أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 109650
تحميل: 7825

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109650 / تحميل: 7825
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كان على عليٍّعليه‌السلام أن يبني ذلك الجيش العقائدي، وكان عليه أن ينتزع الخيِّر من جماعته وحاشيته العراقيين؛ لكي يشكّل منهم كتلةً واعيةً من قبيل مالك الأشتر، وهؤلاء لم يكن بالإمكان ممارسة بناءٍ نفسيٍّ وروحيٍّ وفكريٍ وعاطفيٍّ حقيقيٍّ لهم في جوٍّ مليءٍ بالمساومات؛ لأنّها كانت تشكّل نكسةً بالنسبة لعملية التربية لهذا الجيش العقائدي، وترك بناء مثل هذه القاعدة الحقيقية يعني فقدان عليٍّعليه‌السلام للقوى الحقيقيّة التي يعتمد عليها بناء الدولة؛ وذلك لأنّ أيّ دولةٍ عقائديةٍ هي بحاجة إلى طليعةٍ عقائديةٍ تستشعر بشكلٍ واعٍ وعميقٍ وموسّعٍ أهداف تلك الدولة، وواقع أهميّتها، وضرورتها التأريخية.

ونتيجة لكلّ هذا كان لا بدّ من الحفاظ على صفاء وطُهر عملية التربية لهذا الجيش العقائدي، وكان لا بدّ لآلافٍ من أمثال مالك الأشتر أن يشاهدوا إنساناً لا تزعزعه المغريات، ولا يتنازل إلى أيّ نوعٍ من أنواع المساومات حتّى يستطيعوا من خلال حياة الرجل العظيم أن يتبنّوا المدلول الرسالي الكامل للأُطروحة ولأبعادها الواسعة في صيغة الحياة.

ونتيجة ذلك كان لا بدّ لعليٍّعليه‌السلام ولأجل ممارسة عملية التربية أن يترفّع عن هذه المساومات والحلول الوسط لكي يستطيع أن يخلق ذلك الجوّ الرفيع نفسياً وفكريّاً وروحياً، والذي سوف ينشأ في داخل وفي أعماقه الجيل الذي يستطيع أن يحتضن أهداف عليٍّعليه‌السلام ويضحّي في سبيلها، ويواكب هذه الأهداف في حياة الإمام، وبعد وفاته.

السبب الثاني:

ثانياً : لا بدّ من الالتفات إلى أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام جاء في أعقاب ثورةٍ ولم يأتِ إلى الحكم في حالةٍ اعتيادية، معنى مجيئه في أعقاب ثورةٍ يعني أنّ

١٢١

البقيّة الباقية من العواطف الإسلامية قد تفجّرت في لحظة ارتفاع، كلّ هذه العواطف تجمّعت ثمّ ضغطت ثمّ انفجرت في لحظة ارتفاع، وماذا ينتظر القائد الرسالي غير لحظة ارتفاعٍ في حياة اُمّة؛ لكي يستطيع أن يستثمر هذه اللحظة في سبيل إعادة هذه الأُمّة إلى سيرها الطبيعي.

وبما أنّ الإمام علياًعليه‌السلام كان قائداً رساليّاً فكان عليه أن يستثمر لحظة الارتفاع هذه؛ لأنّ المزاج النفسي والروحي وقتئذٍ لشعوب العالم الإسلامي لم يكن ذال المزاج الاعتيادي الهادئ الساكن حتّى يسير على ضوء مخطّطه التدريجي، وإنّما كان هذا المزاج ثوريّاً مرتفعاً إلى مستوى قتل الحاكم والإطاحة به؛ لأنّه انحراف عن كتاب الله وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذن هذا الارتفاع الذي وجد في لحظةٍ في حياة اُمّةٍ لم يكن من السهل إعادته بعد ذلك؛ ولذا كان لا بدّ للحاكم الذي يتسلّم زمام المسئوليّة في مثل هذه اللحظة أن يعمّق هذه اللحظة، وأن يمدّدها ويرسّخ المضمون العقائدي في أثنائها عن طريق هذه الإجراءات الثوريّة التي قام بها أمير المؤمنينعليه‌السلام .

ولو أنّ الإمام أبقى الباطل مؤقّتاً وسكت عن معاوية وأمثال معاوية، وترك مال الله في أيدي مروان وأمثاله، إذن لهدأت العاصفة وانكمش هذا التيّار العاطفي والنفسي، ومعنى انكماشه وهدوئه أن لا يستطيع الإمام في فترةٍ أُخرى إثارة وتصعيد ثورته من جديدٍ ليقوم بالإجراءات التي من المفروض أن يهادنها مؤقّتاً كما ذكرنا سابقاً. ولذا كان أفضل ظرفٍ لهذه الإجراءات هو الظرف الثوري الذي كانت تعيشه الأُمّة الإسلامية، ولم يكن بالإمكان تأجيل هذه الإجراءات إلى ظروفٍ أُخر تنطفئ فيها هذه الشعلة، وتذوب هذه العواطف، وتتميّع هذه المشاعر.

