أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 110006
تحميل: 7846

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110006 / تحميل: 7846
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ما نهمه وما لا نفهمه عقليّاً من القيم والمثل يصبح أمراً حسّياً لديهم، يحسّونه ويسمعونه ويبصرونه؛ ذلك أنّ الأفكار التي ترد إلى ذهن الإنسان تارةً ترد إلى ذهن الإنسان وهو لا يدرك إدراكاً حسّياً مصدر هذه الأفكار. الأفكار التي ترد إلى الإنسان كلّنا نؤمن بأنّها أفكار بقدرة الله وعنايته وردت إلى ذهن الإنسان وإلى فكره، لكنّ إيماننا بذلك إيمان عقلي نظري لا أنّنا نحسّ هذا دائماً. نؤمن به إيماناّ نظريّاً عقليّاً بأنّ الله تعالى هو مصدر العلم والمعرفة والأفكار الخيّرة في ذهن الإنسان؛ ولهذا أيّ فكرةٍ من هذا القبيل تطرأ في ذهن الإنسان نؤمن عقليّاّ بأنّها من الله سبحانه وتعالى.

لكن هناك فرق كبير بين حالتين، بين حالة أن ترد فكرة إلى ذهن إنسانٍ فيحسّ هذا الإنسان بأنّ هذه الفكرة أُلقيت إليه من أعلى، بحيث يدرك إلقاءها من أعلى، كما تدرك أنت الآن أنّ الحجر وقع من أعلى، أنّ قطرة المطر وقعت من أعلى، يدرك هذا بكلّ حسّه وبكلّ سمعه وبصره، يدرك أنّ هذه القطرة، هذا الفيض، هذا الإشعاع قد وقع عليه من أعلى، اُلقي عليه من قبل الله تعالى.

وأخرى لا يدرك هذا على مستوى الحسّ، يدركه عقليّاً لكن لا يدرك حسّياً، يدرك أنّ هناك فكرةً تعيش في ذهنه نيّرةً خيّرة لكنّه لم يرَ بعينه، لم يرَ بأنّ هناك يداً قذفت بهذه الفكرة إلى ذهنه.

الأفكار الاعتيادية التي تعيش في أذهان الناس هي من القسم الثاني، وأمّا القسم الأوّل وهي الأفكار التي تقذف في ذهن الإنسان فيتوفّر لدى ذاك الإنسان حسّ بها بأنّها قّذفت إليه من الله سبحانه وتعالى، وأُفيضت عليه من واهب الوجود، وواهب المعرفة. فهذه أيضاً على أقسام:

لأنّ هذا الإنسان تارةً قد بلغ حسّه إلى القمّة فاستطاع أن يحسّ بالعطاء الإلهي من كلّ وجوهه، من كلّ جوانبه، يسمعه ويبصره، يراه في جميع جهاته ،

٤١

يتفاعل معه بكلّ ما يمكن للحسّ أن يتفاعل مع الحقيقة، هذا هو الذي يعبّر عنه بمصطلح الروايات - على ما يظهر من بعض الروايات - بمقامٍ عالٍ من الأنبياء، مقام الرسول الذي يسمع الصوت ويرى الشخص أيضاً. ويمكن أن نفترض أنّ هناك ألواناً أخرى من الحسّ تدعم هذا الحسّ السمعي والبصري عند هذا الإنسان العظيم، فهو يحسّ بالحقيقة المعطاة من الله تعالى من جميع جوانبها، يحسّ بها بكلّ ما أوتي من أدوات الحسّ بالنسبة إليه. هذا هو الدرجة العالية من الحسّ وقابليّة الاتّصال مع العطاء الإلهي.

وأخرى يفترض أن يحسّ بها من بعض جوانبها وهو الذي عبّر عنه بأنّه يسمع الصوت ولا يرى الشخص، هذا إحساس إلاّ أنّه إحساس ناقص.

وقد يفترض أنّه أقلّ من ذلك، وهو الذي عبّر عنه في بعض الروايات بأنّه يرى الرؤيا في المنام(١) . هنا يرى شيئاً، هذه الرؤيا المنامية طبعاً تختلف عن الرؤيا في اليقظة من حيث درجة الوضوح. فهنا فارق كيفي بين الحسّ في الرؤيا المناميّة، والرؤيا في عالم اليقظة والانتباه الكامل.

هناك درجات من الحسّ، وعلى وفق هذه الدرجات وضعت مصطلحات:( الرسول ) و(النبيّ ) و( المحدَّث ) و( الإمام ) ونحو ذلك من المصطلحات، إلاّ أنّ الذي يمثّل أعلى هذه الدرجات هو الوحي المتمثّل في ملكٍ، يتفاعل معه النبيّ تفاعلاً حسّياً من جميع جوانبه، كما كان يعيش سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله مع جبرائيل، هنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعيش الحقيقة الإلهيّة عيشاً حسّياً من جميع جوانبها، يعيشها كما نعيش نحن على مستوى حسّنا وجود رفيقنا وصديقنا، لكن مع فارقٍ بين هذين الحسّين بدرجة الفارق بين المحسوسين.

____________________

(١) راجع: أصول الكافي ١: ١٧٦، باب الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدّث.

