أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان13%

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 595

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان
  • البداية
  • السابق
  • 595 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156824 / تحميل: 12403
الحجم الحجم الحجم
أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

أي الشعور الديني الفطري، واحدة من السخافات والمهازل.

إنّ وجود البعد الرابع في الروح الإنسانية يثبت أنّ لجميع الميول الدينية عند الإنسان جذوراً ضاربة في أعماق الوجدان، وقد تجلى هذا الشعور في جميع أدوار الحياة البشرية حتى في تلكم الأدوار والمناطق التي لم تكن فيها مشكلة العامل ورب العمل(١) مطروحة بحال.

فقد كان هذا الشعور يدفع البشر في تلك الأدوار والمناطق إلى الله وإلى ما وراء الطبيعة.

كما أنّ آثار الشعور الديني لم تختف عن الكهوف والمغارات التي كان يسكنها الإنسان الأوّل.

هذا ونظائره يكشف بوضوح عن ملازمة هذا البعد للروح الإنسانية ملازمة الظل للشاخص، وملازمة الزوجية للأربعة وكأنّ التوجه إلى الله وإلى قضايا ما وراء الطبيعة نشيد غيبي لا يفتأ ينبع من الفطرة الإنسانية

نشيد لا يهدأ

الماركسيون وتقديس المبادئ الماركسية

رغم كل الدعايات المستمرة التي يقوم بها الماديون ضد « الدين » ووصمهم له بأنّه من عوامل الجمود والتأخر، وكونه منافياً للحرية الإنسانية ومانعاً من تقدم

__________________

(١) هذا هو رد تلويحي إلى ما يردّده الماديون الماركسيون حول الدين إذ يقولون: إنّ الدين لم يوجد إلّا لإخماد ثورة العمال الكادحين على أرباب العمل.

ولكن بعد أن ثبت أنّ للدين جذوراً في ضمير البشر، وأنّه كان موجوداً حتى في النقاط التي لم يكن فيها خبر عن العامل ورب العمل لم يعد للنظرية الماركسية حول الدين أية قيمة.

٦١

البشرية في مجالات البناء الفكري والاجتماعي.

رغم كل تلك الدعايات المضادة لم يستطيعوا أن ينبذوا الدين والأفكار الدينية من أدمغة البشر، أو يقلّلوا من تقديس المجتمعات المؤمنة لمعتقداتها.

وربما عاب الماركسيون على المتدينين ذلك التقديس المفرط لمعتقداتهم والحال إنّ تقديس الماركسيين ـ أنفسهم ـ لمبادئ الماركسية ولمؤسسيها لم يقل، ولم يختلف عن معاملة المتديّنين لمعتقداتهم وكتبهم السماوية ومن جاء بها.

إنّ الماركسيين يعتبرون أُصول الماركسية وما جاء به وقاله ماركس وانجلز ولينين، أُموراً صحيحة مائة بالمائة، ويرون أنّها منزّهة عن أي غلط أو عيب وعارية عن أي اشتباه وخطأ، وإنّها قطعية لا يأتي الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يمكن أن تتغيّر أو تتبدل(١) تماماً كما يعتقد المتديِّنون والإلهيون في شأن الوحي والكتب السماوية.

ويكفي لمعرفة مدى تقديس الشيوعيين والماركسيين لشخصياتهم ومؤسسي مبادئهم ما نشرته صحيفة البرافدا الناطقة بلسان الحزب الشيوعي في ٢٦ أبريل ١٩٤٩م إذ قالت :

نحن نؤمن بثلاثة أشياء: كارل ماركس، ولينين ; وستالين، ولا نؤمن بثلاثة أشياء: الله، والدين، والملكية الخاصة.

إنّهم يحرمون أية إعادة نظر في المبادئ والأُصول الماركسية، ويصمون كل من يحاول ذلك بالردة الفكرية، والمروق من اللينينية الماركسية ويعتبرونه مرتداً حزبياً، تماماً كما يفعل المتدينون، إذ يعتبرون الانحراف عن التعاليم النبوية وإنكار

__________________

(١) هذا رغم أنّ من أُصول المادية الديالكتيكية هو التغير المستمر في الأشياء !!!

٦٢

بعض الضروريات الدينية سبباً للارتداد، ويعدون منكرها « مرتدّاً دينياً » ويهدرون دمه.

إنّ الاحترام الذي يلقاه مؤسسوا الاشتراكية من قبل أتباعهم لا يختلف كثيراً عن احترام أتباع الديانات الإلهية للأنبياء والرسل إن لم يزدد عليه.

وغاية التفاوت بين السلوكين أنّ أتباع هذه الأحزاب والمبادئ المادية يحترمون قادتهم السياسيين ما داموا يحتلون المناصب، ففي مثل هذه الفترة تجدهم يصفون قادتهم بأنّهم « ملائكة الرحمة » وأنّهم « محطمو قيود الاستعمار والاستبداد » وأنّهم « ملجأ الجماهير الكادحة » وما إلى ذلك من ألفاظ المديح والثناء.

ولكن ما أن أُقصي هؤلاء القادة من مناصبهم أو حان موتهم وأُودعوا باطن الأرض إلّا ووجدت انعكاس الآية. فإذا بالأسياد المحترمين بالأمس المستحقين لأجمل وأسمى آيات المديح والثناء، ينهال عليهم كل ما في قاموس الشتائم من سباب واتهامات، فإذا بالقائد التقدمي يصبح رجعياً، ضد الكادحين، سفاكاً، خرق أُسس الماركسية وتجاوز عليها، واستهان بآراء الجماهير، إلى غير ذلك من الاتهامات الرخيصة !!!

وقد وجدنا ووجد العالم كله ـ طوال الفترة التي عشناها ـ نوعين متضادين من الوصف في حق ستالين فبينما كان يعد ذات يوم ملاكاً طاهراً مقدساً صار يعد في يوم آخر سفاكاً دموياً إلى درجة أنّ تماثيله أُزيلت من الساحات والميادين العامة في الاتحاد السوفياتي بعد موته(١) .

__________________

(١) بل وأُريد إخراج جثمانه للحرق انتقاماً، كما تتحدث عن ذلك بعض الكتب عن الاتحاد السوفياتي.

٦٣

وها نحن اليوم نشاهد بدايات لنفس الموقف في شأن « ماو »، وسوف لن يمضي زمان طويل إلّا ونجد « ماو » وقد أُصيب بما سبق أن أُصيب به سلفه ستالين المنكود الحظ.

إنّ الاحترام والتعظيم الذي يظهره أتباع الفلسفة المادية لمؤسّسي أُصول الماركسية كماركس وانجلز، لدليل قاطع على فطرية سلسلة من المفاهيم كالخلود والأبدية.

فهذه المفاهيم صحيحة في حد ذاتها وهي أُمور قطعية مائة بالمائة إلّا أنّ القوم استخدموها في غير مواضعها خطأ(١) .

فبدل أن يستخدموا وصف الخلود والأبدية في حق « الوحي الإلهي » ويعتبروا الانحراف عن ذلك الوحي ارتداداً، نجدهم وصفوا « الماركسية » بالخلود ونعتوا مؤسسيها بالأبدية فإذا بهم يواجهون ذلك التخبط الذريع.

ولو لم تكن مفاهيم كمفهوم الخلود والأبدية أُموراً فطرية لما راح الماركسيون يطلقونها على هذا أو ذاك حتى ولو خطأ.

ثم إنّنا كثيراً ما نجد الماركسيين يستخدمون في شعاراتهم ونشراتهم ألفاظاً ك‍ « التضحية والفداء » في حين أنّ هذه المفاهيم لا تتلاءم مع أُصول الماركسية لحصرها الوجود في « العالم المادي » وإنكارها لما وراء ذلك.

وإذا كنا نعلم بأنّ الإنسان لا يعمل شيئاً إلّا لتحقيق منفعة شخصية إلى

__________________

(١) يقصد الأُستاذ بأنّ الإيمان الفطري بوجود أُمور خالدة وأبدية أمر صحيح وموجود في باطن البشر، وأنّ هناك بالفعل أُموراً خالدة وأبدية في الوجود بيد أنّ الماركسيين أخطأوا في استعمال هذه الأوصاف فاستخدموها في غير مواضعها ـ الهادي ـ.

٦٤

درجة أنّ المنافع الاجتماعية أيضاً لا يريدها الإنسان إلّا لمنفعة نفسه، فلمن يضحي الماركسي ولمن يقدم نفسه فداء وهو لا يعتقد بالآخرة وما فيها من أجر وثواب ؟!

أما يعتقد المنطق الماركسي بأنّ الإنسان يفنى بالموت فناء كاملاً ولا تعود منافعه إليه بعد موته ؟

فماذا تعني التضحية والفداء عند الماركسيين ؟

أليس ذلك يدل على أنّ دوافع التضحية والفداء أُمور فطرية متأصلة في ضمير الإنسان ووجدانه، وأنّ الماركسيين أخطأوا في طريقة استخدامها ؟

المعنى الآخر لفطرية الإيمان ب الله

وقد تفسر فطرية الإيمان بالله بنحو آخر إذ يقال: يكمن في قرارة كل إنسان عشق للكمال والخير المطلق لم يزل ولا يزال يدفع الإنسان إليه.

فإذا ما وجد الإنسان في نفسه ميلاً شديداً إلى العلم أو إلى الأخلاق أو الفن والجمال، فإنّ هذا الميل إنّما هو شعبة نابعة من ذلك العشق للكمال، وإشعاعة من إشعاعاته.

إنّ أوضح دليل على وجود مثل هذا العشق للكمال المطلق في باطن البشر هو أنّ أي كمال مادي لا يروي عطش الإنسان ولا يطفئ ظمأه.

