أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 109694
تحميل: 7829

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109694 / تحميل: 7829
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أن يختار الطريق الأوّل، وهو أن يواصل حتّى يخرّ صريعاً، هو أنّ الأُمّة وقتئذٍ لم تكن تعيش حالة الشكّ، بل كانت تعيش موت الإرادة وفرق بين الموضعين هناك.

هناك مرضان وجدا في الأُمّة. مرض الشكّ، وهو أنّ الأُمّة كانت قد فقدت إيمانها واعتقادها برسالية الأُطروحة، وموضوعية الأُطروحة، حينما اصطدم موقف الحسنعليه‌السلام مع معاوية، وفي مثل هذا الحال لو واصل الإمام الحسنعليه‌السلام الحرب حتّى يخرَّ صريعاً لم يحقّق شيئاً من المكاسب التي حقّقها الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ لأنّه حينما يخرّ صريعاً في الميدان والأُمّة تشكّ في دوافعه، تشكّ في نظافة رسالته، تشكّ في صحّة موقفه، تشكّ في إلهيّة أطروحته، حينما يخرّ صريعاً والأُمّة تشكّ في كلّ هذا سوف لن يفعل هذا الدم الطاهر الذي يسكب على الأرض ما فعله الدم الطاهر الذي سكب على أرض كربلاء، سوف لن يحرّك ضميراً في الأُمّة، سوف لن يغيّر شيئاً من الأوضاع الحقيقية للأمّة.

عبد الله بن الزبير أيضاً كان له موقف في وجه جيش عبد الملك بن مروان، كان له موقف يعتبر بالمقاييس الشخصية وبقطع النظر عن الرسالة كان يعتبر موقفاً بطولياً، واصل الحرب إلى أن خرّ صريعاً في الميدان، إلى أن قُتل وقُتل معه كلّ أهله وكلّ ذويه القادرين على حمل السلاح تقريباً(١) . إلاّ أن عبد الله ماذا ترك في ضمير الأُمّة ماذا حرّك في نفوس المسلمين هل استطاع عبد الله بن الزبير أن يحقّق المكسب الذي حقّقه الإمام الحسينعليه‌السلام .

عثمان بن عفّان واصل الحكم، واصل التجربة كلّما قال له أعداؤه: استقل

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٦٧.

٢٨١

تنحّ عن الحكم، قال: لا أنزع ثوباً ألبسني الله إيّاه !(١) ، حتّى قتل وهو يعلم أنّه لو تنحّى عن الحكم لما قتل، بذل دمه ونفسه في سبيل الحكم، لكن هل كان هناك إنسان يتجاوب مع مثل هذه الشجاعة ؟ هل استطاعت هذه الشجاعة أن تحرّك ضمير الأُمّة الإسلامية أو أن تحرّك شيئاً من أوضاع المسلمين ؟ لا، لماذا ؟ لأنّ عبد الله بن الزبير، أو لأنّ عثمان بن عفّان، أو لأنّ أيّ شخصٍ آخر من هذا القبيل كان يحارب وكان يقاتل لنفسه لا للاُمّة، وكانت الأُمّة على أقلّ تقديرٍ تشكّ في هذا، وتحتمل أنّ عبد الله بن الزبير كان يقاتل لنفسه، هل كان قد استسلم للموت لأنّه أبى الضيم، لأنّه أبى أن يطأطئ أمام عدوّه، أو أنّه واصل القتال لأجل الأُمّة، لأجل المظلومين والبائسين والمضلّلين الذين كان يحكمهم عبد الملك بن مروان ؟ الأُمّة لم تكن تعيش ذلك الاقتناع بالنسبة إلى عبد الله بن الزبير أو بالنسبة إلى أمثاله.

وهكذا ذهبت ميتة عبد الله بن الزبير دون أن تخلق أثراً حقيقياً في محتوى الأُمّة النفسي أو الفكري أو الروحي، وكان مصير مقتل الإمام الحسنعليه‌السلام نفس المصير تقريباً لو أنّه واصل القتال، لو اختار الطريق الأوّل من الطريقين والأُمّة على الحالة التي مرّ معنا، والشكّ الذي تحوّل إلى طاقةٍ إيجابيةٍ ممتدّةٍ في أوسع نطاق، كان هذا الشكّ يجعل المسلمين ينظرون إلى هذه الاستماتة من الإمام الحسنعليه‌السلام أنّها استماتة من لون استماتة أيّ شخصٍ آخر يأبى الضيم، يأبى أن يطأطئ أمام عدوّه من الناحية العاطفية، ولهذا واصل المعركة حتّى قتل... لَما حرّك هذا الدم الطاهر شيئاً من نفوس المسلمين، ولَما غيّر شيئاً من أوضاعهم

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣: ٤٠٤.

٢٨٢

النفسية والروحية.

