييس، ومَن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه، وأنّه من أقوى ما ينفّر عن قبول القول، فإنّ حظ الكبائر في هذا الباب إن لم يزد على حظ السخف والمجون والخلاعة لم ينقص عنه.

فإن قيل: أليس قد جوّز كثير من الناس على الأنبياء: الكبائر مع أنّهم لم ينفّروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرائع، وهذا ينقض قولكم: إنّ الكبائر منفّرة.

قلنا: هذا سؤال مَن لم يفهم ما أوردناه؛ لأنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق وأن لا يقع امتثال الأمر جملة، وإنّما أردنا ما فسّرناه من أنّ سكون النفس إلى قبول قول مَن يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى مَن لا يجوز ذلك عليه وإنّا مع تجويز الكبائر نكون أبعد عن قبول القول، كما أنّا مع الأمان من الكبائر نكون أقرب إلى القبول، وقد يقرب من الشيء ما لا يحصل الشيء عنده، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده.

ألا ترى أنّ عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجّره وتبرّمه منفّر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يقع ما ذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه من أن يكون منفّراً، وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسّمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه، ولا يخرجه من أن يكون مقرّباً، فدلّ على أنّ المعتبر في باب المنفّر والمقرّب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفّر عنه أو ارتفاعه.

فإن قيل: فهذا يقتضي أنّ الكبائر لا تقع منهم في حال النبوّة، فمن أين يُعلم أنّها لا تقع منهم قبل النبوّة، وقد زال حكمها بالنبوّة المسقطة للعقاب والذم، ولم يبق وجه يقتضي التنفير ؟

٦٣

قلنا: الطريقة في الأمرين واحدة؛ لأنّا نعلم أنّ من نجوّز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال، وإن تاب منهما وخرج من استحقاق العقاب به، لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى مَن لا يجوز ذلك عليه في حال من الأحوال، ولا على وجه من الوجوه؛ ولهذا لا يكون حال الواعظ لنا، الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارناً للكبائر مرتكباً لعظيم الذنوب، وإن كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا وفي نفوسنا، كحال مَن لم نعهد منه إلاّ النزاهة والطهارة، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور؛ ولهذا كثيراً ما يعيّر الناس مَن يعهدون منه القبائح المتقدّمة بها وإن وقعت التوبة منها ويجعلون ذلك عيباً ونقصاً وقادحاً ومؤثراً، وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوّة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوّة وناقصاً عن رتبته في باب التنفير؛ ولأجل ذلك وجب أن لا يكون فيه شيء من التنفير؛ لأنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه، ألا ترى أنّ كثرة السخف والمجون والاستمرار عليه والانهماك فيها منفر لا محالة، وإنّ القليل من السخف الذي لا يقع إلاّ في الأحيان والأوقات المتباعدة منفّر أيضاً، وإن فارق الأوّل في قوّة التنفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب عن الأوّل من أن يكون منفّراً في نفسه.

فإن قيل: فمن أين قلتم إنّ الصغائر لا تجوز على الأنبياء: في حال النبوّة وقبلها ؟

قلنا: الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفى الكبائر في الحالتين عند التأمّل؛ لأنّا كما نعلم أنّ من يجوز كونه فاعلاً لكبيرة متقدّمة قد تاب منها وأقلع عنها ولم يبق معه شيء من استحقاق عقابها وذمّها، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى مَن لا يجوز ذلك عليه، فكذلك نعلم أنّ مَن نجوّز عليه الصغائر من الأنبياء: أن يكون مقدّماً على القبائح مرتكباً للمعاصي في حال نبوّته أو

٦٤

قبلها وإن وقعت مكفّرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى مَن نأمن منه كل القبائح ولا نجوّز عليه فعل شيء منها(١) .

إجابة عن سؤال آخر

ربّما يقال: إنّ العقلاء يكتفون في تبليغ برامجهم التعليمية والتربوية بما يغلب صدقه على كذبه، ويكفي في ذلك كون الرسول رجلاً صدوقاً عدلاً، ومن المعلوم أنّ الصدوق العادل ليس بمعصوم وليس صادقاً مائة بالمائة، وفي نهاية الكمال؛ ولأجل ذلك لا مانع من أن يكتفي سبحانه في تبليغ شرائع الأنبياء بأفراد صالحين يغلب حسنهم على قبحهم وثباتهم على زللهم.

هذا هو السؤال، وأمّا الجواب: فإنّ اكتفاء العقلاء بهذه الدرجة من الصلاح والاستقامة، لأجل وجهين:

إمّا لعدم تمكّنهم من أفراد كاملين، وإمّا لاكتفائهم في تحقّق أهدافهم على الحد الخاص من الواقعية، وكلا الأمرين لا يناسب ساحته سبحانه؛ إذ في وسع المولى سبحانه بعث رجال معصومين، وتحقيق أهدافه على الوجه الأكمل.

يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد: إنّ الناس يتسبّبون في أنواع تبليغاتهم وأغراضهم الاجتماعية بالتبليغ بمَن لا يخلو من قصور وتقصير في التبليغ، لكنّ ذلك منهم لأحد أمرين لا يجوز في ما نحن فيه، لمكان المسامحة منهم في الوصول إلى الأهداف، فإنّ مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسّر من المطلوب والحصول على اليسير والغض عن الكثير، وهذا لا يليق بساحته تعالى(٢) .

____________________

١ - تنزيه الأنبياء: ٤ - ٦.

٢ - الميزان: ٢/١٤١.

٦٥

ولأجل هذه الوجوه العقلية نرى القرآن يصرّح بعصمة الأنبياء تارة، ويشير إليها أحياناً، حيث يصفهم بأنّهم مهديّون لا يضلّون أبداً، وإليك هذه الآيات التي تُعد من أجلى الشواهد القرآنية على عصمة الأنبياء.

القرآن وعصمة الأنبياء من المعصية

إنّه سبحانه يطرح في كتابه العزيز عصمة الأنبياء ويصفهم بهذا الوصف، ويشهد بذلك لفيف من الآيات:

الآية الأُولى:

قال سبحانه:( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرّيَّ-تِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلّ مِنَ الصّالِحينَ * وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمينَ * وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ ) (١) .

ثم إنّه يصف هذه الصفوة من عباده بقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرى لِلْعالَمينَ ) (٢) .

والآية الأخيرة تصف الأنبياء بأنّهم مهديّون بهداية الله سبحانه على وجه يجعلهم القدوة والأُسوة.

