• البداية
  • السابق
  • 315 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29795 / تحميل: 4816
الحجم الحجم الحجم
الانتصار

الانتصار

مؤلف:
العربية

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن القائل إذا قال: علي عهد الله أن لا أفعل محرما ففعله، وأن أفعل طاعة فلم يفعلها أو ذكر شيئا مباحا ليس بمعصية ثم خالف أنه يجب عليه عتق رقبة أو إطعام ستين مسكينا أو صيام شهرين متتابعين وهو مخير بين الثلاث، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك.

فعند أبي حنيفة ومالك أن هذا القول يمين يجب فيه ما يجب في حنث اليمين وقال الشافعي: إن نوى بذلك اليمين كان يمينا، ومتى لم ينو لم يكن يمينا، دليلنا إجماع الطائفة.

وإن شئت أن تقول قد ثبت أن من حلف على أن يفعل فعلا هو معصية أنه يجب عليه أن لا يفعله ولا كفارة تلزمه، وكل من قال بسقوط الكفارة عمن ذكرناه قال: فيمن عاهد الله تعالى ثم نكث، أن الكفارة التي ذكرناها تلزمه، ولا أحد من الامة يفرق بين المسألتين، فمن فرق بينهما خالف الاجماع.

(مسألة) ومما يظن أن الامامية انفردت به، وللشافعي فيه قولان: أحدهما موافق للامامية أن من حلف بالله تعالى أن لا يدخل دارا ولا يفعل شيئا ففعله مكرها أو ناسيا فلا كفارة عليه، وألزمه باقي الفقهاء الكفارة إلا على أحد قولي الشافعي الذي ذكرناه، دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتكرر.

وأيضا قوله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به)، فإذا قيل: الجناح هو الاثم، قلنا: قد يعبر به في القرآن والشريعة عن الاثم وعن كل فعل فيجب حمله على الامرين ما لم يقم دلالة أيضا، فإن النسيان والاكراه يرفعان التكليف العقلي فكيف لا يرفعان التكليف الشرعي، وأيضا فإن الكفارة وضعت في الشريعة لازالة الاثم المستحق، وقد سقط الاثم عن الناسي بلا خلاف فلا كفارة عليه.

١٦١

وأيضا فان الفعل المحلوف عليه يتعذر بالاكراه والنسيان كما يتعذر بفقد القدرة، فكما يرتفع التكليف مع فقد القدرة، فكذلك يرتفع مع الاكراه وفقد العلم، وكما أن من حلف على ان يفعل شيئا وفقد قدرته عليه لا يلزمه كفارة.

وكذلك من حلف أنه يفعله فأكره على أن لا يفعله أو سلب علمه فيجب أيضا أن لا تلزمه الكفارة لارتفاع التمكن على الوجهين معا، ويمكن أن يعارض المخالفون في هذه المسألة بما رووه وهو ظاهر في كتبهم ورواياتهم عن ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: ان الله تعالى تجاوز لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وليس لهم أن يحملوا الخبر على إثم الخطأ والنسيان دون حكمهما، لان الواجب حمله عليهما معا إلا أن تقوم دلالة، ألا ترى أن رفع الخطأ والنسيان نفسهما لا يمكن أن يراد بالخبر، وإنما المراد ما يرجع إلى الخطأ والنسيان من حكم وإثم، وليس حملهما على أحدهما بأولى من الآخر فيجب حمله عليهما.

(مسألة) ومما يجوز أن يظن انفراد الامامية به أن من حلف أن لا يكلم زيدا حينا وقع على ستة أشهر، وقد وافق الامامية أبوحنيفة في ذلك، والشافعي يذهب إلى أن الحين يقع على الابد، وقال مالك: الحين سنة واحدة والذي يجب تحقيقه أن هذا القائل إن كان عنى بالحين زمانا بعينه فهو على ما نواه، وإن أطلق القول عاريا عن نية كان على ستة أشهر.

دليلنا على صحة مذهبنا الاجماع المتردد، وإذا كان اسم الحين يقع على أشياء مختلفة فيقع على الزمان كما في قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) وإنما أراد زمان الصباح والمساء كله، ورأيت بعض متقدمي أصحاب أبي حنيفة يحمل هذه الآية على أن المراد بها ساعة واحدة فكأنه قال سبحانه ساعة تمسون وساعة تصبحون، وهذا غلط فاحش منه لا يخفى ومما

١٦٢

يقع عليه أيضا اسم الحين أربعون سنة قال الله تعالى: (هل أتى على الانسان حين من الدهر)، فذكر المفسرون أنه تعالى أراد أربعين سنة، ويقع أيضا اسم الحين على وقت مبهم.

قال الله تعالى: (ومتعناهم إلى حين)، ويقع على ستة أشهر، قال الله تعالى: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها).

وروي عن ابن عباس أن المراد بذلك ستة أشهر، وقال غيرابن عباس سنة، ومع اشتراك اللفظ لا بد من دلالة في حمله على البعض، ولما نقلت الامامية عن أئمتهم أنه ستة أشهر، وأجمعوا عليه كان ذلك حجة في حمله على ما ذكرناه، وأبوحنيفة مع اعترافه باحتمال اللفظ للمعاني المختلفة كيف حمله على ستة أشهر بغير دليل مرجح، واللفظ يحتمل ذلك ويحتمل غيره، وكذلك مالك، وأما الشافعي فهو أعذر منهما، لانه لما رأى الاشتراك حمله على التأبيد.

