أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 107666
تحميل: 7739

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107666 / تحميل: 7739
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حاربتكم لأن أتأمّر عليكم(١) ، بعد أن أعلن بكلّ صراحةٍ ووقاحةٍ عن هدفه، وبعد أن طرح بكلّ برودةٍ شعار الخليفة المظلوم، وشعار الخليفة القتيل، دخل عليه أولاد عثمان بن عفّان وقالوا له: لقد جعلنا هذا الأمر وتمّ الأمر لك يا أمير المؤمنين، فما بالك لا تقبض على قتلة أبينا ؟ قال: أوَ لا يكفيكم أنّكم صرتم حكّام المسلمين.(٢)

نحن ننظر إلى معاوية بعد أن ارتكب الفضائع وغيّر أحكام الشريعة وأبدع في السنّة ! ننظر إلى معاوية بعد أن استخلف يزيد ابنه على أمور المسلمين، بعد أن قتل مئاتٍ من الأبرار والأخيار، ننظر إلى معاوية بعد أن تكشّف أوضاعه، لكن فلنفرض أنّ شخصاً ينظر إلى معاوية قبل أن تنكشف له هذه الأوضاع، لنفترض أنّ أولئك الأشخاص يعيشون في إطار الأمّة الإسلامية وقتئذٍ.

معاوية ماذا كان ؟ ستتكشّف أوضاعه وقتئذٍ على مستوى المسلمين الذين كانوا يدورون في فلك حكومات السقيفة، ماذا كان من أوراق معاوية مكشوفة وقتئذٍ ؟

معاوية كان شخصاً قد مارس عمله الإداري والسياسي بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأقلّ من سنة، خرج من المدينة وذهب إلى الشام، ذهب هناك كعامل للشام حتّى إذا مات أخوه اُسند إليه ولاية الشام بكاملها، وبقي معاوية هناك(٣) ، وكان معاوية مدلّلاً محترماً معزّزاً من قبل عمر بن الخطّاب، الذي كان ينظر إليه بشكل عام في المجتمع الإسلامي بنظرة الاحترام والتقدير، حتّى أنّ عمر

____________________

(١) أعيان الشيعة ٤: ٢٦.

(٢) البيان والتبيين ٣: ٣٠٠، وشيخ المضيرة لأبي رية: ١٨٢.

(٣) راجع: تاريخ الخلفاء: ١٩٥.

١٦١

ابن الخطّاب حينما أراد أن يؤدّب ولاته استثنى معاوية من هذا التأديب، وحينما أراد أن يقاسم أموال ولاته استثنى معاوية من ذلك ! معاوية كان والياً موثوقاً به معزّزاً من الناحية الإسلامية عند ابن الخطّاب.

وبعد هذا جاء عثمان فوسّع من نطاق ولاية معاوية، وضمّ إليه عدّة بلاد أُخرى إضافة إلى الشام، ولم يطرأ أيّ تغيير في وضع معاوية. فمعاوية لم يكن شخصاً مكشوفاً بل كان شخصاً عنوانه الاجتماعي أنّه والٍ حريص على كرامة الإسلام، وأنّه هو الشخص الذي استطاع أن يدخل في قلب الخليفة الخشن الذي يعاتب ويعاقب، الذي كان يضرب ابنه بحدّ الخمر حتّى يموت، هذا الخليفة لم يضرب معاوية ولم يعاقبه، هذا هو المنظور إليه.

معاوية كان نتيجة الترويجات من قبل الحكّام والحكّام والخلفاء المنحرفين الذين كانوا معذورين - بالرغم من كونهم منحرفين - من أفراد الأُمّة الإسلامية، كان يتمتّع بسمعة طيّبة وبمفهوم طيّب.

تذرّع معاوية بشعار دم عثمان:

هنا دخل ولأوّل مرّة في الصراع شعارُ الأخذ بالثأر لدم عثمان، هذا الشعار الذي أخذه معاوية كان يبدو على مستوى البسطاء من الناس وكثير من المغفّلين شعاراً له وجهة شرعية، كان يقول بأنّ عثمان قُتل مظلوماً(١) ، وعثمان بالرغم من أنّه خان الأُمّة، وبالرغم من أنّه استهزأ بالإسلام، وبالرغم من أنّه حوّل الدولة الإسلامية إلى دولة عشيرة وقبيلة(٢) ، وبالرغم من أنّه ارتكب الجرائم التي أدنى

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣: ٧٨، وانظر تاريخ الطبري ٣: ٥٦١.

(٢) راجع: الإمامة والسياسة ١: ٥٠، وتاريخ الطبري ٣: ٣٧٧، ٣٨٢، وتاريخ الخلفاء: ١٥٦.

١٦٢

عقابها القتل، بالرغم من هذا، معاوية يقول: قتل عثمان مظلوماً. وليس هناك من الناس من يقول بأنّ عثمان يستحقّ القتل، كثير من الناس البسطاء أيضاً يقولون: عثمان قتل مظلوماً. إذن فعثمان قتل مظلوماً، فلا بدّ من القصاص، فيا علي أنت قادر على أن تعطينا قاتليه حتّى نقتلهم، إنّك قادر فأعطنا قاتليه، وإن كنت عاجزاً إذن فأنت عاجز من أن تطبّق أحكام الإسلام، فلا يجوز لك حكومة الإسلام بعد عثمان، فإنّ الخليفة يُشترط فيه القدرة على تطبيق أحكامه.