هذا من جانب، ومن جانب آخر: نرى أنّه سبحانه يصرّح بأنّ مَن شملته الهداية الإلهية لا مضل له ويقول:( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللهُ

____________________

١ - الأنعام: ٨٤ - ٨٧.

٢ - الأنعام: ٩٠.

٦٦

فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ ) (١) .

وفي آية ثالثة يصرّح بأنّ حقيقة العصيان هي الانحراف عن الجادّة الوسطى بل هي الضلالة ويقول:( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) (٢) .

وبملاحظة هذه الطوائف الثلاث من الآيات تظهر عصمة الأنبياء بوضوح، وتوضيح ذلك:

أنّه سبحانه يصف الأنبياء في اللفيف الأوّل من الآيات بأنّهم القدوة الأُسوة والمهديون من الأمّة، كما يصرّح في اللفيف الثاني بأنّ مَن شملته الهداية الإلهية لا ضلالة ولا مضل له.

كما هو يصرّح في اللفيف الثالث بأنّ العصيان نفس الضلالة أو مقارنه وملازمه حيث يقول:( ولقد أضلّ منكم ) وما كانت ضلالتهم إلاّ لأجل عصيانهم ومخالفتهم لأوامره ونواهيه.

فإذا كان الأنبياء مهدييّن بهداية الله سبحانه، ومن جانب آخر لا يتطرّق الضلال إلى مَن هداه الله، ومن جانب ثالث كانت كل معصية ضلالاً: يستنتج أنّ مَن لا تتطرّق إليه الضلالة لا يتطرّق إليه العصيان.

وإن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه الآيات في قالب الأشكال المنطقية فقل:

النبي: مَن هداه الله.

وكل مَن هداه الله فما له من مضل.

ينتج: النبي ما له من مضل.

____________________

١ - الزمر: ٣٦ - ٣٧.

٢ - يس: ٦٠ - ٦٢.

٦٧

الآية الثانية:

إنّه سبحانه يعد المطيعين لله والرسول بأنّهم من الذين يحشرون مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين الذين أنعم الله عليهم إذ يقول:

( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ) (١) .

وعلى مفاد هذه الآية: فالأنبياء من الذين أنعم الله عليهم بلا شك ولا ريب، وهو سبحانه يصف تلك الطائفة أعني: ( من أنعم عليهم ) بقوله: بأنّهم:( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضّالّينَ ) (٢) .

فإذا انضمّت الآية الأُولى الواصفة للأنبياء بالإنعام عليهم، إلى هذه الآية الواصفة بأنّهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، يستنتج عصمة الأنبياء بوضوح؛ لأنّ العاصي مَن يشمله غضب الله سبحانه ويكون ضالاًّ بقدر عصيانه ومخالفته.

وعلى الجملة: مَن كان غير المغضوب عليه ولا الضال فهو لا يخالف ربّه ولا يعصي أمره، فإنّ العاصي يجلب غضب الرب، ويضل عن الصراط المستقيم قدر عصيانه.

الآية الثالثة:

إنّه سبحانه يصف جملة من الأنبياء ويقول في حق: إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس:

( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ

____________________

١ - النساء: ٦٩.

٢ - الفاتحة: ٧.

٦٨

النَّبِيّينَ مِنْ ذُرّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرّيَّةِ إِبْراهيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ) (١) .

فهذه الآية تصف تلك الصفوة من الأنبياء بأوصاف أربعة:

١ - أنعم الله عليهم.

٢ - هدينا.

٣ - واجتبينا.

٤ - خرّوا سجّداً وبُكيّا.

ثم إنّه سبحانه يصف في الآية التالية ذرية هؤلاء وأولادهم بأوصاف تقابل الصفات الماضية، ويقول:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوفَ يَلْقَونَ غَيّاً ) (٢) .

نرى أنّه سبحانه يصف خَلَفَهم بأوصاف ثلاثة تضاد أوصاف آبائهم وهي عبارة عن أُمور ثلاثة:

١ - أضاعوا الصلاة.

٢ - واتبعوا الشهوات.

٣ - يلقون غيّاً.

وبحكم المقابلة بين الصفات يكون الأنبياء ممّن لم يضيّعوا الصلاة ولم يتّبعوا الشهوات، وبالنتيجة لا يلقون غيّاً، وكل مَن كان كذلك فهو مصون من الخلاف ومعصوم من اقتراف المعاصي؛ لأنّ العاصي لا يعصي إلاّ لاتّباع الشهوات وسوف يلقى أثر غيّه وضلالته.

____________________

١ - مريم: ٥٨.

٢ - مريم: ٥٩.

٦٩

الآية الرابعة:

إنّ القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى الاقتفاء بأثر النبي بمختلف التعابير والعبارات، يقول سبحانه:( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرينَ ) (١) .

ويقول أيضاً :( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) (٢) .

ويقول في آية ثالثة:( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزونَ ) (٣) .

كما أنّه سبحانه يندّد بمَن يتصوّر أنّ على النبي أن يقتفي الرأي العام ويقول:( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطيعُكُمْ في كَثيرٍ مِنَ الأمرِ لَعَنِتُّمْ ) (٤) .

وعصارة القول: إنّ هذه الآيات تدعو إلى إطاعة النبي والاقتداء به بلا قيد وشرط، ومَن وجبت طاعته على وجه الإطلاق - أي بلا قيد وشرط - يجب أن يكون معصوماً من العصيان ومصوناً عن الخطأ والزلل.

توضيحه: إنّ دعوة النبي تتحقّق بأحد الأمرين: اللفظ أو العمل والدعوة بالكتابة ترجع إلى أحدهما، وعند ذلك فلو كان كل ما يدعو إليه النبي بلسانه

____________________

١ - آل عمران: ٣١ - ٣٢.

٢ - النساء: ٨٠.

٣ - النور: ٥٢.

٤ - الحجرات: ٧.

٧٠

وفمه وقلمه ويراعه، صادقاً مطابقاً للواقع غير مخالف له قدر شعرة، لصح الأمر بالاقتداء به وأنّ طاعته طاعة الله سبحانه كما قال:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) (١) .

وأمّا لو كان بعض ما يدعو به باللفظ والعمل والقول والكتابة على خلاف الواقع وعلى خلاف ما يرضى به سبحانه؛ يجب تقييد الدعوة إلى طاعة النبي بقيد يخرج هذه الصورة.

فالحكم باتّباعه على وجه الإطلاق، يكشف عن أنّ دعواته وأوامره قولاً وفعلاً حليفة الواقع، وقرينة الحقيقة لا تتخلّف عنه قدر شعرة، من غير فرق بين الدعوة اللفظية أو العملية.

