أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان13%

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 595

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان
  • البداية
  • السابق
  • 595 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156842 / تحميل: 12405
الحجم الحجم الحجم
أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ب :( وَلا تَنْقُضُوا الإيْمان بَعْد تَوكيدها ) فالأيمان جمع يمين.

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين ، والظاهر اختصاص الأولى بالعهود التي يبرمها مع الله تعالى ، كما إذا قال : عاهدت الله لأفعلنّه ، أو عاهدت الله أن لا أفعله.

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد الله.

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم الله ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه.

ثمّ إنّه قيّد الأيمان بقوله : بعد توكيدها ، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين : قسم يطلق عليه لقب اليمين ، بلا عزم في القلب وتأكيد له ، كقول الإنسان حسب العادة والله وبالله.

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد ، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين ، يقول سبحانه :( لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الإيْمان ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل تحريم نقض العهد ، بقوله :( وَقَد جَعَلتم الله علَيكم كفيلاً انّ الله يعلم ما تَفْعلون ) أي جعلتم الله كفيلاً بالوفاء فمن حلف بالله فكأنّه أكفل الله بالوفاء.

فالحالف إذا قال : والله لأفعلنّ كذا ، أو لأتركنّ كذا ، فقد علّق ما حلف عليه نوعاً من التعليق على الله سبحانه ، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه

__________________

١ ـ المائدة : ٨٩.

١٨١

اليمين ، فإن نكث ولم يفِ كان لكفيله أن يؤدبه ، ففي نكث اليمين ، إهانة وإزراء بساحة العزة.

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، قال :( وَلاتَكُونُوا كَالّتى نَقَضَت غزلها مِنْ بعْدل قُوّة أنكاثاً ) مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها وبيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر ، ثمّ تنقض ما غزلته ، وقد عرفت في قوله ب‍ « الحمقاء » فكذلك حال من أبرم عهداً مع الله وباسمه ثمّ يقدم على نقضه ، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين ، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً ، يقول سبحانه :( تَتَّخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمّة هي أربى من أمّة ) فقوله « أربى » من الربا بمعنى الزيادة ، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش ، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد ، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه ، كما يقول سبحانه :( إنّما يبلوكم الله به وليبيّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به ، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هوا لمهتدي.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١٢ / ٣٣٦.

١٨٢

النحل

٣٠

التمثيل الثلاثون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون ) .(١)

تفسير الآيات

« رغد » عيش رغد ورغيد : طيّب واسع ، قال تعالى :( وكلا منها رغداً ) .

يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث :

أ : آمنة : أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم ، ولا يُشنُّ عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال ، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.

ب : مطمئنة : أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق ، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار ، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه ، فالاطمئنان رهن الأمن.

____________

١ ـ النحل : ١١٢ ـ ١١٣.

١٨٣

ج :( يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان ) ، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية ، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى ، والدليل على ذلك ، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب :( وَاسئلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصادِقُون ) .(١) والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.

وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الاَصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.

هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية ، أعنيبعث الرسول إليها ، كما أشار إليه في الآية الثانية ، بقوله :( وَلَقد جاءهُمْ رسول منهم ) .

وهوَلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا الله عليها كفروا بها.

أمّا النعمة المعنوية ، أعني : الرسول فكذّبوه ـ كما هو صريح الآية الثانية ـ وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.

روى العياشي ، عن حفص بن سالم ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : « إنّ قوماً في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها ، فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها

__________________

١ ـ يوسف : ٨٢.

١٨٤

ويأكلونها ، وهو قول الله :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) ».(١)

وفي رواية أخرى عن زيد الشحّام ، عن الصادقعليه‌السلام قال : كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلاّ أن يمصّها ، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها ، قال : فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم ، ثم قال : إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.

قالعليه‌السلام : فلمّا فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد ، فلم تدع لهم شيئاً خلقه الله إلاّ أكلته من شجر أو غيره ، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه وهي القرية التي قال الله تعالى :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .(٢)

وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة الله. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية ، فكلّ ذلك كفران لنعم الله.

ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية ، وأشار إليها

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩١ ، حديث ٢٤٧.

٢ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩٢ ، حديث ٢٤٨.

١٨٥

بآيتين :

الاَُولى :( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .

الثانية :( فَأخذهم العذاب وهم ظالمون ) .

فلنرجع إلى الآية الأولى ، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.

وهناك سؤال مطروح منذ القدم وهو أنّه سبحانه جمع في الآية الأولى بين الذوق واللباس ، فقال :( فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الجُوعِ ) مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم ، بأن يقول : « فأذاقها الله طعم الجوع ».

ومقتضى اللفظ الثاني أعني : اللباس ، أن يقول : « فكساهم الله لباس الجوع » فلماذا عدل عـن تلك الجملتين إلى جملة ثالثــة لا صلـة لها ـ حسب الظاهر ـ بين اللفظين ؟

والجواب : انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.

أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم ، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس ، ولذلك قال :( لباس الجوع والخوف ) ولم يقل « الجوع والخوف » لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.

وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع ، لأنّ الإنسان يذوق الطعام ، وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش والخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته ، فقال :( فَأَذاقَهُمُ الله لِباس الجوع والخَوف ) .

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وأمّا ما هو المرادمن تلك القرية بأوصافها الثلاثة ، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

١٨٦

نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة ، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه ، ثمّ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة وهي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكفروا به وبالغوا في إيذائه ، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.

قال المفسرون : عذّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

وأمّا الخوف ، فهو انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله :( أَوَ لَمْ نُمَكّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَيْءٍ ) .(١)

ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.

أمّا أوّلاً : فلأنَّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.

وثانياً : لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة ، وان كان يذكره بعض المفسرين.

وثالثاً : انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبّة تماديهم في كفرهم ، والسورة مكية إلاّ آيات قليلة ، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف ، لتكون أحوال تلك الأمم عبرة للمشركين من أهل مكة وما والاها.

__________________

١ ـ القصص : ٥٧.

١٨٧

الاِسراء

٣١

التمثيل الواحد والثلاثون

( وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) .(١)

تفسير الآيات « الغلُّ » : ما يقيَّد به ، فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال ، ومعنى قوله :( مغلولة إلى عنقك ) أي مقيَّدة به.

« الحسرة » : الغم على ما فاته والندم عليه ، وعلى ذلك يكون محسوراً ، عطف تفسير لقوله « ملوماً » ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه ، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الاِعطاء والبذل ، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك ، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وهذا كناية عن الإسراف ، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية

__________________

١ ـ الإسراء : ٢٩ ـ ٣٠.

١٨٨

وإن لم يكن منطوقاً ، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء ، فقد تضمّنته آية أخرى في سورة الفرقان ، وهي :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) .(١)

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها.

روى الطبري أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : قل له : إنّ أمّي تستكسيك درعاً ، فإن قال : حتى يأتينا شيء. ، فقل له : انّها تستكسيك قميصك.

فأتاه ، فقال ما قالت له ، فنزع قميصه فدفعه إليه ، فنزلت الآية.

ويقال انّهعليه‌السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار ، وقالوا : إنّ محمداً اشتغل بالنوم واللهو عن الصلاة( إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) أي يوسع مرة ويضيق مرة ، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه.(٢)

روى الكليني عن عبدالملك بن عمرو الأحول ، قال : تلا أبو عبد الله هذه الآية :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَم يسرفُوا وَلم يقتروا وَكان بين ذلكَ قواماً ) .

قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أخرى ، فأرخى كفه كلها ، ثمّ قال : هذا الإسراف ، ثمّ قبض قبضة أخرى فأرخى بعضها ، وقال : هذا القوام.(٣)

__________________

١ ـ الفرقان : ٦٧.

٢ ـ مجمع البيان : ٣ / ٤١٢.

٣ ـ البرهان في تفسير القرآن : ٣ / ١٧٣.

١٨٩

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون ، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم وانّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به ، فالشمس ترسل ٤٥٠ ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما ، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

إنّ النحل يمتصّ رحيق الاَزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً ، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة ، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الاِفراط والتفريط ، فمنع عن الشح ، كما منع عن الإسراف في البذل.

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان ، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله :( وَ اقْصُدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير ) .(١)

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية ، فمن جانب يصرح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام .(٢)

ومن جانب آخر يقول الإمام عليعليه‌السلام : « هلك فيّ اثنان : محب غال ، ومبغض قال ».(٣)

__________________

١ ـ لقمان : ١٩.

٢ ـ حلية الأولياء : ١ / ٨٦.

٣ ـ بحار الأنوار : ٣٤ / ٣٠٧.

١٩٠

فالاِمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساس في الإسلام ، ولعله بذلك سميت الأمة الإسلامية بالاَُمة الوسط ، قال سبحانه :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ) .(١)

وهناك كلمة قيمة للاِمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حول الاعتدال نأتي بنصها :

دخل الإمام علي العلاء بن زياد الحارثى وهو من أصحابه يعوده ، فلمّا رأي سعة داره ، قال :

« ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرَّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ».

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال : « وماله؟ » قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : « عليّ به ». فلمّا جاء قال :

« يا عديّ نفسك : لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ؟! أنت أهون على الله من ذلك ».

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك !

قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل ( الحق ) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره ! »(٢)

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٩.

١٩١

الكهف

٣٢

التمثيل الثاني والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأحَدِهِما جَنَّتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً * وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً * وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لاََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً * قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّا هُوَ اللهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلداً * فَعَسى رَبّي أَنْ يُوَْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ ماوَُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الحفّ » من حفَّ القوم بالشيء إذا أطافوا به ، وحفاف الشيء جانباه كأنّهما

__________________

١ ـ الكهف : ٣٢ ـ ٤٣.

١٩٢

أطافا به ، فقوله في الآية( فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما ، وقوله :( ما أظن أن تبيد ) فهو من باد الشيء ، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.

« حسباناً » : أصل الحسبان السهام التي ترمى ، الحسبان ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه ، وفي الحديث انّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله في الريح : « اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً ».

« الصعيد » يقال لوجه الأرض « زلق » أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد ، كما في قوله سبحانه :( فتركه صلداً ) (١)

هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها ، فهو تمثيل للمؤمن والكافر بالله والمنكر للحياة الأخروية ، فالأوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة ، والثاني يركن إلى الدنيا ويطمئن بها ، ويتبين ذلك بالتمثيل التالي :

قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى الموَقت وانّه سوف يذهب سدى ، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه.

وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى الله بالإحسان والصدقة ، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الاَخ الغني على الفقير ، وقال :( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) ، وما هذا إلاّ لأنّه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفاً

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٤.

١٩٣

بهما وبين الجنتين زرع وافر ، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.

وكان كلما يدخل جنته يقول : ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار ـ أي تبقى أبداً ـ وأخذ يكذب بالساعة ، ويقول : ما أحسب القيامة آتية ، ولو افترض صحة ما يقوله الموحِّدون من وجود القيامة ، فلئن بعثت يومذاك ، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة ، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم ، وهذا دليل على كرامتي عليه.

هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً ، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.

و يقول : كيف كفرت بالله سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة ، ثمّ رجلاً سوياً ، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة ؟

وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة ، بل إنكار للمعاد ، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.

فإن افتخرت أنت بالمال ، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد الله لا أُشرك به أحداً.

ثمّ ذكّره بسوء العاقبة ، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله ، فانّ الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه ، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة الله تبارك وتعالى.

ثمّ أشار إلى نفسه ، وقال : أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو

١٩٤

أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك ، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء ، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.

قالها أخوه وهو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.

فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره ، ففي ذلك الوقت استيقظ الاَخ الكافر من رقدته ، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه ، وأخذ يندم على شركه ، ويقول : يا ليتني لم أكن مشركاً بربي ، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.

هذه حصيلة التمثيل ، وقد بيّنه سبحانه على وجه الإيجاز ، بقوله :( المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) .(١)

وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أخرى ، وقال :( قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ * يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقينَ * أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإنّا لَمَدِينُونَ * قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون * فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم ) .(٢)

إلى هنا تبيّـن مفهوم المثل ، وأمّا تفسير مفردات الآية وجملها ، فالاِمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً ، ومع ذلك نفسرها على وجه الإيجاز.

__________________

١ ـ الكهف : ٤٦.

٢ ـ الصافات : ٥١ ـ ٥٥.

١٩٥

( واضرب لهم ) أي للكفار مع المؤمنين( مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما ) أي للكافر( جنتين ) أي بستانين( من أعناب وحففناهما ) أحدقناهما بنخل( وجعلنا بينهما زرعاً ) يقتات به( كلتا الجنتين آتت أكلها ) ثمرها( لم تظلم ) تنقص( منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً ) يجري بينهما( وكان له ) مع الجنتين( ثمر فقال لصاحبه ) المؤمن( وهو يحاوره ) يفاخره( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) عشيرة( ودخل جنته ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها.( وهو ظالم لنفسه ) بالكفر( قال ما أظن أن تبيد ) تنعدم( هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي ) في الآخرة على زعمك( لاَجدنّ خيراً منها منقلباً ) مرجعاً( قال له صاحبه وهو يحاوره ) يجادله( أكفرت بالذى خلقك من تراب ) لأنّ آدم خلق منه( ثم من نطفة ثمّ سوّاك ) عدلك وصيّرك( رجلاً ) . أمّا أنا فأقول( لكنّا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ) عند اعجابك بها( ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ) .( إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً ) وصواعق( من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم( أو يصبح ماؤها غوراً ) بمعنى غائراً( فلن تستطيع له طلباً ) حيلة تدركه بها( وأحيط بثمره ) مع ما جنته بالهلاك فهلكت( فأصبح يقلب كفيه ) ندماً وتحسراً( على ما أنفق فيها ) في عمارة جنته( وهي خاوية ) ساقطة( على عروشها ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم( ويقول يا ليتني ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه( لم أُشرك بربي أحداً ولم تكن له فئة ) جماعة( ينصرونه من دون الله ) عند هلاكها و( ما كان منتصراً ) عند هلاكها بنفسه( هنالك ) أي يوم القيامة( الولاية ) الملك( لله الحقّ ) .(١)

__________________

١ ـ السيوطي : تفسير الجلالين : تفسير سورة الكهف.

١٩٦

الكهف

٣٣

التمثيل الثالث والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلّ شَيءٍ مُقتدراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الهشيم » : ما يكسر ويحطم في يبس النبات ، و « الذر » والتذرية : تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.

تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر ، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها ، فعندئذٍ تبتدئ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الاَزهار الرائعة ، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها ، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمِّرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة ، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف ، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر

__________________

١ ـ الكهف : ٤٥.

١٩٧

على طول السنة ويشاهده الإنسان باُمّ عينه ، دون أن يعتبر بها ، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.

يقول سبحانه :( وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) على وجه يلتف بعضه ببعض ، يروق الإنسان منظره ، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة ، وهذا ما يعبر عنه القرآن ، بقوله :( فأصبح هشيماً ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات( وكان الله على كلّ شيء مقتدراً ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها ، فهكذا الأموال والبنون.

