أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 109653
تحميل: 7826

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109653 / تحميل: 7826
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

على ما يصطلح عليه القرآن الكريم(١) ، وهذا الكتاب المنير عبارة عن ذلك التراث الفكري والمفاهيمي الذي يمثّل القاعدة للعمل النبوي، ويمثّل الإطار للحياة التي يقدّمها النبيّ ويدعو إليها، فإذا ماتت تلك القاعدة وذلك الإطار باضمحلال ذلك التراث، وبقيت النبوّة مجرّد مسألةٍ تأريخيّةٍ لا يوجد لها ( ما بإزاء ) - على ما يقول المناطقة - يعني لا يوجد بالفعل في حياة الناس ما يجسّد مفهوم تلك النبوّة، ومنظارها إلى الحياة، ففي مثل ذلك لا بدّ من دفعةٍ جديدةٍ لكي يُستأنف العمل، يُستأنف الشوط في سبيل إعادة البشريّة إلى ربّها، وإقامة دعائم العدل والحقّ والتوحيد على وجه الأرض.

وهذا السبب أيضاً نجده بصورةٍ كبيرةٍ في المسيحيّة بالذات؛ لأنّ المسيحيّة بعد أن غادر السيّد المسيحعليه‌السلام مسرح الدعوة والعمل لم يبقَ من المسيحية شيء حقيقي يمكن أن يُقام على أساسه العمل النبوي.

الإنجيل الذي يُحدّث عنه القرآن الكريم(٢) نفد نهائياً؛ لأنّ الإنجيل الذي يحدّث عنه القرآن الكريم كتاب أُنزل على السيّد المسيحعليه‌السلام ، لا كتاب أُلّف من قبل طلاّب السيّد المسيح.

والأناجيل(٣) التي تعيش اليوم، وكانت تعيش بالأمس، وفي ذلك الحين

____________________

(١) كقوله تعالى:( جاؤُوا بالبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالكِتابِ المُنير ) آل عمران: ١٨٤، وقوله تعالى:( جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالكِتابِ المُنير ) فاطر: ٢٥،( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ في اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنيرٍ ) الحجّ: ٨.

(٢) في قوله تعالى:( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارهِمْ بِعيِسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنجِيلَ فيهِ هُدىً وَنُورٌ... ) ، المائدة: ٤٦.

(٣) الأناجيل الأربعة: متّى ويوحنا ومرقص ولوقا.

٢١

هي كتب ألّفها طلاّب السيّد المسيح على أفضل التقادير. فالرسالة المتمثّلة في الكتاب السماوي قد انطفأت، والحواريون كانوا من حيث القلّة والتشتّت والاضطراب الذهني ما يجعلهم غير قادرين على حماية التراث الباقي في أذهانهم من السيّد المسيحعليه‌السلام ؛ بدليل مراجعة هذه الأناجيل التي كتبوها، فإنّ هذه الأناجيل لا تحمل في الحقيقة إلاّ سيرة السيّد المسيحعليه‌السلام ، وعلى الأقلّ أكثر من تسعين بالمئة منها تنقل سيرة السيّد المسيحعليه‌السلام مع إبراز الجانب الغيبي والمعاجزي من هذه السيرة.

إذن لم يبقَ من السيّد المسيحعليه‌السلام بعد انتهاء دوره على المسرح حصيلة مضيئة يمكن أن يقام على أساسها، وعلى المدى الطويل العمل النبوي، إذ لم تبقَ إلاّ فكرة غائمة غامضة عن إنسانٍ أتى ليصلح وقال وعلّم ثمّ انتهى. أمّا أنّه ماذا قال ؟ وكيف انتهى ؟ وماذا خلّف ؟ وما هي شريعته ؟ كلّ هذا يبقى غائماً غامضاً.

ولهذا مُلئ بالتدريج، وبأيدٍ بشريّة، أي بالأيدي البشرية التي تزعّمت بعد هذا المسيحيين، ملئت هذه الفراغات الكبيرة التي تركها السيّد المسيحعليه‌السلام خاصّةً بعد أن أصبحت المسيحية رومانيةً ودخلت الإمبراطورية الرومانية في الديانة المسيحية رسميّاً أوّلاً، وشعبيّاً ثانياً(١) .

في مثل هذه الحالة أصبحت هذه الفراغات تُملأ بأيدٍ بشرية؛ لأنّها أدركت بأنّ هذه الوصفة العلاجية فيها فراغات كبيرة، ولا يمكن أن تقدّم مع هذه الفراغات إلى الناس.

