أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 109691
تحميل: 7829

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109691 / تحميل: 7829
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كلّ هذه العوامل وعوامل أخرى ساعدت على أن يكون هذا الإمام العظيم مشكوكاً من قبل هذه الجماهير، فكان يصعد على المنبر ليدعو الناس إلى الجهاد فلا يتحرّك أحد، كان يستثير هممهم وعزائمهم فلا يستجيبون؛ لأنّهم بدأوا يشكّون، والشكّ في القائد هو أقسى ما يُمنى به هذا القائد المخلص، والشكّ في القائد هو أخطر ما تمنى به الأُمّة التي تتحمّل عناء هذا القائد.

بالرغم من هذا الشكّ، قلنا فيما سبق بأنّ الإمامعليه‌السلام لم يقف ولم يتراجع ولم يتردّد، بقي في المعركة، بقي يواصل عملية التعبئة للجهاد إلى آخر سنةٍ من حياته، إلى آخر شهر من حياته، ماتعليه‌السلام بعد أن خرّ صريعاً في المسجد، وهناك بدايات جيشٍ مجهّزٍ بالخروج للجهاد وللقضاء على معاوية بن أبي سفيان.

ظروف خلافة الإمام الحسنعليه‌السلام :

وتولّى الإمام الحسنعليه‌السلام الخلافة في هذه الظروف من التعقيد، ومع جماهير ملأها الشكّ ولا تؤمن إيماناً كاملاً برساليّة هذه المعركة، وبوضوح أهداف هذه المعركة، ولا تتجاوب دينياً وإسلامياً مع هذه المعركة، فإذا أضفنا إلى هذا الفارقَ بين شخصية الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وشخصية الحسنعليه‌السلام ، لا الفارق بينهما في حساب الله سبحانه وتعالى فإنّ كلّ واحدٍ منهما إمام معصوم عند الله، وإنّما الفارق بينهما بحسب الرصيد التأريخي في أذهان الناس أنفسهم، فإنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يملك رصيداً تأريخياً في نفوس الناس لا يملك مثله الإمام الحسنعليه‌السلام ، إذا أضفنا هذا إلى ذاك، وأضفنا كون تولّي الإمام الحسنعليه‌السلام للزعامة الدينية بعد الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قوّى أن تكون الشبهة قبلية، وأنّ المعركة هي معركة بيتٍ مع بيت، لا معركة شخصٍ يمثّل الرسالة مع شخص يمثّل الجاهلية.

٢٤١

إلى جانب أنّ المسلمين لم يكونوا مؤمنين وقتئذٍ بفكرة النصّ من قِبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فكرة الإمامة القائمة على النصّ، ولم يكن تولّي الإمام الحسنعليه‌السلام للزعامة بنظرهم كإمامٍ منصوصٍ عليه، بل كإمام على أساس من الخطّ العامّ للسقيفة، وحينئذٍ رأوا بأنّ الإمامة انتقلت من أبٍ لابنه ممّا أكّد طبيعة المعركة على أساس كونها معركة بيتٍ مع بيت، كلّ هذا عقّد الموقف وجعل الشكّ يتصاعد في المقام إلى درجة أنّ خوض معركةٍ منتصرةٍ مع هذا الشكّ أصبحت مستحيلة.

الإمام الحسنعليه‌السلام أمام موقفين:

وعندما أصبحت المعركة المنتصرة للإمام الحسنعليه‌السلام معركةً مستحيلة بقي أمامه أن يخوض المعركة اليائسة، يعني المعركة التي يستشهد فيها ويُقتل فيها من يقتل ممّن حوله، هذه المعركة اليائسة لم تكن لتؤدّي مفعولاً على الإطلاق؛ لأنّها سوف تتمّ في ظلّ شكّ الجماهير، فما هي أهدافها ؟ وما هي طبيعتها ؟ أهي مجرّد عنادٍ استمراريٍّ على خطّ الزعامة القبليّة، أو هي عناد رسالي وأمانة إلهيّة ؟

ولو خاض الإمام الحسنعليه‌السلام هذه المعركة اليائسة لكانت في نظر كثيرٍ من المسلمين على مستوى المعركة اليائسة التي خاضها عبد الله بن الزبير، معركة يائسة حينما فرّ عنه أصحابه، فيما تقدّم هو بنفسه مع أصحابه الخواصّ فقاتلوا حتّى قتلوا جميعاً وقتل هو أيضاً. عبد الله بن الزبير خاض معركةً يائسة، هل ذكر أحد من المسلمين عبد الله بن الزبير ؟ هل فكّر أحد من المسلمين في أنّ عبد الله ابن الزبير خاض معركته من أجل الإسلام ؟ بذل دمه من أجل العمل الإسلامي ؟ أبداً وعلى الإطلاق، لماذا ؟ لأنّ الناس كانوا يعيشون مفهوماً واضحاً أو نصف واضح عن عبد الله بن الزبير بأنّه يخوض المعركة ضدّ عبد الملك بن مروان لزعامته الشخصية، لا لأجل حماية الإسلام، ولا لأجل إنقاذ الرسالة ولأجل

٢٤٢

تعديل الخطّ، نفس هذا الشكّ بدرجة أو بأخرى كان قد وُجد في الجماهير أيام الإمام الحسنعليه‌السلام ، لأنّه كان موجوداً في آخر أيام أمير المؤمنينعليه‌السلام وتعقّد ونما في عهد الإمام الحسنعليه‌السلام ، وعليه فلو خاض الإمام الحسنعليه‌السلام المعركة اليائسة لكانت هذه المعركة يائسةً جدّاً إلى درجةٍ كبيرةٍ، كالمعركة التي خاضها عبد الله بن الزبير، ولم يكن لمثل هذه المعركة أيّ عطاءٍ للإسلام وللعمل الإسلامي.

