أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان6%

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 595

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان
  • البداية
  • السابق
  • 595 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156309 / تحميل: 12325
الحجم الحجم الحجم
أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أشهد أن علياً ولي الله

في الأذان

بين الشرعية والابتداع

السيد علي الشهرستاني

١

٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

[مقدمة المؤلف]

تساؤل يطرح نفسه بين الحين والآخر، وهو: ما هذا الاختلاف في الأذان؟ وهل الذي تؤذّن به الشيعة الإمامية هو الصحيح أم ما يؤذّن به الآخرون؟ ولماذا نرى أذان الآخرين يختلف عن أذان الشيعة الإمامية؟ وأيّهما هو المشروع وأيّهما المبتدع؟

وهل يصح ما قاله الآخرون عن الشيعة من أن أذانهم مبتدع؟ أم أنّه شرعي؟

و إذا كان أذان الإمامية شرعياً، فهل أذّن به رسول الله والإمام علي والأئمّة من ولده أم لا؟

و إذا كانوا قد أذّنوا به، فهل قالوا:(أشهد أن عليّاً ولي الله) تحديداً بهذه الصيغة، أم قالوها بصيغ أُخرى؟

إنه تساؤل مطروح يَبْحَث عن جواب.

ولا يخفى عليك أنّ هذا التساؤل يردُ أيضاً على المذاهب الأربعة وغيرها، فلماذا اختلفت المذاهب الأربعة في صيغ الأذان وعدد فصوله مع اعتقادهم بأنّ الأذان منقول نقلَ كافَّة بمكّة والمدينة والكوفة؟

و إذا كان منقولاً ومنذ عهد الرسول الأعظم، فلماذا تربّع الشافعية التكبير(١) بخلاف المالكيّة القائلة بالتثنية(٢) ؟

بل لماذا لا ترى الحنفية التثويب (= الصلاة خير من النوم) إلاّ بعد أذان

____________________

(١) انظر المهذب لأبي إسحاق الشيرازي ١: ٥٤، والإقناع للشربيني ١: ١٣٩، المجموع ٣: ١٠٠.

(٢) انظر المدونة الكبرى ١: ٥٧، الكافي لأبي عبد البر ١: ٣٧، كفاية الطالب ١: ٣١٨.

٥

الفجر(١) ، في حين تراه المذاهب الأُخرى مشروعاً في أذان الفجر؟ وهكذا الحال بالنسبة إلى إفراد أو تثنية الإقامة عند المذاهب الأربعة، فهم مختلفون في ذلك !!

نعم، قد جمع ابن حزم بين تلك الوجوه بقوله: (... كلُّ هذه الوجوه قد كان يُؤذَّنُ بها على عهد رسول الله بلا شكّ، وكان الأذان بمكّة على عهد رسول الله يسمعه إذا حجّ، ثم يسمعه أبو بكر وعمر، ثمّ عثمان بعده.. فمن الباطل...). إلى أخر كلامه المار ذكره سابقاً(٢) .

هذا بعض الاختلاف في الأذان عند المذاهب الأربعة، وهم ليسوا من الشيعة الإماميّة، فما هو السرّ في هذا الاختلاف في شعار كان يتكرّر بمرأى ومسمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة مراراً عديدة كلّ يوم؟!

والآن فلنقرر السؤال السابق بطرح سؤال آخر، وهو: هل الإمام علي بن أبي طالب ذُكر اسمه في القرآن أم لا؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب، فأين ذُكِرَ؟ و إن كان بالنفي، فكيف يمكن الاستدلال على إمامته في حين لم ينصّ القرآن على هذا الموضوع المهم؟

لقد نزلت في علي أكثر من خمسمئة آية، وروي عن ابن عباس أنّه قال: ما نزل في أحد من كتاب الله ما نزل في علي(٣) .

وفي آخر عنهرضي‌الله‌عنه أنه قال: نزلت في علي ثلاثمئة آية(٤) .

____________________

(١) المبسوط للسرخسي ١: ١٣٠، تحفة الفقهاء ١: ١١٠، بدائع الصنائع ١: ١٤٨.

(٢) المحلى ٣: ١٥٤، وقد كانت لنا وقفة علمية مع هذا الكلام في الكتاب الأول من هذه الدراسة، والمطبوع تحت عنوان (حي على خير العمل الشرعية والشعارية) الباب الأول ص ١٩.

(٣) تاريخ دمشق ٤٢: ٣٦٣، شواهد التنزيل ١: ٥٢، السيرة الحلبية ٢: ٤٧٤، تاريخ الخلفاء: ١٧١، بحار الأنوار ٣٦: ١١٧، عن كشف اليقين للعلاّمة الحلي: ٣٥٦.

(٤) البداية والنّهاية ٧: ٣٥٩، الصواعق المحرقة ٢: ٣٧٣.

٦

وعن مجاهد، قال: نزلت في علي سبعون آية لم يشركه فيها أحد(١) .

إنّ البحث في خصائص علي وما نزل فيه من الذكر الحكيم كانت من البحوث الشائعة في القرون الثلاثة الحسّاسة: الثالث والرابع والخامس الهجري. فقد ألَّف الحسين بن الحكم بن مسلم الحبري المتوفَّى ٢٨١ هـ كتاباً باسم(ما نزل في القرآن في علي) (٢) .

وكذا إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي الكوفي المتوفَّى ٢٨٣ هـ كتاباً سماه(ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين) (٣) .

ولابن أبي الثلج البغدادي المتوفَّى ٣٢٥ كتاب بعنوان(أسماء أمير المؤمنين في كتاب الله عزّوجلّ) (٤) .

وكتب عبد العزيز بن يحيى الجلودي المتوفَّى ٣٣٢ هـ(ما نزل في علي من القرآن) (٥) .

ولأبي الفرج الأصفهاني المتوفَّى ٣٥٦ هـ(التنزيل في أمير المؤمنين وآله عليهم‌السلام ) (٦) .

ولمحمد بن عمران المرزباني الخراساني المتوفَّى ٣٧٨ هـ(ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين) (٧) .

ولأبي نُعَيْم الأصفهاني المتوفَّى ٤٣٠ هـ(ما نزل من القرآن في أمير

____________________

(١) شرح الأخبار ٢: ٥٧٠، ٥٧٤، شواهد التنزيل ١: ٥٢.

(٢) المطبوع باسم تفسير الحبري بتحقيق صديقنا المحقق السيّد محمد رضا الجلالي (حفظه الله تعالى)، وأخبرني سماحته بأنه رجّح في تحقيقه الجديد للكتاب أن وفاته سنة ٢٨١ بدل ٢٨٦ هـ كما هو موجود في تاريخ الإسلام للذهبي ٢١: ١٥٨ وغيره.

(٣) رجال النجاشي: ١٧ / ت ١٩ والذريعة ١٩: ٢٨.

(٤) الذريعة ١١: ٧٥ وانظر ج ١٩: ٢٨ و ٤: ٤٥٤ فقد ذُكر بأسماء أخرى.

(٥) رجال النجاشي: ٢٤١ ت ٦٣٩، الذريعة ١٩: ٢٨. وله كتاب آخر بعنوان:(ما نزل في الخمسة [ أصحاب الكساء ]) انظر ترجمته.

(٦) معالم العلماء: ١٤١، وانظر الذريعة ١٩: ٢٨.

(٧) معالم العلماء: ١١٨، الذريعة ١٩: ٢٩.

٧

 المؤمنين) (١) .

ولابن الفحّام النيسابوري المتوفَّى ٤٥٨ هـ(الآيات النازلة في أهل البيت عليهم‌السلام ) (٢) .

وقد نوّه النجاشي في رجاله عند ترجمته لبعض الأعلام إلى أسماء بعض تلك المصنّفات. ففي ترجمة ابن الجُحام محمد بن العَبّاس بن علي البزاز ذكر أن له كتاباً بعنوان:(ما نزل من القرآن في أهل البيت) (٣) .

وفي ترجمة الحسن بن أحمد بن القاسم ذكر أن له كتاباً بعنوان:(خصائص أمير المؤمنين من القرآن) (٤) .

وفي ترجمة محمد بن أُوْرَمة القمّي نسب إِليهِ كتاب:(ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين) له(٥) .

وفي ترجمة أبي موسى المجاشعي ذكر أنّ له كتاباً بعنوان(ما نزل من القرآن في علي) (٦) .

وفي ترجمة أبي العباس الإسفرائيني(المصابيح في ذكر ما نزل من القرآن في أهل البيت) (٧) .

ونحن لا نريد التفصيل في الجواب عن السؤال الثاني بقدر ما نريد الإشارة إلى تأذين الرسول والأئمّة بالولاية، إذ لم ينكر أحد صلة الإمام علي بالقرآن والقرآن

____________________

(١) معالم العلماء: ٢٥، الذريعة ١٩: ٢٨.

(٢) لسان الميزان ٢: ٢٥١، معجم المؤلفين ٣: ٢٩٢.

(٣) رجال النجاشي: ٣٧٩ ت ١٠٣٠.

(٤) رجال النجاشي: ٦٥ ت ١٥٢، وانظر الذريعة ٢: ٦٥.

(٥) رجال النجاشى: ٣٣٠ ت ٨٩١، وانظر الذريعة ١٩: ٢٩.

(٦) رجال النجاشي: ٤٣٩ ت ١١٨٢.

(٧) رجال النجاشي: ٩٣ ت ٢٣١.

٨

بعلي، فعليّ مع القرآن والقرآن مع علي(١) ، لأنّه الوحيد الذي علم بتنزيل القرآن وتأويله(٢) . وعلم بنزول الآيات في ليل أو نهار، وفي سهل أو جبل(٣) . وقد ذكره رسول الله عدلاً للقرآن، وأحد الثقلين اللذين تصان بهما الأمة وتُحفظ من الضلال.

لكننا قد نواجه إشكالاً مفادُهُ: أننا لا نرى أنّ اسمه ورد صريحاً في القرآن الكريم، لماذا؟

ليس من الضرورة أن يذكر القرآن كلّ شيء، وقد أجاب عمران بن حصين لمن قاله له: تَحَدَّثْ بالقرآن واترك السنّة، قال له: أرايت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القران، أكنت تجد فيه صلاة العصر أربعاً وصلاة الظهر أربعاً، أكنتَ تجد الطواف بالبيت سبعاً والرمي سبعاً(٤) ...