__________________

(١) استطاعت النصرانية أن تولّي قسطنطين إمبراطوراً على الدولة الرومانية سنة ( ٣٠٥ م )، بعدها أصبحت الإمبراطورية الرومانية تدين بالنصرانية. راجع قصّة الحضارة ١١: ٣٨٢ وما بعدها.

٢٢

إذن، هذا أيضاً من الأسباب المعقولة لتغيير النبوّة، وهي ألاّ يبقى من ذلك النبيّ تراث حيّ يمكن أن يقام على أساسه العمل وترتكز بموجبه الدعوة إلى الله.

السبب الثالث - محدوديّة نفس النبيّ:

ومن الأسباب التي يمكن أن يقام على أساسها التغيير في النبوّة: هو أن تكون الرسالة التي هبطت على النبيّ محدودةً باعتبار محدودية نفس النبيّ.

النبيّ، وإن كان مفهوماً عامّاً إلاّ أنّ هذا المفهوم العامّ - على ما يقوله المناطقة - يصدق على أفراده بالتشكيك.

هناك - على ما تقول الروايات(١) - نبيّ للبشرية، ونبيٌّ للجماعة، ونبيٌّ للقبيلة، ولذا فإنّ النبوّات تختلف معاً من حيث السعة والضيق باختلاف طبيعة النبيّ نفسه، وباعتبار مستوى كفاءة القيادة الفكريّة والعمليّة في شخص النبيّ.

فمحدودية الكفاءة القيادية في المجالين الفكري والعملي ممّا يؤثّر في تحديد الرسالة التي يحملها النبيّ؛ لأنّ كلّ إنسانٍ على الأرض لا يمكن أن يحمل رسالة يحارب ويدافع ويجاهد عنها - حقيقة - إلاّ إذا كان مستوعباً لها استيعاباً كاملاً شاملاً، وهذا الاستيعاب الكامل الشامل يتطّلب من هذا الداعية أن يكون على مستوى هذه الرسالة.

ومن الواضح أنّ الأنبياء كغيرهم من الناس يتفاوتون في درجات تلقّيهم للمعارف الإلهيّة عن طريق الوحي من الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا كانت بعض الرسالات محدودةً بحكم محدودية قابلية الأنبياء أنفسهم، حيث إنّ هذا النبيّ

____________________

(١) راجع بحار الأنوار ١١: ٥١، باب معنى النبوّة وعلّة بعثة الأنبياء، الحديث ٤٩، وكنز العمّال ١١: ٤٣٧، الحديث ٣٢٠٥٨.

٢٣

ليس مؤهّلاً لأن يحمل هموم البشريّة على الإطلاق وفي كلّ زمانٍ ومكان، بل هو مهيَّأٌ لأن يحمل هموم عصره فقط، أو هموم مدينته فقط، أو هموم قبيلته فقط؛ لأنّ ذلك الشخص الذي يحمل هموم البشرية، ويعيش مشاكلها على الإطلاق ليكتوي بنارها ليس إلاّ الدرجة العالية من الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى من الأنبياء والأوصياء.

فإذا كانت النبوّة محدودةً بطبيعة قابليّات هذا النبيّ كان لا بدّ في خارج هذه الحدود الزمانيّة أو المكانيّة من نبوّةٍ أُخرى تمارس عملها في سبيل الله.

السبب الرابع - تطوّر الإنسان المدعوّ:

وأخيراً من جملة الأسباب التي تدعو إلى تغيير النبوّة: هو تطوّر الإنسان ( المدعوّ )، لا محدودية الإنسان ( الداعي ) كما بيّنّا فيما سبق، وكون الإنسان المدعوّ يتصاعد بالتدريج لا بالطفرة، وينمو على مرّ الزمن في أحضان هذه الرسالات الإلهيّة فيكتسب من كلّ رسالةٍ إلهيّةٍ درجةً من النموّ تهيّئُهُ وتعدّه لكي يكون على مستوى الرسالة الجديدة، وأعبائها الكبيرة، ومسؤوليّاتها الأوسع نطاقاً.

وفكرة التطوّر هنا لا بدّ وأن تحدّد - إجمالاً - معالمها، وملامحها:

ملامح فكرة التطوّر:

هنا يمكننا أن نبرز ثلاثة خطوطٍ رئيسيةٍ يتطوّر على أساسها الإنسان؛ إلاّ أنّ عامل التطوّر في النبوّة يرتبط بالتطوّر في خطّين من هذه الخطوط الثلاثة، ولا يرتبط بالخطّ الثالث من هذه الخطوط.

٢٤

وهذه الخطوط الثلاثة هي:

١ - خطّ وعي التوحيد.

٢ - خطّ المسؤولية الأخلاقية لحمل أعباء الدعوة.

٣ - خطّ السيطرة على الكون والطبيعة.

