أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 107732
تحميل: 7740

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107732 / تحميل: 7740
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، بالرغم من أنّه كان في أشدّ ما يكون سعياً وراء الحكم، جاءه المسلمون بعد أن قتل عثمان وعرضوا عليه أن يكون حاكماً، قال لهم: بايعوا غيري وأنا أكون كأحدكم، بل أكون أطوعكم لهذا الحاكم الذي تبايعونه ما سلمت أمور المسلمين في عدله وعمله(١) ؛ يقول ذلك لأنّ الخطر الذي تواجهه الأُمّة الإسلاميّة كبير جدّاً، وبذرة الانحراف التي عاشها المسلمون بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن قتل عثمان تمادت وتعمّقت وتجبرّت وطغت. هذا الانحراف الذي استكبر، الذي خلّف التناقضات في الأُمّة الإسلامية، وهذا عبء كبير جدّاً، ماذا يريد أن يقول ؟! يريد أن يقول بأنّي لا أقبل شيئاً إلاّ أن تصفّوا هذا الانحراف، أنا أقبل الحكم الذي يصفّي هذا الانحراف ويقتلع جذوره لا الحكم الذي يصانعه.

هذه الإحجامات عن قبول الحكم في مثل هذه اللحظات كانت تؤكّد الطابع الرسالي، لحرقته، للوعته، لأساه، لألمه، لرغبته في أن يكون حاكماً. استطاع أن ينتصر على نفسه ويعيش دائماً لرسالته وأهدافه، واستطاع أن يربّي أصحابه أيضاً على هذا المنوال. هذا هو الخطّ الأوّل من محاولته لتسلّم زمام التجربة الإسلاميّة.

الخطّ الثاني - تحصين الأُمّة:

هو خطّ تحصين الأُمّة التي كانت تواجه خطر العاملّين الكمّي والكيفي، اللذَين سوف يجعلان هذه الأُمّة لا تعيش الإسلام إلاّ زمناً قصيراً بحكم العامل الكمّي الذي سوف يسرع في إفناء التجربة، وسوف لن تعيش إلاّ تجربةً مشوّهةً

____________________

(١) نهج البلاغة: ١٣٦، الخطبة ٩٢، وفيه: وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعليّ أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم.

٢٠١

بحكم العامل الكيفي الذي يفرض عليها، الإمام هنا بدأ بتحصين الأُمّة بالتغلّب على هذين العاملين.

معالجة العامل الكمّي:

أمّا التغلّب على العامل الكمّي فكان في محاولة تمديد عمر التجربة حيث لا يمكن تمديدها بزعامته هو شخصيّاً، وكان ذلك التمديد بأسلوبين:

الأوّل: هو عبارة عن التدخّل الإيجابي الموجّه في حياة هذه التجربة. القادة والزعماء الذين كانوا يتولّون هذه التجربة كانوا يواجهون قضايا كثيرة لا يحسنون مواجهتها، كانت تواجههم مشاكل كثيرة لا يحسنون حلّها، ولو حاولوا حلّها ومواجهتها لوقعوا في أشدّ الأخطار والأضرار، ولأوقعوا المسلمين في أشدّ التناقضات، ولأصبحت النتيجة المحتومة أقرب، ولأصبحت التجربة على شفا الموت والفناء والهلاك. هنا كان يتدخّل الإمامعليه‌السلام - وهذا خطّ عام سار الأئمةعليهم‌السلام كلّهم على هذا الخطّ كما قلنا وسوف نقول - فكان الإمامعليه‌السلام يتدخّل تدخّلاً إيجابيّاً موجّهاً في سبيل أن ينقذ التجربة من المزيد من الضياع، من المزيد من الانحراف.

كلّنا نعلم بأنّ المشاكل العقائديّة التي كانت تواجه الزعامة السياسية بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذه المشاكل العقائدية التي كانت تثيرها الحضارات الأخرى التي بدأت تندرج في الأُمّة الإسلاميّة، وكذلك الأديان الأخرى التي بدأت تعاشر المسلمين، هذه المشاكل العقائديّة لم تكن الزعامة السياسيّة قادرة على حلّها ولذا كان الإمامعليه‌السلام هو المعين لتلك الزعامة في عملية التغلّب على تلك المشاكل.

كلّنا نعلم بأنّ الدولة الإسلاميّة واجهت في عهد عمر خطراً من أعظم

٢٠٢

الأخطار، وهو خطر إقامة الإقطاع الذي لا نظير له في مجتمعات العالم، هذا الإقطاع الذي كان من المفروض أن يسرع في دمار الأُمّة الإسلاميّة، وذلك حينما وقع البحث بين المسلمين بعد فتح العراق في أنّه هل توزّع أراضي العراق على المجاهدين المقاتلين، أو أنّها تبقى ملكاً عامّاً للمسلمين عموماً ؟ وكان هناك اتّجاه كبير بين المسلمين إلى أن توزّع هذه الأراضي على المجاهدين، أي على الذين فتحوا العراق والشام ومصر وفارس، وكان نتجية ذلك أن يعطي العالم الإسلامي لبضعة آلافٍ التي كانت تقاتل وتحارب، وبالتالي يشكّل إقطاعاً لا نظير له في التأريخ. هذا المطلب هو الخطر الذي كان يهدّد الدولة الإسلاميّة، وكان عمر قد تحيّر من أجل ذلك عدّة أيام؛ لأنّ عمر ليس على مستوى المسئوليّة، ولا يعرف ماذا يصنع ؟ وما هو الأصلح ؟ وكيف يعالج هذه المشكلة؟

عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يتدخّل ويحسم هذا الخلاف، ويبيّن وجهة نظر الإسلام في الموضوع، ممّا اضطّر عمر لأن يأخذ بنظر الإمام عليّعليه‌السلام ، وأنقذ بذلك الإسلام من الدمار الكبير(١) .

وكذلك التدخّلات الكثيرة والتي منها قضيّة النفير العامّ الذي اقتُرح على عمر، والذي كان يهدّد العاصمة في غزوٍ سافرٍ كان من الممكن أن يقضي على الدولة الإسلاميّة، هذا الاقتراح طُرح على عمر، وكاد عمر أن يأخذ به، جاء عليّ إلى المسجد، إلى عمر مسرعاً على ما في بعض الروايات، قال له: لا تنفر نفراً عامّاً، كان عمر يريد أن يخرج مع تمام المسلمين الموجودين آنذاك في المدينة، وعندها تفرغ المدينة عاصمة الإسلام ممّن يحميها عن غزو المشركين

____________________

(١) تأريخ اليعقوبي ٢: ١٥١.

٢٠٣

والكافرين، منعه من النفير العام(١) . وهكذا كان عليّعليه‌السلام يتدخّل تدخّلاً إيجابيّاً موجّهاً في سبيل أن يقاوم المزيد من الانحراف، والمزيد من الضياع، كي يطيل عمر هذه التجربة ويقاوم عامل الكمّ الذي ذكرناه.

والأسلوب الآخر لمقاومة العامل الكمّي في الموضوع كان هو المعارضة، أي كان عبارةً عن تهديد الحكّام ومنعهم من المزيد من الانحراف، لا عن سبيل التوجيه وإنّما عن سبيل المعارضة والتهديد. في الأوّل كنّا نفرض أنّ الحاكم فارغ دينيّاً وكان يحتاج إلى توجيه، الإمامعليه‌السلام كان يأتي ويوجّه. أمّا الأسلوب الثاني يكون فيه الحاكم منحرفاً ولا يقبل التوجيه، إذن فيحتاج إلى معارضة، ويحتاج إلى حملةٍ ضدّ هذا الحاكم لأجل إيقافه عند حدّه، ولأجل منعه عن المزيد في الانحراف، وكانت هذه هي السياسة العامّة للأئمّةعليهم‌السلام .

ألسنا نعلم أنّ عمر صعد على المنبر وقال:ماذا كنتم تعملون لو أنّا صرفناكم عمّا تعلمون إلى ما تنكرون ؟! كان يريد أن يقدّر الموقف وماذا سيكون. لم يقم له إلاّ عليّعليه‌السلام ليقول له:لو فعلت ذلك لقوّمناك بسيوفنا (٢) .

كان هذا هو الشعار العامّ للإمام عليّعليه‌السلام بالرغم من أنّه لم يشترك في عملية تعديل عمر بالسيف خلال حكم عمر؛ وذلك لظروفٍ ذكرناها ودرسناها. إلاّ أنّه قاد المعارضة، وتزعّم هذه المعارضة، واستقطب آمال المسلمين ومشاعر المسلمين واتّجاهات المسلمين نحو حكمٍ صحيح، ولهذا كان هو المرشّح الأساسي شبه الوحيد أيضاً بعد أن قتل عثمان. واجتمع عليه المسلمون.

____________________

(١) نهج البلاغة: ٢٠٣، الخطبة ١٤٦، والكامل في التأريخ ( لابن الأثير ) ٣: ٨.

(٢) بحار الأنوار ٤٠: ١٨٠ - ١٨١، تاريخ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الباب ٩٣، الحديث ٦١.

٢٠٤

الإمامعليه‌السلام كان يتحرّك بهدف وقف امتداد الانحراف، وتجميد حركة أصحاب الانحراف. وبهذا يكمل معالجة العامل الكمّي.

معالجة العامل الكيفي:

وأمّا معالجة العامل الكيفي وهو المحافظة على الأُمّة الإسلاميّة، وإعطاؤها الوجهة الإسلاميّة الصحيحة دون قبول الوجهة المنحرفة المشوّهة للإسلام، هذا العمل لا يكفي فيه الصراع على المستوى الكمّي السابق؛ لأنّه لا يكسب الأُمّة المناعة الحقيقيّة والحرارة الحقيقيّة للبقاء والصمود كأمّة. إذن كان لا بدّ وأن يحدّد الوجه الحقيقي للإسلام في سبيل الحفاظ عليه، وهذا الوجه الحقيقي قدّمه الإمام عليّعليه‌السلام من خلال معارضته للزعامات المنحرفة أوّلاً، ومن خلال حكم الإمامعليه‌السلام بعد أن مارس الحكم بنفسه، من خلال هذين العمَلين: العمل السياسي المتمثّل في المعارضة، والعمل السياسي المتمثّل في رئاسة الدولة بصورةٍ مباشرةٍ، قدّم الوجه الحقيقي للإسلام، الأطروحة الصحيحة للحياة الإسلاميّة، الأطروحة الخالية من كلّ تلك الألوان من الانحراف، طبعاً هذا لا يحتاج إلى حديث، ولا يحتاج إلى تمثيل؛ لأنّه واضح لديكم.