وإنّما هي زينة للحياة الدنيا ، فإذا كان الأصل مؤقتاً زائلاً ، فما ظنّك بزينته ، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا ، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً ، قال سبحانه :( المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا ) .

نعم ، الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأخروية ، قال سبحانه :( وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة ، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية.(٢)

__________________

١ ـ مريم : ٧٦.

٢ ـ انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس ٢٥ ، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد ، الآية ٢٠.

١٩٨

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما يُعدُّ من أمثال القرآن قوله :( وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الإنسان أكثر شيء جدلاً ) .(١)

والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.

ومعنى قوله :( ولقد صرّفنا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة ومع ذلك( وَكانَ الإنسانُ أكثرَ شىءٍ جَدلاً ) أي أكثر شيء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

__________________

١ ـ الكهف : ٥٤.

١٩٩

الحج

٣٤

التمثيل الرابع والثلاثون

( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * ما قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز ) .(١)

تفسير الآيات

كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية ، ويعربون عن عقيدتهم ، بأنّه لا خالق في الكون سوى الله سبحانه ، وقد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرضَ لَيقُولُنَّ خَلقهُنَّ العَزِيزُ العَلِيم ) .(٢)

ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية ، وكأنّه سبحانه ـ بزعمهم ـ خلق السماوات والأرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة ، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الاَرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة ، يقول سبحانه :( أَأَرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ) (٣) والآية وإن كانت تفصح عن

____________

١ ـ الحج : ٧٣ ـ ٧٤.

٢ ـ الزخرف : ٩.

٣ ـ يوسف : ٣٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

القسم الثالث: النّصوص الدالّة على الشّهادة الثّالثة.

عَرِفنا ممّا سبق أنّ الظروف لم تكن مؤاتية للشيعة للإجهار بالشهادة بالولاية إلاّ بمعناها الكنائي الكامن في صيغة (حيّ على خير العمل)، فهم كانوا يقولونها في عهد الرسول وفي عهد الشيخين وفي العهد الأموي وفي العهد العباسي الأوّل خفيّةً، بعيداً عن أنظار الحكّام، لا على نحو الجزئية، لأنّها لو كانت جزءاً عندهم لما جاز لهم تركها، ولما اختلفوا في صيغها، وقد رأيت أنّهم يذكرونها إمّا على أنّها جملة تفسيرية، وإمّا لمحبوبيتها المطلقة المستفادة من عمومات اقتران الرسالة والولاية بالذكر، كما هو مفاد كثير من النصوص النبوية والولوية.

وقد حكي عن مجموعة من المفوِّضة، أو المتَّهمة بالتفويض والتي قد ظهرت في أيّام الغيبة أنّها تدّعي لزوم الإتيان بها على نحو الشطرية والجزئية وكونها من فصول الأذان وداخلة في ماهيته، ورووا في ذلك أخباراً، وهذا هو الذي ألزم بعض الفقهاء والمحدّثين كالشيخ الصدوقرحمه‌الله للوقوف أمامهم، لأنّه ليس بين ثنايا الأخبار الواصلة إلينا ما يدعو إلى وجوب ذكر الشهادة بالولاية في الأذان على نحو الجزئية، وبذلك فنحن لا نُخْرِجُ كلام شيخنا الصدوقرحمه‌الله من أحد ثلاث احتمالات: أن يكون هجومه على المفوّضة جاء لاعتقادهم بالجزئية، أو أنّهرحمه‌الله قالها تبعاً لمشايخه القميين، وقد يكون نصالفقيه قد صدر عنه تقيةً، وهذا الاحتمال الأخير تؤكّده بعض فقرات النص الآتي.

نحن لا نتردّد في أنّ الصدوقرحمه‌الله هو الفقيه الورع، ولا يمكنه بحسب قواعد الاستنباط المتّفق عليها بين الأمّة أن يفتي بعدم جواز الإتيان بالشهادة بالولاية،

٢٤١

بقصد القربة المطلقة، أو لمحبوبيتها الذاتية، أو التفسيرية.

نعم، نحن مع شيخنا الصدوق في عدم جواز الإتيان بها على نحو الجزئية الواجبة، وقد عرفت بأن أغلب الشيعة الزيدية والإسماعيلية والإمامية الاثني عشرية لا يأتون بها على نحو الجزئية.

ولعلّ ترك الزيدية والإسماعيلية في العصور اللاّحقة قول (محمد وعليّ خير البشر) أو (محمد وآل محمد خير البرية) بعد (حيّ على خير العمل) يؤكد على أنّهم لا يقصدون جزئيتها مع الحيعلة الثالثة، فهم يأتون بها في بعض الأحيان ويتركونها في أحيان أخرى، وهو المقصود بنحو عام من التفسيرية والمحبوبية الذاتية والقربة المطلقة، والأمور الثلاثة الأخيرة لا تعترضها شبهة التشريع المحرّم والبدعة، وعلى هذا الأساس نحن لا نشك ولا نتردد في أنّ الشيخ الصدوققدس‌سره لم يقصد هذه المعاني؛ إذ يبعد ذلك منه جدّاً بعد وقوفه على أدلّة الجواز، لذلك نراه يشدّد النكير فقط على من شرّعها طبقاً لروايات اعتقدها موضوعة.

وعليه: فكلامهرحمه‌الله لا يعني كلّ زيادة بما أنّها زيادة على الموجود لأنّه قد وقف على روايات فيها زيادات على ما رواه الحضرمي وكليب الأسدي، وبذلك فإنّهرحمه‌الله يعني بكلامه الزيادات الجديدة الموضوعة التي لم ترد في الأخبار الأذانية من قِبَلِ المعصومين.

أمّا لو كانت هناك روايات أو عمومات يُرادُ الأخذ بها لا على نحو الجزئية فلا يمانعه الشيخ الصدوق.

إذن، فالشيخ الصدوقرحمه‌الله لا يعني هؤلاء يقيناً، بل اعترضرحمه‌الله على الأخبار الموضوعة من قبل المفوّضة المفيدة للجزئية؛ إذ لا يعقل أن يلعن الشيخقدس‌سره من اجتهد من الشيعة وأفتى بمحبوبيتها العامة وأنّها ليست بجزء، من خلال العمومات وشواذ الأخبار والأدلّة الأخرى الدالّة على ذلك.

وممّا يؤكد ذلك أنّ الشيخ الصدوق لا يعترض على مضمون ما يقوله

٢٤٢

المفوضة، وفي الوقت نفسه لا يرضى قولها على نحو الجزئية وأنّها من أصل الأذان لقوله في آخر كلامه: (لا شكّ أنّ عليّاً ولي الله، وأنّه أمير المؤمنين حقّاً، وأنّ محمّداً وآله خير البرية، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان).

نعم، المطالع في كلمات اللاّحقين يقف على ما هو دالّ على الشهادة الثالثة على نحو القربة المطلقة، ولمحبوبيّتها الذاتية، ولرجاء المطلوبيّة من قبل الشيعة، وهي موجودة في أصول أصحابنا، بحيث يمكن الاستدلال بها تارة بالدلالة التطابقية وهذا ما فعله الشيخ الطوسي وابن البرّاج (رحمهما الله تعالى) ومن تبعهما كالمجلسي وأُخرى بالدلالة الالتزامية، كمرسلة الصدوق في(من لا يحضره الفقيه)، وفتاوى السيّد المرتضى، والشيخ الطوسي، وابن البراج، ويحيى بن سعيد الحلي، والعلاّمة الحلي، ونحن خصصنا هذا القسم لتفسير كلامهمرحمهم‌الله وبيان الملابسات التي لازمتها؛ لأنّ اللاحقين كثيراً ما يكتفون بفتاوى هؤلاء الأعلام دون التعريف بملابساتها وظروفها الحقيقية والموضوعية، وعلى كلّ تقدير فكلمات هؤلاء الأعلام نابعة من روح العقيدة وعليها تدور رحى الاجتهاد.

