أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان10%

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 595

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان
  • البداية
  • السابق
  • 595 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156826 / تحميل: 12404
الحجم الحجم الحجم
أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

القسم الثالث: النّصوص الدالّة على الشّهادة الثّالثة.

عَرِفنا ممّا سبق أنّ الظروف لم تكن مؤاتية للشيعة للإجهار بالشهادة بالولاية إلاّ بمعناها الكنائي الكامن في صيغة (حيّ على خير العمل)، فهم كانوا يقولونها في عهد الرسول وفي عهد الشيخين وفي العهد الأموي وفي العهد العباسي الأوّل خفيّةً، بعيداً عن أنظار الحكّام، لا على نحو الجزئية، لأنّها لو كانت جزءاً عندهم لما جاز لهم تركها، ولما اختلفوا في صيغها، وقد رأيت أنّهم يذكرونها إمّا على أنّها جملة تفسيرية، وإمّا لمحبوبيتها المطلقة المستفادة من عمومات اقتران الرسالة والولاية بالذكر، كما هو مفاد كثير من النصوص النبوية والولوية.

وقد حكي عن مجموعة من المفوِّضة، أو المتَّهمة بالتفويض والتي قد ظهرت في أيّام الغيبة أنّها تدّعي لزوم الإتيان بها على نحو الشطرية والجزئية وكونها من فصول الأذان وداخلة في ماهيته، ورووا في ذلك أخباراً، وهذا هو الذي ألزم بعض الفقهاء والمحدّثين كالشيخ الصدوقرحمه‌الله للوقوف أمامهم، لأنّه ليس بين ثنايا الأخبار الواصلة إلينا ما يدعو إلى وجوب ذكر الشهادة بالولاية في الأذان على نحو الجزئية، وبذلك فنحن لا نُخْرِجُ كلام شيخنا الصدوقرحمه‌الله من أحد ثلاث احتمالات: أن يكون هجومه على المفوّضة جاء لاعتقادهم بالجزئية، أو أنّهرحمه‌الله قالها تبعاً لمشايخه القميين، وقد يكون نصالفقيه قد صدر عنه تقيةً، وهذا الاحتمال الأخير تؤكّده بعض فقرات النص الآتي.

نحن لا نتردّد في أنّ الصدوقرحمه‌الله هو الفقيه الورع، ولا يمكنه بحسب قواعد الاستنباط المتّفق عليها بين الأمّة أن يفتي بعدم جواز الإتيان بالشهادة بالولاية،

٢٤١

بقصد القربة المطلقة، أو لمحبوبيتها الذاتية، أو التفسيرية.

نعم، نحن مع شيخنا الصدوق في عدم جواز الإتيان بها على نحو الجزئية الواجبة، وقد عرفت بأن أغلب الشيعة الزيدية والإسماعيلية والإمامية الاثني عشرية لا يأتون بها على نحو الجزئية.

ولعلّ ترك الزيدية والإسماعيلية في العصور اللاّحقة قول (محمد وعليّ خير البشر) أو (محمد وآل محمد خير البرية) بعد (حيّ على خير العمل) يؤكد على أنّهم لا يقصدون جزئيتها مع الحيعلة الثالثة، فهم يأتون بها في بعض الأحيان ويتركونها في أحيان أخرى، وهو المقصود بنحو عام من التفسيرية والمحبوبية الذاتية والقربة المطلقة، والأمور الثلاثة الأخيرة لا تعترضها شبهة التشريع المحرّم والبدعة، وعلى هذا الأساس نحن لا نشك ولا نتردد في أنّ الشيخ الصدوققدس‌سره لم يقصد هذه المعاني؛ إذ يبعد ذلك منه جدّاً بعد وقوفه على أدلّة الجواز، لذلك نراه يشدّد النكير فقط على من شرّعها طبقاً لروايات اعتقدها موضوعة.

وعليه: فكلامهرحمه‌الله لا يعني كلّ زيادة بما أنّها زيادة على الموجود لأنّه قد وقف على روايات فيها زيادات على ما رواه الحضرمي وكليب الأسدي، وبذلك فإنّهرحمه‌الله يعني بكلامه الزيادات الجديدة الموضوعة التي لم ترد في الأخبار الأذانية من قِبَلِ المعصومين.

أمّا لو كانت هناك روايات أو عمومات يُرادُ الأخذ بها لا على نحو الجزئية فلا يمانعه الشيخ الصدوق.

إذن، فالشيخ الصدوقرحمه‌الله لا يعني هؤلاء يقيناً، بل اعترضرحمه‌الله على الأخبار الموضوعة من قبل المفوّضة المفيدة للجزئية؛ إذ لا يعقل أن يلعن الشيخقدس‌سره من اجتهد من الشيعة وأفتى بمحبوبيتها العامة وأنّها ليست بجزء، من خلال العمومات وشواذ الأخبار والأدلّة الأخرى الدالّة على ذلك.

وممّا يؤكد ذلك أنّ الشيخ الصدوق لا يعترض على مضمون ما يقوله

٢٤٢

المفوضة، وفي الوقت نفسه لا يرضى قولها على نحو الجزئية وأنّها من أصل الأذان لقوله في آخر كلامه: (لا شكّ أنّ عليّاً ولي الله، وأنّه أمير المؤمنين حقّاً، وأنّ محمّداً وآله خير البرية، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان).

نعم، المطالع في كلمات اللاّحقين يقف على ما هو دالّ على الشهادة الثالثة على نحو القربة المطلقة، ولمحبوبيّتها الذاتية، ولرجاء المطلوبيّة من قبل الشيعة، وهي موجودة في أصول أصحابنا، بحيث يمكن الاستدلال بها تارة بالدلالة التطابقية وهذا ما فعله الشيخ الطوسي وابن البرّاج (رحمهما الله تعالى) ومن تبعهما كالمجلسي وأُخرى بالدلالة الالتزامية، كمرسلة الصدوق في(من لا يحضره الفقيه)، وفتاوى السيّد المرتضى، والشيخ الطوسي، وابن البراج، ويحيى بن سعيد الحلي، والعلاّمة الحلي، ونحن خصصنا هذا القسم لتفسير كلامهمرحمهم‌الله وبيان الملابسات التي لازمتها؛ لأنّ اللاحقين كثيراً ما يكتفون بفتاوى هؤلاء الأعلام دون التعريف بملابساتها وظروفها الحقيقية والموضوعية، وعلى كلّ تقدير فكلمات هؤلاء الأعلام نابعة من روح العقيدة وعليها تدور رحى الاجتهاد.

٢٤٣

٢٤٤

١ - مرسلات الصدوق (١) (٣٠٦ هـ - ٣٨١ هـ)

 روى الشيخ الصدوق بسنده عن أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي عن الإمام الصادق فصول الأذان فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

 أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن لا إله إلاّ الله.

 أشهد أنّ محمّداً رسول الله، أشهد أنّ محمّداً رسول الله.

 حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة.

 حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح.

 حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل.

 الله أكبر، الله أكبر.

 لا إله إلاّ الله، لا إله إلاّ الله.

 والإقامة كذلك، ولا بأس أن يقال في صلاة الغداة على إثر (حيّ على خير العمل)، (الصلاة خير من النوم). مرّتين للتقيّة.

 وقال مصنف هذا الكتاب [أي الصدوق]: هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد فيه ولا ينقص منه، والمفوِّضة (لعنهم الله) قد وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان (محمّد وال محمّد خير

____________________

(١) أخبار الصدوق في الفقيه مسندة، وإنما عنوناها بالمرسلات لأنّهرحمه‌الله ذكر متوناً روائية عن المفوضة ولم يأت بأسانيدها. وقد عبر الفقهاء عن تلك المتون بالمراسيل، قال صاحب الجواهر ٩: ٨٦، عن المجلسي: أنّه لا يبعد كون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبّة في الأذان استناداً إلى هذه المراسيل التي رميت بالشذوذ، انظر بحار الأنوار ٨١: ١١١ / باب (الأقوال في أشهد أنّ علياً ولي الله) كذلك.

٢٤٥

البرية) مرتين، وفي بعض رواياتهم بعد (أشهد أن محمداً رسول الله) (أشهد أن علياً وليّ الله) مرتين، ومنهم من روى بدل ذلك: (أشهد أنّ عليّاً أمير المومنين حقّاً) مرتين. ولا شكّ في أنّ علياً وليّ الله، وأنّه أمير المؤمنين حقاً، وأنّ محمّداً وآله (صلوات الله عليهم) خير البرية، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان، وإنّما ذكرت ذلك ليُعرَفَ بهذه الزيادة المتَّهمون بالتفويض المدلِّسون أنفسَهم في جملتنا(١) .

ولنا مع شيخنا الصدوقرحمه‌الله عدة وقفات لشرح ما تضمن كلامه:

الأولى: إنّ الخبر السابق والذي حكم الصدوق بصحته بقوله: (هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد فيه ولا ينقص منه) هو خبر شاذّ لا يعمل به أصحابنا اليوم، لأنّ فيه اتّحاد عدد فصول الأذان والإقامة، لقولهرحمه‌الله : (والإقامة كذلك) وهو قول شاذّ لا يوافقه عليه أحد.

وكذا لم يُذكر فيه جملة: (قد قامت الصلاة) مرّتين في الإقامة، ومعنى كلامه هو أنّ الإقامة مثل الأذان في فصوله حتى (لا إله إلاّ الله) في آخر الأذان، إلاّ أنّه يؤتى بها قبل إقامة الصلاة.

ولو كان يريد وجود: (قد قامت الصلاة) مرّتين في الإقامة لكان عليه أن يقول(٢) كما قال الطوسي في النهاية: والإقامة مثل ذلك، إلاّ أنّه يقول في أول الإقامة مرتين: (الله أكبر، الله أكبر)، يقتصر على مرّة واحدة: (لا إله إلاّ الله) في آخره، و يقول بدلاً من التكبيرتين في أوّل الأذان: (قد قامت الصلاة، قد قامت

____________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١: ٢٨٩ - ٢٩١ / باب الأذان والإقامة وثواب المؤذنين / ح ٨٩٧.

(٢) روى الشيخ في التهذيب ٢: ٦٠ باب عدد فصول الأذان ح ٢١٠. بسنده عن عمر بن أذينة عن زرارة والفضيل بن يسار عن أبي جعفر وفيه: والإقامة مثلها إلاّ أنّ فيها قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، بعد حي على خير العمل حي على خير العمل.

٢٤٦

الصلاة) بعد الفراغ من قوله: (حيّ على خير العمل، حي على خير العمل)(١) في حين أن الشيخ الصدوق لم يقل بهذا.

وكذا قولهرحمه‌الله : (ولا بأس أن يُقال في صلاة الغداة على إثر حيّ على خير العمل: الصلاة خير من النوم، مرتين للتقية) لا يمكن تصوّره والقول به، لأنّ المؤذّن لو كان في حال التقية فلا يمكنه أن يجهر ب (حي على خير العمل)، و إن لم يكن في حال التقيّة فلا يجوز له أن يقول: (الصلاة خير من النوم)، إلاّ أن نقول إنّه كان يعيش في تقيّه عالية فأفتى بالقول بالحيعلة سرّاً وبالتثويب علناً، جمعاً بين الأمرين، أو لعلّ هناك ملابسات أخرى سنوضّحها لاحقاً.

الوحيد البهبهاني ومقصود الصدوق من مثلية الأذان والإقامة

قال الوحيد البهبهاني وبعد أن ذكر رواية الحضرمي والأسدي: فلعل المراد أنّ الإقامة كذلك غالباً، إلاّ فيما ندر، وهو تثنية التكبير في الأوّل، ووحدة التهليل في الآخر... فيحتمل أن يكون المراد من كون الإقامة مثل الأذان، أنّها مثله في كونها مثنى مثنى، ردّاً على العامة القائلين بكونها مرّة مرّة مطلقاً... والصدوق في(الفقيه) لم يذكر إلاّ هذه الرواية، ثمّ قال: هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد فيه ولا ينقص... فلو لم يكن ما ذكرناه هو المراد من هذه الرواية، ولم يكن ذلك ظاهراً عليهم، لم يكن لما ذكره الشيخ وما ذكره الصدوق وجه، لأنّ ظاهر هذه الرواية مخالف للمُجمع عليه، إذ لم يرضَ أحد أن تكون الإقامة مثل الأذان، لأنّ فيها (قد قامت الصلاة) يقيناً دون الأذان... وأمّا أن يكون المراد غيره ولا قرينة أصلاً على تعيين

____________________

(١) النهاية: ٦٨.

٢٤٧

ذلك... فكيف لم يجعلها الشيخ معارَضَةً، ولا توجّه إلى وجه الحمل ورفع التعارض بإبداء المراد؟ والصدوق كيف ردّ بها المذاهب النادرة الّتي هي خارجة عن مذهب الشيعة، ولم يتعرّض لردّ ما هو المذهب المشهور في الشيعة، لو لم يكن متّفقاً عليه؟! ولو لم يكن هو المشهور، فلا أقل من كونه مذهباً مشهوراً منهم، ولو لم يكن كذلك فلا أقلّ من كونه مذهب بعض منهم، وأين هذا من مذهب من هو خارج من الشيعة؟

هذا، مع أنّه لم يبيّن: أيُّ شيء أريد من هذه الرواية؟ فظاهرها بديهيّ الفساد لا يرتكبه أحد، فضلاً أن يكون مثل الصدوق.

