أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان10%

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 595

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان
  • البداية
  • السابق
  • 595 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156858 / تحميل: 12405
الحجم الحجم الحجم
أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

الموجود في اقتران الشهادات الثلاث معاً، ولمدخليّة موضوع الولاية في العبادات يمكن القول بحقيقة اقتران ذكر عليّ عند ذكر النبيّ في مواطن الذكر العامّة، وأنّ مثل هذا الاقتران محبوب بنحو مطلق في الشريعة، لكن ننبّه على أنّ مثل هذه المحبوبية عند مشهور فقهاء الإمامية لا تؤسّس حكماً شرعياً يجعل من ذكر علي في الأذان جزءاً واجباً، بل ولا مستحباً، كلّ ما يمكن استفادته بأنّ ذكره محبوب في الأذان وفي غيره للاقتران؛ لكن لا بعنوان الجزء الواجب أو المستحب في خصوص الأذان.

ومما تجب الإشارة إليه هنا هو استظهار بعض الأفاضل بأنّ ذكر عليّ في الأذان راجحٌ للاقتران في الواجبات، فالاقتران ملاحظ في التشهّد والخطبة في صلاة الجمعة وغيرها؛ وبما أنّ الموردين الأخيرين (أي التشهد والخطبة) عليهما روايات كثيرة في كتبنا، يبقى الأذان هو الذي يجب الانتصار له، وطبق قاعدة الاقتران العقليّ والشرعيّ قد يسوّغ القول برجحان الإتيان بالشهادة الثالثة فيه، وهذا ما أراد البعض الذهاب إليه في بحوثه، إذ من المناسب أن تكون النصوص الشرعية التي تجيز ذكر الإمام عليّ في التشهّد والخطبة تنطوي على ملاك ذكره في الأذان بحسب أصول تنقيح المناط العقلية، وهذا الكلام و إن كنّا قد لا نقبله على عمومه، لكنّه رأي كان علينا ذكره.

ومن الروايات التي تؤكّد على وحدة المناط بين الرسول والوصي، ما جاء فيأمالي الصدوق: حدّثنا علي بن أحمد بن عبدالله بن أحمد بن أبي عبدالله البرقيرضي‌الله‌عنه ، قال: حدثنا أبي، عن جدّه، عن أبي عبدالله البرقي، عن أبيه محمد بن خالد البرقي، قال: حدّثنا سهل بن المرزبان الفارسي، قال حدثنا محمد بن منصور، عن عبد الله بن جعفر، عن محمد بن فيض بن المختار، عن الفيض بن المختار، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، عن آبائه، عن جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله [في عليّعليه‌السلام ]:

٢٠١

وما أكرمني الله بكرامة إلاّ وقد أكرمك بمثلها(١) ، وفي آخر: ما ذكرتُ إلاّ ذكرتَ معي(٢) . وقد روت العامّة عن رسول الله قريباً من هذا، إذ قال الرسول لعلي: ما سألتُ ربّي شيئاً في صلاتي إلاّ أعطاني، وما سألتُ لنفسي شيئاً إلاّ سالتُ لك(٣) .

و يمكن تقريب الاستدلال بخبرالأمالي ، فنقول: إنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، وكذا مقتضى مفهوم الحصر، يفيد بأنّ كلّ مكرمة لرسول الله هي ممنوحة لعلي كذلك، بعضها على نحو التشريع وبعضها على نحو التشريف، وبما أنّ الشهادة بالرسالة في الأذان والإقامة هي مكرمة لرسول الله، فيمكن أن نأتي بذكر عليّ مع الأذان لا على نحو الجزئية بل لمحبوبيتها النفسية؛ امتثالاً لما جاء في مرسلةالاحتجاج وقولهعليه‌السلام : (من قال محمد رسول الله فليقل علي أمير المؤمنين). تحصيلاً للمثليّة التشريفيّة لا التشريعيّة.

وقد جاء عنهمعليهم‌السلام : (ذكرنا عبادة) أو: (ذكر عليٍّ عبادة)(٤) ، وفي موثّقة أبي

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٥٨٢ /، المجلس الرابع والسبعون / ح ١٦.

(٢) جاء في الرسالة العملية للشيخ زين العابدين خان الكرماني (الموجز في أحكام الطهارة والصلاة والصوم...) صفحة ١٧٤ ط مطبعة السعادة، ببلدة كرمان في سنة ١٣٥٠ هـ، فصل كيفية الأذان: روى عن أبي سليمان، عن رسول الله، قال:سمعت رسول الله يقول ليلة أسرى بي إلى السماء قال لي الجليل جلَّ جلاله وساق الحديث إلى أن قال:ثم أطلقت الثانية فاخترت منها علياً وشققت له اسماً من أسمائي فلا أذكر في موضع إلاّ ذكر معي فانا الأعلى وهو علي.

(٣) المعجم الأوسط ٨: ٤٧ / ح ٧٩١٧، مجمع الزوائد ٩: ١١٠، أمالي المحاملي: ٢٠٤، ٣٦٨ / ح ١٨٥، ٤١٨، السنة لابن أبي عاصم ٢: ٥٩٦ / ح ١٣١٣، شرح مذاهب أهل السنة، لابن شاهين: ١٩١ / ح ١٣٥، سنن النسائي الكبرى ٥: ١٥١ / ح ٨٥٣٢، خصائص عليّ: ١٥٦ / ح ١٤٧، ١٤٨، سنن الترمذي ٢: ٧٢ / ح ٢٨٢، وفيه:أحب لك ما أحب لنفسي وأكره لك ما أكره لنفسي . وكذا في سنن البيهقي الكبرى ٣: ٢١٢ / ح ٥٥٨١، ومصنف عبد الرزاق ٢: ١٤٤ / ح ٢٨٣٦، ومسند أحمد ١: ١٤٦ / ح ١٢٤٣، وغيره.

(١) الفردوس بمأثور الخطاب ٣: ٢٤٤ / ح ٣١٥١، عن عائشة، وعنه في كنز العمال ١١: ٢٧٦ / ح ٣٢٨٩٤، تاريخ دمشق ٤٢: ٣٥٦، سمط النجوم العوالي ٣: ٦٤.

٢٠٢

 بصير عن أبي عبدالله، قال: (ما اجتمع قوم في مجلس لم يذكروا الله ولم يذكرونا إلاّ كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة) ثمّ، قال: قال أبو جعفر: (إنّ ذكرنا من ذكر الله، وذكر عدوّنا من ذكر الشيطان)(١) .

تلخّص من جميع ما قلناه لحدّ الآن: أنّ الدليل الكنائي الآنف لا يثبت سوى الاقتران وأنّ ذكر علي مقترن بذكر النبي بنحو عام؛ بالنظر للعمومات والإطلاقات الآنفة عن الروايات والأخبار الصحيحة والمعتبرة، ولازم ذلك أنّ ذكر علي محبوب في نفسه بنحو مطلق في الأذان وفي غيره، لكنّ هذا لا يثبت حكماً شرعياً عند مشهور فقهاء الإمامية لا جزءاً واجباً ولا جزءاً مستحبّاً. وبالجملة: فكلّ ما يثبته هذا الدليل هو أنّ ذكر عليّ محبوب بعد ذكر النبيّ في الأذان وفي غيره من دون اعتقاد الجزئية.

الشهادة بالولاية على عهد الرسول والأئمّة المعصومين

حكى الشيخ عبد النبي العراقي، عن المرحوم الميرزا هادي الخطيب الخراساني في النجف(٢) وغيره، عن الشيخ محمد طه نجف أنّه سمع مَن يثق بدينه أنّه قد وقف على كتاب(السلافة في أمر الخلافة) للشيخ عبدالله المراغي المصري من علماء القرن السابع الهجري في مكتبة المدرسة الظاهرية بدمشق(٣) ، وفيه: أن أبا ذرٍّ، وفي آخر: سلمان: قد شهدا بالولاية لعليٍّ في أذانهما بعد واقعة الغدير، وقد سمع ذلك بعض الصحابة ونقلوه إلى رسول الله، وهم على اعتقاد بأنّ النبيّ سيستنكر هذا الفعل و يوبّخهما، لكنّهم هم الذين لاقوا التأنيب والتوبيخ

____________________

(١) الكافي ٢: ٤٩٦ ح ٢، و ص ١٨٦ / ح ١، وسائل الشيعة ٧: ١٥٣ / ح ٨٩٨١.

(٢) الهداية في كون الشهادة بالولاية جزء كسائر الأجزاء: ٤٥.

(٣) أخبرني غير واحد بأنّهما سمعا من أشخاص كانوا قد شاهدوا الكتاب في المكتبة الظاهرية، لكنّي لم أقف على الكتاب رغم بحثي عنه أخيراً.

٢٠٣

من قبل رسول الله؛ إذ قال لهم بما مضمونه: أما وعيتم خطبتي يوم الغدير لعلي بالولاية؟ وما قلته قبل ذلك في أبي ذر وأنّه أصدق ذي لهجة؟ وإنّي قد عنيت بكلامي أمراً، وخصوصاً حينما جمعتكم في ذلك الحر الشديد والصحراء الملتهبة عند غدير خُمّ. و يكون معنى كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّي أحبّ أن يُؤتى بهذا، ولكن لا ألزمكم به.

أنا لا أريد أن استدل بهذا الكلام في بحثي، لأنّه كلام عامي ومرسل لا يمكن الاعتماد عليه في الاستدلال، وذلك لوجود قرائن وأدلة قوية تعينني للوصول إلى ما أريد قوله مستغناً عن هذه الحكاية وأمثالها، لكني في الوقت نفسه لا استبعد صدور هذا النص عن سلمان وأبي ذر، لأنّه كان بمقدورهما التعرف على ملاكات الأحكام وروح التشريع، فهما كانا من خلص أصحاب الرسول وحواري الإمام علي.

وقد جاء في كتابالاحتجاج عن عبدالله بن الصامت، قال: رأيت أبا ذر الغفاري آخذاً بحلقة باب الكعبة مقبلاً على الناس بوجهه وهو يقول: أيّها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فسأنبئه باسمي، أنا جُندَب بن [جنادة بن] السكن بن عبد الله، أنا أبو ذر الغفاري، أنا رابع أربعة ممّن أسلم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ... إلى أن قال: أَيَّتُها الأمّة المتحيّرة بعد نبيّها، لو قدّمتم من قدّمه الله، وأخّرتم من أخّره الله، وجعلتم الولاية حيث جعلها الله، لما عال وليّ الله، ولما ضاع فرض من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم من أحكام الله(١) .