فها هو الإنسان يسعى جهده ليبلغ إلى ما يريده من المناصب الرفيعة، ويظل يطمح إلى ما هو أعلى وأعلى حتى إذا نال ما أراد، فكّر في أن يسخّر قمة أعلى ممّا ناله وكلّما ازداد رقياً ازداد عطشاً وظمأ وطموحاً أكثر فأكثر.

كل هذا ـ لو تأملنا ـ دليل واضح على أنّ للإنسان ضالة ينشدها أبداً ،

٦٥

ويبحث عنها باستمرار وقد كان يظنها في الكمالات المادية المزيجة بالنقائص والشرور وأنّها قادرة على إرواء ظمئه وغليله، ولكنَّه كلّما خطا خطوة جديدة إلى الإمام رأى خلاف ما كان يتصوره ويتوقعه، ووجده دون ما يهواه ويعشقه.

إنّ عشق الكمال المطلق لدليل ـ حقاً ـ على وجود مثل هذا الكمال، ولدليل أيضاً على وجود رابطة قائمة بين الإنسان والكمال ذاك.

إنّ الوصول إلى ذلك الكمال وبلوغه يحتاج إلى تفكّر وتدبّر، وإلى السير في الطريق المؤدّي إليه، وإلى الرياضة الدؤوبة التي تشعل الجذوة الكامنة في أعماق النفس وتوجد في حناياه شغفاً أكبر وعطشاً أعمق، وتحوله بالتالي من باحث عن الله إلى واجد لله، ثم يتحول وجدانه لله إلى الشهود، واليقين الذي لا ينفذ إليه شك، ولا يتسلل إليه تردد وارتياب.

إنّ هذا الشهود ليس برؤية العين بل بعين البصيرة التي نوّه عنها في كلام الإمام عليعليه‌السلام إذ قال :

« لم تدركه العيون بمشاهدة العيان، بل تدركه القلوب بحقائق الإيمان »(١) .

إنّ اليقين الحاصل للسالك والعارف في مسألة « وجدان الله » لهو أعلى من اليقين الحاصل من استخدام الجوارح والحواس، انّه نور لا ظلمة فيه، ويقين لا شك فيه، ولا تردد ولا احتمال ولا ظن.

والآن ما هو طريق الوصول إلى مثل هذا الكمال واليقين المطلق والشهود الأعلى ؟

إنّ القرآن الكريم يشير بنحو ما إلى هذا الطريق في آية، إذ يقول :

__________________

(١) نهج البلاغة: شرح محمد عبده، خطبة ١٧٤.

٦٦

( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ الْسَّاجِدِينَ *وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ) (١) .

ففي هذه الآية وصفت العبادة والدعاء بكونها طريقاً للوصول إلى هذا اليقين والمعرفة القلبية اليقينية(٢) .

إنّ هذا اليقين هو غير اليقين الذي يحصل لكل العابدين إنّ هذا هو ذلك الشهود الذي يكون على غرار اليقين الحاصل من الاحتكاك بالمحسوسات الذي يكون من القوة بحيث يمنع من تطرق أي شك أو ترديد إليه.

وهذا الطريق ليس في وسع كل أحد سلوكه كيفما اتفق، بل لابد لسلوكه من التهيؤ اللازم الذي لا يوجد إلّا عند القليلين من عباد الله المخلصين.

الشعور الديني الفطري في الأحاديث

نظراً للأهمية التي تتمتع بها مسألة فطرية الحس الديني في العلوم الإنسانية وردت بعض الأحاديث الصادرة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة الطاهرين الصادقين: التي تتحدّث عن ذلك وإليك طائفة منها :

١. صحيح البخاري في تفسير الآية( فطرة الله ) نقل الحديث التالي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« ما من مولود إلّا يولد على الفطرة ثمّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو

__________________

(١) الحجر: ٩٨ ـ ٩٩.

(٢) انّ التفسير المذكور في المتن للآية هو أحد المداليل والأبعاد التي يمكن استخراجها من الآية ولا ينافي تفسير بعض الأحاديث اليقين هنا بالموت.

٦٧

يمجّسانه » ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (١) .

وقد ورد في أحاديث أهل البيت: في تفسير آية الفطرة ما يقارب (١٥) حديثاً فسرت الفطرة بالتوحيد، وهي تفيد أنّ توحيد الله والإيمان بذاته ووجوده وصفاته ممّا جبل عليه البشر وعجنت به فطرته(٢) .

وربما فسرت بعض هذه الأحاديث الفطرة المذكورة في الآية ب‍ « الإسلام » و « معرفة الله » التي تعود في الحقيقة إلى المعنى السالف.

ونذكر هاهنا كل تلك الأصناف من الروايات مع الإشارة إلى ما هو مكرر منها :

أمّا ما صرح منها بالتوحيد فهي :

٢. سأل هشام بن سالم الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام عن معنى الفطرة فقال الإمام :

« فطرهم على التوحيد »(٣) .

وقد روى مثل هذا عن الإمام الصادقعليه‌السلام غير هشام كزرارة والعلاء بن فضيل ومحمد الحلبي وعبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر.

٣. ما رواه زرارة عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام حينما سأله قائلاً: أصلحك الله، قول الله عزّ وجلّ في كتابه:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) فقال الإمام مجيباً :

__________________

(١) التاج الجامع للأُصول: ٤ / ١٨٠، وتفسير البرهان: ٣ / ٢٦١، الحديث ٥.

(٢) و (٣) راجع تفسير البرهان: ٣ / ٢٦١ ـ ٢٦٣، والتوحيد للصدوق: ٣٢٨ ـ ٣٣١.

٦٨

« فطرهم على التوحيد(١) عند الميثاق على معرفته أنّه ربّهم »(٢) .

وأمّا ما فسرت الفطرة فيه بالمعرفة فهي :

٤. ما عن زرارة أيضاً عن أبي جعفر الإمام محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام قال سألته عن قول الله عزّ وجل:( حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ) وعن الحنيفية، فقال الإمام :

« هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله ».

ثم قال :

« فطرهم الله على المعرفة »(٣) .

وقد أوضح الإمام الباقر المقصود بهذه المعرفة في رواية أُخرى رواها زرارة عنه أيضاً لـمّا سأله عن نفس الآية فقالعليه‌السلام :

« فطرهم على معرفة أنّه ربهم، ولولا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم »(٤) .

وأمّا ما فسرت الفطرة بالإسلام فهي :

٥. ما عن عبد الله بن سنان، عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام لـمّا سأله عن قول الله عزّ وجلّ:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟ قال الإمام:

__________________

(١) إنَّ تفسير الدين المفطور عليه، في هذه الأحاديث بالتوحيد لا يدل على اختصاص الدين في الآية بالتوحيد خاصة بل إنّ ذكر التوحيد إنّما هو من باب ذكر أظهر المصاديق وأجلاها.

(٢) و (٣) و (٤) نفس المصادر السابقة.

٦٩

« هي الإسلام »(١) .

ثم أوضح الإمام نفسه في رواية أُخرى عن عبد الله بن سنان أيضاً المقصود بالإسلام وأنّه هو التوحيد ومعرفة الله إذ قالعليه‌السلام :

« هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد »(٢) .

٦. سأل محمد بن حكيم الإمام الصادقعليه‌السلام عن المعرفة من صنع من هي ؟ فقالعليه‌السلام :

« من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع »(٣) .

٧. سأل أبو بصير الإمام الصادقعليه‌السلام فقال الإمامعليه‌السلام :

« نعم وليس للعباد فيها صنع »(٤) .

٨. ولقد تعرض الإمام عليعليه‌السلام إلى هذا المطلب « أي فطرية الاعتقاد بالله » في نهج البلاغة في أوّل خطبة فيه عندما ذكر بأنّ الأنبياء أُرسلوا لإثارة دفائن العقول، أي لإحياء ما هو مرتكز في عقول البشر وما هو كامن في حنايا فطرتهم من الاعتراف بوجود الله والإذعان بإلهيته، إذ يقولعليه‌السلام :

« فبعث الله فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول »(٥) .

مع ملاحظة هذا الكلام العلوي يمكننا القول بأنّ المقصود من قول الله

__________________

(١) و (٢) المصادر السابقة.

(٣) أُصول الكافي: ١ / ٨٥، ٩٣، ١٦٥.

(٤) أُصول الكافي: ١ / ١٦٣.

(٥) نهج البلاغة: الخطبة الأُولى.

٧٠

تعالى:( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) (١) في حق الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو: أن يذكّر الرسول الأكرم الناس بما هو كامن ومودوع ـ أساساً ـ في فطرتهم أو أنّ هذا هو أحد أبعاد الآية ومعانيها ـ على الأقل ـ.

٩. ما دار بين رجل والإمام جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام قال الرجل: يابن رسول الله دلّني على الله ما هو ؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني.

فقال له الإمام: « يا عبد الله هل ركبت سفينة قط ؟ » قال: نعم، قال: « فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك ؟ » قال: نعم.

قال: « فهل تعلَّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ » قال: نعم.

قال الصادقعليه‌السلام : « فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث »(٢) .

تنبيه

دلّت الأبحاث الماضية على أنّ للإنسان إدراكات فطرية منذ أن يولد، وهي تواكب جميع مراحل حياته، وتتكامل بتكامل وجوده وتتفتح بتفتح مشاعره ولكن ربّما يتوهم أنّ هذا منقوض بقوله تعالى :

( واللهُ أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٣) .

__________________

(١) الغاشية: ٢١.

(٢) بحار الأنوار: ٣ / ٤١، نقلاً عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق.

(٣) النحل: ٧٨.