فالقرآن يبين الكلّيات التي تقف عليها الشريعة أصولاً وفروعاً، فالصلاة مثلاً ذكرها الله وترك تفاصيلها للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله (٥) ، وهكذا الحال بالنسبة إلى غيرها من الأمور الشرعية.

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٤٧٩ / ح ١٠٤٥، المعجم الصغير للطبراني ١: ٢٥٥، الجامع الصغير للسيوطي ٢: ١٧٧ / ح ٥٥٩٤.

(٢) الكافي ١: ٢١٣ / باب إن الراسخين في العلم هم الأئمّةعليهم‌السلام / ح ١، ٢، ٣. وانظر فيض القدير ٤: ٣٦٩.

(٣) انظر تفسير الصنعاني ٣: ٢٤١، طبقات ابن سعد ٢: ٣٣٨، التاريخ الكبير ٨: ١٦٥، تاريخ دمشق ٢٧: ١٠٠، ٤٢: ٣٩٨، المواقف ٣: ٦٢٧، منح الجليل ٩: ٦٤٨، ينابيع المودة ١: ٢٢٣، وانظر تفسير أبي حمزة الثمالي: ١٠٤.

(٤) انظر الكفاية في علم الرواية: ١٥، المطالب العالية ١٢: ٧٣٤.

(٥) جاء في الكافي ١: ٢٨٦ / باب ما نص الله عزّ وجلّ ورسوله على الأئمةعليهم‌السلام واحداً فواحد / ح ١، عن أبي بصير أنّه قال قلت لأبي عبد الله [ الصادق ] أن الناس يقولون: فما له لم يسم علياً وأهل بيته في كتاب الله عزّ وجلّ؟ فقال:(قولوا لهم: إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نزلت عليه الصلاة ولم يسم الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً حتى كان رسول الله هو الذي فسّر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يسم...) إلى أخر الخبر.

٩

إن القولَ بعدم ذكر الشهادة بالولاية صريحاً في الأذان، هو مساوق للقول بعدم ورود اسم الإمام علي صريحاً في القرآن، مع أنّ في الأذان والقرآن الكريم ما يدل على الولاية والإمامة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب؟!

ونحن في دراستنا هذه لا نريد أن نذهب إلى جزئية الشهادة الثالثة في الأذان حتى يلزمنا القول بأن الرسول أو الإمام علي وأولاده المعصومين قد أذّنوا بهذا الأذان. فجملة (حي على خير العمل) في الأذان دالة على الإمامة، والرسول والصحابة كانوا يؤذنون بها، وقد سمح الإمام الكاظم بفتحها والأخذ بتفسيرها معها، بل دَعا إلى الحث عليها. كما أن هناك آيات كثيرة دالة على الإمامة، وكان من منهج بعض الصحابة أن يبيّنوا آيات الذكر الحكيم و يأتوا على تفسيرها السياقي وشأن نزولها وسرّ تشريعها معها، كما هو المشاهد في قراءة ابن مسعود التفسيرية لآية البلاغ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) أنّ عليّاً مولى المؤمنين( وإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (١) .

وقرأ كذلك:( وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ) بعلي بن أبي طالب(٢) .

وكان أُبيّ بن كعب يقرأ:( النَّبِيُّ أَولَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) وهو أبٌ لهم(٣) .

وقرأ ابن عباس:( مِنْ أَنفُسِهِمْ ) وهو أبٌ لهم( وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (٤) .

____________________

(١) شواهد التنزيل ١: ٢٥٧، الدر المنثور ٢: ٢٩٨، وعنه في بحار الأنوار ٣٧: ١٩٠.

(٢) شواهد التنزيل ٢: ٣ الإكمال ٧: ٥٣ ورواه ابن عساكر في ترجمة أمير المؤمنين علي من تاريخ دمشق ٤٢: ٣٦٠ الحديث ٩١٩، والدر المنثور ٥: ١٩٢، ٦: ٥٩٠، كفاية الطالب: ٢٣٤، غاية المرام: ٤٢٠.

(٣) الدر المنثور ٦: ٥٦٧، مصنف عبد الرزاق ١٠: ١٨١ / ح ١٨٧٤، وفيه: (وهو أبوهم)، وهي في قراءة ابن مسعود كذلك؛ انظر الكشاف ٣: ٥٣٢.

(٤) المحرر الوجيز ٤: ٣٧٠.

١٠

وجاء عن أُبي أنّه كان يقرأ:( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ في قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام( فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ ) (١) .

وعن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، أنهم قرءوا:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ورهطك المُخْلَصين(٢) .

وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال لي عمر: ألسنا كنا نقرأ فيما نقرأ: ( وَجَاهِدُواْ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) في آخر الزمان كما جاهدتم في أوّله(٣) .

قال ابن عطيّة الأندلسي (ت ٥٤٦ هـ) فيالمحرر الوجيز : روي أنّ ابن مسعود كتب في مصحفه أشياء على جهة التفسير فظنّها قوم من التلاوة فتخلط الأمر فيه، ولم يسقط فيما ترك معنى من معاني القران؛ لأنّ المعنى جزء من الشريعة، و إنّما تركت ألفاظ معانيها موجودة في الذي أثبت...(٤) .

وقال ابن السرّاج القاضي القونوي الحنفي (ت ٧٧٧ هـ) فيشرح المعتمد : ومن أسباب اختلاف الفقهاء اختلافهم في الاحتجاج بالرواية الشاذة من القران الكريم، فقد كان بعض الصحابة يكتب في مصحفه كلمات على سبيل التفسير والبيان، فرواها الناس عنه على أنها قراءة، مثال ذلك زيادة ابن مسعود كلمة (متتابعات) عقب قوله تعالى:( فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّام ) في سورة المائدة(٥) .

وقال أبو حيّان الأندلسي (ت ٧٤٥ هـ) فيالبحر المحيط عن الآية:( وَإِذِ

____________________

(١) المستدرك للحاكم ٢: ٢٢٥، كنز العمال ٢: ٥٦٨ و ٥٩٤، الدر المنثور ٦: ٧٩، سير أعلام النبلاء ١: ٣٩٧.

(٢) تفسير الطبري ١٩: ١٢١ في قراءة عمرو، عيون أخبار الرضا ٢: ٢٠٩ في مصحف عبد الله بن مسعود وقراءة أُبي بن كعب.

(٣) الدر المنثور ٤: ٣٧١ و ٥: ١٩٧، كنز العمال ٢: ٤٨٠.

(٤) المحرر الوجيز ١: ٤٨.

(٥) انظر شرح المعتمد، لابن السراج القاضي / القول ١١٩، من أسباب اختلاف الفقهاء.

١١

 اعْتَزَلْتمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْووا إِلَى الكَهْفِ... ) : وفي مصحف عبد الله (وما يعبدون من دوننا)... إنما أُريد به تفسير المعنى وأنّ هؤلاء الفتية اعتزلوا قومهم وما يعبدون من دون الله وليس ذلك قرآناً...(١) .

وفيالمحرّر الوجيز : وفي مصحف عبد الله ( ملاقوها ) مكان( مُوَاقِعُوهَا ) الواردة في الآية ٥٤ من سورة الكهف(٢) ، فقال الأندلسي فيتفسير البحر المحيط : الأَولى جعله تفسيراً لمخالفة سواد المصحف(٣) .

وفيتفسير البحر المحيط أيضاً عن الآية ٣٦ سورة يوسف: وفي مصحف عبد الله:( وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي ) ثريداً( تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ) ، وهو أيضاً تفسير لا قراءة(٤) .

وبناءً على هذه التَقْدُمَة يمكننا أن نقول: إنّ الشهادة بالولاية جاءت في الأذان كناية وتفسيراً؛ وذلك لنفس الظروف التي ساقت إلى عدم ذكر اسم الإمام عليّ في القرآن. إنّها جملة (حي على خير العمل) التي تعني الولاية والإمامة، كما في روايات أهل البيت.

ونحن قد أثبتنا في الباب الأوّل من هذه الدراسة(٥) وجود هذا الفصل في الأذان على عهد رسول الله، وتأذين الصحابة وأهل البيت به، ثمّ انفراد العامّة في العهود اللاحقة بدعوى النسخ فيه، وذلك بعد إقرارهم بشرعيّته على عهد رسول الله، وقد تحدّاهم السيّد المرتضى بأن يأتوه بالناسخ ولم يفعلوا !

____________________

(١) البحر المحيط ٦: ١٠٣.

(٢) المحرر الوجيز ٣: ٥٢٤.

(٣) البحر المحيط ٦: ١٣١.

(٤) البحر المحيط ٥: ٣٠٨.

(٥) المطبوع تحت عنوان:( حي على خير العمل: الشرعية والشعارية ).

١٢

وهذا يعرّفنا بأنّ من يقول بالحيعلة الثالثة (حيّ على خير العمل) يمكنه الاعتقاد برجحان الشهادة بالولاية في الأذان، لأنّها جاءت مفسَّرة من قبل المعصومين بذلك، فالنبيُّ والإمامُ عليٌّ والأئمّة من ولده كانوا يؤذّنون بحيّ علي خير العمل بلا أدنى ريب، فلا يستبعد اعتقادهم بجواز الإتيان بتفسيرها معها لا على الشطرية، وهو الملاحظ اليوم عند المسلمين، فالذي يعتقد بشرعية الحيعلة الثالثة يمكنه أن يُخرج الشهادة الثالثة مخرجاً شرعيّاً، والذي لا يقول بالحيعلة الثالثة فهو لا يقبل الشهادة بالولاية من باب الأَوْلى.

نعم، نحن لو قلنا بتأذين الرسول وأهل البيت بها لصارت جزءاً، وهذا ما لا نريد قوله، وإن عدم ورودها في الروايات البيانية الصادرة عن المعصومين في الأذان أو عدم فعلهمعليهم‌السلام لها يؤكد عدم جزئيتها لا عدم محبوبيتها، وأن الأئمةعليهم‌السلام قد يكونوا تركوا أموراً جائزة أو مستحبة تقية، فالذي نريد أن نقوله أنّه قد ثبت بالقطع واليقين أن الأئمّة كانوا يقولون: (حيّ على خير العمل) في أذانهم، وثبت عنهم أيضاً بما لا يقبل الترديد أنّهم فسّروها بمعنى الولاية كما في كلام الأئمّة المعصومين كالباقر(١) والصادق(٢) والكاظم(٣) عليهم‌السلام . والإمام الكاظم قد أجاز

____________________

(١) علل الشرائع ٢: ٣٦٨ الباب ٨٩ ح ٥، معاني الأخبار: ٤٢ وفيهما: قال: أتدري ما تفسير (حي على خير العمل)، قلت: لا. قال: دعاك إلى البر. أتدري بر من؟، قلت: لا. قال: دعاك إلى بر فاطمة وولدها.

