أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 108053
تحميل: 7742

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 108053 / تحميل: 7742
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بسم الله الرحمن الرحيم

مراحل حياة الأئمّةعليهم‌السلام :

نجتمع اليوم بمناسبة وفاة الإمام الثامنعليه‌السلام ، وقد ذكرنا مرّةً سابقة: أنّ هذا الإمام العظيمعليه‌السلام يمكن أن يعتبر منعطفاً تأريخياً في حياة الأئمّةعليهم‌السلام ، يعني أنّه بداية المرحلة الثالثة من المراحل التي قسّمنا بها تأريخ حياة الأئمّةعليهم‌السلام ، فإنّنا صنفّنا تأريخ الأئمّة إلى ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى : هي المرحلة التي عاش فيها قادرة الرسالة لمجابهة ومواجهة صدمة الانحراف التي وقعت في الأُمّة الإسلامية عقيب وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان أئمّة هذه المرحلة يشرعون بشكلٍ رئيسيٍّ لمواجهة ومجابهة هذه الصدمة وتحصين الأُمّة ضدّها. وهذه المرحلة تنتهي عند الإمام السجّادعليه‌السلام .

والمرحلة الثانية التي تبدأ منذ ذلك الحين هي مرحلة مواصلة خطّ المرحلة الأولى زائداً على ذلك: التصدّي لتنمية الكتلة الواعية التي عرفت في التأريخ باسم الشيعة، هذه الكتلة التي كانت هذه القاعدة الشعبيّة المؤمنة بمدرسة الإمام عليعليه‌السلام في الشريعة، وفي الحكم، وفي السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الأخلاق، وفي السلوك، وفي كلّ الميادين التي أعطى فيها الإمام عليعليه‌السلام أروع تمثيلٍ للنظرية الإسلامية. أئمّة هذه المرحلة أتوا للتطبيق ببناء هذه الكتلة ورفعها

٣٨١

وتوسيع قواعدها الشعبيّة، وإعطائها إطارها ومعالمها الخاصّة، الفكرية والاجتماعية في مجموع العالم الإسلامي.

وتنتهي هذه المرحلة عند الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام لكي تبدأ المرحلة الثالثة التي بدأ فيها رسول الإمام عليعليه‌السلام (١) وورثة الإمام عليعليه‌السلام . بدأ هذا الرصيد ضخماً قوياً ناتجاً على مستوى تسلّم زمام الحكم، فعاش الإمام الرضاعليه‌السلام هذه المرحلة التي بلغ رسول مدرسة الإمام أمير المؤمنين العظمة والاتّساع، نتيجة لجهود أئمّة المرحلة الثانية، إنّه كان يهيّئ لتسلّم زمام الحكم بحسب بادئ الأمر والنظر على ما سوف أبحثه بعد هذا. وكان هذا الارتفاع في الرصيد الصحيح الصالح وقتئذٍ كان يحدّد ملامح هذه الكتلة في جميع جوانبها الفكريّة والاجتماعية، كان هذا نتيجة جهدين متوازيين.

عاشت المرحلة الثانية هذين الجهدين بأشكالهما المختلفة، أحد هذين الجهدين هو جهد التثقيف الفكري والتوعية العقائدية التي كان يمارسها قادة أهل البيت من الأئمّة المعصومينعليه‌السلام ممارسةً مباشرةً واضحة، فكانت هذه الممارسة المباشرة لعلميّة التوعية والتثقيف الرسالي والعقائدي، كانت هذه العملية قد أعطت خلال المرحلة الثانية لكتلة الشعبيّة خصائصها الفكرية ومزاجها الروحي ومعالمها ومفاهيمها في كلّ جوانب الإسلام.

وكان هناك جهدٌ يمشي موازياً مع هذا الجهد، هذا الجهد الآخر هو الجهد الذي انطلق من دم الحسينعليه‌السلام هو جهد الجناح من أبناء الإمام عليعليه‌السلام ، هذا البناء الذي تسلّم زمام الثورة والمقابلة السياسية للوضع الحاكم وقتئذٍ، منذ أن أعطى الإمام السجّادعليه‌السلام - بوصفه ممثّلاً حقيقياً وقتئذٍ للإسلام - بيانه العامّ

____________________

(١) كذا في الأصل.

٣٨٢

وإسماعه العامّ لكلّ مسلمٍ بأن يمارس عمله ضدّ الطواغيت الحاكمين، حينما ذهب إليه محمّد بن الحنفيّة مع رسول المختار ليستشيره في ما عليه طلب المختار فأعطى وقتئذٍ بياناً، لم يكن هذا البيان يخصّ المختار، بل كان بحسب ما تدلّ عليه الملابسات والظروف العامّة أنّه بداية تخطيطٍ للمرحلة كلّها(١) ، يعني أنّ أئمّة المرحلة الثانية لم يكن بإمكانهم على ما سوف نتحدّث عنه عندما نتكلّم عن الإمام السجّاد، لم يكن بإمكانهم مواصلة العمل على أساس دم الحسينعليه‌السلام ، لم يكن بإمكانهم تزعّم المعركة لتحريك الضمير الثوري عند الأُمّة الإسلامية، فكان من الضروري إعطاء هذه الصلاحيات إلى سائر المسلمين، مع التزام الأئمّةعليهم‌السلام بالتوجيه والمراقبة والمساندة.