فإنّ الدعوة عن طريق العمل والفعل من أقوى العوامل تأثيراً في مجال التربية والتعليم وأرسخها، وكل عمل يصدر من الرسل فالناس يتلقّونه دعوة عملية إلى اقتفاء أثره في ذاك المجال.

فلو كان ما يصدر من النبي طيلة الحياة مطابقاً لرضاه وموافقاً لحكمه صحّ الأمر بالاقتفاء في القول والفعل، ولو كانت أفعالهم تخالف الواقع في بعض الأحايين وتتسم بالعصيان والخطأ، لما صحّ الأمر بطاعته والاقتداء به على وجه الإطلاق.

كيف وقد وصف الرسول بأنّه الأُسوة الحسنة في قوله سبحانه:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ) (٢) .

____________________

١ - النساء: ٨٠.

٢ - الأحزاب: ٢١.

٧١

فكونه أُسوة حسنة في جميع المجالات لا يتفق إلاّ مع عصمته المطلقة، بخلاف مَن يكون أُسوة في مجال دون مجال، وعلى ذلك فهو مصون من الخلاف والعصيان والخطأ والزلل.

وإن شئت قلت: لو صدر عن النبي عصيان وخلاف، فمن جانب يجب علينا طاعته واقتفاؤه واتّباعه، وبما أنّ الصادر منه أمر منكر يحرّم الاقتداء به واتّباعه وتجب المخالفة، فعندئذٍ يلزم الأمر بالمتناقضين، والقول بأنّه يجب اتّباعه في خصوص ما ثبت كونه موافقاً للشرع أو لم تعلم مخالفته له، خلاف إطلاق الآيات الآمرة بالاتّباع على وجه الإطلاق من غير فرق بين فعل دون فعل، ووقت دون وقت.

وهذا المورد من الموارد التي يستكشف بإطلاق الحكم حال الموضوع وسعته وأنّه مطابق للشرع، وكم له من مورد في الأحكام الفقهية(١) .

الآية الخامسة

إنّ الله سبحانه يحكي عن الشيطان الطريد بأنّه قال:( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) . ويقول أيضاً :( وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٣) .

____________________

١ - وقد عنونه الأُصوليّون في أبحاث العام والخاص فيستكشفون عن إطلاق الحكم سعة الموضوع كما في مثل قوله: (لعن الله بني أُميّة قاطبة ) فيستدل بإطلاقه على سعته وعدم وجود مؤمن فيهم، وإلاّ لما صحّ الحكم بالإطلاق.

٢ - ص: ٨٣ - ٨٤.

٣ - الحجر: ٣٩ - ٤٠.

٧٢

فهذه الآيات ونظائرها تحكي عن نزاهة المخلصين عن إغواء الشيطان وجرّه إيّاهم إلى الطرق المظلمة.

توضيحه: إنّ الغي يستعمل تارة في خلاف الرشد وإظلام الأمر، وأُخرى في فساد الشيء، قال ابن فارس: فالأوّل الغي وهو خلاف الرشد، والجهل بالأمر والانهماك في الباطل، يقال: غوي يغوي غيّاً، قال الشاعر:

فمَن يلق خيراً يحمد الناس أمره

ومَن يغو لا يعدم على الغيِّ لائماً

وذلك عندنا مشتق من الغياية، وهي الغبرة والظلمة تغشيان، كأنّ ذا الغيّ قد غشيه ما لا يرى معه سبيل حق.

وأمّا الثاني: فمنه قولهم: غوي الفصيل إذا أكثر من شرب اللبن ففسد جوفه، والمصدر: الغوى(١) .

وعلى ذلك فسواء فسّرت الغواية في الآيتين بالمعنى الأوّل، كما هو الأقرب، أو بالمعنى الثاني، فالعباد المخلصون منزّهون عن أن تغشاهم الغبرة والظلمة في حياتهم أو أن يرتكبوا أمراً فاسداً، ونفي كلا الأمرين يستلزم العصمة؛ لأنّ العاصي تغشاه غبرة الجهل وظلمة الباطل، كما أنّه يفسد علمه بالمخالفة.

نعم إثبات الغواية لا يستلزم إثبات المعصية، فإنّ مخالفة الأوامر الإرشادية التي لا تتبنى إلاّ النصح والإرشاد، وإن كانت تلازم غشيان الغبرة في الحياة وفساد العمل، لكنّها لا تستلزم التمرّد والتجرّي اللّذين هما الملاك في صدق المعصية.

____________________

١ - مقاييس اللغة: ٤/٣٩٩ - ٤٠٠.

٧٣

وعلى كل تقدير، فما ورد في هذه الطائفة من الآيات بمنزلة ضابطة كلّيّة في حق المخلصين ونزاهتهم عن الغواية الملازمة لنزاهتهم عن المعصية.

وهناك آيات أُخرى تأتي بأسماء المخلصين وتصفهم وتقول:( وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِى الاََيْدي والأبصار * إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخيار * وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلّ مِنَ الأخيار ) (١) .

فقوله سبحانه:( إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ ) خير دليل على أنّ المعدودين والمذكورين في هذه الآيات من إبراهيم وذرّيته كلهم من المخلصين الذين شهدت الآيات على تنزّههم من غواية الشيطان الملازم لنزاهتهم عن العصيان والخلاف.

نعم هذه الطائفة لا تدل على عصمة جميع الأنبياء والرسل إلاّ بعدم القول بالفصل، حيث إنّ العلماء متفقون إمّا على العصمة أو على خلافها، وليس هناك مَن يفصل بين نبي دون نبي بأن يثبت العصمة في حق بعضهم دون بعض.

هذا بعض ما يمكن الاستدلال به على عصمة الأنبياء، وبقيت هناك آيات يمكن الاستدلال بها على العصمة أيضاً مثل قوله سبحانه:( وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٢) .

لأنّ المراد من الاجتباء هو الاجتباء بالعصمة وإن كان يحتمل أن يكون المراد

____________________

١ - ص: ٤٥ - ٤٨.

٢ - الأنعام: ٨٧.

٧٤

الاجتباء بالنبوّة، والكلام هنا في الاجتباء دون الهداية.

ومثله قوله سبحانه:( وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ) (١) .

____________________

١ - مريم: ٥٨.

٧٥

حجّة المخالفين للعصمة

قد تعرّفت على الآيات الدالة على عصمة الأنبياء في المجالات التالية: ( تلقّي الوحي، والتحفّظ عليه، وإبلاغه إلى الناس، والعمل به ) غير أنّ هناك آيات ربّما توهم في بادئ النظر خلاف ما دلّت عليه صراحة الآيات السابقة، وقد تذرّعت بها بعض الفرق الإسلامية التي جوّزت المعصية على الأنبياء بمختلف صورها.