(٢) التوحيد للصدوق:٢٤١، فلاح السائل:١٤٨ - ١٥٠ مناقب بن شهرآشوب ٣: ١٠٧.

(٣) علل الشرائع ٢: ٣٦٨ وعنه في وسائل الشيعة ٥: ٤٢٠.

قال الشيخ يوسف البحريني في رسالته (الصوارم القاصمة لظهور الجامعين بين ولد علي وفاطمة) المطبوعة في الدرر النجفية: (ولا يخفى على العارف بطريقة الصدوق في جملة كتبه ومصنفاته أنه لا يذكر من الأخبار إلا ما يعتمده، ويحكم بصحته متناً وسنداً ويفتي به، وإذا أورد خبراً بخلاف ذلك ذيله بما يشعر بالطعن في سنده أو دلالته ونبه على عدم قبوله

١٣

الإتيان بتفسيرها وبيان معناها معها، وهو دليل على محبوبيتها عندهمعليهم‌السلام ، ونحن نأتي بها بهذا العنوان لا غير.

بل في كلام الإمام علي بن الحسين (أنّه كان في الأذان الأولّ)(١) ما يؤكد تشريع (حيّ على خير العمل) في الإسراء والمعراج، ودلالته على وجود عنوان الولاية في السماء وعلى ساق العرش، لكنّ الآخَرين حرّفوه وغيّروه، ومن هنا حدثت المشكلة بين نهج علي ونهج الصحابة في الأذان.

هذا، وإنّ في معتبرة(٢) الفضل بن شاذان المرويّة فيعلل الشرائع عن الإمام الرضاعليه‌السلام ، ما يؤكد وجود عنوان الولاية في الأذان، إذ جاء فيها:... ويكون المؤذّن بذلك داعياً إلى عبادة الخالق ومرغّباً فيها، مقراً بالتوحيد، مجاهراً بالإيمان، معلناً بالإسلام...(٣) .

وحين سأل إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله الإمامَ السجاد لما قدم وقد قتل الحسين بن علي (صلوات الله عليه)، قائلاً: يا علي بن الحسين من غَلَب؟ أجابه

____________________

بمضمونه وهذه طريقته المألوفة وسجيته المعروفة، وهذا المعنى وإن كان لم يصرح به إلا في صدر كتابه(من لا يحضره الفقيه) إلا أن متتبع لكلامه في كتبه، والواقف على طريقته لا يخفى عليه صحة ما ذكرناه).

وبما أن الصدوق لم يذيل ما رواه في العلل وغيره بالطعن في متن أو سند الحديث نعلم أن مضمون تلك الأخبار مقبولة عنده.

(١) لا يخفى عليك بأنّ ليس للشيعة أذانان كما هي للعامة في أذان الفجر، وبذلك فلا معنى للأذان الأول في كلام الإمامعليه‌السلام إلاّ ما قلناه.

(٢) لاحظ السيد الحكيم في المستمسك ٨: ٣٤٤ - ٣٤٦، والسيد الخميني في المكاسب المحرمة ٢: ٥٥، والشيخ حسين آل عصفور في تتمة الحدائق ٢: ١٤٣، ومستند الشيعة ٥: ٤٣٥، ومسالك الأفهام ٢: ٢٣، وذخيرة المعاد ١: ٥١٠.

(٣) علل الشرائع ١: ٢٥٨، وسائل الشيعة ٥: ٤١٨، الفقيه ١: ٢٩٥ / ح ٩١٤، والذي أحتمله في كلام الإمامعليه‌السلام هو التقديم والتأخير في كلمة الإسلام والإيمان فيه، وتكون العبارة: مجاهراً بالإسلام ومعلناً بالإيمان، وهذا ما يؤكده ذيل الخبر.

١٤

الإمامعليه‌السلام : إذا أردت أن تعلم من غَلَبَ، ودَخَلَ وقت الصلاة، فأذِّنْ ثمَّ أقِمْ(١) .

وهذا يعني أَنَّ الإمام السجاد أراد أن يقول لإبراهيم إِنَّ الأئمّة هم امتداد للشهادة بالرسالة وكما قال رسول الله: حسين مني وأنا من حسين(٢) .

وكذا في كلام الإمام الهادي الآتي، وبيانه لمعنى (نداء الصوامع) المذكور في شعر الحِمّاني، للمتوكل العباسي(٣) .

وقد يكون قبل ذلك في مرسلة القاسم بن معاوية فيالاحتجاج عن الصادقعليه‌السلام ما يدل على ذلك، لأنّ العارف بلسان وظروف الأئمّة وما كانوا يعيشون فيه من التقيّة، يعرف بأنّ الإمام قد يأتي بالعموم ويريد الخصوص، والأذان هو الأهم إن سنحت الظروف للجَهْر به.

إن مبحث (حيّ على خير العمل) هو النافذة التي نريد الإطلالة من خلالها على الشهادة الثالثة، وهو الميدان الأساسيّ الذي كتبنا عنه سابقاً(٤) ، كما أنّه الانطلاقة العلمية والتأسيسية التي نريد الدخول عبرها إلى الشهادة الثالثة؛ لنُشيد به هذا الصرح العقائدي والفقهي، وذلك للتقارب والتجانس الملحوظ بينهما حسبما سيتّضح لاحقاً؛ لأنّ الكلام في الحيعلة الثالثة يوصلنا إلى رجحان الشهادة الثالثة، والذي جئنا به تقوية لما استدلّ به الفقهاء من مرسلة الاحتجاج، والعمومات، وقاعدة التسامح في أدلة السنن، وما يماثلها.

إنّ موضوع الشهادة الثالثة في الأذان من المواضيع الحسّاسة والهامّة التي لم

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٦٧٧ / ح ١٤٣٢، وعنه في بحار الأنوار ٤٥: ١٧٧ / ح ٢٧.

(٢) سنن الترمذي ٥: ٦٥٨ / ح ٣٧٧٥، قال الترمذي: هذا حديث حسن ورواه غير واحد عن عبد الله بن عثمان، سنن ابن ماجه ١: ٥١ / ح ١٤٣، مسند أحمد ٤: ١٧٢ / ح ١٧٥٩.

(٣) الأمالي، للشيخ الطوسي ٢٨٧ / ح ٥٥٧، وانظر ديوان علي الحمّاني: ٨١، ومناقب ابن شهرآشوب ٣: ٥١٠.

(٤) تحت عنوان:(حي على خير العمل: الشرعية والشعارية) المطبوع في بيروت، مؤسسة الأعلمي، وهو يقع في ٤٩٦ الصفحة.

١٥

تحظ بعناية الباحثين والمحقّقين بالشكل المطلوب، وهي لم تكن من المواضيع المُحْدَثة والوليدة في العصور اللاّحقة حسب ما صوّره بعض الكتّاب، بل هي قديمة بقدم تاريخ التشيّع، سارت معه جنباً إلى جنب، فما قاله البعض من أنّها قد شرعت في عهد الشاه إسماعيل الصفوي المتوفَّى ٩٣٠ هـ، وكذا قول الأخر: إنّها بدعة محدثة، هو جُرأةٌ على العلم وتجاوز على الحقائق التاريخية(١) ، خصوصاً وأنّ نصوص هذه المسألة مذكورة وموجودة في كتب القدماء والمتأخّرين، لكنّها متناثرة بين طيات كتب الحديث، والفقه، والتاريخ، تحتاج إلى بحث وتتبّع ومثابرة واسعة، والسابرُ لكلمات الفقهاء، وأخبار المؤرّخين، وروايات المحدّثين، يقف على هذا الكمّ الهائل الدال على هذه الشهادة، إمّا تصريحاً، أو تلميحاً، أو إيماءً، أو إشارة.

وإن ما حكاه الشيخ الطوسي بورود شواذ الأخبار فيها كافية لإثبات المحبوبية والمشروعية؛ لأن صحة عمل ما لا يتوقف على فعلهمعليهم‌السلام له، بل يكفي تصريحهم بجوازه وصحته، أو تقريرهم لفاعله.

إن دعوى كونها بدعة لترك المعصوم لها كلامٌ غير واقعي وغير صحيح، فكما أن الإثبات يحتاج إلى دليل فالنفي هو الأخر يحتاج إلى دليل، فليأتِنا القائل بالحرمة على أن النبي أو الأئمة لم يفعلوها على نحو الجزم واليقين، أو ليأتونا بدليل عن نهي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في القول بالشهادة الثالثة، في حين أن الأمر عكس ذلك، فهناك أدلة كثيرة صدرت عن النبي والأئمة من ولده على محبوبية الشهادة بالولاية في الأذان وفي غيره، لكن ظروف التقية لم تسمح لهم بالإجهار بها مما جعلتها أخباراً

____________________

(١) انظر: كلام الدكتور حسين المدرسي الطباطبائي في ( تطور المباني الفكرية للتشيع في القرون الثلاثة الأولى ) صفحة ٧٣، والسيّد موسى الموسوي في ( الشيعة والتصحيح ): ١٠٥، و( المتآمرون على المسلمين الشيعة ): ١٧٠، والسيّد حسن الأمين في ( مستدركات أعيان الشيعة ) ٢: ٦٤. بهذا الصدد وقارنه بما قلناه في الفصل الأول من هذه الدراسة.

١٦

شاذة في الأذان لا يعمل بها.

نعم، إنّ تلك النصوص مذكورة في كتبنا وكتب الآخرين، لكن لا يستدلّ بها الفقهاء على الشهادة الثالثة لكونها نصوصاً غير صريحة، بل مذكورة بصورة كنائية أو تفسيرية، وذلك في مثل (حيّ على خير العمل) الدالة على الإمامة، كما جاء في روايات أهل البيت، والتي ذكرها الشيخ الصدوقرحمه‌الله في معاني الأخبار(١) والتوحيد(٢) وهذا ما نريد توضيحه في دراستنا هذه(٣) .