كان لا بدّ للإمام الحسنعليه‌السلام ولا بدّ للخطّ الصحيح أن ينحسِر مؤقّتاً ويهادن مؤقّتاً، وسيتولّى معاوية بن أبي سفيان على كلّ العالم الإسلامي لكي ينكشف مضمون أُطروحة معاوية، ولكي يعرف هؤلاء المسلمين البسطاء - الذين لم يكونوا يعرفون إلاّ ما يرونه بأعينهم - مَن كان عليّعليه‌السلام ؟ ومن كان معاوية ؟ وماذا كانت أُطروحة عليعليه‌السلام ؟ وما هي أُطروحة معاوية ؟

ولقد ساهم معاوية نفسه إلى درجة كبيرة حيث لم ينتظر إلى أن تختفي الوقائع والأحداث بل أعلن منذ اليوم الأوّل عن مضمون هذه الأُطروحة وبدأ يواصل هذا الإعلان عملياً وقوليّاً في مختلف مجالات سيادته، حتّى أخذ المسلمون يشعرون شعوراً كاملاً واضحاً بأنّ أُطروحة معاوية هي أُطروحة الجاهليّة التي تريد أن تهدّم الإسلام والكيان الإسلامي، وأنّ عليّ بن أبي طالب هو الذي كان يحمل المشعل الذي كان يضيء الطريق، وأنّ تلك التجربة القصيرة التي زاولها في الحكم بقيت حلماً في نظر الجماهير الإسلامية وهم في خضمّ بؤسهم وفي خضمّ ما كانوا يعيشونه من البلاء.

وهكذا رأينا كثيراً من المسلمين يتّصلون بالإمام الحسنعليه‌السلام لكي ينقض الهدنة؛ لأنّ معاوية أخلّ بالشروط، ولكنّ الإمام الحسنعليه‌السلام كان يقول بأنّ لكلّ شيء أجله، ولكلّ شيء حسابه، لم يكن يرفض بشكلٍ مطلقٍ فكرة نقض الهدنة ،

٢٤٣

لكنّه كان يؤجّل هذا النقض بلغة أنّ لكلّ شيءٍ أجله وحسابه؛ وذلك لأنّه يريد أن يتكشّف معاوية بصورةٍ أكبر، وكان يريد أن تكون أهداف معاوية مكشوفةً لكلّ إنسان، إلاّ أنّ معاوية بن أبي سفيان عرف أنّه سوف يتكشّف على هذا المستوى، وسوف يفتضح أمام المسلمين، ففكّر في أن يحطّم هذه الفضيحة، أي أنّه فكّر في أن لا يكون مصيره مصير ابن عمّه عثمان بن عفّان.

عثمان تكشّف لكن إلى درجةٍ ضئيلةٍ جدّاً، وهو يريد أن يتكشّف بدرجةٍ كبيرةٍ جدّاً، لأنّه يريد أن يتمتّع بالدنيا إلى أقصى مدى يمكن أن يتمتّع به مَلك، هو يريد أن يتكشّف ومن همّه وهدفه ذلك، لكنّه في نفس الوقت يريد أن لا تكون نتيجته نتيجة عثمان ونهاية عثمان، كان يريد أن يتحصّن من هذه النتيجة، وذلك بأن يزيّف للأمّة الإسلامية ضميرها وإرادتها وحافزيّتها لمقابلة الظلم والظالمين، فوضع سياسته خلال عشرين عاماً ليميت هذا الضمير، وليميت هذه الإرادة، ليميّع الأُمّة الإسلاميّة، ويجعل المسلمين ينصرفون عن همومهم الكبيرة إلى الأمور الصغيرة، عن الآلام الضخمة إلى آلام حياتهم البسيطة، ينصرفون عن الأهداف التي كانوا يحملونها لتحطيم جاهليات العالم كلّها إلى مصالحهم الرخيصة، إلى الدريهمات التي كانوا يتقاضونها من بيت المال في رأس كلّ شهر، هذا المسلم الذي كان يفكّر في تحطيم ظلم الظالمين في بلاد كسرى وقيصر أصبح لا يفكّر إلاّ في هذه الدريهمات الرخيصة، وإلاّ في هذه الحياة المبتذلة التي يمنّ بها عليه عمّال بنو أُميّة.

أتصدّقون أنّ شيوخ القبائل في الكوفة أصبحوا جواسيس لمعاوية بن أبي سفيان بالرغم من أنّهم من شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ؟ أصبحوا عملاء وجواسيس لمعاوية يعطونه الأخبار المفصّلة عن أيّ تحرّكٍ وأيّ تحسّس من قِبل شباب قبائلهم، يعطون الأخبار والأرقام لشرطة معاوية بن أبي سفيان ليضربوا