١٢٢

السبب الثالث:

ثالثاً : ولا بدّ أيضاً من الالتفات إلى أنّ الإمام علياًعليه‌السلام كان يحرص بشدّةٍ على أن تدرك الأُمّة كافّةً أنّ واقع المعركة بينه وبين خصومه ليست معركةً بين شخصين، وبين قائدين، وبين قبيلتين، وإنّما هي معركة بين الإسلام والجاهلية. كان يحرص على أن يفهم الناس أنّ واقع المعركة بينه وبين خصومه هو نفسه واقع المعركة بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين الجاهلية التي حاربته في بدرٍ وفي اُحدٍ وغيرهما من المعارك.

ومن الطبيعي أن يُمنى هذا الحرص بالفشل وبنكسةٍ كبيرةٍ لو أنّه أقرّ معاوية، وأقرّ مخلّفات عثمان السياسية والمالية؛ لأنّ إقرار ذلك ولو لبرهةٍ قصيرةٍ سوف يرسّخ في ذهن المسلمين بشكلٍ عامٍّ أنّ القصّة ليست قصّة معركةٍ رسالية، وإنّما قصّة أهداف حكمٍ انسجمت مع واقع هذه المخلّفات، ونتيجةً لذلك فسوف تخلق هذه المخلّفات ذلك الشكّ الذي نما عند الأُمّة في أمير المؤمنينعليه‌السلام بالرغم من عدم وجود مبرّرٍ موضوعي، وإنّما كانت له مبرّرات ذاتية، بالرغم من أنّه لم يكن يوجد أيّ مبرّرٍ موضوعيٍّ لذلك، وبالرغم من أنّ المبرّر الوحيد للشكّ كان ذاتياً، بالرغم من هذا استفحل هذا الشكّ وقوي حتّى امتحن هذا الإمام العظيمعليه‌السلام بهذا الشكّ، ومات واستشهد والأُمّة شاكةٌ فيه، ثمّ استسلمت الأُمّة وتحوّلت إلى كتلةٍ هامدةٍ بين يدي الإمام الحسنعليه‌السلام نتيجةً لذلك الشكّ. فكيف إذا افترضنا أنّ الشكّ وجدت له مبرّرات موضوعية بحسب الصورة الشكلية للموقف ؟

لو أنّ المسلمين رأوا عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام - رمز الأُطروحة الإسلامية - يساوم ويبيع هذه الأُمّة ولو مؤقّتاً ماذا يكون رأيهم ؟! وما هو موقفهم ؟!

١٢٣

أمير المؤمنينعليه‌السلام كانت مهمّته الكبرى هي الحفاظ على وجود الأُمّة، وعلى عدم تنازلها عن هذا الوجود. الأُمّة الإسلامية التي قالت لعمر بن الخطّاب الذي هو أكبر خليفةٍ انحرف عن رسالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قالت: إذا انحرفت عمّا نعرف من أحكام كتاب الله وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله نقوّمك بسيوفنا(١) . هذه الأُمّة قالت هذه الكلمة لأكبر خليفةٍ منحرف، بدأت تتنازل عن وجودها، أو بتعبيرٍ آخر: كانت هناك مؤامرات تحاك ضدّ هذه الأُمّة لكي تتنازل عن وجودها، وكان على عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام أن يحافظ على هذه الأُمّة، وأن يحصّنها ضدّ عملية التنازل عن وجودها.

معاوية وجذور معاوية في تأريخ الإسلام الذين كانوا يقودون معركة التنازل عن الوجود بالنسبة للأُمّة، ويخطّطون لها هم أنفسهم كانوا يدعون إلى أن يصبح الإسلام هرقلية وكسروية. والهرقلية والكسروية كانتا يكنّى بهما عن تنازل الأُمّة عن وجودها، أي أن تتحوّل التجربة الإسلامية من أُمّةٍ تحمل رسالة إلى ملكٍ يحمل هذه الرسالة بمستوى وعيه لها وإخلاصه لها أن وجد عنده إخلاص.

هذه المؤامرات التي نجحت بعد هذا والتي تُوّجت بكلّ المآسي والمحن والكوارث التي كانت ولا تزال إلى يومنا هذا، كلّ هذه المحن والكوارث كانت النتيجة الطبيعية لتنازل الأُمّة عن وجودها وكيانها.

أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي أدرك الأُمّة في اللحظات الأخيرة من وجودها المستقلّ كان يريد أن يمدد هذا الوجود المستقلّ، وأن يشعر الأُمّة بأنّها ليست سلعةً تباع وتشترى، وأنّها ليست شيئاً يساوم عليه. إذن كيف يشعرها بأنّها ليست

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٠: ١٨٠ - ١٨١، تاريخ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الباب ٩٣، الحديث ٦١، عن كشف الغمّة والمناقب للخوارزمي. والنقل بالمعنى والقائل في الخبر الإمام عليّعليه‌السلام .