٤٢

الحسّ هو المربّي للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

هذا الحسّ هو الذي استطاع أن يربّي شخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واُعدّ لكي يكون الممثّل الأوّل والرائد الأوّل لخطّ هذه القيم والمثل والأهداف الكبيرة، يعني هذا الحسّ قام بدور التربية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّه استنزل القيم والمثل والأهداف والاعتبارات العظيمة، استنزلها من مستواها الغائم المبهم، من مستواها الغامض العقلي، من مستوى النظريات العموميّة، فأعطاها معالم الحسّ التي لا ينفعل الإنسان - كما قلنا - بقدر ما ينفعل بها. فبهذا تصبح هذه الصورة المحسوسة التي هبطت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على أيٍّ من الأنبياء، تصبح هذه الصورة ملء وجوده، ملء روحه، ملء كيانه، تصبح همّه الشاغل له ليله ونهاره؛ لأنّها هي أمامه، هو يراها، ويحسّها، هو يلمسها ويشمّها بأروع ممّا نلمس ونشمّ ونسمع ونبصر.

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الحسّ المربّي للآخرين:

ثمّ هذا الشخص الذي استطاع أن يربّيه الحسّ القائم على الوحي يصبح هو حسّاً مربّياً للآخرين، فالآخرون من أبناء البشريّة الذين لم تُتِح لهم ظروفهم وملابساتهم وعناية الله أن يرتفعوا هم إلى مستوى هذا الحسّ، الذين لم يتح لهم هذا الشرف العظيم، سوف يتاح لهم الحسّ لكن بالشكل غير المباشر، حسّ بالحسّ، لا حسّ بالحقيقة الإلهيّة مباشرة، حسّ بالمرآة الحقيقية الإلهيّة، انعكست عليها هذه الحقيقة الإلهية، يعني المعطى الإلهي، الثقافة الإلهيّة، الثقافة الإلهيّة انعكست على هذه المرآة، والآخرون يحسّون بهذه المرآة، بينما النبيّ نفسه كان يحسّ مباشرةً بتلك الثقافة الإلهيّة بما هي أمرٌ حسّي، لا بما هي أمرٌ نظريّ. أمّا نحن نحسّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بما هو رجلٌ عظيم، بما هو رجل استطاع أن يثبت للبشريّة

٤٣

أنّ هناك اعتباراً وهدفاً فوق كلّ المصالح والاعتبارات، فوق كلّ الأنانيّات، فوق كلّ الأمجاد المزيّفة والكرامات المحدودة. أنّ هناك إنساناً لا تنفد طاقته إذا ربط طاقته بطاقة الله، أنّ هناك إنساناً لا ينقطع نفَسه إذا كان دائماً يسير على خطّ رسالة الله سبحانه وتعالى، هذا المضمون الذي للإنسان أن يدركه عقليّاً، هذا المضمون الذي حشّد أرسطو وأفلاطون مئات الكتب بالبرهنة العقليّة عليه، هذا على إمكانية استمداد المتناهي من اللا متناهي، هذا المعنى أصبح لدى البشريّة أمراً محسوساً، خرج من نطاق أوراق أرسطو وأفلاطون التي لم تستطع أن تصنع شيئاً، والتي لم تستطع أن تفتح قلب إنسانٍ على الصلة بهذا اللا متناهي. خرج من مستوى هذه الأوراق وأصبح أمراً حسّياً يعيش بين الناس، يعيش في قلوب الناس، يعيش مع تأريخ الناس؛ لكي يكون هذا الأمر المحسوس هو التعبير القوي دائماً عن تلك القيم والمثل، وهو المربّي للبشريّة على أساس تلك القيم والمثل.

فالوحي بحسب الحقيقة هو المربّي الأوّل للبشريّة الذي لم يكن بالإمكان للبشريّة أن تربّى بدونه؛ لأنّ البشريّة بدون الوحي ليس لديها إلاّ حسّ بالمادّة، وما على المادّة من مادّيات، والإدراك العقلي الغائم قد يصل إلى مستوى الإيمان، ولا يدخل إلى ضميره، ولا يسع كلّ وجوده، ولا يتفاعل مع مشاعره وعواطفه، ولا بدّ من أن يستنزل ذاك العقل إلى مستوى الحسّ، لا بدّ أن تستنزل تلك المعقولات إلى مستوى الحسّ، وحيث إنّ هذا ليس بالإمكان أن يعمل مع كلّ الناس؛ لأنّه ليس كلّ الناس مهيّئاً لهذا، ولهذا استكفي لهذه العمليّة أناس معيّنون أوجد الله تبارك وتعالى فيهم الحسّ القائد الرائد، هذا الحسّ ربّاهم أوّلاً وبالذات، ثمّ خلق حسّاً ثانوياً، وجوداً حسّياً ثانوياً، هذا الوجود الحسّي الثانوي كان هو المربّى للبشريّة.

٤٤

ونختم الحديث بضرورة الاستفادة من هذه الفكرة، يعني لئن بقيت القيم والمثل والأهداف والاعتبارات عقليّةً محضةً فهي سوف تصبح قليلة الفهم، ضعيفة الجذب بالنسبة إلى الإنسان، وكلّما أمكن تمثيلها حسّياً أصبحت أقوى، وأصبحت أكثر قدرةً على الجذب والدفع. فإذا كان هذا حقّاً فيجب أن نخطّط لأنفسنا ونخطّط في علاقتنا مع الآخرين على هذا الأساس.

