أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان13%

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 595

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان
  • البداية
  • السابق
  • 595 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156832 / تحميل: 12405
الحجم الحجم الحجم
أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الحيعلة الثالثة معيار الانتماء ومحك الاختلاف

قال سعد التفتازاني المتوفّى ٧٩٣ هـ، فيشرح المقاصد في علم الكلام وفي حاشيته على شرح العضد، وكذا القوشجي المتوفّى ٨٧٩ هـ فيشرح التجريد في مبحث الإمامة، وغيرهما: إنّ عمر بن الخطاب خطب الناس وقال: أيّها الناس، ثلاثٌ كُنَّ على عهد رسول الله أنا أنهى عنهنّ وأحرّمهنّ وأعاقب عليهنّ، وهي: متعة النساء، ومتعة الحجّ، وحيّ على خير العمل(١) .

وقال المجلسيّ الأوّل فيروضة المتّقين : أنّه روى العامّة أنّ عمر كان يباحث [= يجادل] مع رسول الله في ترك حيّ على خير العمل، و يجيبه [الرسول] بأنّها من وحي الله، وليست منّي وبيدي، حتى قال عمر: [أيام خلافته]: ثلاث كنّ في عهد رسول الله وأنا أحرّمهن وأعاقب عليهنّ: متعة النساء، ومتعة الحج، وقول حي على خير العمل، رواه العامة في صحاحهم(٢) .

فهنا سؤال يرد على الأذهان، وهو: ما وجه الترابط بين المنع عن المتعتين وبين رفع حي على خير العمل من الأذان؟ وعلى أيّ شيء يدل؟ ولماذا نرى الذي يقول بشرعيّة « الصلاة خير من النوم » لا يقول بإمامة علي بن أبي طالب، ومن يقول ب « حي على خير العمل » يرى شرعية الولاية لعلي بن أبي طالب؟

وهل حقاً أنّ « حي على خير العمل » يرتبط بموضوع الإمامة والخلافة؟ و إذا كان فكيف يستدلّ به؟

____________________

ولكي يقف المؤمن على السبب الخفيّ في محو تشريع الحيعلة الثالثة وما دعا عمر لأن يحذفها؛ لأن السائل سأل عن سبب الترك، والإمامُ وضّحها لأنّ عمر حذفها كي لا يقف المسلمون على تفسيرها معها، فحذفها خوفاً من مستلزماتها.

(١) شرح المقاصد في علم الكلام ٢: ٢٩٤، شرح التجريد: ٣٧٤، كنز العرفان ٢: ١٥٨. وانظر الغدير ٦: ٢١٣، والصراط المستقيم ٣: ٢٧٧، والمسترشد: ٥١٦.

(٢) انظر روضة المتقين ٢: ٢٢٧ - ٢٢٨.

١٦١

وهل من الصدفة في شيء أن يكون الإمام عليٌّ هو محور هذه الفقرات الثلاث؟

إن موضوع « حي على خير العمل » ما هو إلاّ نافذة واحدة من النوافذ الكثيرة إلى الفقه الأصيل والفقه المحرَّف، و إنّ شأنه في مفردات الفقه الخلافيّ شأنُ التكبير على الميّت أربعاً أم خمساً، وشأن حكم الأرجل في الوضوء هل هو المسح أو الغسل؟ وأنّ المتعة جائزة أم حرام؟ والتختّم في اليمين أو الشمال؟ والمصلي هل عليه القبض أو الإرسال؟ وهل أن الجهر بالبسملة سنة أم الإخفات بها هو السنة؟ وأن صلاة الضحى والتراويح شرعية أم بدعية؟ وهكذا عشرات المسائل في الفقه المقارن.

فالذي يكبّر على الميّت خمساً يقول: لا أتركها لقول أحد(١) ، والقائل بالمسح على الأرجل يراها موافقة للذكر الحكيم، حيث لا يوجدُ في كتاب الله إلاّ غسلتان ومسحتان(٢) ، وأمّا الذي يمنع من المتعة فيستدلُّ بمنع عمر لها(٣) ، وهكذا الحال بالنسبة إلى غيرها من الأُمور الخلافيّة عند الطرفين، فالبعض يستدلّ بالنصّ القرآنيّ والحديث المتواتر النبويّ ولا يرتضي استبدالهما بقول أحد، وهناك من يأخذ بسيرة الشيخين معياراً للنفي والإثبات.

إذن هناك سنّة لرسول الله، وهناك سنّة للشيخين، فالبعض كان لا يرتضي ترك سنّة رسول الله لقول أحد، والآخر يرى الخليفة هو الأعلم بالأحكام وروح التشريع فيجب اتّباعه حتّى لو خالف سنّة النبيّ الثابتة.

إنّ ربط عمر بن الخطاب بين هذه المسائل الثلاث المتعتين وحيَّ على خير

____________________

(١) أنظر مسند أحمد ٤: ٣٧٠ / ١٩٣١٩، وشرح معاني الآثار ١: ٤٩٤ عن زيد بن أرقم.

(٢) سنن الدارقطني ١: ٩٦ / ح ٥، سنن البيهقي الكبرى ١: ٧٢ / ح ٣٤٥ عن ابن عباس.

(٣) مسند أحمد ٣: ٣٢٥ / ح ١٤٥١٩، وانظر ١: ٥٢ / ح ٣٦٩، معرفة السنن والآثار ٥: ٣٤٥ / ح ٤٢٣٧، سنن سعيد بن منصور ١: ٢٥٢ / ح ٨٥٣، مسند أبي عوانة ٢: ٣٣٨ / ح ٣٣٤٩.

١٦٢

العمل يعني في آخر المطاف ارتباط الأمر بالخلافة والإمامة ومنزلة الهاشميّين، لأنّ هذه المسائل الثلاث أبرز عناوين مدرسة التعبّد المحض التي ترى وتعتقد بإمامة عليعليه‌السلام ، وقول عمر: « أنهي عنها » أو « أعاقب عليها » بمثابة اعتراف مبدئيّ منه بشرعية « حيّ على خير العمل » واعتراف ضمنيّ كاشفٌ عمّا يجول في دواخله، ولذلك ربط نهيه عن « حي على خير العمل » بنهيه عن متعتي النساء والحج اللَّتين أكّد الإمام علي(١) وابن عباس(٢) ورعيل من الصحابة على شرعيّتهما(٣) ، بخلاف عمر والنهج الحاكم اللذين دعيا إلى تركهما.

فترك هذه الثلاث عمري، وأمّا لزوم الاعتقاد بشرعيّتها فهو علوي ونبوي، إذاً الأمر لم يكن اعتباطاً، بل جاء لوجود رابطة وعلاقة متينة بين كلّ الأُمور المنهيّ عنها بأخرى والمعمول بها عند الرعيل الأول، ولأجل هذا نرى ارتباطاً تاريخيّاً وثيقاً بين القول بإمامة عليّ والقول بشرعيّة الحيعلة الثالثة، وبين رفض الولاية

____________________

(١) صحيح البخاري ٢: ٥٦٧ / ح ١٤٨٨، مسند أحمد ١: ٥٧ / ح ٤٠٢، سنن النسائي ( المجتبى ) ٥: ١٥٢ / ح ٢٧٣٣، المستدرك على الصحيحين ١: ٦٤٤ / ح ١٧٣٥، الموطّأ ١: ٣٣٦ / ح ٧٤٢.

(٢) صحيح البخاري ٢: ٥٦٨ / ح ١٤٩٢، مسند أحمد ١: ٥٢ / ح ٣٦٩، و ١: ٢٣٦ / ح ٢١١٥ و ١: ٣٣٧ / ح ٣١٢١، صحيح مسلم ٢: ٨٨٥ / ح ١٢١٧.

(٣) كسعد بن أبي وقّاص؛ انظر سنن الترمذي ٣: ١٨٥ / ح ٨٢٣، موطأ مالك ١: ٣٤٤ / ح ٧٦٣، سنن النسائي ( المجتبى ) ٥: ١٥٢ / ح ٢٧٣٤، مسند أحمد ١: ١٧٤ / ح ١٥٠٣.

وكابنِ عمر؛ انظر سنن الترمذي ٣: ١٨٥ / ح ٨٢٤، معجم الشيوخ: ٢٧٦ - ٢٧٧، شرح سنن ابن ماجة ١: ٢١٤ / ح ٢٩٧٨.

وكأبي موسى الأشعري؛ انظر صحيح مسلم ٢: ٨٩٦ / ح ١٢٢٢، مسند أحمد ١: ٥٠ / ح ٣٥١، سنن النسائي ( المجتبى ) ٥: ١٥٣ / ح ٢٧٣٥، السنن الكبرى للبيهقي ٥: ٢٠ / ح ٨٦٥٤، الجمع بين الصحيحين ١: ٣١٣ / ح ٤٦٩، باب المتفق عليه من مسند أبي موسى الأشعري، سنن ابن ماجة ٢: ٩٩٢ / ح ٢٩٧٩.

وكعمران بن حصين؛ انظر صحيح مسلم ٢: ٨٩٨ / ح ١٢٢٦، شرح صحيح مسلم للنووي ٨: ٢٠٥ / باب جواز التمتع / ح ١٢٢٦، سنن النسائي ( المجتبى ) ٥: ١٥٥ / ح ٢٧٣٩، الجمع بين الصحيحين ١: ٣٤٩ / ح ٥٤٨ من المتفق عليه من حديث عمران بن الحصين.

١٦٣

والإمامة لعليّ والقول برفع « حي على خير العمل ».

قال ابن أبي عبيد: إنّما أسقط « حي على خير العمل » مَنْ نهى عن المتعتين، وعن بيع أمّهات الأولاد، خشيةَ أن يتّكل الناس بزعمه على الصلاة و يَدَعُوا الجهاد، قال: وقد رُوي أنّه نهى عن ذلك كلّه في مقام واحد(١) .

وثبت أيضاً أنّ رسول الله أذّن، وكان يقول: « أشهد أنِّي رسول الله »، وتارة يقول: « أشهد أنّ محمّداً رسول الله »، وأنكر العامّة أذانهعليه‌السلام (٢) .

نعم، إن النهج الحاكم طرح مفاهيم وتبنى أفكاراً تصب فيما يهدفون إليه، منها تشكيكهم في أذان الرسول؛ لعدم ارتضاء الشيخين التأذين بها في خلافتهما، فأرادوا القول بعدم أذان رسول الله، لكي يعذروا الشيخين ولكي يقولوا بأنّهم اقتدوا برسول الله في عدم أذانه !!

إِبعادُ قريش آلَ البيت عن الخلافة !!

لا شكّ نظراً لرواية الإمام الكاظمعليه‌السلام الآنفة في أنّ موضوع الخلافة والإمامة يرتبط بنحو وآخر بمسألة الحيعلة الثالثة في الأذان، وأنّ عمر أراد أن لا يكون حَثٌّ عليها كي يوقف مستلزماتها وتواليها معها، وأنّ البحث عن دواعي إبعاد عمر أهل البيت عن الخلافة له ارتباط وثيق مع تصريحات رسول الله عن آل البيت وأنّهم عترته وخلفاؤه من بعده، وهم القربى المأمور بمودّتهم في القرآن، والمؤكَّد على اتّباعهم في سنّة رسول الله، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي،

____________________

(١) البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار ٢: ١٩٢، وشرح الأزهار ١: ٢٢٣. وانظر شرح العضدي على المختصر الأصولي لابن الحاجب بحاشية السعد التفتازاني ٢: ٤١ - ٤٢.