أمير المؤمنين حينما تولّى الحكم لم يكن يستهدف من تولّي الحكم تحصين التجربة أو الدولة بقد ما كان يستهدف تقديم المثل الأعلى للإسلام، لأنّه كان يعرف أنّ التناقضات في الأُمّة الإسلاميّة بلغت إلى درجةٍ لا يمكن معها أن ينجح عمل إصلاحي إزاء هذا الانحراف، مع علمه أنّ المستقبل لمعاوية، وأنّ معاوية هو الذي يمثّل القوى الكبرى الضخمة في الأُمّة الإسلاميّة. كان يعلم ذلك، ولهذا ذكّر بولاية معاوية، وقال لأهل الكوفة: ويلكم، إنّه سيسلّط عليكم هذا

٢٠٥

الرجل الذي نعته النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة(١) . كان يعرف أنّ القوى الضخمة التي خلّفها عمر وخلّفها عثمان والتي خلّفها الانحراف، هذه القوى كلّها إلى جانب معاوية، وليس إلى جانبه هو ما يعادل هذه القوى، ولكنّه مع هذا قَبِل الحكم، ومع هذا بدأ بتصفية وتعرية الحكم والانحراف الذي كان قبله، ومع هذا مارس الحكم وضحّى في سبيل هذا الحكم بعشرات الآلاف من المسلمين، أوّل من قتل الآلاف من المسلمين في سبيل الحكم هو عليّعليه‌السلام ؛ وذلك في سبيل أن يقدّم الأطروحة الصحيحة الصريحة للإسلام وللحياة الإسلاميّة، وقد قلت بالأمس وأُؤكد اليوم بأنّ عليّاًعليه‌السلام في معارضته، في حكمه، لم يكن يمثّل الشيعة فقط، ولم يكن يؤثّر على انحراف الشيعة فقط، بل كان يؤثّر على مجموع الأُمّة الإسلاميّة.

عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ربّى المسلمين جميعاً سنّةً وشيعة، حصّن المسلمين جميعاً، عليّعليه‌السلام عرّف المسلمين جميعاً سنّةً وشيعة قيمة الإسلام وعظمة الإسلام، عليّعليه‌السلام أصبح أطروحة ومثلاً أعلى للإسلام الحقيقي، من الذي كان يحارب مع الإمام عليّعليه‌السلام ؟ هؤلاء المسلمون الذين كانوا يحاربون المسلمين في سبيل هذه الأطروحة الغالية، وفي سبيل هذا المثل الأعلى، أكانوا كلّهم شيعةً بالمعنى الأخصّ ؟ لا، لم يكونوا كلّهم شيعة، هذه الجماهير التي انتفضت بعد عليّعليه‌السلام على مرّ التأريخ بزعامات أهل البيتعليهم‌السلام ، بزعامات العلويّين الثائرين من أهل البيت الذين كانوا يرفعون راية عليّعليه‌السلام وشعار عليّعليه‌السلام للحكم، هؤلاء كلّهم كانوا شيعةً بالمعنى الأخصّ ؟ لا، لم يكونوا شيعةً بالمعنى الأخصّ، بل كان أكثرهم لا يؤمن بعليّعليه‌السلام إيماننا نحن الشيعة، ولكنّهم كانوا

____________________

(١) الملاحم والفتن: ٢١، والإرشاد ١: ٢٨١.

٢٠٦

ينظرون إلى عليّعليه‌السلام أنّه المثل الأعلى، أنّه الرجل الصحيح الحقيقي للإسلام، حينما قام نائب عبد الله بن الزبير يعلن سياسة عبد الله بن الزبير وقال بأنّنا سوف نحكم بما كان يحكم به عمر وعثمان قامت الجماهير، جماهير المسلمين تقول له: لا، بل حكم عليّعليه‌السلام (١) ، فعليّ كان يمثّل اتّجاهاً في مجموع الأُمّة الإسلاميّة.