استنزال القيم العقليّة إلى مستوى المحسوسات:

ومعنى أن نخطّط في أنفسنا على هذا يعني أن لا نكتفي بأفكارٍ عقليّةٍ نؤمن بها نضعها في زاوية عقلنا كإيمان الفلاسفة بآرائهم الفلسفيّة، لا يكفي أن نؤمن بهذه القيم والمثل إيماناً عقلياً صرفاً، بل يجب أن نحاول أن نستنزلها إلى أقصى درجةٍ ممكنةٍ من الوضوح الحسّي. طبعاً نحن لا نطمع أن نكون أنبياء، لا نطمع أن نحظى بهذا الشرف العظيم الذي انغلق على البشرية بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن مع هذا ( الوضوح ) مقول بالتشكيك على حسب اصطلاح المناطقة، ليس كلّ درجةٍ من الوضوح معناها النبوّة، هناك ملايين من درجة الوضوح قبل أن تصبح نبيّاً، يمكن أن تكسب ملايين من الدرجات، وهذه المراتب المتصاعدة قبل أن تبلغ إلى الدرجة التي أصبح فيها موسى في لحظةٍ استحقّ فيها أن يخاطبه الله، أو قبل أن يصل الإنسان إلى الدرجة بلغ إليها محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما هبط عليه أشرف كتب السماء، هناك ملايين من الدرجات، وهذه الملايين بابها مفتوح أمامنا ولا بدّ لنا أن لا نقتصر، أن لا نزهد في هذا التطوير العقلي للقيم والمثل الموجود عندنا، لا بدّ أن نطمع في أكثر من هذا من الوضوح، وفي أكثر من هذا من التحدّد ومن الحسّية، لا بدّ لنا أن نفكّر في أن يُعبّأ كلّ وجودنا بهذه القيم والمثل؛ لكي تكون على مستوى المحسوسات بالنسبة إلينا.

٤٥

أساليب استنزال القيم العقليّة إلى مستوى المحسوسات:

من أساليب استنزال هذه القيم والمثل إلى مستوى المحسوسات هو التأثير الذهني عليها باستمرار، هو الإيحاء بها، إيحاء الإنسان بها إلى نفسه باستمرار، حينما توحي إلى نفسك باستمرارٍ بهذه الأفكار الرفيعة، حينما توحي إلى نفسك باستمرارٍ بأنّك عبد مملوك لله سبحانه وتعالى، وأنّ الله تبارك وتعالى هو المالك المطلق لأمرك وسلوكك ووجودك، وهو المخطّط لوضعك ومستقبلك وحاضرك، وأنّه هو الذي يرعاك بعينٍ لا تنام في دنياك وفي آخرتك، حينما توحي إلى نفسك بهذه العبوديّة وتوحي إلى نفسك باستمرارٍ بمستلزمات هذه العبوديّة؛ من أنّك مسئول أمام هذا المولى العظيم، مسئول أن تطيعه، أن تطبّق خطّه، أن تلتزم رسالته، أن تدافع عن رايته، أن تلتزم شعاراته، حينما تُسرّ في نفسك وتؤكّد على نفسك باستمرار أنّ هذا هو معنى العبودية، لأنّك دائماً وأبداً يجب أن عيش لله. حينما توحي إلى نفسك بأنّك يجب أن تعيش لله سوف تتعمّق دقّة العيش لله في ذهنك، سوف تتّسع، سوف تصبح بالتدريج شبحاً يكاد أن يكون حسّياً بعد أن كان نظريّاً عقليّاً صرفاً.

أليس هناك أشخاص من الأولياء والعلماء والصدّيقين قد استطاعوا أن يبصروا محتوى هذه القيم والمثل باُمّ أعينهم ؟ ولم يستطيعوا أن يبصروها بأُمّ أعينهم إلاّ بعد أن عاشوها عيشاً تفصيليّاً مع الالتفات التفصيلي الكاشف، وهذا العمليّة شاقّة جدّاً؛ لأنّ الإنسان - كما قلنا - ينفعل بالحسّ، وما أكثر المحسوسات من أمامه ومن خلفه، الدنيا كلّها بين يديه، تمتّع بحسّه في مختلف الأشياء، وهو يجب عليه دائماً وهو يعيش في هذه الدنيا التي تنقل إلى عينه مئات المبصرات، وتنقل مئات المسموعات، يجب عليه أن يلقّن نفسه دائماً بهذه الأفكار، ويؤكّد

٤٦

هذه الأفكار الخاصّة في لحظات ارتفاعه وفي لحظات تساميه؛ لأنّ أكثر الناس - إلاّ من عصم الله - تحصل له لحظات التسامي وتحصل له لحظات الانخفاض.

