أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 107663
تحميل: 7738

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107663 / تحميل: 7738
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مخلّفات انحراف القيادة:

وقع الانحراف بعد وفاة النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله . هذه هي بداية البحث في تسلسل هذه الفكرة، وكان هذا الانحراف انحرافاً أساسياً وخطراً جداً بالرغم من أنّه لم يمسَّ في ظاهر الحال إلاّ ميداناً واحداً من الميادين التي كان يعتمد عليها الإسلام في بداية الأمر.

لعلّ كثيراً من الناس هكذا بدا لهم: أنّ هذا الانحراف لا يعني أكثر من أنّ شخصاً كان مرشحاً من قبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من قبل الله سبحانه وتعالى، وهذا الشخص قد أُقصي أو غصب حقّه وأُعطي حقّه لشخصٍ آخر بدلاً عنه. قد يكون هذا الشخص الآخر قادراً على أن يقوم مقامه في هذه المهمّة، قد يكون في ظاهر الحال هكذا يُتخيَّل، يُتخيَّل أنّ الانحراف كان يتمثّل في اعتداءٍ على حقّ شخصٍ معيّن وسلب هذا الحقّ من هذا الشخص المعيّن، وتسلّم شخص آخر من الخلفاء الذين تسلّموا زمام الحكم بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إلاّ أنّ الانحراف لم يكن انحرافاً شخصياً أو سهلاً أو بسيطاً بهذا المقدار؛ لأنّنا قلنا في الأيام السابقة بأنّ الإسلام رسالة تربيةٍ للإنسان، ورسالة جاءت لتبني الإنسان من جديد، وبناء الإنسان من جديدٍ يتوقّف على السيطرة على كلّ المجالات التي يمكن للإنسان أن يمارس حياته ونشاطه عليها؛ لأنّ المربّي ما لم يسيطر على كلّ تلك المجالات، وما لم يمتلك زمام كلّ تلك الميادين لا يمكنه أن يسيطر على كلّ أبعاد الإنسان، وبالتالي أن يربّي الإنسان وفقاً للرسالة التي جاء بها، التربية الشاملة الكاملة للإنسان بحيث يبني إنساناً إسلامياً جديداً متميّزاً بكلّ أبعاده وجهاته ومقوّماته عن إنسان ما قبل الإسلام، عن إنسان الجاهلية، هذا يتوقّف على أن يسيطر المربّي على كلّ المجالات التي يعمل عليها الإنسان

١٠١

يسيطر على مجال العلاقات الفردية مع الإله، يسيطر على مجال علاقاته مع الآخرين في النطاق العائلي والمجال الاجتماعي، يسيطر على كلّ هذه المجالات؛ لأنّه لو يم يسيطر على أيّ واحدٍ منها يكون معنى ذلك أنّ جزءاً من الإنسان لم يسيطر عليه. وبما أنّ الإنسان يتفاعل مع كلّ هذه المجالات يكون عدم السيطرة على واحدٍ منها معناه أنّه لم يسيطر على جزءٍ من الإنسان، وبالتالي لم يستطع أن يربّي الإنسان.

أنتم ترون أنّ الأب لا يستطيع أن يربّي ابنه تربيةً كاملةً شاملة؛ لأنّه ليس المربّي الوحيد لابنه؛ ولأنّ هناك أشياء تشاركه في تربية ابنه، يشاركه في تربية ابنه زملاؤه في المدرسة، وأُُستاذه في المدرسة، والمجتمع الذي يعيش فيه، الشارع الذي يلعب فيه، القوانين التي تطبّق عليه من قبل الدولة، كلّ هؤلاء يشاركون في تربية ابنه، فالتربية الشاملة الكاملة لا تكون إلاّ بالهيمنة الكاملة على كلّ هذه المجالات بحيث أن تؤخذ خيوط هذه المجالات بيد المربّي، وبعد هذا يستطيع أن يحدّد الأُطروحة الصحيحة للإنسان الأفضل.

على هذا الأساس كانت سيطرة الإسلام على كلّ المجالات بما فيها المجال الاجتماعي الذي هو رأس هذه المجالات، كان هذا جزءاً أساسياً من التركيب الإسلامي، من الأُطروحة الإسلامية. كان من الضروري جدّاً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يسيطر على كلّ هذه المجالات، لا أن يكون واعظاً في المسجد فحسب، ولا أن يكون أُستاذاً في حلقةٍ فحسب، بل يكون هذا وذاك، ويكون إضافةً إلى هذا وذالك رائداً للمجتمع، حاكماً للمجتمع في كلّ ما يصبو إليه المجتمع من آمالٍ وأهداف، ويكون مخطّطاً ومقنّناً للمجتمع في كلّ ما يحتاج إليه المجتمع من قوانين ونظم.

هذا هو أُسلوب التربية الكاملة الشاملة الذي اختاره الإسلام، وليس من الكلفة أن يقال في نصّ نبويّ: ( مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً

١٠٢

جاهليةً )(١) لأنّ الارتباط في الإمام، الارتباط في القيادة جزء من التربية الإسلامية الكاملة للإنسان إذا كانت القيادة الإسلامية للحياة الاجتماعية جزءاً ضرورياً لإنجاح الحياة الإسلامية والثروة الإسلامية وإنتاج الأُمّة والفرد والعائلة.