(٢) الكلام السابق وما بعده نقلناه عن ذكرى الشيعة ٣: ٢١٥ للشهيد الأولرحمه‌الله ، والرواية موجودة في « من لا يحضره الفقيه » ١: ٢٩٧ / ذيل الحديث ٩٠٥، ووسائل الشيعة ٥: ٤١٨ / ح ٦٩٧٤ عن الفقيه، وانظر حاشية الجمل على شرح المنهاج ١: ٣٨٧.

 

١٦٤

 أذكّركم الله في أهل بيتي »(١) .

وبما أنّ الإمام عليّاً هو أعلم الناس وأقضاهم(٢) ، وهو خير البشر(٣) ، و إمام المتّقين، وقائد الغرّ المحجّلين(٤) ، وأنّ عمر كان قد عرف بأنْ ليس بين هذه النصوص وبين التصريح باسم عليّ إلاّ خطوات، سعى لإبعاده وإبعاد كلّ شيء يَمُتُّ إليه.

ومن المعلوم أنّ عمر بن الخطّاب كان لا يرضى باجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم، لذلكَ سأل ابنَ عبّاس عمّا في نفس عليّ بن أبي طالب بقوله: أيزعم أنّ رسول الله نصّ عليه؟

قال ابن عباس: نعم، وأزيدك: سألت أبي عما يدّعيه، فقال: صدّق، قال عمر: لقد كان من رسول الله في أمره ذَروٌ من قول لا يثبت حجّة، ولا يقطع عذراً، كان يَرْبَعُ في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعتُ من ذلك إشفاقاً وحيطةً على الإسلام... فعلم رسولُ الله أنّي علمت ما في نفسه فأمسك(٥) .

____________________

(١) صحيح مسلم ٤: ١٨٧٣ / ح ٢٤٠٨، سنن الدارمي ٢: ٥٢٤ / ح ٣٣١٦، مسند أحمد ٤: ٣٦٦ / ١٩٢٨٥.

(٢) الكافي ٧: ٤٠٨ / ح ٥، الخصال: ٥٥١، سمط النجوم العوالي ٢: ٤٠٧، أحكام القرآن لابن العربي ٤: ٤٣، ٤٥، تاريخ دمشق ٥١: ٣٠٠. انظر المستدرك على الصحيحين ٣: ١٤٥ / ح ٤٦٥٦، وفيه عن ابن مسعود قال: كنّا نتحدّث أن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب، صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وروي عن عمر قوله: أقضانا علي...، المعجم الأوسط ٧: ٣٥٧، طبقات ابن سعد ٢: ٣٣٩، أخبار المدينة ١: ٣٧٤.

(٣) تاريخ بغداد ٧: ٤٢١ / ت ٣٩٨٤، تاريخ دمشق ٤٢: ٣٧٢، ٣٧٣، حديث خيثمة: ٢٠١، وانظر الدرّ المنثور ٨: ٥٨٩.

(٤) المستدرك على الصحيحين ٣: ١٤٨ / ح ٤٦٦٨، المعجم الصغير ٢: ١٩٢ / ح ١٠١٢، حلية الأولياء ١: ٦٣، ورواه ابن حجر في الإصابة ٤: ٦ / ت ٤٥٣١، مبتوراً، الإصابة ٤: ٦ / ت ٤٥٣١، الخصال: ١١٦ / ح ٩٤، أمالي الصدوق: ٤٣٤ / ح ٥٧٣، مستدرك الوسائل ١٦: ١٧١ / ح ١٩٤٨٣.

(٥) شرح النهج ١٢: ٢١، عن أحمد بن أبي طاهر ( ت ٢٨٠ هـ ) في كتابه « تاريخ بغداد في أخبار

١٦٥

وقال العيني في عمدة القاري: واختلف العلماء في الكتاب الذي هَمَّ النبيّ بكتابته، فقال الخطّابي: يحتمل وجهين، أحدهما أنّه أراد أن ينصّ على الإمامة بعده فترتفع تلك الفتن العظيمة كحرب الجمل وصفين(١) .

وقد تناقل أصحاب كتب التاريخ والسير أنّ عمر بن الخطاب منع من تدوين حديث رسول الله، كي لا يختلط التنزيل مع أسباب النزول، ونحن فصّلنا البحث عن هذا الأمر في كتابنا"منع تدوين الحديث" فليراجع.

قال المعلمي (من علماء العامّة) تعليقاً على مرسلة ابن أبي مُليكة في منع أبي بكر لحديث رسول الله: إنْ كان لمرسل ابن أبي مُليكة أصل فكونه عقب الوفاة يشعر بأنّه يتعلّق بأمر الخلافة.

كأنّ الناس عقب البيعة بقوا يختلفون يقول أحدهم: أبو بكر أهلها، لأنّ النبي قال: كيت وكيت، فيقول آخر: وفلان ] أي علي [ قد قال له النبي: كيت وكيت. فأحبّ أبو بكر صرفهم عن الخوض في ذلك وتوجيههم إلى القرآن(٢) .

فقريش كانت لا ترتضي أن تكون الخلافة في عليّ وولده، بل كانت تريد مشاركة الرسول في الوصاية والخلافة، وقد اشترطت على رسول الله بالفعل أن يشركها في أمر الخلافة، وأ نّهم لا يبايعوه إلاّ أن يجعل لهم في الأمر نصيباً، فنزل فيهم قوله تعالى:( يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ) (٣) ، مؤكداً سبحانه وتعالى لهم بأن ليس بيدهصلى‌الله‌عليه‌وآله شيء، فإنّ الله هو الذي ينصب الخليفة.

____________________

الخلفاء والأمراء وأيّامهم ».

(١) عمدة القارئ ٢: ١٧١.

(٢) الأنوار الكاشفة للمعلمي: ٥٤.

(٣) سورة آل عمران، الآية: ١٥٤

١٦٦

لكنّهم كانوا يتصوّرون أنّ بمقدورهم التلاعب بالذكر الحكيم وتغيير الآي الكريم.

وممّا قيل بهذا الصدد: أنّ ضيفين نزلا قرية أنطاكية، فأبى أهلها أن يضيّفوهما، فنزل فيهم الوحي، وصار هذا عاراً وشناراً عليهم، فأرادوا أن يغيّر الرسول ما نزل فيهما بإبدال حرف الباء في ( أبوا ) و يجعلها تاءاً ( أتوا ) في قوله تعالى:( حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا ) (١) فجاءوه بأحمال الذهب والفضة والحرير كرشوة لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في مقابل ما يريدونه، لكنّه أبى مستنكِراً فعلهم(٢) .

إنّ قبائل العرب وخصوصاً قريشاً كانوا لا يعلمون بأنّ دين الله خالصٌ نقيٌّ، ورسوله مُطهّرٌ زكيٌّ مصطفى، بعيدٌ عن الأهواء والمغريات، ولأجل هذا نزل الوحي موضحاً لهم، بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (٣) ، وأَنَّهُ ( مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (٤) .

فنحن لو جمعنا ما مرّ عن ابن عباس آنفاً، وما قاله عمر بأنّه عرف مقصود رسول الله، وأنّه أراد أن يصرّح باسم الإمام عليّ وأن ينصّ عليه بالإمامة، فمنعه إشفاقاً على الإسلام، كلّ ذلك لو جمعناه مع قوله « إن الرجل ليهجر »(٥) أو « إنّ

____________________

(١) سورة الكهف، الآية: ٧٧.

(٢) انظر التفسير الكبير ٢١: ١٣٤ وفيه: قيل إن اسم تلك القرية الأيلة.

(٣) سورة الحاقة، الآية: ٤٤ - ٤٧.

(٤) سورة يونس، الآية: ١٥.

(٥) تذكرة الفقهاء ٢: ٤٦٩، المسترشد: ٥٥٣ / ح ٢٣٤، شرح أصول الكافي ١٢: ٤١٢ في شرح الحديث ٤٥٤، وفيه « إنّ الرجل ليهذر »، المنتقى في منهاج الاعتدال: ٣٤٧. وانظر

١٦٧

النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا »(١) ، لعلمنا أنّ تلك النصوص قيلت تعريضاً بالنبيّ وآله، لأنّه وحسب كلامه كان قد عرف تأكيدات النبي على أهل البيت في حجّة الوداع « أُذكّركم بأهل بيتي، أُذكّركم بأهل بيتي، أُذكركم بأهل بيتي »(٢) ، وفي حديث الثقلين « كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً »، وفي عشرات بل مئات الأحاديث الأخرى.

فإنّ تأكيد النبيّ على العترة، وأنّ تركهم يعني الضلال عن الجادّة، يفهمنا بارتباط أمر آل البيت بالشريعة، لا بالمحبّة فقط كما يصوّره البعض.

فنحن لو جمعنا كلّ هذه المفردات، وطابقناها مع مواقف النهج الحاكم بعد رسول الله من أهل بيت الرسالة، وموت الزهراء وهي واجدة على أبي بكر وعمر(٣) ، لعرفنا مدى المفارقة بين ترك بِرِّ فاطمة وترك الدعوة للولاية ب « حيّ على خير العمل » في الأذان، ولماذا جاء تفسير « حيّ على خير العمل » في كلام الإمامين الباقر والصادق ب « بر فاطمة وولدها » وغيرها من النصوص الأخرى.

إنّ وقوف الرسول كل يوم على باب فاطمة ولمدّة ستة أشهر بعد نزول آية التطهير، وقوله لأهل بيت الرسالة: « الصلاة، الصلاة، إنّما يريد الله ليذهب عنكم

____________________

الجمع بين الصحيحين للحميدي ٢: ٩ - ١٠ / ح ٩٨٠، وفيه: قالوا: ما شأنه هجر استفهموه، من المتفق عليه من حديث ابن عباس.

(١) صحيح البخاري ١: ٥٤ / ح ١١٤، و ٤: ١٦١٢ / ح ٤١٦٩، و ٦: ٢٦٨٠ / ح ٦٩٣٢، مسند أحمد ١: ٣٢٤ / ح ٢٩٩٢، الطبقات الكبرى ٢: ٢٤٤. وانظر البداية والنهاية ٥: ٢٢٧ وفيه فقال بعضهم: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله غلبه الوجع....

(٢) صحيح مسلم ٤: ١٨٧٣ / ح ٢٤٠٨، مسند أحمد ٤: ٣٦٦ / ح ١٩٢٨٥، سنن الدارمي ٢: ٥٢٤ / ح ٣٣١٦.

(٣) سنن الترمذي ٤: ١٥٧ / ح ١٦٠٩، صحيح البخاري ٤: ١٥٤٩ / ح ٣٩٩٨، وانظر ٦: ٢٤٧٤ / ح ٦٣٤٦، صحيح مسلم ٣: ١٣٨٠ / ح ١٧٥٩.

١٦٨

الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيراً »(١) يؤكّد على وجود ترابط بين التوحيد والنبوّة والإمامة في الأذان وكذا في الصلاة، بل في كلّ شيء، وقد كان الرسول الأكرم هو حلقة الوصل والرابط بين ركيزتي التوحيد (الصلاة) والعترة( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (٢) .