والمساندة واضحة كلّ الوضوح خلال المرحلة الثانية، مساندة قادة الرسالة الحقيقييّن لهذا الخطّ الثاني واضحة في عدّة وثائق تأريخيّة.

لعلّ من أهمّ هذه الوثائق التأريخية ذلك الكتاب الباكي المفجوع الذي كتبه الإمام الصادقعليه‌السلام إلى بني عمّه، إلى عبد الله بن الحسن المحض وصاحب النفس الزكية، وإلى أهله وذويه الذين نكبهم طاغية عصره المنصور، وسجنهم، وقتل منهم من قتل، ثمّ نفى منهم من نفى، كتب الإمام الصادق إليهم كتاباً في السجن، هذا الكتاب سوف نتعرّض له حينما نتكلّم عن الإمام الصادق، هذا الكتاب واضح في أنّ الإمام كان يعيش آلام هؤلاء، ويبارك عمل هؤلاء، ويكتوي في سجن هؤلاء حينما سجنوا، وبعذابهم حينما عذّبوا، وبقتلهم حينما قتلوا(٢) .

____________________

(١) راجع: بحار الأنوار ٤٥: ٣٦٥، باب أحوال المختار وما جرى على يديه، الباب ٤٩، الحديث ٢.

(٢) راجع: بحار الأنوار ٤٧: ٢٩٨ - ٣٠١، باب أحوال أقربائه وعشائرهعليه‌السلام ، الباب ٣١، الحديث ٢٥، و ٨٢: ١٤٥ - ١٤٨، باب فضل التعزّي والصبر، الباب ٦١، الحديث ٣٢.

٣٨٣

إذن فكان هناك خطّان ممتدّان في المرحلة الثانية، أحد الخطّين خطّ التوعية والتثقيف الرسالي الذي مارسه الأئمّةعليه‌السلام ، والآخر خطّ مواصلة تحريك الضمير الثوري للأمّة الإسلامية لإعطاء الشيعة طابعهم الجهادي في المعترك الاجتماعي، هذا الخطّ الذي مارسه أشخاص آخرون من طلاب مدرسة الإمام أمير المؤمنين بإشرافٍ وتوجيهٍ ومساندةٍ من الأئمّةعليه‌السلام على ما يبدو من قرائن الأحوال، وسوف نشرح هذا - إن شاء الله - عندما نتكلّم عن المرحلة الثانية.

أريد أن أستطرد لأصور فكرةً عن المرحلة الثالثة التي نحن الآن بصدد الكلام عن أوّل أئمّتها، وهو الإمام الثامنعليه‌السلام ، ففي استمرار هذين الخطّين المتوازيين في المرحلة الثانية أمكن لمدرسة الإمام عليٍّعليه‌السلام أن تكتسب رصيداً ضخماً ممتدّاً في كلّ أرجاء العالم الإسلامي، وأن تنمو أرصدة شعار الإمام عليعليه‌السلام ، ولا أدلّ على هذا من المظاهر العديدة الفكرية والروحية والاجتماعية التي كانت تكتنف الأُمّة الإسلامية في بداية المرحلة الثالثة، يعني في عصر الإمام الرضاعليه‌السلام .

الحركات الثورية في عصر الإمام الرضاعليه‌السلام :

لاحظوا أنّ عصر الإمام الثامن الرضاعليه‌السلام سادته عدّة مناوراتٍ قام بها قادة من آل عليٍّ وطلاب مدرسة الإمام عليعليه‌السلام ، هؤلاء القادة ملأوا العالم الإسلامي من الكوفة إلى البصرة، إلى مكّة والمدينة، إلى اليمن، أينما كنت تذهب كنت ترى هناك قائداً يحكم باسم الإمام علي بن أبي طالب، ويحمل شعارات الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، بالرغم من أنّ بغداد بقيت تحت تبعية الخلافة العباسية إلاّ أنّ بغداد طوّقت بهذه التحرّكات. وكان أهمّ هذه الحركّات: تحرّك

٣٨٤

ذاك الرجل العظيم محمّد بن إبراهيم طباطبا(١) ، هذا الرجل الذي خرج من المدينة إلى الكوفة وأعلن عن نفسه بالكوفة، وطرح شعار الاعتدادية(٢) (*) التي كان يطرحها ثوّار آل محمّد، وهو البيعة للرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا الشعار كان من خصائص ثوّار آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، استبدلت البيعة بالشخص بعنوانه إلى البيعة إلى هذا العنوان الإجمالي منذ ثار زيد بن عليعليه‌السلام إلى أن تتابع الثوّار من آله ومن آل الإمام الحسنعليه‌السلام ، وكان الشعار الذي يطرح هو الرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لكي يكون الشعار منسجماً مع مضمون القضيّة الإسلامية من دون إحراجٍ للشخص الواقعي الذي يمثّل القضيّة في كلّ حين، فطُرح الشعار بهذا العنوان.

فهناك رواية لا أدري صحيحة أو لا عن الإمام الباقرعليه‌السلام :( سوف يقف على منبر الكوفة في سنة مئتين للهجرة شخص يباهي الله به ملائكة السماء ) (٣) . وهذا الشخص الذي عُني في هذه الرواية - إن صحّت - هو محمّد بن إبراهيم.