بناءً على هذا نستطيع أن نعرف أنّ أيّ انحرافٍ يحصل في مجال قيادة المجتمع وقيادة التجربة الإسلامية، أنّ أيّ انحرافٍ يقع في هذه القيادة فهو يهدّد المخطّط كلّه بكامله؛ لأنّ هذا الانحراف سوف ينزع هذا المجال من يد الإسلام، وإذا انتزع هذا المجال من يد الإسلام فسوف لن يسيطر على جزءٍ كبيرٍ من الإنسان، وبالتالي وبقانون التفاعل بين الأجزاء بعضها مع بعضٍ سوف لن يسيطر على بقيّة الأجزاء، يعني أنّ الانحراف في هذا المجال يشكّل بداية خطرٍ على التجربة الإسلامية كلّها، على عمليّة التربية الإسلامية كلّها، ولم يكن مجرّد استبدال شخصٍ بشخصٍ آخر، لم يكن ظلماً لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بما هو عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وإنّما كان ظلماً للتجربة الإسلامية وبالتالي للبشرية.

عدم كفاءة قيادة التجربة الإسلاميّة:

كلّ هذا الانحراف وقع بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتمثّل في أنّ جماعةً من صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرتضوا عليّاً المنصوص عليه من قبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله للخلافة، فتصدّى بعضهم لها ومارس هؤلاء المرشّحون الحكم وقيادة التجربة الإسلامية، مارس أبو بكر ذلك، ومن بعده عمر بن الخطّاب، ثمّ عثمان بن عفّان.

هؤلاء الصحابة تارةً ننظر إليهم بمنظارٍ شيعيٍّ خاصّ، وهذا المنظار لا نريد أن نتحدّث به، ولكنّا ننظر إلى هؤلاء بقطع النظر عن هذا المنظار الخاصّ فنقول:

____________________

(١) الكافي ١: ٣٧١ و ٣٧٦ و ٣٧٨ ٣٩٧ و ٢: ٢٠ و ٢١.

١٠٣

إنّ تسلّم هؤلاء لزعامة التجربة الإسلامية كان يشكّل بداية الانحراف، وكان سبباً حتمياً لتأرجح التجربة بين الحقّ والباطل واستبطانها شيئاً من الباطل، واتّساع دائرة الباطل بالتدريج، وذلك:

أوّلاً - الرواسب الجاهليّة:

أمّا أوّلاً فلأنّ هؤلاء الصحابة الذين تسلّموا زمام الحكم أُُناس يشهد التأريخ عن حياتهم بأنّهم عاشوا الجزء الأكبر من حياتهم في عصرٍ جاهلي، وضمن إطار التفكير الجاهلي في كلّ ما كانوا يفكّرون فيه أو يتألّمون منه في كلّ مجالاتهم الاجتماعية ومجالات أهدافهم ومجالاتهم الفكرية والعقائدية، كانوا يعيشون الإطار الجاهلي بكلّ معناه، بعد هذا دخلوا في الإسلام، ولا نريد أن نتحدّث عن طبيعة دخولهم في الإسلام لنفرض أنّ دخولهم في الإسلام كان دخولاً حسناً، وأنّهم عاشوا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عيشةً حسنة، ولكنّ بذور الجاهلية لم تُستأصل من أفكارهم وعقولهم، بدليل أنّهم بالرغم من عيشهم مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وبالرغم من الادّعاء بالاسئثار بلطف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرغم من كلّ هذا كانوا بين حينٍ وآخر يعلنون عن تقاليد وتصوّراتٍ ترتبط بالوضع الذي كانوا يعيشونه قبل الإسلام.

احتجاج الخليفة الثاني على متعة الحجّ، فبالرغم من أنّ متعة الحجّ عمل عبادي خالص لا يرتبط بأيّ مصلحةٍ من مصالح الدنيا المعلومة، وبالرغم من أنّ الإنسان العاقل لا يستطيع أن يدرك بعقله أيّهما أحسن ؟ هل الأحسن العمرة المستمرّة إلى الحجّ أو العمرة المتحلّل منها التي يأتي بعدها الحجّ ؟ هذا العمل العبادي الذي لا تستطيع عقولنا أن تفضّل فيه بين الطريقتين اللتين يمكن أن يؤدّي بهما. هنا عمر لم يتأثّر في احتجاجه بعقله؛ لأنّه لا محلّ للعقل في التفضيل في هذا المقام، وإنّما تأثّر بطبيعة تربيته وعاداته وتقاليده، وحيث إنّ الجاهلية كانت

١٠٤

ترفض التحلّل بين العمرّة والحجّ، تأثّر الخليفة الثاني تأثّراً إلى درجةٍ أن يردّ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجهاً لوجهٍ مفضّلاً طريقة الجاهلية على طريقة الإسلام(١) .