لحظة الجلوة والانفتاح:

ليس كلّ إنسان يعيش محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله مئة بالمئة، وإلاّ لكان كلّ الناس من طلاّبه الحقيقيّين، كلّ إنسانٍ هو لا يعيش محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ لحظات معيّنة تتّسع وتضيق بقدر تفاعل هذا الإنسان برسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله . إذن، ففي تلك اللحظات التي تمرّ على أيّ واحدٍ منّا ويحسّ بأنّ قلبه منفتح لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ عواطفه، ومشاعره كلّها متأجّجة بنور رسالة هذا النبيّ العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في تلك اللحظات يغتنم تلك الفرصة ليختزن، وأنا أُُؤمن بعملية الاختزان، يعني أُؤمن بأنّ الإنسان في هذه اللحظة إذا استوعب أفكاره وأكّد على مضمونٍ معيّنٍ وخزنه في نفسه سوف يفتح له هذا الاختزان في لحظات الضعف، بعد هذا حينما يفارق هذه الجلوة العظيمة، حينما يعود إلى حياته الاعتياديّة سوف يتعمّق بالتدريج هذا الرصيد، هذه البذرة التي وضعها في لحظة الجلوة، في لحظة الانفتاح المطلق على أشرف رسالات السماء، تلك البذرة سوف تشعره، سوف تقول له في تلك اللحظة؛ إيّاك من الانحراف، إيّاك من المعصية، إيّاك من أن تنحرف قيد أنملةٍ عن خطّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

كلّما ربط الإنسان نفسه في لحظات الجلوة، في لحظات الانفتاح إذا ربط نفسه بقيود محمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله واستطاع في لحظةٍ من هذه اللحظات أن يعاهد نبيّه الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله على أن لا ينحرف عن رسالته، على أن لا يتململ عن خطّه، على أن يعيشه ويعيش أهدافه ورسالته وأحكامه، حينئذٍ بعد هذا حينما تفارقه هذه الجلوة - وكثيراً ما تفارقه - إذا أراد أن ينحرف يتذكّر عهده، يتذكّر صلته بمحمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تصبح العلاقة حينئذٍ ليست مجرّد عقل، مجرّد نظريّةٍ عقليّة، بل هناك

٤٧

اتّفاق، هناك معاهدة، هناك بيعة أعطاها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في لحظة حسّ، في لحظةٍ قريبةٍ من الحسّ، كان كأنّه يرى النبيّ أمامه فبايعه، لو أنّ واحدٍ منّا رأى النبيّ، استطاع أن يرى النبيّ بأُمّ عينيه أو رأى صاحب الأمرعليه‌السلام . تصوّروا أنّ أيّ واحدٍ منّا لو أُتيح له هذا الشرف العظيم ورأى إمامهعليه‌السلام ، رأى قائده بأُمّ عينيه وعاهده وجهاً لوجهٍ على أن يعصي، على أن لا ينحرف، على أن لا يخون رسالته، هل بالإمكان لهذا الإنسان بعد هذا ولو فارقته تلك الجلوة، ولو ذهب إلى ما ذهب، ولو عاش أيّ مكانٍ وأيّ زمان، هل يمكنه أن يعصي ؟ هل يمكنه أن ينحرف ؟ أو يتذكّر دائماً صورة وليّ الأمرعليه‌السلام وهو يأخذ منه هذه البيعة. نفس هذه العملية يمكن أن يعلمها أيّ واحدٍ من عندنا لكن في لحظة الجلوة، في لحظة الانفتاح.

كلّ إنسانٍ من عندنا يعيش لحظة لقاء الإمامعليه‌السلام من دون أن يلقى الإمام ولو مرّةً واحدةً في حياته، هذه المرّة الواحدة أو المرّتين أو الثلاثة يجب أن نعمل لكي تتكرّر؛ لأنّه بالإمكان أن نعيش هذه اللحظة دائماً، هذا ليس أمراً مستحيلاً بل هو أمرٌ ممكن، والقصّة إعدادٍ وتهيئةٍ لأن نعيش هذه اللحظة، لأن نوسّع هذه اللحظة من حياتنا، لكي تأخذ كلّ حياتنا والجزء الأكبر من حياتنا، لكن حتّى في حالة عدم توسعة هذه اللحظة، حتّى في حالة وجود لحظاتٍ أكثر بكثيرٍ نعيش فيها الدنيا، نعيش فيها أهواء الدنيا ورغبات الدنيا، مع هذا يجب أن تخلق فينا تلك اللحظة رصيداً، يجب أن تخلق فينا بذرة عصمة، قوّة قادرة على أن نقول: لا، حينما يقول الإسلام: لا، و: نعم، حينما يقول الإسلام ذلك، لا نُقدم حينما يقول الإسلام: لا تُقدم. أو أُقدِم حينما يقول الإسلام: أقدِم. هذه اللحظة يجب أن نغتنمها، ويجب أن نختزن، لكي تتحوّل بالتدريج هذه المفاهيم إلى حقائق، وهذه الحقائق إلى محسوسات، وهذه المحسوسات إلى جهادٍ نعيشه بكلّ عواطفنا ومشاعرنا وانفعالاتنا آناء الليل والنهار. هذه هي تجربتنا نحن، يعني نحن بيننا

٤٨

وبين أنفسنا، ونحن ما أحوجنا إلى ذلك؛ لأنّ المفروض أنّنا نحن الذين يجب أن نبلّغ للناس، نحن الذين يجب أن نُشعّ بنور الرسالة على الناس، نحن الذين يجب أن نرسم الطريق والدرب، نحدّد معالم الطريق للأمّة والمسلمين، إذن فما أحوجنا إلى أن يتبيّن لنا الطريق تبيّناً حسّياً، تبيّناً أقرب ما يكون إلى تبيّن الأنبياء وطرقهم.