وما جاء عنه أيضاً: أيّها الناس، إنّ آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله هم الأسرةُ من نوح، والآلُ من إبراهيم، والصفوة والسلالة من إسماعيل، والعِترَةُ الطيبة الهادية من محمّد، فأَنْزِلوا آل محمد بمنزلة الرأس من الجسد، بل بمنزلة العينين من الرأس، فإنّهم

____________________

(١) الاحتجاج ١: ١٥٨. وانظر معاني الأخبار: ١٧٨ قريب منه.

٢٠٤

فيكم كالسَّماء المرفوعة، وكالجبال المنصوبة، وكالشمس الضاحية، وكالشجرة الزيتونة، أضاء زيتها، وبورك وقدها(١) .

وقد جاء عن سلمان في آل البيت أكثر مما قاله أبو ذر عنهم، وقد اعتبر سلمان من آل البيت لولائه وشدّة معرفته بمقامهم، وهو الذي قال عنه رسول الله: سلمان منّا أهل البيت(٢) ، ومن أحبّ الوقوف على مكانة سلمان فليراجع كتاب(نفس الرحمن في فضائل سلمان) .

وهذه النصوص تتلائم تماماً مع سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث كان يقف دوماً في وجه المعترضين على إمامة الإمام عليّ، و يُعلِمهم بأنّهعليه‌السلام منه، وهو منه، وأنّهما خلقا من نور واحد، و إليك حديثاً آخر في هذا السياق:

عن عمران بن الحصين في الصحيح، قال: بعث رسول الله سريّة وأمّر عليها علي بن أبي طالب، فأحدث شيئاً(٣) في سفره، فتعاقد أربعة من أصحاب محمّد أن يذكروا أمره إلى رسول الله.

قال عمران: وكنّا إذا قدمنا من سفر بدأنا برسول الله فسلمنا عليه، قال: فدخلوا عليه، فقام رجل منهم، فقال: يا رسول الله، إنّ عليّاً فعل كذا وكذا، فأعرض عنه.

ثم قام الثاني، فقال: يا رسول الله، إن عليّاً فعل كذا وكذا، فأعرض عنه.

ثم قام الثالث، فقال: إن عليّاً فعل كذا وكذا.

ثم قام الرابع فقال: يا رسول الله إن عليّاً فعل كذا وكذا.

فأقبل رسول الله على الرابع وقد تغيّر وجهه، فقال: دعوا عليّاً، دعوا عليّاً، دعوا

____________________

(١) البصائر والذخائر لابن حيان ٣: ٣٥، عن كتاب (الرتب).

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣: ٦٩١ / ح ٦٥٣٩، المعجم الكبير ٦: ٢١ / ح ٦٠٤٠، تهذيب الكمال ١١: ٢٥١، طبقات ابن سعد ٤: ٨٣، و ٧: ٣١٨، وغيره.

(٣) وهو أنّهعليه‌السلام كان قد اصطفى جارية من خمس السبي.

٢٠٥

عليّاً، إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي(١) .

فتأمّل في جملة (دعوا عليّاً، دعوا عليّاً، دعوا عليّاً)، وهو معنى آخر لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما رواه مسلم في الصحيح: (أذكركم بأهل بيتي، أُذكركم بأهل بيتي، أُذكركم بأهل بيتي)، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعلم بأنّ القوم يبغضون عليّاً ويوشُونَ به في حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف بعد مماته، وأن جملته: (إنّه منّي وأنا منه وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي) تحمل معانيَ كثيرة وعالية.

وممّا يؤكّد تنصيص النبيّ على عليّ وأهل بيته ومحاولة بعض الصحابة بالنيل منهعليه‌السلام هو ما جاء عن الإمام الكاظم من قوله: إنّ عمر لا يريد الحث على الولاية والدعوة إليها، وقد اتّضح لك سابقاً بأنّ جملة (حيّ على خير العمل) ليس لها ظهور في الإمامة والولاية إلاّ إذا فتحت بعبارات أخرى، وقد كان هذا الأمر سيرة لبعض الصحابة والتابعين في عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم من بعده. وهو يوضح إمكان الإتيان بالشهادة بالولاية لا على نحو الجزئية في الأذان، وقد كان بعض خلص الصحابة يأتون بها على عهد عمر ثم من بعده إلى عصر الإمام الكاظمعليه‌السلام ، وأن كلام الإمام ينبئ عن وجود هذه السيرة عند المؤمنين من عهد عمر إلى عصره الشريف.

نعم، لا يمكن البتّ تاريخياً في أنّ الصيغ المحكية في مرسلةالفقيه وشواذ الأخبار عند الطوسي كانت تأتي بعد الحيعلة الثالثة أو بعد الشهادة بالنبوة؟

وكذا العبارات التي كان يأتي بها الشيعة في عصر الصحابة والتابعين ما هي؟

لا نعلمها بتفاصيلها، بل الذي نعلمه ومن خلال كلام الإمام الكاظم هو أن الإمام كان لا يرتضي فعلة عمر ويراه مخالفاً للشريعة وأن مثل الأذان عنده مثل منع عمر للمتعتين وغيرها من إحداثاته، وبذلك يكون مفهوم كلام الإمام هو

____________________

(١) مسند أحمد ٤: ٤٣٧ / ح ١٩٩٤٢، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ٢: ٦٠٥ / ح ١٠٣٥، تاريخ دمشق ٤٢: ١٩٧ والمتن منه، البداية والنّهاية ٧: ٣٤٥.

٢٠٦

التأكيد على محبوبية هذا الفعل عنده في الأذان، والحث عليها والدعوة إليها، أي أنَّا نفهم من ذلك شرعيتها ومحبوبيتها عند الأئمّة ومنذ عهد عمر بن الخطاب، أو قل منذ عهد رسول الله والصحابة، لوجود معنى الحيعلة الثالثة معها أينما كانت وفي أي زمان.

وبهذا، فقد عرفنا أن سيرة المتشرّعة كانت على القول بجزئية (حيّ على خير العمل) وأن بعض الصحابة والتابعين حتى عصر الإمام الكاظم المتوفى ١٨٣ هـ كانوا يفسرونها، والإمام حبّذ ذلك وتهجّم على من رفعها ودعا إلى عدم الدعوة إليها.

ومن الطريف أني وحين نقلي لأقوال أهل البيت في بدء الأذان(١) لم أتِ بكلام للإمام الكاظم في ذلك مع إني ذكرت أقوال جميع الأئمّة إلى الإمام الرضا، وأرى فيما أتيت به هنا هو ملئ لفراغ قد يشاهده الباحث في الكتاب الأول من هذه الدراسة(حي على خير العمل، الشرعية والشعارية).

وبهذا فقد أتضّح لك أن للسياسة دوراً في تحريف بعض الأحكام الشرعية واستبدالها بأخرى غيرها، فلا يستبعد أن يكون بعض الرواة تركوا ما جاء في البيان السياقي للحيعلة الثالثة من قبل الأئمة تقية لأنّها هي الأشد من ذكر الحيعلة الثالثة والتي تركها الراوي فيما رواه عن الإمام علي في تفسير ألفاظ الأذان حسبما رواه الصدوق فيالتوحيد ومعاني الأخبار (٢) .

فالرواة فيما يحتمل بقوة حذفوا الحيعلة الثالثة والتي جاءت بياناً سياقياً من بعض الروايات مع شدّة حرصهم وتمسكهم بها لهذا السبب.

وقد جاء في بعض روايات أهل البيت أنّهم قالوا ب (الصلاة خير من النوم)

____________________

(١) والذي مر في كتابنا(حي على خير العمل الشرعية والشعارية) .

(٢) التوحيد: ٢٣٨ / ح ١، باب تفسير حروف الأذان، معاني الأخبار: ٤٠ / ح ١، باب معنى حروف الأذان.

٢٠٧

وحملها الفقهاء والمحدّثون أغلبهم إن لم نقل كلهم على التقية، وبعد هذا فلا يستبعد أن يتركوا روايات الشهادة الثالثة التفسيرية تقية أيضاً.

وقد تمخّض البحث إلى الآن عن أنّ الحيعلة الثالثة ليس لها ظهور في الولاية إلاّ بضميمة نصوص أُخرى دالّة عليها وهي نصوص الاقتران المارة، والنصوص المفسِّرة لها على نحو التفسير السياقي، كلّ هذا يضاف إلى أنّ خُلّص الشيعة في حلب وحمص وبغداد والقاهرة وفي القرون الثلاثة الأُولى الثالث والرابع والخامس بالتحديد كانوا يأتون بالشهادة الثالثة، لأنّ الأئمة قد أجازوا لهم ذلك، مضافاً إلى محكيّة تأذين أبي ذرّ أو سلمان بها في زمان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ مثله في الأحكام مثل الآيات المقروءة مع شأن نزولها في مصاحف الصحابة، وأنّهم كانوا يقرءونها لا اعتقاداً منهم بأنّها من القرآن(١) ، بل لإثبات الحقائق، وكذلك حال الأذان، فالصحابة والتابعون وأمثالهم كانوا يأتون بها لا على نحو الشرّطيّة والجزئيّة، بل يأتون بها أوّلاً لأنّها جملةٌ تفسيريّة مباح الإتيان بها، بل محثوثٌ على الإتيان بها، وثانياً لمحبوبيّتها الذاتيّة ورجحانها النفسيّ، أو لإحقاق حقوق الأئمّة، والوقوف أمام مطامع الحكّام والسلاطين، شريطة أن يأمنوا من مكر السلطان وبطشه.

وقفة عند معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضاعليه‌السلام

أكّدت معتبرة الفضل بن شاذان المرويّة فيعيون أخبار الرضا عن الإمام الرضا بأنّ الأذان دعوة إلى الإيمان لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (... و يكون المؤذّن بذلك داعياً إلى عبادة الخالق، مرغّباً فيها، مقرّاً له بالتوحيد، مجاهراً بالإيمان، معلناً بالإسلام) إلى أن يقول: (لأنّ أوّل الإيمان إنّما هو التوحيد والإقرار لله عزّ وجلّ بالوحدانية، والثاني

____________________

(١) مر عليك بعض تلك القراءات انظر صفحة ١١، ٢٢٦ إلى ٢٢٩.

٢٠٨

الإقرار للرسول بالرسالة، وأنّ طاعتهما ومعرفتهما مقرونتان، ولأنّ أصل الإيمان إنّما هو الشهادة، فجعل الشهادتين في الأذان... فإذا أقرّ [العبد] لله بالوحدانية، وأقرّ للرسول بالرسالة، فقد أقرّ بجملة الإيمان، لأنّ أصل الإيمان إنّما هو الإقرار بالله وبرسوله...)(١) .