كما أن هناك نصوصاً صريحة في إقرار الإمام، وأنّهعليه‌السلام لا يترك الأمة سدى، بل يقف أمام ما يزيده الناس أو ينقصونه، قد يمكن التمسك به عند البعض كدليل لإثبات القول بجواز الشهادة الثالثة، وهذا ما لم يوظف من قبل فقهاءنا في مبحث الشهادة الثالثة، فقد جاء في العلل بسند صحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: (إن الله لم يدع الأرض إلاّ وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان في الأرض، و إذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم، و إذا نقصوا أكمله لهم فقال: خذوه كاملاً، ولولا ذلك لالتبس على المؤمنين أمورهم، ولم يفرقوا بين الحق والباطل)(٤) .

وهناكطائفة ثالثة هي نصوص صريحة ذكرت متناً دون إسناد، كما هو المشاهد في كلام الشيخ الصدوقرحمه‌الله في(الفقيه) (٥) ، والسيّد المرتضى في(المسائل الميافارقيات) ، وابن البرّاج في(المهذَّب)، والشيخ الطوسي في(النّهاية) و(المبسوط) ، وهي متون معتمدة، لأنّ كتب القدماء - وحسب تعبير السيّد البروجرديرحمهم‌الله وغيره - هي متونُ روايات وبمنزلة الأُصول المتلقّاة عن

____________________

(١) معاني الأخبار: ٤١ / باب معنى حروف الأذان والإقامة / ح ١، و ٤٢ / ح ٣.

(٢) التوحيد، للصدوق: ٢٤١ / باب تفسير حروف الأذان والإقامة / ح ٢.

(٣) بحثنا ذلك في القسم الأول من الفصل الأول ( الدليل الكنائي ): ١٨٣ من كتابنا هذا.

(٤) انظر بحار الأنوار ٢٣: ٢٧، ٢١، ٣٩.

(٥) من لا يحضره الفقيه ١: ٢٩٠ / ح ٨٩٧.

١٧

المعصومينعليهم‌السلام ، وهو ما نبحثه في القسم الثالث من الفصل الأول من هذا الباب(١) .

ورابعة: هي عمومات بعض الأخبار، وقواعد في الرواية والحديث، يستعين بها الفقيه في الاستنباط، كروايةالاحتجاج : (فإذا قال أحدكم: لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله، فليقل: علي أمير المؤمنين)(٢) ، أو قاعدة التسامح في أدّلة السنن، أو استدلالهم ببيان الحيثيات الثلاث للأذان (الذكر + الشعار + الدعاء)، أو أنّه استحباب ضمن استحباب إلى غيرها من المؤيّدات التعضيدية الموجودة في الآيات والأخبار وهو ما يبحث في ضمن كلمات الفقهاء.

وخامسة: بيان سيرة المتشرّعة، وربط هذه السيرة بسيرة الشارع المقدّس...

إلى غير ذلك من التقسيمات والوجوه التي يمكن أن تلحظ و يستدل بها للشهادة الثالثة.

نحن لا نريد أن نُفَصِّل هذه المحاور كلَّ محور على حدة، بل نريد أن ندرسها متمازجة بشكل لا يحس المطالع بالضجر والملل إن شاء الله.

وبهذا سيأخذ البحثتارة بعداً تاريخياً، وأخرى فقهياً، وثالثةً درائياً وحديثياً، وهكذا يتغيّر من شكل إلى آخر حَسَب الحاجة العلمية، وبذلك تكون هذه الدراسة مترابطة ومتجانسة بين أجزائها، للخروج بوجه فقهي يقبله الجميع، أو يحدّ من استقباحه عند من يراه بدعة، بدعوى أنّها لم تكن في النصوص الصادرة عن المعصومين، أو أنَّها زُجَّتْ في الدين لظروف خاصة.

ومن المؤسف أن غالب الشبهات المطروحة حول الشهادة الثالثة تدور مدار الجزئية وبتصور أنّا نأتي بها على أنّها جزء الأذان، في حين أن فقهاء الطائفة ومنذ

____________________

(١) انظر الصفحة ٢٧٩ من هذا الكتاب.

(٢) الاحتجاج ١: ٢٣١، من رواية القاسم بن معاوية، قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : هؤلاء يروون حديثاً في معراجهم....

 

١٨

عصر السيّد المرتضى والشيخ الطوسي إلى يومنا هذا يؤكدون على عدم جزئيتها، بل يأتون بها لمحبوبيتها، وأنّ الآتي بها للمحبوبية غير مأثوم، وأن فعلهم لم يكن بدعة كما يريد الآخرون تصويره، لكن الآخرين لا يريدون أن يقبلوا هذا الأمر أو تراهم يتناسوه في كلامهم، وإني في هذه الدراسة أريد أن أؤكد على وجه محبوبية هذا الأمر عندنا لا جزئيته، عسى أن أكون قد ساهمت في رفع بعض الشبهات المطروحة في هذا الصدد وسعيت في تحكيم هذا الصرح وتثبيت العقيدة.

وبما أنّ غالب البحوث المطروحة حول الشهادة الثالثة لم تشف غليلي ولم تف بمطلوبي - لأنّ فقهاءنا الأقدمين وحتى المعاصرين منهم لم يُولوا البحث الأهمية القصوى، ولم يفردوا له دراسة معمّقة مستقلة، ولم يدرسوا الروايات فيه دراسة شاملة، مكتفين ببعض التعليقات والتوضيحات، مع أنّهم قد كتبوا رسائل مستقلّة وبحوثاً مشبعة في مسائل دونها في الأهمية - رأيت أن أكتب دراسة مستقلّة وافية فيه؛ لأنّ بحثاً بهذه الأهمية لا يمكن الاكتفاء فيه ببعض الأسطر والتعليقات المتناثرة بين ثنايا الكتب، بل يجب أن يقف الواقف عنده وقفة فقيه متأمّل متدبّر، فلا يأخذ نصوص السابقين على ظاهرها، ويحكم بأنّ فلاناً منع من الشهادة الثالثة، أو أن فلاناً لا يستسيغها، أو أنّ ثالثاً يقول ببدعيّتها، دون دراسة للظروف التي كان يعيش فيها أولئك الفقهاء والمحدّثين، والأماكن التي كانوا يسكنون فيها، فإنّ مراعاة الزمان والمكان، والشروط المحيطة بالراوي، يساعد الفقيه على فهم شروط وظروف صدور النصّ عن الشيخ الصدوق والسيّد المرتضى، والشيخ الطوسي، وابن البراج، وأمثالهم (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين).

كما لابدّ من ملاحظة أنّ مبنى كلامهم: هل هو صدفة وأمر اجتهادي لا يجب اتّباعه، أم أنّه نصّ تعبدي شرعي يجب الإيمان والأخذ به؟

فالفقهاء يأخذون بإطلاق مرسلةالاحتجاج للطبرسي: (من قال محمد رسول

١٩

الله فليقل عليٌ أمير المؤمنين) مع أنّ الطبرسي متأخّر عن الشيخ الصدوقرحمه‌الله بعدّة قرون، ويتركون مرسلة الصدوقرحمه‌الله فيالفقيه الخاصّة بالأذان، والتي ذكر فيها الصيغ الثلاث للشهادة الثالثة، وكذا تراهم يتركون ما يمكن أن يستند عليه في الاستنباط من إقرار الإمام المعصوم مقرونة بسيرة المتشرعة.

كما أنّهم يجهدون أنفسهم لتصحيح الشهادة الثالثة بالعمومات، وقاعدة التسامح بأدلة السنن، والشعارية، ورجاء المطلوبية، في حين أن في حيازتهم روايات صحيحة دالة - بنحو من أنحاء الدلالة - على الولاية في الأذان بالخصوص كـ (حي على خير العمل) المصرَّح فيها من قبل الأئمّة على ذلك، كما في رواية الصدوق في(التوحيد) ، و(معاني الأخبار).

ألم يكن فيما رواه ابن أبي عمير فيالتوحيد ومعاني الأخبار عن الإمام الكاظم ما يفيدنا للاستدلال في الشهادة الثالثة؟ ألم يكن نص الصدوق فيالتوحيد ومعاني الأخبار أقدم من نصالاحتجاج تاريخياً، وأثبت منه روائياً؟ فلماذا يترك هذا النص و يؤخذ بمرسلةالاحتجاج ؟

إن هذه الأمور لم تبحث بشكلها الدقيق في كتب القدماء فضلاً عن كتابات فقهائنا المتأخّرين. وحتى متأخّري المتأخرين.

وأمّا كتابات العقود الخمسة الماضية، فهي الأُخرى لا تُسمن ولا تغني من جوع؛ لأن أغلب أولئك المؤلّفين اكتفوا بنقل فتاوى الأعلام دون ذكر أدلتهم.

نحن لا ننكر بأنّ الفتاوى كافية للمكلّفين، لكنّها لا تُرضي الباحثين والمحقّقين. نعم، صدر أخيراً كتابان يمكن أن تصنفا ضمن الكتابات المقبولة، لكنّ ذلك لا يدعو إلى وقف حركة البحث العلمي عند العلماء، لان التوسّع في هكذا دراسات يَفتح آفاق البحث العلمي عندهم، ويدعو الأساتذة والطلاب إلى الحركة والنشاط لكشف المجهول، و إثراء المكتبة الإسلامية بما يُحتاج إليه من

٢٠

بحوث فكرية عقائدية فقهية قيّمة، لأنّ هذا البحث مرتبط بموضوع حسّاس ومهم، وشعار لمذهب يعتنقه مئات الملايين من المسلمين، وفي الوقت نفسه هو سؤال لملايين المسلمين في جميع البلدان، فإنّ موضوعاً كهذا لَحَرِيٌّ أن يدرس من قبل العلماء وبكتابات حديثة معاصرة يفهمها الجميع.

كل هذا هو الذي دعاني لأن أدلو بدلوي معطياً رأيي في هذا المجال، غير مدّع بأني قد أوفيت البحث حقّه، بل هو مبلغ وسعي وغاية جهدي، ومن الله أرجو التوفيق.