وفي حياة الخلفاء الثلاثة شواهد كثيرة على هذا تظهر بين حينٍ وحين، ولا نريد من هذا أن نقول بأنّ هؤلاء كانوا يستبطنون الكفر والعداء للإسلام أو لشخص الرسول فإنّ الحديث عن هذا قد جمّدناه، ولكن ما قلناه يمكن أن ينسجم حتّى مع التصوّر السنّي لهؤلاء، بأن نقول: هؤلاء الصحابة صالحون، ولكنّهم مع هذا كلّه لا يزال الراسب الجاهلي يعيش في أعماقهم بدرجة ٣٠، ٤٠، ٥٠ % مثلاً، وأمّا الباقي فأصبح إسلامياً.

في يوم السقيفة - مثلاً - تعلمون بأنّ الخليفة الأوّل والثاني قالا: من ينازعنا سلطان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ !(٢) كأنّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله شيخ قبيلةٍ وهم شيوخ هذه القبيلة، وبعد أن مات شيخ القبيلة الأوّل يتولّى شيوخ القبيلة الآخرون !

من ينازعنا سلطان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ! هذا راسب جاهلي قد لا يكون عمر أو أبو بكر يعيش هذا الراسب، قد يكون الجانب الإسلامي يتغلّب على الجانب الجاهلي، ولكن حيث إنّ الراسب موجود فإنّ جزءاً من نفسه يمثّل هذا الراسب، ولهذا يطفو هذا الراسب في لحظاتٍ عديدةٍ من حياتهم الاجتماعية والسياسية.

إذن فهؤلاء الخلفاء بحكم وضعهم وحياتهم لم يكونوا ناساً قد اجتثّت الجاهلية من نفوسهم اجتثاثاً تاماً، بل كانت الجاهلية تعيش في نفوسهم في حالةٍ واضحةٍ ملحوظةٍ تنعكس على سلوكهم بين حينٍ وآخر، وحينئذٍ فهؤلاء حينما يتزعّمون قيادة التجربة الإسلامية فبطبيعة الحال مجموع الأفكار والعواطف التي

____________________

(١) انظر: بحار الأنوار ٣١: ١١٢ - ١٣٣، والنصّ والاجتهاد: ١٩٤ - ٢٠٠.

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام ٤: ٣١٠، والإمامة والسياسة: ٦.

١٠٥

يمثّلها أبو بكر أو عمر أو عثمان هي التي تحكم وهي التي تسود، لا شكل الخليفة ولحمه، بل هذه الأشياء التي يحملها اللحم والعظم والشكل، وإن كان مجموع هذه العواطف والأفكار ٥٠% أو ٤٠% أو ٣٠% رواسب جاهلية فمعنى ذلك أنّ الجاهلية سوف تشارك الإسلام في الحكم، وسوف يصبح للجاهلية حكم وتزعّم في توجيه التجربة الإسلامية التي جاءت لأجل أن تنقذ الإنسان من الجاهليّة إلى الإسلام، وتصنع الإنسان الجديد، وتقضي على الإنسان القديم، بينما كان المفروض هكذا، وإذا بالجاهليّة تشارك الإسلام في الحكم.

ثانياً - عدم استيعابهم الرسالة الإسلامية:

وأمّا ثانياً فإنّ هؤلاء لم يكونوا مهيّئين للحكم بقطع النظر عن جهة الراسب الجاهلي، لم يكونوا قد استوعبوا الرسالة الإسلامية استيعاباً كاملاً؛ لأنّ هؤلاء الصحابة تأثّروا بالمحنة، عاشوا المحنة السياسية للدولة الإسلامية، المحنة العسكرية لهذه الدولة، الدولة الإسلامية كانت في خضمّ الحروب وفي خضمّ الفتن، وفي منازعاتٍ مع المشركين من ناحيةٍ ومع اليهود من ناحيةٍ أُخرى، ومع سائر قبائل العرب من ناحيةٍ ثالثة.

إذن خضمّ هذا الصراع العسكري والسياسي كان يجعل الصحابة دائماً في دوّامة التفكير في كيفية حماية الدولة الإسلامية، وفي كيفية الدفاع عنها، وفي كيفية المساهمة في حروبها.

تعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله غزا عشرات المرّات(١) في ظروفٍ قصيرة، غزوات أعمّ من أن يكون قد وقع فيها قتال أو لم يقع فيها قتال. فالحياة كانت

____________________

(١) عدد غزوات الرسول (٨١ ) غزوة، انظر: مقدّمة مغازي الواقدي.

١٠٦

قلقة، حياة صراعٍ عسكريٍّ وسياسيٍّ مع الأعداء، مع المشركين، مع المنافقين من كلّ صوبٍ وحدب، لم يكن ليتوفّر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الوقت لتدريبهم وتثقيفهم على مستوى القيادة. صحيح أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يمارس تثقيفاً عالياً لأجل إيجاد اُمّةٍ واعية، أُمّةٍ تتمتّع بالحدّ الأدنى من الوعي ولكن لم يكن هناك تخطيط من قِبَل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو لم يكن هناك تخطيط من قِبَلهم أيام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أن يثقّفوا أنفسهم ويهيّئوا أنفسهم لكي يتسلّموا الحكم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولهذا قال عمر بن الخطّاب عندما عزّت عليه الفتوى أنّه:ألهانا أيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الصفق في الأسواق عن تعلّم مثل هذا الحكم (١) .