[مسائل النذر]

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن النذر لا ينعقد إلا بأن يقول الناذر لله علي كذا وكذا بهذا اللفظ، فان خالف هذه الصيغة وقال علي كذا وكذا ولم يقل لله عزوجل لم ينعقد نذره وخالف باقى الفقهاء في ذلك، وروي عن الشافعي وأبي ثور موافقة الامامية في ذلك، دليلنا على ما ذهبنا إليه الاجماع الذي تكرر.

وأيضا فإنه لا خلاف في أنه إذا قال باللفظ الذي ذكرناه يكون ناذرا، وانعقاد النذر حكم شرعي لا بد فيه من دليل شرعي، وإذا خالف ما ذكرناه فلا دليل على انعقاده ولزوم الحكم به.

وأيضا فان الاصل برائة

١٦٣

الذمة من حكم النذر، فمن ادعى مع اللفظ المخالف لقولنا وجوبه في الذمة فعليه الدليل.

(مسألة) ومما كانت الامامية تنفرد به أن النذر لا يصح في معصية ولا بمعصية، ولا تكون المعصية فيه سببا ولا مسببا، فأما كون المعصية فيه سببا، فمثاله أن ينذر أنه إن شرب خمرا أو ارتكب قبيحا أعتق عبده، ومثال كون المعصية مسببا أن يعلق بما يبلغه من غرضه أن يشرب خمرا أو يرتكب قبيحا.

والشافعي: يوافق الشيعة في أن نذر المعصية لا كفارة فيه، وما كان عندي أنه يوافقنا في إبطال كون المعصية سببا حتى قال بعض شيوخ الشافعية أن الشافعي يوافقنا أيضا في ذلك، والدلالة على قولنا بعد إجماع الطائفة أن لزوم النذر حكم شرعي، ولا يثبت إلا بدليل شرعي، وقد علمنا أن السبب أو المسبب إذا لم يكن معصية انعقد النذر ولزم الناذر حكمه بلا خلاف فمن ادعى ذلك في المعصية فعليه الدلالة.

وأيضا فمعنى قولنا في انعقاد النذر أنه يجب على الناذر فعل ما أوجبه على نفسه، وإذا علمنا بالاجماع أن المعصية لا تجب في حال من الاحوال علمنا أن النذر لاينعقد في المعصية، ويجوز أن يعارض المخالفون بالخبر الذي يروونه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: لا نذر في معصية ولم يفرق بين أن تكون المعصية سببا أو مسببا.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن من خالف النذر حتى فات فعليه كفارة وهي عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا وهو مخير في ذلك، فإن تعذر عليه الجميع كان عليه كفارة يمين، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يوجبوا هذه الكفارة.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد وإن شئت أن تبنيه على

١٦٤

بعض المسائل المتقدمة، فتقول كل من ذهب إلى أن قول القائل مالي صدقة أو امرأتي طالق إن كان كذا وكذا أنه لا شي ء يلزمه وإن وقع الشرط أوجب الكفارة على من لم يف بنذره والتفرقة بين الامرين خلاف الاجماع وإن شئت أن تقول كل من منع إنعقاد النذر على معصية أو بمعصية على كل حال أوجب هذه الكفارة فيمن فوت نفسه نذره ولا يلزم على ذلك أن الشافعى يوافق في بطلان النذر المتعلق بالمعصية لانه لا يمنع منه على كل حال ويشترطه بالاجتهاد وهو يجوز لمن أدى اجتهاده على خلافه واستفتى من هذه حاله خلاف مذهبه، ونحن لا نجوز خلاف مذهبنا على كل حال، وقد شرطنا أن من منع ذلك على كل حال قد أوجب الكفارة، وهذا ما لا يوجد مع الشافعي.

(مسألة) ومما يظن ان الامامية تنفرد به القول: بأن من نذر سعيا إلى مشهد من مشاهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أمير المؤمنين " ع " أو أحد الائمةعليهم‌السلام أو صياما أو صلاة فيه أو ذبيحة لزمه الوفاء به، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك إلا أنه قد روي عن الليث بن سعد أنه قال: متى حلف الرجل أن يمشي إلى بيت الله عزوجل ونوى بذلك مسجدا من المساجد لزمه ذلك، دليلنا الاجماع الذي تكرر.

وأيضا قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وهذا عقد فيه طاعة الله عزوجل وقربة وليس لهم أن يقولوا قد أوجب على نفسه جنسا لا يجب عليه مثله في العبادات، لان السعي قد يجب إلى بيت الله الحرام وفي مواضع الصلاة والصيام والذبح لا شبهة فيه ويعارضون بما يروونه عنهعليه‌السلام من قوله من نذر أن يطيع الله فليطعه.