موكِّداً للقارئ العزيز بأنّ ما سأطرحه هنا هو عرض لوجهة نظر - جل أو كلّ - الإمامية وبيان لما قاله فقهائهم وأعلامهم. ولا أريد أن أُثبت شرعيّة الشهادة الثالثة لإخواننا العامة، لا لصعوبة الأمر، بل لعدم الضرورة لبحث كهذا الآن، إذ إنّ إثبات الشهادة الثالثة وما يماثلها سهل وفق أُصولهم الفقهية والأُصولية والروائية؛ وذلك لأنّ غالبيّتهم يقولون بعدم توقيفيّة الأذان، وأنّه شُرّع وفق منام رآه أحد الصحابة، وفي آخر: أنّه شُرّع طبق استشارة من النبيّ مع أصحابه، وقيل: بأنّ الأذان شرّع أَوّلاً بقول المؤذّن: (الصلاة الصلاة)، ثم أُضيفت إليه الشهادة بالتوحيد، وأن عمر بن الخطاب أضاف إليه الشهادة بالنبوّة.

ولهم أصول أخرى كالقول بأنّ الحَسَنَ هو ما حَسَّنه الناس(١) ، وكالقول بالمصلحة وأشباهها.

كلّ هذه الأُصول تسهّل الأمر للقول بشرعيّتها عندهم، لكنّا الآن في غنىً عن ذلك، بل الذي نريد الإشارة إليه هو عرض سريع لما جرى على الأذان بعد رسول

____________________

(١) الآثار، لمحمد بن الحسن الشيباني: ٨١ كتاب الأذان ح ٥٩، عن حماد بن إبراهيم وأنّه سال أبا حنيفة عن التثويب؟ قال: هو ما أحدثه الناس، وهو أحسن مما أحدثوه.

٢١

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من التغييرات والزيادات، لأنّ بيان موضوع كهذا يحدّ من هجمة الآخرين علينا، و يوقفهم عند حدودهم.

وقبل عرضي لما جرى بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لابدّ من نقل كلام الأستاذ خليل عزمي في كتابه(بين الشيعة والسنة) إذ قال: (زيادتهم على الأذان جملة: (وأشهد أن علياً ولي الله)، باعتبار أنّها لم تكن داخلة ضمن الأذان بعهد رسول الله، فأيّ ضرر يتأتّى من إضافة هذه الجملة طالما استحسنها جمهور من المسلمين كما استحسن جمهور آخر إدخال كلمات لم تكن ضمن الأذان في عهد رسول الله مثل: (الصلاة خير من النوم) في الأذان)(١) .

وذكرت كتب السير والتاريخ خبر الأسود العنسي - عبهلة بن كعب - في اليمن، وظهوره متزامناً مع مسيلمة الكذاب في اليمامة، وادعائهما النبوّة، وأنّ رسول الله كتب إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين وأمرهم أن يحثّوا الناس على التمسّك بدينهم، وعلى النهوض إلى حرب الأسود، فقتله فيروز الديلمي على فراشه(٢) .

وفيالتنبيه والإشراف أنّ النبي كان كاتب الفرس أن يقتلوه، فقتلوه، فأَخبر النبيُّ أصحابَهُ بمقتله(٣) .

وفيغرر الخصائص الواضحة للوطواط المتوفّى ٧١٨ هـ: قال عبد الله بن عمر: أتانا الخبر من السماء إلى رسول الله في الليلة التي قتل فيها، فقال: قتل العنسي، فقيل: من قتله؟ قال: رجل مبارك من أهل بيت مبارك، قيل: من هو؟ قال: فيروز،

____________________

(١) الأعمى في الميزان: ٢، عن كتاب: بين الشيعة والسنة: ط بغداد، ص ٩٠. والقسطاس المستقيم في ولاية أمير المؤمنين للسيّد محمد علي بن محمد باقر الموسوي الكاظمي: ١٣٥ - ١٣٦ طبع مطبعة المعارف / بغداد سنة ١٣٧٦ هـ عنه.

(٢) تاريخ الخميس ٢: ١٥٦.

(٣) التنبيه والإشراف: ٢٤١.

٢٢

وفي صبيحة تلك الليلة قبض رسول الله(١) .

وفيتاريخ الطبري ، وتاريخ دمشق وغيرهما: فلمّا طلع الفجر نادوا بشعارهم الذي بينهم ثم بالأذان وقالوا فيه: (نشهد أنّ محمداً رسول الله وأنّ عبهلة كذّاب)، وشنّوها غارة، وتراجع أصحاب رسول الله إلى أعمالهم، وكتبوا إلى رسول الله بالخبر، فسبق خبر السماء إليه، فخرج قبل موته بيوم أو ليلة، فأخبر الناس بذلك، ثمّ ورد الكتاب ورسولُ الله قد مات(٢) .

وفيفتوح البلدان احتز قيس بن هبيرة رأس الأسود المتنبئ، ثم علا سور المدينة حين أصبح فقال: (الله أكبر ! الله أكبر !. أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، و أن الأسود العنسي عدو الله )(٣) .

وهذه النصوص التاريخية جوّزت الزيادة في الأذان في عهد الرسول وأوائل رحلتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بدعوى أنّها حالة نبعت من واقع المسلمين و إحساسهم بنشوة النصر على الكافرين، وأنّ الأذان عندهم هو الإعلام، فيمكن الإعلام عن عودة المُلك إلى المسلمين ودحر الكافرين والمتنبئين.

وبعد زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله رووا بأنّ التثويب الثاني - أي قول المؤذن بعد الانتهاء من الأذان: (السلام عليك يا أمير المؤمنين الصلاة الصلاة يرحمك الله) - قد شرّع على عهد أبي بكر(٤) ، وفي آخر: في عهد عمر بن الخطاب(٥) ، وقال ثالث: في عهد

____________________

(١) غرر الخصائص الواضحة: الفصل الثالث من الباب السابع، فيمن ارتقى بادعائه النبوة مرتقى صعباً، معارج القبول ٣: ١٤٦، المنتظم ٤: ٢٠، أحداث سنة إحدى عشر للهجرة.

(٢) تاريخ الطبري ٢: ٢٥٠، البداية والنِّهاية ٦: ٣١٠، تاريخ دمشق ٤٩: ٤٨٨، تاريخ الإسلام ٣: ١٩.

(٣) فتوح البلدان ١: ١١٤.

(٤) انظر تنوير الحوالك ١: ٧١، وفيه: كان المؤذن يقف على بابه فيقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله، الصلاة يا خليفة رسول الله.

(٥) انظر شرح الزرقاني ١: ٢١٦، وفيه: كان المؤذن يقف على بابه و يقول: السلام عليك يا

٢٣

 عثمان(١) ، ورابع: في عهد معاوية(٢) .

ولا نرى خلافاً بيّناً بين هذه النصوص، وذلك لتبنّي اللاّحق ما جاء به السابق من التثويب الثاني، وأنّهم كانوا لا يرون ضيراً في مثل هذه الزيادات في الأذان، فيمكن أن يقال: إنّ معاوية، أو عثمان، أو عمر قال به.

أنا لا أُريد أن أُثبت هذا التشريع لهذا أو أنفيه عن ذاك، المهمّ عندي أنّهم جوّزوا هذا التثويب في العصور السابقة، فلا يحقّ لأمثال هؤلاء الاعتراض على الآخرين بقولهم بالشهادة الثالثة في الأذان.

و يضاف إلى ذلك ما ذكره التفتازاني والقوشجي وغيرهما من أنّ عمر بن الخطاب منع من متعة النساء، ومتعة الحج، ورَفَع حي على خير العمل من الأذان(٣) .

وفيموطأ مالك : إنّ المؤذّن، جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائماً، فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح(٤) .

ولا ينكر أحد من المسلمين بأن عثمان بن عفان هو الذي أضاف الأذان الثالث يوم الجمعة(٥) .

نعم، إنّهم قالوا بشرعية الأذان الثالث يوم الجمعة وما يماثله من جهة المصالح

____________________

أمير المؤمنين، ثم إن عمر أمر المؤذن فزاد فيها (رحمك الله). و يقال: إن عثمان هو الذي زادها.

(١) انظر شرح الزرقاني ١: ٢١٦، وفيه: و يقال إن عثمان هو الذي زادها.

(٢) انظر مواهب الجليل ١: ٤٣١، الذخيرة ٢: ٤٧.

(٣) شرح المقاصد في علم الكلام ٢: ٢٩٤، وشرح التجريد / باب بحث الإمامة.

(٤) موطأ مالك ١: ٧٢.

(٥) صحيح البخاري ١: ٣٠٩ / ح ٨٧٠ / باب الأذان يوم الجمعة.

٢٤

المرسلة، مع اعتقادهم بعدم شرعيته على عهد رسول الله، ونحن يمكننا إلزاماً لهم إثبات الشهادة الثالثة وغيرها طبق المصالح المرسلة وما يماثلها عندهم.

هذا هو خلاصة ما يمكننا قوله مع القائلين بعدم توقيفية الأذان عند العامة و إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم.

كما يمكننا أن نثبت لهم شرعية الشهادة بالولاية من جهة شرعية (حيّ على خير العمل) على عهد رسول الله، وأنّ الصحابة كانوا قد أذّنوا بها، وأنّ عمر حذفها لأسباب معروفة عند مدرسة أهل البيت، وقد أكّد الإمام الكاظم على هذه الحقيقة، بقوله: إنّ (حيّ على خير العمل) دعوة للولاية، و إنّ عمر كان لا يريد دعاءً إليها ولا حثّاً عليها(١) .

وهذا نص له قيمته التاريخية والشرعية، لأنّه صدر في القرن الثاني الهجري وعلى لسان أحد أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وقريب منه موجود في كتب الزيدية والإسماعيلية مما يؤكد إجماع مدرسة أهل البيت على هذا المعنى عندهم.

ومن المعلوم بأنّ جملة: (حيّ على خير العمل) ليس لها ظهور في الإمامة والولاية، و إن فهمها بعض خُلّص الصحابة من خلال الآيِ الكريمِ والأحاديثِ المتواترةِ عن رسول الله.