ليس عبثاً وليس صدفةً أنّ رائد الطريق دائماً كان إنساناً يعيش الوحي؛ لأنّه كان لا بدّ له أن يعيش طريقه بأعلى درجةٍ ممكنةٍ من الحسّ حتّى لا ينحرف، حتّى لا يتململ، حتّى لا يضيع، حتّى لا يكون سبباً في ضلال الآخرين، ليس هذا صدفة. إذن فلا بدّ لنا أن نطمع فيها أكبر درجةٍ ممكنةٍ بالنسبة إلى ظروفنا وملابساتنا من الحسّ، يجب أن ندعو، أن نتضرّع إلى الله دائماً لأن يفتح لنا، يفتح أمام أعيننا معالم الطريق، أن يرينا الطريق رؤية عينٍ لا رؤية عقلٍ فقط، أن يجعل هذه القيم وهذه المثل والطريق إلى تجسيد هذه القيم وهذه المثل شيئاً محسوساً بكلّ منعطفات هذا الطريق وبكلّ صعوبات هذا الطريق، وما يمكن أن يصادفه في أثناء هذا الطريق، لا بدّ لنا أن نفكّر في أن نحصّل أكبر درجةٍ ممكنةٍ من الوضوح في هذا الطريق، هذا بيننا وبين أنفسنا.

ما هي العبرة المتوخّاة ؟

وأمّا العبرة التي نأخذها بالنسبة إلينا مع الآخرين، نحن أيضاً يجب أن نفكّر في أنّنا سوف لن نطمع في هداية الآخرين عن طريق إعطاء المفاهيم فقط، عن طريق إعطاء النظريات المجرّدة فقط، إعطاء النظريات المجرّدة فقط وتصنيف الكتب العميقة، كلّ هذا لا يكفي، إلقاء المحاضرات النظريّة لا يكفي. بل لا بدّ لنا أن نبني تأثيرنا في الآخرين أيضاً على مستوى الحسّ، يجب أن نجعل الآخرين

٤٩

يحسّون بنا بما ينفعلون به انفعالاً طيّباً طاهراً مثاليّاً، فإنّ الآخرين مثلنا، الآخرون هم بشر، والبشر ينفعلون بالحسّ أكثر ممّا ينفعلون بالعقل، فلا بدّ لنا إذن أن نعتمد على هذا الرصيد أكثر ممّا نعتمد على ذلك الرصيد. كتاب نظري مئة بالمئة لا يساوي أن تعيش الحياة التي تمثّل خطّ الأنبياءعليهم‌السلام ، حينما تعيش هذه الحياة بوجودك، بوضعك، بأخلاقك، بإيمانك بالنار والجنّة، إيمانك بالنار والجنّة حينما ينزل إلى مستوى الحسّ، إلى مستوى الرقابة الشديدة، إلى مستوى العصمة، حينما ينزل إلى هذا المستوى يصبح أمراً محسوساً، يصبح هذا الإيمان أمراً حسّياً حينئذٍ سوف يكهرب الآخرين، سوف يشجّع الآخرين. فلا بدّ لنا في حياتنا مع الآخرين والتأثير على الآخرين أن لا نطمع بالتأثير عليهم على مستوى النظريّات فحسب، فإنّ هذا وحده لا يكفي وإن كان ضرورياً أيضاً، ولكن يجب أن نضيف إلى التأثير على مستوى النظريات تطهير أنفسنا، وتكميل أرواحنا، وتقريب سلوكنا من سلوك الأنبياء والأوصياء؛ لنستطيع أن نجسّد تلك القيم والمثل بوجودنا أمام حسّ الآخرين قبل أن نعطيها لعقول الآخرين أو توأماً مع إعطائها لعقول الآخرين.

اللهمّ وفّقنا للسير في خطّ أشرف أنبيائك، والالتزام بتعاليمه.

وغفر الله لنا ولكم جميعاً.

٥٠

الاتجاه الشمولي

في دراسة حياة الأئمّةعليهم‌السلام

٥١

٥٢

بسم الله الرحمن الرحيم*

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على القادة من حملة الرسالة الكبرى أشرف الأنبياء محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد، فإنّي أريد في هذا الحديث معكم أيّها الإخوة أن اُعبّر عن اتّجاه معيّن في دراسة حياة الأئمّةعليهم‌السلام ، وسوف لا يتّسع الحديث معكم في حدود هذه الفرصة أن يرسم اتجاهاً معيّناً ويجسّده أو يخطّط له، وإنّما كلّ ما أحاوله هو إثارة التفكير حول هذا الاتجاه وإعطاء بعض الملامح العامة عن حياة الأئمّةعليهم‌السلام .

النظرة الكّليّة والتجزيئيّة لحياة الأئمّةعليهم‌السلام :

وهذا الاتجاه الذي أريد أن أتحدّث إليكم عنه هو الاتجاه الذي يتناول حياة الإمام ويدرس تأريخه على أساس النظرة الكلّية، بدلاً عن النظرة التجزيئية، أي: أن ينظر إلى الأئمّة ككلٍّ مترابطٍ ويدرس هذا الكلّ ويكتشف ملامحه العامّة، وأهدافه المشتركة، ومزاجه الأصيل، ويتفهّم الترابط بين خطواته.

____________________

(*) بحثٌ كتبه السيّد الشهيد وأُلقي في الجلسة الخامسة للموسم الثقافي الأوّل لجمعيّة الرابط الأدبيّة في النجف الأشرف سنة ١٣٨٦ ه- - ١٩٦٦ م.