بينما الإمام الحسين حينما اختار الطريق الأوّل كانت الأُمّة حين كانت القواعد الشعبية التي ترتبط بالإمام عليعليه‌السلام كانت قد تخلّصت من المرض الأوّل، من مرض الشكّ؛ لأنّ الأسطورة - أسطورة معاوية - قد تجلّت بكلّ وضوح، لأنّ الجاهلية التي كان يمثّلها معاوية قد أسفرت عن وجهها على المسرح السياسي والاجتماعي وعلم الناس بأنّ علياًعليه‌السلام كان يحارب جاهلية الأصنام والأوثان، ولم يكن يحارب مع معاوية خصماً قبليّاً أو شخصاً معادياً له بالذات، هذا عرفه المسلمون وعرفته القواعد الشعبية المرتبطة بالإمام، تخلّصت هذه القواعد الشعبية من المرض. لكنّها منيت بالمرض الثاني وهو موت الإرادة.

أصبحت الأُمّة الإسلامية لا تملك إرادتها، نعم هي تفهم أنّ عليّاًعليه‌السلام هو الطريق الواضح، هو طريق الكفاح والجهاد، أنّ عليّاًعليه‌السلام هو أرض الأُطروحة الصالحة، أنّ حكم عليّعليه‌السلام هو المثل الأعلى الذي يجب على المسلمين أن يكافحوا في سبيل تحقيقه، كلّ هذا أصبح واضحاً.

شعار ( لا نريد إلاّ حكم عليّ ) كان يتردّد على ألسنة الناس الثائرين في أكثر الثورات التي وقعت في خطّ أهل البيتعليهم‌السلام ، ولكن مع هذا لم يكن هؤلاء يملكون إرادتهم، كانوا قد فقدوا ضميرهم وإرادتهم، كانوا قد استكانوا، كانوا قد ضاعت مُثُلهم وقيمهم واعتباراتهم، لم يكن الشكّ في الكبرى، بل كان العيب في الصغرى، كانت الإرادة قد انطفأت، كانت الشعلة قد ماتت، كانت الدريهمات الصغيرة هي أكبر همّ هذا الإنسان الصغير، هذا الإنسان القزم، فكان لا بدّ من أن يحرّك ضمير هذا الإنسان لكي يسترجع إرادته.

قلت فيما سبق: إنّ أكبر وأروع تمثيل لفقدان الإرادة قول ذلك الرجل

٢٨٣

للإمام الحسينعليه‌السلام : سيوفهم مع عدوّك وقلوبهم معك(١) . قمّة فقدان الإرادة أن يكون الإنسان حبيباً لك يحبّك ولكنّه يحمل السيف عليك، يعني قلبه لا يستطيع أن يمسك به، هذه قمّة فقدان الإرادة، حينما تبلغ الأُمّة إلى قمّة فقدان الإرادة فكان لا بدّ لشخص أن يُرجع للأمّة إرادتها، الإمام الحسنعليه‌السلام بانحساره عن ميدان الحكم وفسح المجال للأُطروحة الأخرى لكي تبرز بكلّ وضوح أبعادها أرجع للأمّة اقتناعها بموضوعيّة أُطروحة عليّعليه‌السلام ، والإمام الحسينعليه‌السلام بمواصلة الطريق الأوّل حتّى خرّ صريعاً، أرجع إلى الأُمّة إرادتها، نَبَّه الإنسان المسلم الاعتيادي الذي كان أكبر همّه هو هذه الدريهمات، والذي حوّله بنو أُميّة من إنسان يحمل هموم شرق الأرض وغرب الأرض، من إنسان يحمل هموم المظومين والممتحنين في أقصى الأرض إلى إنسان لا يعيش إلاّ همّ راتبه الشهري وهمّ مصالحه الشخصية، هذا الإنسان الذي تحوّل إلى هذا المسخ، هذا بمقتل الحسين قال: أنا الذي لا أتحرّك، أنا الذي أرى الإسلام ينتهك، أرى الشريعة تمزّق، أرى المسلمين تهدر كرامتهم، أرى الآلاف بعد الآلاف يعذّبون ويهانون ويشرّدون ثمّ أسكت، وذلك طمعاً وحرصاً على حياة رخيصة ؟!

إنّ مع هذا الرجل الذي توفّرت له كلّ مُتع الحياة، هذا الرجل الذي هو من أغنى الناس مالاً، من أكثر الناس جاهاً، هذا الرجل الذي إذا خرج إلى المسلمين يتسابق عشرات الآلاف من المسلمين إلى تقبيل يديه، هذا الرجل الذي لم يكن متعطشّاً، لا إلى شهرة، ولا إلى مجد، ولا إلى مال، كان شخصاً منعّماً، كان شخصاً لم يعش أي ظلامةٍ من الظلامات التي عاشها المسلمون؛ لأنّ معاوية لم يكن

____________________

(١) وقعة الطف: ١٥٨.