وكلامُ الإمام (أنّ حيّ على خير العمل دعوة للولاية و إنّ عمر كان لا يريد دعاءً إليها ولا حثاً عليها) يشير إلى أن بعض الصحابة كانوا يفتحونها بجمل دالة على الإمامة والولاية، توضيحاً وتفسيراً، كقولهم بعد (حيّ على خير العمل) على سبيل المثال لا الحصر : (محمد وعلي خير البشر)، أو (محمد وآل محمد خير البرية)، أو (علي وأولاده المعصومون حجج الله)، وغيرها من الصيغ الدالة على الإمامة والولاية، وأنّ عيون عمر كانوا يخبرونه بفعل هذا النزر من الصحابة.

____________________

(١) انظر علل الشرائع ٢: ٣٦٨، وعنه في وسائل الشيعة ٥: ٤٢٠ / ح ٦٩٧٧.

٢٥

فعمر بن الخطاب أراد أن لا يكون حثٌ عليها ولا دعاءٌ إليها، فمنعها تحت طائلة أنّ البعض من الصحابة سيتركون الجهاد بدعوى أنّهم يؤدّون خير العمل وهو الصلاة، فلا صلاة مع احتياج الأمّة إلى الجهاد، إلى غير ذلك من الكلام الذي مرّ بعضه في الباب الأول من الدراسة:(حي على خير العمل: الشرعية والشعارية ) (١) ، وسيأتي البعض الآخر منه في الفصل الأوّل من هذا الباب.

ومما مرّ تعرف أن البحث مع أُخواننا العامة سهل ليس بالعسير المتعب كما يتصورّه البعض.

نحن نترك البحث مع العامة في هذا المجال، ونقصر الكلام على أدلة الشيعة، ونتناولها بأسلوبنا ومنهجنا الخاص، لتتضح الأدّلة لمن خفيت عليه و يقف عليها من لم يكن قد وقف عليها من قبل.

الشهادة الثالثة بين الأذان والإقامة

هذا، وقد تصور البعض أن مبحث الأذان يختلف عن الإقامة، لكون الأول خارجاً عن حقيقة الصلاة والثاني داخل فيها، فتجوز الزيادة والنقصان في الأوّل ولا تجوز في الثاني، لكون الأذان إعلاماً فقط، أما الإقامة فهي من الصلاة.

وقد بارك لي أحد الإخوة مشروعي هذا عن الشهادة الثالثة مؤكّداً الاكتفاء بمبحث الأذان دون الإقامة، لاعتقاده بأنّ الإقامة من الصلاة، للروايات الواردة في ذلك، فأجبته بأنّ الأمر لم يكن كما تتصوَّره، إذ الفقهاء قد اختلفوا في ذلك، فالنزرُ القليل اعتبروها من الصلاة، والجُلُّ الأعظم جعلوها خارجة عنها.

ولكن مما لا يخفى على الباحث البصير أنّ الأذان والإقامة خارجان عن حقيقة

____________________

(١) كتابنا:(الأذان بين الأصالة والتحريف) يقع في ثلاثة أبواب، صدر الباب الأول منه تحت عنوان:(حيّ على خير العمل: الشرعية والشعارية) . أما الباب الثاني، فهو:(الصلاة خير من النوم: شرعة أم بدعة) وهو قيد التدوين. أما الباب الثالث، فهو ما بأيدينا.

٢٦

الصلاة جزءً وشرطاً، إذ النداء للشيء غير نفس الشيء، بل في بعض فصولهما كالحيعلات الثلاث ما يدل على عدم ارتباطهما بالصلاة أصلاً، لكونهما ليسا أذكاراً، والصلاة إنّما هي الذِّكر.

والفرق بينهما أنّ الأذان هو نداء ودعوة للغائبين، والإقامة هي تنبيه للحاضرين المجتمعين في المسجد، وذلك لإمكان اشتغالهم بالكلام والأُمور الحياتية الأخرى، فربّما لا يلتفتون إلى قيام الصلاة إلاّ بعد قول الإمام (قد قامت الصلاة).

و يؤيد ما قلناه ورودهما معاً في بعض الأخبار، فقد يسمّى الأذان إقامة، والإقامة أذاناً في الأخبار الواردة عن الأئمّة المعصومين، بل إنّ إطلاق النداء على الإقامة يؤكّد معنى الإعلامية فيهما معاً.

إنّ كونهما نداءً، دليل على خروجهما عن حقيقة الصلاة وعدم تقوّمها بهما، فلا يمكن لأحد أن يفتي ببطلان الصلاة لو وقعت بدونهما أو بدون أحدهما.

نعم، لا ننكر وجود فروق بينهما، لكنها لا تكون بحدٍّ توجب القول بأن الإقامة جزء من الصلاة، فإنّ القول بعدم جواز الالتفات في الإقامة وجوازه في الأذان، أو لزوم الطهارة والوضوء في الإقامة بخلاف الأذان، أو جواز الفَصْل بين الأذان والإقامة وعدم جواز الفصل بين الإقامة والصلاة، أو لزوم التوجّه إلى القبلة في الإقامة دون الأذان، إلى غيرها من الأمور الكثيرة الملحوظة في الإقامة دون الأذان، لا توجب حكماً شرعياً وتَقَوُّماً ذاتيّاً آخر بحيث تعدّ الإقامة من الصلاة دون الأذان.

إذ روى الشيخ عن محمد الحلبي، قال: سألتُ أبا عبد الله عن الرجل يتكلم في أذانه أو في إقامته؟ قال: لا باس(١) .

____________________

(١) الاستبصار ١: ٣٠١ / ح ١١١٣، تهذيب الأحكام ٢: ٥٤/ح ١٨٦، وسائل الشيعة ٥: ٣٩٥/ ح ٦٩٠٠.

٢٧

وعن الحسن بن شهاب، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لا بأس أن يتكلّم الرجل وهو يقيم الصلاة، وبعدما يقيم إن شاء(١) .

وعن حماد بن عثمان، قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يتكلم بعدما يقيم الصلاة، قال: نعم(٢) .

وعن عبيد بن زرارة قال: سألتُ أبا عبد الله، قلت: أيتكلم الرجل بعدما تقام الصلاة؟ قال: لا بأس(٣) .

وفي ما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة، عن أبيه، قال: سألتُ أبا جعفر عن رجل نسي الأذان والإقامة حتّى دخل في الصلاة، قال: فليمض في صلاته، فإنّما الأذان سنّة(٤) .

فلو كانت الإقامة من الصلاة فلا وجه لتعليل المضيّ في الصلاة مع نسيانه الإقامة.

هذه الروايات وغيرها تحدّ من رواية عمرو بن أبي نصر(٥) وأبي هارون المكفوف(٦) ، ومحمد بن مسلم(٧) ، الناهية عن التكلّم حين الإقامة.

ومقتضى الجمع بين الطائفتين هو حمل الروايات الناهية على الكراهة، مضافاً إلى أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي الحكم بالكراهة، لأنّ المقيم ليس بداخل في الصلاة واقعاً حتى ينبغي له ترك الكلام.

____________________

(١) الاستبصار ١: ٣٠١ / ح ١١١٥، تهذيب الأحكام ٢: ٥٥ / ح ١٨٨.

(٢) الاستبصار ١: ٣٠١ / ح ١١١٤.

(٣) الحدائق الناضرة ٧: ٤٢٧، عن ابن إدريس في مستطرفات السرائر: ٦٠١.

(٤) الاستبصار ١: ٣٠٤ / ح ١١٣٠، تهذيب الأحكام ٢: ٢٨٥ / ح ١١٤٠.

(٥) الكافي ٣: ٣٠٤ / ح ١٠، من باب بدء الأذان.. الاستبصار ١: ٣٠١ / ح ١١١٠.

(٧) الكافي ٣: ٣٠٦ / ح ٢٠، وعنه في الاستبصار ١: ٣٠١ / ح ١١١١.

(٦) الاستبصار ١: ٣٠١ / ح ١١١٢، تهذيب الأحكام ٢: ٥٥ / ح ١٩١.

٢٨

وقد تكون حرمة الكلام(١) مختصة على أهل المسجد رعايةً لمصالح الجماعة، لرواية ابن أبي عمير، قال: سألتُ أبا عبد الله عن الرجل يتكلّم في الإقامة؟ قال: نعم، فإذا قال المؤذن (قد قامت الصلاة)، فقد حرم الكلام على أهل المسجد، إلاّ أن يكونوا قد اجتمعوا من شتى وليس لهم إمام، فلا بأس أن يقول بعضهم لبعض: تقدم يا فلان(٢) .

وقد ورد في روايات أهل البيت بأنّ مفتاح الصلاة التكبير وتحليلها التسليم(٣) ، فلو كانت الإقامة جزءاً أو شرطاً لكان اللاّزم القول أنّ مفتاحها الإقامة.

وقد سُئل الصادق عن الرجل ينسى تكبيرة الافتتاح، قالعليه‌السلام : يعيد الصلاة(٤) .

وعن علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن عن الرجل ينسى أن يفتتح الصلاة حتى يركع، قال: يعيد الصلاة(٥) ، إلى غيرها من الروايات الكثيرة في هذا الباب.

وبعد هذا، فلا يمكن لأحد أَن يحتاط في عدّ الإقامة جزءاً؛ بمجرّد ملاحظة الفوارق الموجودة بينها وبين الأذان، إذ إنّا نجد غالب هذه الفوارق مجتمعة في التكبيرات السبع المستحبّة قبل تكبيرة الإحرام، وفي دعاء التوجّه إلى الصلاة، وعند القيام إليها، لكنّا لا نرى أحداً من الفقهاء يقول بجزئيّتها في الصلاة مع اشتراطهم فيها الطهارة، والاستقبال، وعدم جواز الالتفات، وعدم الفصل بينها وبين الصلاة، إلى غيرها من الأمور السابقة.

ونحن فصّلنا بعض الشيء عن هذا، لأنّا رأينا البعض يريد التشكيك في

____________________

(١) ومعناها الكراهة هنا.

(٢) الاستبصار ١: ٣٠٢ / ح ١١١٦.

(٣) اُنظر تهذيب الأحكام ٣: ٢٧٠ / ح ٧٥٥، تفسير الإمام العسكري: ٥٢١ وفيه: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم... وعنه في وسائل الشيعة ١: ٣٩٨ / ح ١٠٣٩.

(٤) الكافي ٣: ٣٤٧ / ح ١، وسائل الشيعة ٦: ١٢ / ح ٧٢١٨، منتهى المطلب ١: ٢٦٧.