١٢٤

سلعةً تباع وتشترى إذا كان هو يبيعها ويشتريها ولو لبرهةٍ زمانيةٍ قصيرة ؟! كيف يستطيع أن يشعر الأُمّة بأنّها لا تباع ولا تشترى، وليست وفق رغبات السلاطين وأهواء الحكّام، وإنّما هي الأُمّة التي تمثّل خلافة الله في الأرض ؟ كيف يمكن أن يفهم الأُمّة ذلك إذا كان هو يبيع قطّاعاتٍ من هذه الأُمّة لحكّامٍ فجرةٍ من أمثال معاوية بن أبي سفيان في سبيل أن يسترجع هذه القطّاعات بعد ذلك ؟

وبطبيعة الحال كان معنى رضاه بالمساومات والحلول الوسط أن يواكب هذه المؤامرات ضدّ وجود الأُمّة، بينما المفروض أنّه سيقف في وجه أيّ مؤامرةٍ على استقلال وجود الأُمّة؛ ولذا فلا يمكنه القبول بالمساومات.

السبب الرابع:

رابعاً : أنّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام لم يكن يتعامل مع الفترة الزمنية القصيرة التي عاشها فقط، وإنّما كان يحمل هدفاً أكبر من ذلك. الإمام عليّعليه‌السلام كان يحسّ بأنّه أدرك المريض وهو في أواخر مرضه، أي في الوقت الذي لا ينفعه العلاج، ونتيجةً لإحساسه هذا كان يفكّر في أبعادٍ أطول وأوسع للمعركة، ولم يكن فقط يفكّر في الفترة الزمنية التي عاشها. هذا التفكير هو أنّ الإسلام بحاجةٍ لأن تقدّم عنه في خضمّ الانحراف أطروحة واضحة صريحة نقيّة لا شائبة فيها ولا غموض، لا التواء فيها و لا تعقيد، لا مساومة فيها ولا نفاق ولا تدجيل.

لماذا كان الإسلام بحاجةٍ إلى هذه الأُطروحة ؟

الإسلام بحاجة لهذه الأُطروحة؛ لأنّ الأُمّة كتب عليها أن تعيش الحكم الإسلامي المنحرف منذ نجحت السقيفة، وحيث إنّها كتب عليها إلى أمدٍ طويلٍ أن تعيش الحكم الإسلامي المنحرف، وبما أنّ الإسلام الذي تعطيه السقيفة بامتدادها

١٢٥

التأريخي إسلام مشوّه وممسوخ، إسلام لا يحفظ الصلة العاطفية فضلاً عن الفكرية بين الأُمّة ككلٍّ وبين الرسالة، بين أشرف رسالات السماء وهذه الأُمّة التي هي أشرف الأُمم. هذا الإسلام المعطى لمعاوية ومروان وعبد الملك وهارون لا يمكن أن يترك صلةً بين الأمّة وبين الإسلام، فكان لا بدّ لحفظ الصلة بين جماهير الأمّة الإسلامية وبين هذه الرسالة من إعطاء صورةٍ واضحةٍ محدّدةٍ للإسلام، وهذه الصورة أُعطيت نظريّاً على مستوى ثقافة أهل البيتعليه‌السلام ، وأُعطيت عمليّاً على مستوى تجربة الإمام عليٍّعليه‌السلام .

فكان الإمام عليّ في تأكيده على العناوين الأوّلية في التشريع الإسلامي، وفي تأكيده على الخطوط الرئيسية في الصيغة الإسلامية للحياة، كان في هذا يريد أن يقوّم المنهاج الإسلامي واضحاً، غير ملوّثٍ بأدران الانحراف التي كتبت على تأريخ الإسلام مدّةً طويلةً من الزمن. وكان لا بدّ لكي يتحقّق هذا الهدف من أن يعطي التجربة إلى المسلمين بهذا النوع من الصفاء والنقاء والوضوح، دون أن يعمل بما أسميناه بقوانين باب التزاحم.

وهكذا كان هذا الإمام العظيمعليه‌السلام صامداً مواجهاً لكلّ المؤامرات على الأمّة، هذه المؤامرات التي كانت الأمّة تساهم في صنعها وفي حياكتها على أساسٍ من جهلها وعدم وعيها، وعدم شعورها بالدور الحقيقي الذي يمارسه هذا الإمامعليه‌السلام في سبيل حماية وجودها من الضياع، وحماية كرامتها من أن تتحوّل إلى سلعة، حتّى خرّ صريعاً على يد شخصٍ من هذه الأمّة التي ضحّى في سبيلها، خرّ صريعاً في المسجد متوِّجاً حياته بكلماته: ( فزت وربّ الكعبة )(١) .

____________________

(١) بحار الأنوار ٤١: ٢، تاريخ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الباب ٩٩، باب يقينهعليه‌السلام وصبره على المكاره، الحديث ٤.