٢٤٤

هذا التحرّك ويسرقوا أنفاس هؤلاء الشباب. هؤلاء الشيوخ الذين كانوا شيعةً لعليّعليه‌السلام ويؤمنون بعليّعليه‌السلام فكيف بغيرهم ؟! ماتت الجماهير وماتت إرادة المسلمين، واستسلم المسلمون السنوات العشرين التي حكمها معاوية والتي هي من أخزى الفترات التي مرّت في تأريخ الأُمّة الإسلامية على الإطلاق، كلّ إنسانٍ كان يحسّ إحساساً واضحاً بأنّه مظلوم، وأنّ الأُمّة الإسلامية ككلٍّ مهدّدة بالخطر، وأنّ الإسلام في مهبّ الريح، وأنّ أحكام الشريعة يتلاعب بها، وأنّ الحاكم لا يفكّر إلاّ في نفسه وإلاّ في وجوده وفي مصالحه الخاصّة، هذا كان وضحاً عند كلّ إنسان، ولكن كلّ إنسانٍ كان لا يفكّر أن يبدأ هو، لا يفكّر في أن يتقدّم هو، كلّ إنسانٍ كان يفكّر في أن يتقدّم، يفكّر قبل هذا بالدراهم التي سوف يقبضها في آخر الشهر، فكان يحجم عن الإقدام، كانت كرامة كلّ إنسانٍ وكرامة أُمّته ودينه أرخص عنده من هذا العيش الذليل، أرخص عنده من هذا العطاء الرخيص الذي يتقاضاه آخر الشهر. فكان لا بدّ لشخصٍ والحالة هذه أن يقوم بدورٍ ليحولّ هذه الضمائر ويحوّل هذه الإرادة، ينقذها من الموت إلى الحياة، ولم يكن يوجد وقتئذٍ شخص يمكن أن يقوم بهذه المهمّة إلاّ الحسينعليه‌السلام .

دور الإمام الحسينعليه‌السلام في المعركة:

هنا دور الحسينعليه‌السلام يختلف عن دور الحسنعليه‌السلام بأنّ المسلمين هنا ليس عندهم أيّ شكٍّ في صحّة هذه المعركة، اليوم المسلمون كلّهم يعيشون تجربة الإمام عليّعليه‌السلام كمثلٍ أعلى للحكم الإسلامي، يعيشون شعارات الإمام عليعليه‌السلام ، إنّها هي شعارات القرآن، وهذا واضح على مستوى الجماهير كلّها، إذن كان لا بدّ للإمام الحسينعليه‌السلام أن يخوض معركة، نعم هي معركة يائسة وليست معركةً منتصرة؛ لأنّ هذه المعركة ستدور في أُمّةٍ ميّتة، في أُمّةٍ قد فقدت

٢٤٥

ضميرها وإرادتها وقابلية المقاومة عندها، هذه المعركة لا يمكن أن تستقطب من جماهير الأُمّة جيشاً قويّاً واسع النطاق قادراً على استئصال الحاكمين الظالمين، فالمعركة معركة خاسرة في الحساب العاجل، ولكن هذه المعركة اليائسة الخاسرة في الحساب العاجل كان بإمكانها أن تنقذ ضمير الأُمّة الإسلامية من الموت، كان بإمكانها أن تعيد إلى الإنسان المسلم همّه الكبير بعد أن نسيه في ضمن أُموره الصغيرة، أن تعيد همّه بأهدافه الضخمة بعد أن ضاعت هذه الأهداف الضخمة في خضمّ محنته الأموية، المسلمون يرون أنّ كلّ واحدٍ منهم في سبيل الحفاظ على عيش رخيصٍ مبتذلٍ لا يعطي شيئاً للإسلام، بل يكون سائراً في خطّ أعداء الإسلام، هكذا كانوا. قال ذاك الشخص للإمام الحسينعليه‌السلام بأنّ أهل الكوفة( سيوفهم عليك وقلوبهم معك ) (١) . انظروا إلى موقع الإرادة إلى أيّ درجةٍ ! قلوبهم معك، وهذا معنى الإرادة، وإرادتهم معك، لكن هذه الإرادة ميّتة، يريد أن يحرّك هذه الإرادة، يريد أن يخرجها من الإطار الأموي لتصبح قوّةً وطاقةً فاعلةً محرّكةً مخيفةً للحكّام الظالمين، المسلم كان يسترخص كرامة الإسلام في عيشه الرخيص.

الإمام الحسينعليه‌السلام حينما يتقدّم في خطّ الجهاد، حينما يبذل آخر قطرةٍ من دمه، حينما يبذل وجوده ووجود صحبه وأهله وذويه، حينما يقدّم كلّ هذه التضحيات في سبيل الإسلام... ومن هو الحسينعليه‌السلام ؟ الحسين هو ذاك الشخص الذي كان يعيش عيشاً مرفّهاً كما لا يعيش أكثر هذه الجماهير البائسة، كان من أكثر المسلمين غنىً، كان من أكثر المسلمين جاهاً، كان من أكثر المسلمين عزّاً، كان سعيداً في حياته البيتية وحياته الاجتماعية وحياته المادّية، كان شخصاً

____________________

(١) وقعة الطف: ١٥٨.