وخلاف الظاهر تتوقّف معرفته على سبيل التعيين، فإنّ تأليفه(الفقيه) لمن لا يحضره الفقيه، فمن لا يحضره الفقيه كيف يعرف الاحتمال المخالف للظاهر على سبيل التعيين من غير معيِّن؟! بل من يحضره الفقيه لا يمكنه ذلك فضلاً عمّن لا يحضره.

وخلاف الظاهر، إمّا أن يكون المراد أنّها مثل الأذان، إلاّ زيادة (قد قامت الصلاة) مرتين، أو تكون هذه الزيادة مكان التكبير مرّتين في أوّل الأذان، فيصير عددها وفصولها سواء، وهو أقرب إلى قوله: والإقامة مثل ذلك(١) . انتهى كلام الوحيد البهبهاني.

فكيف يمكن علمياً أن يعارِضَ خبرٌ شاذّ غير معمول به، الأخبارَ الصحيحة الأخرى في الأذان والإقامة والتي عمل بها الشيعة حتى صارت سيرة لهم؟!

____________________

(١) مصابيح الظلام ٦: ٥٠٩ - ٥١٢. وانظر كلامه في الحاشية على مدارك الأحكام ٣: ٢٨٠ كذلك.

٢٤٨

أضف إلى ذلك أنّ الأصحاب الّذين أجازوا العمل بالروايات المختلفة في الأذان والإقامة، سواء كانت ٣٥ فصلاً، أو ٣٧، أو ٣٨، أو ٤٢ أو غيرها، قالوا بذلك لصحّة تلك الروايات عندهم، فكيف يصحّ أن يقول الشيخ الصدوق: (هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد فيه ولا ينقص منه)، مُغفِلاً الروايات الأخرى المعمول بها عند الآخرين؟!

إذن لا سبيل لحلّ هذا الإشكال إلاّ بأن نقول كما قال الوحيدقدس‌سره ، أو نقول: إنّها محمولة على التقية، وهذا ما استظهره الشيخ يوسف البحراني في قوله: والأظهر عندي أنّ منشأ هذا الاختلاف إنّما هو التقية، لا بمعنى قول العامة بذلك، بل التقيّة بالمعنى الذي قدّمناه في المقدمة الأولى من مقدمات الكتاب(١) .

والمقصود هو أنّ المعصوم كان يتعمّد إلقاء الخلاف بين شيعته حتى لا يكون هو والدين غرضين للأعداء؛ إذ لو عرف الأمويون والعباسيون منهج آل البيت وشيعتهم بوضوح لسهل عليهم الفتك بهم والقضاء عليهم نهائياً.

وبنحو عام وبغضّ النظر عن كيفية تفسير التقية؛ فإنّ الملاحظ أنّ الصدوقرحمه‌الله وإن كان معاصراً للدولة البويهية الشيعية إلاّ أنّه مع ذلك يعتقد جازماً بلزوم التقيّة حتى خروج القائم فلا يخلو منها عصر من العصور؛ وذلك جليٌّ في قولهرحمه‌الله : والتقية واجبة لا يجوز تركها إلى أن يخرج القائم سلام الله عليه، فمن تركها فقد دخل في نهي الله ونهي رسوله والأئمّة صلوات الله عليهم(٢) .

الثانية: نظراً لقرينة أخرى يمكن حمل ما رواه الشيخ الصدوق عن أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي على التقيّة؛ لقوله بعدم البأس بالإتيان ب (الصلاة خير

____________________

(١) انظر الحدائق الناضرة ٧: ٤٠٢. وسنأتي بكلامهرحمه‌الله عند بياننا لكلام الشيخ الطوسي بعد قليل في صفحة ٣١٣ وما بعدها فانتظر.

(٢) الهداية للصدوق: ٥٣.

٢٤٩

من النوم) مرّتين تقيةً.

و يؤكّد احتمال التقية ما رواه الشيخ في التهذيب(١) والاستبصار(٢) والذي ليس فيه هذه الزيادة، ممّا يؤكّد بأن ما قاله الشيخ الصدوق كان للتقية.

ولا يخفى أنّ ما جاء في بعض الأخبار عن الإمام الباقر أو الصادقعليهما‌السلام من أنّهما كانا يؤذّنان بالصلاة خير من النوم لا يمكن جعله دليلاً على الكلام الآنف؛ لأنّهما كانا يأتيان بذلك للإشعار والإعلام حسب ما صُرِّح في بعض الأخبار(٣) لا على أنّه من فصول الأذان، وهي محمولة على التقية(٤) ، وهذا يختلف عن قول الشيخ بعدم البأس وخصوصاً بعد (حي على خير العمل)، فإن قوله هذا يخضع لملابسات نذكرها في الوقفة الثالثة عشر إن شاء الله تعالى.

الثالثة: إنّ الجروح التي تصدر عن القميّين لا يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها إذا ما انفردوا بها لأنّها قد تكون لمجرّد التشدّد، أو لتصوّرهم فساد عقيدة الراوي حيث يروي حديثاً لا يعتقدون به، وكلاهما ليس بشيء.

قال الوحيد البهبهاني: ثمّ اعلم أنّه [أحمد بن محمد بن عيسى] وابن الغضائري ربّما ينسبان الراوي إلى الكذب ووضع الحديث أيضاً بعد ما نسباه إلى الغلو وكأنّه لروايته ما يدلّ عليه، ولا يخفى ما فيه(٥) .

وقال الوحيد في حاشيته علىمجمع الفائدة والبرهان : وقد حقّقنا على رجال الميرزا ضعف تضعيفات القميّين، فإنّهم كانوا يعتقدون بسبب اجتهادهم اعتقادات من تعدّى عنها نسبوه إلى الغلوّ، مثل نفي السهو عن

____________________

(١) التهذيب ٢: ٦٠/ ح ٢١١، وسائل الشيعة ٥: ٤١٦ / ح ٦٩٧٠.

(٢) الاستبصار ١: ٣٠٦/ ح ١١٣٥.

(٣) التهذيب ٢: ٦٣ / ح ٢٢٢، الاستبصار ١:٣٠٨ / ح ١١٤٦، وسائل الشيعة ٥: ٤٢٧.

(٤) انظر كشف اللثام ٣: ٣٨٦ والحدائق الناضرة ٧: ٤٢٠.

(٥) الفوائد الرجالية: ٣٩.

٢٥٠

النبي، أو إلى التفويض، مثل تفويض بعض الأحكام إليه، أو إلى عدم المبالاة في الرواية والوضع، وبأدنى شيء كانوا يتهّمون كما نرى الآن من كثير من الفضلاء والمتديّنين وربّما يخرجونه من قمّ و يؤذونه وغير ذلك(١) .

وقال الشيخ محمد ابن صاحب المعالم: إنّ أهل قمّ كانوا يخرجون الراوي بمجرّد توهّم الريب فيه(٢) .

فإذا كانت هذه حالتهم وذا ديدنهم، فكيف يعوّل على جروحهم وقدحهم بمجرده، بل لابدّ من التروّي والبحث عن سببه والحمل على الصحّة مهما أمكن(٣) .

والمطالع في رجال قمّ وتاريخها يقف على أسماء بعض المحدّثين الذين نقم عليهم أهل قمّ لاتّهامهم بالغلّو، والّذي مرّ عليك سابقاً سقم كلامهم، كما فعلوه مع محمد بن أرومة الذي أشاعوا عنه بأنّ عنده أوراقاً في تفسير الباطن، والذي قال عنها ابن الغضائري: أظنّها موضوعة عليه(٤) ، وقد بَرَّأَ الإمام أبو الحسنعليه‌السلام ابنَ أورمة من هذا الاتّهام وكتب إلى القميّين ببراءته.

بناءً على ذلك فليس من البعيد أن يكون شيخنا الصدوققدس‌سره قد اتّهم القائلين بالشهادة بالولاية في الأذان بالوضع، وذلك لنقلهم ما لا يتّفق مع عقيدته وعقيدة مشايخه المحدّثين، فهم كانوا إذا وجدوا رواية على خلاف معتقدهم وصفوها بالضعف، وراويها بالجعل والدس، وهذا الاعتقاد يوجب إخراج كثير من الروايات واتّهام كثير من المشايخ بالكذب، قال الشيخ الصدوق في(الاعتقادات في دين الإمامية) : وعلامة المفوّضة والغلاة وأصنافهم [اليوم] نسبتهم مشايخ قمّ

____________________

(١) حاشية مجمع الفائدة والبرهان: ٧٠٠.

(٢) استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار ٤: ٧٧.

(٣) مقباس الهداية: ٤٩.

(١) رجال ابن الغضائري: ٩٣ / ت ١٣٣.

٢٥١

 وعلماءهم إلى القول بالتقصير(٢) ، هذا مع ملاحظة تفرّد الشيخ الصدوققدس‌سره بأنّ الأخبار موضوعة إذ لم يقل أحد بذلك قبله.

الرابعة: لعلّ الشيخ الصدوق اتّهم المفوّضة بوضع أخبار؛ لأنّهم تجاوزوا حد ما كانت تعمل به بعض الشيعة آنذاك من قبيل: (محمد وآل محمد خير البرية)، و (عليّ خير البشر) قاصدين بها الجزئية، ثم أتى بنصوص دالّة على الشهادة الثالثة بإرسال، دون ذكر أسانيدها، مؤكّداً بكلامه على تعدّد طرقها ومتونها، وهي صريحة بأنّ ما وقف عليه الشيخ الصدوقرحمه‌الله عند من سمّاهم المفوّضة ليس خبراً واحداً، بل هي أخبار كثيرة، لذلك قال: (وفي بعض رواياتهم) ثم أردف ذلك قائلاً: (ومنهم من روى بدل ذلك)، وهاتان العبارتان تؤكدان بوضوح تعدّد تلك الروايات، وتكثّر طرقها، واختلاف صيغها على غرار المعمول عليه عند بعض الشيعة من الزيدية والإسماعيلية الذين كانوا يأتون بها على نحو التفسيرية أو القربة المطلقة؛ لأنّ تعدّد الصيغ ينبئ عن عدم الجزئية عندهم.

فكأنّ المفوّضة حسب اعتقاد الصدوقرحمه‌الله وضعوا أخباراً مسندةً بتلك الصيغ المعمول بها عند بعض الشيعة ليلزموا الآخرين بالإجهار بها، وهذه الزيادة وعلى نحو الجزئية لا يرتضيها الشارع المقدّس ولا يقبلها الشيخ الصدوق ولا غيره من علماء الإمامية إذا كان مستندها تلك الأخبار الموضوعة فيما لو ثبت وضعها، فهذا العمل من أبطل الباطل لكنّ الكلام ليس في الكبرى بل في الصغرى، وهي أنّ الأخبار هل كانت موضوعة فعلاً؟ وهل أنّ رواتها هُمُ المفوّضة أم المتّهمون بالتفويض؟ إلى غير ذلك من الاحتمالات.

وهو الآخر لا يعني مخالفتهرحمه‌الله للذين يأتون بها لمحبوبيّتها الذاتيّة للقربة المطلقة، بل في كلامهرحمه‌الله وكذا في كلام الإمام الكاظمعليه‌السلام من قبله ما يشير إلى

____________________

(١) الاعتقادات: ١٠١.

٢٥٢

 إمكان تعدّد الصيغ الدالّة على الشهادة بالولاية إلى أكثر من صيغة وأنّها مجازة شرعاً إن لم يأت بها الإنسان على نحو الجزئية، ولذلك ذكر الشيخ الصدوق ثلاث صيغ منها، كدلالة على تكثّرها، تلك الدلالة التي تعني أنّ مستند الإتيان بالشهادة الثالثة ليس الأخبار الموضوعة، ولا أنّها جزء توقيفيّ فيها، بل تعني المحبوبيّة العامّة لا غير.

وعلى أيّ حال، فإن ما أشار إليه الصدوقرحمه‌الله من روايات الشهادة الثالثة يدلّ من ناحية أخرى على تناقلها في عصره، وستقف لاحقاً على أنّ بعض الشيعة في حلب وبغداد كانوا يؤذّنون بها في عصر الصدوق ومن قبله، وهذا يوقفنا أيضاً على أنّ مخالفته كانت مع الذين يضعون الأخبار و يزيدون فيها على نحو الجزئية لا غير ذلك، وإلاّ فمن الصعب على العقل احتمال أن يتّهم الشيخ الصدوق بالتفويض كلَّ من قال بالشهادة الثالثة في الأذان حتّى من باب القربة المطلقة، فعبارته كالنصّ في أنّه يقصد مَنْ وَضَعَ الأخبار ومن استند إليها على نحو الجزئية لا غير، لقوله: (وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان)، وقوله: (ولكن ذلك ليس من أصل الأذان).