وهذه الآيات على طوائف:

الأُولى: ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء بصورة كليّة.

الثانية: ما يمس عصمة عدّة منهم كآدم ويونس بصورة جزئية.

الثالثة: ما يتراءى منه عدم عصمة النبي الأكرم.

فعلينا دراسة هذه الأصناف من الآيات حتى يتجلّى الحق بأجلي مظاهره:

الطائفة الأُولى: ما يمسّ ظاهرها عصمة جميع الأنبياء

الآية الأُولى:

ومن هذه الطائفة قوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوا أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (١) .

____________________

١ - يوسف: ١٠٩.

٧٦

( حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدَ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَومِ الْمُجْرِمينَ ) (١) .

استدلّ القائل بعدم وجود العصمة في الأنبياء بظاهر الآية قائلاً بأنّ الضمائر الثلاثة في قوله:( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) ترجع إلى الرسل، ومفاد الآية أنّ رسل الله سبحانه وأنبياءه كانوا ينذرون قومهم، وكان القوم يخالفونهم أشدّ المخالفة، وكان الرسل يعدون المؤمنين بالنصر عن الله والغلبة، ويوعدون الكفّار بالهلاك والإبادة، لكن لمّا تأخّر النصر الموعود وعقاب الكافرين ( ظن الرسل أنّهم قد كذبوا ) فيما وعدوا به من جانب الله من نصر المؤمنين وإهلاك الكافرين، ومن المعلوم أنّ هذا الظن سواء أكان بصورة الإذعان واليقين أو بصورة الزعم والميل إلى ذاك الجانب، اعتقاد باطل لا يجتمع مع العصمة.

وإن شئت تفسير الآية فعليك بإظهار مراجع الضمائر بأن تقول: لمّا أخّرنا العقاب عن الأُمم السالفة ظنّ الرسل أنّ الرسل قد كذب ( بصيغة المجهول ) الرسل في ما وعدوا به من النصر للمؤمنين والهلاك للكافرين.

وعلى هذا فكل جواب من العدلية القائلين بعصمة الرسل على خلاف هذا الظاهر يكون غير متين، بل يجب أن يكون الجواب منطبقاً على هذا الظاهر.

وإليك الأجوبة المذكورة في التفاسير:

الأوّل: إنّ الضمائر الثلاثة ترجع إلى الرسل، غير أنّ الوعد الذي تصور الرسل أنّهم قد كذبوا ( أي قيل لهم قولاً كاذباً ) هو تظاهر عدّة من المؤمنين بالإيمان وادّعاؤهم الإخلاص لهم، فتصوّر الرسل أنّ تظاهر هؤلاء بالإيمان كان كذباً وباطلاً، وكأنّهم تصوّروا أنّ الذين وعدوهم بالإيمان من قومهم أخلفوهم أو كذبوا فيما أظهروه من الإيمان(٢) .

____________________

١ - يوسف: ١١٠.

٢ - مجمع البيان: ٥ - ٦ / ٤١٥، ط دار المعرفة، بيروت.

٧٧

وفيه: إنّ هذا الجواب وإن كان أظهر الأجوبة؛ إذ ليس فيه تفكيك بين الضمائر كما في سائر الأجوبة الآتية، لكنّ الذي يردّه هو بُعده عن ظاهر الآية؛ إذ ليس فيها عن إيمان تلك الثلّة القليلة أثر حتى يقع متعلّق الكذب في قوله سبحانه:( قد كذبوا ) .

وإن شئت قلت: ليس في مقدّم الآية ولا في نفسها ما يشير إلى أنّه قد آمن بالرسل عدّة قليلة وتظاهروا بالإيمان غير أنّه صدر عنهم ما جعل الأنبياء يظنّون بكذبهم في ما أظهروه من الإيمان حتى يصحّ أن يقال إنّ متعلّق الكذب هو هذا، وإنّما المذكور في مقدّمها ونفسها هو مخالفة الزمرة الطاغية من أقوام الأنبياء وعنادهم ولجاجهم مع رسل الله وأنبيائه، حيث يقول:( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوا أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (١) ومجرّد قوله:( ولدار الآخرة خير للّذين اتقوا ) لا يكفي في جعل إيمانهم متعلّقاً للكذب، إذ عندئذ يجب أن تتعرّض الآية إلى إيمان تلك الشرذمة وصدور ما يوجب ظنّهم بخلاف ما تظاهروا به؛ حتى يصحّ أن يقال إنّ الرسل ظنّوا أنّ المتظاهرين بالإيمان قد كذبوا في ادّعاء الإيمان بالرسل.

أضف إلى ذلك: إنّ هذه الإجابة لا تصحّح العصمة المطلقة للأنبياء، إذ على هذا الجواب يكون ظن الرسل بعدم إيمان تلك الشرذمة القليلة خطاً، وكان ادّعاؤهم للإيمان صادقاً، وهذا يمسّ كرامتهم من جانب آخر؛ لأنّهم تخيّلوا غير الواقع واقعاً، والمؤمن كافراً.

على أنّ ذلك الجواب لا يناسب ذيل الجملة فإنّه سبحانه يقول بعد تلك الجملة:( جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء ) مع أنّ المناسب على هذه الإجابة أن

____________________

١ - يوسف: ١٠٩.

٧٨

يقول: ( بل تبيّن للرسل صدق ادّعاء المؤمنين فنجّي مَن نشاء ولا يردّ بأسنا عن القوم المجرمين ).

الثاني : إنّ معنى الآية: ظنّ الأُمم أنّ الرسل كذبوا في ما أخبروا به من نصر الله إيّاهم وإهلاك أعدائهم، وهذا الوجه هو المروي عن سعيد بن جبير واختاره العلاّمة الطباطبائي، فالآية تهدف إلى أنّه إذا استيئس الرسل من إيمان أُولئك الناس، هذا من جانب، ومن جانب آخر ظنّ الناس - لأجل تأخّر العذاب - أنّ الرسل قد كذبوا، أي أخبروا بنصر المؤمنين وعذاب الكافرين كذباً، جاءهم نصرنا، فنجّي بذلك مَن نشاء وهم المؤمنون، ولا يردّ بأسنا أي شدّتنا عن القوم المجرمين.

وقد دلّت الآيات على أنّ الأُمم السالفة كانوا ينسبون الأنبياء إلى الكذب، قال سبحانه في قصّة نوح حاكياً عن قول قومه:( بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبينَ ) (١) وكذا في قصّة هود وصالح.