٢٤٦

موقّراً، كان شخصاً لا يصله من بني أُمية إلا بالقدر الذي يصل الإسلام من بني أُمية، وبنو أُمية كانوا يحافظون جدّاً على أن لا يصلوا بظلمهم إلى المصالح الشخصية للحسينعليه‌السلام ، فالمصالح الشخصية للحسينعليه‌السلام كانت متوفّرة، المال كان كثيراً، الجاه كان عظيماً، المنزلة كانت كبيرة، مئات الملايين من المسلمين كانوا يتهافتون على التبرّك بالإمام الحسينعليه‌السلام والإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن بحاجةٍ لا إلى مالٍ ولا إلى جاهٍ ولا إلى مجدٍ ولا إلى تقديس، كان كلّ هذا متوفّرةً عند الحسينعليه‌السلام ، بينهما لم تكن متوفّرةً لدى جماهير المسلمين، ومع هذا رأى هذا الإنسان الذي تتوفّر لديه كلّ أسباب النعيم والرخاء، كلّ أسباب السعادة بمقاييس الجماهير المنخفضة، هذا الإنسان يطلّق هذه الحياة ويغلق على نفسه أبواب هذه السعادة في سبيل مقاومة الظالمين والحفاظ على الرسالة، كانت هذه هي الهزّة الكبرى التي هزّ بها الإمام الحسينعليه‌السلام ضمير الأُمّة الإسلامية، وبمقارنةٍ بسيطةٍ بين السنوات العشرين الفائتة والعشرين اللاحقة ندرك مدى الفرق بين الضمير الثوري للأمّة الإسلامية قبل مقتل سيّد الشهداءعليه‌السلام والضمير الثوري للأمّة الإسلامية بعد مقتل سيّد الشهداء.

قلت في بداية المحاضرات: إنّ الأئمّةعليه‌السلام كانوا يستهدفون من جملة ما يستهدفون تحصين الأُمّة الإسلامية ضدّ صدمة الانحراف كان صدمة، وهذه الصدمة كان بالإمكان أن تقضي على الأُمّة كما قضت على التجربة الإسلامية كتجربةٍ حاكمة، وكان هذا طبيعياً ومنطقياً، لأنّه الوضع الذي كان يعيشه المسلمون قبل مقتل سيّد الشهداءعليه‌السلام .

إلاّ أنّ مقتل سيّد الشهداءعليه‌السلام حصّن الأُمّة الإسلامية ضدّ التميّع وضدّ الانحلال، وضدّ أن تلقي نفسها في خضمّ هذا الظلم المعاش من قبل الحكّام

٢٤٧

المترفين المستهترين بأحكام الإسلام.

المقارنة بين عصرنا وعصر سيّد الشهداءعليه‌السلام :

والمهمّ في المقام أن نقارن بين عصرنا وعصر سيّد الشهداءعليه‌السلام ، صحيح لا يوجد اليوم في هذا العصر شخص لو ضحّى بنفسه يستطيع أن يملك هذه الهزّة في ضمير الأُمّة الإسلامية، الأُمّة الإسلامية اليوم مات ضميرها كما مات ضميرها في عصر معاوية بن أبي سفيان، الأُمّة الإسلامية اليوم تقطع من أطرافها وتُنتهك حرماتها، فلا تتحرّك حركةً حقيقية، فهي ميّتة، هذه الأُمّة الإسلامية ميّتة.

أنا قلت مراراً بأنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام صعد المنبر فقال على أثر هجوم عشيرةٍ من عشائر معاوية على عشيرةٍ كانت تنتمي إلى الدولة الإسلامية الصالحة، كان يقول:إنّه لو أنّ إنساناً مات بعد هذا همّاً أو غمّاً لم يكن ملوماً (١) .

واليوم تقع هذه المآسي الكبرى وهذه الأحداث الكبرى في العالم الإسلامي فلا يتأثّر بها أكثر المسلمين، ولا يحسّ بها أكثر المسلمين، هذا معناه أنّ ضمير الأُمّة الإسلاميّة ميّت، فهل يمكن إحياء هذا الميّت ؟ لا يوجد عندنا شخص يتمتّع بكلّ ملابسات الظروف التي كان يتمتّع بها الحسينعليه‌السلام ، الحسينعليه‌السلام كان ريحانة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان سيّد شباب أهل الجنّة، كان الناس يرونه تعبيراً آخر ومباشراً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كانوا يتقرّبون به إلى الله تعالى، كان بعهده عشرات الصحابة الذين لا يزالون موجودين وقد سمعوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من فم النبيّ الطاهر أنّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة )(٢) ، لا يوجد أحد

____________________

(١) نهج البلاغة: ٧٠، الخطبة ٢٧.

(٢) وقعة الطفّ: ٢٠٧، ٢٠٨.

٢٤٨

من المسلمين اليوم يملك هذا الذي كان يملكه الإمام الحسينعليه‌السلام لكي يحرّك ضمير الأُمّة الإسلامية، إنسان واحد بمفرده لا يمكن أن يحرّك ضمير الأُمّة الإسلامية.

ولكن العمل الدعوائي والنموذجيّة الإسلامية في الدعاة وعلى الخطّ الطويل المتلاحق هو الذي يحرّك ضمير الأُمّة الإسلامية، ينقذ هذا الضمير من حالة الركود والموت إلى حالة الحياة والحركة، يجب أن نوطّن أنفسنا، ويجب على المسلمين أن يوطّنوا أنفسهم على أن يضحّوا باللحظات والساعات المرحة، ويجب أن لا ينتظروا من هذه الأُمّة أن تستفيق لوحدها، بل تجب علينا التضحية بالغالي والنفيس، بالوقت والدم لكي نحقّق المكسب الذي حقّقه الإمام الحسينعليه‌السلام في تضحيته، بل يجب أن نشعر أيضاً بأنّ تضحيتنا هي جزء من خطٍّ طويل، هذا الخطّ، الطويل بامتداده التاريخي قد يحقّق حينئذٍ جزءاً من ذلك المكسب العظيم الذي حقّقته تضحية الإمام الحسينعليه‌السلام .