١٢٦

هل كان عليّعليه‌السلام أسعد إنسانٍ في آخر لحظةٍ من حياته ؟

لنحسب حساب عليٍّ وهو في آخر لحظةٍ من لحظات حياته حينما قال: ( فزت وربّ الكعبة)، هل كان عليّعليه‌السلام أسعد إنسان، أو كان أتعس إنسان ؟

يمكن أن نقارن ونحسب على أساس مقياسين: أحدهما مقياس الدنيا، والآخر مقياس الله عزّ وجلّ.

لو كان عليّعليه‌السلام عمل كلّ الذي عمله للدنيا، لنفسه، فهو عندما ضُرب كان أتعس إنسان، ومَن أتعس من عليّ الذي بَنى كلّ ما بنى، وأقام كلّ الذي أقام من صروحٍ ثمّ حُرم من كلّ هذا البناء ؟

هذا الإسلام الشامخ العظيم الذي يأكل الدنيا شرقاً وغرباً بني بدم عليّ، بني بخفقات قلب عليّ، بني بآلام علي، كان علي شريكاً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بكلّ محن هذا البناء، وكوارث هذا البناء، ومآسي هذا البناء، أيّ لحظةٍ محرجةٍ وجدت بتأريخ هذا البناء لم يكن عليٌّعليه‌السلام فيها ؟ هو الإنسان الوحيد الذي تتّجه إليه أنظار النبيّعليه‌السلام ونظر المسلمين جميعاً لأجل إنقاذ عمليّة البناء.

إذن فعليّعليه‌السلام كان هو المضحّي دائماً في سبيل هذا البناء، هو الشخص الذي أعطى ولم يبخل، الذي ضحّى ولم يتردّد، الذي كان يضع دمه على كفِّه في كلّ غزوةٍ وفي كلّ معركة، في كلّ تصعيدٍ جديدٍ لهذا العَلم الإسلامي الراسخ العظيم.

إذن، فقد شيّدت كلّ هذه المنابر بيد عليّعليه‌السلام ، واتّسعت أرجاء كلّ هذه الدولة بسيف عليّ، لكن ماذا حصل عليّ من كلّ هذا البناء في مقاييس الدنيا ؟ ماذا حصل من التضحيات ؟ من كلّ هذه البطولات ؟ من الحرمان الطويل

١٢٧

الطويل ؟ ماذا حصل غير الإقصاء عن حقّه الطبيعي ؟ بقطع النظر عن نصٍّ أو تعيينٍ من الله عزّ وجلّ، كان حقّه الطبيعي أن يحكم بعد أن توفّي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّه الشخص الثاني عطاءً للدعوة وتضحيةً في سبيلها، أُقصي عن حقّه الطبيعي، قاسى ألوان الحرمان، أُنكرت عليه كلّ امتيازاته، معاوية بن أبي سفيان هو الذي يقول لمحمّد بن أبي بكر: كان عليّ كالنجم في السماء في أيام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّ أباك والفاروق ابتزّا حقّه وأخذا أمره، وبعد هذا نحن شعرنا أنّ بإمكاننا أن ندخل في ميدان المساومة مع هذا الرجل.(١) الإمام نفسه يتحدّث عن نفسه، ويحدّث عن مقامه في أيام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وكيف أنّ مقامه أخذ يتنازل بالتدريج نتيجةً لمؤامرات الحاكمين عليه حتّى قيل: عليّ ومعاوية.(٢)

إذن فعليّعليه‌السلام حينما واجهه عبد الرحمن بن ملجم - لعنه الله - بتلك الضربة القاتلة على رأسه الشريف كان ماضيه عبارةً عن ماضي حرمانٍ وألمٍ وخسارة، ولم يكن قد حصل من هذا البناء العظيم.

لكنّ الأشخاص الذي حصلوا على شيءٍ عظيمٍ من هذا البناء هم أولئك الذي لم يساهموا في هذا البناء، هم أولئك الذين كانوا يفرّون في اللحظات الحاسمة في عملية هذا البناء، هم أولئك الذين كانوا على استعدادٍ دائمٍ للتنازل عن مستوى هذا البناء في أيّة لحظةٍ من اللحظات، أولئك حصلوا على مكاسب عريضةٍ من هذا البناء.

أمّا هذا الإمام الممتحن الذي لم يفرّ لحظة، الذي كان لم يتلكّأ في آن، الذي لم يتلعثم في قولٍ أو عمل، هذا الإمام العظيم لم يحصل على أيّ مكسبٍ من هذا

____________________

(١) مروج الذهب ٣: ١٢، ١٣.

(٢) راجع نهج البلاغة: ٣٦٨، الكتاب ٩.

١٢٨

البناء بأيّ شكلٍ من الأشكال، انظروا أنّ هذه الحادثة يمكن أن تفجّر قلب الإنسان دماً، غير العامل حينما ينظر في حال إنسانٍ عاملٍ على هذا الترتيب يتفجّر قلبه ألماً لحال هذا العامل المسكين، لحال هذا العامل التعيس الذي بنى فغيّر الدنيا ثمّ لم يستفد من هذا التغيير.