وكان القوم قد عرفوا هذا الارتباط من خلال الآيات الكثيرة النازلة في حقّ أهل البيت، وتأكيدات الرسول المتوالية عليهم، فأرادوا إبعادهم عما خصهم به الله ورسوله حسداً وازوراراً، وهم يعلمون بهذه الحقيقة، وأنّ موضوع آل البيت ولزوم اتّباع عترته كان من موارد الابتلاء والفتنة التي أخبر بها رسول الله أُمّته، وقد نقلنا سابقاً ما جاء عن أبي سفيان(٣) ومعاوية(٤) في الأذان وأنّهما كانا لا يحبّان أن يذكر اسم النبي محمّد في الأذان، بل إنّ معاوية(٥) ، وعثمان(٦) حذفا اسمهصلى‌الله‌عليه‌وآله من آخر الأذان. وجاء في مجمع الزوائد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان علي ابن أبي طالب إذا سمع المؤذّن يؤذّن، قال كما يقول، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله،

____________________

(١) الفضائل لأحمد بن حنبل ٢: ٧٦١ / ح ١٣٤٠، ذخائر العقبى ١: ٢٤، سير أعلام النبلاء ٢: ١٣٤، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٧٢ / ح ٤٧٤٨، سنن الترمذي ٥: ٣٥٢ / ح ٣٢٠٦، قال السيوطي: وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة المصنف ٦: ٣٨٨ / ح ٣٢٢٧٢، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، المعجم الكبير ٣: ٥٦ / ح ٢٦٧٢ وابن مردويه، الدرّ المنثور ٦: ٦٠٥.

(٢) سورة الأحزاب، الآية: ٣٣.

(٣) انظر الباب الأوّل من هذه الدراسة المطبوعة تحت عنوان ( حي على خير العمل الشرعية والشعارية: ١٠٥ ).

(٤) انظر الباب الأوّل من هذه الدراسة المطبوعة تحت عنوان: ( حي على خير العمل الشرعية والشعارية: ١٠٧ ).

(٥) بحار الأنوار ٨١: ١٧٠ عن العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم بن هاشم. وانظر ( حي على خير العمل ) لنا صفحة ١٢٥.

(٦) من لا يحضره الفقيه ١: ٢٩٩ / ح ٩١٣.

١٦٩

وأشهد أن محمداً رسول الله. قال علي: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمداً رسول الله، وأنّ الذين جحدوا محمّداً هم الكافرون(١) .

وفي هذا الكلام من الإمام علي معنى لطيف وتنويه ظريف إلى الجاحدين بنبوّة محمد من القرشيّين وغيرهم من الكافرين.

لكن لا يتسنى لأولئك الذين أسلموا والسيفُ على رقابهم في فتح مكة أن يجحدوا النبوة بصراحة أو أن يجحدوا ارتباط القربى بالرسول والرسالة، لذلك عمدوا إلى أن لا يذكر النبيّ في الأذان، ومع كلّ هذا الصلف والحقد كيف يرضون بذكر وصيه وخليفته من بعده علي بن أبي طالب فيما لو تصوّرنا ثبوت التشريع بذكره في الأذان؟! وقس على ذلك بترهم الآل من الصلاة على محمد وآل محمد، وغير ذلك.

وجاء في(الفقيه) عن الصادق أنّه قال: من سمع المؤذّن يقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال مصدقاً محتسباً: «وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمّداً رسول الله، أكتفى بهما عن كل من أبى وجحد، وأعين بهما من أقرَّ وشهد» كان له من الأجر عدد من أنكر وجحد، وعدد من أقرَّ وشهد(٢) .

نعم، إنّ مسألة اصطفاء النبي محمد من بين ولد آدم، واصطفاء أهل بيت الرسول من بين قريش، دعت الناس أن يحسدوهم ( عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) ، فسعوا ليطفئوا نور الله بأفواهم، محرّفين ومزوّرين كلامه جلّ جلاله.

فهم أوّلاً أرادوا أن يكون التحريف على لسان رسوله الأمين كما مرّ عليك في قضيّة أهل أنطاكية ولمّا علموا عدم إمكان ذلك سعوا إلى التحريف المعنويّ وسلكوا شتى من الطرق الملتوية التي كانوا يرونها مناسبة، لكن الحقيقة بقت

____________________

(١) مسند أحمد ١: ١١٩ / ح ٩٦٥، مجمع الزوائد ١: ٣٣٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١: ٢٨٨ / ح ٨٩١، مكارم الأخلاق: ٢٩٨.

١٧٠

واضحة لا غبار عليها رغم كلّ محاولات التضليل والإيهام من القرشيّين، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإنّ عبد الله بن الزبير مكث أيّام خلافته أربعين جمعة لا يصلّي على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاة الجمعة، فقيل له في ذلك، فقال: لا يمنعني من ذكره إلاّ أن تشمخ رجال بآنافها؛ إنّ له أُهيل بيت سوء ينغضون رءوسهم عند ذكره(١) !

الإسراء والمعراج، الهاشميون والقرشيُّون

فلنأخذ مثالاً على ذلك، وهو موضوع الإسراء والمعراج؛ لأنّه يرتبط بموضوع الأذان، والمطالع فيما قلناه سابقاً يقف على الأقوال التي قيلت في مكان الإسراء، فهو: إمّا من شعب أبي طالب(٢) ، أو من بيت خديجة(٣) ، أو من بيت أُمّ هاني بنت أبي طالب(٤) أُخت الإمام عليّ هذه هي الأقوال المشهورة، وكلّها ترتبط بنحو ما بآل أبي طالب.

لكنّهم حرَّفوا الأمر وجعلوه من بيت عائشة، في حين يعلم المحقّق الخبير وبتأمّل بسيط بأنّ هذا تحريف للحقائق؛ لأنّ المعروف عن عائشة أنّها كانت صغيرة لم تشاهد ولا حدَّثت عن النبي، وكذا معاوية فإنّه كان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال ولم يحدِّث عن النبي، هذان الشخصان هما مَن روى بأنّ إسراء رسول الله كان في المنام، لا في اليقظة، في حين أنّ الباري جلّ شأنه يقول في محكم كتابه:( سُبْحَانَ الَّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ) والعرب لا تقول للنائم: (أَسْرَى) وخصوصاً لو جاء مع قوله: (بعبده) والذي هو عبارة عن مجموع الروح

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٦١، شرح النهج لابن أبي الحديد ٤: ٦٢ والنصّ من الأخير.

(٢) فتح الباري ٧: ٢٠٤، الدر المنثور ٥: ٢٢٧.

(٣) التفسير الكبير للرازي ٤: ١٦، المجموع للنووي ٩: ٢٣٥، شرح الأزهار ١: ١٩٩.

(٤) تفسير الطبري ١٥: ٢، الدر المنثور ٥: ٢٠٩، فتح الباري ٧: ٢٠٤.

١٧١

والجسد(١) .

نعم، قد يمكن أن يقال للذي يرى الأُمور في المنام أنّها (رؤيا) لا إسراء، وهذا ما كانت بنو أُميّة تريد التأكيد عليه في موضوع الإسراء، والأذان المشرّع فيه، إذ القول بأنّ الإسراء كان مناماً ينسف إعجازه، ومن ثمّ يتسنى لهم الطعن والتلاعب بالأذان المشرّع فيه، لذلك كان أئمّة مدرسة أهل البيت يصرّون على أنّ الإسراء كان جسمانياً، وأنّه معجز ربّانيّ فوق الفهم الإنساني، وليس كما تقوله بنو أُميّة.

وقد اعترف بعض العامة بذلك؛ فقال ابن كثير:... فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء ولم يكن مستعظَماً، ولَمَا بادرت قريش إلى تكذيبه، ولما ارتدّت جماعة ممّن كان قد أسلم(٢) .

وأجاب ابن عطية عن دعوى عائشة ومعاوية، بقوله:.. واعتُرِضَ قولُ عائشة بأنّها كانت صغيرة لم تشاهد، ولا حدّثت عن النبي. وأمّا معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت، غير مشاهد للحال، صغيراً، ولم يحدّث عن النبي(٣) .

بلى، إنّهم بتشكيكهم هذا أرادوا أن يقولوا بأنّ الأذانَ لم يُشرّع في السماء بل شُرّع في المنام(٤) ، وأنَّ بعض الصحابة قد شُرّف بهذا المنام الوحياني الذي لم يَحْظَ به رسول الله، إذ سمع النداءَ السماويَّ: عبد الله بن زيد، أو عمرُ، أو معاذُ، ولم يسمعه رسول الله، فأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله بلالاً أن يأخذ الأذان من عبد الله بن زيد !!

وجاءت روايات أُخرى تقول: إنّ رسول الله استشار بعض الصحابة في هذا

____________________

(١) انظر تفسير القرطبي ١٠: ٢٠٩، والتفسير الكبير ٢٠: ١٢١، وأضواء البيان ٣: ٣.

(٢) تفسير ابن كثير ٣: ٢٤، سورة الإسراء: ١.

(٣) المحرر الوجيز ٣: ٤٣٥، تفسير القرطبي ١٠: ٢٠٩.

(٤) سنن أبي داود ١: ١٣٤ باب بدء الأذان / ح ٤٩٨، الجامع الصحيح للترمذي ١: ٣٥٨ باب ما جاء في الأذان / ح ١٨٩، الموطّأ ١: ٦٧ / ح ١٤٧، مصنف عبد الرزاق ١: ٤٥٥ / ح ١٧٧٤، كنز العمال ٧: ٢٨٣ / ح ٢٠٩٥٢.

 

١٧٢

الحكم الإلهيّ، فأشاروا عليه بأشياء استقبح الرسول بعضها، ورضي بالآخر منها.

وفي آخر: إنّ عمر أضاف الشهادة بالنبوّة في الأذان(١) ، إلى غيرها من التمحّلات الكثيرة التي أُسْقِطَتْ على الأذان وحرّفته عن وجهته الحقيقية.

في حين قد وقفت سابقاً على كلام الإمامين الحسن والحسين وكلام محمد بن الحنفية وغيرهم في بدء الأذان وعدم قبولهم لما طُرح من قبل الأمويين في هذا الأمر، مؤكِّدين بأنّ الله سبحانه رفع ذكر الرسول في الصلاة والتشهد والأذان(٢) ، فلا حاجة بعد ذلك لمدح المادحين ولا خوف من جهود الضالّين المعاندين.

وممّا يجب التنبيه عليه كذلك هو أنّ قريشاً كانت تقول لمن مات الذكور من أولاده: أبتر، فلمّا مات أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : القاسم وعبد الله بمكة، و إبراهيم بالمدينة قالوا: بُتِرَ، فليس له من يقوم مقامه(٣) .

فنزلت سورة الكوثر ردّاً على من عابه بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه جل شأنه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان.

قال الفخر الرازي: فانظُرْ كم قُتِلَ من أهل البيت ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أُميّة في الدنيا أحد يُعبأ به. ثم انظُر كم فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر، والصادق، والكاظم، والرضا، والنفس الزكية وأمثالهم(٤) .

____________________

(١) روى ابن خزيمة عن ابن عمر أنّ بلالاً كان يقول أول ما أذن: أشهد أن لا إله إلاّ الله، حي على الصلاة، فقال له عمر: قل في أثرها أشهد أنّ محمّداً رسول الله، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : قل ما أمرك عمر. صحيح ابن خزيمة ١: ١٨٨ / ح ٣٦٢، كنز العمال ٨: ١٥٧ / ح ٢٣١٥٠٤.

(٢) انظر تفسير قوله تعالى: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) ، في تفسير الطبري ٣٠: ٢٣٥، والتفسير الكبير ٣٢: ٦، والكشاف ٤: ٧٧٥، وكذلك في مسند الشافعي: ٢٣٣ / كتاب الرسالة إلاّ ما كان معاداً، ومصنّف بن أبي شيبة ٦: ٣١١ / ح ٣١٦٨٩، وسنن البيهقي الكبرى ٣: ٢٠٩ / باب ما يستدل به على وجوب ذكر النبي / ح ٥٥٦٢.