الخلافة العباسيّة كيف قامت ؟ كيف نشأت ؟ قامت على أساس دعوة كانت تتبنّى زعامة الرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، يعني أنّ هذه الحركة استغلّت عظمة هذا الاتّجاه، وتجمّع المسلمين حول هذا الاتّجاه، ولم يكن هؤلاء شيعة، أكثر هؤلاء لم يكونوا شيعة، لكن كانوا يعرفون أنّ الاتّجاه الصالح الحقيقي الصلب العنيف كان يمثّله عليّعليه‌السلام والواعون من أصحاب عليّعليه‌السلام وأبنائه، ولهذا فإنّ كثيراً من أبناء العامّة هم من أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام ، كثيرٌ من أصحاب الأئمة كانوا من العامّة. بل من أئمّة العامّة ومن أكابر أصحاب الصادقعليه‌السلام (٣) . كان الأئمّةعليهم‌السلام يفكّرون في أن يقدّموا الإسلام لمجموع الأُمّة الإسلاميّة وأن يكونوا مثلاً، أن يكونوا أطروحة، أن يكونوا مثلاً أعلى. كانواعليهم‌السلام يعملون على خطّين: خطّ بناء المسلمين الشيعيّين الصالحين، وخطّ ضرب المثل الأعلى لمجموع المسلمين بقطع النظر عن كونهم شيعة أو سنّة. هناك علماء من كبار علماء السنّة أفتوا بوجوب الجهاد، وبوجوب القتال بين يدي ثوّار آل محمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله . أبو حنيفة النعمان قبل أن ينحرف ،

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ٤٨٩ - ٤٩٠.

(٢) الإمامة والسياسة ٢: ١٥٨، والملاحم والفتن: ٣٢.

(٣) راجع: رجال الشيخ الطوسي: ٣٢٥، أصحاب الصادقعليه‌السلام ، حرف النون، وبحار الأنوار ٤٧: ٢٧ - ٣٢، تاريخ الإمام الصادقعليه‌السلام ، باب مكارم سيره ومحاسن أخلاقه، الحديث ٢٦ - ٢٩.

٢٠٧

قبل أن يرشيه السلطان ويصبح من فقهاء عمّال السلطان، أبو حنيفة نفسه الذي كان من أعيان السنّة ومن زعماء السنّة، هو نفسه خرج مقاتلاً ومجاهداً مع رايةٍ من رايات آل عليٍّعليه‌السلام ، وأفتى بالجهاد مع رايةٍ من رايات آل عليٍّعليه‌السلام ، كلّ هذا قبل أن يتعامل مع السلاطين(١) .

إذن فاتّجاه عليٍّعليه‌السلام لم يكن اتّجاهاً منفرداً محدوداً، كان اتّجاهاً واسعاً على مستوى الأُمّة الإسلاميّة كلّها لأجل أن يحصّن الأُمّة الإسلاميّة كلّها، لأجل أن يعرّف الأُمّة الإسلاميّة ما هو الإسلام ؟ وما هي أهداف الإسلام ؟ وكيف يمكن للإنسان أن يعيش حياةً إسلاميّةً وفي إطار مجتمعٍ إسلامي ؟

____________________

(١) راجع: تفسير الكشّاف للزمخشري ١: ١٨٤.

٢٠٨

المرحلة الأولى من حياة الأئمّةعليهم‌السلام

٢٠٩

٢١٠

بسم الله الرحمن الرحيم

نتكلّم حول حياة الأئمّة الثلاثة: الإمام الحسن، والإمام الحسين، ثمّ عليّ ابن الحسينعليهم‌السلام ، وهؤلاء الثلاثة يشكلّون مع أبيهم عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام - على ما قلناه في المجالس السابقة - تمام المرحلة الأولى من المراحل الثلاث لحياة الأئمّةعليهم‌السلام .

مراحل تاريخ الأئمّةعليهم‌السلام :

فإنّنا قد ذكرنا في بعض الأبحاث المتقدّمة عن تأريخ الأئمّةعليهم‌السلام : أنّ تأريخ الأئمّةعليهم‌السلام يمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل بعد وفاة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله :

المرحلة الأولى : هي مرحلة تفادي صدمة الانحراف، هذه المرحلة هي المرحلة التي عاش فيها قادة أهل البيتعليهم‌السلام مرارة الانحراف وصدمة انحراف التجربة الإسلامية بعد وفاة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان لمرارة هذا الانحراف ولصدمة هذا الانحراف آثاره وفجائعه ومضاعفاته - التي كان من الممكن أن تمتدّ فتقضي على الإسلام ومصالحه - على الأُمّة الإسلامية، فتصبح قصّةً في التأريخ لا وجود لها في خطّ الزمن المستمرّ.

٢١١

الأئمّةعليهم‌السلام في هذه المرحلة الأولى عاشوا صدمة الانحراف وقاموا بالتحصينات اللازمة بقدر الإمكان، لا بالقدر الذي لم يكن داخلاً بالإمكان، فقاموا بالتحصينات اللازمة بكلّ العناصر الأساسية للرسالة ضدّ صدمة الانحراف، فحافظوا على الرسالة الإسلامية، وحافظوا على التصوّرات الإسلامية، وحافظوا على الأُمّة الإسلامية نفسها، كلّ هذه الأركان والمقوّمات حصّنوها تجاه صدمة الانحراف.