التضحيات حينما تتقاطر، حينما يحسّ المسلمون بأنّ هناك قطاراً من المسلمين، هذا القطار مستعدّ للتضحية بوجوده وبنفسه في سبيل الله سبحانه وتعالى، حينما يحسّ المسلمون بهذا إحساساً واقعاً في حياتهم العمليّة، حينما يضحّوا هؤلاء المسلمون بالتدريج، حينما يضحّي هؤلاء المسلمون لا على مستوى الكلام، لا على مستوى هذا الكلام الذي أنا أقوله؛ لأنّ الحسينعليه‌السلام كان بإمكانه أن يتكلّم وليس الكلام بمفيد، لكنّه لم يكتفِ بالكلام؛ لأنّ الحسينعليه‌السلام لو خطب ألف خطبةٍ لم يكن يستطيع أن يحرّك ضمير الأُمّة الإسلامية، وإنّما حرّكها بدمه لا بلسانه، حرّكها بتضحيته لا بخطابته، فلو أنّ قطاراً من التضحيات المتتابعة بذل في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمة الله بالنحو المناسب والمطابق لقواعد الشرع فحينئذٍ بالإمكان أن يتحرّك ضمير الأُمّة الإسلامية.

٢٤٩

ونحن كلّنا يجب أن نعدّ أنفسنا روحيّاً وفكريّاً لكي نكون على مستوى عطاء النفوس والأرواح للإسلام، ليس فقط على مستوى الوقوف والشهادة للإسلام، يجب أن نروّض أنفسنا، نوحي لأنفسنا دائماً أنّنا يجب أن نكون في اللحظة التي ينادينا فيها الإسلام للموت، يجب أن نكون مستعدّين للموت، قد لا نواجه هذه اللحظة أبداً لكنّه بالإمكان أن نواجهها في لحظةٍ من اللحظات، ألم تمرّ عليكم جميعاً تجربة المدّ الشيوعي الأحمر في العراق ؟! لو أنّ تجربةً من المدّ الشيوعي الأحمر في العراق كانت قد ارتفع مقياسها الضئيل أكثر ممّا وقع إلى حدٍّ مّا، ألم يكن يواجه كلّ واحدٍ منّا وقتئذٍ نداءً من الإسلام يدعوه إلى التضحية بنفسه ؟! يدعوه إلى الموت ؟!

وكما نحن مطالبون اليوم في فلسطين وكثير من أقطار الأُمّة الإسلامية التي يتعرّض فيها الإسلام والمسلمون إلى كوارث ومآسي وويلات. وكما نحن مطالبون لتصحيح الوضع في جميع أقطار الأُمّة الإسلامية والعودة بها للبناء الإسلامي الصحيح، ولإفشاء أحكام الإسلام في الدولة والمجتمع والفرد، في الأرض والمصنع والمتجر، في العامل والفلاّح والصناعي والغني والفقير.

إنّنا يجب أن نوحي لأنفسنا دائماً بأنّنا مطالبون بما طولب به الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ وذلك لأنّنا نسير في خطّ الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

٢٥٠

خلافة الإمام الحسنعليه‌السلام وظروفها

( القسم الأوّل )

٢٥١

٢٥٢

بسم الله الرحمن الرحيم

بذرة الشكّ:

قلنا: إنّه بعدما خرّ الإمام صريعاً في المسجد كانت بذرة التناقض للتجربة الإسلامية التي تزعّم قيادتها لإعادة كامل الصيغة الإسلامية إلى الحياة بدأت تستفحل وتشتدّ، هذه البذرة هي التي سمّيناها في ما سبق بالشكّ، ودرسنا الظروف الموضوعيّة والنفسية والتأريخية التي كوّنت هذا الشكّ، ونقصد من هذا الشكّ: الشكّ في القائد، في نظرية القائد وأطروحته التي يكافح من أجلها ويحارب على أساسها، وكان هذا الشكّ - على ما أوضحناه فيما سبق، شكّاً مصطنعاً ولم يكن شكّاً حقيقياً، أي بالرغم من أنّه كان يعيش وجداناً في أكثر القطاعات التي دخلت في حكم الإمام عليعليه‌السلام بالرغم من هذا لم يكن شكّاً بحكم المنطق أو بحكم السيرة للإمام عليعليه‌السلام ، وإنّما كان شكّاً مستوحىً من إرهاق هؤلاء وانخفاض أنفاسهم من خطّ الجهاد الطويل المتواصل.

اقتناع الأُمّة شرط النجاح:

وما من رسالةٍ وقائدٍ يحسن أُطروحة رسالية تكون فوق مصالح الأفراد وفوق حدود وجوداتهم، ما من رسالةٍ وقائدٍ يحمل رسالةً من هذا القبيل يمكن أن

٢٥٣

ينجح في خطّ عمله ما لم يحصل على اقتناع الأُمّة بالأطروحة والقضية.

القضية التي أكبر من مصالح هذا الفرد بالذات وذاك الفرد بالذات فلا يمكن أن يضمن نجاح مصلحة هذا الفرد بالذات. المصالح المحدودة المقيّدة قد تتعارض مع قضية كبيرة، وهذه القضية الكبيرة جدّاً، أيّ قضية كبيرة جدّاً تُطرح على المسرح السياسي أو الاجتماعي لا يمكن أن تنجح إلاّ إذا حصلت على اقتناع من الأُمّة بصحّة هذه القضية ونُبلها وواقعيتها، وضرورة تطبيقها.