وقال سبحانه في قصّة موسى:( فَقالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّي لأظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً ) (٢) (٣) .

ولا يخفى ما في هذا الجواب من الإشكال، فإنّ الظاهر هو أنّ مرجع الضمير المتصل في ( ظنّوا ) هو الرسل المقدّم عليه، وإرجاعه إلى الناس على خلاف الظاهر، وعلى خلاف البلاغة، وليس في نفس الآية حديث عن هذا اللفظ ( الناس ) حتى يكون مرجعاً للضمير في ( ظنّوا ).

أضف إلى ذلك أنّ ما استشهد به ممّا ورد في قصّة نوح لا يرتبط بما ادّعاه فإنّ

_____________________

١ - هود: ٢٧.

٢ - الإسراء: ١٠١.

٣ - الميزان: ١١/٢٧٩.

٧٩

معنى( بل نظنّكم كاذبين ) أنّ الناس صوّروا نفس الرسل كاذبين وأنّهم قد تعمّدوا التقوّل على خلاف الواقع، والمذكور في الآية المبحوث عنها ليس كون الرسل كاذبين بل كونهم مكذوبين، أي وعدوا كذباً وقيل لهم قولاً غير صادق وإن تصوّروا أنفسهم صادقين في ما يخبرون به، وبين المعنيين بون بعيد.

الثالث: ما رُوي عن ابن عباس من أنّ الرسل لمّا ضعفوا وغلبوا ظنّوا أنّهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر، وقال كانوا بشراً، وتلا قوله:( وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ ) (١) .

وقال صاحب الكشّاف في حق هذا القول: إنّه إن صحّ هذا عن ابن عباس، فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأمّا الظن الذي هو ترجّح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربّهم، وأنّه متعالٍ عن خلف الميعاد منزّه عن كل قبيح(٢) .

وهذا التفسير مع التوجيه الذي ذكره الزمخشري - وإن كان أوقع التفاسير في القلوب - غير أنّه أيضاً لا يناسب ساحة الأنبياء الذين تسدّدهم روح القدس وتحفظهم عن الزلل والخطأ في الفكر والعمل، وتلك الهاجسة وإن كانت بصورة حديث النفس وشبه الوسوسة لكنّها لا تلائم العصمة المطلقة المترقّبة من الأنبياء.

الرابع ( وهو المختار )

إنّ المستدل زعم أنّ الظنّ المذكور في الآية أمر قلبي اعترى قلوب الرسل ،

_____________________

١ - البقرة: ٢١٤.

٢ - الكشّاف: ٢/١٥٧.

٨٠

وأدركوه بمشاعرهم وعقولهم مثل سائر الظنون التي تحدق بالقلوب البشرية وتنقدح فيها.

مع أنّ المراد غير ذلك، بل المراد أنّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدّة والقسوة إلى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل، وأفئدتهم، وكم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الإلهي بالنصر وعداً مكذوباً، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدّة كانت كأنّها تشهد في بادئ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر.

فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً أمر، وكون الأنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر، والمخالف للعصمة هو الثاني لا الأوّل، ولذلك نظائر في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه:( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمينَ ) (١) ، فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى، فدعاهم فلم يؤمنوا، فسأل الله أن يعذّبهم، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا، فكشفه الله عنهم وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وتأديبه، لأجل مفارقته قومه مع إمكان رجوعهم إلى الله سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس، هل كان ظنّاً قائماً بمشاعره، فنحن نجلّه ونجلّ ساحة جميع الأنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردّد في ذهن غيرهم، فكيف الأنبياء ؟! بل المراد أنّ عمله هذا ( أي ذهابه ومفارقة قومه ) كان

_____________________

١ - الأنبياء: ٨٧.

٨١

ممثّلاً بأنّه يظن أنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس، وبين كون عمله مجسّماً وممثّلاً لهذا الظن في كل مَن رآه وشاهده ؟ فما يخالف العصمة هو الأوّل لا الثاني.

ومنها: قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بني النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة، ولمّا خدعوا المسلمين وقتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس ومسمع منهم، ضيّق عليهم النبي، فلجأوا إلى حصونهم، وفي ذلك يقول سبحانه:( هُوَ الذي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) (١) .

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة ؟ هل كانوا يظنّون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من الله ؟ فإنّ ذلك بعيد جداً، فإنّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير أنّ علمهم والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوّته كان يحكى عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه.

ولذلك نظائر في المحاورات العرفية، فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها، والبانين للقصور المشيّدة والأبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة، وأنّ الموت كأنّه كتب على غيرهم، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكنّ بالمعنى الذي عرفت: أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن، ومصدر هذه النسبة.

وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالأنبياء طيلة

_____________________

١ - الحشر: ٢.

٨٢

حياتهم وتشتد عليهم الأزمة والمحنة من جانب المخالفين، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألدّاء، وكان المؤمنون بهم في قلّة، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل، والبأساء والضرّاء، مظنّة لأن يتخيّل كل مَن وقف عليها من نبي وغيره، أنّ ما وعدوا به وعد غير صادق، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه، للمؤمنين، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما يقول:( فَنُجِّيَ مَن نَشاءُ ولا يُردُّ بأسُنا عنِ القومِ المُجْرمين ) (١) .

ويشعر بما ذكرناه قوله سبحانه:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) (٢) .

فالمراد من الرسول هو غير النبي الأكرم من الرسل السابقين، فعندما كانت البأساء والضرّاء تحدق بالمؤمنين ونفس الرسول، وكانت المحن تزلزل المؤمنين حتى أنّ-ها كانت تحبس الأنفاس، فعند ذلك كانت تكاد تلك الأنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجّر في شكل ضراعة إلى الله، فيقول الرسول والذين آمنوا معه( متى نصر الله ) ؟ فإنّ كلمة( متى نصر الله ) مقرونة بالضراعة والالتماس، تقع مظنّة تصوّر استيلاء اليأس والقنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم.

وما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم وتنقشع عنهم سحب اليأس والقنوط المنتزع من تلك الحالة.

هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية، ولعلّ القارئ يجد تفسيراً أوقع في النفس ممّا ذكرناه.

_____________________

١ - يوسف: ١١٠.

٢ - البقرة: ٢١٤.

٨٣

الآية الثانية:

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١) .

( لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظّالِمينَ لَفي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) (٢) .

( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَيُؤمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ ) (٣) .

وهذه الآية أو الآيات من أوثق الأدلة في نظر القائل بعدم عصمة الأنبياء، وقد استغلّها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحي النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه.