النبوّة ترتبط بالواقع بالخطّين ( الأوّل والثاني ) من هذه الخطوط الثلاثة، أي بالوعي التوحيدي عند الإنسان، وبالمسؤوليّة الأخلاقية لحمل أعباء الدعوة، ولا ترتبط النبوّة بالخطّ الثالث من خطوط التطوّر، وهو مدى سيطرة الإنسان على عالم الطبيعة والكون؛ ذلك لأنّ النبوّة تستهدف أن تصنع الإنسان من داخله، وتستهدف أن تصنع للإنسان قاعدةً فكريةً يقوم على أساسها بناؤه ( الداخلي )، ثمّ تقيم على أساس هذا البناء ( الداخلي ) البناء ( الخارجي ) للإنسان.

الخطّ الأوّل - وعي التوحيد:

وهذه القاعدة الأساسية التي تقوم على أساسها البناء الداخلي للإنسان وبالتالي البناء الخارجي هي ( التوحيد )، وربط الإنسان بكامل مراحل وجوده وجوانب حياته بربٍّ واحدٍ أحد.

هذه الفكرة هي القاسم المشترك بين كلّ النبوّات التي عاشها الإنسان منذ أن خلقه الله على وجه الأرض(١) .

إلاّ أنّ فكرة( التوحيد ) ليست ذات درجةٍ حدّية، وإنّما هي بنفسها ذات درجاتٍ من العمق والأصالة، والتركيز، والترسيخ، ولذا فهي ذات درجات

____________________

(١) كما جاء في قوله تعالى:( وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أنَا فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء:٢٥.

٢٥

متفاوتة.

وكان لا بدّ بمقتضى الحكمة الإلهية أن يُهيّأ الإنسان لها بالتدريج، هذا الإنسان الذي غرق بمقتضى تركيبه العضوي والطبيعي في حسّه ودنياه؛ حينما يُدعى إلى فكرة التوحيد لا بدّ أن يُنتزع من عالم حسّه ودنياه بالتدريج لكي ينفتح على فكرة التوحيد التي هي فكرة الغيب.

فالغيب يجب أن يُعطى له على مراحل، وعلى درجات، وكلّ درجةّ تهيِّئ ذهنه لتلقّي التوحيد على الدرجة الأخرى.

نحن بإمكاننا بالالتفات إلى فكرة التوحيد المعطاة في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم أن نفهم هذا المعنى كمثال، التوراة والإنجيل والقرآن كلّ هذه الكتب تعطي فكرة التوحيد، وعندما أقول: التوراة، والإنجيل أقصد التوراة والإنجيل اللَذين بين أيدينا اليوم، لأنّهما على أيّ حالٍ يصوّران الفكرة الدينية في شعب موسىعليه‌السلام ، وشعب عيسىعليه‌السلام ، ولا شكّ في أنّهما يحتفظان بجزءٍ من النصّ الديني إلى حدٍّ قليلٍ أو كثيرٍ خاصّةً في التوراة.

ولهذا يمكن أن نستلهم من الكتابين في سبيل تقدير وتحديد الروح الدينية العامّة للمرحلتين، مرحلتين من مراحل حياة الإنسان التي عاشها مع النبوّة.

بطبيعة الحال نجد فارقاً بالدرجة، وتطوّراً في مفهوم ( التوحيد ) المُعطى.

فكرة التوحيد في التوراة:

فبينما ( التوحيد ) في ( الكتاب الأوّل ) يقوم على أساس إعطاء ( إله )، هذا الإله لا يستطيع الكتاب أن ينتزع عنه الطابع القومي المحدود، فيشدّ هذا الإله إلى

٢٦

جماعة معيّنةٍ، إلى شعبٍ معيّن؛ الشعب الذي قُدّر أن تنزل الرسالة فيه، وأن يكون النبيّ منه، فكانت التوراة باستمرارٍ تقدّم الإله في إطارٍ قوميٍّ كأنّه إله هؤلاء في مقابل الأصنام والأوثان التي هي آلهة الشعوب والقبائل الأخرى، فلم تقل التوراة بشكلٍ صريحٍ وعميقٍ لهؤلاء: إنّ هناك إلهاً واحداً للجميع، وإنّ هذه الأوثان والأصنام يجب أن ترفضها البشريّة، وإنّما كأنّها عوضّت هؤلاء بالخصوص عن صنمٍ ووثنٍ معيّنٍ بإلهٍ يعبدونه بدلاً عن هذا الصنم، هذا الشيء الذي بعث في نفوس هؤلاء القوم تأريخيّاً الشعور بالاعتزاز، والشعور بالزهو والخيلاء على بقيّة الشعوب الأُخرى، هذا الشعور الذي لم يوجد في شعوبٍ متأخّرةٍ نزلت فيها نبوّات التوحيد؛ على أساس أنّ الإله الذي أعطي إليهم كان إلهاً مشوباً بشيءٍ من المحدوديّة والطابع القومي؛ فخيّل لهم على مرّ الزمن أنّهم يحتكرون ( الله ) لأنفسهم؛ بينما الشعوب والقبائل الأخرى هي ذات آلهةٍ شتّى، وأصنامٍ شتّى. ويُشير القرآن الكريم إلى فكرة الاحتكار التي كان يعتقدها اليهود بالنسبة إلى الله تعالى(١) .