(مسألة) ومما كان الامامية تنفرد به أن النذر لا ينعقد حتى يكون معقودا بشرط متعلق به، كأن يقول لله علي إن قدم فلان، أو كان كذا أن

١٦٥

أصوم أو أتصدق، ولو قال: لله علي أن أصوم أو أتصدق من غير شرط يتعلق به لم ينعقد نذره.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك.

إلا أن أبا بكر الصيرفي وأبا إسحاق المروزي ذهبا إلى مثل ما تقوله الامامية، دليلنا على صحة ذلك الاجماع الذي تردد وأيضا فإن معنى النذر في اللغة أن يكون متعلقا بشرط، ومتى لم يتعلق بشرط لم يستحق هذا الاسم، وإذا لم يكن ناذرا إذا لم يشترط ولم يلزمه الوفاء، لان الوفاء إنما لم يلزم متى ثبت الاسم والمعنى.

فأما إستدلالهم بقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) وبقوله: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم)، وبما روي عنه "ع" من قوله: من نذر أن يطيع الله فليطعه فليس بصحيح.

أما الآية فانا لا نسلم أنه مع التعري من الشرط يكون عقدا.

وكذلك لا نسلم لهم أنه مع التعري من الشروط يكون عهدا، والآيتان متناولتان ما يستحق اسم العقد والعهد فعليهم أن يدلوا على ذلك، وأما الخبر المروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فانه أمرنا بالوفاء بما هو نذر على الحقيقة، ونحن نخالف في أنه يستحق هذه التسمية مع فقد الشرط فليدلوا عليه.

وأما استدلالهم بقول جميل:

فليت رجالا فيك قد نذروا دمي

وهموا بقتلي يا بنين لقوني

وبقول عنترة:

الشاتمي عرضي ولم أشتمهما

والناذرين إذا لقيتهما دمي

فان الشاعرين أطلقا إسم النذر مع عدم الشرط فمن ركيك الاستدلال لان جميلا ما حكى لفظ نذرهم وإنما أخبر عن أعدائه بأنهم نذروا دمه فمن أين لهم أن نذرهم الذي أخبر عنه لم يكن مشروطا، وكذلك القول في بيت عنترة على أنه قوله إذا لقيتهما دمي هو الشرط، فكأنهم قالوا إذا لقيناه قتلناه فنذروا قتله، والشرط فيه اللقاء له.

١٦٦

[مسائل الكفارات]

وقد مضى في صدر هذا الكتاب الكلام في المسائل التي تنفرد بها الامامية في كفارة واطي إمراته في الحيض وفي باب الصوم أيضا فيمن تعمد أن يبقى جنبا من ليل شهر رمضان إلى نهاره، وفي نظائر هذه المسألة من باب الصوم توجب فيها من الكفارة ما لا يوجبه أكثر الفقهاء، وقد بيناها في باب مسائل الصوم وفي كفارة الجنايات في الحرم، ولا فائدة في إعادة ما مضى وإنما نذكر ما لم يتقدم ذكره.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن من وطئ أمته وهي حائض ان عليه أن يتصدق بثلاثة أمداد من طعام على ثلاث مساكين، وخالف باقي الفقهاء في ذلك دليلنا بعد الاجماع المتردد أنا قد علمنا أن الصدقة بر وقربة وطاعة لله تعالى فهي داخلة تحت قوله تعالى: (وافعلوا الخير) وأمره بالطاعة مما لا يحصى من الكتاب فظاهر الامر يقتضي الايجاب في الشريعة فينبغي أن تكون هذه الصدقة واجبة بظاهر القرآن، وإنما يخرج بعض ما يتناوله هذه الظواهر عن الوجوب ويثبت له حكم النذر بدليل قاد إلى ذلك ولا دليل هاهنا يوجب العدول عن الظواهر.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن من نام عن صلاة العشاء الآخرة حتى يمضي النصف الاول من الليل وجب عليه أن يقضيها إذا استيقظ وإن يصبح صائما كفارة عن تفريطه، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك دليلنا على صحة قولنا بعد الاجماع الذي يتردد الطريقة التي ذكرناها قبل

١٦٧

هذه المسألة بلا فصل من قوله تعالى (وافعلوا الخير) وأمره عزوجل بالطاعة على الترتيب الذي رتبناه.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن على المرأة إذا جزت شعرها كفارة قتل الخطأ عتق رقبة أو إطعام ستين مسكين أو صيام شهرين متتابعين فان خدشت وجهها حتى تدميه كان عليها كفارة يمين، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ودليلنا ما تقدم ذكره فلا معنى لاعادته.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن من شق ثوبه في موت ولده أو زوجته كان عليه كفارة يمين وخالف باقي الفقهاء في ذلك، دليلنا على صحة ما ذكرناه مذهبنا الاجماع وفي المسألتين المتقدمتين لها بلا فصل.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن من تزوج امرأة ولها زوج وهو لا يعلم بذلك أن عليه أن يفارقها ويتصدق بخمسة دراهم، وخالف باقي الفقهاء في ذلك والدليل على ذلك ما تقدم ذكره.