٢٨٤

يحاول أن يمتدّ بظلمه إلى شخص الحسين مثلاً، كان معاوية يرضخ إلى شخص الحسين وأمثال الحسين من السادة الإسلاميين الكبار، كان الناس تحت السياط، أمّا الحسينعليه‌السلام لم يكن تحت السياط، لم ينله سوط واحد من تلك السياط التي نالت الناس، بالرغم من هذا خرج الحسين بنفسه، بذل دمه في سبيل أولئك الذين كانوا تحت سياط، الذين لم يفكّر واحد منهم في أن يبذل دمه في سبيل الآخرين الذين يشاركونه؛ لأنّهم تحت السياط، من هنا تحرّك الضمير الإسلامي، من هنا تحرّكت الإرادة في نفوس المسلمين، من هنا فجّر الإمام الحسينعليه‌السلام الثورة في يوم عاشوراء، وبقيت الثورة متفجّرةً على التعاقب إلى أن طاح عرش بني أُميّة.

إذن فكان هناك فرق كبير موضوعي بين الظرف الذي عاشه الإمام الحسنعليه‌السلام والظرف الذي سوف يعيشه بعد عشرين عاماً الإمام الحسينعليه‌السلام . كان هناك فرق في نوعية مرض الأُمّة. مرض الأُمّة في المرحلة الأولى كان هو الشكّ، وأمّا مرض الأُمّة في المرحلة الثانية كان هو فقدان الإرادة، وكان لا بدّ في المرض الثاني أن يختار الطريق الأوّل، بينما المرض الأوّل كان هو الشكّ لم يكن اختيار الطريق الأوّل في ظلّ مرضٍ من هذا القبيل يحقّق ذلك المكسب الذي حقّقه اختيار الطريق الأوّل من قبل الإمام الحسينعليه‌السلام . إذن فعلى أساس الاعتبار الأوّل من الاعتبارات الثلاثة التي كان يمثّلها الإمام الحسن بوصفه أميناً على النظرية على التراث الفكري على الإسلام، بوصفه خطّاً يجب أن يمتدّ مع الأجيال روحياً وجسمياً، بهذا الاعتبار كان لا بدّ أن يكسب الاقتناع بهذا الخطّ.

قلنا: بأنّ هذا الاقتناع توقّف على أن ينحسر، فكان لا بدّ أن ينحسر، لا بدّ أن يخلي الميدان لعدوّه. وكان هذا الإخلاء يكون بطريقين: إمّا أن يواصل حتّى يخرّ صريعاً في ميدان المعركة، وإمّا أن يوقف، وكان الطريق الأوّل سلبياً تجاه

٢٨٥

المكاسب التي حقّقها الإمام الحسينعليه‌السلام حينما سلك نفس هذا الطريق. هذا كلّه على الاعتبار الأوّل.

على مستوى الاعتبار الثاني:

وأمّا على الاعتبار الثاني من اعتبارات الإمام الحسنعليه‌السلام اعتباره بوصفه أميناً على التجربة، أميناً على الواقع السياسي الحيّ الذي كان يجسّد تلك الصبغة الإسلاميّة الكاملة للحياة، بوصفه أميناً على هذه التجربة، كان لا بدّ أن يدرس موقفه ليختار أحد هذين الطريقين، أصبح واضحاً ممّا سبق أنّ التجربة كان من المستحيل أن تبقى، أن يواصل وجودها، كان من المستحيل افتراض النصر في هذه المعركة الذي هو معنى بقاء التجربة لمواصلة وجودها؛ لأنّ أيّ تجربةٍ بأُطروحة رساليةٍ تعيش مستوىً أكبر من مستوى مصالح هذا الفرد بالذات، ولا يمكن أن تواصل وجودها ولن يمكن فيما يأتي من الزمان أن تواصل وجودها إلاّ إذا كانت قد حظيت باقتناعٍ كبيرٍ واسع النطاق من قواعد شعبيةٍ قادرةٍ أن تحمل هذه التجربة، وأن تسند هذه التجربة، وأن تضحّي بدمها في سبيل هذه التجربة، أمّا حينما تفتقد التجربة هذا الاقتناع، حينما تصبح حالة الاقتناع بالنسبة إلهيا صفراً تصبح هذه التجربة مشلولةً عن العمل، وغير قادرةٍ على الدفاع عن ذاتها، وعن نفسها؛ لأنّها بِمَ تستهوي الناس ؟ هل تستهوي الناس بالمصالح إلى حدّ، وهذا خروج عن مضمونها الحقيقي.

نعم، كان بالإمكان أن يستهوي الإمام الحسنعليه‌السلام الناس عن طريق مصالحهم الخاصّة، كان للإمام أن يدخل المداخل التي دخلها معاوية، أن يشتري ضمائر الناس، أن يكتب إلى رؤساء الشام كما كتب معاوية إلى رؤساء العراق، أن

٢٨٦

يخدع، أن يماطل، أن يكون توزيع الأموال على غير الأساس الإسلامي الصحيح.

إلاّ أنّ هذا الخروج عن المضمون الحقيقي للنظرية، إذن فكان يتوقّف بقاء التجربة ويتوقّف بقاء كلّ تجربةٍ رساليةٍ طاهرةٍ نظيفةٍ على أن يوجد هناك ناس يؤمنون بنظافتها، يؤمنون بطهارتها، مستعدّون للدفاع عنها. وحيث إنّ هذا الاقتناع لم يكن موجوداً في ظروف الشكّ الذي شرحناه فكان محتّماً ومقضيّاً على هذه التجربة أن تنتهي.