وهنا لابدّ من توضيح بسيط لهذه الرواية، فأقول:

من المحتمل قوياً عندي وجود تقديم وتأخير في كلمتي الإسلام والإيمان من قبل الراوي، فتكون العبارة هكذا: (مجاهراً بالإسلام ومعلناً بالإيمان) وهذا ما يؤكّده ذيل الخبر، لأنّ الإقرار بالشهادتين وحسب قول الإمام إقرار بجملة الإيمان لا كُلِّه وتفصيله، وإن كنت لا أنكر أن يراد من (بجملة للإيمان) كليّة الشيء وهو الشهادتان، لكنْ هناك احتمال آخر يجب أخذه بنظر الاعتبار، وهو أنّهعليه‌السلام أراد الإشارة إلى الولاية كذلك، لأنّ الإيمان حقيقته أكبر من الإسلام، فقد يكون الإنسان مسلماً لكنّه ليس بمؤمن، كما نراه في قوله تعالى: ( قَالَتِ الأعراب أمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ ) (٢) فقد يكون الإمام أراد الإشارة إلى هذه الحقيقة بالخصوص.

و يؤكّد قولنا ما قالهعليه‌السلام : (لأنّ أوّل الإيمان هو التوحيد، والإقرار لله بالوحدانية، والثاني الإقرار للرسول بالرسالة) ففي كلامه تلويح إلى وجود حقيقة ثالثة يكمل بها الإيمان، وهي الولاية.

وقد احتمل التقيّ المجلسي هذا الأمر قبلنا في شرحه على(من لا يحضره الفقيه)، إذ قال: و يمكن أن يكون الإيمان إشارة إلى الشهادة بالولاية المفهومة من

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢: ١٠٣ / باب ٣٤ / ح ١، قال الصدوق في آخر باب ٣٥ (ج ٢: ١٢٦) بعد أن روى ثلاثة طرق لما كتبه الرضاعليه‌السلام للمأمون في محض الإسلام وشرائع الدين: وحديث عبد الواحد بن محمد بن عبدوسرضي‌الله‌عنه عندي أصح ولا قوة إلاّ بالله.

(٢) الحجرات: ١٤.

٢٠٩

شهادة الرسالة (مُؤذناً) أي معلناً (لمن ينساها) والمرجع [أي الضمير في ينساها يرجع إلى] المذكورات من قبل، من التوحيد والإيمان والإسلام(١) .

إذن، روح الإيمان هي ولاية الإمام عليّ وإنْ كان أصله ومنبته وأوله وأساسه الإقرار بالله وبرسوله، ولولاهما لما وصلنا إلى الكمال في الدين.

فعن حمران بن أعين أنّه سأل الإمام الباقرعليه‌السلام ، قال: قلت: أرايت من دخل في الإسلام أليس هو داخلاً في الإيمان؟

فقال: لا، ولكنّه قد أضيف إلى الإيمان وخرج من الكفر، وسأضرب لك مثلاً تعقل به فضل الإيمان على الإسلام، أرأيت لو بصرت رجلاً في المسجد أكنت تشهد أنّك رأيته في الكعبة؟

قلت: لا يجوز لي ذلك.

قال: فلو بصرت رجلاً في الكعبة أكنت شاهداً أنّه قد دخل المسجد الحرام؟

قلت: نعم.

قال: وكيف ذلك؟

قلت: إنّه لا يصل إلى دخول الكعبة حتى يدخل المسجد.

فقال: قد أصبت وأحسنت.

ثمّ قال: كذلك الإيمان والإسلام(٢) .

وعن فضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبدالله يقول: إنّ الإيمان يشارك الإسلام ولا يشاركه الإسلامُ، إنّ الإيمان ما وقر في القلوب، والإسلام ما عليه المناكح، والمواريث، وحقن الدماء. والإيمانُ يشركُ الإسلامَ والإسلامُ لا يشركُ الإيمانَ(٣) .

ولو تأمّلت فيما رواه الفضل بن شاذان عن محمد بن أبي عمير أنّه سأل أبا

____________________

(١) روضة المتقين ٢: ٢٦١.

(٢) الكافي ٢: ٢٧ / ح ٥، من الباب نفسه.

(٣) الكافي ٢: ٢٦ / ح ٣، من الباب نفسه.

٢١٠

الحسن الكاظم عن معنى (حيَّ على خير العمل) وقوله: (إنّها الولاية، وإنّ عمر أراد أن لا يكون حثٌّ عليها ودعاء إليها)، وجمعته مع ما جاء عن الإمام الرضا الآنفة، لعرفتَ وجود مفهوم الإمامة والولاية في الأذان في القرن الثاني الهجري.

ومن كلّ ما مرّ يتّضح لك أنّ معنى الولاية موجود في الأذان وهو المصرَّح به من قبل الأئمّة: الباقر، والصادق، والكاظمعليهم‌السلام ، وكذلك الإمام الرضا بقوله: (معلناً بالإيمان) كما قرّرناه آنفاً.

وعليه فالنداء بالحيعلة الثالثة هو نداء المؤمنين المعتقدين بولاية علي أمير المؤمنين، ومن خلاله يمكن أن نقول برجحان الشهادة بالولاية في الأذان بتقريب:

أنّ الإمام الرضاعليه‌السلام من جهة قال: إنّ المؤذن مجاهراً بالإيمان إذا ما دعا إلى الله، والإيمان هو الذي يدور مدار الولاية، بخلاف الإسلام الذي يدور مدار الشهادتين فقط. ومن جهة أخرى فإنّ الإمام الكاظمعليه‌السلام في حسنة ابن أبي عمير حثّ على الولاية من خلال حيّ على خير العمل. ونتيجة ذلك محبوبية المجاهرة بالولاية في الأذان، لكن لا على أنّها جزء فيه وفصل من فصوله، بل لمجرّد الذكر المحبوب الذي يدور مدار الإيمان الذي لا يتحقّق إلاّ بالولاية علاوة على الشهادتين.

ونحن إن شاء الله سنُفصّل قولنا هذا أكثر فأكثر في الفصل الثالث(الشهادة الثالثة شعار وعبادة) والذي سنثبت فيه الترابط المعرفي بين الشهادات الثلاث، وأن في الأذان لفّاً ونشراً مرتَّباً بين الشهادات الثلاث، والحيعلات الثلاث، وهذا يؤكّد كونه تشريعاً سماوياً وليس بمناميّ.

الأذان في زمن الإمام الهاديعليه‌السلام

لقد مشت هذه السيرة السيرةُ الأذانية عند الشيعة حتّى عهد المتوكّل العباسي الذي أراد الازدراء بالإمام الهادي، لكنّه ازدرى بنفسه وبأسياده القرشيين والأمويين حينما ذكّره الإمامعليه‌السلام مفتخراً على الجميع بأنّ الجوامع والمساجد تأتي

٢١١

باسم جده أحمد وأبنائه المطهَّرين، وهو فضلٌ اختصّهم الله به، يشهد بذلك كلّ مسلم في أذانه، وإن كانوا أهل البيت سكوتاً مطاردين من قبل الحكّام.

فقد جاء فيأمالي الطوسي : أنّ الإمام علياً الهاديعليه‌السلام دخل يوماً على المتوكّل، فقال له المتوكل: يا أبا الحسن، مَن أشعر الناس؟ وكان قد سأل قبله عليّ بن الجهم، فذكر شعراء الجاهلية وشعراء الإسلام، فلمّا سأل الإمامَ أجابهعليه‌السلام : عليّ الحماني؛ حيث يقول:

لقد فاخَرَتْنا من قريش عصابةٌ

بمطّ خُدود وامتدادِ أصابعِ

فلمّا تَنازَعنا القضاءَ قضى لنا

عليهم بما نهوى نداءُ الصَّوامعِ

قال المتوكّل: وما نداء الصوامع يا أبا الحسن؟ [كي يقف على مقصود الشاعر من نداء الصوامع، هل هي الجمل التفسيرية في عليّ أم شي آخر، إذ لا يعقل أن لا يعرف المتوكّل معنى الصوامع حتى يسأل الإمام عنها]؟

قال: (أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله) جدّي أم جدّك؟ فضحك المتوكّل ثمّ قال: هو جدّك لا ندفعك عنه(١) . وقد أفصح الحمّاني عن ذلك بتتمة البيتين فقال:

تَرانا سُكوتاً والشهيدُ بفضلِنا

تَراهُ جَهيرَ الصوتِ في كلِّ جامعِ

بأنّ رسولَ اللهِ أحمدَ جدُّنا

ونحن بَنُوهُ كالنجومِ الطَّوالعِ(٢)

قال ابن إسفنديار فيتاريخ طبرستان عن المتوكّل: وإنّه كان مولعاً بقتل آل الرسول، كما كان المترفون مولعين بالعبيد والملاهي.

وقد جاء فيتاريخ بغداد في ترجمة (الحسن بن عثمان الزيادي) أنّ المتوكّل وجّه من سامراء بسياط جدد، وأمر بضرب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٢٨٧ / ح ٥٥٧.

(٢) اُنظر: ديوان عليّ الحمّاني ٨١، ومناقب ابن شهرآشوب ٣: ٥١٠ وفيه: (عليهم) بدل: (تراه).

٢١٢

 صاحب خان عاصم ألف سوط، لأنّه شهد عليه الشاهدون أنّه يشتم أبا بكر وعمر ويقذف عائشة، فضرب بالسياط وترك في الشمس حتى مات، ثم رُمي به في دجلة(١) .

وفيمعالم العلماء في ترجمة علي بن محمد بن عمار البرقي، وهو من شعراء أهل البيت المجاهرين، قال: حرقوا ديوانه وقطعوا لسانه(٢) .

فإذا كان المتوكّل يقطع لسان شاعر ينشد في فضل علي، أو يضرب ألف سوط لشتم أبي بكر وعمر، و يهدم قبر الحسين، فهل من المعقول أن يسمح في الإجهار بولاية علي من على المآذن؟ الجواب: لا وألف لا، فالكلّ تراهم سكوتاً، لكنّ الشهادة بفضلهم كناية أو تصريحاً من الأوّليات في كلّ جامع.

والمتأمل في تاريخ الشيعة يقف على شدّة الخوف الذي كان يحيط بهم، فكانوا يخافون حتّى من أصدقائهم، وقد نقل ياقوت الحموي في ترجمة عمر بن إبراهيم ( المتوفّى ٥٣٩ هـ ) وهو من أحفاد الإمام زيد الشهيد أنّه لم يُطْلِعِ السمعاني الحنفيّ المذهب على الجزء المصحّح بالأذان بحيّ على خير العمل، وأخذه منه وقال له: هذا لا يصلح لك، له طالب غيرك(٣) ، ثمّ عَلَّلَ سرّ وجود مثل هذه الكتب والأجزاء مصحّحة عنده بأنّه ينبغي للعالم أن يكون عنده، كلّ شيء، فإنّ لكلّ نوع طالباً.