(٣) التفسير الكبير ٣٢: ١٢٤، تفسير القرطبي ٢٠: ٢٢٣. وانظر طبقات ابن سعد ٣: ٧.

(٤) التفسير الكبير ٣٢: ١١٧.

١٧٣

تحريفات مقصودة

إنّ أُطروحة كون حقيقة الأذان مناميّة وليست سماويّة هي أطروحة أموية طُرحت بعد صلح الإمام الحسن مع معاوية للاستنقاص من الرسول ومن آله الكرام، لأنّ أوّل نصّ وصلنا في ذلك هو لسفيان بن الليل، إذ قال:

لمّا كان من أمر الحسن بن علي ومعاوية ما كان، قدمتُ عليه المدينة وهو جالس في أصحابه... فتذاكرنا عنده الأذان، فقال بعضنا: إنّما كان بدء الأذان برؤيا عبد الله بن زيد، فقال له الحسن بن علي: إنّ شأن الأذان أعظمُ من ذلك، أذَّن جبرائيل في السماء مثنى مثنى وعلَّمَهُ رسول الله... الخبر(١) .

وجاء عن الإمام الحسين أنّه سئل عن هذا الأمر كذلك، فقال: الوحيُ يتنزّل على نبيّكم وتزعمون أنّه أخذ الأذان عن عبد الله بن زيد؟! والأذان وَجْهُ دينكم(٢) .

وجاء عن أبي العلاء قال: قلت لمحمّد بن الحنفية: إنّا لنتحدث أنّ بدء هذا الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه.

قال: ففزع لذلك محمد بن الحنفية فزعاً شديداً، وقال: عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم، فزعمتم أنّه إنّما كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه، تحتمل الصدق والكذب، وقد تكون أضغاث أحلام؟

قال: فقلت ] له [: هذا الحديث قد استفاض في الناس !

قال: هذا والله هو الباطل، ثم قال: و إنما أخبرني أبي: أنّ جبريل... الخبر(٣) .

____________________

(١) نصب الراية ١: ٢٦١، المستدرك للحاكم ٣: ١٨٧ / ح ٤٧٩٨، كتاب معرفة الصحابة.

(٢) دعائم الإسلام ١: ١٤٢، ورواه الأشعث الكوفي في الجعفريات (المطبوع ضمن كتاب قرب الإسناد للحميري ): ٤٢، وليس فيه ( والأذان وجه دينكم )، وعنه في مستدرك الوسائل ٤: ١٧ / ح ٤٠٦١.

(٣) أحكام القرآن للجصاص ٤: ١٠٣، السيرة الحلبية ٢: ٣٠٠ - ٣٠١، أمالي أحمد بن عيسى بن زيد ١: ٩٠، الاعتصام بحبل الله ١: ٢٧٧، النص والاجتهاد: ٢٣٧.

١٧٤

إذاً الأمر يتعلّق بالأمويين وأنّهم يريدون أن يشكّكوا في قوله تعالى:( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ ) (١) وفي منام الرسول الأكرم الّذي شاهد فيه بني أمية ينزون على منبره الشريف نزو القردة(٢) ، وربط هذا المنام بخبر الإسراء والمعراج، والذي جاء في صدر هذه السورة المباركة.

فأبو سفيان ومعاوية ويزيد كانوا يريدون طمس ذكر محمّد، فكيف بذكر عليّ وآل محمّد، والذي مرَّ عليك كلامهم(٣) .

وحكى الأبشيهي في"المستطرف في كلّ فنّ مستظرف" عن الإمام ] علي بن [ الحسين أنّه دخل يوماً على يزيد بن معاوية، فجعل يزيد يفتخر ويقول: نحن ونحن، ولنا من الفخر والشرف كذا وكذا، و] علي بن [ الحسين ساكت، فأذّن المؤذّن، فلمّا قال: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، قال ] علي بن [ الحسين: يا يزيد جَدُّ من هذا؟ فخجل يزيد ولم يردَّ جواباً(٤) .

وروى صاحب الأغاني بسنده إلى يحيى بن سليمان بن الحسين العلوي، قال: كانت سكينة في مأتم فيه بنتٌ لعثمان، فقالت بنتُ عثمان: أنا بنت الشهيد،

____________________

(١) سورة الإسراء: ٦٠.

(٢) مسند أبي يعلى ١١: ٣٤٨ / ح ٦٤٦١، المطالب العالية ١٨: ٢٧٩، مجمع الزوائد ٥: ٢٤٤، تاريخ الخلفاء ١: ١٣... وغيره.

(٣) انظر كلام أبي سفيان في قصص الأنبياء للراوندي: ٢٩٣ بالإسناد عن الصدوق، جاء فيه، قال ابن عباس: لقد كنا في محفل فيه أبو سفيان وقد كف بصره، وفينا عليعليه‌السلام فأذن المؤذن، فلما قال أشهد أن محمداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال أبو سفيان: ههنا من يحتشم؟ قال واحد من القوم: لا، فقال: لله در أخي بني هاشم أنظروا أين وضع اسمه، فقال عليعليه‌السلام :أسخن الله عينك ياأبا سفيان، الله فعل ذلك بقوله عز من قائل: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) ، فقال أبو سفيان: أسخن الله عين من قال لي: ليس ههنا من يحتشم. وعنه في بحار الأنوار ٣١: ٥٢٣، وكلام معاوية في الموفّقيات للزبير بين بكار: ٥٧٦ وعنه في كشف الغمة ٢: ٤٦، وشرح النهج ٥: ١٣٠، ومروج الذهب ٣: ٤٥٤.

(٤) المستطرف في كل من مستظرف ١: ٢٨٩ / باب في الفخر والمفاخرة.

١٧٥

فسكتت سكينة، فلمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، قالت سكينة: هذا أبي أو أبوكِ؟

فقالت العثمانية: لا جَرَمَ، لا أفخر عليكم أبداً(١) .

وهذا معناه أنّ القرشيين كانوا يتحينون الفرص للحطّ من شأن قربى الرسول وأهل بيته علاوة على أمير المؤمنين علي الذي هو على رأس هذا البيت المقدس، وهذا يوقفنا على أنّ الشهادة بالولاية لعلي مع افتراض تشريعها أو محبوبية ذكرها أو جواز ذكرها من باب التفسير سيعارض الاتّجاه القرشي أقوى معارضة، ولهذا وأدلّة أخرى احتملنا أنّ الشهادة بالولاية لعلي في الأذان لم ينشرها النبيّ بنحو الجزئية خوفاً على الأمّة من التقهقر؛ إذ بالنظر لمجموع الأدلة في الشهادة الثالثة علاوةً على اعتراف الشيخ الطوسي بوجود أخبار شاذّة فيها، وأنّ الشاذّ كما عرفه المجلسي هو الصحيح غير المعمول به، وذهاب طائفة عظيمة من فقهاء الأصحاب إلى محبوبيّتها يمكن احتمال أنْ يكون ملاك التشريع موجوداً فيها لكنّ المانعَ أيضاً موجود آنذاك.

ومما يدل على أن القوم كانوا بصدد إخماد ذكر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله هو ما جاء فيشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: أن فاطمة الزهراء لامت الإمام عليّاً على قعوده، وأطالت عتابَهُ، وهو ساكت حتى أذّن المؤذّن، فلمّا بلغ إلى قوله: « أشهد أنّ محمّداً رسول الله » قال لها: أتحبّين أن تزول هذه الدعوة من الدنيا؟ قالت: لا. قال: فهو ما أقول لك(٢) .

وفي نص آخر: قد روي عن عليّ أنّ فاطمة حرّضته يوماً على النهوض

____________________

(١) الأغاني ١٦: ١٥٠.

(٢) شرح النهج ٢٠: ٣٢٦.

١٧٦

 

 والوثوب، فسمع صوت المؤذّن « أشهد أن محمداً رسول الله » فقال لها: أيسرك زوال هذا النداء من الأرض؟ قالت: لا. قال: فإنّه ما أقول لك(١) .

فقريش كانت لا تريد الجهر باسم الرسول الأكرم، فكيف ترضى الجهر باسم وصيّه وخليفته من بعده؟! وحسبك أنّ أبا محذورة المؤذن خفض صوته بالشهادة الثانية استحياءً من أهل مكة، لأنّهم لم يعهدوا ذكر اسم رسول الله بينهم جهراً، ففرك رسول الله أذُنه وقال: ارفع صوتك(٢) . فماذا يمكن أن نتوقّع لو ذكر اسم علي في الأذان على سبيل الجزئية كل يوم؟!

بلى إن بلالاً كان لا يستحي من قريش ولا يداهن فكان يجهر و يصيح بأعلى صوته: « أشهد أنّ محمداً رسول الله » من على بيت أبي طلحة(٣) .

ونقل الواقدي قصة فتح مكة، وفيها: إنّ رسول الله أمر بلالاً أن يؤذّن فوق ظهر الكعبة... فلمّا أذّن وبلغ إلى قوله « أشهد أن محمّداً رسول الله » رفع صوته كأشدّ ما يكون، فقالت جويرية بنت أبي جهل: قد لعمري « رفع لك ذكرك »... وقال خالد بن سعيد بن العاص: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يدرك هذا اليوم.

وقال الحارث بن هشام: واثكلاه، ليتني مت قبل هذا اليوم، قبل أن اسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة !(٤) .

وغيرها من النصوص الكثيرة الدالة على وجود مجموعتين إحداهما تحرص

____________________

(١) شرح النهج ١١: ١١٣.

(٢) انظر المبسوط للسرخسي ١: ١٢٨ - ١٢٩.

(٣) أخبار مكة للأزرقي ١: ٢٧٥، شرح النهج ١٧: ٢٨٤، إمتاع الإسماع ١: ٣٩٦، سبل الهدى والرشاد ٥: ٢٤٩.

(٤) شرح النهج ١٧: ٢٨٤، امتناع الإسماع ١: ٣٩٦، و ١٣: ٣٨٥، السيرة الحلبية ٣: ٥٤.

١٧٧

 على إعلاء ذكر محمد، والأُخرى تسعى لإخماده، وهذا هو الذي كان يدعو آل البيت لأن يشيدوا بهذه المفخره أمامَ من ينكرونها.

ولأجل هذا وغيره نرى النصوص الحديثية تؤكّد على لزوم رفع الصوت بالصلاة على محمّد وآل محمد؛ وأنّه يبعد النفس عن النفاق(١) .

ومن خلال كلما مضى تعرف أنّ سمات الولاية يجب أن تظهر ملامحها بصورتها الكنائية في الأذان وهو المعنى في كلام الفقهاء بالشعارية وأن تأكيدهم على القول بالشهادة الثالثة جاء من هذا الباب.

أذان النبي يتضمّن ولاية علي

لقد أكّد الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام على أنّ « حي على خير العمل » كانت في الأذان الأوّل(٢) ، و يعني بكلامه أنّه قد شُرّع في الإسراء والمعراج، وأنّ جبرئيل قد أذّن بها هناك، وهذه الحقيقة قد وضّحها الإمام الباقر كذلك بقوله:

إنّ رسول الله لما أُسري به إلى السماء نزل إليه جبرئيل ومعه محملة من محامل الرب عزّ وجلّ، فحمل عليها رسول الله إلى السماء، فأذّن جبرئيل فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن... إلى أن قال حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل...(٣) .

وروي عن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، عن جده، أنّه قال: أوّل من أذّن

____________________

(١) الكافي ٢: ٣٩٤ / ح ١٣، وعنه في وسائل الشيعة ٧: ١٩٣ / ح ٩٠٨٨، ثواب الأعمال: ٥٩، وعنه في بحار الأنوار ٩١: ٥٩ / ح ٤١.