هل تنتهي بأن يواصل الإمام الحسنعليه‌السلام الطريق الأوّل ليواصل الكفاح والجهاد حتّى يخرّ صريعاً فيمسكَن أوالمدائن ، أو تنتهي بطريقٍ آخر ؟

كان لا بدّ أن تبرز مصلحة هذه التجربة بتحديد أحد الطريقين. الإمام الحسنعليه‌السلام في هذا أيضاً نجده يختلف اختلافاً كبيراً عن الإمام الحسينعليه‌السلام . الإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن قائداً لتجربةٍ سياسيةٍ قائمةٍ بالفعل، لم يكن رئيساً لدولةٍ قائمةٍ بالفعل، لم يكن أميناً على حكمٍ قائمٍ بالفعل، وإنّما كان شخصاً مضطهداً في الأرض لم يكن معه إلاّ ثلّة من أصحابه.

أمّا الإمام الحسنعليه‌السلام فكان يمثّل جبهةً سياسيةً قائمةً بالفعل، إلاّ أنّ هذه الجبهة بالرغم من ضخامتها المظهرية، بالرغم من تخوّف معاوية منها، بالرغم من أنّ معاوية بقي يفكّر مئة مرّةٍ أن لا يدخل إلى ساحة المعركة، كان يشكّ، كان يحتمل أن تكون الجبهة ملتفّةً عليه إلى حدٍّ ما، هذه الجبهة بالرغم من ضخامتها الظاهرة كانت منكوبةً من الداخل، كانت فراغاً من الداخل، إلاّ أنّ هذه الضخامة الظاهرية لهذه التجربة كانت تعطي الحقّ للإمام الحسنعليه‌السلام أن يدخل مع معاوية في تحقيق أكبر قدرِ ممكن من المكسب لهذه التجربة، ولأهداف هذه التجربة ،

٢٨٧

ولرسالة هذه التجربة.

لم يكن هناك بالإمكان أن يدخل الحسينعليه‌السلام في تحقيق مكاسب عن طريق المفاوضة السياسية مع يزيد، والحسينعليه‌السلام شخص عادي من أفراد المسلمين، بينما كان بالإمكان للإمام الحسنعليه‌السلام وهو يتزعّم جبهةً مخفيةً لمعاوية من هذا القبيل لا تزال حتّى الآن تذكّر معاوية بسيوف ليلة الهرير، هذه الجبهة كانت تذكّر معاويةَ بسيوف ليلة الهرير، كان بإمكان زعيمها أن يفرض على معاوية بعض التنازلات في مقابل إيقاف العمل مؤقّتاً، وهكذا كان في الأقرب بالنسبة إلى مصلحة هذه التجربة أن توقف، وأن تنحسر مع ضمان رجوعها ولو رسمياً وقانونياً على أن تنتهي انتهاءً كاملاً باستمرار القتال واستشهاد الإمام الحسنعليه‌السلام .

كان هناك طريقان:

إمّا أن يواصل الإمام الحسنعليه‌السلام الجهاد فيقتل دون قيد أو شرط؛ لأنّه يعلم أنّ التجربة يقضى عليها بالتمام سواء علم بذلك معاوية أو لم يعلم، فالإمام الحسنعليه‌السلام الذي يعيش الأوضاع الداخليّة في مجتمعه هو أعلم بهذا وأدرى به، ولهذا كان معنى المواصلة أن يقتل، ومعنى أن يقتل يعني: أن تنتهي التجربة دون أن يكون هناك أيّ أساسٍ بإمكانية رجوعها بعد هذا، يعني أيّ أساسٍ قانوني.

وبين أن يدخل الإمام الحسنعليه‌السلام عن طريق هذه الهيبة المظهريّة لهذه الجبهة يدخل في حديثٍ مع معاوية لاستيفاء ما يمكن استيفاؤه من مكاسب هذه التجربة، وحينها اختار الإمام الحسنعليه‌السلام الطريق الثاني، وكان لا بدّ لكلّ من يعيش ظروف الإمام الحسنعليه‌السلام أن يختار الطريق الثاني، إلاّ إذا حصل بتلك الاعتبارات العاطفية التي أدخلناها في بداية الحديث وقلنا: إنّه لا يدخل في

٢٨٨

حساب إنسان حقّ. وهذا الإمام الحسنعليه‌السلام اشترط لمعاوية على نفسه أن ينسحب عن ميدان الحكم، ولم ينصّ هذا الشرط على نوعٍ من البيعة والتبعيّة السياسية الصريحة في الروايات الصحيحة الواردة عنهم، فلا يوجد في الروايات الواردة عن الإمام الحسنعليه‌السلام أنّه اشترط لمعاوية على نفسه البيعة والتبعيّة السياسيّة بالمعنى الذي كان موجوداً لعليّعليه‌السلام بالنسبة إلى أبي بكر وعمر وعثمان، وإنّما كان هناك إيقاف للعمل، إيقاف للمعركة والقتال، وفي مقابل هذا الإيقاف كان هناك تعهّدات اشترطها معاوية، بعض هذه التعهدات ترجع إلى الكتلة، وهذا هو الاعتبار الثالث الذي نتكلّم عنه فيما بعد، وبعضها ترجع إلى التجربة، وترجع إلى التجربة يعني ترجع إلى الحكم وإلى الكيان السياسي.