٥٣

وبالتالي الدور الذي مارسه الأئمّةعليهم‌السلام جميعاً في الحياة الإسلامية، ولا أُريد بهذا أن أدرس حياة الأئمّة على أساس النظرة التجزيئيّة أي دراسة كلّ إمام بصورة مستقلّة، بل إنّ هذه الدراسة التجزيئيّة نفسها ضروريّة لإنجاز دراسة شاملة للأئمة ككلّ، إذ لا بدّ لنا أوّلاً أن ندرس الأئمّة بصورة مجزّأة ومستوعبة إلى أوسع مدى ممكن، حياة كلّ إمام، بكلّ ما تزخر به من ملامح وأهداف ونشاط، حتّى نتمكّن بعد هذا أن ندرسه ككلٍّ ونستخلص الدور المشترك للأئمةعليهم‌السلام جميعاً وما يعبّر عنه من ملامح وأهداف وترابط.

الفرق بين النظرتين:

وإذا قمنا بدراسة أحوال الأئمّةعليهم‌السلام على هذين المستويين فسوف نواجه على المستوى الأوّل اختلافاً في الحالات، وتبايناً في السلوك، وتناقضاً من الناحية الشخصيّة بين الأدوات التي مارسها الأئمّةعليهم‌السلام . فالحسنعليه‌السلام هادَنَ معاوية، بينما حارب الحسينعليه‌السلام يزيد حتّى قُتل، وحياة السجّادعليه‌السلام فائحة بالدعاء، بينما حياة الباقرعليه‌السلام فائحة بالحديث والفقه، وهكذا....

وأمّا على المستوى الثاني حينما نحاول اكتشاف الخصائص العامّة والأمور والدور المشترك للأئمة ككلٍّ فسوف تزول كلّ تلك الاختلافات والتناقضات، لأنّها تبدو على هذا المستوى مجرّد تعابير مختلفة عن حقيقة واحدة، وإنّما اختلف التعبير عنها وفقاً لاختلاف الظروف والملابسات التي مرّ بها كلّ إمامٍ، وعاشتها القضية الإسلامية والشيعة في عصره، من الظروف والملابسات التي مرّت بالرسالة في عهد إمامٍ آخر، ويمكننا عن طريق دراسة الأئمّة على أساس النظرة الكلّية أن نخرج بنتائج أضخم من مجموع النتائج التي تتمخّض عنها الدراسات التجزيئية؛ لأنّنا سوف نكشف ترابطاً بين أعمالهم.

٥٤

وسوف نستخدم مثالاً بسيطاً لتوضيح الفكرة، فنحن نقرأ في حياة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه جمع الصحابة في خلافته واستشهدهم على نصوص الإمامة، وشهد بذلك عدد كبير بالسماع عن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

ونقرأ في حياة الإمام الحسينعليه‌السلام أنّه جمع في عَرَفة على عهد معاوية من تبقّى من خيار الصحابة والمهاجرين وعدداً كبيراً من التابعين وطلب منهم أن يحدّثوا بنصوص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في عليّ وأهل البيتعليهم‌السلام (٢) .

ونقرأ في حياة الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قام بنفس العمليّة واستشهد التابعين وتابعي التابعين(٣) .

وحين ندرس الأئمّة ككلٍّ ونربط بين هذه النشاطات بعضها ببعض، ونلاحظ أنّ العمليات الثلاث وضعت على ثلاثة أجيال نجد أنفسنا أمام تخطيط مترابط يكمّل بعضه بعضاً، يستهدف الحفاظ على تواتر النصوص عبر أجيال عديدة حتّى تصبح في مستوىً من الوضوح والاشتهار يتحدّى كلّ مؤامرات الإخفاء والتحديد.

وفي عقيدتي أنّ وجود دور مشترك مارسه الأئمّةعليهم‌السلام جميعاً ليس مجرّد افتراض نبحث فيه عن مبرّراته التأريخية، وإنّما هو ممّا تفرضه العقيدة نفسها، وفكرة الإمامة بالذات؛ لأنّ الإمامة واحدة في المجتمع بمسؤولياتها وشروطها، فيجب أن تنعكس انعكاساً واحداً في سلوك الأئمّة وأدوارهم مهما اختلفت ألوانها الظاهرية بسبب الظروف والملابسات، ويجب أن يشكّل الأئمّةعليهم‌السلام بمجموعهم

____________________

(١) راجع: الغدير ١: ٣٣٩ - ٣٧٨.

(٢) راجع: الاحتجاج ٢: ٨٧ - ٨٨.

(٣) راجع: بحار الأنوار ٤٦: ٣٤٧ - ٣٤٨، باب مناظراتهعليه‌السلام مع المخالفين، الحديث الأوّل.

٥٥

وحدة مترابطة الأجزاء ليواصل كلّ جزءٍ من تلك الوحدة دور الجزء الآخر ويكمله.