الخامسة: إنّ اختلاف الصيغ وتعدّدها لا معنى له سوى تأكيد أنّهم كانوا لا يأتون بها على أنّها جزء من الأذان، بل قد تكون تفسيرية لجملة (حي على خير العمل)، وقد تكون لمحبوبيّتها الذاتية ورجحانها النفسي وما ذكرناه من تنقيح المناط ووحدة الملاك في الشهادات الثلاث.

فإنَّ الإتيان بها تارة بعد الحيعلة الثالثة، وأخرى بعد الشهادة بالنبوة لَيُؤَكِّد بأنّ القائلين بها لا يأتون بها على نحو الجزئية والشطرية حتى يَتَّهِمَ الشيخ الصدوق القائلين بها بالتدليس والابتداع وأنّهم ادخلوا ما ليس من الدين في الدين. إلاّ أن نقول إنّه عنى المفوضة القائلين بها على وجه الخصوص، أو إنّ قوله السابق قد صدر عنه تقيّةً.

٢٥٣

السادسة: إنّ الشيخ الصدوق قد ذكر متن بعض تلك الروايات دون ذكر سندها وهو ديدنه في كثير من الأبواب الفقهية لكنّ الفقيه والمحدِّث قد يرى سند تلك الروايات في المجاميع الحديثية الأخرى كالتهذيب والكافي وغيرهما. فلماذا لا نقف على إسناد تلك الروايات إذن؟

من المعلوم أنّ وثاقة الراوي لا تكفي لحجيّة الرواية ما لم تسلم من الشذوذ والعلّة، ولأجل ذلك نرى الأئمّة يؤكّدون على شيعتهم لزوم عرض أقوالهم على الكتاب المجيد، للأخذ بالصحيح وترك الزخرف منه.

لكنّ الصدوقرحمه‌الله وغيره من القميّين كانوا يعتمدون وثاقة الراوي أكثر من راجحية الرواية، فقد نقل الشيخ الطوسي في ترجمة سعد بن عبدالله الأشعري عن الصدوق قوله: وقد رويت عنه كلّ ما في المنتخبات مما أعرف طريقه من الرجال الثقات(١) .

وقال فيالفقيه : وأمّا خبر صلاة يوم غدير خمّ، والثواب المذكور فيه لمن صامه، فإنّ شيخنا محمد بن الحسن كان لا يصحّحه... إلى أن قال: فهو عندنا متروك غير صحيح(٢) .

وقد مرّ عليك اعتراض أبي العباس بن نوح على الصدوق وشيخه في استثنائهما محمد بن عيسى بن عبيد من نوادر الحكمة بقوله: (فلا أدري ما رأيه فيه، لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة). و يفهم من كلامه أنّ أبا العباس بن نوح وابن الوليد والصدوقرحمهم‌الله يعتبرون الوثاقة في الراوي دون أرجحية الرواية.

نعم، قد يأتي الصدوق بكلام الواقفيّ وغيره، وخصوصاً لو جاء في كتب أحد

____________________

(١) الفهرست: ١٣٦ ت ٣١٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٢: ٩٠ ذيل الحديث ١٨١٧، والسبب في ذلك وجود محمد بن موسى الهمداني في السند، وهو غير ثقة عنده.

٢٥٤

مشايخه، لكونها موجودة في أُصول الرجال الثقات.

والشيخ هنا ترك ذكر أسانيد تلك الروايات لأنّها موضوعة بنظره تبعاً لمشايخه، علماً أن مشايخه الكرام أخبروا بحذف (حي على خير العمل) من الروايات تقية. فكيف لا يُحذف أو يُترك ما فيه دلالة على رجحان الشهادة بالولاية في الأذان؟

وكلامنا هذا لا يوحي بأنا نذهب إلى الجزئية، لأن الترك المقصود من قبل الأئمّة يحمل بين طياته معانٍ كثيرة، وعليه فشيخنا الصدوقرحمه‌الله كان يروي عن من يخالفه في المعتقد، وفاسدي العقيدة كالواقفية، لأنّها جاءت في أصول أصحابنا الثقات، وأمّا فيما نحن فيه فلا نراه يهتمّ بوجهة نظر الآخرين، ولم يروِ ما روته المفوضة لأنهم بمنزلة الكفار والمشركين عنده، وعندنا كذلك، وربّما لثقته العالية بأن الشهادة الثالثة بعنوان الجزئية هي من موضوعاتهم، لقوله (ليعرف المدلسون أنفسهم في جملتنا) وبذلك يختلف الفعل عنده، فتارة يتكلم عن الضعيف وآخر عن الوضاع، فيأتي بما رواه الأوّل ولا يذكر ما رواه الثاني، و يؤكّد مقولتنا هذه ما قالهرحمه‌الله في (باب الصلاة في شهر رمضان) تعقيباً على من روى الزيادة في التطوّع في شهر رمضان زرعة عن سماعة وهما واقفيان قال:

 قال مصنف هذا الكتاب: إنّما أوردت هذا الخبر في هذا الباب مع عدولي عنه وتركي لاستعماله ليعلم الناظر في كتابي هذا كيف يُروَى ومن رواه، وليعلم من اعتقادي فيه أنّي لا أرى بأساً باستعماله(١) .

وعليه فالشيخرحمه‌الله يأخذ بالخبر الضعيف لا الموضوع، لأن الأخير ساقط بنظره ومتروك لسقوط راويه، وإن كان منهج القدماء يدعوه للأخذ به، لأن الأصل في

____________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢: ١٣٩، ذيل الحديث ١٩٦٧.

٢٥٥

الأخبار عندهم صحة المضمون لا السند، وما أتى به صحيح المضمون بلا خلاف، لكنه ترك ذلك لاعتقاده بوضع المفوضة لها.

وكون روايات المفوضة موضوعة حسب اعتقاده لا يلزم منه عدم تجويز الإتيان بها لا على نحو الجزئية.

السابعة: ممّا لا شكّ فيه أنّ المفوّضة والغلاة من شرّ خلق الله، لكنّ مجرّد عمل المفوّضة بشيء لا يمكن اعتباره معياراً للترك وأنّه من الباطل؛ فقد يكون لدى المفوّضة أدلّة على شرعية ما يفعلونه غير تلك الأخبار الموضوعة التي قصدها الشيخرحمه‌الله ؛ لاحتمال أنّه وقف عليها فقط ولم يقف على غيرها مما هو غير موضوع، و يكون مثالهم في الشهادة الثالثة نظير العامّة القائلين بالحيعلتين الأوليين، المتطابقتين مع المرويّ عندنا في الأذان الصحيح وإن كان رواتهما بنظرنا غير ثقات، فهل يمكننا أن نقول بتركهما لموافقتها للعامة؟ إنّ هذا قول عجيب، ولا يقول به أحد منّا.

لكنّ الأمر لم يكن كذلك، وذلك فيما نعتقد لعدم وجود روايات دالّة على الجزئية في الأذان، نعم هناك شواذ أخبار وعمومات يمكن القول من خلالها برجحان الشهادة بالولاية كما جاء في حسنة ابن أبي عمير ومرسلةالاحتجاج : (من قال محمد رسول الله فليقل علي أمير المؤمنين) وخصوصاً لو دمج ذلك مع سيرة المتشرّعة قبل ولادة الشيخ الصدوق، وأنّهم كانوا يأتون بصيغ مختلفة دالّة على الولاية في أذانهم تصريحاً أو تلميحاً، وإقرار الإمام الحجة لفعلهم وعدم ورود نهي عنه في ذلك، فكلّ هذا يدعونا للقول بعدم الضير بالإتيان بها في الأذان، بشرط أن لا تكون على نحو الجزئية، كما كان معمولاً عليه في عهد الأئمة(١) وهذا ما كان يلحظ في عمل أصحابنا، والذي يدلّ عليه و يؤكّده كلام

____________________

(١) إذ مر عليك في كلام الإمام الكاظمعليه‌السلام على وجود السيرة في ذلك، لقولهعليه‌السلام : (وإن الذي

٢٥٦

كُلٍّ من الأئمّة: الكاظم، والرضا، والهاديعليهم‌السلام .

وهنا يمكن القول بأنّ ذهابنا إلى رجحان الشهادة بالولاية في الأذان ومن دون اعتقاد الجزئية إنّما هو لتلك العمومات وما جاء تلميحاً وإشارة لا لما رواه المفوّضة، فلا تأتي شبهة العمل بأخبارهم الباطلة لعنهم الله.

الثامنة: إنّ إتيان الشيخ الصدوق بصيغ الزيدية والإسماعيلية وبعض الإماميّة ضمن هجومه على المفوّضة (المدلسون أنفسهم في جملتنا) لا يعني أنّهرحمه‌الله كان يعتقد بأنّ هؤلاء كانوا يأتون بها استناداً لأخبار المفوّضة الموضوعة، بل كانوا يتداولونها لما عندهم من العمومات، يوضّح ذلك أنّه لم يلعن غير المفوّضة.

فالزيدية كانوا يقولون بها بعد الحيعلة الثالثة قبل ولادة الصدوق بصيغة (محمد وعلي خير البشر)(١) ، ولم نجد في كلّ كلمات الصدوق أنّه لعنهم لذلك.

والإسماعيلية كانوا يأتون بها بصيغة: (محمد وآل محمد خير البرية)(٢) ، ولم يلعنهم لذلك أو يذمّهم.

والإمامية رعاية للترتيب الملحوظ في جميع الروايات الصادرة عن أهل البيت قالوها بعد الشهادة بالنبوة لرسول الله.

لكن الشيخ الصدوقرحمه‌الله تسامح في عبارته، فتصوّر الكثيرون بأنّ جميع هذه الصيغ تقال بعد الشهادة بالنبوة فقط، وهي للمفوضة الملعونة !، ولا يقول بها غيرهم، وأنّ مستندها فقط الأخبار الموضوعة، في حين أن صيغتين منها تقال بعد

____________________

أمر بحذفها أراد أن لا يكون حث عليها ودعاء إليه) وهذا الكلام واضح بأن هناك نهج لا يرتضي ذكر ما يأتي في تفسير الحيعلة بخلاف الإمام الكاظم الذي حبّذ الحث عليها والدعوة إليها، وعليه فالسيرة قائمة على الشهادة بالولاية بالجواز لا اللزوم حتى يقال لماذا تركها الإمام المعصوم واتباعهم كالشيخ المفيد والعماني وابن الجنيد وأمثالهم.

(١) سفر نامه ناصر خسرو: ١٤١، ١٤٢، صبح الأعشى في صناعة الإنشا ١٣: ٢٣٠.

(٢) انظر الإسماعيلية، لأحمد إسماعيل: ٥٥.

٢٥٧

الحيعلة الثالثة وهي للزيدية والإسماعيلية. أما الصيغة الثالثة فتقال بعد الشهادة الثانية، وهي للإمامية الاثني عشرية، فعدم تحديد الشيخ الصدوق لأماكن ورودها ومن يقولها، هو تسامح منهرحمه‌الله .

التاسعة: احتمل بعض الأفاضل أنّ عدم ارتضاء الصدوقرحمه‌الله للشهادة الثالثة يرجع إلى معارضتها لرواية أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي، والتي ليس فيها الشهادة بالولاية.

لكنّ هذا الاحتمال مردودٌ بأنّ رواية الحضرمي والأسدي لا تقوى على المعارضة؛ لأنّ فيها تربيع التكبير في الإقامة، ووجود (لا إله إلاّ الله) مرتين في آخرها، وهو مما لا تعمل به الإمامية باتّفاق، فكيف يريد الشيخ الصدوققدس‌سره أن يعتمدها مع أنّها رواية شاذة تخالف المعمول به عند الإمامية قاطبة؟! و يعتبرها معارضة للأخبار الشاذّة الأخرى التي حكاها الشيخ الطوسي والتي فيها الشهادة بالولاية لعلي.

فلو كانت تلك الأخبار في الشهادة الثالثة شاذّة، فهذه هي الأخرى شاذة بل متروكة، فكيف يعتمد الشيخ هذه و يترك تلك؟! إِلاّ أن نقول بما قاله هو عن تلك الأخبار من أنّها من وضع المفوّضة، وفيه جواب ما احتمله البعض، من وجود التعارض بل الأمر عند الصدوق هو وجود أخبار لها قابلية التصحيح وأخبار موضوعة في ماهية الأذان، مع الإشارة إلى أنّهرحمه‌الله كان يعمل بالأخبار الشاذّة، وأنّ طعنه في تلك الروايات لا لشذوذها، بل لوضع المفوّضة لها ودعواهم بجزئيتها، لقولهرحمه‌الله : (والمفوّضة لعنهم الله قد وضعوا أخباراً)، وهو مثل قول الإمام الصادق: (المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي)(١) أو (كان المغيرة بن سعيد يتعمّد

____________________

(١) رجال الكشي ٢: ٤٨٩ / الرقم ٤٠١، وعنه في بحار الأنوار ٢: ٢٥٠ / ح ٦٢، رجال ابن

٢٥٨

الكذب على أبي)(١) ، فسبب لعن الإمام ولعن الصدوق هما لأمر واحد، وهو وضع الأحاديث على لسان الأئمّة لا لشيء آخر. وعليه فإن الأخبار التي ليس فيها الشهادة بالولاية لا تعني حرمة الإتيان بها، بل تنفي جزئيتها ليس إلاّ.