وأهمّ هذه التعهّدات: أنّه اشترط على معاوية أن لا يوصي لأحدٍ غير الإمام بالأمر من بعده. وفي روايةٍ أخرى: أن يوصي للإمام الحسنعليه‌السلام (١) ، ولهذا كان الإمام الحسنعليه‌السلام يريد أن ينحسر عن الحكم لكي يكسب اقتناع المسلمين بصحّة الأُطروحة، ثمّ لكي يضع أساساً جديداً، على هذا الأساس الجديد يمكن للأُطروحة أن ترجع مرّةً أخرى للميدان السياسي، وتصارع على أساسها على هذا الحقّ المعتضد من ناحية هذا الشرط.

وأنتم تعلمون - كما ذكرنا بالأمس - أنّه كانت هناك شكوك البعض في شرعية خلافة الإمام الحسنعليه‌السلام بالنحو الذي شرحناه، وكان هذا الشرط يقضي على كلّ شكٍّ في نظر الجماهير في صحّة خلافة الإمام الحسنعليه‌السلام ، لو كان معاوية قد أصيب بسكتة تامّة بعد هذا الشرط بشهر أو شهرين وانتهى الأمر

____________________

(١) تاريخ الخلفاء ( للسيوطي ): ١٩١، الإمامة والسياسية ( للدينوري ): ١٨٤ - ١٨٥.

٢٨٩

لاسترجع الإمام الحسنعليه‌السلام في ذهنيّة الجماهير كلّ المبرّرات الشرعية لأنْ يحكم ولأن يُستخلف، فكان معنى هذا الاختيار تجميد التجربة مؤقّتاً، ووضع قاعدةٍ شرعيةٍ وقانونيةٍ يمكن على أساسها مواصلة الكفاح والجهاد على هذا لإرجاعها إلى مستوى الحياة، إلى مسرح الحياة، بعد أن تكون قد استرجعت الاقتناع المطلوب بها من قواعدها الشعبية التي فقدت الاقتناع في ظلّ الظروف السابقة.

إذن فعلى أساس الاعتبار الثاني أيضاً كان هذا الاعتبار الثاني يحتّم على الإمام الحسنعليه‌السلام أن يفضّل الطريق الثاني على الطريق الأوّل، بينما الإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن يوجد لديه مثل هذا الاعتبار لكي يبرز طريقه على هذا الأساس.

على مستوى الاعتبار الثالث:

الاعتبار الثالث هو اعتباره زعيماً للكتلة التي بذر بذورها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ونمّاها الإمام عليعليه‌السلام . هذه الكتلة التي تمثّل الجزء الواعي من الأُمّة الإسلامية التي تسمّى اليوم بالشيعة، والتي كانت من المفروض أن تكون طليعة الأُمّة الإسلامية على مرّ التأريخ، تحمل للأجيال الإسلام بكامل صيغه ومضمونه، هذا الاعتبار الثالث أيضاً لا بدّ من إدخاله في الحساب حينما يبرز أفضل الطريقين، أفضلية الأوّل أو الثاني، وفي هذا المجال كان يبدو حينما تدرس المسألة على هذا الضوء الجديد أنّ هناك فرقاً كبيراً بين الإمام الحسن والحسينعليهما‌السلام ، الإمام الحسينعليه‌السلام كان مشاركاً للإمام الحسنعليه‌السلام في هذا الاعتبار؛ لأنّ الإمام الحسين كان هو الزعيم الثالث لهذه الكتلة، كان هو

٢٩٠

الأمين على هذه الكتلة في مرحلته كما كان الإمام الحسنعليه‌السلام هو الأمين على هذه الكتلة في مرحلته، إلاّ أنّ بينهما فرقاً، وحاصل هذا الفرق أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام كان يستقطب كلّ هذه الكتلة، بينما الإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن يستقطب كلّ هذه الكتلة، الإمام الحسنعليه‌السلام كان يحارب، وكانت هذه الكتلة داخلةً ضمن إطار دولته، ولم يكن من المعقول أن يحارب رئيس دولةٍ وأن يواصل الحرب إلاّ بأن تستنفد كلّ قواه وطاقاته، وكلّ رصيده الشعبي الموجود في هذه الدولة حتّى يخرّ صريعاً.

الإمام الحسينعليه‌السلام لم يخرّ صريعاً إلاّ بعد أن استنفدت كلّ قواه الصغيرة المتمثّلة في تلك المجموعة الطاهرة حتّى خرّ الأبطال صرعى، ثمّ خرّ الإمام الحسينعليه‌السلام صريعاً.