نظرة الإمامعليه‌السلام للمستقبل:

ثمّ تعالوا فانظروا إلى المستقبل الذي كان ينظره الإمام عليّعليه‌السلام بعين الغيب، هذا ماضيه، فماذا عن مستقبله ؟ كان يرى بعين الغيب أنّ عدوّ الإسلام معاوية سوف يطأ منبره، وسوف يطأ مسجده، وسوف ينتهك كلّ الحرمات والكرامات التي ضحّى وجاهد في سبيلها، سوف يستقلّ بهذه المنابر التي شيّدت بجهاده وجهوده ودمه، سوف يستغلّها في لعنه وسبّه عشرات السنين، هو الذي كان يقول لبعض الخُلّص من أصحابه:إنّه سوف يعرض عليكم سبّي ولعني والبراءة منّي، أمّا السبب فسبّوني، وأمّا البراءة فلا تتبّرؤوا منّي .(١)

إذن، فهو كان ينظر بعين الغيب إلى المستقبل بهذه النظرة. لم يكن يرى في المستقبل نوعاً من التكذيب يُتدارك به هذا الحرمان، كانت الأجيال التي سوف تأتي بعد أن يفارق الدنيا، هذه الأجيال كانت ضحية مؤامرةٍ أُموية جعلتها لا تدرك أبداً دور الإمام عليٍّعليه‌السلام في بناء الإسلام.

هذا هو حرمان الماضي، وهذا حرمان المستقبل، وبالرغم من كلّ هذا قال:

____________________

(١) بحار الأنوار ٣٩: ٣١٦ و ٣١٧ و ٣٢٢، تاريخ أمير المؤمنين، الباب ٨٨، باب كفر من سبّه أو تبرّأ منهعليه‌السلام ، الحديث ١٣ - ١٧ و ٢١، والجزء ٧٥: ٣٩٣ و ٤٠٨ و ٤٣٠، كتاب العشرة، الباب ٨٧، باب التقيّة والمداراة، الحديث ٢ و ٤٨ و ٩٠.

١٢٩

( فزت وربّ الكعبة )، لأنّه لم يكن إنسان الدنيا، ولو كان إنسان الدنيا لكان أتعس إنسانٍ على الإطلاق، لو كان إنسان الدنيا لكان قلبه تفجّر ألماً وحسرة، ولو كان إنسان الدنيا فسوف يندم ندماً لا ينفعه معه شيء، لأنّه بنى شيئاً ثمّ انقلب عليه هذا البناء ليحطّمه، أيّ شيءٍ يمكن أن ينفع هذا الشخص ؟ إذا فرضنا أنّ شخصاً أراد أن يربّي شخصاً لكي يخدمه فلمّا ربّى ذاك الشخص الآخر ونما واكتمل رشده جاء ليقتل مربيّه، ماذا ينفع المربِّي غير أن يموت ندماً ؟ لكنّ هذا الرجل العظيم قال: ( فزت وربّ الكعبة )، كان أسعد إنسانٍ ولم يكن أتعس إنسان، لأنّه كان يعيش لله ولم يكن يعيش للدنيا، كان يعيش لهدفه ولم يكن يعيش لمكاسبه، لم يتردّد لحظةً وهو في قمّة هذه المآسي والمحن، في صحّة ماضيه، وفي صحّة حاضره، وفي أنّه أدّى دوره الذي كان يجب عليه.

العبرة التي يجب أن نأخذها:

وهذه هي العبرة التي يجب أن نأخذها، يجب أن نستشعر دائماً أنّ السعادة في علم العامل لا تنبع من المكاسب التي تعود إليه نتيجةً لهذا العمل، يجب أن لا نقوّم سعادة العامل على أساس المكاسب التي تعود إلينا نتيجة لهذا العمل؛ لأنّنا لو قوّمنا على هذا الأساس فقد يكون حظّنا كحظ هذا الإمام من دنياه، حيث إنّه بنى إسلاماً غيّر دنياً، ووجّه أُمّة، ثمّ بعد هذا انقلبت عليه هذه الأُمّة لتلعنه على المنابر ألف شهر، نحن يجب أن لا نجعل مقياس سعادة العامل في عمله هو المكاسب والفوائد التي تنجم عن هذا العمل، وإنّما هو رضا الله عزّ وجل، ونجعل المقياس حقّانية العمل وكفى، وحينئذٍ سوف نكون سعداء، أثّر عملنا أم لم يؤثّر، وسواء قدّر الناس عملنا أم لم يقدّروا، سواء رمونا باللعن أو الحجارة، على أيّ

١٣٠

حالٍ سوف نستقبل الله سبحانه وتعالى ونحن سعداء؛ لأنّنا أدّينا حقّنا وواجبنا، وهناك من لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلاّ أحصاها.