محمّد بن إبراهيم خرج من المدينة، في طريقه إلى الكوفة مرّ بكربلاء، قبّل الضريح، وعاهد الإمام الحسينعليه‌السلام على أن يواصل خطّه، وعلى أن يستمدّ من دمه وشعاراته، ثمّ ذهب إلى الكوفة وهناك أعلن الشعارات، وأعلن البيعة للرضا من آل محمّد(٤) ، على أن يكون الحكم لكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الإمام عليعليه‌السلام ، مقصودي أن أستشهد على نموّ الرصيد والقاعدة التي كانت تملكها

____________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٣٤٤ - ٣٥٤، وتأريخ الطبري ٧: ١١٧ - ١١٨.

(٢) كذا في الأصل.

(*) هكذا في النسخ المطبوعة ولم نجد لها معنى، وقد أبقتها اللجنة العلمية التي حققت النسخة المطبوعة على ما هي عليه، ونظنُّ أنّها خطأ مطبعي المراد منه ( شعاراته الاعتيادية ) أي: المتعارفة آنذاك بين الثوار، أو ربّما المراد ( شعاراته الإعدادية ) أي: التي تُعدّ الثوار.[ لجنة التقويم العلمي في شبكة الحسنينعليهما‌السلام للفكر والتراث الإسلامي ]

(٣) مقاتل الطالبيين: ٢٤٨، وفيه: سنة مئةٍ وتسعة وتسعين.

(٤) مقاتل الطالبيين: ٣٤٧ - ٣٤٨.

٣٨٥

مدرسة الإمام عليعليه‌السلام .

هذا النموّ المتزايد نعرفه عن طريق ردود فعل هذه الثورات في العالم الإسلامي، كان ردّ الفعل لثورة محمّد بن إبراهيم أن وقفت الكوفة معه أربعة سنين، وقاوموا جيوش العباسيين جيشاً بعد جيشٍ فتنهزم الجيوش من أمامه.

الكوفة هذه هي الكوفة التي خانت الحسينعليه‌السلام ، هذه الكوفة التي تركت زيداً وحفنةً من الأصحاب، هذه الكوفة بعد مئةٍ وخمسين من وقعة الحسين، وبعد أقلّ من مئة سنةٍ من وقعة زيدٍ وقفت تدافع عن شخصٍ آخر صار في خطّ الإمام الحسين وخطّ زيد، وقفت تدافع عنه أربع سنين.

هذه الاستجابة دليل على نموّ القاعدة الشعبية. سوف أستعرض فيما بعد أنّه حينما أرسل الفضل بن سهل رسله إلى الكوفة ليأخذ البيعة بولاية العهد لعليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام امتنعت الكوفة عن ذلك، قالوا: لا نبايع علي بن موسى الرضا بولاية العهد، نبايعه بالخلافة، وإلاّ فلن نبايعه بولاية العهد(١) . وكان هذا منتهى الحماسة والحرارة في خطّ مدرسة الإمام عليعليه‌السلام ، يعني لو لم يقبلوا أن يبايعوا علي بن موسى الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، ويقبلون أن يبايعوه خليفة.

اتّساع القواعد الشعبية للإمام الرضاعليه‌السلام :

وهناك شواهد أُخرى كثيرة على نموّ هذه القواعد الشعبيّة، مثلاً ما سوف يأتي من أنّ المأمون كان يستجير بالإمام الرضاعليه‌السلام في المصاعب التي كانت تعصف بدولته.

مرّةً من المرّات قال له - على ما سوف أتحدّث إليكم -: إنّ شيعتك في

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري ٧: ١٤٣ - ١٤٤.

٣٨٦

مكانٍ انتفضوا علينا، هلاّ كتب إليهم فإنّهم يسمعون لو كتبت، اكتب إليهم أن يسكتوا عنّا(١) ؟

ومرّةً أخرى حينما اغتيل الفضل بن سهل، وحينما تسامع الناس باغتياله، وحينما فسّر أهالي خراسان أنّ اغتيال الفضل بن سهل كان على يد المأمون، قامت جماهير من الناس وقفت على باب قصر المأمون تنتظر خروج المأمون لتصبّ عليه جام غضبها وانتقامها، المأمون يخرج من الباب الخلفي يدخل إلى بيت الإمام الذي كان مجاوراً، يستجير بالإمامعليه‌السلام . يخرج الإمامعليه‌السلام فيفرّق الجماهير بأمرٍ واحد(٢) . يعني: الإمام كان رصيده الشعبي والاجتماعي في نفس البلد الذي حكمه المأمون والذي حكّم المأمون وأمّر المأمون بالقوّة وبالجيوش، كان رصيده الشعبي والاجتماعي قد بلغ إلى هذا المستوى، إضافةً إلى رصيده العلمي والفكري وزعامته العلميّة والفكريّة التي تعرفون من شواهده الشيء الكثير.

ومنها: ما يتبادر إلى أذهانكم جميعاً قصّة مروره نيشابور وتسابق العلماء على الاستفادة منهعليه‌السلام ، كلّ هذا يثبت أنّ القاعدة الشعبيّة من الناحية العلمية والاجتماعية لمدرسة الإمام علي كانت قد بلغت درجةً كبيرةً من الارتفاع والنموّ.