(٥) الاستبصار ١: ٣٥٢ / ح ١٣٢٩، وسائل الشيعة ٦: ١٣ / ح ٧٢٢٢.

٢٩

شرعيّة الشهادة الثالثة من خلال الإقامة والتي تختلف بزعمه عن الأذان.

والكلّ يعلم بأنّهما حقيقتان خارجتان عن الصلاة جزءاً وشرطاً؛ سمّيت إحداهما أذاناً والأُخرى إقامة.

فالأذان على نحوين(١) :

١ - الأذان الإعلامي: وهو ما شرّع لإعلام البعيد، وهو المعروف اليوم والذي يطلق عليه لفظ (الأذان).

٢ - الأذان الصلاتي أو الفرضي: وهو ما شرّع لإعلام القريب الجالس في المسجد بإيذان وقت الصلاة، وهو ما يسمّى اليوم بالإقامة.

وكلاهما حقيقة واحدة، وليسا بواجبين لا استقلالياً ولا شرطياً للجماعة، أو لأصل كل صلاة(٢) ، إذ إنّ القول بالوجوب مساوقٌ للقول بوجوب الجماعة، وهو ما لا يقوله أحد من أصحابنا.

قال السيّد بحر العلوم في منظومته:

وما له الأذان في الأصل رُسِمْ

شيئان إعلامٌ وفرضٌ قد عُلِمْ

ولنا تعليق على كلامهرحمه‌الله ليس هنا محلّه، مؤكّدين بأنّا لا نريد تسليط الضوء على الأذانالصلاتي (أي الإقامة) بقدر ما نريد توضيح الأذانالإعلامي ، وكيف أمكن لهذا الإعلام أن يحظى بدور يمكّنه أن يصير شعاراً لمذهب يعتنقه مئات الملايين، و يكون صَرْحاً عقائديّاً لأمّة مجاهدة.

فالكلام عن الأذان الإعلامي أسهل من الكلام عن الأذان الصلاتي عند من يعتقد بأنّ الإقامة من الصلاة، لكنّه خطأ، فهما سيّان بنظرنا ولا تمايز أساسيّاً

____________________

(١) انظر تقريرات السيّد البروجردي بقلم المرحوم الشيخ فاضل اللنكراني.

(٢) وأمّا وجوب أذان واحد كفاية لجميع البلد، فهو خارج عن محل بحثنا.

٣٠

بينهما، و إن كان بحثنا يدور في الأعمّ الأغلب عن الأذان الإعلامي.

هذا و إني جعلت دراستي هذه في ثلاثة فصول:

الفصل الأول: وفيه نبيّن النصوص والمباني الدالّة على شرعيّة الشهادة الثالثة، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: النص الكنائي الدالّ على الولاية لعلي، وهي جملة (حيّ على خير العمل) مع بياننا لأقوال الأئمة وسيرة المتشرّعة من عهد الرسول إلى عصر الشيخ الصدوقرحمه‌الله المتوفَّى ٣٨١ هـ في ذلك.

القسم الثاني: وفيه نبين إقرار المعصوم - وهو الإمام الحجة الغائب في عصرنا - لما تفعله الشيعة على مر الأزمان بالشهادة الثالثة؛ لأنّهعليه‌السلام لو كان منكراً لهذا العمل لكان عليه - بمقتضى وظيفته المقدسة - تصحيحه، ولما لم نقف على إنكاره علمنا أن فعل ذلك جائز، منوهين بأن ذلك متوقف على تمامية إجماع الطائفة على الجواز.

القسم الثالث: وفيه نذكر النصوص الصريحة والمجملة الموجودة في كتب أصحابنا، الدالة على الشهادة الثالثة، بدءً بكلام الشيخ الصدوق المتوفَّى ٣٨١ هـ، ومروراً بكلام السيّد المرتضى والشيخ الطوسي وابن البراج وختماً بكلام يحيى بن سعيد الحلي والعلاّمة الحلي المتوفَّى ٧٢٦ هـ، مع بياننا لسيرة المتشرّعة في هذه العصور.

الفصل الثاني: نقل أهمّ أقوال فقهائنا المتأخّرين ومتأخري المتأخرين وانتهاءً بالمعاصرين مع وقوفنا عند كلامهم تعليقاً وتوضيحاً إن اقتضى الأمرُ.

الفصل الثالث: بيان القرائن التعضيدية التي يمكن أن تصير أدلة فيما بعد، كبعض العمومات، مثل أن (ذكر علي عبادة)، وهو ليس من الكلام الباطل المخلّ بالأذان؛ وذلك لوجوده في أُمور عبادية أُخرى، كوروده بعد تكبيرة الإحرام، وعند افتتاح الصلاة، وفي خطبة الجمعة، وقنوت العيدين، وقنوت الوتر، وفي

٣١

التشهد والتسليم، وما جاء في استحباب تطابق الأذان وحكاية السامع له، وغيرها كما في تلقين الميت...

باحثين كل هذه الأمور ضمن الكلام عن الشعارية، والتي هي مستند فقهاءنا المعاصرين.

مقدمين لذلك بعض البحوث التمهيدية عن نشأة الغلوّ، ومنهج القميّين والبغداديّين في العقائد والرجال، وتعريف البدعة لغة وشرعاً، وبيان موقع الشهادة بالولاية منها.

منبهين القارئ الكريم على أن الكتاب مترابط ترابطاً وثيقاً فلا يمكن النظر إلى الأدلة نظرة أحادية مجتزأة، فلا يحق للقارئ النظر إلى دليل دون دليل آخر، بل عليه النظر إلى مجموع الأدلة بما هي مجموع حتى لا يأخذ فكرة خاطئة عن نظام الاستدلال عندنا.

وختاماً نسأل الله جلّ شأنه أن يتقبّل هذا القليل، و يجعله في حسناتي، مكفّراً به عن سيّئاتي، آملاً ممّن قرأ كتابي هذا ووقف فيه على ما لا يرضيه من قولي أن يُوقفني على رأيه، فإنّي طالب علم، باحث عن الحقيقة. وأمّا الذي يستحسن ما كتبته، فأرجوه أن يُحسنَ لي بالدُّعاء بطلب المغفرة وحسن العاقبة.

وآخر دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

المؤلف

الأربعاء ١٥ / شعبان / ١٤٢٨ هـ

E-mail:info@shahrestani.org

http://www.shahrestani.org

٣٢

بحوث تمهيدية

 الشهادة الثالثة بين التفويض والتقصير.

 منهج القُمِّيين والبغداديين في العقائد والرجال.

 الشهادة الثالثة شرع أم بدعة؟

 الأقوال في المسألة.

٣٣

٣٤

قبل الخوض في تفاصيل هذه الدراسة لا بدّ من الوقوف عند كلام الشيخ الصدوقرحمه‌الله لأنّه كلام صدر في القرن الرابع الهجري وعلى لسان شيخ المحدثين، إذ قالرحمه‌الله في(مَن لا يحضره الفقيه) بعد أن ذكر حديث أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي - والذي ليس فيه الشهادة الثالثة -:

هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد فيه ولا ينقص منه، والمفوّضة لعنهم الله قد وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان (محمد وآل محمد خير البرية) مرّتين، وفي بعض رواياتهم بعد أشهد أن محمداً رسول الله: (أشهد أنّ عليّاً وليُّ الله) مرّتين، ومنهم من روى بدل ذلك: (أشهد أن عليّاً أمير المؤمنين حقّاً) مرّتين. ولا شك أنّ عليّاً وليّ الله، وأنّه أمير المؤمنين حقاً، وأنّ محمّداً وآله خير البرية، ولكنّ ذلك ليس في أصل الأذان، و إنّما ذكرتُ ذلك ليُعرف بهذه الزيادة المتّهمون بالتفويض المدلِّسون أنفسهم في جملتنا(١) .

وهذا النص يحمل في طياته ثلاث دعاوى أساسية يجب الوقوف عندها وتوضيحها:

الأُولى: أنّ الشهادة الثالثة هي من فعل المفوّضة الملعونة، لقوله: (والمفوّضة لعنهم الله).

الثانية: أنّ المفوّضة (قد وضعوا أخباراً) في الشهادة الثالثة. ومن المعلوم أنّ

____________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١: ٢٨٩ ح ٨٩٧، وسائل الشيعة ٥: ٤٢٢.

 

٣٥

الرواية الموضوعة غير الرواية الضعيفة.

الثالثة: قوله: (وزادوا)، يَدُلُّ على أنّهم أتوا بتلك النصوص على نحو الجزئية، والشيخ لا يرتضيها لقوله: (ولكن ذلك ليس في أصل الأذان).

إذن، علينا توضيح مغزى كلام الصدوق ببعض البحوث التمهيدية لكي نرى هل أنّ كلامهرحمه‌الله صدر عن حِسٍّ حتى يلزمنا الأخذ به، أم كان عن حدس يجوز تركه، بل إلى أيّ مدى يمكن الاعتماد على قناعاته واجتهاداتهرحمه‌الله ، وخصوصاً أنّه كان يعيش في ظروف صعبة.

إنّ الواقف على مجريات الأحداث بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم ما جرى على آل بيت الرسالة من مظالم من قِبَلِ الحكّام، وأنَّ الرواة، وحتّى الصحابة والتابعين والفقهاء، كانوا يتّقون السلطة في نشر رواياتهم وبيان آرائهم، فلا يمكن معرفة أبعاد صدور أيّ نص منهم، خصوصاً في العصر الأموي والعصر العباسي الأوّل أو الثاني، إلاّ بعد معرفة الظروف المحيطة به.

ونحن نظراً لحساسية كلام الشيخرحمه‌الله بدأنا الدراسة بثلاثة مواضيع أساسية كتمهيد لهذه الدراسة:

الأُولى: ارتباط الغلوّ والتفويض بالشهادة الثالثة، وهل حقاً أنّ ما يُؤتى به في الشهادة الثالثة فيه فكر تفويض أم لا؟ بل كيف نشأت فكرة الغلو والتفويض؟ وهل هما مختصان بالشيعة أم أنّهما ظاهرتان أصابتا البشريّة جمعاء، وجميع الأديان والمذاهب؟ وما هو موقف أهل البيت منها؟ وهل حقاً أنّ البغداديين غلاةٌ، والقميّين مقصّرةٌ؟

الثانية: بحث ثلاث نقاط أساسية كنموذج في منهج القميّين والبغداديين في العقائد والرجال، مؤكّدين بأنّ بعض هذه النقاط أدّت إلى صدور مثل هذا الكلام عن الشيخ الصدوقرحمه‌الله .