هذا هو الشعار الذي أبرزه معاوية في مقابل شعار الإمام، والإمامعليه‌السلام في مقابل هذا الشعار لم يكن يريد أن يصرّح بأنّ عثمان كان جديراً بأن يقتل، أو كان يجب أن يقتل؛ لأنّه لو صرّح بهذا إذن لتعمّق اتّهام معاوية وطوّر التهمة من قول أعطني قتلة عثمان، إلى قول: إنّك قتلت عثمان، فبقي شعار معاوية شعاراً مضلّلاً، مضلّلاً إلى حدٍّ كبير. هذا من ناحية.

كيف تمّ التشكيك في الإمام عليّعليه‌السلام :

ومن ناحيةٍ ثانيةٍ لا بدّ أن نلاحظ الجهود والأتعاب والتضحيات التي قام بها المسلمون في كنف الإمامعليه‌السلام ، لا أدري أنّه هل جُرّب أو لم يُجرّب هذا الإيحاء النفسي حينما تكون المهمّة صعبةً على الإنسان وثقيلةً على الإنسان وتوسوس له نفسه بالتشكيك، حينما يصعب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى يصعب عليه كلمة حقٍّ أمام رجلٍ مبطل ؟ حينئذٍ يأخذ بالوسوسة: من قال بأنّ هذا الرجل مبطل ؟ من قال إنّه قادر على هذا الكلام ؟ من قال إنّ شروط الأمر بالمعروف تامّة ؟ وهكذا يوسوس لأجل أن يستريح من هذه المهمّة، لأجل أن يلقي عن ظهره هذا العبء الكبير، كلّ إنسانٍ يميل بطبعه إلى الدعة، إلى الكسل، إلى الراحة، إلى الاستقرار، فإذا وضعت أمامه مهام كبيرة، حينئذٍ إذا وجد مجالاً

١٦٣

للشكّ في هذه المهمّة فسوف يكون عنده دافع نفسي إلى أن يشكّ، يشكّ لأجل أنّه يريد أن يشكّ، ويشكّ لأجل أنّه من مصلحته أن يشكّ، وهذا كان موجوداً على عهد الإمامعليه‌السلام .

العراقيّون قدّموا من التضحيات شيئاً كثيراً، بذلوا أموالهم ونفوسهم ودماءهم في حروبٍ ثلاثة، آلاف من العراقيين ماتوا وقتلوا، عشرات من الأطفال يُتِّموا، آلاف من النساء أصبحن أرامل، آلاف من البيوت والعوائل تهدّمت، كثير من المدن والقرى غارت عليها جيوش معاوية، كثير من هذه المآسي والويلات، كثير من ألوان الدمار حلّ بهؤلاء المسلمين، نتيجة ماذا ؟! ولأجل ماذا ؟! لأجل أن يزداد مالهم ؟! لا، لأجل أن يزداد جاههم ؟! لا؛ لأنّهم لا يشعرون من أنّ أهل الشام سرقوا شيئاً، وإنّما لحساب الرسالة، لحساب الخطّ، لحساب المجتمع الإسلامي، هذا الحساب لأجل هذا الهدف الكبير، وهذا هدف كبير أعزّ من كلّ النفوس، وأعزّ من كلّ الدماء، وأعزّ من كلّ الأموال.

لكن نحن يجب أن نقدّر موقف هؤلاء الذين ضحّوا وبذلوا وقدّموا، ثمّ أصبحوا يشكّكون لأنّ من مصلحتهم أن يشكّكوا، وأصبح الإمام يدفعهم فلا يندفعون، ويحرّكهم فلا يتحرّكون، لماذا ؟ لأنّ مصلحتهم أن يتصوّروا المعركة بتصوّرٍ جديد، أن يعطوا للمعركة مفهوماً جديداً، وهو أنّ القصّة قصّة زعامة علي أو معاوية، ما بالنا وعلي ومعاوية، إمّا أن يكون هذا زعيماً وإمّا أن يكون ذلك زعيماً، نحن نقف على التلّ ونتفرجّ، فإمّا أن يتمّ الأمر لهذا أو لذاك.

هذا التفسير بدت بداياته، وهذا التفسير الذي أوحت مصلحة هؤلاء إلى هؤلاء هو الذي كان يشكّل عقبةً كئوداً دون أن يتحرّك هؤلاء من جديد إلى خطّ الجهاد، هذا التفسير هو الذي جعل أمير المؤمنينعليه‌السلام يبكي وهو على المنبر، وينعى أصحابه الذين ذهبوا، أُولئك الذين لم يشكّوا فيه لحظة، أُولئك الذين آمنوا