٧١

فهذه الآية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس من خلو صفحة النفس من المعلومات في بدء تكونها، بلا فرق بين العلوم الفطرية وغيرها.

والجواب عن هذا واضح بعد الوقوف على مقدمة وهي: انّ التصورات والتصديقات إمّا كسبية أو بديهية، والكسبية إنّما يمكن تحصيلها بواسطة تركيب البديهيات فلابد من سبق هذه العلوم البديهية.

أمّا العلوم البديهية فلم تكن حاصلة في نفوسنا، بل حصلت هي أيضاً بمعونة الحواس كالسمع والبصر، فالطفل إذا أبصر أو سمع شيئاً مرّة بعد أُخرى ارتسمت ـ في ذهنه ـ ماهيّة ذلك المبصر أو المسموع، وكذا القول في بقية الحواس.

فالمدركات على قسمين: ما يكون نفس حضورها موجباً تاماً في جزم الذهن باسناد بعضها إلى بعض كما إذا حضر في الذهن إنّ الواحد ما هو ؟ وانّ نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التصوّرين في الذهن علّة تامة في جزم الذهن بأنّ الواحد محكوم عليه بأنّه نصف الاثنين وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.

والقسم الثاني ما لا يكون كذلك، وهو العلوم النظرية، مثلما إذا أُحضر في الذهن انّ الجسم ما هو ؟ وإنّ المحدث ما هو ؟ فإنّ مجرد هذين التصوّرين لا يكفي في جزم الذهن بأنّ الجسم محدث بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة.

وهذا هو الملاك في تقسيم العلوم إلى بديهية وكسبية(١) .

والآية ناظرة إلى العلوم الحصولية التي تنقسم إلى البديهي والنظري لا العلوم الحضورية مثل علم النفس بذاتها، ولا العلوم الفطرية التي ليس لها إلّا قوة العلم

__________________

(١) راجع مفاتيح الغيب للرازي: ٥ / ٣٤٩.

٧٢

وإنّما تنفتح إذا خرج الإنسان إلى هذا العالم واعمل حواسه، ولامس الحقيقة الخارجية، فعند ذاك ينقلب ما هو علم بالقوة إلى العلم بالفعل.

وصفوة القول: إنّ هناك في النفس البشرية سلسلة من المعلومات على صورة خمائر تتجلّى وتظهر وتتفتح شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن ومع احتكاك الإنسان بالوقائع الخارجية ولا يسمّى هذا علماً فعلياً وإدراكاً حاضراً.

وبالتالي فالآية ناظرة إلى ذلك أي انّ الإنسان منذ يخرج من بطن أُمّه ليس فيه علم فعلي ولا ينافي وجود ما يشبه خمائر العلوم التي تحتاج إلى أرضية للتفتح والظهور.

٧٣
٧٤

الفصل الثاني

الله وعالم الذر

٧٥

ما هو عالم الذر وما هو الميثاق ؟

١. استعراض الآيات أوّلاً.

٢. نقاط جديرة بالاهتمام.

٣. آراء العلماء حول « الميثاق في عالم الذر ».

٤. النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث.

٥. انتقادات على هذه النظرية.

٦. النظرية الثانية.

٧. إشكالات على هذه النظرية.

٨. النظرية الثالثة.

٩. أسئلة حول هذه النظرية.

١٠. بحث حول الأحاديث الواردة في تفسير الآية.

٧٦

استعراض الآيات أوّلاً

قبل أن نعطي رأينا في حقيقة ذلك العالم وواقع ذلك الميثاق المأخوذ في العالم المذكور، ولأجل أن نتجنب اتخاذ أي موقف قبل دراسة ومراجعة الآية المرتبطة بهذا الموضوع يتعين علينا استعراض هذه الآية، أوّلاً، لكي ندفع القارئ نفسه إلى التأمل فيها والتفكير حولها لمعرفة معنى هذه الآية ومغزاها.

وإليك فيما يأتي نص الآية المتعلّقة بالموضوع مضافاً إلى آيتين لاحقتين لها :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ *وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (١) .

نقاط جديرة بالاهتمام

١. لقد وردت لفظة ( الذرية ) في (١٨) موضعاً آخر ما عدا هذا الموضع أيضاً والمقصود بها في كل تلك الموارد هو: « النسل البشري » وليس في ذلك خلاف، انّما وقع الخلاف في أصل هذه اللفظة وانّها مأخوذة من ماذا ؟

__________________

(١) الأعراف: ١٧٢ ـ ١٧٤.

٧٧

فذهب فريق إلى أنّ لفظة « الذرية » مشتقة من « الذرء » بمعنى الخلق، وفي هذه الصورة تكون الذرية بمعنى: المخلوق.

وذهب فريق آخر إلى أنّها مشتقة من « الذر » بمعنى الكائنات الصغيرة الدقيقة جداً كذرات الغبار وصغار النمل.

وذهب فريق ثالث إلى أنّها مأخوذة من « الذرو » أو « الذري » بمعنى التفرّق والانتشار وانّما تطلق « الذرية » على ولد آدم ونسله لتفرقهم على وجه الأرض وأكناف البسيطة(١) .

٢. تستعمل لفظة الذرية ـ غالباً ـ في الأولاد الصغار مثل قوله تعالى :

( وَلَهُ ذُرِيَّةٌ ضُعَفَاءُ ) (٢) .

وقد تستعمل في مطلق الأولاد مثل قوله سبحانه :

( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) (٣) .

كما أنّها قد تستعمل في فرد واحد مثل قوله سبحانه :

( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) (٤) .

وفيها يطلب زكريا ولداً صالحاً(٥) .

وقد تستعمل في الجمع مثل قوله تعالى :

__________________

(١) راجع في هذا الصدد: مفردات الراغب مادة « ذرو »، ومجمع البيان: ١ / ١٩٩ تفسير آية( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) .

(٢) البقرة: ٢٦٦.

(٣) الأنعام: ٨٤.

(٤) آل عمران: ٣٨.

(٥) ويؤكد هذا أنّ طلب زكريا تكرر في آية أُخرى بلفظ « ولي » إذ يقول:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيْاً *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ( مريم: ٦ ).

٧٨

( وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ) (١) .

٣. يجب المزيد من الدقة والعناية في عبارة الآية

فالآية تفيد أنّ الله أخذ من ظهور كل أبناء آدم، أنسالهم وذرياتهم، وليس من ظهر آدم وحده.

وذلك بدليل أنّ الله تعالى يقول :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَم ) .

ولم يقل: وإذ أخذ ربك من آدم وعلى هذا الأساس فإنّ مفاد هذه الآية هو غير ما هو معروف عند المفسّرين الذاهبين إلى أنّ الذرية أُخذت من ظهر آدم فحسب.

٤. تصرح الآية بأنّ الله أخذنا شهداء على أنفسنا، وأننا جميعاً اعترفنا بأنّه إلهنا، وانّ هذا الاعتراف كان بحيث لم يبق من ذكراها في ذاكرتنا شيء.

٥. كما تفيد الآية بأنّ هذا الاستيثاق والاستشهاد سيسد باب العذر في يوم القيامة في وجه المبطلين والمشركين، فلا يحقّ لهم بأن يدّعوا بأنّهم لم يعطوا مثل هذه الشهادة، ولم يكن عندهم علم بمثل هذا الميثاق والاعتراف كما يشهد به قوله سبحانه :

( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ) .

من هنا يتخذ المفاد لنفسه شكلاً خاصاً وطابعاً مخصوصاً.

فمن جانب لم يك عندنا أي علم بهذا الميثاق والاعتراف.

__________________

(١) الأعراف: ١٧٣.

٧٩

فمن جانب آخر لا يحق لنا أن ندعي الغفلة عن هذا الميثاق، وعن مثل هذا الإقرار كما تقول الآية :

( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) .

أي أن لا تقولوا(١) .

في هذه الصورة ينطرح هذا السؤال :

كيف يمكن أن يسد اقرار لا نعلم به هنا أبداً (باب العذر) علينا ؟!

وكيف يمكن أن نلزم بميثاق لا نتذكره وعهد لا نعرف عنه شيئاً ؟!

وبعبارة أُخرى: إنّنا ـ لا شك ـ لا نعلم مثل هذا الميثاق على نحو العلم الحصولي، في حين أنّ الآية (١٧٢) تقول بمنتهى الصراحة والتأكيد: إنّه لا حق لأحد أن يغفل أو يتغافل عن هذا الميثاق فكيف تتلاءم هذه الغفلة وعدم تذكرنا له في هذه الدنيا مع قوله تعالى:( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) ؟

٦. لا شك أنّ الخطاب في هذه الآية إمّا موجه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإمّا إلى

__________________

(١) إنّ للمفسّرين في أمثال هذه الآية مذهبين :

أحدهما: تقدير لا، ففي مثل قوله سبحانه :

( يُبَيّن الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) ( النساء: ١٧٦ ) قالوا: إنّ المعنى هو أن لا تضلّوا.

فهم جعلوا قوله:( أَنْ تَضِلُّوا ) مفعولاً له ليبين، بنحو « التحصيلي » فيكون المعنى « يبيّن الله لكم لأجل أن لا تضلوا ».

الثاني: عدم تقدير لا وجعل المفعول له من باب « الحصولي » كقول القائل ضربته لسوء أدبه، أي لوجود هذا وحصوله فعلاً ضربته.

فيكون معنى الآية السابقة هو « يبين الله لوجود الضلالة فيكم » ومنه يعلم حال الآية المبحوثة عنها، فيجوز فيها وجهان.