الدور المشترك للأئمّةعليهم‌السلام :

إذن فما هو الدور المشترك للأئمّةعليهم‌السلام ؟ هذا هو السؤال التي يقتبس على ضوء ما تقدّم، وقد لا نحتاج إلى شيء من البحث لكي نتّفق بسرعة على نوعيّة الدور المشترك الذي أُُسند إلى الأئمّة في تخطيط الرسالة، فكلّنا نعلم أنّ الرسالة الإسلامية بوصفها رسالةً عقائديةً قد خطّطت لحماية نفسها من الانحراف وضمان نجاح التجربة خلال تطبيقها على مرّ الزمن، فأُوكل أمر صيانة التجربة وتمويلها تثقيفياً، وتوجيهها سياسياً إلى الأئمّةعليهم‌السلام ؛ بوصفهم أشخاصاً عقائديين، الذين بلغوا في مستواهم العقائدي درجة العصمة عن الانحراف والزلل والخطأ. غير أنّنا حين نحاول أن نحدّد الدور المشترك الذي مارسه الأئمّةعليهم‌السلام ككلٍّ في تأريخهم المجيد لا نعني هذا الدور الخيالي في تزعّم التجربة الإسلامية؛ لأنّنا نعلم جميعاً أنّ الأحداث المؤلمة التي وقعت بعد وفاة الرائد الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أقصت الأئمّةعليهم‌السلام عن دورهم القيادي في تزعّم التجربة، وسلّمت مقاليد الرسالة ومسئوليّتها وتطبيقها إلى أشخاصٍ آخرين انحرف معهم التخطيط، واشتّد الانحراف على مرّ الزمن، وإنّما نريد بالدور المشترك في تأريخ الأئمّةعليهم‌السلام : الموقف العامّ الذي وقفوه في خضمّ الأحداث والمشاكل التي اكتنفت الرسالة بعد انحراف التجربة وإقصائهم عن مركزهم القيادي في زعامتها.

وهنا نجد تصوّراً شائعاً لدى كثير من الناس الذي اعتادوا أن يعبّروا عن الأئمّة بوصفهم أُناسا مظلومين فقط قد أُقصوا عن مركز القيادة، وأقرّت الأئمّة هذا

٥٦

الإقصاء، ومارسوا بسبب ذلك ألوان الاضطهاد والحرمة، فهؤلاء الناس يعتقدون أنّ دور الأئمّةعليهم‌السلام في حياتهم كان دوراً سلبياً على الأغلب نتيجةً لإقصائهم عن مجال الحكم، فحالهم حال من يملك داراً يغتصب منه ويخبو أمله في إمكان استرجاعها.

وهذا التفكير بالرغم من أنّه خاطئ يعتبر خطأً من الناحية العملية؛ لأنّه يحبّب إلى الإنسان السلبيّة والانكماش والابتعاد عن مشاكل الأمّة ومجالات قيادتها، ولهذا أعتقد أنّ من ضرورتنا الإسلامية الراهنة أن نثبت خطأ ذلك التفكير، وندرس حياة الأئمّةعليهم‌السلام على أساس نظرة كلّية لنتبيّن إيجابيّتهم الرساليّة على طول الخطّ ودورهم المشترك الفعّال في حماية الرسالة والعقيدة.

أمثلة الدور الإيجابي للأئمّةعليهم‌السلام :

إنّ الأئمّةعليهم‌السلام بالرغم من إقصائهم عن مجال الحكم كانوا يتحمّلون باستمرار مسئوليّتهم في الحفاظ على الرسالة وعلى التجربة الإسلامية، وتحصينها ضدّ التردّي إلى هاوية الانحراف والانسلال عن مبادئها وقيمها انسلالاً تاماً، فكما كان الانحراف يقوى ويشتدّ ويتنظّر بخطّ الترديّ إلى الهاوية، كان الأئمّةعليهم‌السلام يتّخذون تدبيراً لازماً ضدّ ذلك، وكلّما وقعت التجربة الإسلامية أو العقيدة في محنةٍ أو مشكلةٍ عجزت الزعامات المنحرفة عن علاجها بحكم عدم كفاءتها بادر الأئمّةعليهم‌السلام إلى تقديم الحلّ ووقاية الأمّة من الأخطار التي كانت تهدّدها.

وبكلمةٍ مختصرة: كان الأئمّةعليهم‌السلام يحافظون على المقياس العقائدي والرسالي في المجتمع الإسلامي، ويحافظون على أن لا يهبط إلى درجة تشكّل

٥٧

خطراً ماحقاً، وهذا يعني ممارستهم جميعاً دوراً إيجابياً فعّالاً في حماية العقيدة وتبين مصالح الرسالة والأمّة.

تمثّل هذا الدور الإيجابي في إيقاف الحاكم عن المزيد من الانحراف؛ كما فعل الإمام عليّعليه‌السلام حين صعد عمر بن الخطّاب على المنبر، وتساءل عن ردّ الفعل لو صرف الناس عمّا يعرفون إلى ما ينكرون، فردّ عليه الإمامعليه‌السلام بكلّ وضوح وصراحة: إذن لقوّمناك بسيوفنا(١) .

وتمثّل في تعرية الزعامة المنحرفة إذ أصبحت تشكّل خطراً ماحقاً ولو عن طريق الاصطدام المسلّح فيها، والشهادة في سبيل كشف زيفها وسلب تخطيطها، كما صنع الإمام الحسينعليه‌السلام مع يزيد.