وكيف برئيس دولة يريد أن يواصل الحرب إلى الموت ؟ كان لا بدّ لكي يواصل الحرب إلى الموت من أن يستنفد كلّ طاقاته من قواعده الشعبية، وكلّ ما يملك من هذه القواعد الشعبية، وكان معنى هذا أنّه سوف لن يبقى هناك وجود إسلامي قادر على أن يسترجع ذلك الاقتناع الذي فقد، ذلك الاقتناع بالأُطروحة عند حجر بن عدي وأمثاله، هؤلاء أوّل من يقنع بعد أن شكّ لو قلنا بأنّ حِجراً شكّ(١) .

هؤلاء الأشخاص الذين عاشوا ضدّ معاوية وقتلوا بسيف معاوية، هؤلاء هم أوّل جزءٍ من القواعد الشعبيّة التي رجع إليهم الاقتناع، وعن طريق دمهم وعن طريق إيمانهم وعن طريق اقتناعهم سرى هذا الاقتناع إلى الأكثرين، وسرى هذا

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٥٧، تاريخ الإمام الحسنعليه‌السلام ، الباب ١٩، باب كيفيّة مصالحة الحسنعليه‌السلام معاوية، الحديث٦.

٢٩١

الاقتناع عبر الأجيال، وسرى إلينا، فكلّنا يفضّل هذا الاقتناع ويفضّل هذه الدماء ويفضّل هذا الإصرار المستميت من هؤلاء الأمناء على أُطروحتهم وعقيدتهم، غير أنّ هذا الجزء الذي كان فيه استعداد لأن يرجع إلى الاقتناع بنحوٍ أفضل، غير أنّّ هذا الجزء الأكثر ضماناً والذي كان لا يزال مقتنعاً بالفعل إلى حدٍّ ما، غير أنّ هذه الأجزاء الصغيرة التي كانت مقتنعةً بالفعل بدرجاتٍ ضئيلةٍ، لو أنّ الإمام الحسن كان قد أهدر كلّ هذه الأجزاء، قد أعطى كلّ هذه الأجزاء، إذن بهذا كان يعطي كلّ إمكانيات استرجاع هذا الاقتناع إلى الأُمّة الإسلامية. فكان لا بدّ [ من الحفاظ ] على قاعدة يمكن أن يرجع على أساسها اقتناع الأُمّة بالأُطروحة في يوم ما، ويمكن أن تسترجع اعتقادها الراسخ بأنّ خطّ عليٍّعليه‌السلام هو خطّ الإسلام استرجاعاً يدفعها إلى بذل الدم واسترخاص الروح في هذا السبيل، كان لا بدّ للإمام الحسنعليه‌السلام من أن يفكّر في حفظ أجزاء وقطاعاتٍ من هذه القاعدة الشعبية، هذا هو الذي كان يعبّر عنه بحقن الدماء، وكان يعبّر عنه بحفظ الشيعة ونحو ذلك من التعابير.

الإمام الحسين أُخذ في معزلٍ من صفوةٍ من خيرة خلق الله. إنّ هذه الصفوة لم تكن تستوعب كلّ القواعد الشعبية الواعية، ولهذا عقيب شهادته بدأت ثورة التوّابين، ثمّ بدأت الثورات الأخرى من قبل أناس كانوا يتزعّمون لعددٍ كبيرٍ من الشيعة الواعين والمؤمنين بأهداف الحسينعليه‌السلام .

ملخّص القول: إنّه كان لا بدّ للإمام الحسنعليه‌السلام أن يدرس تجربته على أساس هذه الاعتبارات الثلاثة، أو كان لا بدّ أن لا يدخل في حسابه أيّ اعتبارٍ غير هذه الاعتبارات، وقد رأينا أنّ هذه الاعتبارات الثلاثة بمجموعها ككلٍّ تشير إلى تعيين الطريق الثاني، ولا يشير شيء منها إلى تعيين الطريق الأوّل ،

٢٩٢

فكان لا بدّ من اختيار الطريق الثاني بدلاً عن الأوّل مهما كان هذا الطريق قاسياً أو صعباً، ومهما كان فيه ألوان التحدّي للنفس البشرية الاعتيادية التي لم تعتد سلوك الحقّ في كلّ سلوكها وتصوّراتها وأفكارها ومشاعرها، إلاّ أنّ هذا الشاب العظيم الذي كان يمثّل دور الحقّ في كلّ آناته وخلجاته لم يتردّد لحظةً ولم يتأمّل لحظةً في أن يتحمّل هذا الأذى وكلّ هذا الضيم في سبيل أن يحقّق أقصى درجةٍ ممكنةٍ من المكاسب للاعتبارات الثلاثة، أو أن يبعد عن أقصى درجةٍ ممكنةٍ من الضرر.