(مسألة) ومما يظن انفراد الامامية به القول: بأن ولد الزنا لا يعتق في شئ من الكفارات، وقد روي وفاقها عن عبدالله بن عمر وعطا والشعبي وطاووس، وباقي الفقهاء يخالفون ذلك، دليلنا بعد إجماع الطائفة قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) ولد الزنا يطلق عليه هذا الاسم.

وقد رووا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: لا خير في ولد الزنا لا في لحمه ولا في دمه ولا في جلده ولا في عظمه ولا في شعره ولا في بشره ولا في شئ منه وأجزاؤه في الكفارات وإسقاط الحكم به على الجاني ضرب من الخير وقد نفاه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فان تعلقوا بظاهر من قوله تعالى: (فتحرير رقبة)، قلنا: نخصص ذلك بدليل كما خصصنا كلنا أمثاله بدليل.

١٦٨

(مسألة) ومما يظن انفراد الامامية به القول: بأن من أفطر لمرض في صوم التتابع بنى على ما تقدم ولم يلزمه الاستيناف، وقد وافق الامامية على هذا أحد قولي الشافعي فله في هذه المسألة قولان: أحدهما أن يستأنف مثل قول باقي الفقهاء، والآخر أنه لا يستأنف، دليلنا الاجماع المتردد.

وأيضا فان المرض عذر ظاهر لسقوط الفرض، وقد علمنا أنه لو أفطر لغير عذر للزمه الاستيناف ولم يجز له البناء، ولا يجوز أن يكون مثل ذلك حكمه مع العذر، لان المعذور لا بد أن يخالف حكمه حكم من لا عذر له، والقوم يفرقون بين المرض والحيض في هذا الحكم ولا فرق بينهما عند التأمل لان لكل واحد منهما عذر لا يقدر على دفعه والانتقال منه.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن من صام من شهر الثاني يوما أو أكثر من صيام الشهرين المتتابعين وأفطر من غير عذر كان مسيئا وجاز له أن يبني على ما تقدم من غير استيناف، وخالف باقي الفقهاء في ذلك دليلنا بعد الاجماع المتكرر قوله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج، وقوله تعالى (يريد الله أن يخفف عنكم)، وقد علمنا ان في الزام من ذكرناه الاستيناف مشقة شديدة وحرج عظيم.

مسائل العتق والتدبير والمكاتبة (مسألة) ومما انفردت به الامامية أن العتق لا يقع إلا بقصد إليه وتلفظ به ولا يقع مع الغضب الشديد الذي لا يملك معه الاختيار ولا مع الاكراه ولا في السكر ولا على جهة اليمين، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، دليلنا بعد الاجماع من الطائفة كل شئ دللنا به على أن الطلاق لا يقع مع

١٦٩

هذه الوجوه التي ذكرناها، وقد تقدم وإن شئت أن تقول: كل من قال من الامة بأن الطلاق لا يقع مع هذه الوجوه قال بمثله في العتق والتفرقة بين المسألتين خلاف الاجماع.

فإن قيل فأنتم تجيزون أن يقع العتق مشروطا مثل أن يقول إن شفاني الله من مرض فعبدي حر والتدبير والمكاتبة عتق مشروط أيضا، قلنا: إنما أنكرنا أن يقع على جهة اليمين، مثل أن يقول: إن دخلت الدار أو فعلت كذا فعبدي حر، وما أنكرنا أن يقع مشروطا في النذور والقربات.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن الولاء للمعتق إنما يثبت في العتق الذي ليس بواجب بل على سبيل التبرع، وأما إذا كان العتق في أمر واجب ككفارة الظهار أو قتل أو إفطار في شهر رمضان أو نذر أو ما أشبه ذلك من جهات الواجب فان الولاء يرتفع فيه والمعتق سائبة، ولا ولاء للمعتق عليه، وخالف باقي الفقهاء في ذلك.

ودليلنا بعد الاجماع المتردد أن الولاء حكم شرعي، والاصل انتفاء الاحكام الشرعية وإنما يثبت بالادلة الظاهره، وقد علمنا بثبوت الولاء في عتق المتبرع، ولم يقم دليل على ثبوته في العتق الواجب فيجب أن يكون على الاصل في انتفائه.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن مولى إذا علق العتق بعضو من أعضاء عبده أي عضو كان لم يقع عتقه، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فذهب أبوحنيفة إلى أنه إن علق العتق بعضو يعبر به عن الجملة كالرأس والفرج وقع العتق وإلا لم يقع.

وذهب الشافعي إلى أن العتق يقع إذا علق بكل عضو من أعضائه من يد أو رجل وغير ذلك، دليلنا الاجماع المتردد.

وأيضا فان وقوع العتق حكم شرعي ولا يجوز إثباته إلا بدليل قاطع وقد

١٧٠

علمنا أن حكم العتق يثبت إذا علق بالجملة ولم يقم دليل على ثبوته إذا علق بالاعضاء فيجب أن ينفيه.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن العتق لا يقع إلا إذا كان لوجه الله والقربة إليه ولم يقصد به غير ذلك من الوجوه مثل الاضرار وما يخالف القربة، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، والدلالة على صحة مذهبنا بعد إجماع الطائفة أن العتاق حكم شرعي ولا يثبت إلا بدليل شرعي، ولا دليل على وقوعه مع نفي القربة.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن من أعتق عبدا كافرا لا يقع عتقه وخالف باقي الفقهاء في ذلك.

