• البداية
  • السابق
  • 315 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29777 / تحميل: 4811
الحجم الحجم الحجم
الانتصار

الانتصار

مؤلف:
العربية

بالشهادة، ولو كانت شرطا لذكرت على أن أبا حنيفة عنده أن كل زيادة في القرآن توجب النسخ، فلو زادت الشهادة لكان ذلك نسخا للكتاب، والكتاب لا ينسخ بأخبار الآحاد.

ومما يمكن أن يعارض المخالف به ما رووه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله أن النساء عندكم عواري أخذتموهن بأمانة الله تعالى، واستحللتهم فروجهن بكلمة الله، وليس هاهنا كلام يستباح به فرج المرأة غير قول المزوج قد زوجت وقول المتزوج قدتزوجت، وظاهر هذا الكلام يقتضي أن الاستباحة حصلت بهذا الكلام بلا شرط زائد من شهادة ولا غيرها.

فان قيل: إنما أراد بكلمة الله قوله تعالى: (وأنكحوا الايامى منكم) وما جرى مجراه من الالفاظ المبيحة للعقد على النساء.

قلنا: تحليل الفرج لم يحصل بهذا القول، ولو كان حاصلا به لاستغنى عن العقد في الايجاب والقبول في الاباحة، وإنما آيات القرآن استفيد(١) منها الاذن فيما يقع به التحليل والاباحة وهو العقد والايجاب والقبول فان احتجوا بما يروونه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله: لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل، فالجواب عنه أن هذا الخبر واحد وهو مع ذلك مطعون في طريقه.

والزهري قد أنكره ومداره عليه وفي تضعيفه وجوه كثيرة لانطول بذكرها ومع ذلك فان النفي داخل في اللفظ على النكاح، والمراد حكمه وليس لهم بأن يحملوه على نفي الصحة والاجزاء بأولى منا إذا حملناه على نفي الفضل والكمال، وأجريناه مجرى قولهعليه‌السلام : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، ولا صدقة وذو رحم محتاج.

(مسألة) ومما يقدر من الاختيار له انفراد الامامية به، وما انفردوا جواز عقد المرأة التي تملك أمرها على نفسها بغير ولي، وهذه المسألة يوافق

____________________

(١) يستفاد خ ل.

١٢١

فيها أبوحنيفة ويقول: أن المرأة إذا عقلت وكملت زالت من الاب الولاية عليها في بضعها، ولها أن تزوج نفسها، وليس لوليها الاعتراض عليها إلا إذا وضعت نفسها في غير كفو.

وقال أبويوسف ومحمد يفتقر في النكاح إلى الولي لكنه ليس بشرط فيه، فإذا زوجت المرأة نفسها فعلى الولي إجازة ذلك.

وقال مالك: المرأة المقبحة الذميمة لا يفتقر نكاحها إلى الولي، ومن كان بخلاف هذه الصفة افتقر إلى الولي.

وقال داود: إن كانت بكرا افتقر نكاحها إلى الولي وإن كانت ثيبا لم يفتقر، دليلنا على ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة، قوله تعالى: (ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) فأضاف عقد النكاح إليها والظاهر أنها تتولاه، وأيضا قوله تعالى: (فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا) فأضاف تعالى التراجع وهو عقد مستقل إليهما، والظاهر أنهما يتوليانه.

وأيضا قوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) فأباح فعلها في نفسها من غير اشتراط الولي، ولا يجوز للمخالف أن يحمل اشتراط المعروف على تزويج الولي لها، وذلك أنه تعالى إنما رفع الجناح عنها في فعلها بنفسها بالمعروف، وعقد الولي عليها لا يكون فعلا منها في نفسها.

وأيضا فقوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) فأضاف العقد إليهن، ونهى الاولياء عن معارضتهن، والظاهر أنهن يتولينه.

ويمكن أن يعارض المخالف أيضا بما يروونه عن ابن عباس رحمة الله عليه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ليس للولي مع الثيب أمر.

وأيضا بما رواه ابن عباسرضي‌الله‌عنه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

١٢٢

أنه قال: الايم أحق بنفسها من وليها، فمن يخالفنا في هذه المسألة يدعي أن وليها أحق بها في نفسها.

وأيضا ما روي من أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خطب إلى أم سلمة رحمة الله عليها فقالت ليس أحد من أوليائي حاضرا، فقال: ليس أحد من أوليائك حاضرا وغائبا إلا ويرضى بي، ثم قال لعمر بن أبي سلمة وكان صغيرا قم فزوجها.

فتزوجها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بغير ولي.

فان احتج المخالف بما رووه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فالجواب عنه أن هذا الخبر مطعون عليه مقدوح فيه بما هو مذكور في الكتب، ويمكن حمله إذا كان صحيحا على الامة إذا تزوجت بغير إذن مولاها، فان لفظة الولي والمولى بمعنى واحد في اللغة، وقد ورد في بعض الروايات في هذا الخبر أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها، فان قيل: في هذا الخبر ما يمنع من حمله على الامة وهو فان دخل بها فلها مهر مثلها بما استحل من فرجها، والمهر لا يكون للامة بل للمولى.