١٦٤

به إلى آخر لحظة، أُولئك الذين كانوا ينظرون إليه كامتدادٍ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يبكي لعمّار وأمثاله، هذا عمّار الذي وقف بين الصفّين، ووضع سيفه على بطنه، وقال: والله إنّك تعلم لو كان رضاك أن تغمد هذا في بطني حتّى أخرجته من ظهري لفعلته، والله إنّك تعلم أنّي لا أعلم رضاً إلاّ في قتال هؤلاء المارقين المنحرفين(١) ، كان يبكي لأمثال عمّار؛ لأنّ عمّار وأمثاله كانوا قد ارتفعوا عن أمثال هذه الشكوك، قد طلّقوا مصالحهم الشخصيّة في مصلحة الرسالة، كانوا قد غضّوا النظر عن كلّ الاعتبارات الخاصّة في سبيل حماية كيان الإسلام، وفي سبيل إعادة مجد المجتمع الإسلامي ووحدة المجتمع الإسلامي إلى هؤلاء. لا يلتفت الإمام يمنةً ويسرةً إلاّ ويجد من له أبٌ قتيل، أو ابن صغير كيف يتركه ؟ أو زوجة كيف يرسلها ؟

الامتحان العصيب:

أصبح هؤلاء الذين كانوا يفكّرون في الهموم الكبيرة، أصبحوا يفكّرون في الهموم الصغيرة، أصبحوا يفكّرون في قضاياهم، يجب أن لا نعتب عليهم، فنحن أسوأ منهم، فنحن لم نرتفع لحظةً هكذا ثمّ نهبط، وهؤلاء ارتفعوا لحظةً ثمّ هبطوا. هؤلاء خرجوا من بلادهم وطلّقوا نساءهم وأطفالهم وأموالهم في سبيل الله، وفي سبيل قضيّةٍ ليس لهم ربح مادّي فيها. هؤلاء فعلوا هذا ساعةً من الوقت ثمّ أدركهم الشيطان.

أمّا نحن لا ندري إذا وقفنا مثل هذا الموقف هل نصمد ولو ساعة، أو نبقى

____________________

(١) راجع بحار الأنوار ٣٢: ٤٩٠، نقله عن كتاب نصر بن مزاحم، وفي ٣٣: ١٣، نقله عن ابن الأثير.

١٦٥

في الحضيض ؟ على أيّ حالٍ هؤلاء كانوا بشر، لم يكونوا عمّار بن ياسر، هؤلاء بدأ الشكّ يتسرّب إلى نفوسهم، بدؤوا يشكّون في هذا الإمامعليه‌السلام الصالح حتّى تمنّى الموت، لأنّ الإمامعليه‌السلام أصبح يحسّ أنّ صلته الروحيّة قد انقطعت عن هؤلاء، إنّه أصبح منفصلاً عن هؤلاء. أصبحوا لا يفهمون أهدافه ورسالته. ومن أمرّ ما يمكن أن يقاسيه زعيم أو قائد أو صاحب منهج أن يعيش مع جماعة لا تتفاعل معه فكريّاً، ولا تعيش مع خطّه، مع إنسانٍ يبذل كلّ ما لديه في سبيلهم وأنّهم لا يحسّون أنّ كلّ هذا في سبيلهم، وإنّهم يشكّون فيه، يشكّون في نيّته، هذا هو الامتحان العصيب الذي قاساه عليه أفضل الصلاة والسلام، لكن بالرغم من هذا الامتحان لم تضعف قوّته ولم تهن عزيمته، بقي إلى آخر لحظةٍ يحاول أن يبثّ من روحه الكبيرة في هذا المجتمع المتفتّت الذي بدأ يشكّ، والذي بدأ يتوقّف. كان يحاول أن يبثّ فيهم من روحه الكبير، إلى أنّ خرّ شهيداً في مسجد الكوفة.

١٦٦

انحراف التجربة الإسلامية

وتخطيط الأئمةعليهم‌السلام لمواجهة الانحراف

١٦٧

١٦٨

بسم الله الرحمن الرحيم

القائد يجب أن يكون معصوماً:

قلنا: إنّ الذين تسلّموا القيادة الفعليّة وزمام التجربة الإسلامية بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان من المحتوم أن ينحدروا إلى الانحراف، ويزرعوا البذرة الصغيرة التي تنمو على مرّ الزمن لتأتي على التجربة وتحطّمها تحطيماً كاملاً بعد أن تبعد في التأريخ. بينما لو تسلّمها الأئمّةعليهم‌السلام لكان العكس، ولما وجدت تلك البذرة.

ولكن قد يقال: إنّ الأشخاص الذين انتزعوا قيادة التجربة الإسلامية بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن كانوا غير مهيّئين سياسيّاً وروحيّاً، وإن كانوا يعيشون راسباً جاهليّاً على النحو الذي ذكر، وبالتالي لم يكونوا يمثّلون الدرجة الكاملة للانصهار مع هذه الرسالة، هذه الدرجة التي هي شرط أساسي لتزعّم هذه التجربة، ألا يكفي وجود أفرادٍ في الأُمّة يمكنهم أن يشرفوا على القيادة فيعطوا الضمان والحماية الكافية لعدم انحراف القيادة، ولعدم مواكبتها لخطّ الرسالة ؟

الفكرة في هذا البحث تقوم على هذا الأساس، على أساس أنّ قيادة التجربة يجب أن تكون على مستوى العصمة. وهذا في الواقع ليس من مختصات الشيعة. ليس من مختصّات الشيعة الإيمان بأنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً، بل هذا ما تؤمن به كلّ الاتجاهات العقائدية في العالم على الإطلاق، أيّ اتّجاهٍ

١٦٩

عقائدي في العالم يريد أن يبني الإنسان من جديدٍ في إطار عقيدته، ويريد أن ينشئ للإنسانية معالم جديدة فكريةً وروحيةً واجتماعيةً، هذا الاتجاه العقائدي يشترط لأن ينتج، وأن يتنجّز، وأن يأخذ مجراه في خطّ التأريخ أن يكون القائد الذي يمارس تطبيق هذا الاتجاه معصوماً.