لئن ضيّعوا السعادة، ولئن ضيّعوا فهمهم، ولئن استولى عليهم الغباء حتّى خلطوا بين عليٍّ وعمر، وبين عليٍّ ومعاوية، لئن انصرفوا عن عليّعليه‌السلام وهم في قمّة الحاجة إليه فهناك من لا يختلط عليه الحال، بل هناك من يميّز بين عليّعليه‌السلام وبين أيّ شخص آخر، هناك من أعطى لعليّعليه‌السلام نتيجةً لعملٍ واحدٍ من أعماله مثل عبادة الثقلين(١) ، ذاك هو الحقّ، وتلك هي السعادة.

اللّهمّ احشرنا معه، واجعلنا من شيعته والمتوسّمين خطاه، والحمد الله ربّ العالمين.

____________________

(١) انظر: المستدرك على الصحيحين للحاكم الحسكاني ٣: ٣٧، وشواهد التنزيل له أيضاً ٢: ٨، الحديث ٦٣٦، وفرائد السمطين للحمويني الشافعي ١: ٢٥٥، الحديث ١٩٧، وينابيع المودّة للحنفي ١: ٢٨٢، الحديث ٥، عن المناقب للخوارزمي.

١٣١

١٣٢

موقف الإمام عليعليه‌السلام السياسي

بعد تسلّمه زمام الحكم

( القسم الثاني )

١٣٣

١٣٤

بسم الله الرحمن الرحيم*

حرْص الإمامعليه‌السلام على الصيغة الإسلامية للحياة:

كنّا نتحدّث عن تلك الظاهرة الفريدة في المرحلة التي قضاها الإمامعليه‌السلام حاكماً متصرِّفاً ومصرِّفاً لشئون المسلمين.

هذه الظاهرة الفريدة هي ما ألمحنا إليها من أنّ الإمامعليه‌السلام كان حريصاً كلّ الحرص على إعطاء العناوين الأوّلية للصيغة الإسلامية للحياة، والوقوف على التكليف الواقعي الأوّلي بحسب مصطلح الأصوليين، دون تجاوزه إلى ضرورات استثنائية تفرضها طبيعة الملابسات والظروف.

قلنا: إنّ هذه النقطة بُحثت من الناحية الفقهيّة ومن الناحية السياسية معاً، فقيل مثلاً:

لماذا لم يرتضِ الإمام بأنصاف الحلول أو بشيءٍ من المساومة ؟

لماذا لم يسكت ؟

لماذا لم يُمْضِ ولو بصورةٍ مؤقّتةٍ الجهاز الفاسد الذي تركه وخلّفه عثمان بعد موته ؟

____________________

(*) ألقيت في ١٩ شهر رمضان المبارك / ١٣٨٨ ه-.

١٣٥

لماذا لم يُمْضِ الجهاز حتّى إذا أطاعه هذا الجهاز وأسلم له القيادة بعد ذلك يستطيع أن يمارس بشكلٍ أقوى وأعنف عملية التصفية ؟

تفسير الظاهرة:

كنّا نعالج هذه المسألة، وقلنا: إنّ الجواب عن هذا السؤال وتفسير هذه الظاهرة الفريدة في حياة الإمامعليه‌السلام يتّضح بمراجعة عدّة نقاطٍ استعرضنا من هذه النقاط أربعاً:

النقطة الأولى : هي أنّ الإمامعليه‌السلام كان بحاجةٍ إلى إنشاء جيشٍ عقائديٍّ في دولته الجديدة التي كان يخطّط لإنشائها في العراق، وهذا الجيش العقائدي لم يكن موجوداً، بل كان بحاجةٍ إلى تربيةٍ وإعداد فكريٍّ ونفسيٍّ وعاطفي، وهذا الإعداد كان يتطلّب جوّاً سابقاً صالحاً لأن تنشأ فيه بذور هذا الجيش العقائدي. وهذا الجوّ ما لم يكن جوّاً كفاحياً رسالياً واضحاً لا يمكن أن تنشأ في أحضانه بذور ذلك الجيش العقائدي، لو افترضنا أنّ الجوَّ كان جوّ المساومات وأنصاف الحلول حتّى في حالة كون أنصاف الحلول تكتسب الصفة الشرعية بقانون التزاحم - على ما ذكرناه - حتّى في هذه الحالة تفقد الصيغة مدلولها التربوي.

النقطة الثانية : هي أنّ الإمامعليه‌السلام جاء لتسلّم زمام الحكم في لحظة ثورةٍ لا في لحظةٍ اعتيادية، ولحظة الثورة تستبطن لحظة تركيزٍ وتعبئةٍ وتجمّع كلّ الطاقات العاطفية والنفسية في الأُمة الإسلامية لصالح القضية الإسلامية، فكان لا بدّ من اغتنام هذه اللحظة بكلّ ما تستبطنه من هذا التزاحم الهائل عاطفياً ونفسياً وفكرياً.