٢٤٣

٢٤٤

١ - مرسلات الصدوق (١) (٣٠٦ هـ - ٣٨١ هـ)

 روى الشيخ الصدوق بسنده عن أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي عن الإمام الصادق فصول الأذان فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

 أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن لا إله إلاّ الله.

 أشهد أنّ محمّداً رسول الله، أشهد أنّ محمّداً رسول الله.

 حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة.

 حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح.

 حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل.

 الله أكبر، الله أكبر.

 لا إله إلاّ الله، لا إله إلاّ الله.

 والإقامة كذلك، ولا بأس أن يقال في صلاة الغداة على إثر (حيّ على خير العمل)، (الصلاة خير من النوم). مرّتين للتقيّة.

 وقال مصنف هذا الكتاب [أي الصدوق]: هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد فيه ولا ينقص منه، والمفوِّضة (لعنهم الله) قد وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان (محمّد وال محمّد خير

____________________

(١) أخبار الصدوق في الفقيه مسندة، وإنما عنوناها بالمرسلات لأنّهرحمه‌الله ذكر متوناً روائية عن المفوضة ولم يأت بأسانيدها. وقد عبر الفقهاء عن تلك المتون بالمراسيل، قال صاحب الجواهر ٩: ٨٦، عن المجلسي: أنّه لا يبعد كون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبّة في الأذان استناداً إلى هذه المراسيل التي رميت بالشذوذ، انظر بحار الأنوار ٨١: ١١١ / باب (الأقوال في أشهد أنّ علياً ولي الله) كذلك.

٢٤٥

البرية) مرتين، وفي بعض رواياتهم بعد (أشهد أن محمداً رسول الله) (أشهد أن علياً وليّ الله) مرتين، ومنهم من روى بدل ذلك: (أشهد أنّ عليّاً أمير المومنين حقّاً) مرتين. ولا شكّ في أنّ علياً وليّ الله، وأنّه أمير المؤمنين حقاً، وأنّ محمّداً وآله (صلوات الله عليهم) خير البرية، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان، وإنّما ذكرت ذلك ليُعرَفَ بهذه الزيادة المتَّهمون بالتفويض المدلِّسون أنفسَهم في جملتنا(١) .

ولنا مع شيخنا الصدوقرحمه‌الله عدة وقفات لشرح ما تضمن كلامه:

الأولى: إنّ الخبر السابق والذي حكم الصدوق بصحته بقوله: (هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد فيه ولا ينقص منه) هو خبر شاذّ لا يعمل به أصحابنا اليوم، لأنّ فيه اتّحاد عدد فصول الأذان والإقامة، لقولهرحمه‌الله : (والإقامة كذلك) وهو قول شاذّ لا يوافقه عليه أحد.

وكذا لم يُذكر فيه جملة: (قد قامت الصلاة) مرّتين في الإقامة، ومعنى كلامه هو أنّ الإقامة مثل الأذان في فصوله حتى (لا إله إلاّ الله) في آخر الأذان، إلاّ أنّه يؤتى بها قبل إقامة الصلاة.

ولو كان يريد وجود: (قد قامت الصلاة) مرّتين في الإقامة لكان عليه أن يقول(٢) كما قال الطوسي في النهاية: والإقامة مثل ذلك، إلاّ أنّه يقول في أول الإقامة مرتين: (الله أكبر، الله أكبر)، يقتصر على مرّة واحدة: (لا إله إلاّ الله) في آخره، و يقول بدلاً من التكبيرتين في أوّل الأذان: (قد قامت الصلاة، قد قامت

____________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١: ٢٨٩ - ٢٩١ / باب الأذان والإقامة وثواب المؤذنين / ح ٨٩٧.

(٢) روى الشيخ في التهذيب ٢: ٦٠ باب عدد فصول الأذان ح ٢١٠. بسنده عن عمر بن أذينة عن زرارة والفضيل بن يسار عن أبي جعفر وفيه: والإقامة مثلها إلاّ أنّ فيها قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، بعد حي على خير العمل حي على خير العمل.

٢٤٦

الصلاة) بعد الفراغ من قوله: (حيّ على خير العمل، حي على خير العمل)(١) في حين أن الشيخ الصدوق لم يقل بهذا.

وكذا قولهرحمه‌الله : (ولا بأس أن يُقال في صلاة الغداة على إثر حيّ على خير العمل: الصلاة خير من النوم، مرتين للتقية) لا يمكن تصوّره والقول به، لأنّ المؤذّن لو كان في حال التقية فلا يمكنه أن يجهر ب (حي على خير العمل)، و إن لم يكن في حال التقيّة فلا يجوز له أن يقول: (الصلاة خير من النوم)، إلاّ أن نقول إنّه كان يعيش في تقيّه عالية فأفتى بالقول بالحيعلة سرّاً وبالتثويب علناً، جمعاً بين الأمرين، أو لعلّ هناك ملابسات أخرى سنوضّحها لاحقاً.

الوحيد البهبهاني ومقصود الصدوق من مثلية الأذان والإقامة

قال الوحيد البهبهاني وبعد أن ذكر رواية الحضرمي والأسدي: فلعل المراد أنّ الإقامة كذلك غالباً، إلاّ فيما ندر، وهو تثنية التكبير في الأوّل، ووحدة التهليل في الآخر... فيحتمل أن يكون المراد من كون الإقامة مثل الأذان، أنّها مثله في كونها مثنى مثنى، ردّاً على العامة القائلين بكونها مرّة مرّة مطلقاً... والصدوق في(الفقيه) لم يذكر إلاّ هذه الرواية، ثمّ قال: هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد فيه ولا ينقص... فلو لم يكن ما ذكرناه هو المراد من هذه الرواية، ولم يكن ذلك ظاهراً عليهم، لم يكن لما ذكره الشيخ وما ذكره الصدوق وجه، لأنّ ظاهر هذه الرواية مخالف للمُجمع عليه، إذ لم يرضَ أحد أن تكون الإقامة مثل الأذان، لأنّ فيها (قد قامت الصلاة) يقيناً دون الأذان... وأمّا أن يكون المراد غيره ولا قرينة أصلاً على تعيين

____________________

(١) النهاية: ٦٨.

٢٤٧

ذلك... فكيف لم يجعلها الشيخ معارَضَةً، ولا توجّه إلى وجه الحمل ورفع التعارض بإبداء المراد؟ والصدوق كيف ردّ بها المذاهب النادرة الّتي هي خارجة عن مذهب الشيعة، ولم يتعرّض لردّ ما هو المذهب المشهور في الشيعة، لو لم يكن متّفقاً عليه؟! ولو لم يكن هو المشهور، فلا أقل من كونه مذهباً مشهوراً منهم، ولو لم يكن كذلك فلا أقلّ من كونه مذهب بعض منهم، وأين هذا من مذهب من هو خارج من الشيعة؟

هذا، مع أنّه لم يبيّن: أيُّ شيء أريد من هذه الرواية؟ فظاهرها بديهيّ الفساد لا يرتكبه أحد، فضلاً أن يكون مثل الصدوق.

وخلاف الظاهر تتوقّف معرفته على سبيل التعيين، فإنّ تأليفه(الفقيه) لمن لا يحضره الفقيه، فمن لا يحضره الفقيه كيف يعرف الاحتمال المخالف للظاهر على سبيل التعيين من غير معيِّن؟! بل من يحضره الفقيه لا يمكنه ذلك فضلاً عمّن لا يحضره.