فكرة التوحيد في الإنجيل:

في ( الكتاب الثاني ) صُعدّت فكرة ( الله ) مرتبة، وذلك لأنّ الطابع القومي

____________________

(١) ورد في القرآن قوله تعالى:( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) المائدة: ١٨. وقوله تعالى:( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ... ) الجمعة: ٦. وقوله تعالى:( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى... ) البقرة: ١١١. وقوله تعالى:( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ) البقرة: ١٣٥.

٢٧

انتزع عن هذه الفكرة، أصبح ( الإله ) المقدّم من قبل تلامذة السيّد المسيحعليه‌السلام للعالم أجمع إلهاً عالمياً لا فرق فيه بين شعب وشعب، إلاّ أنّ هذا الإله هو إله العالم على الإطلاق لم يغادر منطقةً قريبة من ذهن الإنسان المحسوس، ولم يُجرَّد تجريداً كاملاً عن عالم الحسّ؛ بل بقي على صلةٍ وثيقةٍ جدّاً بالإنسان الحسّي كأنّه أبوه، وبهذا يُعبَّر في الأناجيل كثيراً عن الإنسان بأنّه: ( ابن الله ).

المسيحيّة الرسمية تفسّر هذا الإنسان ب-( عيسى بن مريم ) لكن لا أظنّ أن يقصد به هذا.

الأناجيل تعبّر عن أيّ إنسانٍ بأنّه ( ابن الله ) لا عن( عيسى بن مريم ) بالخصوص أنّه ابن الله؛ لأنّها تعطي عن الله فكرة الأب الواحد للجماعة البشرية، لا فكرة الخالق السيّد المطلق المقتدر، الواهب الكبير. فكرة أبٍ له أبناء، هؤلاء الأبناء لهم لغات شتّى، ولهم اتّجاهات شتّى، ولهم مذاهب شتّى، ولهذا يجب أن يتآخوا، لأنّهم أبناءٍ أبٍ واحد.

فكرة التوحيد في القرآن:

بينما( الكتاب الثالث ) القرآن الكريم كتاب نبيّ الإسلام، يعطي فكرة التوحيد بأنصع وأوسع ما يمكن من التنزيه الذي يبقى محتفظاً بقدرته على تحريك الإنسانية؛ لأنّه يجرّد هذه الفكرة عن طابع ( الأبوّة ) والعلائق المادّية مع الإنسان على الإطلاق، يجرّد ( الله ) عن أيّ علاقةٍ مادّيةٍ مع أيّ إنسانٍ حتّى مع أشرف إنسانٍ على وجه الأرض، مع صاحب الرسالة بالذات؛ محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

يقف النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله - في لغة القرآن - بين يدي الله عبداً ذليلاً خاضعاً

٢٨

يتلّقى الأوامر، وليس له إلاّ أن يطيع، وإلاّ أن ينفّذ حرفيّاً(١) .

مثل هذه الفكرة هي أقصى ما يمكن أن يصل إليه التنزيه، والتعميق، والترسيخ في فكرة ( التوحيد )، مع الحفاظ على فاعلية الفكرة، وعلى محرّكيتها.

هذا الخطّ ( خطّ وعي التوحيد ) وفكرة التوحيد هو أوّل الخطوط التي تتغيّر على أساسه ( النبوّات )؛ لأنّ هذا الخطّ هو القاعدة الأساسية التي تعمل بموجبها كلّ النبوّات، فمهما صعدت درجة الوعي لهذه القاعدة يجب أن تعطى لها الصيغة المعمّقة لها أكثر.

الخطّ الثاني - المسؤولية الأخلاقية للدعوة:

الخطّ الثاني هو خطّ تحمّل أعباء المسئولية الأخلاقية للدعوة، يعني كون الإنسان بالغاً إلى درجةٍ تؤهلّه لأن يتحمّل أعباء دعوةٍ لها ضريبتها، وواجباتها، وآلامها، وهمومها.