يشترط في القيادة التي تطبّق الماركسية - بوصفها اتجاهاً عقائدياً يريد أن يصيغ الإنسان ويبلوره في إطاره الخاصّ - أن يكون معصوماً، إلاّ أنّ مقاييس العصمة تختلف. في الاتجاه الماركسي يجب أن يكون القائد الذي يمارس تطبيقه معصوماً بمقاييس الماركسية. والقائد الذي يمارس زعامة التجربة الإسلامية يجب أن يكون معصوماً بمقاييس إسلامية. والعصمة في الحالتين بمفهومٍ واحد، وهو عبارة عن الانفعال الكامل في الرسالة، والتجسيد الكامل لكلّ معطياتها في النطاقات الروحية والفكرية والعملية، هذه هي العصمة.

والشيعة لم يشذّوا باشتراط العصمة في الإمام عن أيّ اتجاهٍ عقائديٍّ آخر؛ ولهذا نرى في الاتجاهات العقائدية الأُخرى كثيراً ما يُتّهم القائد الذي يمثّل الاتجاه بأنّه ليس معصوماً، توجَّه إليه نفس التهمة التي يوجّهها المسلمون الواعون أصحاب عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إلى الخلفاء الذين تولّوا الخلافة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . نفس هذه التهمة يوجّهونها إلى القادة الذين يعتقدون أنّهم لم ينصهروا برسالاتهم، ولم يتفاعلوا باتجاهاتها تفاعلاً كاملاً.

بالأمس القريب جزء كبير من الماركسية في العالم انشطر على قيادة الاتحاد السوفييتي، واتّهم قيادة الاتحاد السوفييتي بأنّهم غير أهلٍ للحكم، بأنّهم غير مهيّئين لأن يكونوا قادةً للتجربة الماركسية، يعني غير معصومين بحسب لغتنا، إلاّ أنّ نفي العصمة عنهم بمقاييس ماركسيّةٍ لا بمقاييسنا الخاصّة، أي ليس بمقاييس إسلامية.

١٧٠

مقاييس العصمة:

إذن، فأصل الفكرة وجوهرها تؤمن به كلّ الاتجاهات العقائدية، وإنّما المقاييس لها تختلف باختلاف طبيعة تلك الاتجاهات. نعم، العصمة في الإسلام ذات صيغةٍ أوسع نطاقاً من العصمة في الاتجاهات العقائدية الأُخرى. وهذه السعة في صيغة العصمة تنبع من طبيعة سعة الإسلام نفسها، لأّن العصمة كما قلنا: هي التفاعل الكامل والانصهار الشامل والتجاوب مع الرسالة في كلّ أبعاد الإسلام. والرسالة الإسلامية تختلف عن أيّ رسالةٍ أُخرى في العالم؛ وذلك لأنّ أيّ رسالةٍ أُخرى في العالم لا تعالج إلاّ جانباً من الإنسان.

الماركسية التي تمثّل أحدث رسالةٍ عقائديةٍ في العالم الحديث تعالج جانباً من وجود الإنسان. تترك الإنسان حينما يذهب إلى بيته، حينما يذهب الإنسان إلى مخبئه، حينما يخلو الإنسان لنفسه ليس لها علاقةٍ مع الإنسان في هذه الميادين، وإنّما تأخذ بيده في مجال الصراع السياسي والاقتصادي لا أكثر من هذا المقدار. فصيغة الرسالة بطبيعتها صيغة منكمشة محدودة، صيغة تعالج جانباً من الحياة الإنسانية. فالعصمة العقائدية التي لا بدّ أن تتوفّر في قائدٍ ماركسيٍّ - مثلاً - هي العصمة في حدود هذه المنطقة التي تعالجها الرسالة العقائدية الماركسية.

أمّا الرسالة الإسلامية التي هي رسالة السماء على وجه الأرض فهي تعالج الإنسان من كلّ نواحيه، وتأخذ بيده إلى كلّ مجالاته، ولا تفارقه وهو على مخدعه في فراشه، وهو في بيته بينه وبين نفسه، وهو في أيّ مجالٍ من مجالات حياته، هذه الرسالة معه، وحيث إنّ هذه الرسالة معه ولا تفارقه في أيّ مجالٍ من مجالات حياته لهذا تكون الصيغة المحدودة من العصمة على أساس هذه الرسالة

١٧١

أوسع نطاقاً وأرحب أُفقاً وأقسى شروطاً، وأقوى من ناحية مفعولها وامتدادها في كلّ أبعاد الحياة الإنسانيّة.