نحن لا نقول: إنّه ألهاه الصفق في الأسواق. افرضوا ألهته الحرب والغزو والجهاد في المقام عن تعلّم مثل هذه الأحكام، مع هذا هو بالنتيجة لم يتهيّأ لمستوى القيادة. قلنا بأنّه اشتغل بالصفق في الأسواق كما هو يعترف، أو انشغل بوضع الدولة الإسلامية وظروفها السياسية والعسكرية، على أيّ حالٍ لم يتهيّأ للقيادة.

من هنا نرى أنّ أبا بكر وعمر كانا عاجزين عن تحديد أبسط الأحكام الشرعيّة؛ لأنّه لم يكن عندهم تثقيف للاختزان إلى ما بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قلنا في بعض الأيام السابقة: إنّ صلاة الميّت التي كان يمارسها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام المسلمين، وكان يمارسها في كلّ يوم تقريباً لأنّه كان هناك عدد كبير من المسلمين يموتون، وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي عليهم، مع هذا اختلف المسلمون بعد هذا، اختلف هؤلاء القادة بأنّ التكبيرات في صلاة الميّت كم عددها ؟(٢)

____________________

(١) انظر: الغدير ٦: ٢٢٣.

(٢) عمدة القاري شرح صحيح البخاري ٨: ١٣٧.

١٠٧

هذا كلّه يعطي المعنى الاتّكالي. إنّ هؤلاء كانوا في أيام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله متّكلين على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو القائد، هو الرائد، هو الموجّه، الواحد كان يأتي يأتمّ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يخطر بباله في مرّةٍ من المرّات أن يحسب، هذه التكبيرات [ هذه ] الأُولى، هذه الثانية، هذه... حتّى يعرف أنّها أربعة أو خمسة، هذا معنى الاتّكالية، هذه الاتّكالية عاشها هؤلاء الصحابة في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن المسلمون متهيّئين بعد وفاة النبيّ تهيّؤاً فكرياً وعقائدياً لتحمّل أعباء الرسالة.

ثالثاً - الفرق بين ظروف التجربة في أيّام النبيّ وبعدها:

ثالثاً: أنّ التجربة التي عاشها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لو فرض أنّها تعطي هذه الإمكانيات الفعلية فمن المعلوم أنّ هناك فارقاً كبيراً بين ظروف التجربة في أيام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والظروف التي كانت الأُمّة الإسلامية مقبلةً عليها حينئذٍ، الأُمّة الإسلامية بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت مقبلةً على تحوّلٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ كبيرٍ وضخمٍ جدّاً؛ لأنّه كان من المفروض تحقيق فكرة المجتمع العالمي، هذه الفكرة التي دعا إليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنّه لم يحقّقها؛ لأنّ النبيّ إلى أن مات لم يمتدّ نفوذه إلى أكثر من نطاق الجزيرة العربيّة بالرغم من أنّه دعا ملوك العالم، دعا كسرى وقيصر، دعا سلطان الحبشة، دعا غيرهم إلى الإسلام لأجل توعيتهم بالإسلام، أو لأجل تسجيل أنّ الإسلام مجتمع عالمي، ويدعو إلى المجتمع العالمي الذي لا يفرّق فيه بين شعبٍ وشعب، وبين قوميةٍ وقوميةٍ، بالرغم من هذا لم يتحقّق المجتمع العالمي أيام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تحقّق مجتمع عربي يحمل الفكرة العالمية، مجتمع عربي يقوم على أساس الرسالة، على أساس الفكرة العالمية، ليس على أساس الفكرة القومية أو القاعدة القومية للرسالة.

هذا المجتمع بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان من المفروض أن يبني عالميّته، أن ينشئ

١٠٨

المجتمع العالمي، أن يضمّ في مجتمعٍ واحدٍ العرب والفرس والترك والهنود وجميع شعوب الأرض، أن يضمّهم في مجتمعٍ واحد، وهذه المهمّة مهمّة صعبة وعظيمة جدّاً، وتختلف كلّ الاختلاف من الظروف الموضوعية للمرحلة الأُولى التي عاشها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذه المرحلة أو هذه المهمّة التي تحتاج إلى عقليّة رسالية ١٠٠%، إلى نزاهة، وإلى تخلّص من كلّ شوائب، ومن كلّ الاتجاهات الفكريّة والعاطفية التي يعيشها الإنسان القَبَلي أو الإنسان القومي، عمر أو أبو بكر لن يستطيعا ذلك.