وخلاف الظاهر، إمّا أن يكون المراد أنّها مثل الأذان، إلاّ زيادة (قد قامت الصلاة) مرتين، أو تكون هذه الزيادة مكان التكبير مرّتين في أوّل الأذان، فيصير عددها وفصولها سواء، وهو أقرب إلى قوله: والإقامة مثل ذلك(١) . انتهى كلام الوحيد البهبهاني.

فكيف يمكن علمياً أن يعارِضَ خبرٌ شاذّ غير معمول به، الأخبارَ الصحيحة الأخرى في الأذان والإقامة والتي عمل بها الشيعة حتى صارت سيرة لهم؟!

____________________

(١) مصابيح الظلام ٦: ٥٠٩ - ٥١٢. وانظر كلامه في الحاشية على مدارك الأحكام ٣: ٢٨٠ كذلك.

٢٤٨

أضف إلى ذلك أنّ الأصحاب الّذين أجازوا العمل بالروايات المختلفة في الأذان والإقامة، سواء كانت ٣٥ فصلاً، أو ٣٧، أو ٣٨، أو ٤٢ أو غيرها، قالوا بذلك لصحّة تلك الروايات عندهم، فكيف يصحّ أن يقول الشيخ الصدوق: (هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد فيه ولا ينقص منه)، مُغفِلاً الروايات الأخرى المعمول بها عند الآخرين؟!

إذن لا سبيل لحلّ هذا الإشكال إلاّ بأن نقول كما قال الوحيدقدس‌سره ، أو نقول: إنّها محمولة على التقية، وهذا ما استظهره الشيخ يوسف البحراني في قوله: والأظهر عندي أنّ منشأ هذا الاختلاف إنّما هو التقية، لا بمعنى قول العامة بذلك، بل التقيّة بالمعنى الذي قدّمناه في المقدمة الأولى من مقدمات الكتاب(١) .

والمقصود هو أنّ المعصوم كان يتعمّد إلقاء الخلاف بين شيعته حتى لا يكون هو والدين غرضين للأعداء؛ إذ لو عرف الأمويون والعباسيون منهج آل البيت وشيعتهم بوضوح لسهل عليهم الفتك بهم والقضاء عليهم نهائياً.

وبنحو عام وبغضّ النظر عن كيفية تفسير التقية؛ فإنّ الملاحظ أنّ الصدوقرحمه‌الله وإن كان معاصراً للدولة البويهية الشيعية إلاّ أنّه مع ذلك يعتقد جازماً بلزوم التقيّة حتى خروج القائم فلا يخلو منها عصر من العصور؛ وذلك جليٌّ في قولهرحمه‌الله : والتقية واجبة لا يجوز تركها إلى أن يخرج القائم سلام الله عليه، فمن تركها فقد دخل في نهي الله ونهي رسوله والأئمّة صلوات الله عليهم(٢) .

الثانية: نظراً لقرينة أخرى يمكن حمل ما رواه الشيخ الصدوق عن أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي على التقيّة؛ لقوله بعدم البأس بالإتيان ب (الصلاة خير

____________________

(١) انظر الحدائق الناضرة ٧: ٤٠٢. وسنأتي بكلامهرحمه‌الله عند بياننا لكلام الشيخ الطوسي بعد قليل في صفحة ٣١٣ وما بعدها فانتظر.

(٢) الهداية للصدوق: ٥٣.

٢٤٩

من النوم) مرّتين تقيةً.

و يؤكّد احتمال التقية ما رواه الشيخ في التهذيب(١) والاستبصار(٢) والذي ليس فيه هذه الزيادة، ممّا يؤكّد بأن ما قاله الشيخ الصدوق كان للتقية.

ولا يخفى أنّ ما جاء في بعض الأخبار عن الإمام الباقر أو الصادقعليهما‌السلام من أنّهما كانا يؤذّنان بالصلاة خير من النوم لا يمكن جعله دليلاً على الكلام الآنف؛ لأنّهما كانا يأتيان بذلك للإشعار والإعلام حسب ما صُرِّح في بعض الأخبار(٣) لا على أنّه من فصول الأذان، وهي محمولة على التقية(٤) ، وهذا يختلف عن قول الشيخ بعدم البأس وخصوصاً بعد (حي على خير العمل)، فإن قوله هذا يخضع لملابسات نذكرها في الوقفة الثالثة عشر إن شاء الله تعالى.

الثالثة: إنّ الجروح التي تصدر عن القميّين لا يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها إذا ما انفردوا بها لأنّها قد تكون لمجرّد التشدّد، أو لتصوّرهم فساد عقيدة الراوي حيث يروي حديثاً لا يعتقدون به، وكلاهما ليس بشيء.

قال الوحيد البهبهاني: ثمّ اعلم أنّه [أحمد بن محمد بن عيسى] وابن الغضائري ربّما ينسبان الراوي إلى الكذب ووضع الحديث أيضاً بعد ما نسباه إلى الغلو وكأنّه لروايته ما يدلّ عليه، ولا يخفى ما فيه(٥) .

وقال الوحيد في حاشيته علىمجمع الفائدة والبرهان : وقد حقّقنا على رجال الميرزا ضعف تضعيفات القميّين، فإنّهم كانوا يعتقدون بسبب اجتهادهم اعتقادات من تعدّى عنها نسبوه إلى الغلوّ، مثل نفي السهو عن

____________________

(١) التهذيب ٢: ٦٠/ ح ٢١١، وسائل الشيعة ٥: ٤١٦ / ح ٦٩٧٠.

(٢) الاستبصار ١: ٣٠٦/ ح ١١٣٥.

(٣) التهذيب ٢: ٦٣ / ح ٢٢٢، الاستبصار ١:٣٠٨ / ح ١١٤٦، وسائل الشيعة ٥: ٤٢٧.

(٤) انظر كشف اللثام ٣: ٣٨٦ والحدائق الناضرة ٧: ٤٢٠.

(٥) الفوائد الرجالية: ٣٩.

٢٥٠

النبي، أو إلى التفويض، مثل تفويض بعض الأحكام إليه، أو إلى عدم المبالاة في الرواية والوضع، وبأدنى شيء كانوا يتهّمون كما نرى الآن من كثير من الفضلاء والمتديّنين وربّما يخرجونه من قمّ و يؤذونه وغير ذلك(١) .

وقال الشيخ محمد ابن صاحب المعالم: إنّ أهل قمّ كانوا يخرجون الراوي بمجرّد توهّم الريب فيه(٢) .

فإذا كانت هذه حالتهم وذا ديدنهم، فكيف يعوّل على جروحهم وقدحهم بمجرده، بل لابدّ من التروّي والبحث عن سببه والحمل على الصحّة مهما أمكن(٣) .

والمطالع في رجال قمّ وتاريخها يقف على أسماء بعض المحدّثين الذين نقم عليهم أهل قمّ لاتّهامهم بالغلّو، والّذي مرّ عليك سابقاً سقم كلامهم، كما فعلوه مع محمد بن أرومة الذي أشاعوا عنه بأنّ عنده أوراقاً في تفسير الباطن، والذي قال عنها ابن الغضائري: أظنّها موضوعة عليه(٤) ، وقد بَرَّأَ الإمام أبو الحسنعليه‌السلام ابنَ أورمة من هذا الاتّهام وكتب إلى القميّين ببراءته.