وتمثّل في مجابهة المشاكل التي تهدّد كرامة الدولة الإسلامية، وتعجز الزعامات المنحرفة عن حلّها، كما في المشكلة التي أبرزها كتاب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان، إذ عجز عبد الملك عن الجواب بمستواه، فملاً الإمام زين العابدينعليه‌السلام هذا الفراغ وأجاب بالشكل الذي يحفظ للدولة كرامتها وللاُمّة الإسلامية هيبتها(٢) .

وتمثّل أيضاً في إنقاذ الدولة الإسلامية من تحدّي الكافر الذي كان يهدّد سيادتها، كالتحدّي الذي واجهه هشام من ملك الروم بشأن النقد وعجز عن الردّ عليه، فكان الإمام الباقرعليه‌السلام في مستوى الردّ على هذا التحدّي

____________________

(١) راجع: المناقب للخوارزمي: ٩٨، وبحار الأنوار ٤٠: ١٨٠ - ١٨١، تاريخ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الباب ٩٣، الحديث٦٠.

(٢) راجع: بحار الأنوار ٤٦: ١٣٢ - ١٣٣، تاريخ عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، الباب ٨، الحديث ٢٢.

٥٨

لحفظ الاستقلال النقدي(١) .

وتمثّل الدور الإيجابي للأئمةعليهم‌السلام أيضاً في تلك المعارضة القويّة العميقة التي كان الأئمّةعليهم‌السلام يواجهون بها الزعامات المنحرفة بإرادة صلبة لا تلين، وقوّة نفسية صامدة لا تتزعزع، فإنّ هذه المعارضة بالرغم من أنّها اتّخذت مظهر السلبيّة المسلّحة، غير أنّ المعارضة حتّى بصيغتها السلبيّة كانت عملاً إيجابياً عظيماً في حماية الإسلام، والحفاظ على مُثُله وقيمه؛ لأنّ انحراف الزعامات القائمة كان يعكس الوجه المشوّه للرسالة، فكان لا بدّ للقادة من أهل البيتعليهم‌السلام أن يعكسوا الوجه النقيّ المشرق لها، وأن يؤكّدوه عمليّاً باستمرار المطابقات بين الرسالة والحكم والواقع.

وهكذا خرج الإسلام على مستوى النظرية سليماً من الانحراف، وإن تشوّه معالم التطبيق.

ويمكنني أن أذكر بهذا الصدد مثالاً جزئياً ولكنّه يعبّر عن مدى الجهود التي بذلها الأئمّةعليهم‌السلام في سبيل الحصول على هذا المكسب، مكسب خروج الإسلام على المستوى النظري سليماً من الانحراف.

تصوّروا أيّها الإخوة: أنّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام قد هدّد السجن صحّته حتّى أصبح حين يسجد لربّه كالثوب المطروح على وجه الأرض، فيدخل عليه رسول الزعامة المنحرفة فيقول: إنّ الخليفة يعتذر إليك ويأمر بإطلاق سراحك على أن تزوره وتعتذر إليه، أو تطلب رضاه، فيشمخ الإمام ويجيب

____________________

(١) راجع: مستدرك الوسائل ٧: ٨٤ - ٨٦، الباب ١٣ من أبواب زكاة الذهب والفضّة، الحديث ٢.

٥٩

بالنفي بكلّ صراحة(١) ، ويتحمّل مرارة الكأس إلى الثُّمالة؛ لا لشيءٍ إلاّ لكي لا يحقّق للزعامة المنحرفة هدفها من أن يبارك الإمام خطّها فتنعكس معالم التشويه من التطبيق المنحرف على الرسالة نفسها.

وتمثّل الدور الإيجابي للأئمة في تمويل الأمّة العقائدية بشخصيّتها الرسالية والفكرية من ناحية، ومقاومة التيارات الفكرية التي تشكّل خطراً على الرسالة وضربها في بدايات تكوّنها من ناحية أخرى، وللإمام من علمه المحيط المستوعب ما يجعله قادراً على الإحساس بهذه البدايات الخطرة وتقدير أهمّيتها ومضاعفاتها ولتخطيطهم للقضاء عليها.

وقد يمكن أن يفسّر على الضوء اهتمام الإمام العسكريعليه‌السلام وهو في المدينة بمشروع كتابٍ يضعه الكندي أو يصنّفه الكندي وهو في العراق حول متناقضات القرآن، إذ اتّصل به عن طريق بعض المنتسبين إلى مدرسته وأحبط المحاولة وأقنع مدرسة الكندي بأنّها على خطأ(٢) . الإيجابية تتكشّف في علاقات الأئمّةعليهم‌السلام بالأمّة، وفي الواقع أنّ حياة الأئمّةعليهم‌السلام زاخرة كلّها بالشواهد الإيجابية للدور المشترك الذي كانوا يمارسونه.

فمن ذلك: علاقات الأئمّةعليهم‌السلام بالأمّة والزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق التي كان أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام يتمتّعون بها على طول الخطّ، فإنّ هذه

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤١٤، وبحار الأنوار ٤٨: ٢٣٠ - ٢٣١، تاريخ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، الباب ٩، باب أحوالهعليه‌السلام في الحبس...، الحديث ٣٧.

(٢) راجع: المناقب لابن شهر آشوب ٤: ٤٢٤، وعنه في بحار الأنوار ٥٠: ٣١١، تاريخ أبي محمّد العسكريعليه‌السلام ، الباب ٣٨، الحديث ٩.

٦٠