(٢) مصنف بن أبي شيبة ١: ١٩٥ / ح ٢٢٣٩، سنن البيهقي الكبرى ١: ٤٢٥ / ح ١٨٤٤، المسترشد: ٥١٧، نيل الأوطار ٢: ١٩ / باب صفة الأذان.

(٣) الأذان بحي على خير العمل للحافظ العلوي: ٨٣، الاعتصام بحبل الله ١: ٢٨٦، وكذا في الكافي ٨: ١٢١/ ح ٩٣، وتهذيب الأحكام ٢: ٦٠ ح ٢١٠، والاستبصار ١: ٣٠٥ / ح ١١٣٤، ووسائل الشيعة ٥: ٤١٤ / ح ٦٩٦٤.

١٧٨

 في السماء جبرئيل حين أُسري بالنبي، فقال: الله أكبر... إلى أن قال فقال: حي على خير العمل، حي على خير العمل، فقالت الملائكة: أُمِرَ القوم بخير العمل(١) .

وقد ثبت قبل كلّ هذا عن الإمام علي أنّه كان يقول حينما يسمع المؤذن ابن النباح(٢) يقول في أذانه: « حيّ على خير العمل، حي على خير العمل »: « مرحباً بالقائلين عدلاً، وبالصلاة مرحباً وأهلاً »(٣) .

وجاء عن محمد بن الحنفية أنّه ذكر عنده خبر بدء الأذان، فقال: لمّا أُسري بالنّبي إلى السماء وتناهز إلى السماء السادسة... ثم قال: حي على خير العمل، فقال الله جَلَّ جلاله: هي أفضل الأعمال وأزكاها عندي...(٤) .

وهذه النصوص عن الأئمة: السجاد، والباقر، والصادق وقبلهم عن أمير المؤمنين عليعليهم‌السلام وعن محمّد بن الحنفية كلّها تؤكّد تشريع الحيعلة الثالثة في الأذان الأوّل وعند الإسراء والمعراج.

ولا شكَّ أنّ الإمام علياً بكلامه السابق كان يشير إلى الجاحدين لرسالة الرسول والمنكرين لوصايته، خصوصاً بملاحظة سياق الرواية، حيث إنّه كان يقول عند سماعه الشهادتين: « وأشهد أنّ محمّداً رسول الله وأنّ الّذين جحدوا محمّداً هم الكافرون »، وعند سماعه الحيعلة الثالثة: « مرحباً بالقائلين عدلاً »، كلّ ذلك تعريضاً بمن جحدوها ورفعوها بغضاً وعناداً.

____________________

(١) الأذان بحي على خير العمل: ٢٠. وانظر الباب الأول من هذه الدراسة ( حيّ على خير العمل الشرعية والشعارية ) صفحة ٥٣.

(٢) أو ابن التيّاح.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١: ٢٨٨ / ح ٨٩٠، وسائل الشيعة ٥: ٤١٨ / ح ٦٩٧٣، وقعة صفين: ٣٣٠، الفتوح لابن أعثم ٣: ٨٥، شرح النهج ٨: ١٤.

(١) معاني الأخبار: ٤٢ / ح ٤، وعنه في بحار الأنوار ١٨: ٣٤٤ / ح ٥٣، ومستدرك الوسائل ٤: ٧٠ / ٤١٨٨.

١٧٩

فعلي بن أبي طالب هو "خير العمل" كما نصّت عليه حسنة ابن أبي عمير عن الكاظمعليه‌السلام الآنفة، وهي مؤيدَّة بعشرات الأدلّة التي منها أنّ ضربةً واحدةً منه يوم الخندق عدلت عبادة الثقلين(١) ، فكيف بمن كان كلّ وجوده عدلاً وعملاً صالحاً، وهو خيّر البرية وخير البشر بعد الرسول بلا منازع.

وعن حذيفة، عن رسول الله أنّه قال: لو علم الناس متى سُمّي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، تسمّى أميرَ المؤمنين وآدمُ بين الروح والجسد؛ قال الله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) ؟ قالت الملائكة: بَلَى، فقال: أنا ربكم، محمّد نبيّكم، عليّ أميركم(٢) .

إن أئمة النهج الحاكم قد عرفوا مغزى « خير العمل »، وأنَّ الله قد أنزل أكثر من ثلاثمئة آية في علي وأهل بيته، منها آية التطهير، والمباهلة، وسورة الدهر، وقوله( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ أمَنُواْ ) (٣) ، و( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولِ وَأُوْلي الأمْرِ مِنكُمْ ) (٤) و( فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٥) ، و( فَسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (٦) و( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْم

____________________

(١) عوالي اللآلي ٤: ٨٦ / ح ١٠٢، الفردوس بمأثور الخطاب ٣: ٤٥٥ / ح ٥٤٠٦، والمستدرك على الصحيحين ٣: ٣٤ / ٤٣٢٧، وفيهما: لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة، المواقف ٣: ٦٢٨، ٦٣٧، شرح المقاصد في علم الكلام ٢: ٣٠١.

(٢) الفردوس بمأثور الخطاب ٣: ٣٥٤ / ح ٥٠٦٦، اليقين لابن طاووس: ٢٣١، ٢٨٤، من طريق آخر. أمثال هذه الروايات سنتعرض لها في آخر الكتاب « الشعارية ».

(٣) المائدة: ٥٥.

(٤) النساء: ٥٩.

(٥) الأنفال: ٤١.

(٦) النحل: ٤٣، الأنبياء: ٧.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

وكلُ نعيم لا محالة زائلُ

قال عثمان : كذبت ، نعيمُ الجنة لا يزول فاستثقل « لبيد » تكذيب عثمان وتحدّيه له في ذلك الجمع فقال : يا معشر قريش واللّه ما كان يؤذى جليسُكم ، فمتى حدث هذا فيكم؟؟

فقال رجلٌ مِن القوم : إنَّ هذا سفيه في سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا فلا تجدنَ في نفسكَ من قوله.

فردّ عليه « عثمان » حتّى تفاقم الأمر بينهما فقام إليه ذلك الرجلُ فلطم عينه فخضّرها ( واصابها ) ، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال : أما واللّه يا ابن أخي إن كانت عينُك عَمّا أصابها لغنيّة لقد كنت في ذمة منيعة ( وهو يريد أنك لو بقيت في ذمتي وجواري لما اصابك ما أصابك ).

فقال عثمان رادّاً عليه : بل واللّه إن عيني الصحيحة لفقيرةٌ إلى مِثل ما أصابَ اُختَها في اللّه ، واني لفي جوار من هو أعزُّ منكَ ، واقدرُ يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد : هلمّ يا ابنَ أخي إن شئت فعُد إلى جوارك ، فقال ابنُ مظعون : لا(١) .

وكانت هذه صورةٌ رائعةٌ من صور كثيرة لصمود المسلمين ، وتفانيهمْ في سبيل العقيدة ، وإصرارهم على النهج الّذي اختاروه ، ومواساة بعضهم لبعض في أشدّ فترة من فترات التاريخ الإسلامي.

وفدٌ مسيحيُّ لتقصّي الحقائق يدخل مكة :

قدمَ على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمكة عشرون رجلا من النصارى حين بلغهم خبرُه من الحبشة ، مبعوثين من قِبَل أساقفتها لتقصّي الحقائق بمكة ، والتعرف على الإسلام. فوجدوا رسول اللّه في المسجد ، فجلسوا إليه ، وكلّموه وسألوه عن مسائل ، ورجالٌ من قريش فيهم « أبو جهل » في أنديتهم حول الكعبة.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٧٠ و ٣٧١.

٤٦١

فلما فرغوا من مسألة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عما أرادوا دعاهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اللّه عز وجلّ وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم ، فكان لها من التأثير البالغ في نفوسهم بحيث عندما سمعوها فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وامنوا به وصدّقوه ، بعد ما عرفوا منه ما كان يوصَف في كتابهم ( الانجيل ) من أمره.

فلما قامُوا عنه ، ورأت قريش ما نتج عنه ذلك اللقاء استثقله « ابو جهل » فقال للنصارى الذين اسلموا معترضاً وموبّخاً : خيَّبكُمُ اللّه مِن ركب بعَثكُم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسُكم عنده حتّى فارقتُم دينكُم وصدَّقتموهُ بما قال ، ما نعلمُ ركباً أحمقَ مِنكُم.

فأجابه اولئك بقولهم : سلامٌ عليكم لا نُجاهِلكم ، لنا ما نحنُ عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيراً(١) .

وبذلك الكلام الرفيق الجميل ردّوا على فرعون مكة الّذي كان يبغي ـ كسحابة داكنة ـ حجب أشعة الشمس المشرقة ، وحالوا دون وقوع صدام.

قريش توفد إلى يهود يثرب للتحقيق :

لقد ايقظ وفدُ نصارى الحبشة إلى مكة وما نجم عن لقائهم برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشاً ودفعهم إلى تكوين وَفد يتألف من « النضر بن الحارث » و « عُقبة بن ابي معيط » وغيرهما وإرسالهم إلى أحبار يهود المدينة ليسألونهم عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه.

فقال أحبارُ اليهود لمبعوثي قريش : سَلوا محمَّداً عن ثلاث نأمركم بهنَّ ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسَل ، وان لم يفعل فالرجلُ متقوّلٌ ، فروا فيه رأيكم ، سلوه :

١ ـ عن فتية ذَهبوا في الدهر الأول ( يعنون بهم أصحاب الكهف ) ما كان

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٩٠ و ٣٩٣ وقد نزلت في هذا الشأن الآيات ٥٢ إلى ٥٥ من سورة القصص.

٤٦٢

من امرهم ، فانه قد كان لهم حديثٌ عجيبٌ.

٢ ـ وعن رجل طوّاف ( يعنون به ذا القرنين ) قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وخبرُه؟

٢ ـ وعن الروح ما هي؟

فاذا أخبركم بذلك فاتبعوهُ ، فانه نَبيّ ، وان لم يفعل ، فهو رَجُلٌ متقوِّلٌ فاصنَعوا في أمره ما بدا لكم.

فعادَ وفد قريش إلى « مكة » ولما قدموها قالوا لقريش ما سمعوه من أحبار اليهود.

فجاؤوا إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرحوا عليه الاسئلة الثلاثة السالفة. فقال رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انتظر في ذلك وحياً.(١)

ثم نزل الوحيُ يحملُ إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأجوبة المطلوبة على تلك الاسئلة.

وقد ورَدَ الجواب عن السؤال عن الروح في الآية ٨٥ من سورة الإسراء.

واُجيبَ على السؤالين الآخرين عن أصحاب « الكهف » وذي القرنين بتفصيل في سورة « الكهف » ضمن الآيات ٩ ـ ٢٨ والآيات ٧٣ ـ ٩٣.

وقدوردت تفصيلاتُ هذه الإجابات الّتي أجابَ بها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أسئلتهم في كتب التفسير.

ولابدَّ هنا من أن نُذكِّر القارئ الكريم بنقطة مفيدة وهي أنّ المراد من « الرّوح » في سؤال القوم ليس هو الرُّوح الإنسانية بل كان المراد هو جبرئيل الأمين ، ( بقرينة أنَّ المقترحين الاصليين لهذه الأسئلة : هم اليهود وكانوا يكرهون الروح الامين ، ويعادونه ) ، وهو أمرٌ مبحوثٌ في محلِّه من كتب التفسير.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٠٠ ـ ٣٠٢.