والدليل على صحة مذهبنا بعد إجماع الطائفة ما مضى في المسألتين المتقدمتين.

وأيضا فإن في جعل الكافر حرا تسليطا له على مكاره أهل الدين والايمان وذلك لا يجوز.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن العبد إذا كان بين شريكين أو أكثر من ذلك فأعتق أحد الشركاء نصيبه إنعتق ملكه من العبد خاصة فإن كان هذا المعتق موسرا طولب بابتياع حصص شركائه، فإذا إبتاعها إنعتق جميع العبد وإن كان المعتق معسرا وجب أن يستسعى العبد في باقي ثمنه فإذا أداه عتق جميعه، فان عجز العبد عن الكسب والسعاية كان بعضه عتيقا وبعضه رقيقا وخدم ملاكه بحساب رقه وتصرف في نفسه بقدر ما إنعتق منه وخالف باقي الفقهاء في هذه الجملة.

فقال أبوحنيفة: إذا أعتق أحد الشريكين عتق نصيبه ولشريكه ثلاث خيارات إن كان موسرا إن شاء أعتق وإن شاء إستسعى أو إن شاء ضمن، وإن كان معسرا سعى العبد ولم يرجع على المعتق.

وقال ابن أبي ليلى: يعتق كله وهو قول أبي يوسف ومحمد وإن كان الشريك موسرا ضمن، وإن كان معسرا سعى العبد وهو قول الثوري والحسن بن صالح بن حي.

١٧١

وحكى أبويوسف عن ربيعة في عبد بين رجلين أعتقه أحدهما لم يجز عتقه، فان أعتقه الآخر فقد تم عتقهما.

وقال مالك والشافعي إذا أعتقه إحدهما وهو موسر فقد عتق كله وضمن فان كان معسرا كان نصيبه رقيقا يتصرف فيه.

وقال عثمان البستي لا شئ على المعتق إلا أن يكون جارية رايقة تراد للوطي فيضمن ما أدخل على صاحبه من الضرر، وحكى الطحاوي عن قوم أنهم قالوا يعتق العبد كله ويضمن المعتق من شركائه موسرا كان أو معسرا.

ومن تأمل هذه الاقاويل المختلفة وجد قول الامامية على ترتيبه منفردا عنها، والدلالة على صحة مذهبنا الاجماع الذي يتكرر، ثم أن القول بنفوذ العتق في نصيب المعتق لا بد منه لانه يتصرف في ملكه وتعديه إلى ملك غيره لا يجوز لان من لا يملك شيئا لا يجوز تصرفه فيه وتبعيض العتق الذي بنيت هذه المسألة عليه لا بد منه.

وأما الشافعي فقد صرح به في ما حكاه عنه، وكذلك أبوحنيفة أيضا في إثبات الخيارات للشريك إلا أنا إذا قلنا لابي حنيفة أرأيت إذا كان المعتق معسرا أو عجز العبد عن السعاية والتكسب فكيف يكون الحال فلا بد له عند ذلك من القول بمثل ما قلناه.

وأما الشافعي فيلزمه أن يقال له إنما يجوز أن يكون بعضه رقيقا وبعضه حرا إذا فقدت الحيلة في حريته إما بتضمين المعتق إن كان موسرا أو بسعاية العبد إن كان المعتق معسرا لا سيما وأنتم كلكم تروون عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال من أعتق شقصا من مملوك فعليه خلاصه كله من ملكه فإن لم يكن له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه.

وتروون أيضا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: من أعتق شركا له في عبد فهو

١٧٢

حر كله فظاهر هذا الخبر يقتضي ما حكيناه عن أبي يوسف ومحمد وذلك باطل عندنا وعند الشافعي فثبت أنهعليه‌السلام أراد استحقاق التوصل إلى الحرية بكل سبب، فإن استدل الشافعي بما يروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله من أعتق شقصا له في عبده، وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل وأعطى شركاؤه حصتهم وأعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه ما عتق ورق عليه ما رق، فالجواب ان هذا الخبر واحد وإن كنا لا نعرفه ولا ندري عدالة رواته وقد بينا في غير موضع أن أخبار الآحاد العدول لا تقبل في أحكام الشريعة وإنما يصلح أن يحتج بهذا الخبر الشافعي على أبي حنيفة لانهما مشتركان في قبول أخبار الآحاد وأبوحنيفة يجيب عن هذا الخبر بأن يقول: ان العبد رقيق إلى أن يؤدي بالسعاية ما عليه، كما أنه كذلك إلى أن يعتقه صاحبه ولنا على ما نذهب إليه أن تناول ذلك على من عجز عن السعاية من العبيد، فانه يبقى بعضه رقيقا لا محالة، وهذا التأويل أولى من تأويل أبي حنيفة لانه لو أطلق عليه اسم الرق إلى أن يسعى لجاز بيعه وهبته وعندنا لا يجوز ذلك.