هذه هيالمرحلة الأولى ، وهذه المرحلة تبدأ من بعد وفاة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وتستمرّ إلى حياة الإمام الرابع من قادة أهل البيت، وهو الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

ثمّ تبدأالمرحلة الثانية ، والإمام الباقرعليه‌السلام يشكّل شبه البداية لها، حينما نقول: شبه البداية؛ لأنّ تصوّر هذا العمل ليس حدّياً، بحيث يمكن أن نقف على لحظةٍ فنقول: هذه اللحظة هي نهاية مرحلةٍ وبداية مرحلة، وإنّما هذا التصوّر يتّفق مع طبيعة الأحداث المتصوّرة في خطّ تأريخ الإسلام.

وقلنا: إنّ الإمام الخامسعليه‌السلام يمكن أن يشكّل شبه بدايةٍ للمرحلة الثانية، والمرحلة الثانية هي المرحلة التي شرع فيها قادة أهل البيتعليهم‌السلام بعد أن وضعوا التحصينات اللازمة وفرغوا من الضمانات الأساسية ضدّ صدمة الانحراف، هذه المرحلة الثانية هي مرحلة بناء الكتلة، بناء الجماعة المؤمنة بزعامة أهل البيتعليهم‌السلام ، المنضوية تحت لوائهم، الشاعرة بكلّ الحدود والأبعاد من المفهوم الإسلامي المتبنّى من قبل أهل البيتعليهم‌السلام منذ زمان عليّ بن الحسينعليه‌السلام وحتّى زمان الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام .

كان هذا العمل يبلغ القمّة. وليس معنى هذا أنّ العمل الأوّل الذي كان هو الخصيصة الرئيسيّة للمرحلة الأولى قد انقطع، وإنّما معنى هذا أنّ العمل الأوّل

٢١٢

استمرّ، لكن حيث إنّ صدمة الانحراف كان يمكن تقليل خطرها خلال ما قام به الأئمّة الأربعة الأُولعليهم‌السلام من جهودٍ وتضحياتٍ في سبيل حفظ الإسلام؛ ولهذا تحتّم أن يواجه قادة أهل البيتعليهم‌السلام المهمّة الجديدة، مهمّة بناء الجماعة الصالحة من مجموع هذه الأُمّة التي حصّنت بالحدّ الأدنى من التحصين، لا بدّ أن ينتخب مجموعة من هذه الأُمّة فيحصّنوه بأعلى درجةٍ ممكنةٍ من التحصين، ويوعّون بأعلى درجةٍ من التوعية؛ حتّى تكون هذه الجماعة هي الرائد والقائد والحامي للمجموع الإسلامي الذي حصّن بالحدّ الأدنى من التحصين، هذا العمل مارسه الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام ، على مستوى القمّة، وقلنا: إنّ هذه المرحلة استمرّت إلى زمان الإمام الكاظمعليه‌السلام .

وفي زمان الإمام الكاظم بدأتالمرحلة الثالثة ، وهذه المرحلة لا يحدّدها بشكلٍ بارزٍ - على ما ذكرت سابقاً - النشاط الإيجابي من قبل الأئمّة أنفسهم، بل يحدّدها - بشكلٍ بارزٍ - موقف الحكم المنحرف من الأئمّة أنفسهم؛ وذلك لأنّ الجماعة التي نشأت في ظلّ المرحلة الثانية التي وضعت بذرتها في ظلّ المرحلة الأُولى نشأت ونمت في ظلّ المرحلة الثانية، هذه الجماعة غزت العالم الإسلامي، وبلغت إلى درجةٍ من الاتّساع والنموّ والنفوذ الفكري، إلى درجة بحيث إنّها أخذت تشكّل خطراً حقيقياً على الزعامات المنحرفة التي كانت تحكم المجتمع الإسلامي وقتئذٍ، وبدا للخلفاء يومئذٍ أنّ قيادة أهل البيتعليهم‌السلام أصبحت على مستوى تسلّم زمام الحكم والعود بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام الحقيقي؛ ولهذا اختلفت بشكلٍ رئيسيٍّ ردود الفعل للخلفاء تجاه الأئمّة من أيام الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام على ما أوضحناه في حديثنا عن الإمام الجوادعليه‌السلام .

هذه هي المراحل الثلاثة التي سوف نستوعبها بالتدريج خلال تأريخ كلّ واحد من الأئمّة إلى أن يكملوا.

٢١٣

المرحلة الأُولى - تحصين المقوّمات الأساسيّة للحضارة الإسلامية:

أمّا المرحلة الأُولى وهي تشتمل على حياة أربعة من الأئمّة: الإمام علي بن أبي طالب، والإمام الحسن، والإمام الحسين، والإمام عليّ بن الحسينعليهم‌السلام .

وخصيصة هذه المرحلة الرئيسية: أنّ الأئمّة الأربعة قاموا بتحصين المقوّمات الأساسيّة للحضارة الإسلامية ضدّ صدمة الانحراف، لكي نفهم معنى هذا الكلام، ولكي نستطيع أن نطبّقه على آخرهمعليهم‌السلام يجب أن نبيّن ما هي صدمة الانحراف ؟ وما هو عمق صدمة الانحراف ؟ وبالتالي ما هو منطلق هذا الانحراف ؟ وكيف كان يترقّب أن يستمرّ هذا الانحراف ؟ وكيف وقع بحسب الخارج ؟

على ضوء تحديد منطلق هذا الانحراف، وعمق هذا الانحراف، وخطورة هذا الانحراف، يمكن أن نتنبّه حينئذٍ إلى جلالة هذه المرحلة وعظمة منجزات الأئمّةعليهم‌السلام فيها.