٨٠

وبذلك يكون تشيّع أهل الحديث في الكوفة أعمّ من الولائي والفضائلي، ولأجل هذا لم نَرَ أسماء بعض هؤلاء الذين حسبوا على الشيعة في كتب رجال الشيعة. وعليه فإنّ تشيّع أهل العراق كان أعمّ من تشيع أهل قمّ الذي كان ولائيّاً خالصاً، بمعنى أنّهم كانوا يقولون بعصمة عليّ والأئمّة الأحد عشر من أولاده ومن أولاد رسول الله، ولا يرتضون أن يخالطهم من يخالفهم في العقيدة.

نعم، قد اشتهر القمّيّون بتصلّبهم في العقيدة وتشدّدهم على كلّ متهّم بالانحراف عنها، وقد توجّهوا في العصور الأُولى إلى التأليف في أحوال الرواة، واضعين أصول علم الرجال والدراية انطلاقاً من تلك الشدة حتى لا تختلط مرويّات المنحرفين والمتّهمين بمرويّات الموثوقين من الشيعة، المعتدلين في تشيعهم وعقائدهم.

فكانوا هم من أوائل الجهابذة الذين رسموا أصول علم الرجال الشيعي، ولو رجعت إلى ترجمة محمد بن أحمد بن داود (ت ٣٦٨ هـ) في (الفهرست) للشيخ الطوسى لرأيته قد ألفّ كتاباً في الممدوحين والمذمومين(١) ، وهو من القميين.

وهناك كتاب آخر للقميين في علم الرجال وهو للبرقي يسمى: (برجال البرقي)، وهذا الكتاب سواء كان لأحمد بن محمد البرقي (ت ٢٧٤ هـ)، أو لأبيه محمد بن خالد البرقي، أو لابنه عبد الله بن أحمد، فكلّهم قد عاشوا قبل الكشّي (المتوفَّى في النصف الأول من القرن الرابع الهجري)، والنجاشي (ت ٤٥٠ هـ)، والشيخ الطوسي (ت ٤٦٠ هـ)، وابن الغضائري (ت ٤١١ هـ)، ومحمد بن الحسن أبي عبد الله المحاربي(٢) ، وغيرهم ممّن نص أصحاب الفهارس على أنّهم ألّفوا في أحوال الرجال في القرن الثالث أو الرابع الهجري.

____________________

(١) الرجال للنجاشي: ٣٨٤ / ت ١٠٤٥، الفهرست: ٢١١ / ت ٦٠٣.

(٢) الرجال للنجاشي: ٣٥٠ / ت ٩٤٣.

٨١

وبعد هذا لنا الآن أن نتساءل: لو كان هذا هو وضع بغداد وقم عقائدياً، فكيف يمكن أن ننسب الغلوّ والتفويض إلى البغداديين؟! مع ما عرفنا عنهم من أنّهم أقرب إلى العامّة مكاناً وفكراً، وذلك لمخالطتهم لأفكار المعتزلة والمرجئة وغيرها من الأفكار السائدة آنذاك في بغداد.

وفي المقابل كيف يمكننا تصوّر التقصير في أهل قمّ؟! مع وقوفنا على كثرة المرويّ من قِبَلِهِمْ في مقامات الأئمّة، واهتمامهم المفرط بالأخذ عن الثقات. والتعريفُ بكتاب(بصائر الدرجات) لمحمّد بن الحسن بن فروخ الصفار القمّي (ت ٢٩٠ هـ) من أصحاب الإمام العسكري، كاف لإعطاء صورة عن المنزلة المعرفيّة لأهل قمّ، إذ قد يتصور أن فكرة الغلوّ والتفويض هي أقرب إلى القميين من البغداديين، وذلك لوضوح الارتفاع في مروياتهم عن الأئمّة، في حين أنّ الأمر ينعكس فيما يقال عن البغداديين أو قُل: عن غير القميين أنّهم غلاة !!

فقد ذكر الصفار في كتابه أحاديث كثيرة فيما أخذ الله من مواثيقَ لأئمّة آل محمد(١) ، وأن رسول الله والأئمّة يعرفون ما رأوا في الميثاق(٢) ، وأنّ الله خلق طينة شيعة آل محمد من طينتهم(٣) .

وقد روى كذلك ١٦ حديثاً في أنّهم يعرفون رجال شيعتهم وسبب ما يصيبهم، و ١٢ حديثاً في أنّهم يحيون الموتى و يبرءون الأكمه والأبرص بإذنه تعالى، و ١٩ حديثاً في أنّ الأئمّة يزورون الموتى وأنّ الموتى يزورونهم، و ١٤ حديثاً في أنّهم يعرفون متى يموتون و يعلمون ذلك قبل أن يأتيهم الموت.

وفي علم الإمام بمنطق الطير والحيوانات ذكر الصفار ٤٣ حديثاً(٤) في ثلاثة

____________________

(١) بصائر الدرجات: ٩٩ / الجزء الثاني / الباب: ١١.

(٢) بصائر الدرجات: ١٠٠ / الجزء الثاني / الباب: ١٢.

(٣) بصائر الدرجات: ٣٦ / الباب: ٩.

(٤) انظر الجزء السابع الباب ١٤ و ١٥ و ١٦ من صفحة ٣٤١ إلى ٣٥٤.

٨٢

أبواب، كان لأحمد بن محمد البرقي ١٦ حديثاً منها.

وأنّ الأعمال تعرض على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمةعليهم‌السلام أحياءً كانوا أم أمواتاً(١) ، إلى غيرها من الأخبار الدالة على المكانات العالية للأئمّة.

إنّ رواية هكذا أحاديث معرفيّة في العترة المعصومة عن رواة من أهل قمّ يؤكد بأنّهم كانوا مستعدّين لتقبل مقامات الأئمّة ونقلها وروايتها، وأنّ ما رواه أحمد بن محمد البرقي عن مشايخه ليؤكّد على تقبّل القميين لمثل هكذا أخبار، وأنّها ليست بغلوّ في اعتقادهم، وهو الآخر يوضّح بأنّ إخراج أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري لأحمدَ بن محمد بن خالد البرقي لم يكن لما طرحه من عقائد في كتابه بل لأمور أخرى، كالقضايا السياسية المطروحة آنذاك، ولظروف التقية القاهرة التي كانت تحيط به والتي سنوضح بعض معالمها لاحقاً ولكونه هو الوحيد في مشايخ قمّ الذي كان له ارتباط مع السلطان(٢) ، وأن ابن عيسى بارتباطه بالحاكم كان يريد تقديم خدمة شرعية جليلة لمدينة قم، وقد حققها بالفعل.

والمطالع بمقارنة بسيطة بين كتاب(بصائر الدرجات) للصفار و(المحاسن) للبرقي يقف في كتابالبصائر على روايات أشدّ ممّا فيالمحاسن ، فلماذا يُطرَدُ أحمدُ بن محمد بن عيسى الأشعريُّ أحمد بن محمد البرقيَّ ولا يطرد الصفارَ الّذي روى عن البرقي؟ لا يمكن الجواب عن ذلك إلاّ بما قلناه الآن وبما سنوضحه لاحقاً.

إنّ رواية القميّين أحاديث عن المفضّل بن عمر، ومحمّد بن سنان، وسعد الإسكاف، والنوفليّ المتهّمين بالغلوّ والتفويض بجنب الرجال الذين لا كلام فيهم من أصحاب الأئمّة، ليؤكّد أنّهم لم يختلفوا مع تلك الروايات وما جاء فيها

____________________

(١) انظر الجزء التاسع الباب ٤ و ٥ و ٦ و ٧ و ٨ و ٩ و ١٠ من صفحة ٤٢٤ إلى ٤٣٨.

(٢) فهرست مصنفات أصحابنا المعروف برجال النجاشي: ٨٢ / ت ١٩٨، خلاصة الأقوال، للعلاّمة: ٦٤/ ت ٦٧.

٨٣

من أفكار، بل إنّ اختلافهم كان لأصول رسموها لأنفسهم في الجرح والتعديل انطلاقاً من تشدّدهم المبرّر للحفاظ على تراث المذهب، أو لظروف التقية التي كانوا يعيشون فيها. وبعبارة أخرى: خاف علماء قم من نشر الروايات التي يعسر فهمها على غير العلماء حتى لا تترتب مفاسد علمية وعقائدية في المجتمع الشيعي، لأن إساءة فهم هذه الروايات، قد يستغل من قبل أعداء المذهب للطعن فيه.

إذن، المنع لم يكن لبطلان تلك الأخبار أو لمخالفتها لأصول المذهب، بل كان لإعلانها والجهر بها بين عامة الناس، أو لمخالفتها لأصول لا يفهمون أبعادها فيسيئون فهمها؛ ولأجل ذلك ترى المحدثين كالصدوق والكلينيرحمهما‌الله لم يتداولها بشكل واسع في مصنفاتهم وانحسرت ببصائر الدرجات وأمثال ذلك في العصور اللاحقة.

وعليه فإن أحمد بن محمد بن عيسى الأشعريَّ لما أعاد البرقيَّ أراد أن يوقفنا على أنّ الأُصول التي ابتنى عليها كانت شديدة متشددة، أو أن الظروف التي دعته إلى إقصاء البرقي وطرده قد ارتفعت، فقد ذكر السيّد بحر العلوم فيرجاله (١) والخوانساري فيالرّوضات (٢) أن الأشعري مَشى حافياً في جنازة البرقي كي يَغْسلَ ما اقْتَرَفَهُ من ذنب في حقّه؛ وغرضه من ذلكقدس‌سره توثيق البرقي حتى لا تضيع رواياته التي هي معتمد المذهب؛ وفي الوقت نفسه التأكيد على حرصه على المذهب وخوفاً من إساءة فهم النصوص أو استغلالها من قبل المغرضين، فإنهرحمه‌الله أراد التأكيد على أمرين معاً:

١ - وثاقة البرقي.