هذا وباعتقادي أنّ تفريق الشيخ التستري في(النجعة في شرح اللمعة) (٢) بين الأذان والإقامة غير صحيح لإمكان إطلاقها على الإقامة كذلك في لسان الأئمة والفقهاء. هذاأوّلاً .

وثانياً: إنّ رواية الحضرمي كما بيّنّا سابقاً قد احتملنا صدورها عنه تقيّةً، فلا وجه لهذا الاحتمال.

وثالثاً: إنّ الشهادة بالولاية لا على نحو الجزئية كانت سيرة لمجموعة كبيرة من المتشرعة ولم تكن لمجموعة صغيرة من هذا المذهب أو ذاك، بل هي عمل لسيرة متشرّعة، على اختلاف اعتقاداتهم وأماكن تواجدهم إن أمنوا مكر السلطان: زيدية، إسماعيلية، إمامية اثني عشرية، فمنهم في بغداد، وآخر في القاهرة، وثالث في حمص، ورابع في الريّ، وخامس في شمال العراق، فإنّ دعوى الوضع لعمل قطاعات كثيرة من الشيعة، وفي بلدان مختلفة بعيدةٌ جدّاً.

فالشيخ لا يريد اتّهام الجميع بالتفويض أو الغلوّ، بل كان يتهم فقط الذين

____________________

داود: ٢٧٩ / الترجمة ٥١٠.

(١) رجال الكشي ٢: ٤٩١ / الرقم ٤٠٢، وعنه في بحار الأنوار ٢: ٢٥٠. وقد روى عن الإمام الصادقعليه‌السلام كذلك قوله:(إن المغيرة بن سعيد كذب على أبي فسلبه الله الإيمان) رجال الكشي ٢: ٤٩١، و:(المغيرة بن سعيد كذب على أبي وأذاع سره فأذاقه الله حديد النار) تحف العقول: ٣١١، وغيرها من الأخبار الصادرة عنهمعليهم‌السلام .

(٢) قال الشيخ محمد تقي التستري في (النجعة ٢: ٢٠٥، الجزء الأول من قسم الصلاة) بعد أن أتى بما قاله الصدوق قال: قلت: والمفهوم منه أن الازدياد من المفوضة إنما كان في الأذان دون الإقامة وازدياد المصنف للإقامة إنما حصل في الأعصار الأخيرة بعد الصدوق.

٢٥٩

يوجبون الإتيان بها على نحو الشطرية؛ راوين في ذلك روايات مكذوبة عن المعصومين.

العاشرة: ذكرنا سابقاً بعض موارد الاختلاف بين القميّين والبغداديّين في الأُصول الرجالية والعقائدية، وكذا تخالف منهج المحدّثين مع منهج المتكلّمين والفقهاء، فلا نرى شيخنا الصدوق في مجاميعه الحديثية يتهجّم على أحد أو مجموعة كما تهجّم في مبحث الشهادة الثالثة، فهورحمه‌الله مُتَّزِنُ القلم، ورقيق التعبير، متين رصين في كلامه، فلم أقف على كلمة (لعنهم الله) أو (أخزاهم الله) أو (خذلهم الله) وأمثالها عند بياناته الأخرى، بل وقفت على ترحّمه على من لم يلتقِ معهم في المذهب، وذلك دليل على رزانته ومتانته ومرونته وتسامحه وبعده عن العصبية.

وبعد هذا فليس لي أن أخرج عبارته هنا إلاّ من خلال محمل التقية، أو أنّه عنى الّذين يأتون بالشهادة الثالثة على نحو الجزئية اعتماداً على الأحاديث الموضوعة، ولا ثالث في البين غير هذين الاحتمالين؛ لأنّ وصف جميع الشيعة القائلين بالشهادة الثالثة باللعنة مستحيل، خصوصاً ونحن نراه يروي روايات يمكن الاستدلال بها على محبوبية الشهادة الثالثة في أماكن أخرى من مجاميعه الحديثية؛ ولسنا بعيدين عمّا رواهرحمه‌الله بسند معتبر فيالأمالي عن الإمام الصادق بأنّ الله نوّه باسم عليّ في سماواته(١) .

ومن المعلوم عند الجميع أنّ كلام المعصوم [الصادق] يقدّم على غيره، وأنّ نقله عن الإمام مقدّم على اجتهاده، وبذلك يكون مقتضى القاعدة في تفسير خبرالأمالي استمرارية الشهادة بالولاية في الأرض كذلك، ويؤيد ذلك ما رواه الكلينيقدس‌سره في الموثّق أنّ الله أمر منادياً ينادي بالشهادات الثلاث لمّا خلق

____________________

(١) انظر الأمالي: ٧٠١ / ح ٩٥٦.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وهو على مصر، ويقال عبد العزيز، أن يبعث بموسى بن نصر إلى افريقية، وكان أبوه نصير من حرس معاوية، ولمّا سار معاوية إلى صفّين لم يسر معه ؛ فقال له: ما يمنعك عن المسير معي إلى قتال عليّ ويدي عندك معروفة.

فقال: لا أُشركك بكفر من هو أولى بالشكر منك وهو الله عزّ وجلّ، فسكت عنه معاوية. فبعث عبد الله موسى بن نصير وقدم القيروان سنة ٨٩ وبها صالح خليفة حسان، فعقد له، ورأى البربر قد طمعوا في البلاد، فوجّه البعوث في النواحي، وبعث ابنه عبد الله في البحر إلى جزيرة ميورقة، فغنم بها وسبى وعاد.

ثمّ بعثه إلى ناحية أُخرى وابنه مروان كذلك، وتوجّه هو إلى ناحيةٍ فغنم منها وسبى وعاد، وبلغ الخمس من المغنم سبعين ألف رأس من السبي.

ثمّ غزا طنجة وافتتح درعة وصحراء فيلالت وأرسل ابنه إلى السوس، وأذعن البربر لسلطانه ودولته، وأخذ رهائن المصامدة وأنزلهم بطنجة وولى عليها طارق بن زياد الليثي، ثمّ أجاز طارق إلى الأندلس.

فكان فتحها سنة تسعين، وتعاقب عليها ولاة المسلمين إلى أن انتهى أمرها إلى الأغالبة، وجدّهم إبراهيم بن الأغلب وهو الذي تولاّها من قِبَل الرشيد مع الأندلس.

وفي سنة ٢١٩ هـ فتح أسد بن الفرات صقلية وكانت من عمالات الروم وأمرها راجع إلى صاحب قسطنطينية، وولّى عليها سنة إحدى عشر ومئتين بطريقاً اسمه قسنطيل، واستعمل على الأسطول قائداً من الروم حازماً شجاعاً فغزا سواحل افريقية وانتهبها.

ثمّ بعد مدّةٍ كتب ملك الروم إلى قسنطيل يأمره بالقبض على مقدّم الأسطول وقتله، ونُميَ الخبر إليه بذلك فانتقض وتعصّب له أصحابه، وسار إلى مدينة سرقوسة من بلاد صقلية فملكها، وقاتله قسنطيل فهزمه القائد ودخل مدينة تطانية، فأتبعه جيشاً أخذوه وقتلوه.

واستولى القائد على صقلية فملكها وخُوطب بالملك، وولّى على ناحية من الجزيرة رجلاً اسمه بلاطة.

وكان ميخائيل ابن عمّ بلاطة على مدينة بليرم، فانتقض هو وابن عمّه على القائد واستولى بلاطة على مدينة سرقوسة.

وركب القائد في أساطيله إلى إفريقية مستنجداً بزيادة الله فبعث معهم العساكر، واستعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان، فخرجوا في ربيع سنة اثنتي عشرة فنزلوا بمدينة مازر، وساروا إلى بلاطة، ولقيهم القائد وجميع الروم الذين بها استمدّهم فهزموا

٣٢١

بلاطة والروم الذين معه وغنموا أموالهم. وهرب بلاطة إلى فلونرة، فقتل واستولى المسلمون على عدّة حصون من الجزيرة، ووصلوا إلى قلعة الكرات وقد اجتمع بها خلقٌ كثير، فخادعوا القاضي أسد بن الفرات في المراودة على الصلح وأداء الجزية حتّى استعدّوا للحصار، ثمّ امتنعوا عليه فحاصرهم وبعث السرايا في كلّ ناحيةٍ وكثرت الغنائم.

ثمّ حاصروا سرقوسة برّاً وبحراً، وجاء المدد من افريقية وحاصروا بليرم.

وزحف الروم إلى المسلمين وهم يحاصرون سرقوسة، قد بعثوهم واشتدّ حصار المسلمين لسرقوسة، ثمّ أصاب معسكرهم الفناء، وهلك كثيرٌ منهم ومات أسد بن الفرات أميرهم ودُفن بمدينة قَصريانَّة. ومعهم القائد الذي جاء يستنجدهم فخادعه أهل قصريانة وقتلوه.

وجاء المدد من القسطنطينية فتصافوا مع المسلمين، وهزموهم ودخل فلّهم إلى قصريانة.

ثمّ توفّي محمد بن الحواري أمير المسلمين وولي بعده زهير بن عوف.

ثمّ محّص الله المسلمين فهزمهم الروم مرّات، وحصروهم في معسكرهم حتّى جهدهم الحصار وخرج مَن كان في كبركيب من المسلمين بعد أن هدموها وساروا إلى مازر، وتعذّر عليهم الوصول إلى إخوانهم، وأقاموا كذلك إلى سنة أربع عشرة إلى أن اشرفوا على الهلاك. فوصلت مراكب إفريقية مدداً وأسطول من الأندلس، خرجوا للجهاد واجتمع منهم ثلاثمئة مركب فنزلوا الجزيرة، وأفرج الروم عن حصار المسلمين وفتح المسلمون مدينة بليرم بالأمان سنة سبع عشرة. ثمّ ساروا سنة تسع عشرة إلى مدينة قصريانة وهزموا الروم عليها سنة عشرين.

ثمّ بعثوا إلى طرميس، ثمّ بعث زيادة الله الفضل بن يعقوب في سريّة إلى سرقوسة فغنموا، ثمّ سارت سريّةٌ أُخرى واعترضها بطريق صقلية فامتنعوا منه في وعر وخمل من الشعراء، حتّى يئس منهم وانصرف على غير طائل. فحمل عليهم أهل السريّة وانهزموا، وسقط البطريق عن فرسه فطُعن وجرح.

وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ودوابّ ومتاع، ثمّ جهّز زيادة الله إلى صقلية إبراهيم بن عبد الله بن الأغلب في العساكر وولاّه أميراً عليها، فخرج منتصف رمضان وبعث أسطولاً، فلقي أسطولاً للروم فغنمه، وقتل مَن كان فيه وبعث أسطولاً آخر إلى قصوره فلقي أسطولاً فغنمه، وسارت سريّةٌ إلى جبل النار والحصون التي في نواحيها، وكثر

٣٢٢

السبي بأيدي المسلمين، وبعث الأغلب سنة (٢١) أسطولاً نحو الجزائر فغنموا وعادوا، وبعث سريّةً إلى قطلبانة وأُخرى إلى قصريانة كان فيهما التمحيص على المسلمين.

ثمّ كانت وقعة أُخرى كان فيها الظفر للمسلمين، وغنم المسلمون من أسطولهم تسع مراكب.

ثمّ عثر بعض المسلمين على عورة من قصريانة فدلّ المسلمين عليها ودخلوا منها البلد، وتحصّن المشركون بحصنه حتّى استأمنوا، وفتحه الله، وغنم المسلمون غنائمه وعادوا إلى بليرم، إلى أن وصلهم الخبر بوفاة زيادة الله، فوهنوا أوّلاً، ثمّ أنشطوا وعادوا إلى الصبر والجهاد. وكانت وفاة زيادة الله منتصف سنة ثلاث وعشرين ومئتين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ولايته، وولي مكانه أخوه أبو عقال الأغلب.وبعث سنة أربع وعشرين ومئتين سريّةً إلى صقلية، فغنموا وعادوا ظافرين.

وفي سنة خمس وعشرين ومئتين استأمن للمسلمين عدّة حصون من صقلية، فأمنوهم وفتحوها صلحاً.

وسار أسطول المسلمين إلى قلورية، ففتحوها ولقوا أسطول القسطنطينية فهزموهم.

وفي سنة ستّ وعشرين ومئتين سارت سرايا المسلمين بصقلية إلى قصريانة، ثمّ حصن القيروان وأثخنوا في نواحيها.

ثمّ توفّي الأغلب بن إبراهيم في ربيع من سنة ستّ وعشرين ومئتين لسنتين وسبعة أشهر من إمارته، وولي مكانه ابنه أبو العبّاس محمد بن الإغلب، وتوفّي سنة اثنتين وأربعين ومئتين، فولي مكانه ابنه أبو إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب.

وفي أيّامه افتتحت قصريانة من مدن صقلية في شوال سنة تسع وأربعين ومئتين لثمان سنين من ولايته.