فعصمة الإمام ليست هي عبارة عن مجرّد النزاهة في الحكم، وليست هي عبارة عن مجرّد الترفّع عن المال، بل هي عبارة عن النزاهة في كلّ فكرة، وفي كلّ عاطفة، وفي كلّ الشئون.

والنزاهة في كلّ فكرة وعاطفة وشأن عبارة عن انصهارٍ كاملٍ مع مفاهيم وأحكام الرسالة الإسلامية في كلّ مجالات هذه الأفكار والعواطف والشؤون. هذا استطرادٌ كان لا بدّ منه.

إذن، فالعصمة شرط لمجموع الاتجاهات العقائديّة، ونحن أيضاً نؤمن بأنّ العصمة هي شرط في هذا الاتجاه. وبطبيعة الحال حينما نقول ب-: أنّ العصمة شرط في هذا الاتجاه. لا نقصد به أمراً حتميّاً غير قابلٍ للزيادة والنقصان والتشكيك. نفس العصمة إذا حوّلناها إلى مفهوم النزاهة والتجاوب الكامل مع الرسالة تكون أمراً مقولاً بالتشكيك مختلفاً في الشدّة والضعف، وبوصف أنّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام المرتبة الأسمى والأكمل من هذه المراتب المقولة بالتشكيك والمختلفة شدّةً وضعفاً نقول بإمامتهم.

عدم عصمة الزعامة والأُمّة:

ولنعد أخيراً إلى موضوع البحث فنقول بأنّ هؤلاء الذين تسلّموا أمر التجربة الإسلامية وزعامتها بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكونوا معصومين حتّى بأدنى مراتب العصمة، بأدنى مراتب النزاهة والتفاعل مع الرسالة الإسلامية كما أشرنا إلى ذلك بالأمس، وحينئذٍ حيث إنّ التجربة تمثّل اتّجاهاً عقائدياً ورسالياً، وليس أنّ مجموعة من الناس يعيشون، مجرّد أنّهم يعيشون، وإنّما أيضاً هم هادفون، أُناس

١٧٢

مثاليّون، أُناس يمثّلون وجهة نظر معيّنةٍ في الكون والحياة والمجتمع، يمثّلون رسالةً لتغيير الحياة على وجه الأرض وتغيير التأريخ، إذن هذه التجربة العقائديّة الضخمة على هذا المستوى بحاجةٍ إلى قيادةٍ عقائديةٍ معصومةٍ تتوفّر فيها فعالية عالية جدّاً من النزاهة والتجرّد والموضوعيّة والانفعال بمعطيات هذه الرسالة. إذن لم تكن هذه موجودةً في القيادة.

قد يقال: إنّ العصمة كانت موجودةً في الأُمّة ككلّ، والأُمّة ككلٍّ كانت تمارس الإسلام، وكانت تمارس التوجيه، وكانت تمارس المراقبة للحكم القائم حتّى لا ينحرف، الأُمّة ككلٍّ كانت معصومة، وإذا كانت الأُمّة ككلّ معصومةً إذن فالعصمة قد حصلنا عليها عن طريق الوجود الكلّي للأمة. والفكرة التي قد يكون الحديث المروي من طرق العامّة يحاول تذليلها:أُمّتي لا تجتمع على خطأ (١) . إلاّ أنّ هذه الفكرة غير صحيحة، نحن نؤمن أنّ الأُمّة بوجودها المجموعي لم تكن معصومةً كما هي الحال في الخلفاء الذين استولوا على الزعامة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، طبعاً إذا استثنينا الزعامة المعصومة الموجودة في داخل هذه الأُمّة والمتمثّلة في اتجاه أمير المؤمنينعليه‌السلام .

تنشئة الأُمّة من قبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :

هذا بالرغم من أنّنا نعترف ونفتخر ونمتلئ اعتزازاً بالإيمان بأنّ الأُمّة الإسلامية التي أسّسها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والتي حرسها ضربت أروع نموذجٍ للأمّة في تأريخ البشرية على الإطلاق. الأُمّة الإسلامية كانت الأُمّة المثلى الكاملة التي أمكن للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في وقتٍ قصيرٍ جدّاً نسبيّاً في تأريخ إنشاء الأُمم في مدّةٍ لا تبلغ

____________________

(١) سنن ابن ماجه ٢: ١٣٠٣، الحديث ٣٩٥٠.

١٧٣

ربع قرنٍ أن ينشئ اُمّةً لها من الطاقة والإرادة والحرارة القدر الكبير، والذي لا يمكن للإنسان الاعتيادي أن يخيّل كيف تمكّن من إيجادها. هذه الأُمّة التي قدّمت من التضحيات في أيام النبيّ في سبيل رسالتها ما لم تقدّم أيّ اُمّةٍ قبلها، هذا التسابق على الجنّة، التسابق على الجهاد، التسابق على الموت، الإيثار الذي كان موجوداً بين المسلمين، روح التآخي التي شاعت في المسلمين، المهاجرون والأنصار كيف عاشوا ؟ كيف تفاعلوا ؟ كيف انصهروا ؟ اُنظر إلى أهل بلدٍ واحدٍ ينزح إليهم أهل بلدٍ آخر يأتون إليهم ليقاسموا هؤلاء خيرات بلادهم ومعاشهم وأموالهم، بل حتّى نساؤهم، وهؤلاء يستقبلونهم برحابة صدر، ينطلقون معهم، ينظرون إليهم أنّهم إخوة لهم، يعيشون مجتمعاً واحداً وكأنّهم كانوا قد عاشوا مئات السنين.