قلنا: يجوز أن يضاف إليها، وإن كانت لا تملك للعلقة التي بينه وبينها، وإن كانت ملكا للمولى، كما قال صلوات الله عليه وآله: من باع عبدا وله مال فأضاف المال إلى العبد، وإن كان للمولى، وليس لهم أن يحتجوا بما روي من أنه لا نكاح إلا بولي، لان المرأة إذا زوجت نفسها فذلك نكاح بولي، لان الولي هو الذى يملك الولاية للعقد، ومن ادعى أن لفظة ولي لا تقع إلا على ذكر مبعد، لانها تقع على الذكر والانثى فيقال رجل ولي وامرأة ولي كما يقال فيهما وصي.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن لولاية الجد من قبل الاب على الصغير رجحانا على ولاية الاب عليها، فإذا حضر أب وجد فاختار كل واحد

١٢٣

منهما رجلا لنكاحها كان اختيارا الجد مقدما على اختيار الاب، فان سبق الاب إلى العقد لم يكن للجد اعتراض عليه، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، والحجة لنا فيه إجماع الطائفة، ويمكن أن يكون الوجه في ذلك أن الجد قد كانت له ولاية على الاب لما كان صغيرا، ولم يكن للاب ولاية على الجد قط.

(مسألة) ومما ظن أن الامامية تنفرد به وله تحقيق نحن نوضحه أن الرجل إذا تزوج امرأة على صداق تقرر بينهما، ثم قدم منه إليها شيئا وقد دخل بها فانه لا شئ للمرأة سوى ما قبضته، وليس لها أن تطالب بزيادة عليه، وهذا توهم علينا، لان المهر المتقرر الذي ينعقد به النكاح بينهما متى دخل بها فقد وجب كاملا، وإذا كانت قد قبضت بعضه فلها أن تطالب بالباقي، إلا أنه ليس لها أن تمنع نفسها حتى توفى المهر، وإن كان ذلك لها قبل الدخول.

والاخبار الواردة في كتب أصحابنا التي أوهمت ما قدمنا ذكره محمولة على أحد أمرين، أحدهما ما ذكرناه من أنه لا شئ بقي لها يجوز أن تمنع نفسها حتى تستوفيه.

والامر الآخر أن تكون امرأة قررت لنفسها مع زوجها مهرا ودفع الزوج إليها شيئا فرضيت به، ومكنته من الدخول فلا شئ لها بعد ذلك لانها لو لم ترض بما قبضت لما مكنته من الدخول وهذا هو الوجه في المسألة.

(مسألة) ومما ظن قبل الاختبار أن الامامية تنفرد به القول بأنه ليس للاب أن يزوج بنته الباكرة البالغة إلا بإذنها وأبوحنيفة يوافق في ذلك.

وقال مالك والشافعي: للاب أن يزوجها بغير إذنها.

وقال الليث بن سعد: لا يزوجها بغير رضاها إلا الاب وحده دون الجد وغيره.

وقال الشافعي: ويزوجها الجد أيضا بغير إذنها، دليلنا الاجماع المتردد.

١٢٤

ومما يجوز أن يعارض به المخالفون ما يروونه عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها فان سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها، فالمراد باليتيمة هاهنا البكر البالغة لوقوع الاتفاق على أن السكوت لا يكون إذنا من غيرها، والصغيرة لا اعتبار بإذنها.

فان قيل: المراد باليتيمة في الخبرالتي لا أب لها فيزوجها غير الاب، قلنا: لا تسمى الكبيرة يتيمة من حيث فقدت أباها لقولهعليه‌السلام : لايتم بعد الحلم وإنما تسمى يتيمة لانفرادها عن الازواج.

قال الشاعر:

ان القبور تنكح الايامى

النسوة الارامل اليتامى

فسماهن يتامى بعد البلوغ لانفرادهن عن الازواج، وبعد فإذا كانت اليتيمة من لا أب لها فينبغي أن لا يزوج من لا أب لها جدها بلا إذنها بموجب الخبر، وقد أجاز الشافعي تزويج الجد لها بغير إذنها، فإذا منع الخبر من ذلك في الجد منع في الاب، لان أحدا من الامة لم يفصل بين الامرين.

وأيضا ما رووه عنهعليه‌السلام من قوله الايم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها.

(مسألة) ومما ظن انفراد الامامية به ولها فيه موافق القول بأنه لا حد لاقل الصداق، وأنه يجوز بالقليل والكثير، والشافعي يقول بذلك.

وقال مالك وأبوحنيفة أقل الصداق ما تقطع فيه اليد، والذي تقطع فيه اليد هو عند مالك ثلاثة دراهم، وعند أبي حنيفة عشرة دراهم فإن أصدقها أقل من عشرة دراهم كمل لها عشرة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند زفر يسقط المسمى ويجب لها مهر المثل.

وقال النخعي: أقل الصداق أربعون درهما.

وقال سعيد بن جبير: خمسون درهما.

دليلنا بعد إجماع الطائفة قوله تعالى: (وآتوا النساء

١٢٥

صدقاتهن نحلة).

وقوله في مواضع آخر: (فآتوهن أجورهن) والقليل يقع عليه الاسم كالكثير فيجب إجزاؤه.

ومما يعارضون به ما يروونه عنهعليه‌السلام من استحل بدرهمين فقد استحل، وقال: لا جناح على امرئ أصدق امرأة صداقا قليلا كان أم كثيرا.