بناءً على ذلك فليس من البعيد أن يكون شيخنا الصدوققدس‌سره قد اتّهم القائلين بالشهادة بالولاية في الأذان بالوضع، وذلك لنقلهم ما لا يتّفق مع عقيدته وعقيدة مشايخه المحدّثين، فهم كانوا إذا وجدوا رواية على خلاف معتقدهم وصفوها بالضعف، وراويها بالجعل والدس، وهذا الاعتقاد يوجب إخراج كثير من الروايات واتّهام كثير من المشايخ بالكذب، قال الشيخ الصدوق في(الاعتقادات في دين الإمامية) : وعلامة المفوّضة والغلاة وأصنافهم [اليوم] نسبتهم مشايخ قمّ

____________________

(١) حاشية مجمع الفائدة والبرهان: ٧٠٠.

(٢) استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار ٤: ٧٧.

(٣) مقباس الهداية: ٤٩.

(١) رجال ابن الغضائري: ٩٣ / ت ١٣٣.

٢٥١

 وعلماءهم إلى القول بالتقصير(٢) ، هذا مع ملاحظة تفرّد الشيخ الصدوققدس‌سره بأنّ الأخبار موضوعة إذ لم يقل أحد بذلك قبله.

الرابعة: لعلّ الشيخ الصدوق اتّهم المفوّضة بوضع أخبار؛ لأنّهم تجاوزوا حد ما كانت تعمل به بعض الشيعة آنذاك من قبيل: (محمد وآل محمد خير البرية)، و (عليّ خير البشر) قاصدين بها الجزئية، ثم أتى بنصوص دالّة على الشهادة الثالثة بإرسال، دون ذكر أسانيدها، مؤكّداً بكلامه على تعدّد طرقها ومتونها، وهي صريحة بأنّ ما وقف عليه الشيخ الصدوقرحمه‌الله عند من سمّاهم المفوّضة ليس خبراً واحداً، بل هي أخبار كثيرة، لذلك قال: (وفي بعض رواياتهم) ثم أردف ذلك قائلاً: (ومنهم من روى بدل ذلك)، وهاتان العبارتان تؤكدان بوضوح تعدّد تلك الروايات، وتكثّر طرقها، واختلاف صيغها على غرار المعمول عليه عند بعض الشيعة من الزيدية والإسماعيلية الذين كانوا يأتون بها على نحو التفسيرية أو القربة المطلقة؛ لأنّ تعدّد الصيغ ينبئ عن عدم الجزئية عندهم.

فكأنّ المفوّضة حسب اعتقاد الصدوقرحمه‌الله وضعوا أخباراً مسندةً بتلك الصيغ المعمول بها عند بعض الشيعة ليلزموا الآخرين بالإجهار بها، وهذه الزيادة وعلى نحو الجزئية لا يرتضيها الشارع المقدّس ولا يقبلها الشيخ الصدوق ولا غيره من علماء الإمامية إذا كان مستندها تلك الأخبار الموضوعة فيما لو ثبت وضعها، فهذا العمل من أبطل الباطل لكنّ الكلام ليس في الكبرى بل في الصغرى، وهي أنّ الأخبار هل كانت موضوعة فعلاً؟ وهل أنّ رواتها هُمُ المفوّضة أم المتّهمون بالتفويض؟ إلى غير ذلك من الاحتمالات.

وهو الآخر لا يعني مخالفتهرحمه‌الله للذين يأتون بها لمحبوبيّتها الذاتيّة للقربة المطلقة، بل في كلامهرحمه‌الله وكذا في كلام الإمام الكاظمعليه‌السلام من قبله ما يشير إلى

____________________

(١) الاعتقادات: ١٠١.

٢٥٢

 إمكان تعدّد الصيغ الدالّة على الشهادة بالولاية إلى أكثر من صيغة وأنّها مجازة شرعاً إن لم يأت بها الإنسان على نحو الجزئية، ولذلك ذكر الشيخ الصدوق ثلاث صيغ منها، كدلالة على تكثّرها، تلك الدلالة التي تعني أنّ مستند الإتيان بالشهادة الثالثة ليس الأخبار الموضوعة، ولا أنّها جزء توقيفيّ فيها، بل تعني المحبوبيّة العامّة لا غير.

وعلى أيّ حال، فإن ما أشار إليه الصدوقرحمه‌الله من روايات الشهادة الثالثة يدلّ من ناحية أخرى على تناقلها في عصره، وستقف لاحقاً على أنّ بعض الشيعة في حلب وبغداد كانوا يؤذّنون بها في عصر الصدوق ومن قبله، وهذا يوقفنا أيضاً على أنّ مخالفته كانت مع الذين يضعون الأخبار و يزيدون فيها على نحو الجزئية لا غير ذلك، وإلاّ فمن الصعب على العقل احتمال أن يتّهم الشيخ الصدوق بالتفويض كلَّ من قال بالشهادة الثالثة في الأذان حتّى من باب القربة المطلقة، فعبارته كالنصّ في أنّه يقصد مَنْ وَضَعَ الأخبار ومن استند إليها على نحو الجزئية لا غير، لقوله: (وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان)، وقوله: (ولكن ذلك ليس من أصل الأذان).

الخامسة: إنّ اختلاف الصيغ وتعدّدها لا معنى له سوى تأكيد أنّهم كانوا لا يأتون بها على أنّها جزء من الأذان، بل قد تكون تفسيرية لجملة (حي على خير العمل)، وقد تكون لمحبوبيّتها الذاتية ورجحانها النفسي وما ذكرناه من تنقيح المناط ووحدة الملاك في الشهادات الثلاث.

فإنَّ الإتيان بها تارة بعد الحيعلة الثالثة، وأخرى بعد الشهادة بالنبوة لَيُؤَكِّد بأنّ القائلين بها لا يأتون بها على نحو الجزئية والشطرية حتى يَتَّهِمَ الشيخ الصدوق القائلين بها بالتدليس والابتداع وأنّهم ادخلوا ما ليس من الدين في الدين. إلاّ أن نقول إنّه عنى المفوضة القائلين بها على وجه الخصوص، أو إنّ قوله السابق قد صدر عنه تقيّةً.

٢٥٣

السادسة: إنّ الشيخ الصدوق قد ذكر متن بعض تلك الروايات دون ذكر سندها وهو ديدنه في كثير من الأبواب الفقهية لكنّ الفقيه والمحدِّث قد يرى سند تلك الروايات في المجاميع الحديثية الأخرى كالتهذيب والكافي وغيرهما. فلماذا لا نقف على إسناد تلك الروايات إذن؟

من المعلوم أنّ وثاقة الراوي لا تكفي لحجيّة الرواية ما لم تسلم من الشذوذ والعلّة، ولأجل ذلك نرى الأئمّة يؤكّدون على شيعتهم لزوم عرض أقوالهم على الكتاب المجيد، للأخذ بالصحيح وترك الزخرف منه.

لكنّ الصدوقرحمه‌الله وغيره من القميّين كانوا يعتمدون وثاقة الراوي أكثر من راجحية الرواية، فقد نقل الشيخ الطوسي في ترجمة سعد بن عبدالله الأشعري عن الصدوق قوله: وقد رويت عنه كلّ ما في المنتخبات مما أعرف طريقه من الرجال الثقات(١) .

وقال فيالفقيه : وأمّا خبر صلاة يوم غدير خمّ، والثواب المذكور فيه لمن صامه، فإنّ شيخنا محمد بن الحسن كان لا يصحّحه... إلى أن قال: فهو عندنا متروك غير صحيح(٢) .

وقد مرّ عليك اعتراض أبي العباس بن نوح على الصدوق وشيخه في استثنائهما محمد بن عيسى بن عبيد من نوادر الحكمة بقوله: (فلا أدري ما رأيه فيه، لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة). و يفهم من كلامه أنّ أبا العباس بن نوح وابن الوليد والصدوقرحمهم‌الله يعتبرون الوثاقة في الراوي دون أرجحية الرواية.