إنّ تجربة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرغم من أنّها كانت تمرّ في مرحلةٍ بدائيةٍ للموضوع كانت أساساً ضامناً قطعياً لصحّة سيرهم في المرحلة الثانية، في مرحلة إنشاء مجتمعٍ عالميٍّ مع أنّهما لم يعيشا المجتمع العالمي حتّى ذلك الوقت، ولم يعيشا المجتمع العالمي إلاّ كفكرةٍ لم تولد إلى النور، لم يعيشا حالةً تريهم أنّ الناس كلّهم أُُسرة، كلّهم سواسية كأسنان المُشط، أنْ لا فرق بين عربيٍّ وعجمي، هذا كانوا يسمعونه كفكرةٍ من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن لم يكونوا يرونه مجسّداً في المجتمع، في علاقاتهم بحيث إنّ إنساناً عجميّاً وإنساناً عربيّاً عاشا مجتمعاً واحداً بصورةٍ متكافئة، وإنّما هي مجرّد فكرةٍ لم يتيسّر لهؤلاء أن يحقّقوا هذه الفكرة وأن يتولّوا تحقيقها في هذه المرحلة الدقيقة من التجربة الإسلامية؛ ولذا وبطبيعة الحال سوف تحصل لهم بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله انخفاضات فكريّة وعاطفية تجعلهم دون مستوى تحقيق فكرة المجتمع العالمي، وقد تكون بذرة صغيرة جدّاً في عهدٍ ما، وقد تكون هذه البذرة تكبر بعد هذا وتصبح بلاءً كبيراً وشرّاً مستطيراً، كلّكم تعلمون بأنّ في التأريخ أمثلة كثيرة على هذا النحو.

العهدة على التأريخ في النقل: أنّ عمر بن الخطّاب أعفى نصارى العرب في العراق من الجزية، العرب الذين كانوا موجودين في العراق أعفاهم من الجزية

١٠٩

وكلّفهم بالزكاة ! لماذا ؟ عاتبوه، قالوا له: إنّ الجزية فيها شأن الذلّ فلا ندفع الجزية لأنّنا عرب ! قال لهم: إذن فادفعوا الزكاة. وأمر بأخذ المال منهم بعنوان الزكاة(١) .

طبعاً لم تكن الزكاة أصغر من الجزية؛ لأنّ المشرك يدفع الجزية والمسلم يدفع الزكاة، غاية الأمر كانت الجزية بحسب نفسها علاقةً فيها مهانة.

عمر بدّل الجزية بالزكاة، هذه البذرة الصغيرة جدّاً والطفيفة لم تطبّق إلاّ على عشيرةٍ واحدةٍ لا أكثر من عشائر النصارى في العراق، هذه البذرة على مرّ الزمن تأتي بالشرّ المستطير، لعلّ هذه البذرة هي الأساس في كلّ الشرور التي عاشها المسلمون بعد هذا، والتي مُني بها المسلمون نتيجةً للكيانات القومية التي زعزعت بعد ذلك الإسلام، وحطّمت الرسالة الإسلامية، الكيانات القومية العربية الفارسية التركية الهندية... إلى غير ذلك من الكيانات القومية الكافرة التي أُُنشئت في العالم الإسلامي، لعلّ هذه العملية البسيطة كانت هي نقطة الانطلاق لهذا الخطّ الطويل.

أنا لا أُريد أن أقول: إنّ هذا الخبر صحيح، بل أُُريد أن أقول بأنّ مهمّة إنشاء مجتمعٍ عالمي، هذه المهمّة تحتاج إلى قيادةٍ تختلف عن طبيعة الصلات والفروق التي كانت موجودةً في هؤلاء الخلفاء.

رابعاً: فتح باب البدع والتضليل:

رابعاً: لأنّ الشعور بالظلم في نفس الخلفاء كان يقيّض لهم التوسّع في الإضرار. الخلفاء كان يشعرون بأنّهم ظلموا علياًعليه‌السلام وغصبوه حقّه المنصوص

____________________

(١) انظر: صحيح مسلم ٤: ١٢٩، ومن لا يحضره الفقيه ٢: ١٥، وعنه في وسائل الشيعة ١٥: ١٥٢، الباب ٦٨ من أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه، الحديث ٥، وانظر بحار الأنوار ٣١: ١٧١.

١١٠

عليه من قبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

نعم، لعلّهم لم يكونوا يشعرون بأنّهم أساؤوا إلى الإسلام بهذا الترتيب، وأنّ عملهم سوف يؤدّي إلى هدم الكيان الإسلامي، لعلّهم لم يكن لهم دقّة النظر وفهم تسلسل الأحداث ومنطق التأريخ كما ينبغي، لم يكونوا يقدّرون أنّه بعد مرور ستّين سنةً على وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله سوف يشرب خليفة المسلمين الخمر(١) ، ويقتني الجواري للرقص والغناء والتسلية، لعلّهم لا يستطيعون أن يفسّروا هذا التفسير، ولكنّهم على أيّ حالٍ كانوا يشعرون بأنّهم غصبوا علياًعليه‌السلام ، وأنّهم أخذوا حقّه، ولهذا كانوا في مقام تبرير هذا نفسياً، أرادوا أن يبرّروا هذا، وظهر هذا السبيل على كلماتهم.

