أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان10%

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 595

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان
  • البداية
  • السابق
  • 595 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156815 / تحميل: 12403
الحجم الحجم الحجم
أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

بأمره ، وهو خير الحاكمين(1) .

ونهض أبيّ الضيم ، وترك معاوية يتميّز مِن الغيظ ، وقد استبان له أنّه لا يتمكّن أنْ يخدع الإمام الحُسين (عليه السّلام) ويأخذ البيعة منه.

إرغامُ المعارضين :

وغادر معاوية يثرب متّجهاً إلى مكّة وهو يطيل التفكير في أمر المعارضين ، فرأى أنْ يعتمد على وسائل العنف والإرهاب ، وحينما وصل إلى مكّة أحضر الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، وعرض عليهم مرّة أُخرى البيعة إلى يزيد فأعلنوا رفضهم له ، فانبرى إليهم مغضباً ، وقال : إنّي أتقدّم إليكم أنّه قد أُعذِرَ مَنْ أنذر. كنتُ أخطب فيكم فيقوم إليّ القائم منكم فيكذّبني على رؤوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح ، وإنّي قائم بمقالة فأُقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتّى يسبقها السّيف إلى رأسه ، فلا يسبقني رجل إلاّ على نفسه.

ودعا صاحب حرسه بحضرتهم ، فقال له : أقم على رأس كلّ رجل مِن هؤلاء رجلين ، ومع كلّ واحد سيف ، فإنْ ذهب رجل منهم يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما.

ثمّ خرج وخرجوا معه ، فرقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتزّ أمرٌ دونهم ،

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٢٢١

ولا يُقضى إلاّ عن مشورتهم ، وإنّهم رضوا وبايعوا ليزيد ، فبايعوا على اسم الله.

فبايعه الناس ، ثمّ ركب رواحله وغادر مكّة(1) ، وقد حسب معاوية أنّ الأمر قد تمّ لولده ، واستقر المُلْكُ في بيته ، ولمْ يعلم أنّه قد جرّ الدمار على دولته ، وأعدّ المجتمع للثورة على حكومة ولده.

موقفُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

كان موقف الإمام الحُسين (عليه السّلام) مع معاوية يتّسم بالشدّة والصرامة ، فقد أخذ يدعو المسلمين بشكل سافر إلى مقاومة معاوية ، ويحذّرهم مِنْ سياسته الهدّامة ، الحاملة لشارات الدمار إلى الإسلام.

وفودُ الأقطار الإسلاميّة :

وأخذت الوفود تترى على الإمام (عليه السّلام) مِنْ جميع الأقطار الإسلاميّة وهي تعجّ بالشكوى إليه ، وتستغيث به ممّا ألمّ بها مِن الظلم والجور ، وتطلب منه القيام بإنقاذها مِن الاضطهاد.

ونقلت الاستخبارات في يثرب إلى السّلطة المحلية تجمّع الناس واختلافهم على الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وكان الوالي مروان ، ففزع مِنْ ذلك وخاف إلى حدٍّ بعيدٍ.

__________________

(1) الكامل 3 / 252 ، الأمالي 2 / 73 ، ذيل الأمالي / 177 ، عيون الأخبار 2 / 210 ، البيان والتبيين 1 / 300.

٢٢٢

مذكّرةُ مروان لمعاوية :

ورفع مروان مذكّرة لمعاوية سجّل فيها تخوّفه مِنْ تحرك الإمام (عليه السّلام) ، واختلاف الناس عليه ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فقد كثُر اختلاف الناس إلى حُسين ، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً(1) .

جوابُ معاوية :

وأمره معاوية بعدم القيام بأيّ حركة مضادّة للإمام (عليه السّلام) ، فقد كتب إليه : اترك حُسيناً ما تركك ولمْ يُظهر لك عداوته ويبد صفحته ، وأكمن عنه كمون الثرى إنْ شاء الله ، والسّلام(2) .

لقد خاف معاوية مِنْ تطور الأحداث ، فعهد إلى مروان بعدم التعرّض له بأيّ أذى أو مكروه.