الإمام الرضاعليه‌السلام وقيادة الأُمّة:

في هذه المرحلة سُلّم الإمام الرضاعليه‌السلام زمام الإمامة والمسئولية، ويبدو أنّ الإمام الرضاعليه‌السلام حينما تسلّم زمام المسئولية والإمامة في مثل هذه المرحلة، قام بنشاطٍ له لم يكن اعتيادياً على مستوى الشيعة، ولهذا تعرّض

____________________

(١) و (٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٦١ - ١٦٦، الحديث ٢٣ - ٢٩.

٣٨٧

لاعتراضاتٍ من قبل الشيعة.

جاءه جماعة من الشيعة قالوا له: ماذا تصنع ؟ قد فضحت نفسك وهارون الرشيد يقطر سيفه دماً، ألا تخاف من سيف هارون الرشيد ؟(١) .

جاءه أيضاً أصحاب آخرون قالوا له: إنّك بما تعمل قد أقدمت على الهلكة(٢) .

قال له أشخاص آخرون: لو سكتّ كما سكت أبوك وجدّك.

الروايات هكذا تقول، لكنّ هذه الرواية في نفسها لا تقول: إنّ الإمام الرضا ماذا كان يصنع، بحيث إنّه استفزّ هؤلاء.

بعض الأشخاص جاؤوا إليه وقالوا: خالفت التقية، التقية دين جعفر بن محمّد الصادق. إلى غير ذلك من المضامين.

لكن هناك روايات أخرى قد تلقي ضوءاً على ذلك، تقول الروايات الأخرى: إنّ الإمام الرضا لمّا تسلّم زمام المسئولية بعد وفاة أبيه قام بجولة في العالم الإسلامي، سافر من المدينة جاء إلى البصرة، اجتمع مع قواعده الشعبية في البصرة، قبل هذا أرسل رسولاً إلى البصرة أنّه انتظر خلال ثلاثة أيامٍ سوف يأتي الإمام الرضا، ثمّ يأتي علي بن موسى الرضاعليه‌السلام بعد ثلاثة أيامٍ في الوقت الذي يكون الشيعة في البصرة متهيّئين تهيّؤاً كاملاً لاستقباله والاجتماع حوله والاحتفاء به، فيجتمع بهم ويقيم الحجّة عليهم في إمامته، ثمّ بعد هذا يقول لهم بأنّه سلوني، فيدير معهم الأسئلة والأجوبة عن مختلف جوانب المعرفة الإسلامية.

ثمّ بعد هذا يطلب منهم جمع بقيّة الطوائف أيضاً، فيجمعون له بقية الطوائف ،

____________________

(١) روضة الكافي: ١٧٥، الحديث ٢.

(٢) الأصول من الكافي ١: ٥٥٣، الحديث ٢.

٣٨٨

بقية العلماء من المجادلين الكلاميين من علماء غير إسلاميين، فيعقد عدّة اجتماعاتٍ مع هؤلاء في البصرة يفحمهم ويسيطر علي الموقف.

بعد هذا يرسل رسولاً آخر إلى الكوفة يقول: أخبروا أهل الكوفة بأنّه خلال أيام سأجيء إلى الكوفة. بعد هذا يسافر إلى الكوفة، وهناك يقيم عليهم الحجّة بصورةٍ مباشرة، يعني على إمامته بعد أبيه، ثمّ بعد هذا يدير مناقشاتٍ واسعة النطاق وأسئلة وأجوبة متنوّعة ومتكفّلة(١) .

وأيضاً يتّصل مع مجادلين ومتكلّمين ويهود ومسيحيّين(٢) ممّن كانوا وقتئذٍ يشكّلون بداية خطرٍ فكريٍّ على العالم الإسلامي؛ لأنّ حركة الترجمة والجدل الكلامي كانت وقتئذٍ قد بدأت تستقطب العالم الإسلامي، وبهذا كان الإمام الرضاعليه‌السلام يولي هذه الناحية أيضاً درجةً كبيرةً من الأهمية، مثل هذا النشاط الملحوظ لم يكن يمارسه آباء الإمام الرضا، آباء الإمام الرضاعليه‌السلام لم يكونوا بأنفسهم يسافرون للاتصال المباشر مع قواعدهم الشعبيّة وتثبيت إمامتهم على تلك القواعد بالشكل المباشر، ثمّ محاولة الاتّصال المباشر مع قواعدهم الشعبيّة بهذا الشكل الواسع النطاق. هذا في الواقع كان من مظاهر طبيعة المرحلة، كانت طبيعة المرحلة وطبيعة اتّساع هذه القواعد وازدياد نفوذ مدرسة الإمامعليه‌السلام الروحي والفكري والاجتماعي في نفوس المسلمين تقتضي هذا النوع من النشاط من الإمام الرضاعليه‌السلام ، إلاّ أنّ أصحاب موسى بن جعفرعليه‌السلام لم يربطوا بين هذا التحوّل المظهري في تصرّفات الإمام الرضاعليه‌السلام عن خطّ آبائه وبين السلوك الموضوعي للمرحلة، ولهذا حاولوا الاعتراض عليه من هذه الناحية.

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٩: ٧٣ - ٨١، باب ورودهعليه‌السلام البصرة والكوفة...

(٢) عيون أخبار الرضا ١: ١٤٥، باب ١٢، ذكر مجلس الرضاعليه‌السلام مع أهل الأديان و....