كلّ ذلك لأنّ الفقه الحاكم آنذاك كان فقه أبي حنيفة وأن السمعاني كان منهم، وعمر بن إبراهيم وغيره من الطالبيين كانوا يخافون بطش السلطان.

ومثله كلام إبراهيم بن عبدالله بن الحسن المار ذكره في الدراسة السابقة عن

____________________

(١) انظر تاريخ بغداد ٧: ٣٥٧، تاريخ دمشق ١٣: ١٣٥، المنتظم ١١: ٢٨٣.

(٢) معالم العلماء: ١٨٢، وأعيان الشيعة ٨: ٣٢٨.

(٣) معجم الأدباء ٤: ٤٢٨، تاريخ الإسلام للذهبي ٣٦: ٥١٦، ذيل تاريخ بغداد لابن النجار ٥: ١٠.

٢١٣

(حيَّ على خير العمل) وأنّه كان يأمر أصحابه إذا كانوا بالبادية أن يزيدوا في الأذان (حيَّ على خير العمل)(١) .

ولمّا سئل أحمد بن عيسى عن التأذين بحيّ على خير العمل، قال: نعم، ولكن أخفيها(٢) .

فلو كانت التقية تجري مع إظهار (حي على خير العمل) الحاملة لمعنى الولاية كناية، فكيف بإظهار الشهادة الثالثة علناً وجهاراً؟! بل كيف يعقل أن يأمر الله ورسوله بالشهادة الثالثة في الأذان، وهما يعلمان بانقلاب الأمّة بعد رسول الله؟!

إنّ الإمام عليّاً وشيعته قد اضطهدوا في جميع العصور، بدءاً بغصب الخلافة بعد رسول الله، ومروراً بسبّ الإمام علي من على المنابر في عهد معاوية، وسم الحسن، وأن لا صلاة إلاّ بلعن أبي تراب(٣) ، وانتهاءً بلا نهائية الظلم والجور.

وقد أمر معاوية بحرمان من عرف منه موالاة عليّ من العطاء وإسقاطه من الديوان والتنكيل به، وهدم داره، وأن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي الشهادة(٤) ، والإمامُ الحسين في رسالته إلى معاوية ذكّره ببعض تعليماته لزياد وأنّه أمره بتسميل العيون، وقطع الأيدي والأرجل، وتعليق الناس على النخيل، وقتل من

____________________

(١) الأذان بحي على خير العمل للحافظ العلوي بتحقيق عزان: ١٤٧ ح ١٨٦.

(٢) الأذان بحي على خير العمل بتحقيق عزان: ١٥٠ ح ١٩٠، وأخرجه محمد بن منصور في الأمالي لابن عيسى ١: ١٩٤ رقم ٢٣٧.

(٣) شرح نهج البلاغة ٧: ١٢٢، وانظر تاريخ دمشق ١١: ٢٩١، وكتاب أخبار وحكايات للغساني: ٥٢، حيث ذكروا أن في عهد هشام بن عبد الملك كانت مجالس الذكر لبعض الشاميين تختم بلعن علي بن أبي طالبعليه‌السلام تقرباً إلى الله !

(١) انظر شرح نهج البلاغة ١١: ٤٤، والاحتجاج للطبرسي ٢: ١٧، عن كتاب سليم بن قيس: ٣١٨.

٢١٤

كان على دين علي...(١) .

وقد خاطب السائب بن مالك الأشعري من قادة جيش المختار أهل الكوفة بقوله: ويحكم يا شيعة آل رسول الله، إنّكم قد كنتم تُقْتَلُون قبل اليوم، وتقطع أيديكم وأرجلكم من خلاف، وتُسمل أعينكم، وتصلبون أحياءً على جذوع النخل، وأنتم إذ ذاك في منازلكم لا تقاتلون أحداً، فما ظنّكم اليوم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم(٢) ...

وأبشع من كلّ ذلك قتل الحسين، وسبي النساء مع علي بن الحسين، وقد وضّح الإمام الباقر بعض ما جرى على الشيعة في كلام له لبعض أصحابه، حيث قالعليه‌السلام : ما لقينا من ظلم قريش إيّانا وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر من معدنه... إلى أن قال: ثمّ لم نزل نُستَذَلُّ ونُستضامُ ونُقصى ونُمتهن ونُحرم ونُقتل ونخاف، ولا نأمن على دمائنا... إلخ(٣) .

قال دعبل الخزاعي:

إنّ اليهودَ بحبّها لنبيِّها

أمنت بوائِقَ دهرها الخوَّانِ

وكذا النصارى حُبَّهَم لنبيِّهم

يمشونَ زهواً في قرى نجرانِ

والمسلمونَ بِحُبِّ آلِ نبيِّهم

يُرْمَونَ في الآفاق بالنيرانِ(٤)

____________________

(١) انظر أنساب الأشراف ٥: ١٢٨، والإمامة والسياسة: ١٥٦.

(٢) الفتوح ٦: ٢٣٧.

(٣) شرح نهج البلاغة ١١: ٤٣ - ٤٤.

(٤) انظر ديوان دعبل الخزاعي: ١٧٣، وروضة الواعظين: ٢٥١.

٢١٥

هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ بني أميّة وكما قلنا سعوا لتحريف أمور كثيرة في الأذان، وقد وقفت على بعضها، وكان الطالبيون لا يستطيعون الجهر بالحيعلة الثالثة من على المآذن في عهدهم، فكيف بالشهادة الثالثة؟!

لذلك اكتفوا عند عدم المانع أيضاً بالإجهار ب (حيّ على خير العمل) الحاملة لمعنى الولاية، وفي حالات خاصّة كانت تفتح بجمل دالّة عليها؛ إن أمنوا من مكر السلطان، أو إذا أرادوا إظهار فضل آل البيت، أو التصريح بموقفهم السياسي والعقائدي في الخلافة.

ف (حيّ على خير العمل) و (محمد وعليّ خير البشر) و (محمد وآل محمد خير البرية) وأمثالها كانت شعارات دالة على الاعتقاد بولاية عليّ وأهل البيت، يستعينون بها في الأذان وغيره لإظهار أحقيّة(٢) وفضل علي وأولاده المعصومين فإنّهم كانوا يقولون بها، لأنّهم قد وقفوا على شرعيّتها من قبل أئمتهم.

إنّ الحيعلة الثالثة كانت تقال على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد فُتح مدلولها بالفعل من قبل بعض الصحابة، لكنّ فتحها لم يكن حالة سائدة وشعاراً لكل الشيعة في جميع الأصقاع، بل كان يقولها بعض الخُلّص من الصحابة العارفين بمكانة أهل البيت التي أنزلهم الله فيها.

و إنّ الإمام الكاظم بقوله آنف الذكر أراد الإشارة إلى هذه الحقيقة الشرعية التأريخية، وأنّ هذا العمل هو ممّا كان يعمل عليه في العصر الأوّل، لكنّ عمر لم يرتضِ شيوع هذه الثقافة عند المسلمين، فجدّ لحذفها؛ بدعوى أنّ الناس سيتركون الجهاد تعويلاً على الصلاة.

إنّ قول (حيّ على خير العمل) وكما قلنا بظاهره لا يفهم منه الدعوة إلى

____________________

(١) كما في التأذين ب (حيّ على خير العمل) في ثورة صاحب فخ.

 

٢١٦

الولاية، إلاّ إذا فُسّر ووضّح من قبل الصحابة والتابعين بجمل ولائية، وقد أكّدنا مراراً على أنّ الإمام الكاظم فسّرها بالولاية ودعا إلى الحث عليها، وقد جيء بها وبتفسيرها معها في عصر الغيبة الصغرى وقبل ولادة الشيخ الصدوق في حلب. أمّا اعتقاد الصدوق بوضع المفوضة لها فلا يوافقه عليه السيّد المرتضى والشيخ الطوسي حسبما سنوضّحه لاحقاً، بل أفتيا بعدم الإثم في الإتيان بها، وقالا بورود أخبار شاذّة عليها، وهذا يؤكّد عدم قبولهما دعوى الوضع من قبل المفوّضة لتلك الأخبار، بل يرون لتلك الأخبار الحجيّة الاقتضائية لا الفعلية.

وعليه فالشيعة وعبر التاريخ وبحسب الأدلة الواصلة إليها كانوا يأتون بها لا على نحو الشطرية والجزئية، بل على نحو التفسيريّة والمحبوبية الذاتية، والذكر المطلق، ولأجل هذا لم يمنعهم أو ينهاهم النبي، والأئمة من ذريته، بل حبذّوا ذلك؛ إذ كان فيه بقاءُ الحقّ وشيوع مذهبهم، حتى صار اليوم شعاراً لهم.

وبهذا فقد اتّضح لنا أنّ للحيعلة معنى كنائياً، قد عرفه بعض الصحابة والتابعين، فمنهم من دعا إليها، والآخر عارضها، فترى أمثال: أبي ذر، وسلمان، كانا يدعوان إليها وإلى الشهادة الثالثة كما في المحكيّ عن كتابالسلافة أما عمر بن الخطاب وأتباعه، فكانوا ينهون عنها، ولا يريدون حثّاً عليها ودعوة إليها.

وكذا الحال في العصور التي تلت عهد عمر وعثمان، فالإمام علي كان يُشيد بهذا الموقف الصحيح من مؤذنه ابن النباح، و يقول: أهلاً بالقائل عدلاً(١) .

وقد مرَّ عليك موقف الإمامين الحسن والحسين، وأخيهما محمد بن الحنفية ومعارضتهم لفكرة الأمويين في بدء الأذان.

وكذا قول الإمام علي بن الحسين عن الحيعلة الثالثة أنّها كانت في الأذان الأول.