وفي أيّام ولاية أبي الغرانيق محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب تغلّب الروم على مواضع من جزيرة صقلية.

بقيّة أخبار صقلية

وفي سنة ثمان وعشرين ومئتين سار الفضل بن جعفر الهمداني في البحر، ونزل مرسى مسينة وحاصرها ؛ فامتنعت عليه، وبثّ السرايا في نواحيها فغنموا.

ثمّ بعث طائفةً من عسكره وجاؤوا إلى البلد من وراء جبلٍ مطلٍّ عليه وهم مشغولون بقتاله، فانهزموا وأعطوا باليد ففتحها.

ثمّ حاصر سنة ثنتين وثلاثين ومئتين مدينة لسى.

وكاتب أهلها بطريق صقلية

٣٢٣

يستمدّونه ؛ فأجابهم وأعطاهم العلامة بإيقاد النار على الجبل. وبلغ ذلك الفضل بن جعفر فأوقد النار على الجبل، وأكمن لهم من ناحيةٍ فخرجوا، واستطرد لهم حتّى جاوزوا الكمين فخرجوا عليهم فلم ينج منهم إلاّ القليل، وسلّموا البلد على الأمان.

وفي سنة ثلاث وثلاثين ومئتين أجاز المسلمون إلى أرض انكبردة من البرّ الكبير، وملكوا منها مدينةً وسكنوها.

وفي سنة أربع وثلاثين ومئتين صالح أهل رغوس وسلّموا المدينة للمسلمين، فهدموها بعد أن حملوا جميع ما فيها.

وفي سنة ثلاث وثلاثين ومئتين توفّي أمير صقلية محمد بن عبد الله بن الأغلب، واجتمع المسلمون بعده على ولاية العبّاس بن الفضل بن يعقوب بعد موت أميرهم.

وكتب له محمد بن الأغلب، بعهده على صقلية، وكان من قبل يغزو ويبعث السرايا وتأته الغنائم، ولمّا جاءه كتاب الولاية خرج بنفسه وعلى مقدّمته عمّه رياح، فعاث في نواحي صقلية وردّد البعوث والسرايا إلى قطانية وسرقوسة وبوطيف ورغوس، فغنموا وخربّوا وحرقوا، وافتتح حصوناً جمّة، وهزم أهل قصريانة وهي مدينة ملك صقلية، وكان الملك قبله يسكن سرقوسة فلمّا فتحها المسلمون انتقل الملك إلى قصريانة.

وخبر فتحها أنّ العبّاس كان يردّد الغزو إلى نواحي سرقوسة وقصريانة شاتية وصائفة، فيصيب منهم ويرجع بالغنائم والأسارى. فلما كان في شاتية منها أصاب منهم أسارى وقدّمهم للقتل، فقال له بعضهم - وكان له قدر وهيبة - استبقني وأنا أملك قصريانة، ودلّهم على عورة البلد ؛ فجاؤوها ليلاً ووقفهم على بابٍ صغيرٍ فدخلوا منه، فلمّا توسّطوا البلد وضعوا السيف وفتحوا الأبواب ودخل العبّاس في العسكر فقتل المقاتلة وسبى بنات البطارقة وأصاب فيها ما يعجز الوصف عنه.

وذل الروم بصقلية من يومئذٍ، وبعث ملك الروم عسكراً عظيماً مع بعض بطارقته، وركبوا البحر إلى مرسى سرقوسة، فجاءهم العبّاس من بليرم، فقاتلهم وهزمهم وأقلع فلّهم إلى بلادهم، بعد أن غنم المسلمون من أسطولهم ثلاثة أو أكثر، وذلك سنة سبع وثلاثين ومئتين.

وافتتح بعدها كثيراً من قلاع صقلية، وجاء مدد الروم من القسطنطينية وهو يحاصر قلعة الروم فنزلوا سرقوسة ورجف إليهم العبّاس من مكانه وهزمهم.

ورجع إلى قصريانة فحصنها وأنزل بها الحامية، ثمّ سار سنة سبع وأربعين

٣٢٤

ومئتين إلى سرقوسة فغنم، ورجع فاعتلّ في طريقه، فهلك منتصف سنته ودُفن في نواحي سرقوسة، وأحرق النصارى شلوه وذلك إحدى عشرة سنة من إمارته.

واتّصل الجهاد بصقلية والفتح، وأجاز المسلمون إلى عدوة الروم في الشمال، وغزوا أرض قلورية وانكبردة، وفتحوا فيها حصوناً وسكن بها المسلمون.

ولمّا توفّي العبّاس اجتمع الناس على ابنه عبد الله، وكتبوا إلى صاحب افريقية.

وبعث عبد الله السرايا ففتح القلاع، وبعد خمسة أشهر من ولايته وصل خفاجة بن سفيان من افريقية على صقلية في منتصف ثمان وأربعين ومئتين، وأخرج ابنه محموداً في سريّةٍ إلى سرقوسة، فعاث في نواحيها وخرج إليهم الروم فقاتلهم وظفر ورجع، ثمّ فتح مدينة نوطوس سنة خمس وخمسين ومئتين إلى سرقوسة وجبل النار، واستأمن إليه أهل طرميس. ثمّ غدروا فسرّح ابنه محمداً في العساكر، وسبى أهلها ثمّ سار خفاجة إلى رغوس، وافتتحها وأصابه المرض، فعاد إلى بليرم، ثمّ سار سنة ثلاث وخمسين ومئتين إلى سرقوسة وقطانية فخرب نواحيها، وأفسد زرعها، وبعث سراياه في أرض صقلية فامتلأت أدهم من الغنائم.

وفي سنة أربع وخمسين ومئتين وصل بطريق من القسطنطينية لأهل صقلية، فقاتله جمع من المسلمين وهزموه، وعاث خفاجة في نواحي سرقوسة ورجع إلى بليرم، وبعث سنة خمس وخمسين ومئتين ابنه محمداً في العساكر إلى طرميس، وقد دلّه بعض العيون على بعض عوراتها فدخلوها وشرعوا في النهب.

وجاء محمد بن خفاجة من ناحيةٍ أُخرى فظنوه مدداً للعدو فأجفلوا ورآهم محمد مجفلين فرجع.

ثمّ سار خفاجة إلى سرقوسة في حرّها وعاث في نواحيها، ورجع فاغتاله بعض عسكره في طريقه وقتله، وذلك سنة خمس وخمسين ومئتين.

وولّى الناس عليهم ابنه محمداً، وكتبوا إلى محمد بن أحمد أمير افريقية فأقرّه على الولاية، وبعث إليه بعهده.

وفي سنة سبع وثمانين ومئتين بعث إبراهيم بن أحمد أخي أبي الغرانيق ابنه أبا العبّاس عبد الله على صقلية، فوصل إليها في مئة وستّين مركباً وحصر طلاية، وانتقض عليه بليرم وأهل كبركيت وكانت بينهم فتنة، فأغراه كلّ واحدٍ منهم بالآخرين، ثمّ اجتمعوا لحربه وزحف إليه أهل بليرم في البحر فهزمهم واستباحهم.

وبثّ جماعةٌ من وجوهها إلى أبيه وفرّ

٣٢٥

آخرون من أعيانهم إلى القسطنطينية، وآخرون إلى طرميس فاتّبعهم وعاث في نواحيها.

ثمّ حاصر أهل قطانية فامتنعوا عليه فأعرض عن قتال المسلمين، وتجهّز سنة ثمان وثمانين للغزو، فغزا ميسنى ثمّ مسينة، ثمّ جاء في البحر إلى ريو ففتحها عنوةً، وشحن مراكبه بغنائمها.

ورجع إلى مسينة فهدم سورها، وجاء مدد القسطنطينية في المراكب فهزمهم وأخذ له ثلاثين مركباً.

ثمّ أجاز إلى عدوة الروم وأوقع بأمم الفرنجة من وراء البحر ورجع إلى صقلية.

وجاء في هذه السنة رسول المعتضد بعزل الأمير إبراهيم لشكوى أهل تونس به، فاستقدم ابنه أبا العبّاس من صقلية وارتحل هو إليها.

وذكر ابن الأثير أنّ فتح سرقوسة كان في أيّامه على يد جعفر بن محمد أمير صقلية، وأنّه حاصرها تسعة أشهر، وجاءهم المدد من قسطنطينية في البحر فهزمهم، ثمّ فتح البلد واستباحها.

واتفقوا كلّهم على أنّه ركب البحر من افريقية إلى صقلية، فنزل طرانية ثمّ تحوّل عنها إلى بليرم، ونزل على دمشق وحاصرها سبعة عشر يوماً، ثمّ فتح مسينة وهدم سورها، ثمّ فتح طرميس آخر شعبان من سنة تسع وثمانين، ووصل ملك الروم بالقسطنطينية ففتحها.

ثمّ بعث حافده زيادة الله ابن ابنه أبي العبّاس عبد الله إلى قلعة بيقض فافتتحها، وابنه أبو محرز إلى رمطة فأعطوه الجزية، ثمّ عبر إلى عدوة البحر وسار في برّ الفرنج ودخل قلورية عنوة، فقتل وسبى ورهب منه الفرنجة.

ثمّ رجع إلى صقلية ورغب منه النصارى في قبول الجزية فلم يجب إلى ذلك.

ثمّ سار إلى كنسة في حرّها، واستأمنوا إليه فلم يقبل ثمّ هلك وهو محاصر لها آخر تسع وثمانين لثمان وعشرين سنة من إمارته، فولّى أهل العسكر عليهم حافده أبا مضر ليحفظ العساكر والأمور، إلى أن يصل ابنه أبو العبّاس وهو يومئذٍ بافريقية. فأمن أهل كنسة قبل أن يعلموا بموت جدّه، وقبل منهم الجزية، وأقام قليلاً حتّى تلاحقت به السرايا من النواحي، ثمّ ارتحل وحمل جدّه إبراهيم فدفنه في بليرم، وقال ابن الأثير حمله إلى القيروان فدفنه بها.

وفي أيّامه ظهر أبو عبد الله الشيعي بكتامة يدعو للرضا من آل محمد ويبطن الدعوة لعبيد الله المهدي من أبناء إسماعيل الإمام، واتبعه كتامة وهو من الأسباب التي دعته للتوبة والإقلاع والخروج إلى صقلية. وبعث إليه موسى بن عياش صاحب صلته بالخبر، وبعث إبراهيم رسوله إلى الشيعي بانكجان يهدّده ويحذّره فلم يقبل، وأجابه بما يكره. فلمّا

٣٢٦

قربت أُمور أبي عبد الله وجاء كتاب المعتضد لإبراهيم أظهر التوبة ومضى إلى صقلية، وكانت بعده بإفريقية حروب أبي عبد الله الشيعي مع قبائل كتامة حتّى استولى عليهم واتّبعوه.

وكان إبراهيم قد أسرّ لابنه أبي العبّاس في شأن الشيعي، ونهاه عن محاربته وأن يلحق به إلى صقلية إن ظهر عليه.

ولمّا هلك إبراهيم سنة تسع وثمانين وولي مكانه ولده أبو العبّاس عبد الله، ولأُمورٍ بلغته عن ولده زيادة الله من اعتكافه على اللّذات واللهو، وعزمه على التوثّب عليه ؛ اعتقله وولّى على صقلية مكانه محمد بن السرقوسي، ثمّ ولي زيادة الله أبو مضر بعد مقتل أبيه أبي العبّاس.

وجرت حروب بينه وبين أبي عبد الله الشيعي، كان فيها الظهور للشيعي واستيلاؤه على بلاده فخروج زيادة الله من المغرب إلى المشرق سنة ستّ وتسعين.

ثمّ تفرّق بنو الأغلب وانقطعت أيّامهم، وأصبحت افريقية وصقلية في حكم عبيد الله المهدي ودانت له، وبعث العمّال في نواحيها وأصبحت صقلية في ولاية الكلبيّين ؛ فكان أول والٍ عليها من قبل المهدي الحسن بن محمد بن أبي خنزير(١) من رجالات كتامة، فوصل إلى مازر سنة سبع وتسعين في العساكر، فولّى أخاه على كبركيت، وولّى على القضاء بصقلية اسحق بن المنهال.

ثمّ سار سنة ثمان وتسعين في العساكر إلى دمشق فعاث في نواحيها ورجع، ثمّ شكى أهل صقلية سوء سيرته وثاروا به وحبسوه، وكتبوا إلى المهدي معتذرين، فقبل عذرهم وولّى عليهم أحمد بن قهرب، وبعث سريّةً إلى أرض قلورية فدوّخوها ورجعوا بالغنائم والسبي.

ثّم أرسل سنة ثلاثمئة ابنه عليّاً إلى قلعة طرمن المحدثة ليتخذها حصناً لحاشيته وأمواله حذراً من ثورة أهل صقلية. فحصرها ابنه ستّة أشهر، ثمّ اختلف عليه العسكر فأحرقوا خيامه وأرادوا قتله فمنعه العرب، ودعا هو الناس إلى طاعة المقتدر فأجابوه.

وقطع خطبة المهدي وبعث الأسطول إلى افريقية، ولقوا أسطول المهدي وقائده الحسن ابن أبي خنزير فقتلوه وأحرقوا الأسطول.