٣٨٩

تقويم المرحلة السياسية في عصر الإمام الرضاعليه‌السلام :

فحينئذٍ هنا الإمام الرضاعليه‌السلام منذ بداية تسلّمه زمام المسئولية نفّذ خصائص هذه المرحلة من حيث كونها مرحلة ارتفاع هذه القواعد الشعبيّة. ولكن يجب أن يعلم - كما كرّرنا ذلك أيضاً في بعض المحاضرات السابقة - أنّ نموّ هذه القواعد الشعبيّة لم يكن يعني حقيقةً أنّ مرحلة عمل الإمام كانت مرحلة تسلّم زمام الحكم، بل بالرغم من كلّ هذا النموّ المتزايد في القواعد الشعبيّة كان الإمام يعلم، وكان كلّ شخصٍ عميقٍ - بملاحظة الظروف الموضوعية - يعلم بأنّ الإمام ليس على مستوى تسلّم زمام الحكم؛ لأنّ الحكم الذي يريد أن يتسلّمه الإمام غير هذا الحكم الذي يملك مثل هذه القواعد الشعبية، يعني هذه القواعد الشعبية التي كانت موجودةً في العالم الإسلامي كانت تهيّئ الإمامعليه‌السلام لأن يتسلّم زمام الحكم على مستوى ما يتسلّمه أيّ زعيمٍ آخر. فبإمكان الإمام الرضاعليه‌السلام أن يتسلّم زمام الحكم على النحو الذي تسلّمه المنصور، أو على النحو الذي يتسلّمه أبو السرايا، أو على النحو الذي يتسلّمه الأمين أو المأمون، هذا كان بالإمكان؛ لأنّ هناك قواعد ضخمة، وهذه القواعد الضخمة يمكن أن تمدّه بالجيوش الكبيرة، ويمكن أن تمدّه بأموالٍ كبيرةٍ أيضاً.

ولكن مثل هذه القواعد لم تكن تصلح قاعدةً للحكم الذي يريده الإمام الرضاعليه‌السلام ؛ لأنّ هذه القواعد كانت مرتبطةً بمدرسة الإمام عليعليه‌السلام ارتباطاً فكريّاً غامضاً عاماً، وارتباطاً عاطفياً حرارياً قوياً. هذه الحرارة كان يشعلها في كلّ لحظةٍ الدم الطاهر المراق على ساحة الجهاد من ناحية، ومن ناحية أخرى يسعّرها ظلم الظالمين وجبروت الحكّام الذين كانوا قد اعتدوا على أمر هذه الأُمّة وهتكوا حرمتها وهدروا كرامتها، فهذه القواعد التي كانت ترتبط بمدرسة الإمام

٣٩٠

عليعليه‌السلام كانت ترتبط بمدرسة الإمام عليعليه‌السلام إلى هذا المستوى، وهذا المستوى من القواعد قد يمهِّد لحكمٍ راسخٍ قويٍّ عتيدٍ كما مهَّد لحكم العباسيين، فإنّ العباسيين لم يمهّد لحكمهم إلاّ هذه القواعد وأمثال هذه القواعد، ولكن لم يمهّد هذا الوضع من القواعد لحكم الإمام عليعليه‌السلام الذي هو أُطروحة أولاده المعصومينعليهم‌السلام .

ولهذا نرى أنّ الثورات الأخرى التي عاشها المسلمون من المخلصين للإمام كانت تُمنى كثيراً من الأحيان بالتناقضات الداخلية حتّى من قبل قواعدهم الشعبية، وكان يحصل فيها انحراف بين حينٍ وحين؛ وذلك لأنّ القاعدة لم تكن واعيةً للأُطروحة، كانت حارّةً ولم تكن واعية، والحرارة لا تنتج بناءً حقيقياً للإسلام، وإنّما البناء الحقيقي للإسلام يقوم على أساس الوعي.

فمثلاً محمّد بن إبراهيم هذا الرجل العظيم هذا الرجل كان قائده أبو السرايا، أبو السرايا كان كمالك الأشتر بالنسبة إليه. أبو السرايا ارتبط به ارتباطاً عاطفيّاً(١) ، رآه في طريقه متّجهاً من المدينة إلى مكّة لمّا كان مسافراً من المدينة إلى مكّة واجه شخصين أحدهما - لا أذكر اسمه بل أذكر القصّة - واجهه وقال له: إنّك رجل مهيّأ وبإمكانك أن ترفع الراية، وأن تعرض على المسلمين البيعة على الرضا من آل محمّد، وأن أكون جنديّك وحامل هذه الراية. يقتنع محمّد بن إبراهيم بهذا ويقول له: أعطني الفرصة في التفكير. ثمّ يذهب هذا الشيخ إلى أهله وذويه وأهل البصيرة من ذويه فيستشيرهم في الموضوع، فيقال له: ماذا صنعت ؟ هذا يمثّل شعار عليعليه‌السلام ونحن مؤمنون بالإمام عليعليه‌السلام . إذن يجب أن نعينه ويجب أن نبرز على المسرح. يقول: كيف ؟ يقال له: لأنّ هذا الشخص حينما