عمر خليفة المسلمين قال بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حاول أن يولّي عليّاً، لكنّي أنا منعته(٢) احتياطاً للإسلام وحرصاً على مصلحة الإسلام، وغير ذلك كثير. كلّ هذه التبريرات النفسية إزاء وخز الضمير أنتجت انحرافاً خطيراً، أنتجت البناء النفسي عندهم بأنّه لا يلزم التقيّد بما يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

صحيح، رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال بأنّ عليّاً إمام بعدي، وإنّه خليفةٌ بعدي، قد يكون هناك شيء آخر أصلح من هذا لحال المسلمين. إنّهم للدفاع عن الذنب الذي كان موجوداً في نفوسهم قالوا هذا. وحينما قام هذا المبدأ انفتحت كلّ البدع والانحرافات، حتّى أنّ عمر لم يرَ مانعاً من أين يقول:( متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا اُحرّمهما ) !!(٣) . لم ير مانعاً من ذلك بعد أن عاش مدّة من الزمن

____________________

(١) انظر: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ١٨٢.

(٢) مسند أحمد ١: ٣٥٥.

(٣) انظر: بحار الأنوار ٣١: ١١٢ - ١٣٣، والنصّ والاجتهاد: ١٩٤ - ٢٠٠.

١١١

الشعور بالذنب، وحلّ التناقض بأن خدع نفسه وأقنعها خداعاً وتضليلاً، أصبح يقول: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا أقول.

هذا الباب ( باب خدع النفس ) فتح باباً آخر و هو باب البدع والتضليل، باب حمل الشعارات الجزئية الهستيرية غير الصحيحة.

هذه الأمور الأربعة فرضت حتمية الانحراف لتجربة الإسلام التي جاء بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتولّي قيادتها بعده غير أئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام.

١١٢

موقف الإمام عليعليه‌السلام السياسي

بعد تسلّمه زمام الحكم

( القسم الأوّل )

١١٣

١١٤

بسم الله الرحمن الرحيم*

الإمام عليعليه‌السلام أمل الإسلام والأمّة بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :

نجتمع لذكرى أشأم ليلةٍ بعد اليوم الذي توفّي فيه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ اليوم الذي توفّي فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو اليوم الذي خلّف فيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تجربته الإسلاميّة في مهبّ القدر، وفي رحبة المؤامرات التي أتت عليها بعد برهةٍ من الزمن. واليوم الذي اغتيل فيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام كان اليوم الذي قضي فيه على آخر أملٍ في إعادة خطّ تلك التجربة الصحيحة، هذا الأمل الذي كان لا يزال يعيش في نفوس المسلمين الواعين، ومتجسّداً في شخص هذا الرجل العظيم الذي عاش منذ اللحظة الأولى هموم الدعوة وآلامها، واكتوى بنارها، وشارك في بنائها لبنةً لبنة، وأقام صرحها مع أستاذهصلى‌الله‌عليه‌وآله صرحاً صرحاً.

هذا الرجل الذي كان يعبّر عن كلّ هذه المراحل بكلّ همومها ومشاكلها وآلامها.

هذا الرجل كان هو الذي يمثّل هذا الأمل الوحيد الذي بقي للمسلمين

____________________

(*) أُلقيت في ١٨ شهر رمضان المبارك / ١٣٨٨ ه-.

١١٥

الواعين في أن تسترجع التجربة خطّها الواضح الصريح، وأُسلوبها النبويّ المستقيم، حيث إنّ الانحراف في داخل وفي أعماق هذه التجربة كان قد طغى وتجبّر واتّسع بحيث لم يكن هناك ولا يكون هناك أيّ أملٍ في أن يقهر هذا الانحراف. اللهمّ إلاّ على يد رجلٍ واحدٍ كعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، ولهذا كانت حادثة اغتيال هذا الإمام العظيم - حينما خرّ صريعاً في مثل هذا اليوم - كانت تقويضاً حقيقيّاً لآخر أملٍ حقيقيٍّ في قيام مجتمعٍ إسلاميٍّ صحيحٍ على وجه الأرض إلى يومٍ غير معلوم، وإلى أجلٍ غير محدود.

كان هذا الاغتيال المشئوم عقيب حكمٍ مارسه الإمامعليه‌السلام طيلة خمس سنواتٍ تقريباً، وهذه الخمس سنوات التي مارسعليه‌السلام فيها الحكم بدأ منذ اللحظة الأولى من تسلّم زمام الحكم في عمليّة التغيير الحقيقي في كيان هذه التجربة المنحرفة، وواصل سعيه في سبيل إنجاح عملية التغيير.

واستشهد وخرّ صريعاً بالمسجد وهو في قمّة هذه المحاولة، أو في آخر محاولةٍ من محاولات عملية التغيير، وتصفية الانحراف الذي كان قد ترسّخ في جسم المجتمع الإسلامي متمثّلاً في معسكرٍ منفصلٍ عن الدولة الإسلامية الأُم.