وكأنّ المستدل بهذه الآية يفسّر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخّل في الوحي النازل عليه فيغيّره إلى غير ما نزل به.

ثم إنّه سبحانه يمحو ما يُلقي الشيطان ويصحّح ما أُنزل على رسوله من الآيات، فلو كان هذا مفاد الآية، فهو دليل على عدم عصمة الأنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلّمين على المصونية في هذا المجال.

وربّما يؤيّد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية، وسيوافيك نصّه وما فيه من الإشكال.

_____________________

١ - الحج: ٥٢.

٢ - الحج: ٥٣.

٣ - الحج: ٥٤.

٨٤

فالأولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن أنّها تهدف إلى غير ما فسّره المستدلّ، فنقول: يجب توضيح نقاطٍ في الآيات.

الأُولى : ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟ وإلى مَ يهدف قوله سبحانه:( إذا تمنّى ) ؟

الثانية : ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول الله سبحانه:( ألقى الشيطان في أُمنيّته ) ؟

الثالثة : ما معنى نسخ الله سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

الرابعة : ماذا يريد سبحانه من قوله:( ثمّ يحكم الله آياته ) وهل المراد منه الآيات القرآنية؟

الخامسة : كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها ؟ وكيف يكون سبباً لإيمان المؤمنين، وإخبات قلوبهم له ؟

وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الإبهام الذي نسجته الأوهام حول الآية ومفادها فنقول:

١ - ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟

أمّا الأُمنية قال ابن فارس: فهي من المنى، بمعنى تقدير شيء ونفاذ القضاء به، منه قولهم: مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي:

لا تأمننّ وإن أمسيت في حرمٍ

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

والمنا: القدر، وماء الإنسان: منيّ، أي يُقدّر منه خلقته والمنيّة: الموت؛ لأنّها مقدّرة على كل أحد، وتمنّى الإنسان: أمل يقدّره، ومنى مكّة: قال قوم: سمّي به لما قُدّر أن يُذبح فيه، من قولك مناه الله(١) .

_____________________

١ - المقاييس: ٥/٢٧٦.

٨٥

وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والأنبياء من طريق الكتاب العزيز، ولا يشك مَن سبر الذكر الحكيم أنّه لم يكن للرسل والأنبياء، أُمنية سوى نشر الهداية الإلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامي، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً، وكانوا يخطّطون لهذا الأمر، ويفكّرون في الخطّة بعد الخطّة، ويمهّدون له قدر مستطاعهم، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها:

يقول سبحانه في حق النبي الأكرم:( وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤمِنين َ) (١) .

ويقول أيضاً:( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ ) (٢) .

ويقول أيضاً:( إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرينَ ) (٣) .

ويقول سبحانه:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (٤) .

ويقول سبحانه:( فَذَكّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّر* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بُمُصَيْطِرٍ ) (٥) .

هذا كلّه في حق النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته:( وَإِنّي كُلَّما

_____________________

١ - يوسف: ١٠٣.

٢ - فاطر: ٨.

٣ - النحل: ٣٧.

٤ - القصص: ٥٦.

٥ - الغاشية: ٢١ - ٢٢.

٨٦

دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً * ثُمَّ إِنّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ) (١) .

ويقول سبحانه بعد عدّةٍ من الآيات:( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْني وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَساراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً * وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظّالِمينَ إِلاّ ضَلالاً ) (٢) .

فهذه الآيات ونظائرها تنبئ بوضوح عن أنّ أُمنية الأنبياء الوحيدة في حياتهم، وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى الله، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن، وإن منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع؛ فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل، وهلمّ معي الآن لنقف على جواب السؤال الثاني، أعني:

٢ - ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل ؟

وهذا السؤال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف، وبالإجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح، فنقول: إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين:

١ - أن يوسوس في قلوب الأنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم، وأنّ هذه الأُمّة أُمّة غير قابلة للهداية، فتظهر بسبب

_____________________

١ - نوح: ٧ - ٩.

٢ - نوح: ٢١ - ٢٤.

٨٧

ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم.

ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الأنبياء بنصّ القرآن الكريم؛ لأنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الأنبياء وضمائرهم، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والإرشاد، والقرآن الكريم ينفي تسلّل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الأنبياء ومن دونهم، ويقول سبحانه:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) (١) .

ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان:( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَّنَهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) .

وليس إيجاد الوهن في عزائم الأنبياء من جانب الشيطان إلاّ إغواءهم المنفيّ بنص الآيات.

٢ - أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الأنبياءعليهم‌السلام والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخطّطاتهم عقيمة غير مفيدة.

وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحضّ أقوام الأنبياءعليهم‌السلام على المخالفة ويعدهم بالأماني، حتى يخالفوهم.

قال سبحانه:( يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِم وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيطانُ إلاّ غُرُوراً ) (٣) .

_____________________

١ - الحجر: ٤٢، الإسراء: ٦٥.

٢ - ص: ٨٢ - ٨٣.

٣ - النساء: ١٢٠.

٨٨

وقال سبحانه:( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِىَ الأمرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوعَدتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلومُوني وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) (١) .

وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدّة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الأنبياء والرسل، وكانوا يخدعونهم بالعدة والأماني، وعند ذلك يتضح مفاد الآية، قال سبحانه:( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلاّ إذا تمنّى ) أي إذا فكّر في هداية أُمّته وخطّط لذلك الخطط، وهيّأ لذلك المقدّمات( ألقى الشيطان في أُمنيّته ) (بحضّ الناس على المخالفة والمعاكسة وإفشال خطط الأنبياء حتى تصبح المقدّمات عقيمة غير منتجة ).

٣ - ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه: ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) وما معنى هذا النسخ ؟

والمراد من ذاك النسخ ما وعد الله سبحانه رسله بالنصر، والعون والإنجاح، قال سبحانه:( إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا ) (٢) ، وقال سبحانه:( كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِىّ عَزِيزٌ ) (٣) ، وقال سبحانه:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) (٤) .

_____________________

١ - إبراهيم: ٢٢.

٢ - غافر: ٥١.

٣ - المجادلة: ٢١.

٤ - الأنبياء: ١٨.

٨٩

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ) (١) .

وقال في حق النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (٢) .

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُها عباديَ الصّالِحُونَ ) (٣) .

إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكي عن انتصار الحق الممثّل في الرسالات الإلهية في صراعها مع الباطل وأتباعه.

٤ - ما معنى إحكامه سبحانه آياته ؟

إذا تبيّن معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان، يتبيّن المراد من قوله سبحانه:( ثمّ يحكم الله آياته ) .

فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى الله سبحانه وإلى مرضاته وشرائعه.

وإن شئت قلت: إذا نسخ ما يلقيه الشيطان، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلاً، وسعادة الناس ثانياً.

ومن أسخف القول: إنّ المراد من الآيات، الآيات القرآنية التي نزلت على النبي الأكرم؛ وذلك لأنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الأكرم، بل الرسل والأنبياء على وجه الإطلاق أضف إليه أنّه ليس كل نبيٍّ ذا كتاب وآيات ،

_____________________

١ - الصافات: ١٧١ - ١٧٣.

٢ - التوبة: ٣٣.

٣ - الأنبياء: ١٠٥.

٩٠

فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله ؟

ويعود مفاد الجملة إلى أنّ الله سبحانه يحكم دينه وشرائعه وما أنزله الله إلى أنبيائه وسفرائه من الكتاب والحكمة.

والحاصل: إنّ في مجال الصراع بين أنصار الحق وجنود الباطل يكون الانتصار والظفر للأوّل، والاندحار والهزيمة للثاني، فتضمحل الخطط الشيطانية وتنهزم أذنابه بإرادة الله سبحانه، فتخلفها البرامج الحيوية الإلهية وآياته الناصعة، فيصبح الحق قائماً وثابتاً، والباطل داثراً وزاهقاً، قال سبحانه:( وَقُلْ جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) (١) .

٥ - ما هي النتيجة من هذا الصراع ؟

قد عرفت أنّ الآية تعلّل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث:

١ - الذين في قلوبهم مرض.

٢ - ذات القلوب القاسية.

٣ - الذين أُوتوا العلم.

إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس وامتحانهم حتى يظهروا ما في مكامن نفوسهم وضمائر قلوبهم من الكفر والنفاق أو من الإخلاص والإيمان.

فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية والتربية الإلهية، والقلوب القاسية التي أسّرتها الشهوات، وأعمتها زبارج الحياة الدنيا، تتسابق إلى دعوة الشيطان

_____________________

١ - الإسراء: ٨١.

٩١

وتتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر والقسوة، فيثبت نفاقها ويظهر كفرها.

وأمّا النفوس المؤمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب الله سبحانه، فلا يزيدها ذلك إلاّ إيماناً وثباتاً وهداية وصموداً.

وهذه النتيجة حاكمة في عامّة اختبارات الله سبحانه لعباده، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لأجل العلم بواقع النفوس ومكامنها، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ ) (١) ، وإنّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى والقابليات الكامنة في النفوس والقلوب، إلى عالم التحقّق والفعلية وبالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور والوجود.

وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علىعليه‌السلام في معنى الاختبار بالأموال والأولاد الوارد في قوله:( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَولادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (٢) : ( ليتبيّن الساخط لرزقه، والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب)(٣) .

وقد وقفت بعد ما حرّرت هذا على كلام لفقيد العلم والتفسير الشيخ محمد جواد البلاغي - قدّس الله سرّه - وهو قريب ممّا ذكرناه: قال: المراد من الأُمنية هو الشيء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول والنبي، ويشهد به سوق الآيات، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما، وهو تمنّي ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى، وتأييد شريعة الحق، ونحو ذلك، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا المتمّنى

_____________________

١ - الملك: ١٤.

٢ - الأنفال: ٢٨.

٣ - نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم: ٩٣.

٩٢

الصالح ما يشوّشه، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال والغواية ما ألقى، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم، وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم، وأحكام الشريعة بعده، وألقى بين قوم رسول الله ما أهاجهم على تكذيبه وحربه، وبين أُمّته ما أوجب الخلاف وظهور البدع فينسخ الله بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق، ثم يحكم الله آياته ويؤيّد حججه بإرسال الرسل، أو تسديد جامعة الدين القيم(١) .

وما ذكره - قدّس الله سرّه - كلام لا غبار عليه، وقد شيّدنا أساسه فيما سبق.

إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح وبقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسّك به بعض القساوسة الطاعنين في الإسلام، ومَن حذا حذوهم من البسطاء.

التفسير الباطل للآية

ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الإسلام والتنقيص من شأن القرآن، تمسّكوا بهذه الآية وقالوا: بأنّ المراد من الآية هو أنّ ( ما من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى وتلا الآيات النازلة عليه تدخّل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها ) واستشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي، ومحمد بن قيس، قالا: جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نادٍ من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذٍ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ) (٢) فقرأهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى إذا بلغ:( أفَرأيتُمُ اللاَّتَ والعُزّى * ومَناةَ الثالِثَةَ الأُخْرى ) (٣) ألقى عليه الشيطان كلمتين: ( تلك

_____________________

١ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٤.

٢ - النجم: ١ - ٢.

٣ - النجم: ١٩ - ٢٠.

٩٣

الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى ) فتكلّم بها ثم مضى فقرأ السورة كلّها، فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلّم به وقالوا قد عرفنا: إنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك، قالا: فلمّا أمسى أتاه جبرائيلعليه‌السلام فعرض عليه السورة، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه، قال ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه:( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ) إلى قوله:

( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) (١) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه:( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يلقِي الشَّيطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ واللهُ عَليِمٌ حَكِيمٌ ) قال فسمع مَن كان من المهاجرين بأرض الحبشة أنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان(٢) .

ولا يخفى ما في هذا التفسير وشأن النزول من الإشكالات التي تسقطه عن صحّة الاستناد إليه.

أمّا أوّلاً: فلأنّه مبني على أنّ قوله ( تمنّى ) بمعنى تلا، وأنّ لفظة ( أُمنيته ) بمعنى تلاوته، وهذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن والحديث، ولو صحّ فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه.

_____________________

١ - الإسراء: ٧٣، ٧٥.

٢ - تفسير الطبري: ١٧/١٣١، ونقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية.

٩٤

نعم استدلّ بعضهم بقول حسّان على ذاك الاستعمال:

تمنّى كتاب الله أوّل ليلةٍ

وآخره لاقى حمام المقادر

وقول الآخر:

تمنّى كتاب الله آخر ليلة

تمنّي داود الزبور على رسل

وهذان البيتان لو صحّ إسنادهما إلى عربي صميم كحسّان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذّة.

أضف إلى ذلك أنّ البيت غير موجود في ديوان حسّان، وإنّما نقله عنه المفسّرون في تفاسيرهم، وقد نقله أبو حيان في تفسيره (ج٦ ص٣٨٢) واستشهد به صاحب المقاييس (ج٥ ص٢٧٧).