(مسألة) ومما يجري مجرى المسألة المتقدمة قول الامامية أنه يجوز أن يكون المهر تعليم شئ من القرآن، والشافعي يوافق في ذلك، وباقي الفقهاء يخالفون فيه والحجة فيه إجماع الطائفة.

وأيضا قد بينا أن الصداق يجوز أن يكون قليل المنفعة وكثيرها، والتعليم له قيمة فهو نفع وإن قل، ويعارضون بما يروونه من أن امرأة جائت إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فوهبت نفسها له، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما لي في النساء من حاجة، فقال رجل من أصحابه: زوجنيها يا رسول الله، فقال أمعك شئ؟ فقال: لا، إلى أن قال: أمعك شئ من القرآن؟ قال: نعم، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : زوجتكها بما معك من القرآن، فقال: نعم، والمعنى لتعلمها شيئا مما معك من القرآن.

فان قيل: أراد زوجتك لفضيلتك بما معك من القرآن، قلنا: نبطل ذلك من وجهين، أحدهما أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يطلب في الحال الشرف والفضل، وإنما طلب(١) ما يكون مهرا، وكلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يليق إلا بالمهر، والآخر أنه قال: زوجتك بما معك، وهذه الباء تقتضي البدل والعوض، ولو أراد الفضيلة لقال لما معك من القرآن.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أنه لا يتجاوز بالمهر خمسمائة درهم جيادا قيمتها خمسون دينارا فما زاد على ذلك رد إلى هذه السنة وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك.

____________________

(١) طلب منها ما يكون خ ل.

١٢٦

والحجة بعد إجماع الطائفة أن قولنا مهر يتبعه أحكام شرعية وقد أجمعنا على أن الاحكام الشرعية تتبع ما قلنا به إذا وقع العقد عليه، وما زاد عليه لا إجماع على أن يكون مهرا، ولا دليل شرعيا فيجب نفي الزيادة.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن للرجل أن يجمع بين أكثر من أربع في عقد المتعة، وأنه لا حد في ذلك، وباقي الفقهاء يخالفون ذلك.

والحجة فيه إجماع الطائفة ونبني ذلك على القول بإباحة المتعة فنقول كل من أباح نكاح المتعة جوز الجمع بين أكثر من أربع في هذا النكاح فالتفرقة بين المسألتين خلاف إجماع المسلمين.

ويمكن أن يكون الوجه فيه أن نكاح الدوام يلزم فيه السكنى والنفقة ويشق التزام ذلك فيما لا حصر له من العدد، فحصر بعدد مخصوص ولا نفقة ولا سكنى للمتمتع بها فجاز أن لا ينحصر عدد من يجمع في هذا العقد.

(مسألة) ومما يشنع به على الامامية وتنسب إلى التفرد به وقد وافقها فيه غيرها القول بإباحة وطئ النساء في غير فروجهن المعتادة للوطي، وأكثر الفقهاء يحظرون ذلك.

وحكى الطحاوي في كتاب الاختلاف عن مالك أنه قال: ما أدركت أحدا اقتدي به في ديني يشك في أن وطي المرأة في دبرها حلال، ثم قرأ: (نساؤكم حرث لكم) الآية.

وقال الطحاوي في كتابه هكذا: حكى لنا محمد بن عبدالله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول ما صح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في تحريمه ولا تحليله شئ، والقياس أنه حلال.

والحجة في إباحة ذلك إجماع الطائفة.

وأيضا قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) ومعنى أنى شئتم كيف شئتم، وفي أي موضع آثرتم(١) ولا يجوز حمل لفظة

____________________

(١) وفى أى موضع أردتم خ ل.

١٢٧

أنى هاهنا على الوقت، لان لفظة أنى تختص الاماكن وقلما تستعمل في الاوقات، واللفظة المختصة بالوقت أيان(١) شئتم، ولا فرق بين قولهم ألف زيدا أنى كان وأين كان في عموم الاماكن، على أنا لو سلمنا أن الوقت مراد بهذه اللفظة حملناها على الامرين معا من الاوقات والاماكن.

وأما من ادعى أن المراد بذلك إباحة وطي المرأة من جهة دبرها في قبلها بخلاف ما تكرهه اليهود من ذلك فهو تخصيص لظاهر القرآن(٢) بغير دليل، والظاهر متناول لما قالوه ولما قلناه.

وأما الطعن على هذه الدلالة بأن الحرث لا يكون إلا بحيث النسل وقد سمى الله تعالى النساء حرثا فيجب أن يكون الوطئ حيث يكون النسل فليس بشئ، لان النساء وإن كن لنا حرثا فقد أبيح لنا وطؤهن بلا خلاف في غير موضع الحرث كالوطئ دون الفرج وما أشبهه، ولو كان ذكر الحرث يقتضي ما ذكروه لتنافى أن يقول لنا: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) من قبل أو دبر، وقد علمنا أن ذلك صحيح غير متناف، ولا يمكن الاستدلال على إباحة ما ذكرناه بما تعلق به قوم فيها من قوله تعالى (أتأتون الذكر ان من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون)، وقالوا: لا يجوز أن يدعو إلى التعويض عن الذكران بالازواج إلا وقد أباح منهن في الوطئ مثل ما يلتمس من الذكران.