رفض الإمامعليه‌السلام للمساومات:

والظاهر الواضحة في هذه الخمس سنوات التي مارس فيها الإمامعليه‌السلام هي أنّ الإمام منذ بدءِ تسلّم زمام الحكم إلى أن خرّ صريعاً في سبيل إقامة عدل الله على الأرض كان غير مستعدٍّ بأيّ شكلٍ من الأشكال وفي أيّ صيغةٍ من الصَيغ لتقبّل أنصاف الحلول بالنسبة إلى تصفية هذا الانحراف، أو تقبّل أيّ معنىً من معاني المساومة أو المعاملة على حساب هذه الأُمة، التي كان يرى بكلّ حرقةٍ وألمِ أنّها تُهدر كرامتها وتباع بأبخس الأثمان.

١١٦

هذه الظاهرة تسترعي الانتباه سياسياً من ناحية، وتسترعي الانتباه فقهيّاً من ناحية أخرى.

موقف الإمامعليه‌السلام سياسياً:

أمّا من الناحية السياسية فقد استرعت انتباه أشخاصٍ معاصرين للإمامعليه‌السلام ، واسترعت انتباه أشخاصٍ آخرين حاولوا أن يحلّلوا ويدرسوا حياة الإمامعليه‌السلام ، فقد لوحظ عليهعليه‌السلام أنّ عدم تقبّله بأيّ شكلٍ من الأشكال لهذه المساومات وأنصاف الحلول كان يعقّد عليه الموقف، ويثير أمامه الصعاب، ويرسّخ المشاكل، ويجعله عاجزاً عن مواجهة مهمّته الأساسيّة والمضيّ بخطّ تجربته إلى حيث يريد.

فمثلاً ذلك الشخص ( المغيرة ) الذي جاء إليه بعقليّة هذه المساومات، واقترح عليه أن يُبقي معاوية بن أبي سفيان والياً على الشام وقال له: إنّ بإمكانك إبقاء معاوية والياً على الشام برهةً من الزمن، وهو في هذه الحالة سوف يخضع ويبايع، وحينئذٍ يمكنك استبداله أو تغييره بأيّ شخصٍ آخر بعد أن استقطبتَ كلّ أطراف الدولة، وبعد أن تكون قد تمّت لك البيعة والطاعة في كلّ أرجاء العالم الإسلامي، فاشترِ بإبقاء هذا الوالي أو ذاك، وبإقرار هذه الثروات المحرّمة في جيب هذا السارق أو ذاك برهةً من الزمن، ثمّ بعد هذا يمكنك أن تصفّي كلّ هذه الولايات الفاجرة، وكلّ هذه الثروات المحرّمة.

ولكنّ الإمام في جوابه للمغيرة بن شعبة قال بأنّه يرفض هذه الألوان من المساومة، وسوف يسير في خطّه السياسي الواضح(١) ، ومن هنا قال معاصروه

____________________-

(١) بحار الأنوار ٣٢: ٣٤، باب بيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الحديث ٢٠.

١١٧

وقال غير معاصريه: إنّه كان بإمكانه أن يسجّل نجاحاً أكبر، وأن يحقّق توفيقاً من الناحية السياسية أكثر لو أنّه قَبِل أنصاف الحلول، ولو أنّه مارس هذا النوع من المساومات ولو بشكلٍ مؤقّت.

موقف الإمامعليه‌السلام فقهيّاً:

أمّا من الناحية الفقهيّة في الموضوع فهي ناحية التزاحم.

الفقه يقول بأنّه إذا توقّف واجب أهمّ على مقدّمةٍ محرّمةٍ فلا بدّ من الحفاظ على ذلك الواجب الأهمّ، ولا يجوز تبرير ترك الواجب الأهمّ في سبيل حرمة المقدّمة(١) . حينما يقال: إذا توقّف إنقاذ نفسٍ محترمةٍ من الغرق على اجتياز أرضٍ مغصوبةٍ لا يرضى صاحبها باجتيازها حيث تسقط هنا حرمة هذا المالك ورضاه؛ لأنّ النتيجة أهمّ من هذه المقدّمة، كما فعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض غزواته مثالاً مشابهاً لهذا المثال: كان الجيش الإسلامي مضطراً إلى الخروج من المدينة عن طريقٍ معيّن، وكان في هذا الطريق مزرعة لأحد الصحابة، وكان من طبيعة مرور هذا الجيش في المزرعة إتلاف محاصيلها الزراعيّة، هذه المحاصيل التي لم يرضَ أن يقدّمها مالك المزرعة في سبيل الإسلام ويسمح بمرور الجيش عليها، ولذلك احتجّ وصرخ وقَدِم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له: مزرعتي ومالي، ولكنّ النبيّ لم يجبه بحرفٍ واحد، ولكنّه وجّه الأمر إلى الجيوش بالمرور، وكان نتيجة ذلك إتلاف المحاصيل(٢) .

____________________

(١) دروس في علم الأصول ٢: ٢٣١ - ٢٤١.