ولو صحّ الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الأوّل دون الأُمنية لعدم ورودها فيه.

وثانياً: أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّها لا تتجاوز في طرقها عن التابعين ومن هو دونهم إلاّ إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصّة.

أضف إلى ذلك، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع وعشرين صورة، وقد جمع تلك الصور المختلفة العلاّمة البلاغي في أثره النفيس، فلاحظ(١) .

وثالثاً: أنّ القصة تكذّب نفسها؛ لأنّها تتضمّن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات، استرسل في تلاوة بقيّة السورة إلى آخرها

_____________________

١ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٠.

٩٥

وسجد النبي والمشركون الحاضرون معه، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.

ولكنّ الآيات التي وقعت بعدهما، واسترسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه:( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى * إِنْ هيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباوَكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) (١) إلى آخر الآيات.

وعندئذ يطرح هذا السؤال، وهو أنّه كيف رضي متكلّم العرب ومنطيقهم وحكيمهم وشاعرهم: الوليد بن المغيرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الثناء القصير، وغفل عن الآيات اللاحقة التي تندّد بآلهتهم بشدّة وعنف، ويعدّها معبودات خرافية لا تملك من الإلوهية إلاّ الاسم والعنوان ؟!

أو ليس ذلك دليلاً على أنّ جاعل القصّة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصّة في موضع غفل عن أنّه ليس محلاًّ لها، وقد قيل: لا ذاكرة لكذوب.

ورابعاً: أنّ الله سبحانه يصف في صدر السورة نبيّه الأكرم بقوله:( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْىٌ يُوحى ) (٢) ، وعندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيّه في أوّل السورة بهذا الوصف، ثم يبدر من نبيّه ما ينافي هذا التوصيف أشدّ المنافاة، وفي وسعه سبحانه صون نبيّه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير ؟!

وخامساً: أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات، تكذّبهما سائر الآيات الدالة على صيانة النبي الأكرم في مقام تلقّي الوحي والتحفّظ عليه وإبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه:( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) (٣) .

_____________________

١ - النجم: ٢٢ - ٢٣.

٢ - النجم: ٣ - ٤.

٣ - الجن: ٢٧.

٩٦

وقوله تعالى:( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاويل * لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (١) .

وسادساً: أنّ علماء الإسلام، وأهل العلم والدراية من المسلمين، قد واجهوا هذه الحكاية بالرد، فوصفها المرتضى بالخرافة التي وضعوها(٢) .

وقال النسفي: إنّ القول بها غير مَرْضيّ وقال الخازن في تفسيره: إنّ العلماء وهّنوا أصل القصّة ولم يروها أحد من أهل الصحّة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متصل، وإنّما رواها المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، الملفّقون من الصحف كل صحيح وسقيم، والذي يدل على ضعف هذه القصّة اضطراب رواتها، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها(٣) .

هذه هي أهم الإشكالات التي ترد على القصّة وتجعلها في موضع من البطلان قد ذكرها المحقّقون في الرد على هذه القصّة وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا ( فروغ أبديت )(٤) ، ولا نطيل المقام بذكرها.

_____________________

١ - الحاقة: ٤٤ - ٤٦.

٢ - تنزيه الأنبياء: ١٠٩.

٣ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٠.

٤ - كتاب أُلّف في بيان سيرة النبي الأكرم من ولادته إلى وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد طُبع في جزأين.

٩٧

الطائفة الثانية

ما يمسّ عصمة عدّة خاصّة من الأنبياء

فهذه الطائفة عبارة عن الآيات التي تمسّ بظاهرها عصمة بعض الأنبياء بصورة جزئية وها نحن نذكرها واحدة بعد أُخرى.

- ١ -

عصمة آدمعليه‌السلام والشجرة المنهي عنها

وجعل الشريك لله

وقد طرحنا في هذه الطائفة أبرز الآيات التي وقعت ذريعة بأيدي المخطّئة في مجال نفي العصمة عن عدّة معيّنة من الأنبياء، وراعينا الترتيب التاريخي لهم، فنقدّم البحث عن عصمة آدمعليه‌السلام على البحث عن عصمة نوحعليه‌السلام وهكذا.

إنّ حديث الشجرة المنهيّ عنها هو أقوى ما تمسّك به المخالفون للعصمة المجوّزون صدور المعصية من الرسل والأنبياء، ويعدّ ذلك في منطقهم ( كبيت القصيد ) في ذلك المجال، ولأجل ذلك ينبغي التوسّع في البحث واستقصاء ما يمكن أن يقع ذريعة في يد المخالف فنقول:

٩٨

إنّ حديث الشجرة ورد على وجه التفصيل في سور ثلاث، نذكر منها ما يتعلّق بمورد البحث قال سبحانه:( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الْشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرّ وَمَتاعٌ إِلَى حِين * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (١) .

ويقول سبحانه:( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءاتِهِما وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هِذِهِ الشَّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحينَ * فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُما رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوّ مُبينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِر لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (٢) .

فأنت ترى أنّه سبحانه يتوسّع في بيان القصّة في هذه السورة، بينما هو يختصر في بيانها في السورة السابقة، ووجه ذلك أنّ سورة الأعراف مكّيّة وسورة البقرة مدنية، ولمّا توسّع في البيان في السورة المتقدّمة أوجز في السورة اللاحقة ولم يفصّل.

____________________

١ - البقرة: ٣٥ - ٣٧.

٢ - الأعراف: ١٩ - ٢٤.

٩٩

ويقول سبحانه:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْ قُلْنَا لِلمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعْرَى * وَأنَّكَ لا تَظْمَؤا فِيَها ولا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوءاتُهُما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُمْ مِنّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) (١) .

هذه السور الثلاث قد احتوت على مهمّات هذه القصّة، فينبغي علينا توضيح ما ورد فيها من الجمل والكلمات التي تعتبر مثاراً للتساؤلات الآتية:

التساؤلات حول الآيات

إنّ التساؤلات المطروحة حول الآيات عبارة عن:

١ - ما هي نوعية النهي في قوله تعالى:( لا تقربا ) ؟

٢ - ما هو المراد من وسوسة الشيطان لآدم وزوجته ؟

٣ - ماذا يراد من قوله:( فأزلّهما الشيطان ) ؟

٤ - ماذا يراد من قوله:( فعصى آدم ربّه فغوى ) وهل العصيان والغواية يلازمان المعصية المصطلحة ؟

٥ - ما معنى اعتراف آدم بظلمه لنفسه في قوله:( ربّنا ظلمنا أنفسنا ) ؟

____________________

١ - طه: ١١٥ - ١٢٣.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321