وسار أسطول ابن قهرب إلى صفاقس فخرّبوها، وانتهوا إلى طرابلس، وانتهى الخبر إلى القائم بن المهدي، ثمّ وصلت الخِلَع

____________________

(١) وفي تاريخ أبي الفداء ابن أبي حفترير.

٣٢٧

والألوية من المقتدر إلى ابن قهرب، ثمّ بعث الجيش في الأسطول إلى قلوية، فعاثوا في نواحيها ورجعوا، ثمّ بعث ثانيةً أسطولاً إلى افريقية فظفر به أسطول المهدي فانتقض أمره وعصى عليه أهل كبركيت، وكاتبوا المهدي، ثمّ ثار الناس بابن قهرب آخر الثلاثمئة وحبسوه وأرسلوه إلى المهدي فأمر بقتله على قبر خنزير في جماعةٍ من خاصّته.

وولّى على صقلية أبا سعيد بن أحمد، وبعث معه العساكر من كتامة، فركب إليها البحر فنزل في طرانية، وعصى عليه أهل صقلية بمَن معه من العساكر فامتنعوا عليه وقاتله أهل كبركيت وأهل طرانية، فهزمهم وقتلهم، ثمّ استأمن إليه أهل طرانية فأمنهم وهدم أبوابها.

وأمره المهدي بالعفو عنهم، ثمّ ولّى المهدي على صقلية سالم بن راشد، وأمدّه سنة ثلاث عشرة بالعساكر، فعبر البحر إلى أرض انكبردة فدوّخها، وفتحوا فيها حصوناً ورجعوا، ثمّ عادوا إليها ثانية وحاصروا مدينة أدرنت أيّاماً، ورحلوا عنها، ولم يزل أهل صقلية يغيرون على ما بأيدي الروم من جزيرة صقلية وقلورية ويعيثون في نواحيها.

وبعثّ المهدي سنة ثنتين وعشرين جيشاً في البحر مع يعقوب بن إسحاق فعاث في نواحي جنوة. ولمّا كانت سنة خمس وعشرين انتقض أهل كبركيت على أميرهم سالم بن راشد، وقاتلوا جيشه، وخرج إليهم سالم بنفسه فهزمهم وحصرهم ببلدهم واستمدّ القائم فأمده بالعساكر مع خليل بن اسحاق، فلمّا وصل إلى صقلية شكا إليه أهلها من سالم بن راشد، واسترحمته النساء والصبيان، وجاءه أهل كبركيت وغيرها من أهل صقلية بمثل ذلك، فرقّ لشكواهم ودسّ إليهم سالمٌ بأنّ خليلاً إنّما جاء للانتقام منهم بمَن قتلوا من العسكر. فعاودوا الخلاف واختطّ خليل مدينةً على مرسى المدينة وسمّاها الخالصة.

وتحقق بذلك أهل كبركيت ما قال لهم سالم، واستعدّوا للحرب، فسار إليهم خليل منتصف ستّ وعشرين وحصرهم ثمانية أشهر يغاديهم بالقتال ويراوحهم. حتى إذا جاء الشتاء رجع إلى الخالصة واجتمع أهل صقلية على الخلاف، واستمدّوا ملك القسطنطينية فأمدّهم بالمقاتلة والطعام، واستمدّ خليل القائم فأمدّه بالجيش فافتتح قلعة أبي ثور وقلعة البلّوط وحاصر قلعة بلاطنو إلى أن انقضت سنة سبع وعشرين ؛ فارتحل عنها وحاصر كبركيت ثمّ حبس عليها عسكراً للحصار مع أبي خلف بن هارون، ورحل عنها وطال حصارها إلى سنة

٣٢٨

تسع وعشرين. فهرب كثيرٌ من أهل البلد إلى بلد الروم واستأمن الباقون فأمنهم على النزول عن القلعة، ثمّ غدر بهم فارتاع لذلك سائر القلاع وأطاعوا.

ورجع خليل إلى أفريقية آخر سنة تسع وعشرين، وحمل معه وجوه أهل كبركيت في سفينة، وأمر بخرقها في لجّة البحر فغرقوا أجمعين.

ثمّ ولّى على صقلية عطاف الأزدي.

ثمّ كانت فتنة أبي يزيد، وشُغل القائم والمنصور بأمره، فلمّا انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور على صقلية للحسن بن أبي الحسن الكلبي من صنائعهم ووجوه قوّاده، وكنيته أبو الغنائم، وكان له في الدولة محلٌّ كبير في مدافعة أبي يزيد عناء عظيم.

وكان سبب ولايته أنّ أهل بليرم كانوا قد استضعفوا عطافاً، واستضعفهم العدو لعجزه ؛ فوثب به أهل المدينة يوم الفطر من سنة خمس وثلاثين.

وتولّى كبروبك بنو الطير منهم، ونجا عطاف إلى الحصن وبعث للمنصور يعلمه ويستمدّه، فولّى الحسن بن علي على صقلية، وركب البحر إلى مازر وأرسى بها فلم يلقه أحدٌ منهم، وأتاه في الليل جماعة من كتامة واعتذروا إليه عن الناس بالخوف من بني الطير، وبعث بنو الطير عيونهم عليه واستضعفوه وواعدوه أن يعودوا إليه، فسبق ميعادهم ودخل المدينة ولقيه حاكم البلد وأصحاب الدواوين.

واضطرّ بنو الطير إلى لقائه وخرج إليهم كبيرهم إسماعيل، ولحق به من انحرف عن بني الطير فكثر جمعه، ودسّ إسماعيل بعض غلمانه فاستغاث بالحسن من بعض عبيده أنّه أكره امرأته على الفاحشة، يعتقد أنّ الحسن لا يعاقب مملوكه فتخشن قلوب أهل البلد عليه. وفطن الحسن لذلك فدعا الرجل واستحلفه على دعواه وقتل عبده. فسرّ الناس بذلك ومالوا عن الطير وأصحابه وافترق جمعهم. وضبط الحسن أمره وخشي الروم بادرته فدفعوا إليه جزية ثلاث سنين، وبعث ملك الروم بطريقاً في البحر في عسكرٍ كبيرٍ إلى صقلية واجتمع هو والسردغرس.

واستمدّ الحسن بن علي المنصور فأمدّه بسبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف وخمسمئة راجل، وجمع الحسن مَن كان عنده وسار برّاً وبحراً وبعث السرايا في أرض قلورية، ونزل على أبراجه فحاصرها. وزحف إليه الروم، فصالحه على مالٍ أخذه، وزحف إلى الروم ففرّوا من غير حرب.

ونزل الحسن على قلعة قيشانة فحاصرها شهراً وصالحهم على مال، ورجع بالأسطول إلى مسينة فشتى بها.

وجاءه أمر

٣٢٩

المنصور بالرجوع إلى قلورية، فعبر إلى خراجة فلقي الروم والسردغرس، فهزمهم وامتلأ من غنائمهم، وذلك يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمئة.

ثمّ سار إلى خراجة في حرّها حتّى هادنه ملك الروم قسطنطين.

ثمّ عاد إلى ربو وبنى بها مسجداً وسط المدينة، وشرط على الروم أن لا يعرضوا له، وأنّ مَن دخله من الأسرى أمن.

ولمّا توفّي المنصور وملك ابنه المعز سار إليه الحسن واستخلف على صقلية ابنه أحمد، وأمره المعز بفتح القلاع التي بقيت للروم بصقلية، فغزاها وفتح طرمين وغيرها سنة إحدى وخمسين، وأعيته رمطة فحاصرها، فجاءها من القسطنطينية أربعون ألفاً مدداً.

وبعث أحمد يستمدّ المعز، فبعث إليه المدد بالعساكر والأموال مع أبيه الحسن، وجاء مدد الروم فنزلوا بمرسى مسينة ورجفوا إلى رومطة، ومقدّم الجيش على حصارها الحسن بن عمّار وأبن أخي الحسن بن علي. فأحاط الروم بهم وخرج أهل البلد إليهم، وعظم الأمر على المسلمين فاستماتوا وحملوا على الروم وعقروا فرس قائدهم منويل فسقط عن فرسه، وقُتل جماعة من البطارقة معه، وانهزم الروم وتتبّعهم المسلمون بالقتل، وامتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى والسبي.

ثم فتحو رمطة عنوة وغنموا ما فيها، وركب فلّ الروم من صقلية وجزيرة رفق في الأسطول ناجين بأنفسهم، فأتبعهم الأمير أحمد في المراكب، فحرقوا مراكبهم وقتل كثير منهم، وتُعرف هذه الوقعة بوقعة المجاز وكانت سنة أربع وخمسين، وأسر فيها ألف من عظمائهم ومئة بطريق، وجاءت الغنائم والأُسارى إلى مدينة بليرم حضرة صقلية، وخرج الحسن للقائهم فأصابته الحمّى من الفرح فمات وحزن الناس عليه، وولي ابنه أحمد باتفاق أهل صقلية بعد أن ولّى المعزّ عليهم يعيش مولى الحسن، فلم ينهض بالأمر ووقعت الفتنة بين كتامة والقبائل وعجز عن تسكينها. وبلغ الخبر إلى المعزّ فولّى عليها أبا القاسم علي بن الحسن نيابةً عن أخيه أحمد، ثمّ توفّي أحمد بطرابلس سنة تسع وخمسين، واستبدّ بالإمارة أخوه أبو القاسم علي، وكان مدلاًّ محيّاً.

وسار إليه سنة إحدى وسبعين ملك الفرنج في جموع عظيمة، وحصر قلعة رمطة وملكها وأصاب سرايا المسلمين. وسار الأمير أبو القاسم في العساكر من بليرم يريدهم فلمّا قاربهم خام عن اللقاء ورجع.

وكان الإفرنج في الأسطول يعاينونه فبعثوا بذلك للملك بردويل فسار في أتباعه وأدركه، فاقتتلوا وقُتل

٣٣٠

أبو القاسم في الحرب، وأهمّ المسلمين أمرهم فاستماتوا وقاتلوا الفرنج فهزموهم أقبح هزيمة. ونجا ردويل إلى خيامه برأسه وركب البحر إلى رومة. وولّى المسلمون عليهم بعد الأمير أبي القاسم ابنه جابراً فرحل بالمسلمين لوقته راجعاً ولم يعرّج على الغنائم.

وكانت ولاية الأمير أبي القاسم اثنتي عشرة سنة ونصفاً، وكان عادلاً حسن السيرة، ولمّا ولي ابن عمّه جعفر بن محمد بن علي بن أبي الحسن، وكان من وزراء العزيز وندمائه استقامت الأمور وحسنت الأحوال، وكان يحب أهل العلم ويجزل الهبات لهم. وتوفّي سنة خمس وسبعين، ووُلِّي أخوه عبد الله فاتّبع سيرة أخيه إلى أن توفّي سنة تسع وسبعين.

ووُلِّي ابنه ثقة الدولة أبو الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي الحسن فأنسى بجلائله وفضائله مَن كان قبله منهم إلى أن أصابه الفالج وعطّل نصفه الأيسر سنة ثمان وثمانين.

وولي ابنه تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة يوسف، فضبط الأمور وقام بأحسن قيام وخالف عليه أخوه علي سنة خمس وأربعمئة أنّه مع البربر والعبيد ؛ فزحف إليه جعفر فظفر به وقتله ونفى البربر والعبيد واستقامت أحواله. ثمّ انقلبت حاله واختلت على يد كاتبه ووزيره حسن بن محمد الباغاني، فثار عليه الناس بسببها وجاؤوا حول القصر، وأخرج إليهم أبو الفتوح في محفّة، فتلطّف بالناس وسلّم إليهم الباغاني فقتلوه وقتلوا حافده أبا رافع، وخلع ابنه ابن جعفر ورحل إلى مصر وولّى ابنه ابن جعفر سنة عشرة، ولقبّه بأسد الدولة بن تاج الدولة ويُعرف بالأكحل ؛ فسكن الاضطراب واستقامت الأحوال وفوّض الأمور إلى ابنه ابن جعفر وجعل مقاليد الأمور بيده، فأساء ابن جعفر السيرة وتحامل على صقلية ومال إلى أهل افريقية، وضجّ الناس وشكوا أمرهم إلى المعز صاحب القيروان وأظهروا دعوته ؛ فبعث الأسطول فيه ثلاثمئة فارس مع ولديه عبد الله وأيّوب.

واجتمع أهل صقلية وحصروا أميرهم الأكحل، وقُتل وحُمل رأسه إلى المعز سنة سبع عشرة وأربعمئة.

ثمّ ندم أهل صقلية على ما فعلوه، وثاروا بأهل افريقية وقتلوا منهم نحواً من ثلاثمئة وأخرجوهم، وولّوا الصمصام أخا الأكحل. فاضطربت الأمور وغلب السفلة على الأشراف.