هذه الانفتاحات العظيمة في كلّ ميادين المجتمع التي حقّقتها الأُمّة بقيادة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذه الانفتاحات لا مثيل لها، وبالرغم من كلّ هذا نقول بأنّ الأُمّة لم تكن معصومة، وأنّ كلّ هذه الانفتاحات كانت قائمةً على أساس الطاقة الحرارية التي كانت تمتلكها الأُمّة من لقاء القائد الأعظم، ولم تكن قائمةً على أساس درجةٍ كبيرةٍ من الوعي الحقيقي للرسالة العقائدية.

الطاقة الحراريّة في الأُمّة:

نعم، كان الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله يمارس عملية توعية الأُمّة، وعملية الارتفاع بالأُمّة إلى مستوى اُمّةٍ معصومة. هذه العملية التي كانت مضغوطة، والتي بدأ بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لكن لم ينجز شيئاً منها في هذه الخُطّة. إنّما الشيء الذي أُنجز في هذه الخطّة، في خطّ عمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على مستوى الأُمّة ككلّ، وليس على مستوى أفرادٍ معدودين هو إعطاء الأُمّة طاقةً حراريةً من الإيمان بدرجةٍ كبيرةٍ جدّاً، هذه

١٧٤

الطاقة الحرارية التي كانت تمتلكها الأُمّة يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وفي كلّ لحظةٍ من لحظات انتصارها أو انكسارها هي المصدر، وهي السبب في كلّ هذه الانفتاحات العظيمة. وكانت روح القائد هي التي تجذب، وهي التي تحصد، وهي التي تقود هؤلاء إلى المثل العليا والقيم الضخمة الكبيرة التي جسّدها الرائد الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بين يديهم. إذن فهي طاقة حرارية وليست وعياً.

الفرق بين الوعي والطاقة الحرارية:

وقلنا فيما سبق: إنّ الطاقة الحرارية والوعي قد يتّفقان في كثيرٍ من الأحيان، ولكن لا يمكننا المقارنة في الحالات الاعتيادية بين أُمّةٍ واعيةٍ وبين اُمّةٍ تملك طاقةً حراريةً كبيرةً دون درجةٍ كبيرةٍ من الوعي.

نعم، قد تكون هناك مظاهر مشتركة في كثيرٍ من الأحيان، ولكن في منعطفاتٍ معيّنةٍ من حياة هذه الأُمّة، في لحظاتٍ حاسمةٍ ومواقف حرجةٍ من تأريخها يتبيّن الفرق بين الوعي والطاقة الحراريّة، يتبيّن هذا في لحظات الانفعال، الانفعال الشديد، سواء كان انفعالاً موافقاً لعمليات الانتقال أو انفعالاً معاكساً. في هذه اللحظات يبدو حينئذٍ الفرق بين الطاقة الحرارية وبين الوعي؛ لأنّ الوعي لا يتزعزع في لحظة الانفعال، يبقى ثابتاً وصامداً لا يلين ولا يتميّع في لحظة الانفعال، وعي الإنسان وإيمانه بأهدافه ومسؤولياته فوق كلّ الانفعالات، فوق كلّ المشاكل والانتصارات، أيّ انتصارٍ يحقّقه الإنسان لا يمكن أن يخلق فيه انفعالاً يزعزعه إذا كان واعياً وعياً حقيقياً.

محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الرجل العظيم يدخل إلى بيت الله الحرام منتصراً، لحظة الانتصار هذه لم تزعزع من خُلقه، من وضعه، لم تخلق فيه نشوة الانتصار، وإنّما خلقت فيه ذُلّ العبودية، شعر بذلّ العبودية أكثر ممّا شعر بنشوة الانتصار.

١٧٥

هذا هو الذي يمثّل الوعي العظيم، لكنّ المسلمين عاشوا نشوة الانتصار في لحظاتٍ عديدة، وكذلك في لحظاتٍ أُخرى، لحظات الصدمة والمأساة، يبقى صامداً أمام المشكلة لا يلين ولا يتراخى، يبقى على خطّه واضحاً. النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يبدو عليه أيّ فرقٍ بينه وهو داخل مكّة فاتحاً، وبينه وهو مطرود في الحجاز من قبائل العرب المشركين. يتوجّه إلى ربّه يقول له: لا يهمّني ما يصنع هؤلاء إذا كنت راضياً عنّي(١) ، نفس الروح التي نجدها في لحظة انقطاعه، في لحظة مواجهته البشرية التي تحمل ألوان الشرور، في لحظة تمرّد الإنسان على هذا الذي جاء ليُصلحه. لم تتبدّل حالته في هذه اللحظة وبين حالته والإنسانية تستجيب، والإنسانية تخضع، والإنسانية تُطأطئ رأسها بين يديه، بين يدي الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا هو الوعي. أمّا الأُمّة لم تكن هكذا، ولا نريد أن نكرّر الشواهد حتّى يأتي البحث اليوم كاملاً، الشواهد على أنّ الأُمّة كانت غير واعيةٍ وإنّما هي طاقة حرارية مرّت في الأيام السابقة. إذن فالأُمّة الإسلامية كانت تحمل طاقةً حراريةً كبيرةً ولم تكن اُمّةً واعيةً بدرجةٍ كبيرة، فلم تكن العصمة متوفّرةً لا في القيادة، ولا في الأُمّة بوجودها المجموعي، ومن أجل هذا كان الانحراف حتمياً على النحو الذي بيّنّا بالأمس.