ولهذا وعلى هذا الأساس تمّ نوع من إيقاف العمل. جسّده ذلك الموقف المشئوم في مسجد الكوفة حينما دخل معاوية إلى مسجد الإمام عليّعليه‌السلام وصعد على هذا المنبر الذي كان يجسّد آمال المسلمين وحكم الإسلام، إلى هذا المنبر الذي كان يصعده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بوجوده الثاني، وهو عليّعليه‌السلام ، صعد عليه معاوية ليستهين بمثل هذا المنبر، وشرف هذا المنبر، وليقل صريحاً ومكشوفاً من [ بعد ] الشخص الذي كان يعيش فوق هذا المنبر كلّ هموم المسلمين وكلّ آمال المسلمين، الذي كان يعيش من فوق هذا المنبر كلّ قضيّةٍ من قضايا الرسالة، وكلّ اعتبارٍ من اعتباراتها، هذا الشخص صعد إلى هذا المنبر ليقول لكلّ الناس بكلّ وقاحة وجرأة وصراحة: إنّي حاربتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم لذلك كارهون(١) ، وكان من منطق هذه الجلسة أن يخطب كلّ الطرفين المتنازعين في هذا المسجد، لكن بِمَ يخطب الإمام الحسنعليه‌السلام في مقابل هذا النوع من الاستهتار ؟

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٥٣، تاريخ الإمام الحسنعليه‌السلام ، الباب ١٩، باب مصالحة الحسنعليه‌السلام معاوية، الحديث ٥.

٢٩٣

في مقابل ضيعة الآمال، في مقابل تهدّم كلّ ما كان يفترضه الإنسان المسلم من قيمٍ ومثلٍ واعتبارات.

ماذا يقول الإمام الحسنعليه‌السلام ؟ وبِمَ يجيب هذا الاعتداء ؟ حينما انتهى معاوية من خطابه قام فقال: يا معاوية، أنت معاوية وأنا الحسن، وأنت ابن أبي سفيان وأنا ابن علي، وأنت حفيد حرب وأنا حفيد رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنت ابن هند وأنا ابن فاطمة، وأنت حفيد فلانة وأنا حفيد خديجة ! اللهمّ فالعن ألأمنا حسباً.

فقال الناس: آمّين(١) .

____________________

(١) الاحتجاج ٢: ٥٣ - ٥٤، وكشف الغمّة ١: ٥٧٣.

٢٩٤

طمس معالم النظرية الإسلاميّة

وتمييع الأُمّة

وموقف الإمام الحسينعليه‌السلام من ذلك

٢٩٥

٢٩٦

بسم الله الرحمن الرحيم*

في استعراض حياة الأئمّةعليهم‌السلام أشرنا إلى دور سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام بعد أن عشنا محنة الهدنة التي مارسها الإمام الحسنعليه‌السلام مع خصومه من أعداء الإسلام.

الثورة على الحكم أو الحاكم التي هي: أساس موقف الإمام أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام تجاه معاصريه من أعداء الإسلام، هذه الثورة ترتبط بمفهوم الإسلام عن درجات حكم الإسلام بمعارضة الحاكم، وحكمه الشرعي الذي يتفاوت من حكمٍ إلى حكم ومن وضع حاكمٍ إلى وضع حاكمٍ آخر.

أقسام الحكم:

فإنّ الحكم الذي يعاش:

إمّا أن يكون حكماً قائماً على أساس قاعدةٍ هي الإسلام، ومعنى قيام الحكم على أساس قاعدة هي الإسلام: أنّ هذا الحكم يتبنّى الإسلام كنظريةٍ للحياة، وكأساسٍ للتشريع والتقنين، وكرسالةٍ يحملها في كلّ مجالات نشاطه

____________________

(*) ألقيت في ٢٥ شهر شوّال المكرّم ١٣٨٨ ه-.

٢٩٧

ووجوده.

وأخرى يقوم الحكم على أساس قاعدةٍ أخرى غير الإسلام، يُقصى الإسلام عن مركزه كأساسٍ للحكم، ويفترض أنّ الإسلام لا دخل له ولا شأن له بالقيمومة على حياة الناس وتنظيمها وتدبير شؤونها، وأنّ هذه القيمومة يجب أن تعطى لقاعدةٍ فكريّةٍ أخرى من القواعد التي صنعتها الأرض، فيكون الحكم قائماً على أساس قاعدةٍ فكريةٍ كافرة؛ لأنّ أيّ قاعدةٍ فكريةٍ غير الإسلام كفر، فيكون الحكم القائم على أساس تلك القاعدة الفكرية حكماً كافراً، سواءٌ كان الإنسان الممارس للحكم مسلماً أو كافراً، إذ لا يوجد ارتباط بين إسلام الحاكم وإسلام الحكم، إسلام الحاكم بأن يشهد: أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن لا يبدو منه ما يتعارض مع إيمانه القلبي بهاتين الشهادتين. وأمّا الحكم بوصفه شخصيّةً معنويّةً فإسلامه عبارة عن ارتباطه بالإسلام، وقيامه على أساس قاعدةٍ هي الإسلام، فقد يكون الحكم كافراً وإن كان شخص الحاكم مسلماً.

إذن فبصورةٍ رئيسيةٍ يمكن تقسيم الحكم إلى قسمين:

إلى حكمٍ يقوم على أساس قاعدة قيمومة الله على الناس وخضوع الأرض لشريعة السماء، أي لقاعدةٍ هي الإسلام، فيكون الحكم حكماً مؤمناً مسلماً متعبّداً بين يدي الله تعالى.