خطورة هذا الانحراف وجلالته :

هذا الانحراف الذي يمكننا أن نختصره في جملةٍ بسيطةٍ قصيرةٍ جدّاً، وهي: أنّ شخصاً غير عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام تولّى الأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأصبح سلطان المسلمين بعد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، شخص من الصحابة غير الإمام عليعليه‌السلام ، هذه الجملة البسيطة هي التي تشكّل كلّ هذا البلاء العظيم بكلّ مضاعفاته ونتائجه التي سوف نتحدّث عنها.

ليست هذه الجملة البسيطة فقط معبّرةً عن ظلمٍ وغبنٍ شخصيٍّ للإمامعليه‌السلام واستيلاءٍ على حقٍّ خاصٍّ من حقوقه، ليس هكذا، لو كان مجرّد مظلوميّة علي بن أبي طالبعليه‌السلام لوقف على مستوى العقيدة الدينية ولم يسرِ إلى الحياة الإسلامية في كلّ مجالاتها الخارجيّة.

٢١٤

لم تكن المسألة مسألة عقيدةٍ فحسب، أو مسألة نزاعٍ بين شخصين في حقٍّ مشروعٍ يدّعيه المدّعي وينكره المنكر، لم يكن هكذا، وإنّما كان تغيير شخص هذا الحاكم تعريضاً للتجربة الإسلامية للفشل المحقّق فعلاً، ثمّ خطر الانهيار الكامل في المستقبل.

ما هي الرسالة ؟

ولكي يتّضح هذا المعنى تمام الاتّضاح لا بدّ أن نعرف ما هي الرسالة التي كان مجرّد تغيير شخص الحاكم فيها، مجرّد استيلاء أبي بكر على الحكم بدلاً عن الشخص المعيّن من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنصّ يزعزع كيان هذه الرسالة، ثمّ يمحقها محقاً كاملاً لولا جهود الأئمّةعليهم‌السلام . كيف أنّ مجرّد تغيير الحكم وشخص الحاكم يوجب هذا العمق في الخطر ؟ وهذا المحق في نهاية الشوط ؟ ما هي الرسالة الإسلامية ؟ حتّى نعرف على ضوء ذلك كيف يكون هذا الخطر عميقاً ؟ ثمّ نفهم بعد هذا ما هي التحصينات ضدّ هذا الخطر العميق ؟

نظرة الإنسان إلى الكون ؟

هناك منذ البدء نظرتان أساسيتان للكون ولموقف الإنسان للكون.

النظرة الأُولى:

إحدى النظرتين الأساسيتين للإنسان نحو الكون وموقفه من الكون: أنّه يرى أنّ الكون مملكة لمليكٍ قدير يراقبها من وراء الستار مراقبةً غير منظورة. هذه هي النظرة الأُولى التي يتحدّد بها موقف الإنسان من الكون وطبيعة هذا الكون، وهذه النظرة تستبطن حتماً الشعور بأنّ وجود الإنسان في الكون هو

٢١٥

وجود الأمين ووجود الخليفة، لا وجود الأصيل والمتحكّم؛ لأنّ هذه مملكة غيره بكلّ ما فيها من وجود، وبما فيها من نفس الإنسان، هي مملكة ذلك المليك القدير المراقب من وراء الستار؛ ولهذا يشعر بأنّه يقوم بأعباء الأمانة والخلافة، وبالخلافة التي قام بها آدمعليه‌السلام ، وقامت بها بعد ذلك الأجيال الصالحة لبني آدم.

هذه الخلافة والأمانة تستبطن في هذه النظرة حينما يشعر بأنّه أمين وخليفة، وهذا أيضاً يستبطن معنىً آخر، وهو معنى ضرورة استيحاء الأمر والتدبير والتقرير والتقديم من قبل ذلك الملك القدير، لأنّه هو خليفة وأمين، والأمين لا بدّ له أنّ يطبِّق على الأمانة التي استؤمنها(*) قرارات المالك، فلا بدّ إذن للإنسان أن يكون رهن ذلك المليك القدير، وهذا هو معنى الإقرار بالعبودية، والإقرار بضرورة بناء الحياة الإنسانية في الأرض، والتفاعل مع الكون في كلّ مجالات الإنسان في الكون وفقاً للقرارات الإلهية المعطاة من قبل ذلك المليك القدير.

ثمّ إنّ الجزء الآخر لهذه النظرة الأساسية المليك القدير المراقب من وراء الستار. ما معنى المراقب من وراء الستار ؟ يعني أنّه يراقب ويحاسب ويدقّق، لكنّ هذا المليك له طريقة خاصّة في المراقبة والتدقيق، فإنّه يراقب من وراء ستارٍ لا يتجلّى للناس في المملكة جهاراً، فكلّ من عصاه يضربه آناً ويلزمه بالعقوبات، بل يختفي عن مملكته بحسب المنطق الحسّي لهذه المملكة، ويراقب أهل هذه المملكة هذا المليك القدير.