تخطيط الأئمّةعليهم‌السلام لمواجهة الانحراف:

وهكذا بدأ الانحراف بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقلنا: إنّ الخطّ الذي بدأه الأئمّةعليهم‌السلام كان ينحلّ إلى شكلين:

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري ٢: ٨١.

١٧٦

الخطّ الأوّل : وهو خطّ محاولة القضاء على هذا الانحراف بالتجربة الإسلامية، تجربة المجتمع الإسلامية والدولة الإسلامية، حيث إنّ التجربة انحرفت بإعطاء زمامها إلى أُناسٍ لا يؤتمنون عليها وعلى مقدّراتها ومُثلها وقيمها، ولذا كان لا بدّ من العمل لتسلّم زمام هذه التجربة.

الخطّ الثاني : هو الخطّ الذي كان الأئمةًعليهم‌السلام يؤدّونه حتّى في الحالات التي كانوا يرون أن ليس في الإمكان السعي وراء تسلّم زمام هذه التجربة، وهو خطّ الضمان لوجود الأُمّة في المستقبل البعيد، لأنّنا قلنا: حيث إنّ التجربة انحرفت كان من المنطقي في تسلسل الأحداث أن يتعمّق هذا الانحراف، ثمّ يتعمّق حتّى تنهار التجربة أمام أوّل غزوٍ تتعرّض له هذه الأُمّة.

حيث إنّ الأُمّة الإسلامية لم تعش إلاّ التجربة المنحرفة المضلّلة، إلاّ هذه التجربة المشوّهة عن الإسلام، إذن فسوف لن تحارب عن إسلامها كأُمّة. بعد أن تنهار الدولة، وتنهار الحضارة الحاكمة تنهار الأُمّة كأُمّةٍ أيضاً، سوف تتنازل عن إسلامها، لأنّها لم تجد في هذا الإسلام ما تدافع عنه.

أعتقد أنّ الأُمّة الإسلامية لو كانت قد عاشت الإسلام من منظار عمر وأبي بكر وعثمان ومعاوية وعبد الملك بن مروان وهارون الرشيد والباقي من هؤلاء الخلفاء غير الصالحين فقط الذين تزعّموا التجربة الإسلامية، لو أنّ الأُمّة كانت قد عاشت الإسلام من هذا المنظار فقط إذن لتنازلت عن هذا الإسلام برحابة صدر.

ماذا وجدت من هذا الإسلام ؟ وماذا جنت منه ؟ كيف نقدر أن نتصوّر أنّ الإنسان غير العربي يدافع عن الإسلام الذي يتبنّى زعامة العربي على غير العربي ؟ كيف نتوقّع من الفارسي أن يدافع عن كيانٍ يعتبر هذا الكيان ملكاً لأسرةٍ واحدةٍ من قبائل العرب وهو أُُسرة قريش ؟ كيف يعقل أنّ هؤلاء المسلمين

١٧٧

يشعرون بأنّهم قد وجدوا حقوقهم وكرامتهم في مجتمعٍ يضجّ فيه بكلّ ألوان التفاوت والتمييز والاستئثار ؟ ولذا كان من الطبيعي أن يتنازلوا عن هذا الإسلام حينما تنهار التجربة بعد تعمّق الانحراف.

إلاّ أنّ الذي جعل الأُمّة لا تتنازل عن الإسلام هو المثل الآخر الذي قُدّم له، مثل واضح المعالم، أصيل المثل والقيم، أصيل الأهداف والغايات، قدّمت له أُطروحة من قبل الواعين من المسلمين بزعامة الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام .

ولنعلم مسبقاً، وقبل أن نأتي إلى التفاصيل، أنّ هذه الأُطروحة التي قدّمها الأئمّةعليهم‌السلام للإسلام لم تكن تتفاعل مع الشيعة المؤمنين بإمامة أهل البيتعليهم‌السلام فقط، بل كان لها صدىً كبير في كلّ العالم الإسلامي، حيث إنّ الأئمّةعليهم‌السلام كانت لهم أُطروحة الإسلام، وكانت لهم دعوى لإمامة أنفسهم لم يطلبوا لها إلاّ عدداً ضئيلاً من مجموع الأُمّة الإسلامية إلى مدّةٍ طويلة، إلاّ أنّ الأُطروحة الأُخرى التي تمثّل الإسلام الصحيح، والتي مثّلها الأئمّةعليهم‌السلام والواعون الملتفّون حولهم تفاعلت مع مجموع الأُمّة الإسلامية في كلّ أبعادها، مع مفكّريها وأكابرها، وهي التي ثبّتت إسلام الأقطار الإسلامية، حيث إنّها تضمّنت الأُطروحة الصحيحة للإسلام، والنموذج الواضح الصريح له في كلّ مجالاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والخلقية والعبادية، ممّا جعل المسلمين يسهرون على هذه التجربة ويحمونها، حيث إنّهم ينظرون إليها بمنظارٍ آخر غير منظار الواقع المعاش، وعلى أساسٍ من هذا نبدأ بتحليل الموقف عقيب وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى ضوء هذه الأُطروحة.