____________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١: ٢٨٨ / ح ٨٩٠، وسائل الشيعة ٥: ٤١٨ / ح ٦٩٧٣.

٢١٧

وفي شعر خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان إشارة إلى من كان يرفع الآل مع ذكر الرسول بعد واقعة الطف إذ قال:

نقمت عليّ بنو أمية أنّني

أبغي النجاة وللنّجاةِ أريدُ

أهوى عليّاً والحسينَ وصنوه

عهدي بذلك مبدئٌ ومعيدُ

لو أنّني يوم الحسين شهدته

لنصرته ربِّي بذاك شهيدُ

يا ليت لم يكُ لي معاويةٌ أباً

في العالمين ولا الشقيُّ يزيدُ

والله يُخرجُ من خبيث طَيِّباً

جاء القُران بذاك وهو وَكيدُ

يا هاشمُ، المبعوثُ فينا أحمدٌ

إنّ المطيفَ ببعضكم لسعيدُ

في كلّ يوم خمسة مفروضة

يعلو الأذان بذكركم و يشيدُ

ولكم مساكنه وأهل جواره

ومرافقوه وحوضه المورودُ

و إذا تشاء سقيتم من شئتُمُ

وعدوّكم عن ورده مردود(١)

إنّ حكاية الإمام الباقر للإسراء والمعراج وتشريع الأذان فيه بما فيه الحيعلة الثالثة(٢) وما قاله الإمام الصادق عن القوم وأنّهم غيروا اسم الإمام علي الموجود على ساق العرش إلى أبي بكر، إلى غيرها من الحقائق التي اتضحت لنا، وسنقف على المزيد منها لاحقاً، كُلّها حجج مؤيّدة لما قلناه.

وها هو الآن أمامك كلام الإمام الكاظم، وقد جاء ظاهراً صريحاً وامتداداً للسيرة والشرع، مذّكراًعليه‌السلام ومنوهاً إلى أنّ معنى الحيعلة الثالثة هو بيان ل (محمد وعلي خير البشر) و(أشهد أن علياً ولي الله) و(محمد وآل محمد خير البرية) لا غير، وأنّ القوم لا يريدون الإشادة بذكر علي وأولاده المعصومين.

ومفهوم كلامهعليه‌السلام : (أنّ عمر أراد أن لا يكون حثٌّ لها ودعاء إليها) أي إلى

____________________

(١) العقد النضيد والدر الفريد، لمحمد بن حسن القمي: ١٦٣ - ١٦٤.

(٢) وسائل الشيعة ٥: ٤١٤ / ح ٦٩٦٤.

٢١٨

 الولاية، يعني أنّ الإمامعليه‌السلام يجيز هذا الأمر ويدعو إليه، قال بهذا الكلام وهو قابع في سجون الرشيد، كلّ ذلك للإشادة بالحقّ والحقيقة الضائعة بين ثنايا الأمة. كان هذا عرضاً سريعاً لسيرة الشارع في الشهادة بالولاية، وكذا لموقف المتشرّعة فيها إلى عهد الكاظمعليه‌السلام ، وتراه واضحاً صريحاً ليس فيه غموض.

نعم كان هذا الأمر بين الشدّة والفتور في عهد الإمام الرضا وأبنائه المعصومين حتى غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف) في سنة ٢٥٥ هـ، ومن الطريف أنّ البعض يطالبنا لإثبات الشهادة الثالثة بالأخبار المتواترة فيه، وهو الواقف على مجريات الأحداث بعد رسول الله وما لاقى الشيعة من الظلم والاضطهاد لحبهم الإمام عليعليه‌السلام ، فكيف يمكن الجهر بالولاية لعلي بن أبي طالب وبنو أمية راحت تلعنه على المنابر قُرابة قرن؟

بل كيف يمكن تناقل تلك الروايات الداعية إلى الشهادة الثالثة، وأنت ترى الرواة لا يمكنهم أن يحدّثوا عن علي إلاّ بالتكنية: قال الحسن البصري: لو أردنا أن نروي عن علي لقلنا: قال أبو زينب؟

بل هل فكّر أولئك بالتضحيات التي قدمها رجالنا حتى وصلت إلينا تلك الأخبار الشاذة على لسان الطوسي والحليّين؟

وعليه فالحيعلة الثالثة شرعت على عهد الرسول، وأذّن بها على عهد علي والصحابة، وأن الإمام علي كان يشجّع القائل بالحيعلة، وروى عن الإمام السجاد أنه قال: إنّها كانت في الأذان الأول، وأخبر الباقر والصادق أنّها كانت في الإسراء والمعراج وقالا بأن معناها هو الولاية، وجاء عن الإمام الكاظم جواز فتح معناها معها، والإمام الرضا أشار إلى وجود معنى الولاية في الأذان وأخيراً الكلام عن وجود معنى الولاية في أذان الشيعة على عهد الإمام الهادي.

وإليك الآن نصين يمكن الاستشهاد بهما في زمن الغيبة الصغرى:

____________________

(١) وسائل الشيعة ٥: ٤١٤ / ح ٦٩٦٤.

٢١٩

نصّان في الغيبة الصغرى

قال ابن إسفنديار الكاتب المتوفّى ٦١٣ هـ، في كتابه(تاريخ طبرستان): استقرّ الداعي الكبير [وهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل] بن زيد في آمل [سنة ٢٥٠ ه]، وأعلن في أطراف طبرستان وگيلان والديلم أنّه: قد رأينا العمل بكتاب الله وسنّة رسوله، وما صحَّ عن أمير المؤمنين، و إلحاق (حيّ على خير العمل)، والجهر بالبسملة، والتكبير خمساً على الميّت، ومن خالف فليس منّا(١) .

وجاء في كتاببغية الطلب في أخبار حلب لابن العديم المتوفّى ٦٦٠ هـ: (... عن أبي بكر الصولي أنّه لمّا جلس أحمد بن عبدالله(٢) على سدة الحكم سار إلى حمص ودُعِيَ له بها وبكورها، وأمرهم أن يصلّوا الجمعة أربع ركعات، وأن يخطبوا بعد الظهر ويكون في أذانهم: أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أنّ عليّاً وليّ المؤمنين، حيّ على خير العمل)(٣) .

وهذان النصان هما قبل ولادة الشيخ الصدوق يقيناً، وترى الشيعة يؤذّنون بهذا الأذان، لأنّ له مخرجاً شرعياً عندهم، لكن لم يصبح بعد شعاراً سائداً عندهم، وذلك لما كانوا يلاقونه من جور وتعسّف من قبل الحكّام العباسيّين وقبلهم الأمويين، فلا يمكنهم التصريح به إلاّ إذا سيطروا على مكان وأمنوا من مكر السلطان.

ومجمل القول: إنّ الشيعة فيما أعتقد كانت ترى، فيما ترى، رجحان الإتيان

____________________

(١) تاريخ طبرستان لابن إسفنديار الكاتب: ٢٣٩، وعنه في تاريخ طبرستان للمرعشي المتوفى ٨٨١ هـ.

(٢) وهو الخارج بالشام في أيّام المكتفي بالله، وكان ينتمي إلى الطالبيين، وهو المعروف بصاحب الخال، والذي قتل بالدكّة في سنة إحدى وتسعين ومئتين [٢٩١ ه].

(٣) بغية الطلب ٢: ٩٤٤.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

٥١

غزوة الطائف

« الطائف » من مصايف الحجاز ومن المناطق الخصبة ، الكثيرة الزرع فيها ، وتقع الطائف في الجنوب الشرقي من مكة على بعد (١٢) فرسخا منها ، وقد كانت ولا تزال بسبب مناخها اللطيف ، وبساتينها المثمرة ، ونخيلها الكثيرة مقصدا بل مركزا وموطنا لطلاب اللذة والراحة من أهل الحجاز.

وقد كانت قبيلة ثقيف التي كانت تعدّ من القبائل العربية القوية الكثيرة العدد تسكن في هذا البلد.

وكانت أعراب ثقيف من الذين شاركوا في معركة « حنين » ضدّ الاسلام والمسلمين ، ثم لجئوا بعد الهزيمة المنكرة التي لحقت بهم على أيدي جنود الاسلام الظافرين إلى بلدهم الذي كان لهم آنذاك فيه حصن قويّ ومنيع.

ولتكميل الانتصار الاسلامي أمر الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بملاحقة الهاربين المنهزمين في معركة حنين.

من هنا كلّفصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا عامر الأشعري وأبا موسى الأشعري وفريقا من جنود الاسلام بملاحقة من لجأ منهم إلى « أوطاس » فقتل القائد الأوّل في هذه الواقعة ، واستطاع الثاني أن يحرز انتصارا كبيرا على العدو ويفرق جمعه(١) .

وأما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه فقد توجه بالبقية من جيشه الى

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ٩١٥ و ٩١٦.

٥٢١

الطائف(١) ، ومرّ في طريقه على حصن مالك بن عوف النصرى مثير فتنة « حنين » ورأس المؤامرة ، فهدمه وسوّاه بالأرض.

على أن تهديم حصن « مالك » لم يكن بدافع انتقاميّ بل كان لأجل ان لا يترك وراءه نقطة اعتماد وملجأ للعدوّ.

تحركت أعمدة الجيش الاسلامي الواحدة تلو الاخرى ، واستقرت حول مدينة الطائف.

كان حصن الطائف حصنا منيعا ، مرتفع الجدران ، قوي البنيان ، فيه أبراج للمراقبة مسيطرة على خارج الحصن سيطرة كاملة.

ومنذ أن استقرّ الجيش الاسلامي خارج الطائف بدأ حصاره لها ، غير أنّ الحصار لم يتكامل بعد حتى عمد العدو إلى رمي المسلمين للحيلولة دون تقدّمهم نحو المواقع المرسومة لها ، فقتل بهذا جماعة من المسلمين في بداية هذه الواقعة.

فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجيش بالانسحاب والتراجع التكتيكي الى نقطة بعيدة عند مرمى العدوّ ، والتمركز فيها ريثما تصدر الاوامر الجديدة

وهنا اقترح « سلمان الفارسي » الذي سبق له أن اقترح حفر الخندق في معركة الاحزاب ، وكان ذا خبرة بفنون القتال ، اقترح على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يرمي الحصن بالمنجنيق(٢) ، وكان هذا الجهاز الذي كان يستخدم في حروب تلك الأعصر يؤدى نفس دور الدبابة في الحروب الراهنة.

فقام امراء الجيش الاسلامي بنصب المنجنيق بارشاد وتوجيه من سلمان ، وأخذوا يرمون الحصن المذكور وأبراجها الشاهقة بالحجارة طوال عشرين يوما متوالية.

ولكن العدوّ لم يسكت تجاه هذه العمليات القوية التي بدأها المسلمون ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٦٣.

(٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤١٧.

٥٢٢

فزاد من رميه واستمر في ذلك ، فوقعت بين المسلمين بعض الاصابات نتيجة ذلك(١) .

والآن يجب أن نرى كيف حصل المسلمون على جهاز المنجنيق ، هذا؟

يرى البعض أن سلمانا هو الذي صنع هذا الجهاز وعلّم المسلمين كيفية استخدامه في هذه الغزوة(٢) .

ويرى آخرون ان المسلمين حصلوا على هذا الجهاز وغنموه من اليهود في خيبر عند فتح قلاعهم وحصونهم واصطحبوه معهم إلى الطائف واستخدموه في غزوها.