نعم، قد يأتي الصدوق بكلام الواقفيّ وغيره، وخصوصاً لو جاء في كتب أحد

____________________

(١) الفهرست: ١٣٦ ت ٣١٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٢: ٩٠ ذيل الحديث ١٨١٧، والسبب في ذلك وجود محمد بن موسى الهمداني في السند، وهو غير ثقة عنده.

٢٥٤

مشايخه، لكونها موجودة في أُصول الرجال الثقات.

والشيخ هنا ترك ذكر أسانيد تلك الروايات لأنّها موضوعة بنظره تبعاً لمشايخه، علماً أن مشايخه الكرام أخبروا بحذف (حي على خير العمل) من الروايات تقية. فكيف لا يُحذف أو يُترك ما فيه دلالة على رجحان الشهادة بالولاية في الأذان؟

وكلامنا هذا لا يوحي بأنا نذهب إلى الجزئية، لأن الترك المقصود من قبل الأئمّة يحمل بين طياته معانٍ كثيرة، وعليه فشيخنا الصدوقرحمه‌الله كان يروي عن من يخالفه في المعتقد، وفاسدي العقيدة كالواقفية، لأنّها جاءت في أصول أصحابنا الثقات، وأمّا فيما نحن فيه فلا نراه يهتمّ بوجهة نظر الآخرين، ولم يروِ ما روته المفوضة لأنهم بمنزلة الكفار والمشركين عنده، وعندنا كذلك، وربّما لثقته العالية بأن الشهادة الثالثة بعنوان الجزئية هي من موضوعاتهم، لقوله (ليعرف المدلسون أنفسهم في جملتنا) وبذلك يختلف الفعل عنده، فتارة يتكلم عن الضعيف وآخر عن الوضاع، فيأتي بما رواه الأوّل ولا يذكر ما رواه الثاني، و يؤكّد مقولتنا هذه ما قالهرحمه‌الله في (باب الصلاة في شهر رمضان) تعقيباً على من روى الزيادة في التطوّع في شهر رمضان زرعة عن سماعة وهما واقفيان قال:

 قال مصنف هذا الكتاب: إنّما أوردت هذا الخبر في هذا الباب مع عدولي عنه وتركي لاستعماله ليعلم الناظر في كتابي هذا كيف يُروَى ومن رواه، وليعلم من اعتقادي فيه أنّي لا أرى بأساً باستعماله(١) .

وعليه فالشيخرحمه‌الله يأخذ بالخبر الضعيف لا الموضوع، لأن الأخير ساقط بنظره ومتروك لسقوط راويه، وإن كان منهج القدماء يدعوه للأخذ به، لأن الأصل في

____________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢: ١٣٩، ذيل الحديث ١٩٦٧.

٢٥٥

الأخبار عندهم صحة المضمون لا السند، وما أتى به صحيح المضمون بلا خلاف، لكنه ترك ذلك لاعتقاده بوضع المفوضة لها.

وكون روايات المفوضة موضوعة حسب اعتقاده لا يلزم منه عدم تجويز الإتيان بها لا على نحو الجزئية.

السابعة: ممّا لا شكّ فيه أنّ المفوّضة والغلاة من شرّ خلق الله، لكنّ مجرّد عمل المفوّضة بشيء لا يمكن اعتباره معياراً للترك وأنّه من الباطل؛ فقد يكون لدى المفوّضة أدلّة على شرعية ما يفعلونه غير تلك الأخبار الموضوعة التي قصدها الشيخرحمه‌الله ؛ لاحتمال أنّه وقف عليها فقط ولم يقف على غيرها مما هو غير موضوع، و يكون مثالهم في الشهادة الثالثة نظير العامّة القائلين بالحيعلتين الأوليين، المتطابقتين مع المرويّ عندنا في الأذان الصحيح وإن كان رواتهما بنظرنا غير ثقات، فهل يمكننا أن نقول بتركهما لموافقتها للعامة؟ إنّ هذا قول عجيب، ولا يقول به أحد منّا.

لكنّ الأمر لم يكن كذلك، وذلك فيما نعتقد لعدم وجود روايات دالّة على الجزئية في الأذان، نعم هناك شواذ أخبار وعمومات يمكن القول من خلالها برجحان الشهادة بالولاية كما جاء في حسنة ابن أبي عمير ومرسلةالاحتجاج : (من قال محمد رسول الله فليقل علي أمير المؤمنين) وخصوصاً لو دمج ذلك مع سيرة المتشرّعة قبل ولادة الشيخ الصدوق، وأنّهم كانوا يأتون بصيغ مختلفة دالّة على الولاية في أذانهم تصريحاً أو تلميحاً، وإقرار الإمام الحجة لفعلهم وعدم ورود نهي عنه في ذلك، فكلّ هذا يدعونا للقول بعدم الضير بالإتيان بها في الأذان، بشرط أن لا تكون على نحو الجزئية، كما كان معمولاً عليه في عهد الأئمة(١) وهذا ما كان يلحظ في عمل أصحابنا، والذي يدلّ عليه و يؤكّده كلام

____________________

(١) إذ مر عليك في كلام الإمام الكاظمعليه‌السلام على وجود السيرة في ذلك، لقولهعليه‌السلام : (وإن الذي

٢٥٦

كُلٍّ من الأئمّة: الكاظم، والرضا، والهاديعليهم‌السلام .

وهنا يمكن القول بأنّ ذهابنا إلى رجحان الشهادة بالولاية في الأذان ومن دون اعتقاد الجزئية إنّما هو لتلك العمومات وما جاء تلميحاً وإشارة لا لما رواه المفوّضة، فلا تأتي شبهة العمل بأخبارهم الباطلة لعنهم الله.

الثامنة: إنّ إتيان الشيخ الصدوق بصيغ الزيدية والإسماعيلية وبعض الإماميّة ضمن هجومه على المفوّضة (المدلسون أنفسهم في جملتنا) لا يعني أنّهرحمه‌الله كان يعتقد بأنّ هؤلاء كانوا يأتون بها استناداً لأخبار المفوّضة الموضوعة، بل كانوا يتداولونها لما عندهم من العمومات، يوضّح ذلك أنّه لم يلعن غير المفوّضة.

فالزيدية كانوا يقولون بها بعد الحيعلة الثالثة قبل ولادة الصدوق بصيغة (محمد وعلي خير البشر)(١) ، ولم نجد في كلّ كلمات الصدوق أنّه لعنهم لذلك.

والإسماعيلية كانوا يأتون بها بصيغة: (محمد وآل محمد خير البرية)(٢) ، ولم يلعنهم لذلك أو يذمّهم.

والإمامية رعاية للترتيب الملحوظ في جميع الروايات الصادرة عن أهل البيت قالوها بعد الشهادة بالنبوة لرسول الله.

لكن الشيخ الصدوقرحمه‌الله تسامح في عبارته، فتصوّر الكثيرون بأنّ جميع هذه الصيغ تقال بعد الشهادة بالنبوة فقط، وهي للمفوضة الملعونة !، ولا يقول بها غيرهم، وأنّ مستندها فقط الأخبار الموضوعة، في حين أن صيغتين منها تقال بعد

____________________

أمر بحذفها أراد أن لا يكون حث عليها ودعاء إليه) وهذا الكلام واضح بأن هناك نهج لا يرتضي ذكر ما يأتي في تفسير الحيعلة بخلاف الإمام الكاظم الذي حبّذ الحث عليها والدعوة إليها، وعليه فالسيرة قائمة على الشهادة بالولاية بالجواز لا اللزوم حتى يقال لماذا تركها الإمام المعصوم واتباعهم كالشيخ المفيد والعماني وابن الجنيد وأمثالهم.