وكذلك قالوا في قوله تعالى (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم)، فإن القول يقتضي أن في بناته المعنى المطلوب من الذكران، وذلك لانه لا حجة في هذا الضرب من الكلام، لانه غير ممتنع أن يذمهم بأتيان الذكران من حيث لهم عنه عوض بوطئ النساء وإن كان في الفروج المعهودة لاشتراك الامرين في

____________________

(١) بالاوقات أيان شئتم خ ل.

(٢) لظاهر الكلام بغير دليل خ ل.

١٢٨

الاستمتاع واللذة، وقد يغني الشئ عن غيره وإن لم يشاركه في جميع صفاته إذا إشتركا في الامر المقصود، ولو صرح بما قلناه حتى يقول: (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) من الوطي في القبل لكان صحيحا، لانه عوض ومغن عما يلتمس من الذكران.

[مسائل الطلاق]

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن الطلاق لا يقع مشروطا وإن وجد شرطه، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأوقعوا الطلاق عند وقوع شرطه الذي علقه المتلفظ به.

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة أن تعليق الطلاق بالشرط غير مسنون والمشروع في كيفية الطلاق غيره فيجب أن لا يتعلق به حكم الفرقة، لان الفرقة حكم شرعي، والشرع هو الطريق إليه، فإذا انتفى الدليل الشرعي انتفى الحكم الشرعي.

فان قيل: وما الدليل على ان الطلاق المشروط غير مشروع، قلنا: لا شبهة في أن الله عزوجل ما شرع لمريد الطلاق أن يعلقه بشرط ربما حصل ذلك وربما لم يحصل وهو من ثبوته وفقده على عذر فكيف يسوغ لقاصد إلى أمر فعل ما لا يطابق غرضه وما يجوز معه ألا يحصل مراده، وإنما شرع له أن يتلفظ بالتطليقة الواحدة في الطهر الذي لا جماع فيه وأن يقول: أنت طالق، وهذا مما لا يخفى على متأمل على أن ثبوت الزوجية متيقن فلا ينتقل عنه إلى التحريم إلا بيقين، ولا يقين في الطلاق المشروط.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن شهادة عدلين شرط في

١٢٩

وقوع الطلاق ومتى فقد لم يقع الطلاق، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، والحجة لنا بعد إجماع الطائفة قوله جل ثناؤه: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم) إلى قوله: (فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم) فأمرنا بالاشهاد، وظاهر الامر في عرف الشرع يقتضي الوجوب فليس لهم أن يحملوا ذلك ها هنا على الاستحباب، فلا يخلو قوله جل ثناؤه: (واشهدوا) من أن يكون راجعا إلى الطلاق، كأنه قال: إذاطلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن واشهدوا، أو أن يكون راجعا إلى الفرقة أو إلى الرجعة التي عبر تعالى عنها بالامساك، ولا يجوز أن يرجع ذلك إلى الفرقة التي ليست هاهنا شيئا يوقع أو يفعل وإنما هو العدول عن الرجعة، وإنما يكون مفارقا لها بأن لا يراجعها فتبين بالطلاق السابق على أن أحدا لا يوجب في هذه الفرقة الشهادة، فظاهر الامر يقتضي الوجوب، ولا يجوز أن يرجع الامر بالشهادة إلى الرجعة، لان أحدا لا يوجب فيها الاشهاد وإنما هو مستحب فيها فثبت أن الامر بالاشهاد راجع إلى الطلاق.

فان قيل: كيف يرجع إلى الطلاق مع بعد ما بينهما، قلنا: إذا لا يليق إلا بالطلاق وجب عوده إليه مع بعد وقرب، فان قيل: أي فرق بينكم مع حملكم هذا الشرط على الطلاق وهو بعيد منه في اللفظ وذلك مجاز وعدول عن الحقيقة، وبيننا إذا حملنا الامر بالاشهاد هاهنا على الاستحباب ليعود إلى الرجعة القريبة منه في ترتيب الكلام، قلنا: حمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب خروج عن عرف الشرع بلا دليل، ورد الشرط إلى ما بعد عنه إذ لم يلق بما قرب ليس بعدول عن حقيقة الاستعمال توسع وتجوز، والقرآن والخطاب كله مملو من ذلك.

قال الله جل ثنائه: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله

١٣٠

ورسوله وتعززوه وتوقروه وتسبحوه) والتسبيح وهو متأخر في اللفظ لا يليق إلا بالله جل ثناؤه دون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن الطلاق لا يقع إلا بلفظ واحد وهو قوله أنت طالق ولا يقع بفارقتك وسرحتك ولا باعتدي وحبلك على غاربك وبخلية وبرية وبتة وبتلة وكل لفظ عدا ما ذكرناه، واختلف الفقهاء في ألفاظ الطلاق، فقال أبوحنيفة: لفظ الطلاق الصريح ما تضمن الطلاق خاصة والباقي كنايات ويقع الطلاق بها مع النية.

وقال الشافعي: صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ الطلاق والفراق والسراح وباقي الالفاظ كنايات لا يقع بها الطلاق إلا مع مقارنة النية لها ويقع من ذلك ما ينويه، وقسم الكنايات إلى قسمين ظاهرة، نحو قوله خلية وبرية وبتة وبتلة وباين وحرام، والكنايات الباطنة نحو قوله اعتدي واستبرى رحمك وتقنعي وحبلك على غاربك.