١٣٦

النقطة الثالثة : التي ركّزنا عليها، هي: أنّ ظاهرة الشكّ في مجتمع الإمامعليه‌السلام هذه الظاهرة التي بيّنّاها في محاضراتٍ سابقة، وكيف أنّها عصفت بالتجربة واستطاعت أن تقضي على الآمال والأهداف التي كانت معقودةً عليها، هذا الشكّ بالرغم من أنّه لم يكن يملك في سيرة الإمامعليه‌السلام أيّ مبرّرٍ موضوعي، وكانت مبرّراته ذاتيةً محضةً - بالنحو الذي شرحناه تفصيلاً فيما مضى - فقد استفحل وطغى، فكيف لو افترضنا أنّ هذه المبرّرات الذاتية أُضيفت إليها مبرّرات موضوعية من الناحية الشكلية ؟ إذن لكان هذا الشكّ أسرع إلى الانتشار والتعمّق والرسوخ، وفي النهاية إلى تقويض هذه التجربة.

النقطة الرابعة : التي ختمنا بها الحديث بالأمس هي عبارة عن أنّ أنصاف الحلول أو المساومة هنا كانت في الواقع اشتراكاً في المؤامرة، وكانت تحقيقاً للمؤامرة من ناحية الإمامعليه‌السلام ، ولم تكن تعبيراً عن الإعداد لإحباط هذه المؤامرة؛ لأنّ المؤامرة لم تكن مؤامرةً على شخص الإمام عليٍّعليه‌السلام ، ولم تكن مؤامرةً على حاكمية الإمام عليٍّعليه‌السلام حتّى يقال: إنّه يمهّد لهذه الحاكمية بشيءٍ من هذه الحلول الوسط، وإنّما المؤامرة كانت مؤامرة على وجود الأُمّة الإسلامية، على شخصية هذه الأُمة، على أن تقول كلمتها في الميدان بكلّ قوّةٍ وجرأةٍ وشجاعة، على أن تنسلخ عن شخصيّتها، وينصب عليها قيّم من أعلى يعيش معها عيش الأكاسرة والقياصرة مع شعوب الأكاسرة والقياصرة. هذا الذي كان يسمّى بالمصطلح الإسلامي بالهرقليّة والكسرويّة.

هذه هي المؤامرة.

وهذه المؤامرة هي التي كان يسعى خطّ السقيفة بالتدريج عامداً أو

١٣٧

غير عامدٍ إلى تعميقها، إلى إنجاحها في المجتمع الإسلامي.

فلو أنّ الإمامعليه‌السلام كان قد مارس أنصاف الحلول، لو كان قد باع الأُمة بيعاً مؤقّتاً مع خيار الفسخ، إذن لكان بهذا قد اشترك في إنجاح وفي سلخ الأُمّة عن إرادتها وشخصيّتها.

كانت الأُمّة وقتئذٍ بحاجةٍ كبيرةٍ جدّاً لكي تستطيع أن تكون على مستوى مسئوليات ذلك الموقف العصيب، وعلى مستوى القدرة للتخلّص من تبعات هذه المؤامرة.

كان لا بدّ من أن تشعر بكرامتها، بإرادتها، بحرّيتها، بأصالتها، بشخصيّتها في المُعترك، وهذا كلّه ممّا لا يتّفق مع ممارسة الإمامعليه‌السلام لأنصاف الحلول.

النقطة الخامسة : لا بدّ من الالتفات إلى أنّ الإمامعليه‌السلام لو أمضى الأجهزة الفاسدة التي كان قد خلّفها الخليفة المنحرف من قبله وأقرّها لكان من غير المعقول بمقتضى طبيعة الأشياء أن يستطيع ممارسة عملية التغيير في هذه التجربة التي يتزعّمها.

في الواقع أنّ هذا الفهم لموقف الإمامعليه‌السلام الذي أعرضه في هذه النقطة مرتبط بحقيقة مطلقة تشمل موقف الإمامعليه‌السلام وموقف كلّ عقائدي رسالي تحيط به نفس الظروف والملابسات ويريد أن يقوم بعملية تغيير جذري وإصلاح حقيقي في مجتمع من المجتمعات.

هذه الحقيقة هي أنّه لا يمكن أن ينشأ على يد الأُطروحة الفاسدة - التي لا بدّ أن يشملها الإصلاح - إصلاح الأُمة. فلو افترضنا أنّ الزعيم المسئول عن إصلاح تلك الأُمة والبيئة التي يتزعّمها أقرَّ الأجهزة الفاسدة التي يتوقّف الإصلاح على إزالتها وتبديلها، ومن ثمّ تعاون معها ولو مؤقّتاً بمنطق: إنّي اُقرّها ثمّ بعد اكتسابي