٢ - حرصه على المذهب وخوفه من إساءة فهم نصوصه من قبل المغرضين والجاهلين.

ولأجل ذلك لم تره يطرد أمثال الصفار، بل اقتصر طرده على أمثال البرقي، ثم رجوعه عن ذلك، كل ذلك من أجل

____________________

(١) الفوائد الرجالية ١: ٣٣٩.

(٢) روضات الجنات ١: ٤٤ - ٤٥ وهو في خلاصة الأقوال: ٦٢ / القسم الأول ت ٧٣.

٨٤

الحيطة والحذر على رواياتنا وأحاديثنا.

كلّ هذا يدعونا لأن نقف وقفةَ متأمِّل على غرار أصحابنا الرجاليين في أحكام القميين على الرواة والرواية، وأن أحكامهم كانت مقطعية ولم تكن استمرارية لكلّ الأزمان، ونحن بعملنا هذا نريد أن ننتزع بعض تلك الأصول المتبنّاة عندهم، ولا نريد أن نقول إنّها عامة وجارية في كلّ المجالات، لأنّهم وحين جرحهم لأولئك الأُناس تراهم يذكرون العلة التي جرحوهم من أجلها، كالغلوّ، أو روايته عن الضعفاء، أو اعتماده المجاهيل وغيرها، فلنا أن نسأل عن تلك الجروح: هل هي جارحة حقاً أم لا؟ وما هو مدى اعتبارها، وهل هي أُصول معتبرة عندنا اليوم أم أنّها متروكة؟

و إنما قدمنا هذا الكلام وأشرنا إلى هذه البحوث، لنقف من بعد على بعض ملابسات كلام الشيخ الصدوقرحمه‌الله الآتي، وما يمكن أن يكون مستند القميين في جروحهم، ولكن قبل كلّ شيء لابدّ من الإشارة إلى متبنى المدارس الفكرية في المجتمعات الإسلامية ومنها الشيعية الإمامية.

فهناك مدرستان عند الشيعة الإمامية:

١ - مدرسة العقل، وهي المدعومة غالباً بالنقل، فقد تواجدت في بغداد المعتزلة وتكاملت على يد الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسيرحمهم‌الله ومنه انتقلت إلى النجف، والحلة، وجبل عامل.

٢ - مدرسة النقل، وهي التي تأسست في المدينة المنورة لتنتقل إلى بغداد الأشاعرة وقم المحدِّيثين، وكربلاء الأخبارية في عهد الشيخ أحمد الأحسائي والشيخ يوسف البحراني وأمثالهم، ثم تحولها إلى الأصولية في عهد الوحيد البهبهاني وصاحب الرياض وأمثالهم.

وبما أن بحثنا يرتبط بشيء وآخر بالمحدّثين والمتكلمين، فلابد من توضيح أمر يتعلق بالمحدثين من الشيعة والسنة كذلك، وأنّهم على قسمين:

٨٥

قسمٌ: قصدوا حفظ الشرع بمعرفة صحيح الحديث من سقيمه، ولذلك رحلوا إلى الأمصار في سماع الحديث وجمع طرقه وطلب الأسانيد العالية فيه، دون التفقّه فيما يخالفها وكيفيّة الجمع بين الروايات.

وقسم آخر: المتفقهة، وهم الذين أضافوا إلى جمع الحديث التدبّر فيه ومقايسته مع الأحاديث الأُخرى وعرضه على القرآن الحكيم للوقوف على وجوه الجمع والتأويل فيها.

وقد يسمّى القسم الأوّل من هؤلاء المحدّثين ب:"الحشوية"؛ لأنّهم لا يتدبّرون في المتون بقدر ما يتدبّرون في الأسانيد، وقد يطلق على هؤلاء أحياناً:"المقلّدة" و"أصحاب الحديث" و"الأخباريون" ، علماً بأنّ لفظة (الحشوية) أُطلقت أوّلا على المحدثين من العامّة وخصوصاً الحنابلة منهم(١) و إن سعى ابن تيمية لإبعاد هذا اللقب عنهم(٢) ، لكنه لم يوفق في عمله ثم أُطلقت في الزمن المتأخرّ على بعض محدّثي الشيعة، لروايتهم أحاديث في التشبيه والتجسيم، أو لنقلهم أحاديث ضعيفة في مسألة تحريف القرآن(٣) ، أو لنقلهم الغثّ والسمين والذي عبّر عنهم الشيخ المفيد: أنّهم ليسوا بأصحابِ نظر وتفتيش، ولا فكر في ما يروونه ولا تمييز(٤) .

وقال أيضاً في رسالة(عدم سهو النبي) : فليس يجوز عندنا وعند الحشوية المجيزين عليه السهو أن يكذب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّداً ولا ساهياً(٥) .

____________________

(١) انظر على سبيل المثال: البرهان في أصول الفقه، للزركشي ١: ٣٩٢، التحفة المدنية في العقيدة السلفية: ١٦٤، الوافي بالوفيات ٢٧: ١٩٢، الدارس ١: ٢٠١، منادمة الأطلال: ١٠٠.

(٢) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية ٣: ١٨٦، العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، للمقدسي: ٢٥٤.

(٣) الذخيرة في علم الكلام للسيّد المرتضى: ٣٦١.

(٤) هذا هو كلام الشيخ المفيد في المسائل السروية، المسألة الثامنة: ٧٢.

(٥) عدم سهو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ٢٣ المطبوع ضمن مصنفات المفيد ج ١٠.

٨٦

وقد اتّبع السيّد المرتضى أُستاذه في ردّ المحدثين فكتب رسائل في ذلك ك:رسالة الرد على أصحاب العدد، ورسالة في إبطال العمل بأخبار الآحاد ، واتّهم القميين كافّة بالتجسيم، إذ قال:

إنّ القمّيّين كلّهم من غير استثناء لأحد منهم إلاّ أبا جعفر ابن بابويه بالأمس كانوا مشبِّهةً مجبِّرةً، وكتبهم وتصانيفهم تشهد بذلك وتنطق به، فليتَ شعري أيُّ رواية تخلص وتسلم من أن يكون في أصلها وفرعها واقف، أو غال، أو قمي مشبهٌ، والاختبار بيننا وبينهم التفتيش، ثمّ لو سَلِمَ خبرُ أحدهم من هذه الأُمور، لم يكن راويه إلاّ مقلدٌ بحت معتقدٌ لمذهبه بغير حجّة ودليل...(١) .

وقد كتب العلاّمة الفتوني العاملي المتوفَّى ١١٣٨ هـ رسالة باسم(تنزيه القمّيّين) في جواب السيّد المرتضى، وقد طبعت هذه الرسالة في مجلة تراثنا، العدد (٥٢)، الرابع للسنة الثالثة عشر / شوال ١٤١٨ هـ.

وقد سمّى الشيخ المفيد فيالفصول المختارة هؤلاء الشيعة:... جماعة من معتقدي التشيّع غير عارفين في الحقيقة، وإنّما يعتقدون الديانة على ظاهر القول، بالتقليد والاسترسال دون النظر في الأدّلة والعمل على الحجّة...(٢) .

ووصف الشيخ الطوسي هؤلاء المقلّدة في أصول الدين، بقوله: إذا سُئلوا عن التوحيد أو العدل أو صفات الله تعالى أو صحّة النبوة قالوا: كذا روينا، و يروون في ذلك كلّه الأخبار(٣) .

ومن خلال ما سبق اتضح لنا وجود بعض التخالف بين منهج القمّيّين ومنهج البغداديّين في العقائد والفقه أو قل اختلاف المباني والسلائق بينهم إذ إن المنهج الأول غالباً ما يعتمد على الأحاديث تبعاً لمشايخهم دون لحاظ ما يعارضه

____________________

(١) رسائل المرتضى ٣: ٣١٠.

(٢) الفصول المختارة: ١١٢ طبع ضمن مصنفات المفيد ج ٢.

(٣) العدة للشيخ الطوسي ١: ١٣٣.

٨٧

بعمق. وأمّا المنهج الثاني فيرى لزوم التدبر فيما يروونه بعمق، والسعي لرفع التعارض بين الأخبار، وخصوصاً في المسائل العقائدية.

وبعبارة أُخرى: إنّ القمّيّين قد يكونون أُصيبوا بردّة فعل، بسبب الصراع بين عقيدتهم الصحيحة في أهل البيت وبين نزعة الحشوية المتفشيّة عند بعضهم أي نزعة الجمود على الأخبار وذلك لابتعادهم عن الحركة العقلية التي كان يحظى بها البغداديون في طريقة الجمع بين الأخبار، ولوقوفهم على أخبار دالّة على النهي من الأخذ بالرأي في الأحكام من قبل الأئمّة، فواجهوا مشكلة، فمن جهة وقفوا على وجود هكذا أخبار في مرويّاتهم، ومن جهة أُخرى وقفوا على نصوص أُخرى دالّة على شرعيّة الاعتماد على العقل، وجواز الاجتهاد في دائرة النصوص، فاكتفوا بتوثيقات مشايخهم الثقات ووقفوا عليها، فأخذوا يتشدّدون في أخذ الأخبار إلاّ عن الثقات وما رواه مشايخهم، خوفاً من دخول الفكر الأجنبي في صلب العقيدة. وخوفاً من تزندق المتزندقة الذين يحاولون التشكيك بكل شيء، إذ إن مصنفات الشيخ الصدوققدس‌سره ناطقة ببراعته العقلية العظيمة، وأنّهرحمه‌الله وكذلك مدرسة قم هم أهل نزعة عقلية ظاهرة ممزوجة مع فهم روائي، غاية الأمر أنّ الظروف التي كانت تحيط بهم تمنعهم من فتح هذا الباب على مصراعيه خوفاً على المذهب.