مثل هذا التحمّل أيضاً له درجات، ولا يستطيع الإنسان بالطفرة أن يصل إلى درجة تحمّل أعباء الرسالة العالمية الواسعة غير محدودة الزمان والمكان، لم يستطع أن يصل لذلك بالطفرة، وإنّما استطاع أن يصل إليه بالتدريج، وعبر مرانٍ طويلٍ على تحمّل المسئوليات البشريّة.

____________________

(١) كما جاء في قوله تعالى:( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) الحاقّة: ٤٤ - ٤٥ و( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) النجم: ٣ - ٥، و( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) المائدة: ٦٧، و( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) المائدة: ٤٩، وغيرها.

٢٩

بقي يتحمّل المسئوليات عبر مرانٍ طويل، ونما خلال المران الطويل حتّى استطاع أن يتحمّل مسئوليةً رساليةً لا حدّ لها، ممتدّةً مع الزمان والمكان، وإلاّ فأيّ مسئولياتٍ كانت تتحمّلها أُمم الأنبياء السابقين، الأُمم التي انكشف تأريخها أمامنا اليوم، أُمم( موسى ) و( عيسى ) مثلاً ؟

نحن بالمقارنة بين أُمم موسى وعيسىعليهما‌السلام والمسئوليات التي تحمّلتها الأُمّة الإسلامية حينما نزل الوحي على النبيّ محمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة الخاتمة، بالمقارنة بينها نكتشف وجود درجةٍ كبيرةٍ في الفارق بينها في تحمّل المسئوليات، وهذه الدرجة الكبيرة في تحمّل المسئولية تعبّر عن نحو الاستعداد على مرّ الزمن.

موسى عليه‌السلام مات وشعب بني إسرائيل في التيه، توّج حياته وجهاده وتضحياته بأن مات وشعب بني إسرائيل في التيه؛ لأنّ الله كتب عليهم التيه أربعين سنة(١) ؛ لأنّهم لم يستجيبوا لمتطلّبات الرسالة، لم يستجيبوا أبداً لما تقتضيه رسالة موسى بالنسبة إليهم، حتّى خلّفهم موسىعليه‌السلام حيارى ومات.

أين هذه من اُمّةٍ حملت أعباء الرسالة ؟ اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الخطّ الثالث - سيطرة الإنسان على الطبيعة:

الخطّ الثالث وهو خطّ سيطرة الإنسان على الكون والطبيعة. هذا الخطّ خطّ متطوّر قبل الإسلام وبعد الإسلام، ولن يقف عند مرحلةٍ من المراحل على الإطلاق.

الإنسان سوف لن تقف سيطرته - بإذن الله - عند مرحلةٍ من مراحل

____________________

(١) كما في قوله تعالى:( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ... ) ، المائدة: ٢٦.

٣٠

الاستيلاء على الكون والطبيعة، وإن انتهى استيلاؤه على الأرض فلسوف يفكّر بالاستيلاء على بقيّة الكواكب، وعلى جميع أبعاد الكون.

إذن فهو في نموّ مستمرّ لا ينقطع، ولا توضع له حدود مفترضة من هذه الناحية.

فلو كانت النبوّة مرتبطةً بهذا الخطّ أيضاً لتحتمّ أن تتغيّر النبوّات على مرّ الزمن وإلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة، ولكنّ النبوّة غير مرتبطةٍ بهذا الخطّ؛ لأنّ النبوّة لم تأتِ إليه لكي تأخذه بيده في مجال السيطرة على الكون والطبيعة، وإنّما جاءت لتصنع من هذا الإنسان المسيطر على الكون والطبيعة بالدرجة التي تهيِّئه له هذه الظروف - الظروف الموضوعية - وأن تجعل من هذا الإنسان إنساناً فاضلاً نبيلاً مدبّراً حكيماً، سواء أكانت سيطرته على الطبيعة تهيّئهُ لأن ينتقل من بلدٍ إلى بلدٍ على رجليه، أو على الجمل، أو في الطائرات، أو في الصواريخ.

على جميع هذه التقادير، وفي جميع هذه المراحل، التي تعبّر عن درجات سيطرة الإنسان على الكون والطبيعة، النبوّة لا يختلف دورها وطبيعة رسالتها.

ومن هنا كان من الحتم أن تتغيّر النبوّة بين الحين والحين وفقاً للخطّ الأوّل والثاني، ولم يكن من الحتم أن تتغيّر وفقاً للخطّ الثالث.

ولكّنا - نحن المسلمين - نعتقد بأنّ الخطّين الأوّل والثاني اللذَين تُربط بهما التغيّرات في النبوّة، هذان الخطّان لهما حدّ نهائي يصل إليه الإنسان، وهذا الحدّ النهائي هو الحدّ الذي وصل إليه الإنسان حينما جاء الإسلام.