١٣٨

القوم والمزيد من القدرة وبعد امتدادي أُفقيّاً وعمودياً في أبعاد هذه التجربة التي أتزعّمها، ثمّ بعد ذلك أستبدل هذه الركائز بركائز صالحة، هذا كلّه لا يتّفق مع طبيعة العمل الاجتماعي؛ وذلك لأنّه سوف يستمدّ قوتّه وقدرته وامتداده الأفقي والعمودي من هذه الركائز الفاسدة؛ لأنّها قوّته التنفيذية التي هي وجهه إلى الأُمة، فإذا افترضنا أنّ هذه الأجهزة كانت هي الأجهزة الفاسدة التي يريد المخطّط الإصلاحي إزالتها وتبديلها فليس من المعقول أن يقول الزعيم في أيّ لحظةٍ من اللحظات: إنّي أرفض هذه الأجهزة الفاسدة؛ لأنّ النتيجة المنطقية مرتبطة بمقدّماتها، والنتيجة واقعياً مرتبطة بركائزها. فهذا الشموخ المستمدّ من ركائز فاسدةٍ لا يمكن أن يتمرّد على هذه الركائز. هذا الزعيم حتّى ولو كان حسن النيّة والتصوّر مع هذا لو أنّه طبّق هذه الصورة سوف يجد في نهاية الطريق أنّه عاجز عن التغيير، وسوف لن يتمكّن من تحقيق أهدافه الكبيرة؛ لأنّ هذا الزعيم مهما كان متمكّناً ومتسلّطاً فلن يستطيع أن يغيّر بيئةً بجرّة قلمٍ أو إصدار قرار، وإنّما تتغيّر البيئة عن طريق الأجهزة التي تنفّذ إرادة هذا الزعيم وتخطيطه، وهذه الأجهزة إذا كانت هي نفسها لا تتّفق مع الإرادة الإصلاحية لهذا الزعيم فكيف تنفّذ إرادته وتحقّق أهدافه ؟

إذن، فطبيعة العمل التغييري في أيّ بيئةٍ تفرض على الزعيم العقائدي الإصلاحي أن يبدأ العمل، ويبدأ بناء زعامته بصورةٍ منفصلةٍ عن تلك الأجهزة الفاسدة، وهذا ما كان يفرض على الإمام عليٍّعليه‌السلام أن لا يقرّ ولا يمضي مخلّفات عثمان بن عفّان الإدارية والسياسية.

النقطة السادسة : لا بدّ من الالتفات إلى أنّه لو أنّ الإمامعليه‌السلام كان قد أمضى مرحلياً الأجهزة التي خلّفها عثمان مثل معاوية بن أبي سفيان لحصل من ذلك على

١٣٩

نقطة قوّة - وهي ما يفترضه المعترِض على تصرّف الإمام - ومنشأ هذه القوّة هو أن يبايع معاوية، ويبايع أهل الشام علياًعليه‌السلام . صحيح هذه النقطة في حساب عملية التغيير، لكن في مقابل هذا سوف يحصل معاوية على نقطة قوّة، ونقطة القوّة هذه هي اعتراف صاحب الأطروحة هذه، صاحب الخطّ الإسلامي المعارض منذ أن تشكّلت السقيفة بشرعيّة حاكمية معاوية بن أبي سفيان، ومعنى هذه الشرعية هو أنّ معاوية رجل يوصف - على أقلّ تقديرٍ - بأنّه عامل قدير على تسيير مهامّ الدولة، وعلى حماية مصالح المسلمين ورعاية شئونهم، هذا المعنى هو المدلول العرفي الواضح لمثل هذا الإمضاء في الذهنيّة الإسلامية العامة.

ونحن إذا قارنّا بين هاتين النقطتين فسوف لن ننتهي إلى قرارٍ مؤكّدٍ بأنّ نقطة القوّة التي يحصل عليها الإمامعليه‌السلام هي أهمّ في حساب عملية التغيير الاجتماعي التي يمارسها من نقطة القوّة التي يحصل عليها معاوية، خاصّةً إذا التفتنا إلى أنّ عملية تغيير الولاة في داخل الدولة الإسلامية وقتئذٍ لم تكن عمليةً سهلة، ولم تكن عمليةً بهذا الشكل من اليسر الذي نتصوّره في دولةٍ مركزيةٍ تسيطر حكومتها المركزية على كلّ أجزاء الدولة وقطّاعاتها.

ليس معنى أن يبايع معاوية لخليفةٍ في المدينة أنّ جيشاً للحومة المركزية سوف يدخل إلى الشام، أو أنّ هناك ارتباطاً عسكرياً حقيقياً سوف يوجد بين الشام والحكومة المركزيّة، وإنّما يبقى هذا الوالي بعد البيعة همزة الوصل الحقيقية بين هذا البلد وبين الحكومة المركزية. فضعف الحكومة المركزية عسكرياً في ذلك الوقت وترسّخ معاوية في الشام - لأنّ الشام لم يعرف والياً إسلامياً سوى يزيد بن أبي سفيان ومن بعده معاوية بن أبي سفيان، وكذلك الصلاحيات الاستثنائية التي أعطاها عمر بن الخطّاب لمعاوية في أن ينشئ له سلطنةً وملكيةً في الشام، بدعوى أنّ ذلك يكون مظهر عزٍّ وجلالٍ للإسلام في مقابل دولة القياصرة، إلى جانب

١٤٠