ولا يبعد أن الصحابي الجليل سلمان الفارسي قد ادخل بعض التحسينات على ذلك الذي جلبه المسلمون من خيبر ، وعلّم المسلمين كيفية نصبه واستخدامه في القتال ، فانه يستفاد من التاريخ أن المنجنيق لم يكن منحصرا في المنجنيق الذي حصل عليه من يهود خيبر ، لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث الطفيل بن عمرو الدوسي لتحطيم أصنام لقبيلة « دوس » في وقت متزامن مع خروجه الى معركة حنين ثم الطائف فعاد الطفل فاتحا مع من خرجوا تحت إمرته من جنود الاسلام الاربعمائة ، وكانوا برمتهم من أبناء قبيلته ، فقد قدم الطائف على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عدد واحد من جهاز المنجنيق وعربتين حربيتين خاصتين ، وقد استخدمت هذه الآليات في غزوة الطائف.

شدخ جدار الحصن بالمنجنيق :

كان لا بدّ لاخضاع العدو ودفعه إلى الاستسلام من القيام بحملات واسعة ومن مختلف الاطراف والنواحي ، ولهذا تقرر أن يقوم جنود الاسلام ، مضافا إلى

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٥٨.

(٢) السيرة النبوية : ج ٤ ص ١٢٦ ، وابن هشام يرى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو اول من أستخدم المنجنيق في الجزيرة العربية.

٥٢٣

رمي الحصن بالمنجنيق ، إيجاد ثغرة في الجدار واجه مشكلة كبرى ، لأن السهام والاحجار ، والنيران كانت تنصبّ على رءوس المقاتلين المسلمين كالمطر ، ولم يكن في مقدور أحد منهم الاقتراب والدنوّ من جدار الحصن ، فكان أفضل وسيلة لتحقيق هذا الهدف هو استخدام الدبابة التي كانت في جيوش العالم الكبرى في تلك العصور في صورتها البدائية.

وكانت الدبابة آنذاك تصنع من الخشب وتغطى بجلود البقر ، ويدخل تحتها جماعة من الجنود الاقوياء ثم تتحرك نحو الحصن حتى تدنو إليه ، ويقوم الجنود بعملية إيجاد ثغرة او نقب في جدار الحصن ، فاستخدم نفر من جنود الاسلام الشجعان الاشداء هذا الجهاز بالطريقة المذكورة ، بيد أن العدو قد حال دون هذا العمل إذ ألقى على الدبابة سكك الحديد المحماة بالنار فاخرب سقفها ، واضطرّ أفرادها الى الخروج منها ، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلت منهم رجلا واحدا ولم ينتج هذه التكتيك القتالي ، ولم يتحقق أي نجاح في هذا المجال ، فانصرف المسلمون عن استخدامه(١) .

ضغوط اقتصادية ونفسية :

إن تحقيق الانتصار لا ينحصر في مجرد استخدام الطرق والتكتيكات العسكرية ، بل للقائد الحكيم أن يستخدم ـ لاضعاف قوة العدو وكسر صموده ـ الضربات والضغوط الاقتصادية ويجبره على الاستسلام.

وقد تكون الضربة النفسية والاقتصادية اقوى مفعولا بدرجات أى إن أثرها تفوق بمراتب عديدة أثر الضربة العسكرية ، والإضرار البدني الذي يلحق بجنود العدو وأفراده.

ولقد كانت أرض الطائف أرض زراعة ، ونخيل وأعناب ، وكانت معروفة

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ٩٢٨.

٥٢٤

في الحجاز بخصبها ، وكثرة محاصيلها وخيراتها ، لأن أهلها كانوا يجهدون كثيرا في تنمية نخيلهم وأعنابهم ورعايتها ، ويولون الحفاظ عليها اهتماما كبيرا ، ويعطون هذا الأمر القسط الاكبر من جهودهم.

فأعلن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتهديد المتمردين اللاجئين إلى الحصن ، والمعتصمين به ، بأنه سيعمد إلى قطع أعناب ثقيف ، وإفناء مزارعها إذا واصل المعتصمون بالحصن مقاومتهم ولم يسلموا للمسلمين.

فلم يكترث العدو بهذا التهديد لأنه لم يك يتصور أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو النبي الذي عرف برحمته ورافته ـ يستخدم مثل هذه الطريقة.

وفجأة وجدت « ثقيف » أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصدر أوامره بقطع الأعناب ، واتلاف المزارع وتحريقها ، فوقع المسلمون فيها يقطعون ويحرقون.

فعجّت « ثقيف » لذلك وضجّت ، واستغاثت برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقسمت عليه بالرحم والقرابة أن يكف عن ذلك ، فتركها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احتراما لوشيجة القربى التي كانت بينه وبين « ثقيف ».

ان المعتصمين بحصن الطائف وان كانوا من مثيرى معركة حنين والطائف ، وتانك الغزوتان اللتان كلّفتا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكثير من الخسائر والمتاعب غير أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل مع ذلك التماس العدو وطلبه هذا ، فابدى وللمرة الاخرى وجه الاسلام الرحيم وكشف عن إنسانيته في التعامل مع العدوّ اللدود في ميدان القتال ، وأمر أصحابه بالكف عن قطع الاعناب وتحريقها.

ثم إن مع ما نعرفه ونعهده من أخلاق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأساليبه الانسانية في مجال التعامل مع العدوّ ، يمكننا أن ندرك بسرعة أن الامر بقطع الاعناب وتحريق المزارع كان مجرد تهديد ومحاولة ضغط على العدو بحيث إذا لم تنجح هذه الطريقة معه لكفّ عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتما.

٥٢٥

آخر محاولة لفتح حصن الطائف :

كانت قبيلة « ثقيف » جماعة ثريّة ، وذات مال كثير ، وعبيد وإماء كثيرين ، ولكي يحصل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على معلومات دقيقة عن الاوضاع في داخل الحصن ، ويعرف بالتالي حجم امكانات العدو ومدى استعداداته من جهة ، ويوجد الاختلاف في صفوفه من جهة اخرى أمر أن يعلن عن القرار التالي : وينادى : أي عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ.

ونفعت هذه الطريقة إلى حدّ ما ، فقد خرج من الحصن بطريقة ماهرة حوالي بضعة عشر رجلا من عبيد ثقيف ورقيقهم ، والتحقوا بصفوف المسلمين فعرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال التحقيق معهم أنّ المعتصمين بالحصن لا ينوون الاستسلام ، وأنهم مستعدون للمقاومة حتى لو طال الحصار عاما واحدا ، فإنهم قد أعدّوا لمثل هذا الحصار الطويل الطعام الكافي ، ولن يقعوا في أزمة بسبب طول الحصار.

جيش الاسلام يعود الى المدينة :

استخدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الغزوة جميع الاساليب والتكتيكات العسكرية المادية والنفسيّة ضدّ العدوّ ، وقد اثبتت التجربة أن فتح الحصن يحتاج إلى مزيد من الصبر والعمل على حين لم تكن ظروف الجيش الاسلامي وامكاناته ـ يومذاك ـ لتسمح بذلك القدر من الصبر والترقب ، والانتظار والتوقف ، اكثر ممّا توقف ومكث في تلك المنطقة وذلك :

أولا : لأنه قتل في اثناء هذه المحاصرة (١٣) مسلما سبعة منهم من قريش ، وأربعة من الانصار ، ورجل واحد من قبيلة اخرى.

هذا مضافا إلى من استشهد من المسلمين في وادي « حنين » إثر هجوم العدوّ الغادر ، وانفراط صفوف الجيش الاسلامي ، والذين لم يذكر التاريخ مع

٥٢٦

الأسف أسماءهم ، وخصوصياتهم ، ولهذا كان قد دبّ نوع من التعب في نفوس جنود الإسلام لم يكن من الصالح تجاهله.

وثانيا : أن شهر شوال قد انتهى ، وبدأ شهر ذي القعدة الذي كان معدودا عند العرب من الاشهر الحرم وقد أيّد الاسلام فيما بعد هذه السنّة ، وأكّد حرمة الاشهر الحرم.

من هنا كان من الضروري ـ حفاظا على هذه السنّة ـ(١) إنهاء الحصار في أقرب وقت لكي لا تتّهم عرب ثقيف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمخالفة السنّة الصالحة وخرقها.

أضف إلى ذلك دنوّ حلول موسم الحج ، مع العلم بأن إدارة ذلك الموسم ومناسكه كانت في ذلك العام للمسلمين ، بعد أن كانت ـ قبل ذلك ـ تدار بواسطة المشركين وبرعايتهم.

ولا شك أن موسم الحج الذي كان سببا لحصول اجتماع بشريّ عظيم من سكان الجزيرة العربية كان يوفّر اكبر وافضل فرصة لتبليغ الاسلام ، وبيان حقيقة التوحيد ، وكان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يستغل هذه الفرصة العظيمة التي اتيحت له لأوّل مرة ، في مجال الدعوة ، ويستفيد منها اكثر قدر ممكن ويولي اهتمامه لقضايا اخرى اكثر أهميّة وخطورة من فتح حصن واقع في منطقة نائية.

مع أخذ هذه الظروف بنظر الاعتبار ترك الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حصار الطائف وعاد بجيشه إلى الجعرّانة التي جعلها محلا لحفظ أسرى حنين وغنائمها.

__________________

(١) ويدلّ على هذا الأمر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك مكة متوجها إلى الطائف في الخامس من شهر شوال واستغرقت مدة الحصار عشرين يوما ، وصرفت بقيّة الايام ( وهي خمسة ) في المسير إلى حنين ، وفي المعركة.

وقولنا بأن الحصار طال عشرين يوما يستند إلى رواية نقلها ابن هشام ، إلاّ أن ابن سعد ذكر مدة الحصار أربعين يوما ( الطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٥٨ ).

٥٢٧

حوادث ما بعد الحرب :

انتهت حوادث معركة « حنين » و « الطائف » وعاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون تحقيق نتيجة قطعية الى « الجعرانه » لتقسيم غنائم معركة « حنين ».

والغنائم التي حصل عليها المسلمون في معركة « حنين » كانت من اكبر الغنائم التي غنموها طوال المعارك الاسلامية كلّها ، لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم قدم « الجعرّانة » كان هناك ستة آلاف أسير و (٢٤) ألف من الإبل واكثر من (٤٠) ألف رأس غنم و (٨٥٢) كيلو غرام من الفضة يحافظ عليها في مركز الغنائم(١) وكان من الممكن أن تسدّد القيادة من هذه الغنائم قسما كبيرا من ميزانية الجيش الاسلامي.