فكرة أنّه يراقب من وراء الستار تستبطن المسئولية، والمسئولية تستبطن الحساب والعقاب، والحساب والعقاب يستبطن وجود عالمٍ آخر وراء هذا العالم؛ لتحقيق نتائج هذه المراقبة المستورة غير المنظورة، وغير السافرة والعاجلة، من

____________________

(*) في الكتاب المطبوع جاءت العبارة بالشكل التالي: ( استؤمن إيّاها ). وما أثبتناه أكثر موافقة للنثر العربي. [شبكة الحسنين عليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي ]

٢١٦

قِبل ذلك المليك القدير. إذا جاءت فكرة عالمٍ آخر للجزاء والحساب والعقاب تجيء فكرة الأهداف الكبيرة، فحينئذٍ الإنسان لا يكون قيد عمره في الدنيا، ولا يكون قيد هذا الشوط القصير في الدنيا، بل يكون رهن خطٍّ طويلٍ يمتدّ مع ذلك العالم المنظور، وحينئذٍ يكون الإنسان على مستوى الأهداف الكبيرة، الأهداف التي لا يستطيع أن يطمسها، لا يستطيع أن يستنزفها، لا يستطيع أن يستفيد منها، أعظم الأهداف وأجلّ الأهداف وأشمل الأهداف هي تلك الأهداف التي تكون أوسع من عمر إنسانٍ واحد، هذه الأهداف كيف يمكن أن تحمل الإنسانية عليها، وتحمل الإنسانية على تحقيقها إذا كانت الإنسانية لا ترى الأمر في نظرها إلاّ هذا الشوط القصير.

إذن هذا الهدف ليس هدفها؛ لأنّها هي لا تستنزف أصالةً هذا الهدف، ولا تشرب نخب هذا الهدف، فتكون هذه الأهداف معطّلة، وتبقى الإنسانية رهن الأهداف القصيرة، رهن الغايات المادية المحدودة، وهذه الغايات المادية المحدودة هي منطلق ألوانٍ كثيرةٍ من الصراع والكفاح والعراك ما بين الأسرة البشريّة، بين فردٍ وفرد، بين مجتمعٍ ومجتمع، بين قوميةٍ وقومية، بين أُمّةٍ وأُمّة.

وأمّا إذا أصبحت البشرية على مستوى أهدافٍ كبيرةٍ لأنّها انطلقت في غاياتها وفي ثوابها وفي عقابها إلى أكثر من حدود هذه الدنيا، حينئذٍ تستطيع أن تنجز أعباء تلك الأهداف الكبيرة، من خرج من بيته مهاجراً في سبيل الله فمات وقع أجره على الله(١) . هذا الهدف الكبير هو لم يستطع أن يحقّقه، وخرج من بيته، وقضى خطوةً في تحقيق هذا الهدف الكبير، كم من آلاف الناس درسوا وماتوا

____________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى:( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) [النساء: ١٠٠].

٢١٧

قبل أن يحقّقوا النتيجة، كم من آلاف المجاهدين خرجوا للحرب واستشهدوا قبل أن يذوقوا لذّة الانتصار، كم من أجيال المجاهدين والمصلحين طافوا وتحمّلوا في سبيل سياحتهم من أذىً وظلمٍ وإهانةٍ وماتوا قبل أن يذوقوا لذّة الانتصار، إلاّ أنّ هؤلاء حيث إنّهم خرجوا من بيتهم مهاجرين في سبيل الله وماتوا في وسط الطريق وقع أجرهم على الله، بالأجر الإلهي انفتح أمام هؤلاء طريق هذه الأهداف الكبيرة، فلا يهمّ على هذا الإنسان القصير العمر أن يموت خلال الخطوة الأولى، وخلال الخطوة الثانية، ما دام يسير في خطٍّ ما في أيّ مرحلةٍ منه يموت يقع أجره على الله تعالى.

هنا انفتح طريق هذه الأهداف الكبيرة، انفتح باب الخُلقية، هذه القيم الخلقيّة لا معنى لها ما لم تكن على مستوى الأهداف الكبيرة والجزاء الكبير غير المنظور، القيم الخلقية من التضحية والفداء والحبّ والإيثار ونحو ذلك من الأُمور كلّ هذه القيم الخلقية انفتح بابها، لأنّها جميعاً طرقٌ إلى الله، كلّ من يمشي في طريقٍ من هذه الطرق، ويموت ويخسر ويبتلى بصدمة تجاهها يقع أجره على الله، كلّ من يضحّي فلا يلاقي جزاء تضحية يقع أجره على الله تعالى، لأنّه يدخل في ملاك من خرج من بيته مهاجراً في سبيل الله فمات وقع أجره على الله.