وهنا لا يلزم أن يحصل هذا الاقتناع من الأُمّة ككلّ، بل يكفي أن يحصل هذا الاقتناع لجزء الأُمّة، ثمّ يُحصِّل هذا الجزء باقي الأجزاء، فيجمّد باقي الأجزاء ويكسبها بالتدريج إلى الاقتناع كما وقع في أيّام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

كان هناك اقتناع من قبل جزءٍ من الأُمّة، وكان هناك استسلام وتجميد من قبل أجزاء أخرى سمّاها القرآن بالمنافقين وهو الجزء المناقض من الأُمّة. كان محمّد والجزء المقتنع من الأُمّة هو الطليعة التي تحمل بيدها الرسالة وتحارب من أجلها وتبذل دمها في سبيل تحقيق الأهداف. هذا المنطق كان يقضي على التجربة التي خلّفها الإمام علي بأن تعيش حالة مضطربة من التناقض؛ لأنّ هذا الاقتناع الذي هو شرط ضروري في إنجاح أيّ أطروحة رساليةٍ تتعدّى حدود ومصلحة الأفراد، هذا الاقتناع لم يكن متوفّراً في أواخر عهد الإمام عليعليه‌السلام بحكم الظروف التي كان يعيشها الإمام عليعليه‌السلام .

تحوّل الشكّ بعد عهد الإمام عليّعليه‌السلام :

وهذا الشكّ كان قد بدأ من عهد الإمام علي، واستمرّ بعد الإمام عليعليه‌السلام حينما تولّى الإمام الحسنعليه‌السلام مقاليد الحكم، غير أنّه تحوّل من شكّ سلبي على

٢٥٤

الأكثر إلى شكّ إيجابي على الأكثر، كان هذا الشكّ في أيام الإمام عليعليه‌السلام شكّاً سلبيّاً إذا استثنينا قضيّة الخوارج، هذا الشكّ في أُطروحة الإمام كان شكّاً سلبياً، يعني كان ينعكس على مستوى سلبي لا على مستوى إيجابي، ينعكس على مستوى التخاذل والتميّع والتثاقل عن الزحف، والتلكّؤ في تلبية الأوامر العسكرية التي كان يصدرها الإمام عليعليه‌السلام بالالتحاق بخطّ الجهاد. كان ينعكس من واقع سلبية على الأكثر، بينما هذا الشكّ بعد الإمام أخذ ينعكس انعكاساً إيجابياً.

ومن ناحيةٍ أخرى اتّسع نطاقه فشمل قطاعاتٍ أكثر من المجتمع الذي كانت تحكمه التجربة، يعني طرأ على هذه التجربة تحوّل كيفي ينعكس إيجابياً على الأكثر، كما كان ينعكس سلبياً على الأكثر، والتحوّل الكيفي جعله يطغى ويشتدّ بالتدريج في الجماهير التي كان من المفروض أن تساهم في مراحل العمل والجهاد في إنجاح التجربة.

أمّا لماذا طغى هذا الشكّ كيفياً وكمّياً بعد الإمام عليعليه‌السلام ؟ وهذا هو السؤال الذي يجب أن يجاب عليه، والجواب ينحصر في النقاط التي ذكرناها في أبحاثنا السابقة. هذا الشكّ بدأ من عهد الإمام عليعليه‌السلام ، وكان فحوى هذا الشكّ ومضمونه هو تشكيك الإنسان العراقي المجاهد تحت لواء الإمام عليعليه‌السلام في أن تكون معركة الإمام عليعليه‌السلام مع معاوية معركة الإسلام مع الجاهلية في ثوبها الجديد، هذا المفهوم الذي كان يعطيه الإمام بقوله، بوجوده، بسلوكه، بكلّ جوارحه ومشاعره، هذا المفهوم المعطى من قبل الإمام عليعليه‌السلام وهو أنّ معركته مع معاوية كانت معركة بالصيغة الإسلامية الكاملة الشاملة للحياة مع الجاهلية، ولكن بالثوب الجديد وعلى مستوى جديد؛ لأنّ الجاهلية بالأمس لم تكن تقتنع إلاّ بأفكار الصيغة الإسلامية رأساً، بأفكار النبوّة رأساً، ولكن بعد ذلك وبعد أن

٢٥٥

سيطر الإسلام على مقاليد كسرى وقيصر وملك المعمورة، بعد هذا أصبحت الجاهلية بإزاء أمر واقع استشعرت في مقابل هذا الأمر فعدّلت من موقفها، فبينما تريد أن تنكر الإسلام ككلّ بدأت تحاول أن تنكر جزءاً من الإسلام، الجزء الذي يتعارض مع واقع مصالحها السياسية والاجتماعية، وفهمها لأساليب الحياة وتقييمها للسلوك.