الثالثة: مناقشة دعوى الزيادة من قبل القائلين بها، وهل حقاً أنّ هذه الزيادة من وضع المفوّضة، وجاء على نحو الجزئية، أم أنّها زيادة موجودة في الروايات

٣٦

وتقال على نحو التفسيرية وبقصد القربة المطلقة وأمثالها؟

والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن دعوى صدورها عن المفوِّضة وأنّهم وضعوا أخباراً على نحو الجزئية فيها دعوى مجملة؛ إذ لا يستطيع أحد بالنظر البدوي الجزم بمقصود الشيخ الصدوق النهائي إلاّ بعد بحث وتمحيص، وهذا ما يدعو الباحث الموضوعي إلى الوقوف عندها ودراستها بروح علمية نزيهة، بعيداً عن التقديس، لكي يرى مدى تطابقها مع الواقع أو بعدها عنه، وهذا ما نريد توضيحه ضمن النقاط الثلاث اللاحقة، مع الإشارة إلى غيرها من البحوث الدخيلة في فهم المسألة.

مؤكّدين على أنّ المنهج المتَّبع عند فقهاء ومتكلِّمي مدرسة أهل البيت هو مناقشة الأقوال، فلا يصان أحد عندهم إلاّ المعصوم، وليس لهم كتاب صحيح بالكامل إلاّ كتاب الله المنزل على رسوله، فهم يناقشون أقوال علمائهم واجتهاداتهم وإن كان قد وُلِدَ بعضُهُم كشيخنا الصدوقرحمه‌الله بدعاء الإمام الحجةعليه‌السلام ، واعتقادهم الكامل فيه بأنّه الإمام الثقة، والصدوق في القول والعمل، والحامل إليهم علوم آل محمد، لكنّ هذا كلَّهُ لا يمنعهم من الدخول معه في نقاش علميّ منطقيّ رزين، لأنّهرحمه‌الله لا يدّعي العصمة لنفسه، كما أنّا لا نقول بعصمته، وبذلك يكون كلامهرحمه‌الله عرضةً للخطأ والصواب، وهو كغيره من الفقهاء قد يعدل عمّا كان يقول به و يفتي بشيء آخر غير ما كان يذهب إليه.

وعليه فالشيخرحمه‌الله لم يتّهم قائل الشهادة الثالثة بالتفويض بل قال: بأنّ المفوّضة وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان، وبين الأمرين فرق واضح.

وهذا الكلام من الشيخ الصدوق لا ينفي وجود نصوص صريحة عنده صدرت عن الإمام الباقر والصادق والكاظمعليهم‌السلام دالّة على وجود معنى الولاية والإمامة في الأذان(١) لا على نحو الزيادة والجزئية، بل على نحو التفسيرية كما جاء في تفسير

____________________

(١) وهذا ما سنوضحه لاحقاً ضمن كلامنا عن الدليل الكنائي في الشهادة الثالثة: ١٨٣.

٣٧

معنى (حيّ على خير العمل) عن المعصومين، إذ أراد الإمام الكاظمعليه‌السلام حثّاً عليها ودعوة إليها في الأذان، غيرَ محدِّدعليه‌السلام لصيغها، فقد تكون: (أشهد أنّ علياً ولي الله) وقد تكون: (محمد وعلي خير البشر) وقد تكون: (محمد وآل محمد خير البرية)، وقد تكون شيئاً آخر يرد عنهمعليهم‌السلام أو يأذنون به، لكنّها كلّها تتضمن معنى الولاية.

وعلى هذا، كيف يُتَصَوَّرُ اتّهام شيخنا الصدوقرحمه‌الله القائلين بما يدلّ على الولاية في الأذان بالتفويض، مع علمه بوجود فصل (حيّ على خير العمل) الدالّ على الولاية لعليّ ولزوم البرّ بفاطمة وولدها في الأذان؟!

وعليه، فمع وجود نصٍّ صريح واضح من قبل الأئمّة بأنّ (حيّ على خير العمل) هي الولاية، ووقوفِ الصدوق على ذلك النص وهو المحدّث المتتبّع يفهمنا بأنهرحمه‌الله يعني بكلامه القاصدين للجزئية على نحو الخصوص لقولهرحمه‌الله : (لكن ذلك ليس في أصل الأذان).

فهل يعقل أن لا يسمح الشيخ للقائلين بها أن يفتحوها بعبارات دالّة عليها مع التأكيد على أنّها ليست جزءاً دفعاً لاتّهام المتَّهِمِين وافتراءات المُفتَرِين، أو رفعاً لمنزلة الإمام عليّ عند شيعته وعند غيرهم المحظور آنذاك؟!

إِنّ الجواب عن ذلك لا يمكن أن يُتَصَوَّرَ في هذا المجال إلاّ من خلال أحد دوافع ثلاثة دفعت الشيخ لهذا القول.

وهي إمّا ظروف التقية التي كان يعيشها الشيخ، فإنهرحمه‌الله قد يكون قالها حقناً لدماء البقية الباقية من الشيعة. خصوصاً وأن الشيخ كتب (من لا يحضره الفقيه) بقصبة بلخ من أرض إيلاق الواقعة حالياً في شمالي أفغانستان.

أو أنّه قالها تبعاً لمشايخه القميين.

أو أنّه قالها بعد أن وجد المفوِّضة الطائفة المنحرفة عن الأمة هم أكثر الناس تبنّياً علنِيّاً لهذا الشعار، وأنَّ قولهم لها كان على نحو الشطرية والجزئية؛ لقولهرحمه‌الله (ولكن ذلك ليس في أصل الأذان)، وهذا ممّا لا يسمح به الشرع.

و إليك الآن توضيح النقاط الثلاثة الآنفة:

٣٨

١ - علاقة الغلوّ والتفويض بالشهادة الثالثة

تمهيد:

الغلو فياللّغة: هو تجاوز الحدّ والخروج عن القصد(١) ، ومنه: غلا السعر يغلو غلاءً، وغلا الرَّجُلُ غُلُوّاً، وغلا بالجارية لحمُها وعظمُها: إذا أسرعت الشباب وتجاوزت لِداتها.

وفيالمصطلح: هو الإفراط غير المرضيّ بالعقيدة، وهو كأنْ يقول شَخْصٌ بإلوهية النبي(٢) ، أو الإمام(٣) ، أو مشاركته في العبودية أو الخلق والرزق، وأنّ الله تعالى قد حلّ فيهم أو اتّحد بهم، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحي أو إلهام أو فضل من الله، أو القول في الأئمّة أنّهم كانوا أنبياء، أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأنّ معرفتهم تغني عن جميع الطاعات والعبادات، ولا تكليف معها بترك المعاصي.

والاعتقاد بكلّ منها إلحادٌ وكفرٌ وخروج عن الدين، كما دلّت عليه الأدلة العقلية، والآيات، والأخبار.

والتفويض: هو أن يكون العبد مستقلاًّ في الفعل بحيث لا يقدر الربّ على صرفه، وأنّ الله بعد أن خلق الأئمّة فوّض إليهم خلق العباد ورزقهم، وهذا هو

____________________

(١) مفردات الراغب: ٣٧٧، لسان العرب ٦: ٣٢٩.

(٢) قال ابن تيمية في الجواب الصحيح ٣: ٣٨٤، ظن طائفة من غلاة المنتسبين إلى الإسلام وغيرهم أنّ الأشياء خلقت منه [أي من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ] حتى قد يقولون في محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من جنس قول النصارى في المسيح.

(٣) قال المفيد في تصحيح الاعتقاد: ٢٣٨ الغلاة من المتظاهرين بالإسلام، نسبوا إلى أمير المؤمنين والأئمة من ذريته الألوهية والنبوة، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا ما تجاوزوا فيه الحدّ وخرجوا عن القصد.

٣٩

الآخر كفر والحاد تَبَرَّأ الأئمّة منه.

قال الشيخ المفيد فيتصحيح الاعتقاد: والمفوِّضة صنف من الغلاة، وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة: اعترافهم بحدوث الأئمّة وخلقهم، ونفي القدم عنهم، و إضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم، ودعواهم أنّ الله سبحانه وتعالى تفرّد بخلقهم خاصّة، وأنَّهُ فَوَّضَ إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال(١) .

وقال العلاّمة المجلسي: وأمّا التفويض فيطلق على معان، بعضها منفيُّ عنهمعليهم‌السلام ، وبعضها مثبت لهم، فالأول التفويض في الخلق والرزق والتربية والإماتة والإحياء، فإنّ قوماً قالوا: إنّ الله تعالى خلقهم وفَوَّضَ إليهم أمر الخلق، فهم يخلقون و يرزقون ويميتون ويحيون، وهذا الكلام يحتمل وجهين:

أحدهما أن يقال: إنّهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وإرادتهم وهم الفاعلون حقيقةً، وهذا كُفرٌ صريح دلّت على استحالته الأدلة العقلية والنقلية، ولا يستريب عاقل في كفر من قال به.

وثانيهما: إنّ الله تعالى يفعل ذلك مقارِناً لإرادتهم، كشقِّ القمر، و إحياء الموتى، وقلب العصا حية، وغير ذلك من المعجزات، فإنّ جميع ذلك إنّما تحصل بقدرته تعالى مقارناً لإرادتهم لظهور صدقهم، فلا يأبى العقل عن أن يكون الله تعالى خلقهم وأكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم، ثمّ خلق كلّ شيء مقارناً لإرادتهم ومشيتهم.

وهذا و إن كان العقل لا يعارضه كِفاحاً، لكنّ الأخبار السالفة(٢) تمنع من القول به فيما عدا المعجزات ظاهراً، بل صُراحاً، مع أنّ القول به قولٌ بما لا يُعْلَمُ، إذ لم

____________________

(١) تصحيح اعتقادات الإمامية: ١٣٤، وعنه في خاتمة المستدرك ٥: ٢٣٤، وبحار الأنوار ٢٥: ٣٤٥.

(١) وهي الأخبار التي ذكرها المجلسي قبل هذا الكلام.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595