لقد مكث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في « الجعرّانة » ثلاثة عشر يوما ، وفي هذه المدة قسّم تلك الغنائم بطريقة خاصة ملفتة للنظر وجديرة بالتأمل والدراسة.

فقد خلّى سبيل بعض الأسرى ، وتركهم لذوبهم ، وخطّط لاخضاع ( او بالاحرى إسلام ) مالك بن عوف النصري مثير معركة حنين والطائف الهارب ، كما أظهر تقديره وشكره لمواقف الاشخاص في هاتين الغزوتين وخدماتهم ، وجذب بسياسته الحكيمة افئدة أعداء الاسلام ، ورغّبها في عقيدة التوحيد الشريفة ، وأنهى نقاشا حدث بينه وبين جماعة الأنصار حول طريقة تقسيم الغنائم بخطبة جميلة.

وإليك تفصيل الكلام في المواضيع المذكورة :

١ ـ لقد دأب رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على احترام حقوق الأفراد ، وتثمين جهودهم مهما ضؤلت ودقّت ، وعلى أن لا يبخس أحدا عمله ، فإذا أحسن

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٥٢.

٥٢٨

إليه أحد قابل إحسانه بما يزيد عليه أضعافا مضاعفة. وكان ذلك من أبرز صفاته وأخلاقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقد رضع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترعرع في قبيلة بني سعد التي هي من قبائل هوازن ، وقد ارضعته امرأة من هذه القبيلة تدعى « حليمة السعدية » ، وقد بقي في تلك القبيلة خمسة أعوام.

وقد شاركت قبيلة بني سعد في معركة حنين ضدّ الاسلام فسبيت بعض نسائهم وأطفالهم على أيدي المسلمين ، كما وقعت بعض أموالهم بأيديهم أيضا ، وقد ندمت على فعلها ندما شديدا.

وقد كانوا يعلمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نشأ وترعرع فيهم ، ورضع بلبن نسائهم هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى كانوا يعرفون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملء قلبه الرحمة والمروءة ومعرفة الجميل ، فاذا سنح لهم أن يذكّروه بذلك لأطلق أسراهم حتما.

فقدم أربعة عشر رجلا من رؤسائهم الذين كانوا قد أسلموا جميعا « الجعرانة » على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أمّروا على أنفسهم شخصيتين من رجالهم أحدهما هو « زهير بن صرد » والآخر عم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرضاعة ، فقالوا : يا رسول الله إنّما في هذه الأسرى من يكفلك من عماتك وخالاتك ، وحواضنك ، وقد حضنّاك في حجورنا وارضعناك بثدينا ، ولقد رايتك مرضعا فما رأيت مرضعا خيرا منك ، ورأيتك فطيما فما رأيت فطيما خيرا منك ، ورأيتك شابا فما رأيت شابا خيرا منك ، وقد تكاملت فيك خلال الخير ، ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتك فامنن علينا منّ الله عليك.

وقال زهير بن صرد : يا رسول الله إنّما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك ، ولو أننا ملحنا للحارث بن أبي شمر ، أو النعمان بن المنذر ، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين.

٥٢٩

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم :

« إن أحسن الحديث أصدقه ، وعندي من ترون من المسلمين ، فابناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم »؟

قالوا : يا رسول الله خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا وما كنّا نعدل بالأحساب شيئا ، فردّ علينا أبناءنا ونساءنا.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم واسأل لكم الناس وإذا صلّيت الظهر بالناس فقولوا : إنا لنستشفع برسول الله الى المسلمين ، وبالمسلمين الى رسول الله فاني سأقول : لكم ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم وسأطلب لكم إلى الناس ».

فلما صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظهر بالناس قاموا فتكلموا بالذي أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إنا نستشفع برسول الله الى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم.

وبهذا وهب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم نصيبه من الاسرى.

فقال المهاجرون : أمّا ما كان لنا فهو لرسول الله.

وقال الانصار : ما كان لنا فهو لرسول الله.

وهكذا وهب الانصار والمهاجرون نصيبهم من الاسرى تبعا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يتأخر عن ذلك إلاّ قليلون مثل « الاقرع بن حابس » و « عيينة بن حصن » فقد امتنعا عن أن يهبا نصيبهما ، ويطلق سراح ما عندهم من السبايا ، فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين وقد استأنيت بهم ، فخيّرتهم بين النساء والأبناء ، والأموال ، فلم يعدلوا بالأبناء والنساء ، فمن كانت عنده منهنّ شيء فطابت نفسه أن يردّه فليرسل ،

٥٣٠

ومن أبى منكم وتمسك بحقه فليردّ عليهم ، فله بكل انسان ست فرائض ( أي سوف أعطيه بدل الواحد ستا ) من أول ما يفيء الله به علينا(١) .

فكان لعمل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا أثر عظيم في نفوس المسلمين حيث خلّوا سبيل جميع من كان في أيديهم من الاسرى والسبايا إلا امرأة عجوز امتنع « عيينة » من ردّها إلى ذوبها.

وهكذا أثمر عمل صالح غرست شتيلته ـ قبل ستين عاما ـ في أرض قبيلة بني سعد على يدى حليمة السعدية ، فاتت اكلها بعد مدة طويلة ، واطلق بفضل ذلك العمل الصالح سراح جميع الاسرى والسبايا من هوازن(٢) .

ثم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا اخته من الرضاعة « الشيماء »(٣) وبسط لها رداءه ثم قال : اجلسي عليه ، ورحّب بها ، ودمعت عيناه ، وسألها عن امّه وابيه من الرضاعة ، فاخبرته بموتهما في الزمان ، ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها :

« إن أحببت فأقيمي عندنا محبّبة مكرّمة وإن أحببت أن امتّعك وترجعي الى قومك فعلت ».

فقالت : بل تمتّعني وتردّني إلى قومي ، فمتّعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وردّها الى قومها ، بعد أن أسلمت طوعا ورغبة ، وأعطاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أعبد وجارية(٤) .

وقد قوّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باخلائه سبيل جميع أسرى هوازن وسباياها من رغبة هوازن في الاسلام ، فاسلموا من قلوبهم ، وهكذا فقدت

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ٩٤٩ ـ ٩٥٣.

(٢) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٥٣ و ١٥٤ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٩٠ ، والحادثة التاريخية هذه جسّدت مضمون قول الله تعالى : «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » ( النحل : ٩٧ ).

(٣) هي الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى.

(٤) البداية والنهاية : ج ٢ ص ٣٦٣ و ٣٦٤ ، الامتاع : ج ١ ص ٤١٣.

٥٣١

« الطائف » آخر حليف من حلفائها.

٢ ـ اسلام مالك بن عوف :

في هذا الأثناء اغتنم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفرصة ليعالج مشكلته مع « مالك بن عوف النصري » مثير حرب حنين ، عن طريق وفد بني سعد وذلك بترغيبه في الاسلام ، وعزله عن حليفه : « ثقيف ».

ولهذا سألهم عن مالك ما فعل؟ فقالوا يا رسول الله هو بالطائف مع ثقيف.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أخبروا مالكا أنّه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الابل ».

فبلّغ وفد هوازن مالكا كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمانه المشروط ، فقرّر مالك الذي كان يرى بامّ عينيه تعاظم أمر الاسلام ، واشتداد أزره كما رأى رحمة النبي ولطفه ، أن يخرج من الطائف ، ويلتحق بالمسلمين ، ولكنه كان يخشى أن تعرف « ثقيف » بنيته فتحبسه في الحصن ، ولهذا عمد الى خطة خاصة للفرار ، فقد أمر باعداد راحلته فهيّئت له ، وأمر بفرس له فأتي به إلى الطائف ، فركب فرسه وركّضه حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس فركبها ، فلحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فادركه بالجعرانة أو بمكة ، فردّ عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهله وماله ، وأعطاه مائة من الابل كما وعد من قبل ، واسلم فحسن إسلامه ، ثم استعمله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على من أسلم من قومه وقبائل « ثمالة » و « سلمة » و « فهم ».

وقد انشد « مالك بن عوف » أبياتا عند ما أسلم يصف فيها خلائق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكريمة ، ويمدحه أجمل مديح اذ يقول :

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله

في الناس كلّهم بمثل محمّد

أوفى وأعطى للجزيل إذ اجتدي

ومتى تشأ يخبرك عما في غد

٥٣٢

وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها

بالسمهريّ وضرب كلّ مهنّد

فكأنّه ليث على أشباله

وسط الهباءة خادر في مرصد

وصار يقاتل بتلك القبائل ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلاّ أغار عليه حتى ضيّق عليهم لما حصل عليه من مكانة وعزة في الاسلام ، وبعد أن أدرك قبح موقف « ثقيف »(١) .

٣ ـ تقسيم الغنائم :

كان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلحّون عليه أن يسرع في تقسيم غنائم الحرب ، ولكي يدلّل النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حياده الكامل في تقسيم الغنائم قام إلى بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها ثم قال :

« أيّها الناس والله مالي في فيئكم ولا هذه الوبرة إلاّ الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فادّوا الخياط والمخيط فإن الغلول ( أي الخيانة في بيت المال ) يكون على أهله عارا ، ونارا ، وشنارا يوم القيامة ».

ثم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم أموال بيت المال بين المسلمين ، واما الخمس الذي هو حقه الخاص به فقد وزّعه بين أشراف قريش الحديثي العهد بالاسلام يتألّفهم ، ويتألف بهم قومهم ، فأعطى من هذا المال لـ : أبي سفيان بن حرب ، وابنه معاوية ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن الحارث ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، والعلاء بن جارية وصفوان بن أميّة ، وغيرهم ممّن كانوا يعادونه الى الأمس القريب من رءوس الشرك ورموز الكفر ، لكلّ واحد منهم مائة بعير(٢) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٩١ وعرّدت أي عوّجت.

(٢) راجع المحبّر : ص ٤٧٣ ، المغازي : ج ٣ ص ٩٤٤ ـ ٩٤٨ ، السيرة النبوية : ج ٣ ص ٤٩٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٢٣.

٥٣٣

وقد كان لهذا العطاء السخيّ أثره الطيب والبالغ في نفوس تلك الجماعة التي شملها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برحمته ، ولطفه ، وعنايته ، وكرمه ، واشتدت رغبتهم في الاسلام.

وهذا الفريق هم من يصطلح عليهم في الفقه الاسلامي بالمؤلفة قلوبهم ، وهم يشكّلون إحدى مصارف الزكاة بنص القرآن الكريم.