أمّا البغداديون فكانوا يرون لأنفسهم مناقشة النصوص تبعاً لقول أئمتهم في لزوم عرض كلامهم على القران والسّنّة المتواترة القطعيّة والعقل وترك ما يُخالف سيرة المتشرّعة، فكانوا لا يأخذون العقل دليلاً مستقلاً دون النص، بل كانوا يفهمون النص على ضوء العقل، وبذلك صار القمّيّون ألصق بنزعة الحديث منهم إلى نزعة العقل؛ حفاظاً منهم على تراث العصمة وأنّه هو المقدم في عمليات الاستدلال والاستنباط باعتبار أنّ الظروف المحيطة بهم آنذاك تدفعهم للوقوف بوجه من يريد الكيد بالمذهب الحق وتشويه صورته.

٨٨

و إليك الآن بيان بعض تلك المسائل الخلافية التي يمكننا في ضوئها توضيح بعض المتبنيات الفكرية للطرفين، نطرحها كمحاولة في هذا المجال ولا ندعيها قواعد عامة وأصول لا يمكن تخطيها، بل هي نقاط توصلنا إليها وفق التتبع الأولي لمواقفهم ومروياتهم، مؤكدين بأن البت في أصول منهجهم لا يتحقق إلاّ بعد الاستقراء التام لمروياتهم وما قيل عنهم، وإليك النقاط الثلاث:

١ - البغداديون يأخذون بتوثيقات القميين لتشدّدهم ويتركون طعونهم لتسرعهم

اشتهر عن القميين تشددهم في الأخذ عن الرجال، جرحاً وتعديلاً، وقد ثبت عند علماء الرجال سنة(١) وشيعة(٢) الأخذ بتوثيقات المتشدّدين وعدم الاعتناء بطعونهم، لأنّهم يجرحون الرجال بأدنى كلمة، فلو ترضّوا على أحد صار توثيقاً له، ودليلاً على سلامة معتقده، وعليه يكون توثيقهم قد جاء بعد الفحص الشديد والتنقيب العالي، فمن اعتمده القميون فقد جاوز القنطرة(٣) .

هذا وقد عدّ الرجاليون اعتماد القمّيّين وروايتهم عن شخص، أحدَ أسباب المدح والقوة وقبول الرواية(٤) .

* قال النجاشي: إبراهيم بن هاشم، أبو إسحاق القمّي، أصله كوفي انتقل إلى قم...(٥) .

وأضاف الشيخ فيالفهرست : وأصحابنا يقولون: إنه أوّل من نشر حديث

____________________

(١) انظر فتح المغيث، للسخاوي ٣: ٣٥٨، عن الذهبي، والرفع والتكميل مثلاً : ٢٧٤.

(٢) انظر كلام السيّد حسن الصدر في نهاية الدراية: ٣٨٢ مثلاً.

(٣) انظر كلام المحقق البحراني في الحدائق الناضرة ٣: ٣٥٤ وصاحب الجواهر في جواهره ٤: ٨.

(٤) منتهى المقال ١: ٩١، عدة الرجال ١: ١٣٤.

(٥)فهرست مصنفات أصحابنا المعروف برجال النجاشي: ١٦ / ت ١٨.

٨٩

الكوفيين بقمّ، وذكروا أنّه لقي الرضا(١) .

قال السيّد الخوئي فيالمعجم : لا ينبغي الشك في وثاقة إبراهيم بن هاشم و يدل على ذلك عدة أمور:

منها: أنّه أوّل من نشر حديث الكوفيين بقمّ، والقمّيّون قد اعتمدوا على رواياته، وفيهم من هو مستصعب في أمر الحديث، فلو كان فيه شائبة الغمز لم يكن يتسالم على أخذ الرواية عنه وقبول قوله(٢) .

* ومثله الكلام عن إبراهيم بن محمد الثقفي، أبي إسحاق صاحب"الغارات" ، قال عنه المجلسي الأوّل فيشرح مشيخة الفقيه : أصله كوفيّ، وانتقل أبو إسحاق هذا إلى إصفهان وأقام بها، وكان زيديّاً أوّلاً، ثمّ انتقل إلينا، و يقال: إن جماعة من القميين كأحمد بن محمد بن خالد وفدوا إليه وسألوه الانتقال [ إلى قم ] فأبى.

وكان سبب خروجه من الكوفة أنّه عمل كتاب(المعرفة) وفيه المناقب المشهورة والمثالب، فاستعظمه الكوفيّون وأشاروا عليه بأن يترك الكتاب ولا يخرجه للناس، فقال: أي البلاد أبعد من الشيعة؟

فقالوا: أصفهان، فحلف: لا أروي هذا الكتاب إلاّ بها، فانتقل إليها، ورواه بها(٣) .

قال الذهبي في ترجمة إبراهيم الثقفي: بَثَّ الرَّفْضَ، وطلَبَهُ أهلُ قمّ ليأخذوا عنه فامتنع، أ لّف في المغازي، وخبر السقيفة، وكتاب الردّة، ومقتل عثمان، وكتاب الشورى، وكتاب الجَمَل وصفّين، وسيرة عليّ، وكتاب المصرع وغيرها(٤) .

قال الوحيد البهبهاني فيتعليقته على منهج المقال : إنّ معاملة القميّين

____________________

(١) الفهرست: ٣٥ / ت ٦.

(٢) معجم رجال الحديث ١: ٢٩١.

(٣) روضة المتقين ١٤: ٣٦.

(٤) تاريخ الإسلام للذهبي ٢١: ١١٢ - ١١٣.

٩٠

المذكورة ربّما تشير إلى وثاقته، يُنَبِّهُ على ذلك ما يأتي في إبراهيم بن هاشم(١) .

* وقال التستري فيالقاموس عن محمد بن عبد الله الهاشمي: عنونه النجاشي قائلاً: له كتاب يرويه القميّون... وهو يدل على حسنه؛ لأنّ مسلكهم التدقيق، ولولا أنّ غرضه ذلك لما خصّ روايته بهم(٢) .

هذا بعض الشيء عن منهج الرجاليين في التعديل فتراهم يوثّقون شخصاً لأنّه(أول من نشر أخبار الكوفيّين بقم) أو(أنّ أهل قمّ دعوه) ، و يعتبرون أمثال هذه النصوص توثيقاً لهؤلاء الرجال أو مشعرة بالتوثيق، في حين أنّك لو رجعت إلى أقوال الرجاليين كالكشي والنجاشي والشيخ وغيرهم، فلا تراهم يصرّحون بتوثيق إبراهيم بن هاشم وإبراهيم الثقفي ومحمد بن عبد الله الهاشمي وغيرهم إلاّ من خلال تلك القاعدة العامة المذكورة المأخوذ بها عند الرجاليّين شيعة وسنة، فإنّ هؤلاء يأخذون بتوثيق المتشدد، لأنّه جاء وفق استقراء وتتبّع، و يتركون الاعتناء بجروحه إلاّ أن تكون تلك الطعون نصوصاً صريحة صادرة عن المعصومين.

والعامّة يشترطون في الجرح أن يكون مفسّراً، ولا يقبلون بجرح الأقران فيما بينهم، ومن يختلفان فيما بينهما في العقيدة والمذهب. والكل يتّفق على لزوم التّأنّي والتدبّر فيما يقوله المتشدّد وعدم الأخذ بكُلّ ما يقوله؛ وذلك لتسرّع المتشددين في إطلاق الأحكام على الأشخاص بمجرّد التهمة، وقبل تمام التحقيق عنه، فتراهم ينسبون إلى الآخرين أشياء عظيمة وربّما أمروا بقتل بعض المؤمنين كما في محمد بن أورمة بمجرّد شيوع الخبر الذي مفاده أنّ عنده أوراقاً في الباطن، أو لمجرد روايته خبراً يخالف معتقد الآخرين.

وقد أضافت العامّة قانوناً في الجروح العامّة، وهو جرح بعض العلماء لأهل

____________________

(١) انظر تعليقة البهبهاني (منهج المقال) ١: ٣٥٠.

(٢) قاموس الرجال ٩: ٣٩٣.

٩١

بعض البلاد، أو بعض المذاهب، بأنْ لا يُؤخذ بتلك الجروح إلاّ بعد أن ينقّح الأمر في ذلك الجرح، كجرح الذّهبي وابن تيمية لكثير من الصوفية وأولياء الأمة(١) ، أو مبالغة الذهبي في نقد الأشاعرة، والدارقطني والخطيب البغدادي في جرحهما أبا حنيفة وأصحابه.

فالواجب على العالم أن لا يبادر إلى قبول أقوالهم بدون تنقيحها، ومن قلّدهم من دون الانتقاد، ضَلَّ وأوقع العوامَّ في الفساد(٢) .

ومن هنا نقف على قيمة الطعون العامة الصادرة من الأطراف المشددة، فلا يمكن الاعتماد عليها لأنّها نصوص متطرفة.

قال الشيخ الصدوق فياعتقاداته : وعلامة المفوِّضة والغلاة وأصنافهم نسبتهم مشايخ قمّ وعلمائهم إلى القول بالتقصير(٣) .

وقد علّق الشيخ المفيد البغدادي في شرح عقائد الصدوق بقوله: وأمّا نصّ أبي جعفررحمه‌الله بالغلوّ على مَن نَسَبَ مشايخ القميين وعُلماءهم إلى التقصير، فليس نسبةُ هؤلاء القوم إلى التقصير علامةً على غلوّ الناس، إذ في جملة المشار إليهم بالشيخوخة والعلم من كان مقصرّاً، وإنما يجب الحكم بالغلوّ على من نسب المحقِّقين إلى التقصير، سواء كانوا من أهل قمّ أو من غيرها من البلاد وسائر الناس.

وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمّد بن الحسن بن الوليدرحمه‌الله لم نجد لها دافعاً في التقصير، وهي ما حكي [عنه] أنّه قال: أوّل درجة في الغلوّ نفيُ السهوِ عن النبيّ والإمام.

____________________

(١) اليواقيت والجواهر ١: ٨.

(٢) انظر علم رجال الحديث للدكتور تقي الدين الندوي المظاهري: ١١٨، وانظر كذلك طبقات الشافعية الكبرى ١: ١٩٠.

(٣) اعتقادات الصدوق: ١٠١.

٩٢

فإن صحّت هذه الحكاية عنه فهو مقصّر مع أنّه من علماء القميين ومشيختهم.

وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قمّ يقصّرون تقصيراً ظاهراً في الدِّين، و يُنزلون الأئمّةعليهم‌السلام عن مراتبهم، و يزعمون أنّهم كانوا لا يعرفون كثيراً من الأحكام الدينية حتى ينكت(١) في قلوبهم، ورأينا من يقول: إنّهم يلتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون، و يدّعون مع ذلك أنّهم من العلماء. وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه(٢) .

قال الوحيد البهبهاني: ثمّ اعلم أنّه [ أي أحمد بن محمد بن عيسى ] وابن الغضائري ربّما ينسبان الراوي إلى الكذب ووضع الحديث أيضاً بعدما نسباه إلى الغلوّ، وكأنّه لروايته ما يدل عليه، ولا يخفى ما فيه(٣) .

وقال أيضاً: وقد حققنا على رجال الميرزا ضعف تضعيفات القميّين، فإنّهم كانوا يعتقدون بسبب اجتهادهم اعتقادات من تعدّى عنها نسبوه إلى الغلوّ مثل: نفي السهو عن النبي أو التفويض، مثل تفويض بعض الإحكام إليه أو إلى عدم المبالاة في الرواية والوضع، وبأدنى شيء كانوا يتّهمون كما نرى الآن من كثير من الفضلاء والمتديّنين وربّما يخرجونه من قم و يؤذونه وغير ذلك(٤) .

وقال الشيخ محمد ابن صاحب المعالم: إنّ أهل قمّ كانوا يخرجون الراوي [ من البلدة ] بمجرّد توهّم الريب فيه(٥) .

فإذا كانت هذه حالتهم وذا ديدنهم، فكيف يعول على جروحهم وقدحهم بمجرده، بل لابد من التروي والبحث عن سببه والحمل على الصحة مهما أمكن.

____________________

(١) ينكت في قلوبهم: أي يلقي في روعهم ويلهمون من قبل الله تعالى إلهاماً، يقال: أتيته وهو ينكت، أي يفكر، كأنّما يحدِّث نفسه.

(٢) تصحيح الاعتقاد: ١٣٥.

(٣) الفوائد الرجالية: ٣٨ - ٣٩، المطبوع بآخر رجال الخاقاني.

(٤) حاشية مجمع الفائدة والبرهان للوحيد البهبهاني: ٧٠٠.

(٥) استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار ٤: ٧٧.

٩٣

قال العلاّمة بحر العلوم فيرجاله ، وعنه نقل المحدّث النوري فيخاتمة المستدرك : وفي الاعتماد على تضعيف القميّين وقدحهم في الأُصول والرجال كلام معروف، فإنّ طريقتهم في الانتقاد تخالف ما عليه جماهير النقّاد، وتسرّعهم إلى الطعن بلا سبب ظاهر، مما يريب اللبيب الماهر، ولا يلتفت أحد من أئمّة الحديث والرجال إلى ما قاله الشيخان المذكوران [ يعني ابن الوليد وابن بابويه ] في هذا المجال، بل المستفاد من تصريحاتهم وتلويحاتهم تخطئتهما في ذلك المقال [أي الطعن في أصل زيد النرسي](١) .

نماذج من تشدد القميين

* قال الكشي في الحسين بن عبيد الله [ المحرر ]: إنّه أُخرج من قم في وقت كانوا يخرجون منها من اتهموه بالغلو(٢) .

* وروى الكشي، عن جعفر بن معروف القمي، قال: صرت إلى محمد بن عيسى [ العبيدي ] لأكتب عنه، فرأيته يتقلنس بالسوداء، فخرجت من عنده ولم أعد إليه، ثمّ اشتدّت ندامتي لِما تركت من الاستكثار منه لمّا رجعت، وعلمت أنِّي قد غلطت.

وعن علي بن محمد القتيبي، قال: كان الفضل يحبُّ العبيدي و يثني عليه و يمدحه و يميل إليه ويقول: ليس في أقرانه مثله(٣) .

ولو راجعت ترجمة القاسم بن يقطين القمي(٤) والحسن بن محمد المعروف بابن بابا(٥) ترى في ترجمتهما ما يظهر اعتبار محمد بن عيسى العبيدي عند الإمام

____________________

(١) الفوائد الرجالية لبحر العلوم ٢: ٣٦٩، وعنه في خاتمة المستدرك ١: ٦٥.

(٢) رجال الكشي ٢: ٧٩٩ / رقم ٩٩٠.

(٣) رجال الكشي ٢: ٨١٧ / رقم ١٠٢٢، التحرير الطاووسي: ٥٢٧ / الرقم ٣٨٧.

(٤) رجال الكشي ٢: ٧٨٧ / رقم ٩٩٦.

(٥) رجال الكشي ٢: ٧٨٧ / رقم ٩٩٩ وفي ابن أبي الزرقاء ما يظهر منه اعتباره كذلك.

٩٤

الهادي والعسكريعليهما‌السلام ؛ لأن محمد بن عيسى العبيدي قال: كتَبَ إليَّ أبو الحسن العسكري [ وفي آخر العسكري ] ابتداء منه(١) .

قال أبو العباس بن نوح: وقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن الوليد في ذلك كله وتبعه أبو جعفر بن بابويه على ذلك إلاّ في محمد بن عيسى بن عبيد، فما أدري ما رأيه فيه !! لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة(١) .

وقال النجاشي: ورأيت أصحابنا ينكرون هذا القول ويقولون: مَن مِثل أبي جعفر محمد بن عيسى سكن بغداد؟!(٢) .

وشخص كهذا هو ممن اتّهم عند القميين بالغلوّ فلم يرووا عنه، لما قيل عنه: إنّه كان يذهب مذهب الغلاة(٣) .

* وقد تسرّعوا كذلك في محمد بن موسى بن عيسى السمّان والقول فيه إنّه وضع كتابي زيد النرسي وزيد الزّراد، ولو راجعت ترجمة زيد النرسي وزيد الزراد لوقفت على قول ابن الغضائري: قال أبو جعفر بن بابويه: إنّ كتابهما موضوع، وضعه محمد بن موسى السمان؛ وغلط أبو جعفر في هذا القول، فإنّي رأيت كتبهما مسموعة من محمد بن أبي عمير(٤) .

قال النجاشي: محمد بن موسى بن عيسى، أبو جعفر الهمداني السمان، ضعفه القميّون بالغلوّ، وكان ابن الوليد يقول: إنّه كان يضع الحديث، والله أعلم.

له كتاب ما روي في أيّام الأسبوع، وكتاب الردّ على الغلاة.

____________________

(١) رجال الكشي ٢: ٨٠٤ / الرقم ٩٩٦.

(٢) رجال النجاشي: ٣٤٨ / ت ٩٣٩، خلاصة الأقوال: ٤٣١ / الفائدة الرابعة.

(٣) رجال النجاشي: ٣٣٣ / ت ٨٩٦.

(٤) الفهرست: ٢١٦ / ت ٦١١.

(٥) رجال ابن الغضائري: ٦٢ / ت ٥٣، وعنه في خلاصة الأقوال: ٣٤٧ / الفصل ١٠ / الباب ١ / ت ٤.

٩٥

أخبرنا ابن شاذان عن أحمد بن محمد بن يحيى، عن أبيه، عنه بكتبه(١) .

كيف يقول الصدوق ذلك تبعاً لابن الوليد، والنجاشي يقول في رجاله: حدّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن زيد النرسي بكتابه(٢) .

ونص شيخ الطائفة فيالفهرست على رواية ابن أبي عمير لكتاب زيد النرسي كما ذكره النجاشي، ثم ذكر في ترجمة ابن أبي عمير طرقه المعتبرة الصحيحة التي تنتهي إليه(٣) .

وقال الشيخ فيالعدّة عن ابن أبي عمير: إنّه لا يروى ولا يرسل إلاّ عمّن يوثق به. وهذا توثيق عامّ لمن روى عنه(٤) [ وفيه روايته لكتاب زيد النرسي ] ولا معارض له ها هنا.

قال السيّد بحر العلوم: وفي كلام الشيخ تخطئة ظاهرة للصدوق وشيخه في حكمهما بأنّ أصل زيد النرسي من موضوعات محمد بن موسى الهمداني، فإنه متى صحّت رواية ابن أبي عمير إيّاه عن صاحبه، امتنع إسناد وضعه إلى الهمداني المتأخّر العصر عن زمن الراوي والمرويّ عنه.

وأمّا النجاشي فقد عرفت مما نقلناه عنه روايته لهذا الأصل في الحسن كالصحيح بل الصحيح على الأصح عن ابن أبي عمير عن صاحب الأصل، وقد روى أصل زيد الزراد عن المفيد، عن ابن قولويه، عن أبيه وعلي بن بابويه، عن علي

____________________

(١) رجال النجاشي: ٣٣٨ / ت ٩٠٤. وقد يكون فيما كتبه في الرد على الغلاة كان دفاعاً عن نفسه ضد التهمة الموجهة إليه.