وقال مالك: الكنايات الظاهرة إذا لم ينو بها شيئا وقع الطلاق الثلاث وإن نوى واحدة أو اثنتين فإن كانت المرأة غير مدخول بها كان على ما نواه وإن كانت مدخولا بها وقعت الثلاث على كل حال.

وأما الكنايات الباطنة فقال في كلمتين منها وهي قوله اعتدي أو استبري رحمك إن لم ينو بها شيئا وقعت تطليقة رجعية وإن نوى شيئا كان على ما نواه به، ومالك يجعل الكنايات الظاهرة وهاتين الكلمتين من صريح الطلاق، والحجة لما نذهب إليه بعد إجماع الطائفة أن الطلاق يتبعه حكم شرعي لا يثبت إلا بأدلة الشرع، ولا خلاف في وقوعه باللفظة التي ذكرناها وما عداها من الالفاظ لم يقم دليل على وقوعه بها، فيجب نفي وقوعه، لان الحكم الشرعي لا بد من نفيه إذا انتفى الطريق إليه.

وأيضا فان ألفاظ القرآن كلها واردة بلفظ الطلاق، مثل قوله تعالى:

١٣١

(يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) وما أشبه ذلك، وطلقتم مشتق من لفظ الطلاق دون غيره من الالفاظ فينبغي أن لا يتعلق الحكم إلا بهذا اللفظ.

فإن قيل: معنى طلقتم فارقتم، والفراق قد يكون بألفاظ مختلفة، قلنا: هذا خلاف الظاهر، لان لفظ طلقتم مشتق من حدث فيه طاء ولام وقاف، كما أن لفظ ضرب مشتق من حدث فيه ضاد وراء وباء، ومن فعل ما فيه معنى الضرب لا يقال ضرب فكذلك(١) لا يقال فيمن فعل ما فيه معنى الطلاق طلق فان قيل: لفظة الطلاق شرعية قلنا: معاذ الله هذه لفظة لغوية معروفة في خطاب أهل اللغة وإنما يتبعها أحكام شرعية لا تعرف في اللغة.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية به اعتبارهم في اللفظ بالطلاق النية وإن المتلفظ بذلك إذا لم ينو الطلاق بعينه فلا حكم في الشريعة لكلامه، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ويذهبون إلى أن ألفاظ الطلاق الصريحة لا تفتقر إلى النية، وإنما يفتقر إلى النية كنايات الطلاق.

والحجة لنا بعد إجماع الطائفة أن الفرقة الواقعة بين الزوجين حكم شرعي ولا يثبت الاحكام الشرعية إلا بأدلة شرعية، وقد علمنا أنه إذا تلفظ بالطلاق ونواه فان الفرقة الشرعية تحصل بلا خلاف بين الامة وليس كذلك إذا لم ينو ولا دليل من إجماع ولا غيره يقتضي حصول الفرقة من غير نية، فان ذكروا في ذلك أخبارا يروونها فكلها أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا وهي معارضة بأخبار ترويها الشيعة تتضمن أن الطلاق بغير نية لا حكم له ولا تأثير، ومما يمكن أن يعارضوا به ما يروونه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله: الاعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.

والمراد أن الاحكام إنما تثبت للاعمال في الشريعة بالنيات لان من المعلوم أن بالنيات يدخل العمل في أن يكون عملا، وإذا كان الفرقة بين

____________________

(١) وكذلك خ ل.

١٣٢

الزوجين من أحكام الطلاق الصحيح، وقد نفى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الاحكام الشرعية عما لم تصاحبه النية من الاعمال فوجب أن لا يقع طلاق لا نية معه، وبمثل هذه الطريقة يعلم أن طلاق المكره لا يقع، فان الشافعي ومالك والاوزاعي يوافقوننا في أنه لا يقع، وإنما يخالف فيه أبوحنيفة وأصحابه، لانا إذا كنا قد دللنا على أن الطلاق يفتقر إلى النية والاختيار والمكره لا نية له في الطلاق وإنما اكره على لفظه فيجب أن لا يقع طلاقه.

ويمكن أن يعارضوا زايدا بما ذكرناه بما يروونه عن ابن عباسرضي‌الله‌عنه ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله: رفع عن أمتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه، وإنما المراد لا محالة أحكام هذه الامور المتعلقة بها، فان قيل المراد به رفع الاثم.

قلنا: نحمله على الامرين لانه لا تنافي بينهما، وأيضا ما روته عايشة من أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: لا طلاق ولا عتاق في إغلاق، وفسر أبوعبيد القاسم ابن سلام الاغلاق ها هنا بالاكراه.

وبمثل ما ذكرناه أيضا يعلم أن طلاق السكران غير واقع، ووافقنا في ذلك ربيعة والليث بن سعد وداود، وخالف باقي الفقهاء وقالوا: ان طلاق السكران يقع، وإنما قلنا: ان أدلتنا لا تتناول السكران، لان السكران لا قصد له ولا إيثار، وقد بينا أن الطلاق يفتقر إلى الايثار والاختيار، وعلى مثل ما ذكرناه يعتمد في أن طلاق الغضبان الذي لا يملك اختياره لا يقع، وإن خالف باقي الفقهاء في ذلك فإن استدلوا بما يروونه عنهعليه‌السلام من قوله ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق، والهزل ما لا نية فيه وقد جعله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في الطلاق مثل الجد، قلنا: هذا خبر واحد.