[مسائل في التدبير]

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أن التدبير لا يقع إلا مع قصد إليه وإختيار له، ولا يقع على غضب ولا إكراه ولا سكر ولا على جهة اليمين، وتكون القربة إلى الله تعالى هي المقصودة به دون سائر الاغراض، وخالف باقي الفقهاء في هذه المسائل، والدلالة على صحة مذهبنا فيها كلها ما قدمناه في باب العتاق وشروطه، وأنه لا يقع على هذه الوجوه التي قلنا أنه لا يقع عليها، والطريقة في الامرين واحدة.

١٧٣

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أن قسموا بيع المدبر فقالوا إن كان ذلك التدبير تطوعا وتبرعا جاز له بيعه على كل حال في دين وغير دين، كما يجوز له الرجوع في وصيته وإن كان تدبيره عن وجوب لم يجز له بيعه ومعنى ذلك أن يكون قد نذر مثلا ان برئ مريضه أو قدم غائبه أن يدبر عبده ففعل ذلك واجبا لا تبرعا، وما وجدنا أحدا من الفقهاء فصل هذا التفصيل وأطلقوا جواز البيع على كل حال أو المنع منه على كل حال.

وقال أبوحنيفة وأصحابه: لا يجوز بيعه وهو قول ابن أبي ليلى وسائر أهل الكوفة والحسن بن حي، وقال مالك: لا يجوز بيع المدبر فان باع مدبره وأعتقها المشتري فالعتق جائز ينتقض التدبير والولاء للمعتق، وكذلك إن وطئها فحملت منه صارت أم ولد فبطل التدبير.

وقال الاوزاعي: لا يباع المدبر إلا من نفسه أو من رجل يجعل عتقه وولاء‌ه لمن اشتراه ما دام الاول حيا، فإذا مات الاول رجع الولاء إلى ورثته وقال الليث: أكره بيع المدبر، فإن باعه وأعتقه المشتري جاز بيعه وولاء‌ه لمن أعتقه.

وقال عثمان البستي والشافعي: يجوز بيع المدبر من حاجة ومن غير حاجة فما في الجماعة من قسم تقسيم الامامية فصارت المسألة إنفرادا، دليلنا على ما ذهبنا إليه بعد الاجماع الذي يتردد أن التدبير إذا كان على سبيل النذر فهو واجب عليه لازم له فلا يجوز الرجوع فيه ولا الفسخ له وليس كذلك التبرع لانه لا سبب له يقتضيه.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن تدبير الكافر لا يجوز وقد مضى الكلام في نظير هذه المسألة لما دللنا على أن عتق الكافر لا يجوز فان التدبير ضرب من العتق.

١٧٤

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أن من دبر نصيبه من عبد ثم مات إنعتق نصيبه.

والقول في نصيب شريكه كالقول في من أعتق عتقا منجزا حقه من عبده، وتلك القسمة التي ذكرناها في عتق الشقص هي تامة هاهنا، والدلالة على المسألتين واحدة.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أنهم قسموا التدبير وقالوا إن كان عن وجوب فهو من رأس المال، وإن كان عن تطوع فهو من الثلث، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك وما وجدنا لهم هذه القسمة، لان أبا حنيفة وأصحابه والثوري ومالك والاوزاعي والحسن بن حي والشافعي قالوا بالاطلاق وان المدبر يكون من الثلث، وقال زفر والليث بن سعد: المدبر من جميع المال وهو قول مسروق وإبراهيم النخعي وروي عن الشعبي أن شريحا كان يقول المدبر من الثلث فبان بحكاية هذه الاقوال إنفراد لقول الامامية إذ قسموا والدلالة على صحة قولهم بعد إجماع الطائفة أنه إذا كان واجبا جرى مجرى الديون في خروجه من أصل المال، وإذا كان تبرعا وتطوعا فهو كالوصية فيما يتبرع به الموصى والقسمة واجبة، فان استدلوا بالخبر الذي يرويه نافع، عن ابن عمر أنه قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المدبر من الثلث، فالجواب عنه أن هذا خبر واحد لا نعرفه وأنتم تنفردون به، وتعارضه أخبار لنا كثيرة موجودة في الكتب، ولو قبلناه على ما فيه لحملناه على تدبير التطوع والتبرع دون الوجوب.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أن التدبير متى علق بعضو من الاعضاء لم يكن تدبيرا، ولا كان له حكم، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك والشافعي إذا ذهب إلى أن العتق إذا تعلق بأي عضو كان من الاعضاء وقع يجب أن يذهب في التدبير إلى مثله، وأبوحنيفة إذا ذهب إلى أن العتق يقع متى تعلق بعضو يعبر به عن الجملة مثل الرأس والفرج يجب أن يقول في

١٧٥

التدبير مثل ذلك، وكل دليل دللنا به في مسائل العتق من أن العتق لا يقع متى تعلق بعضو من الاعضاء هو بعينه دليل في التدبير في هذه المسألة.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أنه لا يجوز أن يكاتب العبد الكافر وأجاز باقي الفقهاء في ذلك، وقد دللنا على نظير هذه المسألة في مسائل العتق والتدبير، وما دللنا به هناك هو دليل في هذا الموضع.