المعركة هي هذا، كان يعطيها الإمام لا بقوله فقط، بل بسلوكه ووجوده وتصديقه، بهذا المفهوم استطاع الإمام أن يعمل المعجزة في سبيل أن يجعل شعباً يواكب هذا المفهوم ويقتنع بهذا المفهوم، شعباً لم يعش أيام الرسالة الأولى، لم يعش قضية الإسلام على عهد النبوّة، شعب العراق دخل الإسلام منذ سنين عديدة، لم تكن القواعد الشعبية التي اعتمد عليها الإمام عليعليه‌السلام قد عاشت أكثر أيام الإسلام الأولى، أيام الوحي الأولى، مع هذا كسب الإمام هذا الاقتناع إلى درجةٍ ما وإلى وقتٍ ما، ثمّ بدأ الشكّ في ذلك، الشكّ في قضية عليٍّعليه‌السلام مع معاوية هل هي قضية الإسلام مع الجاهلية بثوب جديد ؟ أو هي قضية صراع بين الشخصيتين، بين أسرتين، بين اتجاهين كانا يتحاربان قبل الإسلام واستأنفا الحرب بعد الإسلام ؟ كان هاشم مع أُميّة، كان عبد المطلب مع أُموي آخر، كان محمّد مع أبي سفيان، كان عليّ مع معاوية، هل هذه الحرب هي استمرارية في اتجاهين تأريخيين وعلاقة تأريخية متعاصرة بين هاتين القبيلتين ؟

هذا الشكّ بدأ يوجد وينمو في عصر الإمام عليعليه‌السلام ، والمنمّي له هل هو الإمام ؟ أو سياسة الإمام عليعليه‌السلام ؟ بل هو الإرهاق الشعبي، انقطاع النفس، رغبة الشعب، حبّ السلامة. هذا هو الذي نمّى هذا الشكّ، هذا الشكّ يشتدّ ويقوى بعد الإمام عليعليه‌السلام ، فإنّ موت الإمام كان مثيراً لعوامل عديدة، هذه العوامل العديدة أدّت إلى تنمية هذا الشكّ كمّاً وكيفاً.

٢٥٦

عوامل تنامي الشكّ:

العامل الأوّل:

أوّل هذه العوامل:لحظة الفراغ ، بينما الإمام عليعليه‌السلام ملأ مركزه السياسي للتجربة، كان كلّ إنسان في التجربة مشدوداً بواقع حياته إلى الاعتراف بسلطة الإمام وشرعيّته وأحقيته كما كان هكذا، بينما فُقد الإمام في لحظة مفاجئة من دون سابق أيّ تمهيد أو إعداد لهذا الخطّ؛ لأنّ هذا الخطّ - نتيجة اغتيال - أودى بحياة هذا الإمام العظيم، وإنّ المسلمين الذين عاشوا في كنف التجربة التي يتزعمّها الإمام عليّعليه‌السلام هؤلاء عاشوا لحظة فراغ سياسيٍّ حينما انطفأت الشعلة، حينما خلت الساحة من الإمام أخذوا يحسّون بأنّهم يفقدون اختيارهم، بأنّهم أصبحوا في مركز لا بدّ لهم أن يفكّروا من جديدٍ في أنّ أيّ الطريقين لا بدّ أن يختاروا، استمرارية الحاكم كانت تمنع من أن يشعروا بأنّهم في موقفٍ يتيح لهم التفكير من جديد، أمّا انطفاء الشعلة وخلوّ الساحة من الإمام القائد أدّى إلى أنّ هؤلاء أصبحوا يشعرون بأنّهم في موقفٍ جديد، ويدرسوا قضيّتهم الجديدة، ويدرسوا على ضوء مصالحهم الاتجاه والسلوك الذي يجب أن يطبّق بالنسبة إلى مستقبلهم.

العامل الثاني:

إنّ الإمام الحسنعليه‌السلام حينما تسلّم مقاليد الحكم كان هناك كيان سياسي قائم يحكم في العالم الإسلامي، وهذا الكيان يتمثّل في حكم الشام الذي كان يقوده معاوية، كان هناك كيانان سياسيان حاكمان في العالم الإسلامي: أحدهما يقوده الإمام الحسنعليه‌السلام ، والآخر يقوده معاوية، وهذا الكيان الذي يقوده معاوية

٢٥٧

أكسبه في نظر معاوية وأهل الشام شرعيّة ثوب الخلافة بعد التحكيم أعقاب معركة صفّين. لهذا أخذ يعيش معاوية مع قاعدته كما يعيش الخليفة مع رعيّته، والإمام عليّعليه‌السلام كان استمراريةً لوجودٍ سياسيٍّ أسبق وخلافةٍ مشروعةٍ أسبق زمناً من هذا الكيان السياسي القائم بالشام، لكن بعد أن خلا الميدان من الإمام عليعليه‌السلام وجاء الحسنعليه‌السلام يتسلّم مقاليد الحكم كان في الذهنيّة العامّة والتصوّر العامّ من الإنسان العادي المسلم بأنّ هناك شيئاً يملأ الفراغ إلى حدّ ما، فلا بدّ من التفكير من جديد؛ لأنّه من اللازم بناء كيانٍ سياسيٍّ جديدٍ أو الالتحاق بهذا الكيان قائم، مثل هذا التفسير لم يكن موجوداً في أيام الإمام عليّعليه‌السلام . بل إنّ هذا الكيان السياسي القائم في الشام طرح في أيام عليّعليه‌السلام ، بينما الآن كيان الحسنعليه‌السلام يعتبر هو الطارئ في أذهان الإنسان العادي على الكيان السياسي.