الإسلام كرسالةٍ شاملةٍ كاملةٍ عامةٍ للحياة، هذه الرسالة جاءت على أبواب وصول الإنسان إلى رشده الكامل من ناحية استعداده لتقبّل وعي توحيدي صحيح شامل كامل، ومن ناحية تحمّله لمسؤوليّة أعباء الدعوة.

٣١

ونحن باستقرار تأريخنا المنظور منذ جاء الإسلام إلى يومنا هذا لا نجد أيّ تغيّرٍ حقيقيٍّ في هذين الخطّين، لا في مدى اتّساع الوعي التوحيدي عند الإنسان، ولا في اتّساع التحمّلات الأخلاقية لأعباء الدعوة.

نعم، نجد التغيّر الواسع جدّاً في الخطّ الثالث الذي يُعتبر خارج نطاق عمل النبوّة ورسالتها.

٣٢

فكرة موجزة عن الوحي

٣٣

٣٤

بسم الله الرحمن الرحيم

انقطاع الوحي:

اليوم نجتمع بمناسبة أعظم فاجعةٍ مرّت على تأريخ البشريّة على الإطلاق، بمناسبة الفاجعة المزدوجة التي مثّل الجزء الأوّل منها انقطاع الوحي في تأريخ النوع البشري، هذه الظاهرة التي لم يعرف الإنسان في تأريخه الطويل الطويل ظاهرةً يمكن أن تماثلها، أو أن تناظرها في القدسيّة والجلال والأثر في حياة الإنسان وتفكيره.

ويمثّل الجزء الآخر من الفاجعة الانحراف داخل المجتمع الإسلامي على يد المؤامرة التي قام بها جناح من المسلمين بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانحرف بذلك الخطّ عمّا كان مقرّراً له من قِبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن قِبل الله سبحانه وتعالى.

أحداث ما بعد الفاجعة:

كان هذا اليوم المشئُوم بداية انحرافٍ طويل، ونهاية وحيٍ طويل، ونهاية عهدٍ سعيدٍ بالوحي، تمثّل في مئةٍ وأربعةٍ وعشرين ألف نبيٍّ كما في بعض

____________________

(*) ألقيت في ٢٨ صفر ١٣٨٥ ه- في مقبرة آل ياسينرحمه‌الله في النجف الأشرف عصراً.

٣٥

الروايات(١) .

وكان بداية ظلامٍ ومحنٍ ومآسٍ، وفواجع وكوارث من ناحيةٍ أخرى، تمثّل في ما أعقب وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من أحداث في تأريخ العالم الإسلامي، هذه الأحداث المرتبطة ارتباطاً شديداً وقويّاً بما تمّ في هذا اليوم من الفاجعة، على ما في زيارة الجامعة التي نقرؤها:

بيعتهم التي عمّ الإسلام شؤمها، وزرعت في قلوب الأمّة الآثام، وعقّت سلمانها، وطردت مُقدادها، ونَفَت جنديها، وفتحت بطن عمّارها، وأباحت الخمس للطلقاء وأولاد الطلقاء، وسلّطت اللعناء على المصطفين الأخيار، وأبرزت بنات المهاجرين والأنصار إلى الذلّة والمهانة، وهدّمت الكعبة، وأباحت المدينة، وخلطت الحلال بالحرام. إلى غير ذلك من الأوصاف التي نعت بها الإمامعليه‌السلام (٢) .

الجزء الثاني من الفاجعة الذي تمّ في هذا اليوم، هذا الجزء الثاني من الفاجعة تحدّثنا عنه خلال الكلام عن حياة الأئمةعليهم‌السلام ، وسوف نتحدّث عنه خلال كلامنا عند مناسباتٍ أخرى في حياة الأئمةعليهم‌السلام .

والآن نقتصر على الجزء الأوّل من هذه الفاجعة، يعني ننظر إلى الحدث الواقع في هذا اليوم بوصفه حدثاً قد وضع حدّاً لتلك الظاهرة العظيمة، التي اقترنت مع هبوط الإنسان على وجه الأرض، ظاهرة الوحي، ظاهرة ارتفاع الإنسان وتفانيه للاتّصال المباشر بالله سبحانه وتعالى.

ففي مثل هذا اليوم وضع حدّ نهائي لهذه الظاهرة المباركة الميمونة، وفي

____________________

(١) الخصال ( للصدوق ) ٢: ٥٢٤.

(٢) بحار الأنوار ١٠٢: ١٦٦، كتاب المزار، الباب ٨، باب الزيارات الجامعة...، الحديث ٦.