(٢) رجال النجاشي: ١٧٦ / ت ٤٦٠: وانظر كلام الشهيد في الرعاية: ٩٠، والوافي ١: ٥ - ٦، والحدائق ١: ٩٠، ينظر إلى كلام الشيخ في عدة الأصول ١: ١٤٧ / الفصل الخامس / في ذكر القرائن التي تدل على صحة أخبار الآحاد أو على بطلانها وما ترجّح به الأخبار بعضها على بعض، وحكم المراسيل.

(٣) انظر الفهرست: ١٣٠ / ت ٣٠٠، ورجال النجاشي: ١٧٤ / ت ٤٦٠.

(٤) عدة الأُصول ١: ١٥٤.

٩٦

بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن ابن أبي عمير، عن زيد الزراد. ورجال هذا الطريق وجوه الأصحاب ومشايخهم(١) ، وليس فيهم من يتوقّف في شأنه سوى العبيدي، والصحيح توثيقه.

وقد اكتفى النجاشي بذكر هذين الطريقين ولم يتعرّض لحكاية الوضع في شيء من الأصلين، بل أعرض عنها صفحاً، وطوى عنها كشحاً، تنبيهاً على غاية فسادها مع دلالة الإسناد الصحيح المتّصل على بطلانها، إلى أن يقولرحمه‌الله :

و يشهد لذلك أيضاً أنّ محمد بن موسى الهمداني وهو الذي ادُّعي عليه وضع هذه الأصول لم يتّضح ضعفه بعد، فضلاً عن كونه وضّاعاً للحديث، فإنّه من رجال نوادر الحكمة، والرواية عنه في كتب الأحاديث متكرّرة، ومن جملة رواياته: حديثه الذي انفرد بنقله في صلاة عيد الغدير، وهو حديث مشهور، أشار إليه المفيدرحمه‌الله في« المقنعة »، وفي« مسار الشيعة » (٢) ، ورواه الشيخرحمه‌الله فيالتهذيب (٣) ، وأفتى به الأصحاب، وعوّلوا عليه، ولا رادّ له سوى الصدوق(٤) وابن الوليد، بناء على أصلهما فيه.

والنجاشي ذكر هذا الرجل في كتابه ولم يضعّفه، بل نسب إلى القميّين تضعيفه بالغلوّ، ثمّ ذكر له كتباً منهاكتاب الرّد على الغلاة، وذكر طريقه إلى تلك الكتب، قالرحمه‌الله : وكان ابن الوليدرحمه‌الله يقول: إنّه كان يضع الحديث، والله أعلم(٥) .

وابن الغضائري وإن ضعّفه، إلاّ أنّ كلامه فيه يقتضي أنّه لم يكن بتلك المثابة من الضعف، فإنّه قال فيه: إنّه ضعيف، يروي عن الضعفاء، و يجوز أن يخرج

____________________

(١) وغالب هؤلاء من القميين.

(٢) المقنعة: ٢٠٤، مسار الشيعة: ٣٩ ضمن المجلد السابع من مصنفات الشيخ المفيد.

(٣) التهذيب ٣: ١٤٣/ باب صلاة الغدير / ح ٣١٧.

(٤) الفقيه ٢: ٩٠ / ذيل الحديث ١٨١٧.

(٥) اختلاف في الهامش رجال النجاشي: ٣٤٨ / ت ٩٠٤، وانظر الفوائد الرجالية ٢: ٣٧٦ / ترجمة زيد النرسي.

٩٧

شاهداً، تكلّم فيه القمّيّون فأكثروا، واستثنوا من نوادر الحكمة ما رواه(١) ، وكلامه ظاهر في أنّه لم يذهب فيه مذهب القمّيّين، ولم يرتضِ ما قالوه، والخطب في تضعيفه هيّن، خصوصاً إذا استهانه.

وقد فصّل سيدنا بحر العلوم الكلام عن أصل زيد النرسي فيرجاله بحيث كفى الآخرين مئونة الكلام عنه(٢) .

ومن الطريف أنّ الشيخ الصدوق قد روى عن ابن أبي عمير في كتابثواب الأعمال (باب ثواب غسل الرأس بورق السدر) عن زيد النرسي بهذا الإسناد:

أبيرحمه‌الله ، قال: حدثني علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن زيد النرسي، عن بعض أصحابه، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: كان...(٣) الخبر.

وفيمن لا يحضره الفقيه كتاب الوصية، باب ضمان الوصي لِما يغيره بما أوصى به الميّت:

وروى محمد بن أبي عمير، عن زيد النرسي، عن علي بن مزيد(٤) صاحب السابري، قال:... الخبر(٥) .

____________________

(١) حكاها عنه العلاّمة في الخلاصة: ٤٠١/ ت ٤٤.

(٢) انظر ترجمته في الفوائد الرجالية ٢: ٣٦٠ - ٣٧٦، وكلام المحدث النوري في خاتمة مستدرك الوسائل ١: ٦٢.

(٣) ثواب الأعمال: ٢٠ والحديث موجود في أصل زيد النرسي كذلك.

(٤) في الكافي ٧: ٢١ ح ١ علي بن فرقد وكلاهما مجهول.

(٥) من لا يحضره الفقيه ٤: ٢٠٧ / ٥٤٨٢.

٩٨

نتيجة ما تقدم:

وبعد كلّ هذا فليس من البعيد أن يكون شيخنا الصدوقرحمه‌الله قد تأثّر بمشايخه وتسرّع في حكمه على الذين رووا الشهادة بالولاية لعلي في الأذان واتّهمهم بالوضع والغلوّ؛ لعدم وجود ما يروونه عند مشايخه، أو لعدم تطابقه مع عقائدهم، فالصدوق اتّبع شيخه ابن الوليد في نسبة الوضع لكتابي النرسي والزراد إلى أبي جعفر الهمداني السمّان، في حين أنك عرفت أنّ ابن الغضائري قال: إنّي رأيت كتبهما [أي كتب زيد النرسي وزيد الزرّاد] مسموعة من محمد بن عمير.

وعليه فلا يمكن الاعتماد على جروح القميّين بلا تمحيص، لأنّ المشهور عنهم أنّهم إذا وجدوا رواية على خلاف معتقدهم رَمَوها بالضعف ووصفوا راويها بالجعل والدسّ.

وبذلك فقد تبيّن لك على سبيل المثال أنّ القميّين جزموا بضرس قاطع بأنّ أصل الزرّاد موضوع، في حين أنّ الطرق الصحيحة إليه(١) أكّدت أنّه ليس بموضوع؛ إذ الطريق إليه صحيح معتبر لا شك في ذلك ولا ريب، وهذا يدعونا لأن نشكك فيما يقطع به شيخنا الصدوققدس‌سره خصوصاً إذا انفرد بالقول بالوضع كما في أخبار الشهادة الثالثة.

فقد يكون جَزْمُ الصدوققدس‌سره بضرس قاطع بأنّ أخبار الشهادة الثالثة من وضع المفوِّضة هو من قبيل جزمه بأنّ أصل الزرّاد موضوع، وما يدرينا فلعلّ شأن أخبار الشهادة الثالثة ستكون شأن أصل الزراد، بل يمكن القول إنّ حكم الشيخ الصدوقرحمه‌الله بالوضع عموماً وفي أخبار الشهادة الثالثة بنحو خاصّ لا يمكن الاعتماد عليه، خاصّة حينما نراه ينفرد في مثل هذا الحكم ولم يتابعه عليه أحد من قدماء الأصحاب بوضع الأخبار.

____________________

(١) كطريق المفيد والطوسي والنجاشيرحمهم‌الله .

٩٩

وبالجملة: يظهر أنّ مثل هذا الحكم وما يجري مجراه ليس عن حسّ وشهود، بل مستنده الحدس والاستنباط، وقراءة المتون والروايات، والسماع من المشايخ الثقات، مع لحاظ خلفيّتهم الفكرية وإسقاطاتهم العقائدية التي تميل إلى جانب التشديد غير العلمي على الرواية والرواة، ومثل هذه الشهادة لا تكون حجة لا في التضعيف ولا في التوثيق.

نعم، نحن في الوقت الذي نقول بهذا، لا نستبعد أن يكون الغلاة قد وضعوا أخباراً دالّة على جزئية الشهادة تلك في الأذان، وأنّ الشيخ الصدوقرحمه‌الله قد سمعها منهم، فيكون ما قالهرحمه‌الله قد صدر منه عن حسٍّ ويقين، فلو ثبت هذا الاحتمال فنحن نتبرأ ممن يضع الأخبار على لسان الأئمّة ويزيد في الأذان ما ليس فيه، وهذا ما سنوضّحه أكثر عند دراستنا لكلام شيخنا الصدوق لاحقاً إن شاء الله تعالى(١) .

٢ - الرواية عن الضعفاء وأصحاب المذاهب الأُخرى واعتماد المراسيل

قرّر المحدّثون من أهل قم إقصاء من يروي عن الضعفاء ومن يأتي بالمراسيل، مع أنّ الرواية عن الضعفاء لا تقتضي تضعيف الراوي ولا تضعيف الرواية بنحو مطلق عند جميع المحدّثين سنة وشيعة، وأنّ رواية الثقات عن كثير من الضعفاء وحتّى المنتحلين للمذاهب الباطلة ممّا لا يكاد يدفعه أحد، وكذا اعتماد المراسيل فإنّها مسألة اجتهادية قد بحثت في كتب علمي الدراية وأصول الفقه.

قال الشيخ الطوسي في أولالفهرست : إنّ كثيراً من مصنّفي أصحابنا، وأصحاب الأُصول، كانوا ينتحلون المذاهب الفاسدة، و إن كانت كتبهم

____________________

(١) انظر صفحة ٢٨٣ إلى ٣٢٦.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595