رأيُ مروان في إبعاد الإمام (عليه السّلام) :

واقترح مروان على معاوية إبعاد الإمام (عليه السّلام) عن يثرب ، وفرض الإقامة الجبرية عليه في الشام ؛ ليقطعه عن الاتصال بأهل العراق ، ولمْ يرتضِ معاوية ذلك ، فردّ عليه : أردت والله أنْ تستريح منه وتبتليني به ، فإنْ صبرت عليه صبرت على ما أكره ، وإنْ أسأت إليه قطعت رحمه(3) .

__________________

(1) و (2) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(3) العقد الفريد 2 / 116.

٢٢٣

رسالةُ معاوية للحُسين (عليه السّلام) :

واضطرب معاوية مِنْ تحرك الإمام (عليه السّلام) واختلاف الناس عليه ، فكتب إليه رسالة ، وقد رويت بصورتين :

1 ـ رواها البلاذري ، وهذا نصّها : أمّا بعد ، فقد أُنهيت إليّ عنك اُمورٌ إنْ كانت حقّاً فإنّي لمْ أظنّها بك ؛ رغبة عنها ، وإنْ كانت باطلة فأنت أسعد الناس بمجانبتها ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله توفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكِدْكَ ، فاتّقِ الله يا حُسين في شقّ عصا الأُمّة ، وأنْ ترِدهم في فتنة(1) .

2 ـ رواها ابن كثير ، وهذا نصّها : إنّ مَنْ أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء ، وقد أُنبئتُ أنّ قوماً مِنْ أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق ، وأهل العراق مَنْ قد جرّبت ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك ، فاتّقِ الله واذكر الميثاق ؛ فإنّك متى تكدْني أكِدْكَ(2) .

واحتوت هذه الرسالة حسب النّص الأخير على ما يلي :

1 ـ أنّ معاوية قد طالب الإمام (عليه السّلام) بتنفيذ ما شرطه عليه في بنود الصلح أنْ لا يخرج عليه ، وقد وفّى له الإمام (عليه السّلام) بذلك ، إلاّ أنّ معاوية لمْ يفِ بشيء ممّا أبرمه على نفسه مِنْ شروط الصلح.

2 ـ أنّ معاوية كان على علمٍ بوفود أهل الكوفة التي دعت الإمام (عليه السّلام) للخروج عليه ، وقد وسمهم بأنّهم أهل الشقاق ، وأنّهم قد غدروا بعلي والحسن (عليهما السّلام) مِنْ قبل.

3 ـ التهديد السافر للإمام (عليه السّلام) بأنّه متى كاد معاوية فإنّه يكيده.

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(2) تاريخ ابن كثير 8 / 162.

٢٢٤

جوابُ الإمام (عليه السّلام) :

ورفع الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت جواباً لرسالته ، حمّله مسؤوليات جميع ما وقع في البلاد مِن سفك الدماء ، وفقدان الأمن ، وتعريض الأُمّة للأزمات ، وهي مِنْ أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت مِنْ معاوية ، وهذا نصّها :

«أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور أنت عنها راغب ، وأنا بغيرها عندك جدير ، وإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يُسدّد إليها إلاّ الله تعالى.

أمّا ما ذكرت أنّه رقي إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون ، المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون. ما أردت لك حرباً ، ولا عليك خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ألست القاتل حِجْرَ بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا يُنكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظُلماً وعدواناً مِنْ بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكدة ؛ جرأة على الله واستخفافاً بعهده؟!

أوَلست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه واصفرّ لونه ، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت مِنْ رؤوس الجبال؟!

أوَلست بمدّعي زياد بن سُميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الولد للفراش ، وللعاهر الحَجَرَ

٢٢٥

فتركت سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعمّداً ، وتبعت هواك بغير هدىً مِن الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ، ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسملُ أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النّخل ، كأنّك لست مِنْ هذه الأُمّة ، وليسوا منك؟!