٣٦

بعض الروايات: أنّ جبرائيلعليه‌السلام حينما ارتفع مع ملائكة السماء بروح محمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ربّها راضيةً مرضيّةً، التفت إلى الأرض مودّعاً، ثمّ طار إلى سماوته(١) ، هذا اليوم كان هو يوم انقطاع الإنسانية عن الاتّصال المباشر بالله سبحانه وتعالى في انتهاء حياة خاتم الأنبياء والمرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبهذه المناسبة أُريد أن أُعطي فكرةً موجزةً على مستوى بحث اليوم عن الوحي الذي انقطع في مثل هذا اليوم. الوحي الذي يتمثّل في اتّصال خاصٍّ بين الإنسان وبين الله، هذا الوحي هو ضرورة من ضروريات تخليد الإنسان على وجه الأرض. وبهذا خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، وأودعه الاستعداد الكامل، والأرضيّة الصالحة بإفاضة هذه الموهبة من الله سبحانه وتعالى ضمن شروط وظروفٍ موضوعيّةٍ وذاتيّةٍ معيّنة.

الحسّ وأثره في تربية الإنسان:

والآن أُريد أن أدرس جانباً واحداً من ضرورة الوحي، لأنّ ضرورة الوحي يمكن أن توضع في قبال جانبين في الإنسان. ونحن الآن نقتصر على أحد الجانبين.

الإنسان خلق حسيّاً أكثر منه عقليّاً، خلق ليتفاعل مع حسّه أكثر ممّا يتفاعل مع عقله، يعني أنّ النظريّات والمفاهيم العقليّة العامّة في إطارها النظري، هذه المفاهيم حتّى لو آمن بها الإنسان إيماناً عقليّاً، حتّى لو دخلت إلى ذهنه دخولاً نظريّاً، مع هذا لا تهزّه، ولا تحرّكه ولا تبنيه، ولا تزعزع ما كان فيه، ولا تنشئه من

____________________

(١) بحار الأنوار ٢٢: ٥٠٥، تاريخ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الباب ٢، باب وفاته وغسله والصلاة عليه ودفنهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الحديث ٤.

٣٧

جديد إلاّ في حدودٍ ضيّقةٍ جدّاً. على العكس الحسّ، فإنّ الإنسان الذي يواجه حسّاً ينفعل بهذا الحسّ، وينجذب إليه، وينعكس هذا الحسّ على روحه، ومشاعره، وانفعالاته، وعواطفه بدرجةٍ لا يمكن أن يقاس بها انعكاس النظريّة العقليّة، والمفهوم المجرّد عن أيّ تطبيقٍ حسّي. وليس من الصدفة أنّ كان الإنسان على طول الخطّ في تأريخ المعرفة البشريّة أكثر ارتباطاً بمحسوساته من معقولاته، وأكثر تمسّكاً بمسموعاته، ومنظوراته من نظرياتّه، فإنّ هذا هو طبيعة التكوين الفكري والمعرفي عند الإنسان. وليس من الصدفة إثبات حقّانيّة أيّ دينٍ بالمعجزة، وكانت أكثر معاجز الأنبياء على مستوى الحسّ، لأنّ الإنسان يتأثّر بهذا المستوى أكثر ممّا يتأثّر بأيّ مستوىً آخر.

إذن فالإنسان بحسب طبيعته، وجهازه المعرفي، وتكوينه النظري، خُلق حسّياً أكثر منه عقليّاً مع هذا المستوى من الانخفاض من المعرفة، أكثر ممّا هو متفاعل مع المستوى النظريّ المجرّد من المعرفة، وهذا يعني أنّ الحسّ أقدر على تربية الإنسان من النظر العقليّ المجرّد لو تُرك الإنسان إلى نظره العقليّ المجرّد، وإلى حسّه المجرّد، يعني إلى ما يتّفق له من حسّ، وما يتّفق له من نظر، فسوف يسيطر الحسّ عليه أكثر ممّا يسيطر عليه النظر، سوف يهيمن عليه حسّه، ويحتلّ من جوانب وجوده وشخصيّته وأبعاد مشاعره وعواطفه وانفعالاته أكثر ممّا يحتلّ العقل ( المفهوم النظريّ المجرّد).

الحسّ هو المربّي الدرجة الأُولى للإنسان، هذا مزاجه وهذا وصفه. والعقل هو المربّي الدرجة الثانية، هذا وصفه وهذا مزاجه.

بناءً على هذه الحالة لا بدّ للإنسان من حسٍّ مُربٍّ زائداً على العقل، والمدركات العقليّة الغائمة الغامضة التي تدخل إلى ذهن الإنسان ذا قوالب محدّدةٍ

٣٨

وغير واضحةٍ ومكتنفةٍ بدرجةٍ كبيرةٍ من الأُمور.