____________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٣٤٤ - ٣٤٥ وما بعدها.

٣٩١

يتقدّم في الميدان إلى المسرح وتقع المعركة بينه وبين خلفاء بني العباس إمّا أن ينتصر خلفاء بني العباس وإمّا هو ينتصر، وعلى كلّ حالٍ أنت سوف تفقد كيانك، قال: كيف ؟ قيل له: إذا انتصر خلفاء بني العباس فحسابك واضح؛ لأنّك الشخص الذي هيّجت على هذه الأُطروحة، وإذا انتصر هذا، فإن كان هذا هو السائر في خطّ الإمام عليعليه‌السلام حقيقة إذن فهو سوف يعاملك كما يعامل سائر المسلمين، على أساس أنّك كسائر المسلمين، ولا يعطي ولا يشبع من طموحك وآمالك إلاّ في حدود مصلحة الإسلام، وإذا افترضنا أنّه مستعدّ أن يشبع طموحك خارج نطاق مصلحة الإسلام إذاً ما هو الفرق بينه وبين الخليفة العباسي ؟!

هذا لمّا رأى هذا الكلام منطقياً ذهب إلى محمّد بن إبراهيم اعتذر منه فقال: أنا أعتذر وأنا أعطيك كذا مقداراً من المال تستعين به على أمرك، فقال له: أغناني الله من مالك، واتّجه في طريقه إلى الكوفة. في طريقه إلى الكوفة اجتمع مع أبي السرايا، أبو السرايا استجاب له في الموضوع. أبو السرايا قائد حركة بالنسبة إلى محمّد بن إبراهيم الطباطبائي، مع أنّ هذا الرجل يمارس انحرافاً كبيراً في عملياته، حتّى أنّه في الوقعة الحربية الحاكمة التي انتصر فيها على الجيش الذي أرسل من قبل الحسن بن سهل من بغداد - وكان الحسن بن سهل والي المأمون في بغداد - انتصر عليهم بالغدر. فذهب إلى محمّد بن إبراهيم يريد أن يذكّره، وكان محمّد بن إبراهيم على فراش الموت، كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، فيذكّره بأنّنا انتصرنا على أكبر جيشٍ أرسله الحين بن سهل، كانت قد وصلت الأخبار إلى محمّد بن إبراهيم قال له: إنّي لا أعتبر هذا نصراً؛ لأنّ النصر لا يكون إلاّ بوسائله النظيفة، أمّا إذا كان بوسائل أخرى لا يكون نصراً. إنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام جدّي الذي أحرز النصر لم يباغت قوماً، ولم يبدأ قوماً بقتال، ولم يهتك أموال أولئك حين سيطر، فإذا كنت تريد أن تكون صادق البيعة للرضا من آل محمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستغفر

٣٩٢

لنفسك، وارجع، وليُرجع جميع جنودك ما غنموا من أموالٍ إلى هؤلاء، فإنّهم مسلمون بغاة والباغي لا يجوز أخذ المال منه. وبعد هذا بأيامٍ مات محمّد بن إبراهيم(١) ، يقول الطبري بأنّه أرسل إليه أمير المؤمنين المأمون سمّاً فقتله(٢) .

إذن نعرف من هذا بأنّ القواعد والأرض التي كان يعتمد عليها أمثال هؤلاء كانوا يعيشون المرحلة الحرارية، لا المرحلة الواعية للحركة، ولهذا حينما يتسلّم زمام الحكم حينئذٍ يتساءل كثير من أصحابه، فيفكّرون هل بالإمكان أن نقذف بهم إلى تحقيق أغراضهم ومصالحهم ؟ إذن فهذه المرحلة بالرغم من أنّها كانت مرحلة تهيّؤٍ لتسلّم زمام الحكم على مستوى الحكم الذي يعرفه الناس لكنّها لم تكن على مستوى تسلّم زمام الحكم بالشكل الذي كان يطرقه الإمام؛ ولهذا امتنع الإمامعليه‌السلام عن قبول الخلافة حينما عرضها عليه المأمون، وعن قبول ولاية العهد حينما عرض عليه المأمون ولاية العهد.

الدوافع الحقيقية للمأمون في تنصيبه الإمام وليّاً للعهد:

وكان هذا الموقف الذي قام به المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام كان بالإمكان تفكيره على أساس الدوافع المنفعيّة والإيمانية عند المأمون بخطّ الإمام عليعليه‌السلام ؛ لأنّ المأمون كان ينطوي في نفسه على الإيمان بخطّ الإمامعليه‌السلام ، لكنّه ليس معنى تفكيره بهذا أنّ هذا كان هو الدافع المطلق الحقيقي الذي يعيش كلّ أبعاد نفس المأمون، بالإمكان أنّه كان هناك زاوية في خطّ المأمون تكشف بين حينٍ وحينٍ آخر عن تأثّره بخطّ الإمام عليعليه‌السلام .

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين: ٣٤٩ - ٣٥٤.

(٢) تأريخ الطبري ٨: ٥٢٩، وفيه: أنّ أبا السرايا سمّه.