فقد استغلّ معاوية هذه النقطة في كتابه إلى الإمام الحسنعليه‌السلام حيث قال ما مضمونه: قد تمّت الخلافة لي ولزمتك منذ يوم التحكيم، وأنت الآن لا بدّ لك أن تدخل فيما دخل الناس(١) . معاوية يتكلّم بلغة الخليفة، بينما معاوية لم يكن يمكنه أن يتكلّم بلغة الخليفة في عهد عليّعليه‌السلام ؛ لأنّه هو الذي شقّ عصا الطاعة على عليّعليه‌السلام ، فلو تكلّم لم يكن مثل هذا الكلام قادراً على أن يزرع الشكّ، فهذا العامل الثاني يجعل مثاراً للشكّ في أذهان العاديين غير الواعين من أنّه هل من الضروري الحفاظ، أو هل من الضروري بناء هذا الكيان إلى جانب ذلك الكيان، أو بالإمكان الانسحاب من ذلك الكيان ؟

____________________

(١) راجع: شرح النهج لابن أبي الحديد ١٦: ٢٥، وبحار الأنوار ٤٤: ٥٥، باب كيفيّة مصالحة الحسنعليه‌السلام معاوية، الباب ١٩، الحديث ٦.

٢٥٨

العامل الثالث:

هو الاعتبارات الشخصية القائمة في أمير المؤمنين، الإمام الحسن والإمام عليعليهما‌السلام في منطق العصمة سواء، وفي منطق النصّ الإلهي سواء، ولكن هما في منطق الجماهير وقتئذٍ لم يكونا سواء، ونحن نعلم بأنّ الحكم الذي كان يمارسه الإمام عليعليه‌السلام لم يكن قائماً على أساس نصٍّ إلهيٍّ أو العصمة، وإنّما كان استمراراً لخطّ السقيفة، غاية الأمر بأنّ هذه الجماهير التي أخطأت حظّها في المرّة الأولى، وفي المرّة الثانية، وفي المرّة الثالثة، وأصابت حظّها في المرّة الرابعة.

فهذه التجربة كانت تقوم على أساس مفهومٍ جماهيري، لا على أساس نظرية العصمة والنصّ الإلهي، وهنا يدخل في تقييم الحاكم اعتبارات كثيرة كانت الجماهير تعيشها. فالجماهير كانت تعيش اعتباراتٍ عديدةً عن الإمام عليّعليه‌السلام ، ولا تعيش مثل هذه الاعتبارات عن الإمام الحسنعليه‌السلام ، من ناحية أنّ الإمام علياً سوابقه من أيام الرسول، صحبته الطويلة، مواقفه العظيمة في الأيام الأولى من الإسلام، سلطته الروحية والعلمية في آفاق الصحابة، كلّ هذا يجعل من الإمام عليّعليه‌السلام رجلاً عظيماً في أنظار المسلمين، رجلاً أهلاً لأن تسًسلّم إليه مقاليد الأمور حتّى في اللحظة الحرجة. أمّا الإمام الحسنعليه‌السلام لصغر سنّه، وعدم وجود تأريخ مماثلٍ له من هذا القبيل لم يكن يملك القدرة على إخضاع النفوس، على إخضاع المسلمين نفسياً بالشكل الذي كان يتاح للإمام عليّعليه‌السلام .

من ناحيةٍ أخرى البيعة التي حصل عليها الإمام عليّعليه‌السلام كانت أوضح شرعيةً في نظر الجماهير التي تؤمن باتجاه السقيفة، كانت أوضح شرعيةً من بيعة الإمام الحسنعليه‌السلام ؛ لأنّ بيعة الإمام عليّعليه‌السلام تمّت في المدينة، وتمّت على يد

٢٥٩

الصحابيين، ولم يختلف في ذلك إلاّ أناس قليلون، الباقون كلّهم بايعوا، كانوا القاعدة الأولى لبيعة الإمام عليّعليه‌السلام وكان هناك عدد كبير من الصحابة لا يزال موجوداً على المسرح الاجتماعي والسياسي، كلّ هذا يعطي لحاكميّة الإمام عليّعليه‌السلام من البهاء والشرعية والقدرة على التأثير والنفوذ والإخضاع لنفوس الآخرين، مثل هذا لم يكن متوفّراً للإمام الحسنعليه‌السلام .

العامل الرابع:

من عوامل تعميق الشكّ هو أنّ الحسنعليه‌السلام قد تسلّم مقاليد الحكم عقيب أبيه مباشرة، استوحى بهذا العمل الإنسانُ العادي الضعيف غير الواعي قرينة جديدة على ذلك التصوّر الخاطئ، الإنسان الذي يفترض أنّ معركة عليّعليه‌السلام مع معاوية معركة أسرة مع أسرة، معركة عشيرة مع عشيرة، لا معركة رسالة مع رسالة. الإطار القَبَلي للمعركة، هذا الإطار عزّزه أنّ الحسنعليه‌السلام تولّى الإمامة والخلافة بعد الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، طبعاً هذا التعزيز لم يكن موجوداً لو افترضنا أنّ الجماهير المسلمة كانت واعيةً وكانت تعيش نظريّة الإسلام عن الإمام حقيقة، ولكن حيث إنّ الجماهير لم تكن واعيةً، حيث إنّ الجماهير كانت هي الجماهير السقيفة التي قالت: من ينازعنا سلطان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) . هذه الجماهير كانت تحمل تلك الروح، ولهذا استوحت وتصوّرت أنّ تسلّم الإمام الحسنعليه‌السلام مقاليد الحكم عقيب استشهاد الإمامعليه‌السلام هذا يكون قرينة على أنّ القصّة بيتٌ في مقابل بيت، وليست قصّة رسالة في مقابل رسالة.

وأقول: إنّ الذي منع الإمام علياًعليه‌السلام من الإعلان الرسمي والسياسي على

____________________

(١) تاريخ الطبري ٢: ٤٥٧.

٢٦٠