٤٦٣

٤٦٤

١٨

الأسلحةُ الصَديئة

والاساليب الفاشلة

نظّمْ أسياد قريش صفوفهم لمكافحة عقيدة التوحيد ، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين وأهله.

فقد حاولوا في بداية الأمر أن يُثنُوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المضيّ في مواصلة دعوته ، وذلك بتطميعه بالمال والجاه وماشابه ذلك ، ولكن لم يحصلوا من ذلك على شيء ، فقد خيّب ذلك الرجلُ المجاهدُ ظنونهم فيه ، وبدّد آمالهم في اثنائه عن هدفه بكلمته الخالدة المدوّية : « واللّه لو وَضعوا الشمس في يميني ، والقَمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما فعلتُ » وهو يعني ان تمليكه العالم كلَه لا يثنيه عن هدفه ولا يصرفه عن تحقيق ما نُدِبَ إليه وارسل به.

فعمدوا إلى سلاح آخر هو التهديد والأذى ، والتنكيل به وباصحابه وانصاره ، ولكنهم واجهوا صمودَه وصمود أنصاره واصحابه ، وثباتهم الّذي ادى إلى انتصار المؤمنين في هذا الميدان ، وخيبة المشركين وهزيمتهم.

وقد بَلَغ من ثبات المسلمين على الطريق أنهم أقدموا على مغادرة الوطن ، وترك الأهل والعيال ، والهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم إلى اللّه ، وسعياً وراء نشره وبثه في غير الجزيرة من الآفاق.

ولكن رغم إخفاق أسياد قريش المشركين في جميع هذه الجهات والميادين

٤٦٥

وعجزهم عن استئصال شجرة التوحيد الفتية ، وفشل جميع الأسلحة الّتي استخدموها للقضاء على الدين الجديد وأهله ، لم تنته محاولاتهم الإجهاضيّة بل عمدوا هذه المرّة إلى استخدام سلاح جديد حسبوه أمضى من سوابقه.

وهذا السلاح هو سلاحُ الدعاية ضدّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لانه صحيحٌ أن ايذاء وتعذيب جماعة المؤمنين في « مكة » تمنع غيرهم من سُكان « مكّة » من الإنضواء إلى الإسلام إلاّ ان الحجيج الذين كانوا يسافرون إلى مكة في الأشهر الحرُم وكانوا يلتقون رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جوّ من الأمن والطمأنينة خلال تلك المواسم كانوا يتأثَّرون بدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتزعزعُ اعتقادهم بالأوثان على الأقل ، ان لم يؤمنوا بدينه ، ولم يستجيبوا لدعوته ، ثم إنهم كانوا ينقلون رسالة الإسلام وانباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مواطنهم ، ومناطِقهم وكان ينتشر بذلك اسم رسول اللّه ، وأنباء دينه في شتّى مناطق الجزيرة العربية ، وكان هذا هو بنفسه ضربة قوية توجَّه إلى صرح الوثنية في مكة ، وعاملا قوياً في انتشار عقيدة التوحيد ، وسطوع أمره.

من هنا اتخذ سادةُ قريش اُسلوباً آخر ، قاصدين بذلك الحيلولة دون انتشار الإسلام ، واتساع رقعته ، وقطع علاقة المجتمع العربي به.

واليك فيما يأتي بيان تفاصيل هذا الاسلوب ، وهذه الخطة :

١ ـ الاتّهاماتُ الباطلة :

يمكن التعرف على شخصية أي واحد وتقييمها من خلال ما يرميه به اعداؤه من شتائم وسباب ، وما يكيلون له من اتهامات ونسب ، فَإن العدو يسعى دائماً إلى أن يتهم خصمَه بنوع من أنواع التهم ليُضِلَّ الناس ، ويصرفهم عنه ، وليتمكن بما يحوكُه حوله من أراجيف وأباطيل الحط من شأنه في المجتمع واسقاطه من الانظار والأعين.

ان العدوّ الذكيّ يسعى دائماً إلى أن ينسب إلى منافسه ما يُصدِّقه ولو فئة خاصة من الناس على الاقل ، ويوجبُ شكَّهم في صدقه ، ويتجنب تلك النِسَب

٤٦٦

التي لا تصدَّق في شأنه ، ولا تناسبُ اخلاقه وافعاله المعروفة عنه ، ولا تمسه بشكل من الأشكال ، لأنه سوف لا يَجني في هذه الحالة إلا عكسَ ما يقصد ، وخلاف ما يريد.

ومن هنا يستطيع المؤرخُ المحققُ أن يتعرف على الشخصية الواقعية لمن يدرسه ، وعلى مكانته الإجتماعية ، وأخلاقه وسجاياه ولو من خلال ما ينسبُه الأعداء إليه ، وما يكيلون له من أكاذيب وإفتراءات ، ونسب باطلة واتهامات ، لأنّ العدوّ الّذي لا يخاف أحداً لا يقصّرُ في كيل كلِّ تهمة تنفعُهُ وتخدمُ غرضَه إلى الطرف الآخر ، ويستخدم هذا السلاح ( أي سلاح الدعاية ) ما استطاع ، وما ساعدته معرفُته بالظروف ، ودرايته بالفَرص.

فاذا لم ينسَب إليه أيُّ شيء من تلك النسب الباطلة فان ذلك إنما هو لأجل طهارة جيبه ، ونقاء صفحته ، وتنزُّه شخصيته عن تلك النسب ، ولأنّ المجتمع لم يكن ليعبأ بها ولم يصدّقها في شأنه.

ولو أننا تصفّحنا اوراق التاريخ الإسلامي لرأينا أن قريشاً مع ما كانت تكنُّ من عداء ، وتحِملُ من حِقد على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت تسعى بكل جهدها أن تهدم صرح الإسلام الجديد الظهور ، وأن تحطّ من شأن مؤسسه وبانيه لم تستطع مع ذلك أن تستفيد من هذا السلاح ، وتستخدمه كاملا.

فقد كانت تفكّر في نفسها : ماذا تقول في حق رسول اللّه؟ وماذا ترى تنسب إليه؟؟

هل تتهمه بالخيانة المالية وها هم جماعة منهم قد ائتمنوه على أموالهم؟!(١) كما أن حياته الشريفة طوال الاربعين سنة الماضية جسدت امانته امام الجميع ، فهو الامين بلا منازع؟

هل تتهمه بالجري والانسياق وراء الشهوة واللّذة؟ وكيف تقول في حقه مثل هذا الكلام مع أنه بدأ حياته الشبابية بالتزويج بزوجة كبيرة السنّ إلى درجة

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٦٢.

٤٦٧

مّا ، وبقي معها حتّى لحظة انعقاد هذه الشورى في « دار الندوة » بهدف الدعاية ضدَه ، ولم يُعهَد منه زلّة قدم في هذا السبيل قط؟!

وبالتالي بماذا تتهم محمَّداً الصادق الأمين ، الطاهر العفيف ، وأية تهمة ترى يمكن أن تُصدَّق في حقه ، أو يحتمل الناس صدقها في شأنه ولو بنسبة واحد في المائة؟

لقد تحيَّر سادة « دار الندوة » وأقطابها في كيفية استخدام هذا السلاح ، سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرَّروا في نهاية الأمر أن يطرحوا هذا الأمر على صنديد من صناديد قريش ويطلبوا رأيه فيه ، وهو « الوليد بن المُغيرة » وكان ذا سنّ فيهم ، ومكانة ، فقال لهم :

يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم وان وفود العرب ستقدَم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذّبُ بعضكم بعضاً ، ويردُ قولُكم بعضُه بعضاً.

قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.

قال : بل أنتم قولوا أسمَع.

قالوا : نقول كاهن.

قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكُهّانَ فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.

قالوا : فنقول : مجنون.

قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته.

قالوا : فنقول : ساحر.

فقال : ما هو بساحر لقد رأينا السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.

وهكذا تحيَّروا في ما ينسبون إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأخيراً اتفقوا على أن يقولوا : أنه ساحر جاء بقول هو سِحرٌ يفرق به بين المرء وابيه وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته.

ويدلُّ عليه ما أوجده من الخلاف والإنشقاق والتفرُّق بين أهل مكة الَّذين

٤٦٨

كان يضرب بهم المثل في الوحدة والاتفاق(١) .

وقد ذكر المفسِّرون في تفسير سورة « المدثر » هذه القصة بنحو آخر فقالوا : لمّا اُنزل على رسول اللّه « حم تنزيلُ الْكِتاب ) قام إلى المسجد و « الوليد بن المغيرة » قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبيُصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستماعه لقراءته ، أعاد قراءة الآية ، فتركت الآية في نفس الوليد تأثيراً شديداً فانطلق إلى منزله ، ولم يخرج منه أيّاماً ، فسخرت منه قريشٌ وقالت : صبأ ـ واللّه ـ الوليدُ ثم مشى رجال من قريش إليه وسألوه رأيه في قرآن محمَّد ، واقترح كل واحد منهم أمراً ، ولكنه رد عليها بالنفي جميعاً فقالت قريش إذن ما هو؟ فتفكر « الوليد » في نفسه ثم قال : ما هو إلاّ ساحرٌ أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله ، ووُلده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر(٢) .

ويرى المفسرون أن الآيات التالية في شأنه إذ يقول اللّه تعالى : «ذَرْني وَمَنْ خَلقْتُ وَحيداً. وَجَعلْتُ لَهُ مالا مَمدُوداً. وَبَنينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تمهيداً. ثُمّ يَطْمَعُ أنْ أزيدَ. كَلا انّه كانَ لآياتِنا عَنيداً. سارْهقُهُ صَعُوداً. إنّه فكَّرَ وَقدّر. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ. ثُمَّ نَظرَ. ثُمَّ عَبسَ وَبَسرَ. ثُمَّ أَدْبَر وَاْستَكْبَرَ. فَقالَ إنْ هذا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَر ... ( إلى قوله : )فَما لَهُمْ عِنَ التَذكِرَة مُعْرضيْن. كأَنَّهُمْ حُمُرٌ مستنفِرة فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة »(٣) .

* * *

الإصرار في نسبة الجنون إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يعتبر إتصاف النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتهاره بين الناس بالصدق والامانة وغيرها من مكارم الأخلاق منذ شبابه من مسلَّمات التاريخ.

وهو بالتالي أمرٌ اعترف به حتّى أعداؤه الالدّاء ، فقد دانوا بفضله ، وأقرُّوا

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٧٠.

٢ ـ مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٣٨٦ و ٣٨٧.

٣ ـ المدثر : من ١١ ـ ٥١.

٤٦٩

بأخلاقه الكريمة وسجاياه النبيلة ، دون تلكؤ ، ولا إبطاء.

وقد كانَ من أوصافه الحسنة البارزة ان جميع الناس كانوا يدعونه « الصادق » « الامين » وكانوا يثقون بأمانته ثقة كبرى(١) حتّى أن المشركين كانوا يودعون ما غلى من أموالهم عنده ، واستمر هذا الأمر حتّى عشرة أعوام بعد دعوته العلنيّة.

وحيث أن دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ثقلت على المعاندين فاجتهدوا في أن يصرفوا عنه الناس بما ينسبون إليه من بعض النسب الّتي توجب سوء الظنّ به ، ومن ثم إفشال دعوته ، وحيث أنهم كانوا يعلمون أن النِسَبَ الاُخرى ممّا لا يقيم لها المشركون وزناً ، لأنها امور بسيطة في نظرهم ، من هنا رأوا بأن يتهمونه بالجنون ، والزعم بان ما يقوله ويقرؤه ما هو إلاّ من نسج الخيال ، ومن أثر الجنون الّذي لا يتنافى مع الزهد ، والأمانة ، وذلك تكذيباً لدعوته.