وقد دللنا على أن أخبار الآحاد لا يعمل بها في الشريعة ثم نقول: إذا

١٣٣

سلمناه أن الهزل ليس هو الذي لا يقصد ولا يعتمد ولا نية لصاحبه، وإنما هو الفعل الذي ليس الغرض فيه صحيحا موافقا للحكمة، فان اللاعب بالشطرنج وما جرى مجراها يسمى هازلا غير جاد، وإن كان ناويا قاصدا من حيث كان غرضه غير حكمي فكأنه أراد أن طلق وغرضه بالطلاق الذي قصده ونواه اضحاك ضاحك وإرضاء من لا يجب إرضاؤه.

فان الطلاق يقع ويكون في حكم الجد في الوقوع واللزوم وإن كان هزلا من حيث فقد الغرض الحكمي.

فإن قيل: فيجب إذا سمعنا متلفظا بالطلاق على الشرائط التي يقترحونها إذا ادعى أنه لم ينو الطلاق بقلبه أن نصدقه قلنا كذلك نقول، فإن كان صادقا فيما قال فلا تبعة عليه وإن كان كاذبا في نفي النية فقد أثم وحرج.

وعلى الظاهر أنه لم يطلق كما أنه لو طلق سرا من كل أحد ولم يقف على حاله سواه فانه يكون مطلقا فيما بينه وبين الله تعالى وعلى الظاهر غير مطلق، فان قيل: فما تقولون فيمن تلفظ بالطلاق ثم مات ولم يدر هل هو نوى أم لم ينو، قلنا اذا سمعنا تلفظه بالطلاق ولا إكراه ولا إمارة لنفي الاختيار فالظاهر أنه وقع عن إيثار ونية، وإنما يخرج عن هذا الظاهر إذا قال لنا: ما نويت الطلاق وأنكر النية ودفعها، فأما إذا مات عقيب القول فهو مطلق على الظاهر ومحكوم عليه في الشريعة بالفرقة.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن الطلاق في المحيض لا يقع، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهبوا إلى وقوعه إلا ابن علية فأنه روي عنه أن الطلاق في المحيض لا يقع.

والحجة لنا بعد إجماع الطائفة أنه لا خلاف في أن الطلاق في المحيض بدعة ومعصية، وإن اختلف في وقوعه لان الله تعالى قال فطلقوهن لعدتهن وفسروا ذلك بالطهر الذي لا جماع فيه، وإذا ثبت أن الطلاق في المحيض

١٣٤

بدعة ومخالف لما أمر الله تعالى بإيقاع الطلاق عليه ثبت أنه لا يقع لانا قد بينا أن النهي بالعرف الشرعي يقتضي الفساد وعدم الاجزاء.

وأيضا فان الطلاق حكم شرعي بغير شبهة ولا سبيل إلى إثبات الاحكام الشرعية إلا بأدلة شرعية، وقد ثبت بالاجماع أنه إذا طلق في طهر مع باقي الشرائط وقعت الفرقة ولم يثبت مثل ذلك في طلاق المحيض فيجب نفي وقوعه، ويمكن أن يورد عليهم على سبيل المعارضة بما يروونه من أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي عن ذلك فردها النبي عليه فلم يره شيئا، وهذا صريح في عدم وقوعه وتأثيره.

فان قالوا: المراد بذلك لم يره إثما أو لم يره طلاقا باينا، قلنا: الظاهر من لفظة شئ مع النفي عدم التأثيرات كلها، ولو أراد ما ذكرتم لعدل عن هذه العبارة إلى أن يقول: لم يره إثما، أو لم يره طلاقا باينا، على انا نحمل ذلك على ما قلتم، وقلنا: لان اللفظ إذا احتمل للكل حمل على جميعه.

ويعارضون أيضا بما يروونه من أن ابن عمر طلق امرأته وهي حايض فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر أبيه مره فليراجعها، ثم ليدعها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء، وأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ظاهر الوجوب، وإذا أمر بالمراجعة وأوجبها دل على أن الطلاق لم يقع.

فإن قيل: إذا كان الطلاق في الحيض لا يقع، فأي معنى لقوله مره فليراجعها، والرجعة لا تكون إلا بعد طلاق سبق.

قلنا: معنى فليراجعها أي يردها إلى منزله ولا يفارقها، فان ابن عمر كان قد فارقها واعتزلها لما طلقها في الحيض، وظن أن طلاقه واقع فأخبره النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأن قوله غير مؤثر، وأن الطلاق لم يقع وأمره بالعود إلى ما كان عليه.

١٣٥

وقد يقول أحدنا لمن تلفظ بما ظن أنه طلاق واقع وليس هو على الحقيقة كذلك رد زوجتك إليك وراجعها ولا تفارقها وليس هناك طلاق واقع، فإن قيل أي فرق بين ترككم ظاهر قوله فليراجعها الذي لا يفيد إلا الرجعة بعد الطلاق وبين تركنا ظاهر الايجاب في قوله مره فليراجعها، وحملنا ذلك على الاستحباب ليسلم ظاهر لفظة الرجعة.