ويمكن أن يستدل على ذلك أيضا بقوله تعالى (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) فلا يخلو المراد بالخير أن يكون المال أو الصناعة وحسن التكسب على ما قاله الفقهاء أو يراد به الخير الذي هو الدين والايمان، ولا يجوز أن يراد بذلك المال ولا المكتسب لانه لا يسمى الكافر والمرتد إذا كانا موسرين أو مكتسبين خيرين، ولا أن فيهما خيرا ويسمى ذو الايمان، والدين خيرا وإن لم يكن موسرا ولا مكتسبا، فالحمل على ما ذكرناه أولى ولو تساوت المعاني في الاحتمال لوجب الحمل على الجميع.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أن المكاتب إذا شرط على مكاتبه انك متى بقي عليك من مال مكاتبتي شئ رجعت رقا كان هذا الشرط صحيحا ماضيا وإن اشترط عليه أنه متى أدى بعضا وبقي بعضا عتق منه بقدر ما أدى وبقي رقيقا بقدر ما بقي عليه كان ذلك أيضا جائزا وإن لم يشترط شيئا من ذلك وأطلق الكتابة وأدى المكاتب البعض وبقي البعض كان رقيقا بقدر ما بقي عليه وحرا بقدر أدائه.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك فقال أبوحنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى وابن شبرمة والبستي ومالك والشافعي والاوزاعي والليث بن سعد المكاتب عبد ما بقي عليه درهم لا يعتق إلا إذا أدى جميع مال المكاتبة، وروي عن الثوري أنه قال: إذا أدى المكاتب النصف أو الثلث من مكاتبته فأحب أن لا يرد إلى الرق [فهو غريم].

١٧٦

وروي عن الشعبي أنه قال: كان عبدالله وشريح يقولان في المكاتب إذا أدى الثلث فهو غريم.

وروي عن عبدالله أيضا أنه إذا أدى المكاتب قيمة رقبته فهو غريم.

والذي يدل على صحة مذهبنا إجماع الطائفة وإن شئت أن تقول كل من قال ان عتق الكافر لا يصح ولا يقع يقول بما ذكرناه في هذه المسألة، فالتفرقة بين المسألتين خلاف إجماع الامة.

وقد دللنا على أن عتق الكافر لا يصح ولا يقع، ويمكن أن يعتمد أيضا على أن المكاتبة عقد يتعلق بالشرط الذي يرضيان به فيجب أن يكون بحسب ما يشترطان ويتراضيان عليه، وإذا اطلق الكتابة وجعل الرقبة بازاء المال فما نقص عن المال يجب نقصانه من الرقبة.

(مسألة) " بيع أمهات الاولاد ": ومما إنفردت به الامامية القول: بجواز بيع أمهات الاولاد بعد وفاة أولادهن، ولا يجوز بيع أم الولد وولدها حي، وهذا هو موضع الانفراد، فإن من يوافق الامامية في جواز بيع أمهات الاولاد يخالفها في التفصيل الذي ذكرناه.

وقد روت العامة وحكى أصحاب الخلاف القول بجواز بيع أم الولد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " ع " وعبدالله بن عباس وجابر بن عبدالله وأبي سعيد الخدري وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن الزبير والوليد بن عقبة وسويد بن غفلة وعمر بن عبدالعزيز ومحمد بن سيرين وأبي الزبير وعبدالملك ابن يعلى وهو قول أهل الظاهر.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك ومنعوا من بيعهن.

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة عليه قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربوا) وهذا عام في أمهات الاولاد وغيرهن.

فإن قيل: قد أجمعنا على أن قوله تعالى وأحل الله البيع مشروط بالملك فان بيع ما لا يملكه لا يجوز.

١٧٧

قلنا: الملك باق في أم الولد بلا خلاف، لان وطئها مباح له ولا وجه لاباحته إلا بملك اليمين.

ويدل أيضا على ذلك أنه لا خلاف في جواز عتقها بعد الولد ولو لم يكن الملك باقيا لما جاز العتق، وكذلك يجوز مكاتبتها وأن يأخذ سيدها ما كاتبها عليه عوضا عن رقبتها، وهذا يدل على بقاء الملك.

وكذلك أجمعوا على أن قاتلها لا يجب عليه الدية وإنما يجب عليه قيمتها.

فإن قالوا: ان بقاء الملك لا يدل على جواز البيع بل لا يمتنع أن يبقى الملك وهو ناقص كملك الشئ المرهون فهو باق للراهن وإن لم يجز بيعه، قلنا: إذا سلمتم بقاء الملك.

فبقاؤه يقتضي استمرار أحكامه، فإذا ادعيتم فيه النقصان طولبتم بالدلالة ولن تجدوها، على انا لو سلمنا نقصان الملك تبرعا لجاز أن نحمله على أنه لا يجوز بيعها مع بقاء ولدها، وهذا ضرب من النقصان في الملك.

ويدل أيضا على ذلك قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم)، وقد علمنا أن للمولى أن يطأ أم ولده وإنما يطأها بملك اليمين، لانه لا عقد هاهنا، وإذا جاز أن يطأها بالملك جاز له أن يبيعها، كما جاز له مثل ذلك في سائر جواريه.