ثم عملت قريش على إشاعة هذه النسبة ، واتخذت وسائل عديدة وما كرة لترويجها وبثّها بين الناس.

ومن شدّة مكرهم ومراءاتهم أنّهم كانوا يتخذون موقف المتسائل المحايد فيطرحون هذه التهمة في قالب الشك ، والترديد إذ يقولون : «أفترى على اللّه كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ »(٢) .

وهذه هي بعينها الحيلةُ الشيطانية الّتي يتوسَّل بها ويتستر وراءها أعداء الحقيقة دائماً عند ما يريدون تكذيب المصلحين العظام ، واسقاط خطواتهم وافكارهم من الاعتبار ، والحطّ من شأنها وأهميتها.

ويشير القرآنُ أيضاً إلى انّ هذا الاسلوب الماكر الذميم لم يكن مختصاً بالمعارضين في عهد الرسالة المحمَّدية ، بل كان المعارضون في الأعصر الغابرة أيضاً يتوسلون بهذا السلاح لتكذيب الرسل ، والانبياء إذ يقول عنهم :

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٦٢ عن عبيداللّه بن ابي رافع : كانت قريش تدعو محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجاهلية الامين وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها ، وكذلك كلُ من كان يقدم مكة من العرب في الموسم ، وجاءته النبوة والرسالة والامر كذلك.

٢ ـ سبأ : ٨.

٤٧٠

«كَذلكَ مَا أتى الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتواصَوْا بِه بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ »(١) .

وتحدّث الاناجيلُ الحاضرة هي الاُخرى عن ان المسيحعليه‌السلام عندما وعظ اليهود قالوا : إنّ فيه شيطاناً ، فهو يهذي فلماذا تسمعون إليه؟!(٢) .

ومن المسلّم والبديهي أنَّ قريشاً لو كان في مقدورها أن تتهم رسولَ اللّه الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير هذا الاتهام وتنسب إليه غير هذه النسبة لما تأخرت عن ذلك ، ولكن حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشرقة خلال الاربعين سنة الماضية ، وسوابقه اللامعة في المجتمع المكيّ وغير المكي كانت تحول دون أن ينسبوا إليه شيئاً من تلك النسب القبيحة ، الذميمة.

لقد كانت « قريش » مستعدة لأن تستخدم أي شيء ـ مهما صغر ـ ضد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فمثلا عند ما وجده أعداء الرسالة يجلس إلى غلام مسيحيّ يدعى « جبر » عند المروة ، انطلقوا يستخدمون هذا الأمر ضدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوراً فقالوا : واللّه ما يُعلِّمُ محمَّداً كثيراً ممّا يأتي به الا « جبر » النصراني.

فردّ عليهم القرآن الكريمُ بقوله : «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّما يُعلِّمُه بَشَرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَميّ وَهذا لِسانٌ عَربيّ مُبِيْنٌ »(٣) .

«وَقَدْ جاءهُم رَسولٌ مُبينٌ ثُمَّ تَولُوا عَنهُ وَقالُوا معلَّمٌ مَجنُونٌ »(٤) .

القرآن يرد على جميع الاتهامات :

وربما نسبوا إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكهانة ، والكاهن هو من يتصل بعناصر من الجن(٥) أو الشياطين ويتلقى منهم اخباراً حول الماضي والمستقبل ،

__________________

١ ـ الذاريات : ٥٢ و ٥٣.

٢ ـ انجيل يوحنا : الفصل ١٠ ، الفقرة : ٢٠ ، والفصل ٧ ، الفقرة ٤٨ و ٥٢.

٣ ـ النحل : ١٠٣.

٤ ـ الدخان : ١٣ و ١٤.

٥ ـ الجن كائن من الكائنات ومخلوق من مخلوقات اللّه تعالى وقد اخبر به القرآن الكريم في مواضع عديدة كما سميت احدى السور باسم الجن.

٤٧١

وكان هذا موجوداً قبل الإسلام كما ترويه كتب السير والتواريخ(١) .

وقد رد القرآن الكريم على هذه المقالة وهذا الزعم إذ قال تعالى : «وَلا بِقَولْ كاهِن قَليلا ما تَذكَّرُونَ »(٢) كما ردّ ايضاً تهمة السحر ، والكذب والافتراء والشعر إذ قال تعالى وهو يصف المتهمين تارة بالكفر واُخرى بالظلم : «وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرونَ هذا سَاحِرٌ كَذّابٌ »(٣) .

وقال تعالى : «وَقالَ الظالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلا مَسْحُوراً »(٤) .

وقال سبحانه متعجباً مِنهم : «قالُوا إنَّما أنتَ مِنَ المُسحَّرينَ »(٥) .

وقال تعالى : «وَقالُوا يا أيُّها الَّذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِكْرُ إنَّكَ لَمجْنُونٌ »(٦) .

وقال سبحانه : «وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون »(٧) .

وقال عزّ وجلّ : «فَذكِّر فَما أَنْتَ بِنعْمةِ رَبّكَ بِكاهِن وَلا مَجْنُون »(٨) .

وقال تعالى : «قالُوا إنّما أنْتَ مُفْتَر بل أكثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ »(٩) .

وقال تعالى : «أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْر سُوَر مِثلِه »(١٠) .

وقال سبحانه : «وَقالَ الّذينَ كَفَرُوا إنْ هذا إلاّ إفكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَليْهِ قَومٌ آخرونَ فَقدْ جاءوا ظُلماً وَزُوراً »(١١) .

وقال سبحانه : «أفتَرى عَلى اللّه كَذِباً أمْ بِهِ جِنَّةٌ »(١٢) .

وقال تعالى : «أَم يَقُولُونَ شاعِرٌ نَترَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُون »(١٣) .

وقال تعالى : «وَما عَلَّمْناهُ الشَّعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقران مُبِيْن »(١٤) .

وربما وصفوا القرآن بانه اضغاث احلام فردهم سبحانه بقوله.

«بَلْ قالُوا أضغاثُ أحْلام بلِ افْتراهُ بَلْ هُوَ شاعرٌ »(١٥) .

__________________

١ ـ راجع : بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٣ ، ص ٢٦٩ باب علم الكهانة والعرافة.

٢ ـ الحاقة : ٤٢.

٣ ـ ص : ٤.

٤ ـ الفرقان : ٨.

٥ ـ الشعراء : ١٥٣.

٦ ـ الحجر : ٦.

٧ ـ التكوير : ٢٢.

٨ ـ الطور : ٢٩.

٩ ـ النحل : ١٠١.

١٠ ـ هود : ١٣.

١١ ـ الفرقان : ٤.

١٢ ـ سبأ : ٨.

١٣ ـ الطور : ٣٠.

١٤ ـ يس : ٦٩.

١٥ ـ الانبياء : ٥.

٤٧٢

وهكذا نجدهم ذهبوا في استخدام سلاح الاتهام والتشويش على الشخصية المحمَّدية والرسالة الإسلامية كل مذهب ، فمرة وصفوه بانه كاهن واُخرى بانه ساحر وثالثة بانه مسحور ، ورابعة بانه مجنون وخامسة بانه معلّم وسادسة بانه كذاب وسابعة بانه مفتري وثامنة بانه مفترى أو مجنون على سبيل الترديد وتاسعة بانه شاعر وعاشرة بان ما يقوله ما هو الاّ اضغاث احلام.

٢ ـ فكرةُ معارضة القرآن :

لم يُجدِ استخدام سلاح الإتهام ضد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفعاً ، ولم يأت بالثمار الّتي كان يتوخاها المشركون منه ، لأن الناس كانوا يُدركون بفطنتهم وفراستهم أن للقرآن جاذبيّة غريبة ، وأنهم لم يسمعوا كلاماً حلواً ، وحديثاً عذباً مثله.

ان لكلماته من العمق والعذوبة بحيث يتقبّلها كلُ قلب ، وتسكن اليها كل نفس.

من هنا لم ينفع اتهام قريش لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنون وبأنَّ ما يقوله إن هو الاّ من نسج الخيال ، ونتائج الجنون ، شيئاً ، فقررت أن تخطّط لتدبير آخر ظناً منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه ، وعن الاستماع إلى كتابه ، ألا وهو : معارضة القرآن الكريم.

فعمدت إلى « النضر بن الحارث » وكان من شياطين قريش ، وممّن كان يؤذي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينصب له العداوة ، وكان قد قضى شطراً من حياته في الحيرة بالعراق وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس واحاديث « رُستم » و « إسفنديار » وقصصهم ، وحكاياتهم ، وأساطيرهم ، وطلبوا منه أن يجمع الناسَ ويقص عليهم من تلكم الأساطير والحكايات يلهي بها الناس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويصرفهم عن الإصغاء إلى القرآن الكريم!!

فكان إذا جلس رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجلساً فذكَّر الناس فيه باللّه ، وحذر قومه ما أصاب مَن قبلَهم من الاُمم من نقمة اللّه ، خَلفه « النضرُ » في مجلسه

٤٧٣

إذا قامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : أنا واللّه يا معشر قريش أحسنُ حديثاً منه فهلمَّ إليّ ، فأنا اُحدِّثكم أحسنَ من حديثه.

ثم يحدّثهم عن ملوك الفرس و « رستم » و « اسفنديار » ثم يقول :

بماذا محمَّد أحسن حديثاً مني وما حديثه إلاّ أساطير الأَولين اكتتبهاكما اكتتبتُها؟(١) .

وقد كانت هذه الخُطة حمقاء جداً إلى درجة أنها لم تدم إلاّ عدة ايام لا اكثر حتّى أن قريشاً سأمت من أحاديث « النضر » وسرعان ما تفرّقت عنه.

وقدنزل في هذا الشأن آيات هي : «وَقالُوا أساطيرُ الأَوَّليْنَ اكتتبها فهي تمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأصِيْلا * قُلْ أَنْزلَهُ الَّذيْ يعْلَمُ السِّرّ في السَماواتِ وَالأَرْضِ إنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحيماً »(٢) .

* * *

تحججات صبيانيّة وجاهليّة :

وربما جسَّدوا معارضتهم للدعوة المحمَّدية في صورة تحججات ومجادلات جاهليّة ومآخذ سخيفة اخذوها على رسول اللّه ورسالته ، تنم عن تكبر وجهل ، وعناد ولجاج طبعوا عليه.

وها نحن نذكر ابرزها :

أ ـ لماذا لم ينزل القرآن على ثريّ من اثرياء مكة أو الطائف؟!

قال تعالى حاكيا قولهم : «لَولا نُزِّلَ هذا الْقُرانُ عَلى رَجُل مِنَ الْقَريَتَيْنِ عَظِيْم »(٣) .

ب ـ لماذا لم يرسل اليهم ملائكة ولماذا هو بشر؟!

قال تعالى عنهم : «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أن يُؤْمِنُوا إذْ جاءهُمْ الهُدى إلاّ أَنْ قالُوا أبعَثَ اللّه بَشَراً

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٠٠ و ٣٥٨.

٢ ـ الفُرقان : ٥ و ٦.

٣ ـ الزخرف : ٣١.

٤٧٤

رَسُولا »(١) .

وقال تعالى حاكياً عنهم أيضاً : «وَقالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشي فِي الأَسْواقِ »(٢) .