٣٩٣

لكنّه كانت هناك زوايا أخرى أكبر وأوسع في نفس المأمون، هذه الزوايا الأخرى تمثّل المصالح السياسية، والأغراض الوقتيّة، وبناء صرح لدولته، تلك الزوايا الأخرى يمكن أن نعبّر عنها في أربع نقاط:

النقطة الأولى : هي أنّ المأمون كان يريد أن يُلبس خلافته الثوب الشرعي، وكان يزعم أنّ خلافته بحاجةٍ إلى ثوبٍ شرعيٍّ على أساس أنّ القواعد الشعبيّة المؤمنة بالخلافة العباسية كانت تنظر بريبٍ إلى خلافة المأمون التي لم تنتهِ إليه إلاّ بقتل الخليفة الشرعي السابق الذي هو الأمين، فانتقال الخلافة عن طريق حكم الخليفة الشرعي هذا كان فيه نوع من الريب والتردّد عند القواعد الشعبية المؤمنة ببني العبّاس وخلفاء بني العبّاس والقواعد الشعبيّة الأخرى، أي التي لا تؤمن بخطّ بني العبّاس وإنّما تدور في فلك الإمام عليّعليه‌السلام بمستوىً وآخر، بمختلف المستويات. هذه القواعد الشعبيّة الأخرى لم تكن تنظر إلى الخطّ الذي يعيّن المشروعيّة، لا إلى خلافة المأمون ولا الأمين ولا الرسول ولا آباء الرسول(١) ، منهم من كان يشعر بأنّ الخلافة التي اغتصبها أو التي سيطر عليها بالقوّة وبقتل أخيه مثل هذه الخلافة تحتاج إلى ثوبٍ شرعيٍّ تعتمد عليه قواعده في العالم الإسلامي، وتقدّر في العالم الإسلامي(٢) .

من هنا كان إلباس هذه الخلافة الثوب الشرعي عن طريق استدعاء الإمام الثامنعليه‌السلام الذي كانت الخلافة حقّاً شرعيّاً له بدرجةٍ وأخرى على مستوى إيمان كثير من جماهير العالم الإسلامي، إمّا على مستوى أنّه أفضل أولاد الإمام عليعليه‌السلام ، أو على مستوى من هذه المستويات يوجد هناك إرشاد واضح النقاط بأنّ الإمام الرضاعليه‌السلام يتمتّع بحقٍّ شرعيٍّ للخلافة. فحينما يبعث على الإمام

____________________

(١) و(٢) كذا في الأصل.

٣٩٤

الرضاعليه‌السلام ويقول له: إنّي أنزع الخلافة وأعطيها لك، أوّل الأمر لم يطلب منه ولاية العهد، وإنّما قال: أنا أنزع الخلافة وأعطيها لك لكي يردّها عليه الإمام الرضاعليه‌السلام ، ويكون هذا الردّ من الإمام الرضاعليه‌السلام للخلافة عليه كسباً للثوب الشرعي لهذه الخلافة.

لكنّ الإمام الرضا لم يوافق؛ ولهذا حينما قام المأمون بهذه المناورة قال له بأنّ الخلافة هل هي ثوب ألبسك الله إيّاه، أو لا ؟ فإن كانت ثوباً ألبسك الله إيّاه فلا يكون بإمكانك أن تنزعه لي وتلبسني إيّاه، وإن لم يكن شيئاً أعطاك الله إيّاه إذن فكيف تعطني ما لا تملك(١) .

فأكّد في هذا النصّ الصريح أنّه هو لا يؤمن بشرعيّة الخلافة للمأمون، وأنّ رفض قبول الخلافة ليس معناه إرجاع الخلافة إليه، بل معناه أنّه لا يرى أنّ مثل هذا الإعطاء له مدد(٢) ، بعد أن كانت الخلافة أجنبيّةً عن هذا الشخص المعطي. وبهذا سجّل النصر الذي كان له أثره الكبير في الحاضر وقتئذٍ وفي المستقبل في نزع ثوب المشروعيّة عن خلافة المأمون.

النقطة الأخرى : التي كان بالإمكان افتراض أنّها تمثّل زاويةً أخرى من زوايا نفس المأمون - كما قلنا - كان يعيش مشاكل تلك القواعد الشعبيّة للإمام الرضاعليه‌السلام ومدرسة الإمام عليعليه‌السلام في كلّ أرجاء العالم الإسلامي، كان يريد أن يثبّت هذه القواعد الشعبيّة، كان يريد أن يشتري رضاءها واستسلامها ومواكبتها للوضع الحاكم عن طريق ضمّ قائدها الأمثل، ضمّ إمامها الفكري، بضمّ أمثولتها العليا إلى جانبه، إلى وضعه.

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢: ١٣٩.

(٢) كذا في الأصل.

٣٩٥

وهذا الموضوع أيضاً التفت إليه الإمام الرضاعليه‌السلام وأحبطه؛ وذلك أن سجّل منذ اليوم الأوّل أنّه لم ينضمّ إلى جهاز المأمون، وإنّما هو مجرّد قبولٍ على أساس إصرارٍ من قبل الخليفة المأمون لا أكثر ولا أقلّ؛ ولهذا اشترط في الوثيقة التأريخية التي كتبها الإمام الرضاعليه‌السلام : أنّي لا أمارس أيّ نوعٍ من أنواع السلطة في جهاز الدولة الإسلامية(١) . وهذا معناه بالفهم العامّ الإسلامي وقتئذٍ وإلى يومنا هذا معناه أنّه غير راضٍ، إعلان عن عدم رضاه عن الوضع الحاكم كلّه، وأنّ هذا الوضع الحاكم لا أمارس فيه عملاً، وأنّه يحتاج كلّه إلى تغيير، يحتاج كلّه إلى هدمٍ ثمّ البناء من جديد، فأنا ماذا أصنع في قِبال هذا الوضع الحاكم الذي يحتاج كلّه إلى تغييرٍ ويحتاج إلى تبديل ؟!