وأُخرى يقوم الحكم على أساس قاعدةٍ أُخرى غير الإسلام، فيكون الحكم كافراً.

أقسام الحاكم في ظرف الحكم الإسلامي:

ثمّ ذلك القسم الأوّل الذي يقوم على أساس قاعدةٍ هي الإسلام يفترض فيه:

٢٩٨

تارةً: أنّ الشخص الذي يمارس هذا الحكم يمثّل هذه القاعدة ويتبنّى هذه الرسالة. وتارةً: نفترض أنّ هذا الشخص معصوم في منطق تلك القاعدة لا يشذّ عنها في سلوكٍ أو قولٍ أو فعل، كما هو الحال في الإمام علي وأولاده المعصومينعليهم‌السلام الذين لا يشذّون عن القرآن حتّى يردوا عليه الحوض، كما شهد بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وأخرى : يمكن أن نفترض أنّ الشخص الذي يمثّل القاعدة إنساناً غير معصوم، إلاّ أنّه يستمدّ صلاحيّته هنا من وضعٍ شرعيٍّ صحيح، كما إذا افترضنا أنّ هذا الإنسان كان نائباً عن الإمام المعصومعليه‌السلام ومنسجماً مع نظرية الحكم في الإسلام.

وثالثةً : يفترض أنّ هذا الشخص الذي يمثّل القاعدة ويتزعّم التجربة ليس إنساناً معصوماً ولا إنساناً متشرّعاً، بل هو إنسان يحمل نفسه على القاعدة من دون أن تقرّه مقاييس القاعدة عن الحكم.

إذن فنحن نواجه ثلاث حالاتٍ في القسم الأوّل:

حالة يكون الحاكم فيها معصوماً بمقاييس القاعدة الإسلامية.

حالةً يكون الحاكم فيها منسجماً مع قاعدة المقاييس الإسلاميّة وإن لم يكن معصوماً، كنائب المعصومعليه‌السلام .

وثالثةً يفترض أنّ الحاكم غير منسجمٍ مع مقاييس القاعدة، إنسان لا معصوم ولا مشروع يتولّى زعامة وتمثيل القاعدة وتطبيقها، فهنا حالات ثلاث:

____________________

(١) انظر: الغدير ١: ٧٨، ٨٣، ٨٤، و ٣: ٢٥١، ٢٥٢، ٢٥٥، وينابيع المودّة ١: ١٢٤، ٢٦٩، و ٢: ٩٦، ٣٩٦، ٤٠٣.

٢٩٩

أمّا الحالة الأولى : أن يقوم الحكم في المجتمع على أساس قاعدةٍ هي الإسلام، وهذه القاعدة الإسلامية تكون أساساً لحكمٍ يمارسه شخص معصوم، فمتى وقع من هذا القبيل لا يمكن افتراض الانحراف والخطر؛ لأنّ المفروض أنّ شخص الحاكم الذي تسلّم مسؤوليات قيادة المجتمع، وتطبيق النظرية الإسلامية عليه، المفروض في شخص هذا الحاكم أنّه معصوم، أي أنّه متفاعل مع الرسالة والإسلام إلى أبعد حدٍّ ممكنٍ في سلوكه وقوله وفعله، ولا يفترض فيه خطأ ولا انحراف، وبالنتيجة لا يكون لدى الأُمّة تجاه الحاكم من هذا القبيل إلاّ المواكبة لخطّه ولحركته، ولتصعيد العمل في سبيل الإسلام.

وأمّا الحالة الثانية : أن يكون الحاكم الذي يمارس حكماً قائماً على أساس القاعدة الإسلامية حاكماً مشروعاً بمقاييس تلك القاعدة، إلاّ أنّه غير معصوم كما إذا فرض أنّه كان من نوّاب المعصوم، ففي مثل ذلك هذا الحاكم ما دام ملتزماً بمقاييس تلك القاعدة لا يمكن أن نفترض فيه الانحراف؛ لأنّ الانحراف يسلب عنه صفة المشروعيّة، وإنّما يمكن أن نفترض في حاكمٍ من هذا القبيل أن يخطئ، وأن يقدّر المصلحة الإسلامية على خلاف ما هي في الواقع، أن يجتهد في موضعٍ إسلامي ولا يكون اجتهاده مصيباً للواقع.

في مثل هذه الحالة حينما يصدر الخطأ في حاكمٍ من هذا القبيل ما هو موقف من يكشف منه الخطأ من الأُمّة ؟ من يرتكب هذا الخطأ من الأُمّة لا بدّ له أن ينبّه الحاكم قدر الإمكان على خطئه، ويوضّح وجهة النظر الأخرى التي يؤمن بأنّها أكثر تمثيلاً للإسلام، وأصدق تعبرياً عن حاجات الرسالة والأُمّة في ذلك الوقت، فإن أمكن تنبيه الجهاز الحاكم إلى ذلك الخطأ فهو، وإن لم يمكن تنبيهه إلى ذلك، أي بقي الجهاز مصرّاً على وجهة نظره ففي مثل ذلك لا بدّ للأمّة من اتّباعه ،

٣٠٠