(١) سفر نامه ناصر خسرو: ١٤١، ١٤٢، صبح الأعشى في صناعة الإنشا ١٣: ٢٣٠.

(٢) انظر الإسماعيلية، لأحمد إسماعيل: ٥٥.

٢٥٧

الحيعلة الثالثة وهي للزيدية والإسماعيلية. أما الصيغة الثالثة فتقال بعد الشهادة الثانية، وهي للإمامية الاثني عشرية، فعدم تحديد الشيخ الصدوق لأماكن ورودها ومن يقولها، هو تسامح منهرحمه‌الله .

التاسعة: احتمل بعض الأفاضل أنّ عدم ارتضاء الصدوقرحمه‌الله للشهادة الثالثة يرجع إلى معارضتها لرواية أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي، والتي ليس فيها الشهادة بالولاية.

لكنّ هذا الاحتمال مردودٌ بأنّ رواية الحضرمي والأسدي لا تقوى على المعارضة؛ لأنّ فيها تربيع التكبير في الإقامة، ووجود (لا إله إلاّ الله) مرتين في آخرها، وهو مما لا تعمل به الإمامية باتّفاق، فكيف يريد الشيخ الصدوققدس‌سره أن يعتمدها مع أنّها رواية شاذة تخالف المعمول به عند الإمامية قاطبة؟! و يعتبرها معارضة للأخبار الشاذّة الأخرى التي حكاها الشيخ الطوسي والتي فيها الشهادة بالولاية لعلي.

فلو كانت تلك الأخبار في الشهادة الثالثة شاذّة، فهذه هي الأخرى شاذة بل متروكة، فكيف يعتمد الشيخ هذه و يترك تلك؟! إِلاّ أن نقول بما قاله هو عن تلك الأخبار من أنّها من وضع المفوّضة، وفيه جواب ما احتمله البعض، من وجود التعارض بل الأمر عند الصدوق هو وجود أخبار لها قابلية التصحيح وأخبار موضوعة في ماهية الأذان، مع الإشارة إلى أنّهرحمه‌الله كان يعمل بالأخبار الشاذّة، وأنّ طعنه في تلك الروايات لا لشذوذها، بل لوضع المفوّضة لها ودعواهم بجزئيتها، لقولهرحمه‌الله : (والمفوّضة لعنهم الله قد وضعوا أخباراً)، وهو مثل قول الإمام الصادق: (المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي)(١) أو (كان المغيرة بن سعيد يتعمّد

____________________

(١) رجال الكشي ٢: ٤٨٩ / الرقم ٤٠١، وعنه في بحار الأنوار ٢: ٢٥٠ / ح ٦٢، رجال ابن

٢٥٨

الكذب على أبي)(١) ، فسبب لعن الإمام ولعن الصدوق هما لأمر واحد، وهو وضع الأحاديث على لسان الأئمّة لا لشيء آخر. وعليه فإن الأخبار التي ليس فيها الشهادة بالولاية لا تعني حرمة الإتيان بها، بل تنفي جزئيتها ليس إلاّ.

هذا وباعتقادي أنّ تفريق الشيخ التستري في(النجعة في شرح اللمعة) (٢) بين الأذان والإقامة غير صحيح لإمكان إطلاقها على الإقامة كذلك في لسان الأئمة والفقهاء. هذاأوّلاً .

وثانياً: إنّ رواية الحضرمي كما بيّنّا سابقاً قد احتملنا صدورها عنه تقيّةً، فلا وجه لهذا الاحتمال.

وثالثاً: إنّ الشهادة بالولاية لا على نحو الجزئية كانت سيرة لمجموعة كبيرة من المتشرعة ولم تكن لمجموعة صغيرة من هذا المذهب أو ذاك، بل هي عمل لسيرة متشرّعة، على اختلاف اعتقاداتهم وأماكن تواجدهم إن أمنوا مكر السلطان: زيدية، إسماعيلية، إمامية اثني عشرية، فمنهم في بغداد، وآخر في القاهرة، وثالث في حمص، ورابع في الريّ، وخامس في شمال العراق، فإنّ دعوى الوضع لعمل قطاعات كثيرة من الشيعة، وفي بلدان مختلفة بعيدةٌ جدّاً.

فالشيخ لا يريد اتّهام الجميع بالتفويض أو الغلوّ، بل كان يتهم فقط الذين

____________________

داود: ٢٧٩ / الترجمة ٥١٠.

(١) رجال الكشي ٢: ٤٩١ / الرقم ٤٠٢، وعنه في بحار الأنوار ٢: ٢٥٠. وقد روى عن الإمام الصادقعليه‌السلام كذلك قوله:(إن المغيرة بن سعيد كذب على أبي فسلبه الله الإيمان) رجال الكشي ٢: ٤٩١، و:(المغيرة بن سعيد كذب على أبي وأذاع سره فأذاقه الله حديد النار) تحف العقول: ٣١١، وغيرها من الأخبار الصادرة عنهمعليهم‌السلام .

(٢) قال الشيخ محمد تقي التستري في (النجعة ٢: ٢٠٥، الجزء الأول من قسم الصلاة) بعد أن أتى بما قاله الصدوق قال: قلت: والمفهوم منه أن الازدياد من المفوضة إنما كان في الأذان دون الإقامة وازدياد المصنف للإقامة إنما حصل في الأعصار الأخيرة بعد الصدوق.

٢٥٩

يوجبون الإتيان بها على نحو الشطرية؛ راوين في ذلك روايات مكذوبة عن المعصومين.

العاشرة: ذكرنا سابقاً بعض موارد الاختلاف بين القميّين والبغداديّين في الأُصول الرجالية والعقائدية، وكذا تخالف منهج المحدّثين مع منهج المتكلّمين والفقهاء، فلا نرى شيخنا الصدوق في مجاميعه الحديثية يتهجّم على أحد أو مجموعة كما تهجّم في مبحث الشهادة الثالثة، فهورحمه‌الله مُتَّزِنُ القلم، ورقيق التعبير، متين رصين في كلامه، فلم أقف على كلمة (لعنهم الله) أو (أخزاهم الله) أو (خذلهم الله) وأمثالها عند بياناته الأخرى، بل وقفت على ترحّمه على من لم يلتقِ معهم في المذهب، وذلك دليل على رزانته ومتانته ومرونته وتسامحه وبعده عن العصبية.

وبعد هذا فليس لي أن أخرج عبارته هنا إلاّ من خلال محمل التقية، أو أنّه عنى الّذين يأتون بالشهادة الثالثة على نحو الجزئية اعتماداً على الأحاديث الموضوعة، ولا ثالث في البين غير هذين الاحتمالين؛ لأنّ وصف جميع الشيعة القائلين بالشهادة الثالثة باللعنة مستحيل، خصوصاً ونحن نراه يروي روايات يمكن الاستدلال بها على محبوبية الشهادة الثالثة في أماكن أخرى من مجاميعه الحديثية؛ ولسنا بعيدين عمّا رواهرحمه‌الله بسند معتبر فيالأمالي عن الإمام الصادق بأنّ الله نوّه باسم عليّ في سماواته(١) .

ومن المعلوم عند الجميع أنّ كلام المعصوم [الصادق] يقدّم على غيره، وأنّ نقله عن الإمام مقدّم على اجتهاده، وبذلك يكون مقتضى القاعدة في تفسير خبرالأمالي استمرارية الشهادة بالولاية في الأرض كذلك، ويؤيد ذلك ما رواه الكلينيقدس‌سره في الموثّق أنّ الله أمر منادياً ينادي بالشهادات الثلاث لمّا خلق

____________________

(١) انظر الأمالي: ٧٠١ / ح ٩٥٦.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595