ولهذا أشرنا فيما سبق إلى أنّ الفضل بن سهل بعث شخصاً بمئة ألف دينارٍ أو درهم - لا أتذكّر - قال له: اذهب بالمال إلى الكوفة وخذ البيعة في الكوفة للمأمون بالخلافة ولعليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام بولاية العهد. يأتي هذا الرجل إلى الكوفة ليأخذ البيعة للمأمون، إلى ذلك الوقت لم يكن قد بويع بيعة رسميّة في كلّ العالم الإسلامي.

الصحيح في الكوفة لم تكن قد أُخذت له البيعة الرسميّة في العالم الإسلامي ولهذا كان يفتّش المأمون عن ثوب المشروعيّة لخلافته. فجاء مع مئة ألف درهمٍ أو دينارٍ إلى الكوفة ليأخذ البيعة للمأمون ولولاية العهد للإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، الكوفة من أضخم القواعد الشعبيّة للإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام لكن هذه القاعدة لم تبايع الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وإنّما

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢: ١٤٠.

٣٩٦

تبايعه بالخلافة(١) .

إذن فمن هذا يعرف بأنّ ولاية العهد للإمام الرضا ليس معناها أنّه أصبح جزءاً من الجهاز الحاكم للمأمون، فلم يستطع المأمون من هذا الطريق أن يشتري هذه القواعد الشعبيّة، أن يرتبط ولائياً وروحياً بمدرسة الإمام عليعليه‌السلام .

في مرّةٍ من المرّات التجأ إلى الإمام الرضاعليه‌السلام قال له: لو كنت تكتب إلى شيعتك الذي أخذ كلّ أرجاء العالم الإسلامي أن يسكتوا عنّي، قال: أنا لا أكتب. امتنععليه‌السلام عن الكتابة إلى قواعده الشعبيّة بأن يسكتوا عن هذا الشخص الذي هو يعبِّر عن نفسه بأنّه وليّ العهد بالنسبة إليه(٢) .

النقطة الثانية : هي أنّه...(٣) خطر الإمام على المأمون كان يشعر بأنّ مجيء الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام إلى هذا الجهاز الحاكم سوف لن يغيّر هذا الجهاز؛ لأنّ هذا الجهاز الحاكم كان قدراً أكبر من هذا الفرد بالذات، هذا الجهاز الحاكم كان مستمداً من انحراف كبيرٍ وتعرفه الأُمّة الإسلامية كلّها، وهذا الانحراف الكبير لن يتغيّر بيومٍ أو بيومين، كان يشعر بهذا، وحينما يأتي الإمام الرضاعليه‌السلام حينئذٍ يمكن للخليفة المأمون ويمكن للمنطق الحاكم أن يقول وقتئذٍ بأنّ هؤلاء تجّار أُطروحة لا أنّهم أصحاب أُطروحة حقيقية، هؤلاء يتاجرون بأُطروحة يهزّون بها آمال المسلمين وآلام المسلمين، وليسوا أصحاب أُطروحة حقيقية؛ ولهذا حينما فتحتُ أمامه أبواب الدنيا، أبواب خلافة على البلاد، أعطيناه أبواب خلافة على طريقتنا تركوا أطروحتهم وجاءوا إلينا.

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري ٧: ١٤٣ - ١٤٤. وفيه: مئة ألف درهم.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢: ١٦٦.

(٣) كلمات غير مفهومة.

٣٩٧

والنقطة الأخيرة : التي كانت ذات دورٍ كبيرٍ في هذه العملية هي محاولة عزل الإمام الرضاعليه‌السلام عن قواعده الشعبية ووضعه في سياجٍ يحكم بعزله عن الاتّصال بشيعته، وفي الواقع أنّ عملية العزل بين الإمامعليه‌السلام وبين القواعد الشعبية كانت من الخصائص العامة للمرحلة الثالثة، المرحلة الثالثة التي بدأت بالإمام الرضاعليه‌السلام ، كان من خصائصها العامّة هذا العزل،...(١) والتعذيب، ووُضِعوا تحت الرقابة المستمرّة. والروايات عندنا تدلّ على أنّ الإمام الرضاعليه‌السلام حينما انسحب من المدينة إلى إيران كان معه حاجبه، وهذا الحاجب كان من خواصّ الإمام الرضاعليه‌السلام ، وكانت تجمع الأموال للإمام الرضاعليه‌السلام من مختلف أرجاء العالم الإسلامي على يد هذا الحاجب، إلاّ أنّ هذا الحاجب كان يبدو أنّه من أولئك الأشخاص الذين يبيعون ضميرهم، يبيعون بطونهم للدنيا، تعامل مع المأمون، اشتراه المأمون، أصبح جاسوساً وعيناً على الإمام الرضا لحساب المأمون ولحساب الفضل بن سهل، كان لا ينطق الإمام الرضاعليه‌السلام بكلام ولا يتحرّك ويتصّل بأحد إلاّ وتأتي الأخبار للمأمون(٢) .

____________________

(١) هنا جملات ساقطة من الأصل.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢: ١٥٣.

٣٩٨

الإمامة المبكّرة

٣٩٩

٤٠٠