ج ـ انَّه يدعو إلى خلاف ما كان عليه الآباء ، من الدين والعقيدة والسلوك؟

يقول عنهم سبحانه : «وَإذا قِيْلَ لَهُمْ تَعالَوْا إلى ما أَنْزَلَ الله وَإلى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْه آباءنا أو لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ »(٣) .

د ـ تبديل الآلهة بإلهٍ واحد.

قال اللّه عنهم : «وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ * أَجعَلَ الآلِهَةَ إلهاً واحِداً إنْ هذا لِشَيء عُجابٌ »(٤) .

هـ ـ القول بحشر الاجساد وتجدد الحياة في يوم القيامة.

قال تعالى عنهم : «وَقالُوا ءإذا ضَلَلْنا فِي الاْرْضِ ءإنّا لِفِي خَلْق جَدِيد »(٥) .

و ـ لماذا ليس عنده مثل ماكان لدى موسى من المعجزات كالثعبان المنقلب من العصا ، وقد توصل المشركون إلى هذا النمط من الاعتراض بسبب اتصالهم بأحبار اليهود.

يقول اللّه عنهم : «فَلَمّا جاءهُمْ الْحقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا اُوتِيَ مِثْلُ ما اُوْتيَ مُوسى »(٦) .

ز ـ لماذا ليس معه ملك يُرى ويشاهَد ويحضر معه في كل مقام ومشهد.

قال تعالى : «وَقالُوا لَولا اُنْزلَ عَلَيْهِ مَلَكْ »(٧) .

__________________

١ ـ الاسراء : ٩٤.

٢ ـ الفرقان : ٧.

٣ ـ المائدة : ١٠٤.

٤ ـ ص : ٤ و ٥.

٥ ـ السجدة : ١٠.

٦ ـ القصص : ٤٨.

٧ ـ الانعام : ٨.

٤٧٥

مقترحات عجيبة ومطاليب غريبة :

وكان المشركون إذا نفذت تحججاتهم واعتراضاتهم الواهية ، وقوبلوا بردود قوية وقاطعة عليها عمدوا إلى طرح مقترحات سخيفة على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سياق معارضتهم لدعوته ونورد هنا ابرز تلك الاقتراحات ليعرف القارئ الكريم مدى معاناة النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قومه :

لقد اقترحوا عليه :

١ ـ ان يعبد اصنامهم سنة ويعبدوا إلهه سنة اُخرى وجعلوا ذلك شرطا لايمانهم بدعوته!!

فأنزل اللّه تعالى في ردّهم بسورة « الكافرون » : «بِسْم اللّه الرَّحْمن الرَّحيم. قُلْ يا أَيُّها الْكافِرُونَ * لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ. وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ. لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِيْنِ ».

٢ ـ تبديل القرآن ، فقد دفع نقدُ القرآن الكريم للوثنية ، والازاء على الاصنام ، دفعهم إلى ان يطلبوا من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يأتي لهم بقرآن آخر لا يحتوي على شجب عبادة الاوثان والازدراء بالاصنام ، وابطالها.

قال اللّه تعالى عن فعلهم هذا : «وَإذا تُتْلى عَلَيْهِم آياتُنا بيِّنات قالَ الَّذيْنَ لا يَرْجُونَ لِقاءنا ائتِ بِقُرآن غَيْر هذا أوْ بَدّلهُ »(١) .

فردّ اللّه عليهم بقوله : «قُلْ ما يَكُونُ لِيْ أَنْ اُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاء نَفْسِيْ إنْ اتّبعُ إلا ما يُوْحى إلَيَّ إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْم عَظيْم »(٢) .

٣ ـ مطاليب مادية عجيبة!!

__________________

١ و ٢ ـ يونس : ١٥.

٤٧٦

وقد عمدوا ـ بسبب عنادهم وعتوهم ـ إلى المطالبة باُمور لا ترتبط بهداية الناس ، مثل مطالبته بان يفجر لهم ينابيع ، أو يُسقط السماء على رؤوسهم قطعاً ، أو يصعد إلى السماء ، أو يأتي باللّه سبحانه وتعالى ، أو غير ذلك من الاقتراحات والمطاليب الّتي كانت إما مستحيلة في نفسها أوتناقض غرض الدعوة!!

قال اللّه حاكياً عنهم ذلك : «وَقالُوا لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأَرضِ يُنْبُوعاً. أوْ تَكُون لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخيْل وَعنَب فَتُفَجِّر الاْنهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أوْ تَأتِيَ بِاللّه وَالْمَلائكةِ قَبِيلا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْت مِنْ زُخْرُف أوْ تَرْقى في السَّماء »(١) .

صبر النبيّ واستقامته وثباته :

ولقد قابل رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل هذه التحججات الايذائية وما طرح مِنَ الاقتراحات المستحيلة بصبر عظيم وثبات هائل ، ايماناً منه بدعوته ، وحرصاً على ابلاغ رسالته ، وبفعل التأييد الالهي من جانب.

يقول اللّه تعالى في هذا الصدد :

١ ـ «فَاْصْبِرْ كَما صَبَرَ اُوْلوا العْزْم مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ »(٢) .

٢ ـ «وَاتّبِعْ ما يُوحْى إلَيْكَ وَاِصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اللّه وَهُوَ خَيْرُ الحاكِميْن »(٣) .

٣ ـ «وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إلاّ بِاللّه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ »(٤) .

٤ ـ «وَاصْبِرْ نَفْسكَ مَعَ الَّذيْنَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَداوَة وَالعَشِيِّ »(٥) .

٥ ـ «فَاصْبِرْ لِحُكْم رَبّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوْت »(٦) .

٦ ـ «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلا »(٧) .

__________________

١ ـ الاسراء : ٩٠ ـ ٩٣.

٢ ـ الاحقاف : ٣٥.

٣ ـ يونس : ١٠٩.

٤ ـ النحل : ١٢٧.

٥ ـ الكهف : ٢٨.

٦ ـ القلم : ٤٨.

٧ ـ المزمل : ١٠.

٤٧٧

معاجز النبيّ لم تنحصر في القرآن :

وبالمناسبة لابد أن نذكر أن المشركين ومن حذى حذوهم من الكفار والمعارضين للرسالة الإسلامية كانوا يطالبون رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعاجز وديات لا بدافع الرغبة في الايمان بدعوته بل بدافع اللجاج والعناد ، وإلا فان معاجز النبيّ لم تنحصر في الكتاب العزيز ، فقد اتى رسول اللّه بآيات ومعاجز كثيرة اُخرى غير القرآن ، كان كل واحد منها يكفي للاقتناع برسالته ، والايمان بصحة دعواه.

فالقرآن نفسه يشير إلى أبرز هذه المعاجز وهي :

١ ـ شقّ القمر

فقد طلب المشركون من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يشق لهم القمر نصفين حتّى يؤمنوا به ، فلمّا على ذلك لهم باذن اللّه كفروا به وقالوا انه سحر!!

يقول اللّه تعالى : «إقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ. وَإنْ يَروْا آيَة يُعْرضُوْا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتمِرّ »(١) .

٢ ـ المعراج

ان العروج برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والّذي سيأتي مفصلا هو الآخر معجزة من معاجزه القوية ، وقد نطق بها القرآن بقوله : «سُبْحانَ الَّذي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرام إلى الْمَسْجِدَ الأَقْصى الَّذي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُريَهُ مِنْ آياتِنا إنَّه هُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيرُ »(٢) .

____________

١ ـ القمر : ١ و ٢.

٢ ـ الاسراء : ١.

٤٧٨

٣ ـ مباهلة أهل الباطل

ان تقدم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مَن خرج بهم إلى المباهلة ، واحجام النصارى عن مباهلته ، معجزة اُخرى من معاجزهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية إذ قال : «فَمَنْ حاجَّكَ فِيْهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءكَ مِنَ العلم فَقُل تَعالوا نَدْعُ أَبْناءنا وَأَبْناءكُمْ وَنِساءنا وَنِساءكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعلْ لَعْنَةَ اللّه عَلىَ الْكافِرينَ »(١) .

وستأتي قصَّة المباهلة على نحو التفصيل في حوادث السنة العاشرة من الهجرة.

٤ ـ الاخبار بالمغيبات

فقد كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبر عن اُمور غائبة كما يقول اللّه سبحانه حاكيا عنه : «وَاُنبِّئكُمْ بِما تأكلون وما تَدَّخِرُونَ فِيْ بُيُوتكُمْ »(٢) .

هذا وقد أخبرت الاخبار والاحاديث عن معاجز كثيرة لرسول اللّه غير القرآن الكريم.

__________________

١ ـ آل عمران : ٦١.

٢ ـ آل عمران : ٤٩ ، وقد اشار القرآن الكريم إلى موارد اُخرى من هذه القبيل.

فقد اخبر عن غلبة الروم بعد سنين : قال تعالى :

«الم غُلِبَتِ الرُّومُ * في أدْنى الأرْض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَييغْلِبُونَ. في بِضْعِ سِنْينَ * للّه الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعدُ وَيَومئذ يَفْرحُ الْمؤمنون » ( الروم : ١ ـ ٤ ).

واخبر عن هلاك ابي لهب قال تعالى :

«تَبَّت يَدا أبي لَهَب وَتَبّ ... الخ ».

وأخبر عن هزيمة المشركين في بدر قال سبحانه :

«سيهزم الجمع ويولون الدبر » ( القمر : ٤٥ ).

٤٧٩

ومن هذه المعاجز ما ذكره الامام اميرالمؤمنين علّي بن أبي طالب ـ كما في نهج البلاغة ـ حول سؤال المشركين من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلع شجرة بعروقها وجذورها ولما فعل ذلك وقال : « يا أيّتها الشجرة ان كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر ، وتعلمين أني رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفي بين يديّ باذن اللّه ».

فانقلعت بعروقها ولها دوّي عجيب ووقفت بين يدي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنهم كذّبوا وقالوا ساحر كذاب ، علواً واستكباراً.

وقد صرح الامام في كلامه هذا أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرهم بانهم لا يؤمنون وان ظهرت لهم المعجزة الّتي طلبوها ، وان فيهم من يطرح في القليب ( في معركة بدر ) وان منهم من يحزّب الأحزاب ( لمعركة الخندق )(١) .

اصرار النبيّ على هداية قريش :

بل كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرص على هدايتهم وارشادهم وايقاظهم. فقد كان زعيم المسلمين وقائدهم يعلم جيداً بأن اعتقاد أغلبية الناس بالأوثان ما هو الاّ أمر نابع من تقليد الآباء ، والجدود ، أو اتباع أسياد القبيلة وكبرائها ، وهو بالتالي لا يستند إلى جذور في أعماق الناس واُسس في عقولهم ونفوسهم.

من هنا فانَّ أيَّ انقلاب يحصل ويحدث في اوساط السادة والكبراء بان يؤمن أحدهم مثلا كان كفيلا بأن يحلّ الكثير من المشاكل.

من هنا كان ثمة إصرار كبير على جرّ « الوليد بن المغيرة » الّذي أصبح ابنه « خالد » في ما بعد من قادة الجيش الاسلاميّ والمشاركين في الفتوح الإسلامية إلى صف المؤمنين بالرسالة المحمَّدية ، لأنّه كان أسنَّ مَن في قريش واكثرهم نفوذاً ، وأعلاهُم مكانة ، وأقواهم شخصية ، وكان يُدعى حكيم العرب ، وكانت العرب تحترم رأيه إذا اختلفت في أمر.

__________________

١ ـ نهج البلاغة : قسم الخطب الرقم ١٩٢.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595