ويقول ابن سعد في الطبقات الكبرى بعد ان ذكر قصة هذا التقسيم الخاص للغنائم : وأعطى ذلك كله من الخمس وهو أثبت الاقاويل عندنا(١) .

ولقد شق هذا النوع من الاسلوب في تقسيم الغنائم وهذا النمط من البذل الذي مارسه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، شقّ على بعض المسلمين ، وبخاصة الانصار وقد جهلوا بالمصالح التي كان يراعيها ، والأهداف العليا التي كان يتوخّاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا النوع من البذل والعطاء ( وهو تخصيص حديثي العهد بالاسلام باكثر الغنائم ).

لقد كانوا يتصورون ان التعصب القبلي هو الذي دفع بالرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يقسم خمس الغنيمة بين أبناء قبيلته حتى أن احدهم ( وهو ذو الخويصرة التميمي ) قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكل وقاحة : يا محمّد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم ، لم أرك عدلت!!

فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كلامه هذا وقال :

« ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون »؟!

فطلب عمر بن الخطاب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأذن له بقتله ، فلم يأذن له النبي وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« دعه فانّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين ( أي يتتبّعون أقصاه ) حتى

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٣ ص ١٥٣.

٥٣٤

يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة »(١) .

وقد كان هذا الرجل ـ كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زعيم فرقة الخوارج في عهد حكومة الإمام عليّعليه‌السلام ، فهو الذي قاد تلك الفرقة الخطرة ، غير أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقدم على عقوبته على ما بدر منه فيما بعد لأن القصاص أو العقاب قبل الجناية يخالف قواعد الإسلام.

ولقد رفع « سعد بن عبادة » شكوى الأنصار حول كيفية تقسيم الخمس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسعد : اجمع من كان هاهنا من الأنصار في هذه الحظيرة.

فجمع سعد الانصار في تلك الخطيرة ، فلما اجتمعوا دخل عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه جلال النبوة ، وهيبة الرسالة ، فحمد الله واثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال :

« يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلاّلا فهداكم الله وعالة فاغناكم الله ، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم »؟

قالوا : بلى الله ورسوله أمنّ وافضل!

قال :

ألا تجيبوني يا معشر الانصار »؟

قالوا : وما ذا نجيبك يا رسول الله ولرسول الله المنّ والفضل؟

قال :

« أما والله لو شئتم قلتم فصدقتم أتيتنا مكذّبا فصدّقناك ومخذولا فنصرناك

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٩٦ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٢٢ ، وفي المغازي : ج ٣ ص ٩٤٨ أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فيه : « دعه إنّ له أصحابا يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يخرجون على فرقة من المسلمين ». وراجع امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٢٥ وجاء في السيرة الحلبية انه أصل الخوارج.

٥٣٥

وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك!(١) وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في شيء من الدّنيا تألّفت به قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟

والذي نفس محمّد بيده لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ».

ثم ترحّم على الأنصار وعلى أبنائهم وعلى أبناء أبنائهم فقال :

« اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ».

وقد كانت كلمات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه من القوة والعاطفيّة بحيث أثارت مشاعر الأنصار ، فبكوا بعد سماعها بكاء شديدا حتى اخضلّت لحاهم وابتلّت بالدموع وقالوا : رضينا يا رسول الله حظّا وقسما!!!

ثم انصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتفرّقوا(٢) .

ان هذه القصة تكشف عن عمق حكمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن حنكته السياسيّة البالغة ، وكيف أنه كان يعالج المشاكل باساليب مناسبة وبروح الصدق واللطف.

رسول الله يعتمر :

ثم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من الجعرانة معتمرا ، بعد ان قسم الغنائم ، فلما فرغ من عمرته انصرف راجعا الى المدينة ، فقدم المدينة في اواخر شهر ذي القعدة ، أو أوائل شهر ذي الحجة.

__________________

(١) إن هذا يفيد ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان ينسى فضل أحد عليه وان كان هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب الفضل الاكبر على الناس اجمعين.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٩٨ و ٤٩٩ ، المغازي : ج ٣ ص ٩٥٧ و ٩٥٨.

٥٣٦

٥٢

لاميّة كعب بن زهير المعروفة

« بانت سعاد »

فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منتصف شهر ذي القعدة ، من السنة الثامنة للهجرة من قسمة غنائم حنين في الجعرانة ، وكان موسم الحج على الأبواب ، وكانت هذه السنة هي السنة الاولى التي كان يتوجب على الحجيج العرب ، مسلمين ومشركين ، أن يقوموا بمناسك الحج تحت رعاية الحكومة الاسلامية.

وكان اشتراك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الشعائر يزيد الحج عظمة وجلالا ، وكان من الممكن ـ وبفضل قيادته الحكيمة ـ أن تتم في ذلك الحشد الهائل والاجتماع العظيم دعوة صحيحة وقوية وواسعة إلى الاسلام ، بينما كانت ثمة مسئوليات في المدينة تنتظر عودة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد مضى على مفارقته المدينة ما يقرب من ثلاثة أشهر ، وكانت الأعمال التي يجب أن يقوم بها هو بنفسه قد تعطّلت طوال هذه المدة.

وبعد دراسة هذه المسألة من جوانبها المختلفة رأى الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتفي بعمرة ، يغادر بعدها مكة ليصل الى المدينة في أقرب وقت ممكن.

ولكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى أنه لا بدّ أن يعيّن شخصا صالحا لادارة الامور السياسية والدينية في المنطقة الحديثة العهد بالفتح الاسلامي ( نعني مكة ) حتى لا تحدث في غيابه أزمة فيها ، وحتى تجري الامور على النسق الصحيح والمطلوب.

٥٣٧

من هنا استخلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « عتّاب بن اسيد » على مكة ، وكان عتاب شابا لبيبا يتسم بالصبر والجلد ، وكان له من العمر اذ ذاك عشرون سنة ، وقد قرّر له النبي راتبا قدره درهم واحد كل يوم.

وبهذا العمل ( أي تعيين شاب حديث العهد بالاسلام والايمان في مقتبل العمر ، ولكن كفؤ لتسيير الامور في مكة ، وتفضيله على كثير من الشيوخ وكبار السنّ ) حطّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سدّا خياليا ، ومفهوما باطلا في مجال التوظيف والتأمير.

فان جماعة من الناس لما أمّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « عتابا » على أهل مكة قالوا : إن محمّدا لا يزال يستخفّ بناحتى ولّى علينا غلاما حدث السنّ ابن ثمانية عشر سنة ، ونحن مشايخ ذو والاسنان فاجابهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله في كتاب كتبه لعتاب :

« لا يحتجّ محتجّ منكم في مخالفته بصغر سنّه ، فليس الاكبر هو الأفضل بل الأفضل هو الاكبر وهو الاكبر في موالاتنا وموالاة أوليائنا ومعاداة أعدائنا فلذلك جعلناه الأمير عليكم والرئيس عليكم فمن أطاعه فمرحبا به ومن خالفه فلا يبعد الله غيره »(١) .

وبهذا أثبتصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمليا أن حيازة المناصب الاجتماعية إنما تدور فقط حول معيار الأهلية والجدارة ، والكفاءة ، وأنّ صغر السنّ لا يمنع من ذلك اذا كان صاحبه يتمتع بكفاءة عالية.

ثم ان « عتّابا » قام فخطب في الناس فقال : أيّها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم ، فقد رزقني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درهما كل يوم ، فليست بي حاجة إلى أحد(٢) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٢٢ و ١٢٣. امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٣٢ و ٤٣٣.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٠٠.

٥٣٨

وأحسن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاختيار أيضا عند ما عيّن « معاذ بن جبل » ليعلّم الناس القرآن ويفقههم في الدين ، فقد كان معاذ ممن عرف بالفقه ، والمعرفة باحكام القرآن بين أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما بعثه للقضاء ، الى اليمن سألهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بم تقضي إن عرض قضاء فقال : أقضى بما في كتاب الله.

قال : فان لم يكن في كتاب الله؟

قال : أقضي بما قضى به الرسول.

قال : فإن لم يكن فيما قضى به الرسول؟

قال : أجتهد رأيي ولا آلو.

فضرب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدره ، وقال :

« الحمد الله الّذي وفّق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله »(١) .

قصة كعب بن زهير بن أبي سلمى :

كان « زهير بن أبي سلمى » من شعراء العرب البارعين في العهد الجاهلي ، فهو صاحب إحدى المعلّقات السبع التي بقيت منصوبة في الكعبة المعظّمة حتى قبيل نزول القرآن الكريم ، وكانت تفتخر بها العرب ، وتبدأ معلّقته تلك بقوله :

أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم

بحومانة الدرّاج فالمتثلّم

وقد توفي « زهير » قبل عصر الرسالة ، وخلّف ولدين هما : « بجير » ، و « كعب » وكان الأول ممّن آمن برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصره ، وأحبّه ، بينما عادى الثاني ( كعب ) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشدّة ، وحيث أنه كان ذا قريحة شعرية موروثة قوية ، لهذا كان يهجو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قصائده

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٣٤٧ و ٣٤٨ ، ويكتب الجزري في اسد الغابة : ( ج ٣ ص ٣٥٨ ) كان عتاب رجلا خبيرا صالحا فاضلا.

٥٣٩

وأشعاره ويؤلّب الناس ضدّ الإسلام.

ولما قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة كان « بجير » قد شارك مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فتح مكة ، وحصار الطائف ، وقد شاهد عن كثب كيف هدّد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقتل بعض الشعراء الذين كانوا يهجون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويؤلّبون الناس ضدّ الإسلام ، وأهدر دماءهم.

فكتب بهذا إلى أخيه ( كعب ) ونصحه في آخر كتابه قائلا : إن كانت لك في نفسك حاجة فطر الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانه لا يقتل أحدا جاءه تائبا.

فاطمأنّ كعب بكلام أخيه ، وتوجّه من فوره إلى المدينة فدخل المسجد ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتهيأ لصلاة الصبح ، فصلّى مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأوّل مرّة ثم جلس إليه ، ووضع يده في يده ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعرفه ، فقال : يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم.

قال : أنا يا رسول الله كعب بن زهير(١) .

ثم أخرج كعب قصيدته اللاميّة العصماء التي مدح فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي كان قد أنشأها من قبل ، وانشدها بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد ليتلافى بها ما سبق أن بدر منه من هجاء وطعن في سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

__________________

(١) روي أنه وثب على كعب ـ في تلك الحال ـ رجل من الانصار فقال : يا رسول الله دعني وعدوّ الله أن أضرب عنقه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعه عنك فانه قد جاء تائبا نازعا ( عما كان عليه ) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٠١.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٤٢.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595