حينئذٍ هذه النظرة الأساسية تشعّبت منها كلّ هذه الشعوب، وكلّ هذه الفروع التي بكاملها تشكّل الحضارة الإسلامية، فالحضارة الإسلامية عبارة عن هذه النظرة الأساسية، بكلّ شعبها وفروعها التي ترجع بالنهاية إلى نسيجٍ كاملٍ للعلاقة مع الله في تفاعل الإنسان مع كلّ مجالاته الحيوية والكونية، هذه النظرة الأُولى.

٢١٨

النظرة الثانية:

وفي المقابل نظرة أُخرى غير إسلامية، وهذه النظرية هي أنّ الإنسان ينظر إلى الكون بأنّه أصيل في هذا الكون، وحينما ينظر في نفسه بأنّه أصيلٌ في هذا الكون، وأنّ هذا الكون مستقلٌ، وغير خاضعٍ لمليك وراء الستار، ولمراقبة من وراء الستار، حينما يتركّز في نظره الأصالة لنفسه، والاستقلال لهذا الكون، حينئذٍ تنعدم المسئولية، وإذا انعدمت المسئولية في المقام بقي هو أنّ يتحمّل المسؤولية بنفسه، يعني بدلاً عن أن يشعر بأنّه مسئول ومراقب أمام جهةٍ عُليا تضع أمامَهُ أهدافاً كبيرةً في سبيل الثواب الكبير والعقاب الكبير، يضع هو المسئولية، وحينما يتحمّل هو وضع المسئولية تكون هذه المسئولية نتاج نفسه، فيعكس فيما يضعه تمام ما في نفسه، تمام المحتوى الداخلي والروحي والجسمي له بكلّ ما فيه من نقصٍ وشهوةٍ وخطأ، وحينئذٍ حينما يريد الإنسان أن يحدّد لنفسه مسئولياته سوف يحدّدها على ضوء أهدافه، وحينما يريد أن يحدّد أهدافه سوف يحدّدها على ضوء طريقه، وعلى ضوء مدى طريقه، وحيث إنّ طريقه محدود، وحيث إنّ طريقه منكمش في نطاق المادّة فسوف تكون الأهداف على مستوى الطريق، وحينما تكون كذلك فسوف تكون المسئوليات في نطاق هذه الأهداف، وبعد هذا سوف تخسر القيم الخلقية، وبعد هذا سوف يتولّد عن ذلك ألوان من الصراع والنزاع بين البشرية جماعات ووحداناً، هذه النظرة الثانية في مقابل الأولى.

التربية الإسلاميّة:

والإسلام جاء لأجل أن يربّي الإنسان على النظرة الأولى لا ليكون مجرّد عالمٍ يجيء بنظريةٍ يكتبها في كتاب، ليس حاله حال العلماء الذين يجيئون

٢١٩

بالنظريات فيكتبونها في كتاب ويلقونها في مجلس درسٍ أو بحث، لم يكن الإسلام عالماً، بل كان الإسلام مربّياً، جاء الإسلام ليربّي الإنسان على هذه النظرة، بحيث تصبح هذه النظرة جزءاً من وجوده، وتجري مع دمه وعروقه ومع فكره وعواطفه، وتنعكس على كلّ مجالات تصرّفه وسلوكه مع الله ومع نفسه ومع الآخرين.

التربية الصحيحة تستدعي الهيمنة الشاملة:

إذن، فلا بدّ للإسلام أن يهيمن على هذا الإنسان، وعلى كلّ علاقاته ليستطيع أن يربّيه، المربّي لا يستطيع أن يربّي شخصاً ما لم يهيمن عليه، إذا لم يهيمن عليه، إذا لم يهيمن عليه يكون مجرّد تلميذ، الأستاذ يلقي النظرية العلمية للتلميذ إن شاء التلميذ قبل وإن شاء رفض، وهذا باب التتلمذ والبحث.

وأمّا باب التربية فهو باب الهيمنة، الأب يستطيع أن يربّي ابنه أحياناً فيما إذا هيمن عليه، إذن فالهيمنة هي الشرط الأساس للتربية، والهيمنة كلّما كانت أوسع نطاقاً وأوسع مجالاً كانت أكثر إنجاحاً لعملية التربية، الأب يستطيع أن يربّي ابنه ولكن قد لا يستطيع أن ينجح؛ لأنّ وجود ابنه ليس كلّه تحت هيمنته، وليس كلّه تحت سيطرته، لأنّ هذا الابن هو ابنه، وهو أيضاً ابن هذا المجتمع، ابن مجتمعٍ كبيرٍ يتفاعل معه ويتأثّر به، ويؤثّر فيه ويتبادل معه العواطف والمشاعر والأفكار والانفعالات، ويقيم معه العلاقات في الحقول الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك من مجالات حياته، فهو ليس ابنه وحده، بل هو ابنه وابن المجتمع، وبنوّة المجتمع لهذا الولد أكثر بكثيرٍ من بنوّته لهذا الأب الذي ولد منه، ولهذا قد يعجز كثير من الآباء عن تربية أبناءهم في المجتمع الفاسد، كم سمعت من أبٍ يتذمّر لأنّه لا يستطيع أن يربّي ابنه في آخر الزمان ومع هذا الفساد مثلاً، هذا

٢٢٠