موقف أمير المؤمنينعليه‌السلام في مواجهة الانحراف:

أمير المؤمنينعليه‌السلام حينما واجه الانحراف في التجربة عقيب وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله

١٧٨

قام بعملية تعبئةٍ فكريةٍ في صفوف المسلمين مؤدّاها: أنّ هذا الوضع الجديد هو وضع غير طبيعيٍّ ومنحرف عن الخطّ الإسلامي، واستعان بهذا الصدد ببنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قرينته العظيمة؛ وذلك لأجل أن يستثير في نفوس المسلمين عواطفهم، ومشاعرهم المرتبطة بأعزّ شخصٍ يحبّونه وهو شخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، إلاّ أنّه فقدهاعليها‌السلام ولم يستطع أن يستثير المسلمين بالدرجة التي تحوّل مجرى التجربة وتجعل هناك تبدّلاً أساسياً في الخطّ القائم. وكان ذلك أمراً طبيعياً.

ولكي نفهم هذا يكفي أن نلتفت إلى نفس ما أصاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الرائد الأعظم لهذه الرسالة، ما أصابه من قلقٍ وارتباكٍ في سبيل تركيز إمامة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، ماذا دهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصابه ؟ هذا النبيّ العظيم الذي لم يتلكّأ ولم يتلعثم ولم يتردّد في أيّ لونٍ من ألوان التركيز والعمل في سبيل تلك المهمّات. هذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله العظيم الذي لم يشعر بالخوف ولا القلق، والذي لم يخفق قلبه بأيّ لونٍ من ألوان الوساوس والشكوك، ولا بأيّ لونٍ من ألوان الضعف والانهيار، هذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذاته يقف حائراً أمام الأمر الإلهي في أن يبلّغ وأن يركّز إمامة عليّ بن أبي طالب، حتّى ما جاء إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من إنذاره بأن يُبلّغ، وإلاّ فكأنّه لم يبلّغ الرسالة(٢) ، أي أنّه كان مستوى الخطر في نظر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يصل إلى درجة هدر شخصيّته، شخصيّة الرائد الأوّل وصاحب الرسالة، أي أنّ الانحراف كان على سبيلٍ من المنعة، هذه المنعة التي كانت تمنع عن تزعّم عليٍّعليه‌السلام للتجربة

____________________

(١) الإمامة والسياسة: ١٢، والاختصاص: ١٨٤.

(٢) وهو قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ... ) المائدة: ٦٧.

١٧٩

الإسلامية عميقة قوية واسعة؛ بدرجة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه كان يخشى من أن يُعلن عن تشريع هذا الحكم وليس عن تطبيقه بحسب الخارج. وكذا حينما أراد أن يسجّل هذا الحكم، حينما أراد أن يسجّله في كتاب.

المسلمون لأوّل مرّة في تأريخ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا النبيّ الذي كانوا يتسابقون إلى الماء الذي يتقطّر من وضوئه(١) ، هذا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي ذهب رسول قريش إلى قريش يقول لهم: إنّي رأيت كسرى وقيصر وملوك الأرض فما رأيت رجلاً انجذب إليه جماعته وأصحابه، ويؤمنون به، كما ذاب أصحاب محمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله في محمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يشعرون بوجودهم أمام هذا الرجل العظيم(٢) . وبالرغم من كلّ هذا وفي مجلسهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم واحد من أصحابه فيقول ما يقول !! بما تعلمون، ثمّ لا يحصل بعد هذا أيّ ردّ فعلٍ لهذا الكلام، أيّ ردّ فعلٍ حاسمٍ حينما يقوم هذا الصحابي ويقول هذا الكلام وينحرف بهذا الشكل الواضح ؟! ولا يجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أن يقول: ( قوموا عنّي )(٣) ، المسألة كانت بهذه الدرجة من المنعة والشمول.

وعلى سبيل الإجمال يجب أن نعلم بأنّ عليّاًعليه‌السلام لم يكن رئيساً ولا كان قاصراً أو مقصّراً حينما فشل؛ لأنّه غير محتملٍ، خصوصاً وأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قمّة النشاط والحيويّة والجهاد ومع ذلك واجه هذه المشاكل والصعاب تجاه تشريع الحكم، فكيف يكون الإمام أمام تنفيذه في قبال هذه الموانع ؟

____________________

(١) إعلام الورى ١: ٢٢٠.

(٢) إعلام الورى ١: ٢٢١.

(٣) أمالي الشيخ المفيد: ٣٦ - ٣٧، المجلس الخامس، وعنه في البحار ٢٢: ٤٧٤، تاريخ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الباب الأوّل، باب وصيتّه عند قرب وفاته، الحديث ٢٢.

١٨٠