قلنا: الفرق بين الامرين أن ظاهر الامر في الشريعة الوجوب وحمله على غيره مجاز وليس ظاهر لفظة رجوع يقتضي وقوع الطلاق قبلها، لانا قد بينا أنه قد يقال لمن لم يطلق وأخرج امرأته واعتزلها ظنا أنه قد طلق ردها وراجعها وأعدها وذلك حقيقة غير مجاز.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك.

وقد روي ان ابن عباس رحمة الله عليه وطاووسا يذهبان إلى ما تقوله الامامية وحكى الطحاوي في كتاب الاختلاف أن الحجاج بن أرطاة كان يقول: ليس الطلاق الثلاث بشئ.

وحكى في هذا الكتاب عن محمد بن إسحاق أن الطلاق الثلاث يرد إلى واحدة، دليلنا بعد الاجماع المتردد أن يدل على أن المشروع في الطلاق إيقاعه متفرقا، وقد وافقنا مالك وأبوحنيفة على أن الطلاق الثلاث في الحال الواحدة محرم مخالف السنة إلا أنهما يذهبان مع ذلك إلى وقوعه، وذهب الشافعي إلى أن الطلاق الثلاث في الحال الواحدة غير محرم.

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: (الطلاق مرتان) ولم يرد بذلك الخبر لانه لو أراده لكان كذبا وإنما أراد الامر فكأنه قال تعالى طلقوا مرتين، وجرى مجرى قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا)، والمراد يجب أن تؤمنوه، والمرتان لا تكونان إلا واحدة بعد أخرى، ومن جمع

١٣٦

الطلاق في كلمة واحدة لا يكون مطلقا مرتين، كما أن من أعطى درهمين مرة واحدة لم يعطهما مرتين.

فإن قيل: العدد إذا ذكر عقيب الاسم لم يقتض التفريق مثاله إذا قال له علي مائة درهم مرتان، وإذا ذكر العدد عقيب فعل اقتضى التفريق مثاله ادخل الدار مرتين أو ضربت مرتين، والعدد في الآية عقيب اسم لا فعل، قلنا قد بينا أن قوله تعالى: (الطلاق مرتان)، أن معناه طلقوا مرتين، فالعدد مذكور عقيب فعل لا اسم.

فإن قيل: إذا ثبت وجوب تفريق الطلاق فلا فرق بين أن يكون في طهر واحد أو طهرين وأنتم لا تجوزون تفريقه في طهر واحد، قلنا: إذا ثبت وجوب التفريق فكل من أوجبه يذهب إلى أنه لا يكون إلا في طهرين، فإن قيل: فإذا كان الثلاث لا تقع، فأي معنى لقوله تعالى: (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا)، وإنما المراد انك إذا خالفت السنة في الطلاق وجمعت بين الثلاث وتعديت ما حده الله تعالى لم تأمن ان تتوق نفسك إلى المراجعة فلا تتمكن منها.

قلنا: قوله تعالى: (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) مجمل غير مبين فمن أين لكم أنه أراد ما ذكرتم، والظاهر غير دال على ما هو الامر الذي يحدثه الله تعالى والاشبه بالظاهر أن يكون ذلك الامر الذي يحدثه الله تعالى متعلقا بتعدي حدود الله، لانه تعالى قال: (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) ويشبه أن يكون المراد لا تدري ما يحدث الله من عقاب يعجله في الدنيا على تعدي حدوده، وهذا أشبه بما ذكرناه، وأقل الاحوال أن يكون الكلام يحتمله فيسقط تعلقهم.

وقد قيل: أن قوله تعالى: (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا)

١٣٧

متعلق بالنهي عن إخراجهن من بيوتهن لئلا يبدو له في المراجعة، وهذا أيضا مما يحتمله الكلام، فمن أين لهم أن المراد ما ذكروه، وقد تعلقوا في أن الطلاق الثلاث في حال واحدة ليس ببدعة بما رواه سهل بن سعد الساعدي قال لاعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بين العجلاني وزوجته فلما تلاعنا قال الزوج إن أمسكتها فقد كذبت عليها هي طالق ثلاثا، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا سبيل لك عليها.

وموضع الاستدلال منه أن العجلاني كان قد طلق في وقت لم يكن له أن يطلق فيه فطلق ثلاثا فبين له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حكم الوقت وأنه ليس له أن يطلق فيه ولم يبين له حكم العدد، ولو كان ذلك العدد محرما وبدعة لبينه.

والجواب أنه لا دلالة للشافعي في هذا الخبر، لان الفرقة بلعان الزوج قد كانت واقعة عنده، وإنما تلفظ بالطلاق الثلاث بعد ما بانت منه فلم يكن لقوله حكم، فإن قال فألا أنكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على العجلاني في التلفظ بالثلاث في وقت واحد، قلنا: فألا أنكرصلى‌الله‌عليه‌وآله عليه اعتقاده أن طلاقه يؤثر بعد اللعان والعذر في ترك إنكاره هذا هو العذر في ترك إنكار ذلك على أن خبر العجلاني وما أشبهه من الاخبار خبر واحد.