(٢) انظر: السيرة النبويّة لابن هشام ٣: ٦٥، والمغازي للواقدي ١: ٢١٨، وتاريخ الطبري ٢: ١٩٢.

١١٨

وما صدر هذا عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ لأنّ النتيجة كانت أهمّ من المقدّمة؛ ولذلك يقال في الفقه: إذا توقّف الواجب على مقدّمةٍ محرّمةٍ وكان ملاك الوجوب أقوى من الحرمة يقدّم الواجب على الحرام.

وعلى هذا الضوء حينئذٍ يمكن أن تثار الظاهرة التي استعرضناها في حياة أمير المؤمنينعليه‌السلام كحاكم، وهي: أنّه لماذا لم يطبّق هذه القاعدة في سبيل استباحة كثيرٍ من المقدّمات المحرّمة ؟ أليس إجماع الرأي عليه ؟ أليس تملّكه لزمام القيادة في المجتمع الإسلامي أمراً واجباً محقّقاً لمكسبٍ إسلاميٍّ كبير ؟ لأنّه سوف يفتح - إذا تيسّر له زمام القيادة - أبواب الخيرات والبركات ويقيم حكومة الله في أرضه، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف الذي يتوقّف على مقدّمةٍ محرّمة، من قبيل إمضاء ولاية معاوية بن أبي سفيان مدّةً من الزمن، أو إمضاء الأموال المحرّمة التي وصلت لأيدي أُميّة من عثمان بن عفّان، لِم لَم يُقدم الإمامعليه‌السلام على ارتكاب المحرّم في سبيل الواجب الأهمّ الذي قدّم في باب الفقه ؟

أسباب رفض الإمامعليه‌السلام المساومات:

الواقع هو أنّ الإمامعليه‌السلام لا بدّ أن ينهج الطريق الذي اتّبعه، ولم يكن بإمكانه كقائدٍ رساليٍّ يمثّل الإسلام وأهدافه أن يقبل هذه المساومات وأنصاف الحلول ولو كمقدّمة، وليس قانون باب التزاحم الفقهي هنا صالحاً للانطباق على موقف أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ وذلك للآتي:

السبب الأوّل:

أوّلاّ: لا بدّ وأن يلحظ أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يريد أن يرسّخ قاعدة سلطانه في قطر جديد من أقطار العالم الإسلامي، وهذا القطر هو العراق، لأنّ

١١٩

شعب العراق وأبناء العراق مرتبطون روحيّاً وعاطفيّاً بالإمامعليه‌السلام ، وحيث إنّه لم يكن شعب العراق يعي رسالة عليّعليه‌السلام وعياً حقيقياً كاملاً كان الإمامعليه‌السلام بحاجةٍ إلى أن يبني في تلك الطليعة العقائدية، وذلك الجيش العقائدي الذي يكون أميناً على الرسالة والأهداف، ويكون ساعداً ومنطلقاً له بالنسبة لترسيخ هذه الأهداف في كلّ أرجاء العالم الإسلامي.

كان الإمامعليه‌السلام بحاجةٍ إلى تلك القاعدة التي لم يكن يملكها مسبقاً، فإذن كيف يستطيع أن يبني هذه القاعدة ؟ هل يمكن أن يبني هذه القاعدة العقائدية في جوٍّ من المساومات وأنصاف الحلول حتّى ولو كانت جائزةً شرعاً، لأنّ جوازها الشرعي لا يؤثّر في الحقيقة التالية شيئاً، وهي: أنّه لا يمكن لشخصٍ يعيش في جوٍّ من المساومات وأنصاف الحلول العقائديّة، وتنتج منه رجلاً كعمّار بن ياسر أو أبي ذرّ أو سلمان، ويكتسب روحية الجيوش العقائديّة الواعية البصيرة، والتي تكون معاركها مع خصومها ليست معارك للذات، ولكنّها معارك للأهداف الكبيرة التي هي أكبر من الذات ؟

هذه الروحيّة لم يكن من الممكن أن تنمو، ولا يمكن لعليّعليه‌السلام أن يبنيها في من حوله وفي حاشيته وقواعده الشعبية وهو يعيش في جوٍّ من المساومات وأنصاف الحلول حتّى ولو كانت جائزة، لأنّ جوازها لا يغيّر من مدلولها التربوي شيئاً، ولا من دورها في تكوين نفسية الإنسان بأيّ شكلٍ من الأشكال، إذن كان هناك حاجة حقيقيّة ملحّة أمام الإمام عليّعليه‌السلام في بناء دولته إلى قاعدةٍ شعبيةٍ واعيةٍ يعتمد عليها في ترسيخ الأهداف على النطاق الأوسع، وهذه القاعدة الشعبيّة لم تكن موجودةً حينما تسلّم زمام الحكم حتّى يستطيع الاتّفاق معها على ضرورية هذه المساومات وأنصاف الحلول، ولا توجب انحرافه عن خطّ الرسالة المقدّسة إذا أخذ بها لمدّة زمنيةٍ محدودة.

١٢٠