ثمّ ثار أهل بليرم على الصمصام وأخرجوه، وقدّموا عليهم ابن الثمنة من رؤوس الأجناد، وتلقّب القادر بالله واستبدّ بمازر... ابنه عبد الله قبل

٣٣١

الصمصام، وغلب ابن الثمنة على ابن الأكحل فقتله واستقلّ بملك الجزيرة إلى أن أُخذت من يده. ولمّا استبدّ ابن الثمنة بصقلية تزوّج ميمونة بنت الجراس، فتخيّل له منها شيء فسقاها السمّ، ثمّ تلافاها وأحضر الأطباء فأنعشوها وأفاقت، فندم واعتذر، فأظهرت له القبول، واستأذنته في زيارة أخيها بقصريانة، وأخبرت أخاها فحلف أن لا يردّها.

ووقعت الفتنة وحشد ابن الثمنة فهزمه ابن جراس، فانتصر ابن الثمنة بالروم وجاء القمص، وجاء ابن ينقر بن خبرة ومعه سبعة من أخوته وجمع من الفرنج ووعدهم بملك صقلية، وقصد قصريانة وحكموا على مروا من المنازل، وخرج ابن جراس فهزمه ورجع إلى افريقية عُمر بن خلف بن مكّي فنزل تونس ووُلِّي قضاؤها، ولم يزل الروم يملكونها حتّى لم يبق إلاّ المعاقل.

وخرج ابن الجراس بأهله وماله صلحاً سنة أربع وستين وأربعمئة. وتملّكها رجار كلّها وانقطعت كلمة الإسلام منها، ودولة الكلبيين وهم عشرة ومدتهم خمس وتسعون سنة.

ومات رجار في قلعة مليطو من أرض قلورية سنة أربع وتسعين، وولي ابنه رجار الثاني وطالت أيامه، وله ألف الشريف أبو عبد الله الإدريسي كتاب: نزهة المشارق(١) في أخبار الآفاق.

وممّن شارك من الكتاميين في تأسيس الدولة الفاطميّة ومَن ساهم في أعمالها

١ - كان الكتاميّون أوّل من لبّى الدعوة الفاطميّة وأيّدوا داعيها أبا عبد الله الشيعي، وقد عرفت في تضاعيف البحث عنهم وفيما سبق في تاريخ الدولة الفاطميّة، ما كان لهم من المكانة والمنزلة في بلاد المغرب، وبنصرتهم مهدّ أبو عبد الله الأمر لأوّل خلفائهم أبي عبيد الله الملقّب بالمهدي، وبهم انتصر المهديُّ على بني الأغلب وبني مدرار، واستولى على سلطانهم الذي طوى قروناً وقد عرف لهم بلاءهم وقسّم على وجوههم الأعمال سنة ٢٩٧.

وفي خطط المقريزي:

وما زالت كتامة هي أهل الدولة مدّة خلافة المهدي عبيد الله وخلافة ابنه القاسم القائم بأمر الله وخلافة المنصور بنصر الله إسماعيل بن القاسم وخلافة معدّ بن

____________________

(١) المعروف المشتاق بدل المشارق.

٣٣٢

المنصور، وبهم أخذ ديار مصر لمّا سيّرهم إليها مع القائد جوهر في سنة ٣٥٨ وهم أيضاً كانوا أكابر من قَدِم معه من الغرب في سنة ٣٦٢، فلمّا كان في أيّام ولده العزيز بالله نزار اصطنع الديلم والأتراك وقدمهم وجعلهم خاصّته، فتنافسوا وصار بينهم وبين كتامة تحاسد إلى أن مات العزيز بالله، وقام من بعده أبو علي المنصور الملقّب بالحاكم بأمر الله فقدّم ابن عمّار الكتامي وولاّه الوساطة ج ٣ ص ١٨.

ولمّا انحرف أبو عبد الله وأخوه أبو الفضل أحمد عن المهدي لاستبداده دونهما بالأمر، وحاولا الانتقاض عليه وائتمرا على قتله، وأرسلا شيخ مشايخ كتامة لامتحان المهدي وتوهين أمره بزعمهما، بعد أن هبّت ريحه واشتدّت عصبته وقويت بالكتاميين أنفسهم شوكته، فخدعا ذلك الكتاميّ الذي جُوزي بالقتل، أعادا المؤامرة على المهدي وكان من الكتاميّين في المؤتمرين أبو زاكي تمّام بن معارك، ولكنّ المهدي تعجّل تنفيذ المؤامرة بقتلهما، ولمّا علم بمداخلة أبي زاكي في المؤامرة بعثه والياً على طرابلس وأمر واليها بقتله فقتله.

وظهرت فتنة سكنها المهدي، ورجعت كتامة إلى بلادها بعد أن استقرّ له الأمر.

٢ و ٣ - عروبة وأخوه حباسة:

لمّا قوي أمر الشيعي والتقى جيشه وجيش زيادة الله وقد بلغ عدده مئة ألف، وقد زحف لقتال الشيعي وكتامة إبراهيم بن جيش من صنائع زيادة الله وقد تلقّته كتامة بإجانة فانهزمت عساكره وتقهقر إلى باغاية ثمّ إلى القيروان.

وكان ممّن توجّه لقتال زيادة الله عروبة بن يوسف من أمراء كتامة وأوقع بباغاية.

ولمّا فرّ زيادة الله إلى الشرق حضر الشيعي وفي مقدّمته عروبة بن يوسف وحسن بن أبي جفترير (خنزير) وهما اللذان أمرهما المهديُّ بقتل الشيعي وأخيه سنة ٢٩٧، وبعد قتلهما ولّى حباسة على برقة وعلى المغرب عروبة، وأنزله باغاية إلى تاهرت وافتتحها.

وفي سنة ٣٠٠ هـ لمّا أغزى المهدي ابنه أبا القاسم الإسكندرية بعث أسطولاً مؤلّفاً من مئتي مركب، عقد لواءه على حباسة، فملكوا برقة ثمّ الاسكندرية والفيّوم، ثمّ عاد حباسة بعد أن بعث المقتدر العبّاسي سبكتكين ومؤنساً الخادم سنة ٣٠٢.

وقد قتل المهدي حباسة فشقّ ذلك على أخيه عروبة فانتقض عليه، وتبعه جموع من كتامة والبربر،

٣٣٣

فأرسل إليهم المهدي مولاه غالباً فهزمهم وقتل عروبة وبني عمّه وكثيراً من أشياعهم.

٤ - يعقوب الكتامي:

لما جهّز المهدي سنة ٣٠٧ ابنه أبا القاسم على مصر ثالثةً فملك الإسكندرية والجزيرة والأشمونين، فأرسل المقتدر مؤنساً، وبعد عدّة مواقع انتصرت مراكب الخليفة القادمة من طرسوس وكانت خمسة وعشرين مركباً على أسطول افريقية المؤلّف من ثمانين مركباً، وقد سيّر نجدةً لأبي القاسم يقوده سليمان الخادم ويعقوب الكتامي وقد أُسرا، أمّا سليمان فقد مات في السجن، ويعقوب فقد هرب من حبس بغداد وكان قد سيّر إليها.

٥ - الحسن بن هارون الكتامي:

جمع هذا الرجل كلمة قبيلة كتامة لتأييد دعوة أبي عبد الله الشيعي، وذلك أنّه لمّا بلغ ابن الأغلب خبره كتب إلى عامله على ميلة يسأله عنه فصغّره، وذكر أنّه يلبس الخشن ويأمر بالخير والعبادة فسكت عنه.

ثمّ قال الشيعي للكتاميين: أنا صاحب البذر الذي ذكر لكم أبو سفيان والحلواني، فازدادت محبتهم له وتعظيمهم لأمره، وتفرقت كلمة البربر وكتامة بسببه، فأراد بعضهم قتله فاختفى ووقع بينهم قتال شديد، واتصل الخبر بالحسن بن هارون وهو من أكابر كتامة فأخذ أبا عبد الله إليه ودافع عنه، ومضيا إلى مدينة ناصرون فأتته القبائل من كلّ مكانٍ وعظم شأنه، وصارت الرئاسة للحسن بن هارون، وسلّم إليه أبو عبد الله أعنّة الخيل، وظهر من الاستتار وشهر الحروب فكان له الظفر فيها، وغنم الأموال وانتقل إلى مدينة ناصرون وخندق عليها، فزحفت قبائل البربر إليها واقتتلوا ثمّ اصطلحوا ثمّ أعادوا القتال، وكان بينهم وقائع كثيرة ظفر بهم وصارت إليه أمولهم، فاستقام له أمر البربر وكتامة.

٦ - ريحان الكتامي:

ولاّه موسى بن أبي العافية على فاس سنة ٣٠٩ هـ.

وفي سنة ٣١٣ ثار عليه الحسن بن محمد بن القاسم الإدريسي الملقّب بالحجام ونفاه عن فاس.

٧ - عبد الله بن يخلف الكتامي:

ولاّه المعزّ على طرابلس سنة ٣٦١ هـ. وهي السنة التي عزم على المسير فيها إلى مصر، وقد مهّد له

٣٣٤

جوهر ملكها، وأبقى صقلية في يد ابن الكلبي أبي القاسم علي بن الحسن بن علي بن أبي الحسين.

وفي سنة ٣٦٥ أقرّه العزيز نزار على طرابلس وأضاف إلى ولايته سرت وجرابية.

٨ و ٩ - من رؤساء كتامة الذين رافقوا أبا عبد الله الشيعي من مكّة إلى مصر فافريقية وأيّدوا دعوته: حريث الجميلي وموسى بن مكاد.

١٠ - جعفر بن فلاح الكتامي:

كان أحد قوّاد المعز أبي تميم معدّ بن المنصور العبيدي، وجهّزه مع القائد جوهر لمّا توجّه لفتح الديار المصريّة، فلمّا أخذ مصر بعثه جوهر إلى الشام فتغلّب على الرملة سنة ٣٥٨، ثمّ غلب على دمشق وملكها في المحرّم سنة ٣٥٩ بعد أن قاتل أهلها، ثمّ أقام بها إلى سنة ٣٦٠، ونزل إلى الدكّة فوق نهر يزيد بظاهر دمشق، فقصده الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم فخرج إليه جعفر وهو عليل فظفر به القرمطي، وقتله وقتل خلقاً كثيراً من أصحابه سنة ٣٦١.

وقد ترجم له القاضي ابن خلّكان في وفياته ؛ فقال: كان أحد قوّاد المعز أبي تميم معدّ بن المنصور العبيدي صاحب افريقية، وجهّزه مع القائد جوهر لمّا توجّه لفتح الديار المصرية، فلمّا أخذ مصر بعثه جوهر إلى الشام فغلب على الرملة في ذي الحجّة سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة، ثمّ غلب على دمشق فملكها في المحرّم سنة ٣٥٩ بعد أن قاتل أهلها، ثمّ أقام بها إلى سنة ستّين، ونزل إلى الدكّة فوق نهر يزيد بظاهر دمشق فقصده الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم فخرج إليه جعفر وهو عليل، فظفر به القرمطي فقتله وقتل من أصحابه خلقاً كثيراً، وذلك في يوم الخميس لستّ خلون من ذي القعدة سنة ٣٦٠ (ره).

وقال بعضهم: قرأت على باب قصر القائد جعفر بن فلاح المذكور بعد قتله مكتوباً:

يا منزلاً عبث الزمانُ بأهله فـأبادهم بـتفرّقٍ لا يجمعُ

أيـن الذين عهدتهم بك مرّةً كان الزمان بهم يضر وينفعُ

٣٣٥

وكان جعفر المذكور رئيساً جليل القدر ممدوحاً، وفيه يقول أبو القاسم محمد بن هاني الأندلسي:

كـانت مساءلة الركبان تخبرني عن جعفر بن فلاح أطيب الخبرِ

حـتّى التقينا فلا والله ما سمعت أذني بأحسن ممّا قد رأى بصري

١١ - سليمان بن جعفر بن فلاح:

قال القلانسي:

(وكان هذا القائد مشهوراً بالكفاية والغناء وتوقّد اليقظة في أحواله والمضاء، ويكنّى بأبي تميم، بعثه العزيز بالله والياً على دمشق سنة ٣٦٩ فنزل بظاهرها، ولم يمكّنه قسّام الحارثي من دخولها وقوتل وأزعج من مكانه).

وفي سنة ٣٨٦ جهّزه الحاكم بأمر الله إلى الشام لقتال برجوان، وقد انتقض عليه بسبب تغلّب ابن عمّار وكتامة على الشام، فبعث سليمان هذا أخاه عليّاً إلى دمشق، فامتنع أهلها عليه فكاتبهم وتهددهم وأذعنوا ودخل البلد ففتك بهم، ثمّ قدم أبو تميم فأمن وأحسن. وبعث أخاه عليّاً إلى طرابلس وعزل عنها جيش بن الصمصامة، فسار إلى مصر. وبعد قتل ابن عمّار وإظهار برجوان الحاكم وتجديد البيعة له انتقض برجوان على أبي تميم بن فلاح.

قال المقريزي في خططه:

(وفي سنة ٣٨٦ هـ ندب الحسن بن عمّار أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح وقدّمه وجعله اسفهلاّر الجيش، وأمره بالمسير إلى الشام، فسار من مصر ورحل منجوتكين إلى الرملة فملكها وأخذ أموالها.