وقد بينا أن أخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا وهو معارض بأخبار كثيرة تتضمن ان إيقاع التطليقات الثلاث في الحال الواحدة بدعة وخلاف السنة فان احتج من يذهب إلى أن الطلاق الثلاث يقع وإن كان بدعة بما روى في حديث ابن عمر من انه قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أرأيت لو طلقتها ثلاثا، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا عصيت ربك وبانت منك امرأتك، فالذي يبطل ذلك أنه لا تصريح في قوله أرأيت لو طلقتها ثلاثا وأنني كنت أفعل ذلك بكلمة واحدة وحالة واحدة، ويجوز أن يكون مراده انني لو طلقتها ثلاثا في ثلاثة أطهار تخللها المراجعة فلا شبهة في أن من طلق امرأة ثلاثا في ثلاثة أطهار أنه يسمى مطلقا ثلاثا،

١٣٨

فإذا قيل لا فائدة على هذا الوجه في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا عصيت ربك وبانت منك امرأتك، قلنا يحتمل ذلك المعصية بأمرين: أحدهما أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعلم من زوجة ابن عمر خيرا وبرا يقضيان المعصية بفراقها، والامر الآخر أنه مكروه للزوج أن يخرج نفسه من التمكن من مراجعة المرأة، لانه لا يدري كيف ينقلب قلبه، وربما دعته الدواعي القوية إلى مراجعتها، فإذا خرج أمرها من يده ربما هم بالمعصية، ومن أبان زوجته بالتطليقات الثلاث في الاطهار الثلاثة، والمراجعة في خلال ذلك فهو محرم لها على نفسه حتى تنكح زوجا غيره، ووجه كراهية ذلك ما ذكرناه.

وجواب ثان في تأويل الخبر وهو أن نحمل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بانت زوجتك على أنها خرجت من العدة بانت، فان المطلق ثلاثا بلفظ واحد يقع منه تطليقة واحدة على الصحيح من مذهبنا، فإذا طلقها بكلمة واحدة ثلاثا وخرجت من العدة بانت منه، وإنما عصى ربه لانه أبدع بالجمع بين التطليقات الثلاث في الحال الواحدة.

فان تعلقوا أيضا بما يرووه من أن عبدالرحمن طلق امرأته تماضر ثلاثا فجوابه أنه يجوز أن يكون طلقها في أطهار ثلاثة مع مراجعة تخللت، وليس في ظاهر الخبر أنه طلقها بلفظ واحد أو حالة واحدة، وهذه الطريقة التي سلكناها يمكن أن تطرد في جميع أخبارهم التي يتعلقون بها مما يتضمن وقوع طلاق ثالث فقد فتحنا طريق الكلام على ذلك كله ونهجناه فلا معنى للتطويل بذكر جميع الاخبار على أن أخبارهم معارضة بأخبار موجودة في رواياتهم وكتبهم تقتضي أن الطلاق الثلاث لا يقع منها ما رواه ابن سيرين أنه قال حدثني من لا أتهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض فأمره النبي أن يراجعها، وبما رواه الحسن قال: أتى عمر برجل قد طلق امرأته ثلاثا بفم واحد فردها

١٣٩

عليه ثم أتي برجل آخر طلق امرأته ثلاثا بفم واحد فأبانها منه، فقيل له: انك بالامس رددتها عليه، فقال: خشيت أن يتتابع فيه السكران والغيران.

وروي عن ابن عباسرضي‌الله‌عنه أنه كان يقول: أن الطلاق كان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعهد أبي بكر وصدر من أمارة عمر طلاق الثلاث واحدة ثم جعلها عمر بعد ذلك ثلاثا.

وروي عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف طلقتها؟ فقال: طلقتها ثلاثا، قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنما تلك واحدة فراجعها إن شئت، قال: فراجعها والاخبار المعارضة لاخبارهم أكثر من أن تحصى.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن الطلاق بعد الطلاق وإن كان في طهرين أو طهر واحد لا يقع إلا بعد تخلل المراجعة بجماع، والفقهاء كلهم يخالفون في ذلك، لان أبا حنيفة وإن جعل ذلك بدعة فإنه يذهب إلى وقوعه ولزومه، والحجة لنا بعد إجماع الطائفة إنا قد دللنا على أن إيقاع الطلاق بعد الطلاق من غير مراجعة بدعة وخلاف السنة، وقد بينا أن التحريم في الشرع يتبعه الفساد ونفي الاحكام الشرعية.

وأيضا فان من طلق على الترتيب الذي ذكرناه وقع طلاقه، وآثر ومن اتبع الطلاق بالطلاق من غير مراجعة لا إجماع عليه ولا دليل على وقوع طلاقه فيجب أن يحكم بنفيه.

فإن قيل كيف تذهبون إلى أن المطلق ثلاثا بكلمة يقع من طلاقه واحدة وهو مبدع مخالف للسنة، وعندكم أن البدعة لا يلحقها حكم شرعي، قلنا: إنما أبدع من جمع بين الثلاث في ضم قوله ثلاثا إلى قوله أنت طالق فألغينا من كلامه ما هو خلاف السنة وهو قوله ثلاثا وأسقطنا حكمه وأوجبنا

١٤٠