إضافةً إلى هذه القوالب كان لا بدّ لكي يربّي الإنسان على أهداف السماء، على مجموعة من القيم والمثل والاعتبارات كان لا بدّ من أن يكون له مربٍّ حسّي، كان لا بدّ من أن يربّى على أساس الحسّ، وهذا هو السبب في أنّ أيّ إنسانٍ وأيَّ حضارةٍ وأيّ مدنيّةٍ انقطعت عن السماء لم يربّها العقل. بل كلّ الحضارات التي عرفها تأريخ النوع البشري إلى يومنا هذا، إلى حضارة الإنسان الأوروبي اليوم التي تحكم العالم ظلماً وعدواناً، كلّ هذه الحضارات التي انقطعت عن السماء ربّاها العقل؛ لأنّ الحسّ هو المربّي الأوّل دائماً، فكان لا بدّ لكي يمكن تربية الإنسان على أساس الحسّ، لكن على أساس حسٍّ يبعث في هذا الإنسان إنسانيّته الكاملة الممثّلة لكلّ جوانب وجوده الحقيقيّة، كان لا بدّ من خلق حسٍّ في الإنسان يدرك تلك القيم والمثل والمفاهيم، ويدرك التضحية في سبيل تلك القيم والمثل إدراكاً حسيّاً لا إدراكاً عقلانياً بقانون الحسن والقبح العقليّين فقط، بل يدركهما كما ندرك محسوساتنا ومسموعاتنا ومبصراتنا.

وهذا معنى ما قلناه من أنّ ضرورة الإنسانية، ضرورة الإنسان في خطّ التربية تفرض أن يودع في طبيعة تكوينه وخلقه أرضيةً صالحةً لأن تكون مثل هذا الحسّ، لأن تكوّن حسّاً بحسن العدل، بقبح الظلم، بآلام المظلومين، لأن تكوّن حسّاً بكلّ ما يمكن للعقل إدراكه، وما لا يمكن للعقل إدراكه من قيمٍ ومثلٍ واعتبارات.

وهذه الأرضيّة أو هذا الاستعداد الكامل الذي كان لا بدّ من خلقه في طبيعة الإنسان، هذا الاستعداد الوحي، هو استعداد الارتباط المباشر بالله

٣٩

سبحانه وتعالى، لكي تنكشف كلّ الحجب، كلّ الستائر عن كلّ القيم، وكلّ المثل وكلّ هذه الاعتبارات والأهداف العظيمة، لكي ترى رؤية العين وتسمع سماع الأُذن، لكي يلمسها بيده ويراها بعينه، يشمّها، يذوقها.

كان لا بدّ من أن توجد هذه البذرة، بذرة مثل هذا الحسّ في النوع البشري، إلاّ أنّ وجدان هذه البذور في النوع البشري لا يعني أنّ كلّ إنسانٍ سوف يصبح له مثل هذا الحسّ، سوف ينفتق إدراكه عن مثل هذا الحسّ، وإنّما يعني أنّ الإمكانية الذاتية موجودة فيه، إلاّ أنّ هذه الإمكانية لم تخرج إلى مرحلة الفعليّة إلاّ ضمن شروطها وظروفها وملابساتها الخاصّة كأيّ إمكانيةٍ أخرى في الإنسان.

هناك شهوات وغرائز موجودة في الإنسان منذ يخلق وهو طفل، ولكنّه لا يعيش تلك الشهوات والغرائز إلى مراحل متعاقبةٍ من حياته، فإذا مرّ بمراحل متعاقبةٍ من حياته تفتّحت تلك البذور، حينئذٍ أصبح يعيش فعليّة تلك الشهوات والغرائز، هذا على مستوى تلك الغرائز، كذلك على مستوى هذا الحسّ الذي هو أشرف وأعظم وأروع ما أُودع في طبيعة الإنسان، هذا قد لا يعيشه مئات الملايين من البشر في عشرات الآلاف من السنين، قد لا ينفتح، يبقى مجرّد استعدادٍ خامٍ وأرضيّةٍ ذاتيةٍ تمثّل الإمكان الذاتي لهذه الطبيعة فقط دون أن تنفتح عن وجود مثل هذا الحسّ؛ لأنّ تفتّحه يخضع لما قلناه من الملابسات والشروط التي لها بحث أوسع من كلامنا اليوم.

مراتب الحسّ:

هذه الأرضيّة تصبح أمراً واقعيّاً في أشخاصٍ معيّنين يختصّهم الله تبارك وتعالى بعنايته ولطفه واختياره، وهؤلاء هم الأنبياء، وهم المرسلون الذين يرتفعون إلى مستوى أن تصبح المعقولات الكاملة محسوساتٍ لديهم، يصبح كلّ

٤٠