وجرى بينه وبين سليمان حرب في عسقلان انتهت بهزيمة منجوتكين، ولمّا انجلت فتنة ابن عمّار بتجديد البيعة للحاكم بأمر الله، وكتب بذلك إلى دمشق وفيه ما يبعث على الوثوب على سليمان، ولمّا كان مع ما عُرف به من الكفاية واليقظة والمضاء، مستهتراً بشرب الراح واستماع الغناء والتوفّر على اللذة، ولمّا وردت المطلقات المصريّة بما اشتملت عليه في حقّه وهو منهمك في القهوة، لم يشعر إلاّ بزحف العامّة والمشارقة إلى قصره وهجومهم عليه، فخرج هارباً على ظهر فرسه. (انتهى ملخّصاً عن تاريخ ابن القلانسي).

٣٣٦

وكان برجوان ألدّ أعداء ابن عمّار وهو الذي عمل على إسقاطه والاستئثار دونه بأمر الخلافة. وفي هذه السنة اصطنع جيش بن محمد بن الصمصامة، وقدّمه وجهّز معه ألف رجلٍ وسيّره إلى دمشق وأعمالها، وبسط يده في الأموال وردّ إليه تدبير الأعمال، فسار جيش ونزل على الرملة، والوالي عليها وحيد الهلالي، ومعه خمسة آلاف رجل، ووافاه ولاة البلد وخدموه. وصادف القائد أبا تميم سليمان بن فلاح فقبضه قبضاً جميلاً.

وسار جيش بن الصمصامة على مقدّمته بدر بن ربيعة لقصد المفرج بن دغفل بن الجراح وطلبه، فهرب بين يديه حتّى لحق بجبلي طيئ وتبعه حتّى كاد يأخذه، ثمّ عفى عنه واستحلفه على ما قرّره معه وعاد إلى الرملة. وستجد أخباره في غير هذا المكان.

وفي خطط المقريزي ج ٤ ص ٦٨:

وفي سنة ٣٨٦ هـ ولي الحاكم بأمر الله الخلافة بعد أبيه العزيز بالله نزار، وجعل أبا محمد الحسن بن عمّار وساطة ولقّب بأمين الدولة وقلّد سليمان بن فلاح الشام. فخرج بنجوتكين من دمشق وسار منها لمدافعته، فبلغ الرملة وانضمّ إليه ابن الجراح الطائي في كثيرٍ من العرب، وواقع ابن فلاح فانهزم وفرّ ثمّ أُسر فحمل إلى القاهرة.

وفي سنة ٣٨٧ صرف عن ولاية الشام بجيش بن الصمصامة.

١٢ - علي بن جعفر بن فلاح الكتامي:

الملقّب بقطب الدولة كذا في خطط الشام، تقدّم شيء من خبره في أخبار أخيه سليمان، فقد ولي دمشق من قبل أخيه ثمّ طرابلس.

وفي سنة ٣٩٠ ولي(١) دمشق بعد وفاة واليها فحل بشهور.

وفي سنة ٣٩٢ في شهر رمضان قلد ولايتها تموصلت (طرفلة) عوضاً عن ابن فلاح.

وفي سنة ٣٩٨ مات منجوتكين وولّي علي بن فلاح دمشق. وفي هذه السنة ولّي ولاية طرابلس.

وفي سنة ٣٩٩ ولّي دمشق القائد حامد بن ملهم لست بقين من رجب، وكان القائد علي بن جعفر بن فلاح مستولياً على الجند نافذ الأمر

____________________

(١) وفي سنة ٣٩٧ كان من قوّاد الجيش الشامي الحاكمي لقتال أبي ركوة الذي خرج على الحاكم واستفحل أمره، وانضمّ إليه بنو قرّة وبعض كتامة لمّا نالهم جميعاً من اضطهاد الحاكم وسوء سياسته، وانتهى أمر أبي ركوة بالانكسار والقتل، ولم يذكر في الكامل خروجه لحرب أبي ركوة.

٣٣٧

في البلد، فورد كتاب عزله في يوم الجمعة النصف من شهر رمضان.

وكانت مدّة مقامه في الولاية إلى انصرافه ومسيره سنة واحدة وأربعة أشهر ونصف شهر.

وفي سنة ٤٠٩ جاء في الخطط ج ٤ ص ٧٤:

وأقام (الحاكم) ذا الرياستين قطب الدولة أبا الحسن علي بن جعفر بن فلاح في الوساطة والسفارة.

١٣ - القائد أبو محمود بن إبراهيم بن جعفر:

هكذا نسبه في ذيل تاريخ دمشق (ابن القلانسي).

وفي خطط الشام: أبو محمود بن جعفر بن فلاح.

وفي تاريخ ابن خلدون: أبو محمود بن إبراهيم.

وفي الخطط في مكان آخر: وجيش بن محمد بن الصمصامة أبو الفتوح القائد المغربي هو ابن أخت أبي محمود الكافي أمير أمراء جيوش المغرب ومصر والشام المتوفّى سنة ٣٩١.

وفي خطط المقريزي: أبو محمود إبراهيم بن جعفر.

وأبو محمود من شيوخ كتامة كان من قوّاد المعز وابنه العزيز، ففي سنة ٣٦٣ جرّد في خمسة عشر ألف رجل في طلب القرمطي، وقد فرّ من مصر مغلولاً، فاتبعه وتثاقل في سيره خوفاً من رجوعه عليه. ولمّا علم أبو محمود ارتحاله من أذرعات إلى الأحساء رحل ونزل بها مكانه. وفي هذه السنة وصل بجيشه إلى دمشق، وكان والياً عليها ظالم بن موهوب العقيلي، فخرج لتلقّيه ولمّا نزل على دمشق في جيشه اضطرب الناس وجرت أمورٌ عظام بين الجيش والدمشقيين لم تنفرج إلاّ بعد شهرين ونصف شهر. وتقرّرت الموادعة والمصالحة إلى أن ولي جيش بن الصمصامة البلد من قبل خاله أبي محمود. ولمّا استقرّ الصلح والموادعة بين أهل دمشق وأبي محمود، وخمدت نار الفتنة بعض الخمود، وركدت ريحها بعض الركود، وسكنت نفوس أهل البلد واطمأنت القلوب بين الفريقين، اعتمد أبو محمود على ابن أخته جيش في ولاية دمشق وحمايتها. ولكن لم يطل الأمر حتّى عادت الفتنة، ممّا حدا بالمعز أن يولّي ريّان الخادم عقيب هذه الفتنة والياً عليها، ويستقدمه من طرابلس فيصرف أبو محمود عن دمشق. ولكن أهل دمشق لم تطب نفوسهم لحكم المغاربة والفاطميّين وصادف أن كان قد نزل ضاحية دمشق الفتكين المغربي، فحملوه على ولاية حكم بلدهم. وقد جرت حروب بين جيوش المعز والفتكين. وقد استنجد بالقرمطي، استدعت أخيراً أن يتولّى المعز

٣٣٨

بنفسه القيادة العامّة للجيوش المصرية، وينتهي الأمر بفوزها على الفتكين والقبض عليه، ثمّ العفو عنه وحمله إلى مصر معزّزاً مكرّماً.

ثمّ غلب قسام الحارثي من قرية تلفيت ومن خواص أصحاب الفتكين على دمشق سنة ٣٦١ بعد أن كانت في ولاية حميدان.

ووليها بعده القائد أبو محمود في نفرٍ يسير، وهو ضميمة لقسام وما زال على هذه الحال إلى سنة ٣٧٠ حيث هلك فيها.

١٤ - أبو الفتوح جيش بن محمد بن صمصامة:

القائد المغربي ابن أخت أبي محمود الكافي أمير أمراء جيوش المغرب ومصر والشام. تولّى نيابة دمشق غير مرّة وكان ظالماً سفّاكاً للدماء.

قالوا: وعمّ الناس في ولايته البلاء من القتل وأخذ المال، حتّى لم يبق بيت في دمشق ولا بظاهرها إلاّ امتلأ من جوره. توفي سنة ٣٩١.

ولي دمشق سنة ٣٦٤ بعد إخراج ظالم منها، وسكن الناس إليه بعد فتنة. ولمّا عاد المغاربة إلى الجيش وعاد العامّة إلى الثورة وقصدوا القصر الذي فيه جيش، هرب ولحق بالعسكر.

وزحف إلى البلد فقاتلهم وأحرق ما كان بقي، وقطع الماء عن البلد، فضاقت الأحوال وبطلت الأسواق وبلغ الخبر إلى المعز فنكر ذلك على أبي محمود واستعظمه، وبعث إلى ريان الخادم في طرابلس يأمره بالمسير إلى دمشق لاستكشاف حالها وأن يصرف القائد أبا محمود عنها، فصرفه إلى الرملة وبعث إلى المعز بالخبر، وأقام بدمشق إلى أن وصل افتكين (هفتكين) والياً عليها.

وبعد وفاة المعز سنة ٣٦٥ وولاية ابنه العزيز والظفر بافتكين والقبض عليه وولاية قسام الحارثي، كان مع قسام جيش وأقام بعده في ولايته، وقد زحف بلتكين إلى دمشق وأظهر لقسام أنّه جاء لإصلاح البلد، فخرج إلى بلتكين فأمره بالنزول في ظاهر البلد هو وأصحابه.

واستوحش قسام وتجهّز للحرب ثمّ قاتل وانهزم أصحابه، ودخل بلتكين أطراف البلد فنهبوا وأحرقوا، واعتزم أهل البلد على الاستئمان إلى بلتكين وشافهوه بذلك فأذن لهم.

وسمع قسام فاضطرب وألقى ما بيده واستأمن الناس إلى بلتكين لأنفسهم ولقسام فأمن الجميع.

وولّي على البلد أمير اسمه خطلج، فدخل البلد في المحرم سنة اثنتين وستّين، ثمّ اختفى قسام بعد يومين فانتهبت دوره ودور أصحابه، وجاء ملقياً بنفسه على بلتكين فقبله وحمله إلى مصر فأمنه العزيز.

٣٣٩

ولمّا توفّي العزيز سنة ٣٨٦ هـ. وولي بعده ولده الحاكم بأمر الله، وكان برجوان الخادم قد استولى على دولته كما كان لأبيه العزيز بوصيته بذلك، وكان مدبّر دولة، وكان رديفه في ذلك أبو محمد الحسن بن عمّار، ولُقّب بأمين الدولة. وقد تغلّب ابن عمّار وانبسطت أيدي كتامة في أموال الناس وحرمهم.

ونكر منجوتكين تقديم ابن عمّار في الدولة وكاتب برجوان بالموافقة على ذلك، فأظهر الانتقاض.

وجهّز ابن عمّار العساكر لقتاله مع سليمان بن جعفر بن فلاح، فلقيهم بعسقلان وانهزم منجوتكين وأصحابه، وسيق أسيراً إلى مصر فأبقى عليه ابن عمّار واستماله للمشارقة.

وعقد على الشام لسليمان بن فلاح، فبعث من طبرية أخاه عليّاً على دمشق. ولمّا جرى منه فيها أُمور لم ترضه وقدم إليها بعث عليّاً إلى طرابلس وعزل عنها جيش ابن الصمصامة، فسار إلى مصر وداخل برجوان في الفتك بالحسن بن عمّار وأعيان كتامة وكان معهما في ذلك شكر خادم عضد الدولة. نزع إلى مصر بعد مهلك عضد الدولة ونكبة أخيه شرف الدولة إياه، فخلص إلى العزيز فقرّبه وحظي عنده فكان مع برجوان وجيش بن الصمصامة.

وثارت الفتنة واقتتل المشارقة والمغاربة، فانهزمت المغاربة واختفى ابن عمّار، وأظهر برجوان الحاكم وجدّد له البيعة، وكتب إلى دمشق بالقبض على أبي تميم بن فلاح.

ولمّا زحف الدوقش ملك الروم على حصن افامية محاصراً لها، جهّز برجوان العساكر مع جيش بن الصمصامة فسار إلى عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان وأسطولاً في البحر.

ثمّ سار جيش إلى المفرج ابن دغفل، فهرب أمامه ووصل إلى دمشق وتلقّاه أهلها مذعنين فأحسن إليهم وسكنهم ورفع أيدي العدوان عنهم.

ثمّ سار إلى افامية وصافّ الروم عندها فانهزم أوّلاً هو وأصحابه، وثبت بشارة اخشيدي بن قرارة في خمس عشرة فارساً، ووقف الدوقش ملك الروم على رابيةٍ في ولده وعدّة من غلمانه ينظر فعل الروم في المسلمين، فقصد كردي من مصاف الاخشيدي وبيده عصا من حديد يسمّى الخشت، وظنّه الملك مستأمناً، فلمّا دنا منه ضربه بالخشت فقتله وانهزم الروم، واتبعهم جيش بن الصمصامة إلى انطاكية يغنم ويسبي ويحرق.

ثمّ عاد مظفّراً إلى دمشق، فنزل بظاهرها ولم يدخل، واستخلص رؤساء الأحداث واستحجبهم، وأقيم له الطعام في كلّ يوم، وأقام على ذلك برهة ثمّ أمر أصحابه إذا دخلوا للطعام أن يغلق باب

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595