ومما يشهد لما ذكرناه أن بيع أمهات الاولاد كان مستعملا في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومتعارفا طول أيام أبي بكر حتى نهى عمر عن ذلك فامتنع منه اتباعا له، وإنما نهى عن ذلك لمصلحة رآها، كنهيه عن متعة الحج وإلزامه المطلق ثلاثا بلفظ واحد تحريم زوجته عليه واغرامه أنس بن مالك وديعة هلكت في ماله إلى مسائل كثيرة خالف فيها جميع الامة، وما الخلاف عليه في بيع أمهات الاولاد إلا كالخلاف عليه في المسائل التي ذكرنا بعضها.

ومما يقوي أن نهي عمر عن بيع أمهات الاولاد كان لرأي إختاره هو ما روي عن عبدالله بن أبي الهذيل قال:

١٧٨

جاء شاب إلى عمر فقال: ان أمي اشتراها عمي فهو بعلها وينظرها وأنا ضاربه ضربة ادخل فيها النار، فقال عمر هذا فساد، فرأى يومئذ أن يعتقن فلو لم يكن بيع أم الولد جائزا لكان عمر يفسخ شرى عم الغلام للجارية ويردها إلى أبي الغلام، ومما يمكن إيراده على سبيل المعارضة فانه وارد من طريق الآحاد التي لا يجوز الاحتجاج بها فيما طريقه العلم، وإنما يصح لاصحابنا أن يعارضوا بها لان خصومنا يرون العمل بأخبار الآحاد ما رواه أبوداود سليمان بن أشعث السجستاني قال حدثنا عبدالله بن النوفلي قال حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن خطاب ابن صالح مولى الانصار عن أمه عن سلامة بنت معقل قالت: قدم إلي عمي في الجاهلية فباعني من الحباب بن عمر فولدت له عبدالرحمن ثم هلك فقالت امرأته الآن تباعين في دينه، فأتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبرته فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لاخيه أبي البشر كعب بن عمر اعتقوها، فإذا سمعتم برقيق قدم علي فأتوني اعوضكم عنها فعوضهم عني غلاما فلو عتقت أم الولد بموت سيدها لما أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الوارث بعتقها ولما ضمن العوض عنها، ولقال له: قد عتقت بموت سيدها وليس لكم بيعها.

ومما يمكن ذكره أيضا على سبيل المعارضة ما رواه عطا وأبوالزبير وابن أبي نجيح كلهم عن جابر بن عبدالله قال: بعنا أمهات الاولاد على عهد رسول الله وأبي بكر، فلما كان أيام عمر نهانا.

وعن زيد العمى عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: كنا نبيع أمهات الاولاد على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن إبراهيم بن مهاجر قال: سمعت ابن غفلة يقول: كنا نبيع أمهات الاولاد على عهد عمر إلى أن نهانا عنه، وعن عبيدة السلماني عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليه‌السلام " قال: كان من رأيي ورأي عمر ألا تباع أمهات الاولاد وقد رأيت أن أبيعهن

١٧٩

وعن محمد بن سيرين عن عمر بن مالك الهمداني عن عمر قال: ان أسلمت وعفت عتقت، وإن كفرت وفجرت رقت.

وفي هذا الخبر دليل على أن نهيه عن بيعها كان على سبيل الاستحباب لانها لو عتقت بموت السيد لما منع فجورها من عتقها.

وروى الاجلح عن زيد بن وهب قال: أصاب ابن عم لنا جارية فولدت منه بنتا وماتت البنت فأتينا عمر فقصصنا عليه القصة فقال: هي جاريتك فإن شئت فبعها.

وعن الحكم عن زيد بن وهب عن عمر نحوه.

وأما اعتراض من يعترض على ما ذكرناه في الرواية عن جابر وأبي سعيد الخدري من أننا كنا نبيع أمهات الاولاد والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حي فينا لا يرى بذلك بأسا بأن يقول ليس في ذلك دليل على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان عالما بذلك ولم ينكره، وقد يجوز أن يكون في حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما لا يعرفه فليس بشئ مرضي، لان احتجاج الرجلين بأن بيع أمهات الاولاد كان في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خرج مخرج الاخبار بأنه كان عالما بذلك وإلا فلا فائدة في أنه يجري في أيامه ما لا يعرفه ولو ساغ هذا التأويل لقيل لهما هذا التخريج الذي خرجه الخصوم، فلما لم يقل ذلك دل على أنهما إنما أخبرا بأن ذلك جرى وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله يعرفه ويبلغه ولا ينكره، وقد تعلق من امتنع من بيع أمهات الاولاد بأشياء منها إن ولد هذه الامة حر لا محالة وهو كالجزء منها فحريته متعدية إليها.

ومنها ما رواه عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيما رجل ولدت منه أمته فهي معتقة عن دبر منه.

وعن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نحوه.

وعن سعيد بن المسيب قال: أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعتق أمهات الاولاد، وأن لا يبعن ولا يستسعين، وبما روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله في مارية حين ولدت منه أنه قال: أعتقها ولدها، وادعوا أيضا

١٨٠