أوَلست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زيادٌ أنّه على دين علي (عليه السّلام) ، فكتبت إليه أنْ اقتل كلّ مَنْ كان على دين علي. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودينُ علي هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين ؛ رحلة الشتاء والصيف؟!

وقلتَ فيما قلت : انظر لنفسك ودينك ولأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، واتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة وأنْ تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأُمّة مِنْ ولايتك عليها ، ولا أعظم لنفسي ولديني ولأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل مِنْ أنْ أجاهرك ؛ فإنْ فعلتُ فإنّه قربة إلى الله ، وإنْ تركته فإنّي استغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلتَ فيما قلت : إنّني إنْ أنكرتك تنكرني ، وإنْ أكِدْك تكدني. فكِدْني ما بدا لك ؛ فإنّي أرجو أنْ لا يضرّني كيدك ، وأنْ لا يكون على أحدٍ أضر منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك.

ولعمري ما وفيتَ بشرطٍ ، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النّفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان ، والعهود والمواثيق ، فقتلتهم مِنْ غير أنْ يكونوا قاتَلوا وقُتِلوا ، ولمْ تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا ، وتعظيمهم حقّنا ؛ مخافة أمر لعلّك لو لمْ تقتلهم متّ قبل أنْ يفعلوا ، أو ماتوا قبل أنْ يدركوا.

٢٢٦

فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها. وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءَه على التّهم ، ونفيك إيّاهم مِنْ دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام الحدث ، يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك ، وتبرتَ دينك(1) ، وغششت رعيتك ، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل ، وأخفت الورع التّقي ، والسّلام»(2) .

لا أكاد أعرف وثيقةً سياسةً في ذلك العهد عرضت لعبث السلطة ، وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية ، والدماء التي سفكها ، والنفوس التي أرعبها غير هذه الوثيقة ، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.

واللهِ كم هي هذه الكلمة رقيقة شاعرة «كأنّك لست مِنْ هذه الأُمّة وليسوا مِنك». هذه الكلمة المشبعة بالشعور القومي الشريف ، وقديماً قال الصابي : إنّ الرجل مِنْ قومٍ ليست له أعصاب تقسو عليهم. وهو اتّهام مِن الحُسين لمعاوية في وطنيته وقوميته ، واتّخذ مِن الدماء الغزيرة المسفوكة عنواناً على ذلك(3) .

لقد حفلت هذه المذكّرة بالأحداث الخطيرة التي اقترفها معاوية وعمّاله ، خصوصاً زياد بن سُميّة الذي نشر الإرهاب والظلم بين الناس ؛ فقتل على الظنّة والتّهمة ، وأعدم كلّ مَنْ كان على دين الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي هو دين ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أسرف هذا الطاغية في سفك الدماء بغير حقّ.

ومِن الطبيعي أنّه لمْ يقترف ذلك إلاّ بإيعاز مِنْ معاوية ، فهو الذي عهد إليه بذلك.

__________________

(1) تبرت : أهلكت دينك.

(2) الإمامة والسياسة 1 / 284 ، رجال الكشّي / 32 ، الدرجات الرفيعة / 334.

(3) الإمام الحُسين (عليه السّلام) / 338.

٢٢٧

صدى الرسالة :

ولمّا انتهت رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية ضاق بها ذرعاً ، وراح يراوغ على عادته ، ويقول : إنّ أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً(1) .

المؤتمرُ السياسي العام :

وعقد الإمام (عليه السّلام) في مكة مؤتمراً سياسياً عامّاً ، دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ ؛ مِن المهاجرين والأنصار ، والتابعين وغيرهم مِن سائر المسلمين ، فانبرى (عليه السّلام) خطيباً فيهم ، وتحدّث ببليغ بيانه بما ألمّ بعترة النّبي (صلّى الله عليه وآله) وشيعتهم مِن المحن والخطوب التي صبّها عليهم معاوية ، وما اتّخذه مِن الإجراءات المشدّدة مِنْ إخفاء فضائلهم ، وستر ما أُثِرَ عن الرسول الأعظم في حقّهم ، وألزم حضّار مؤتمره بإذاعة ذلك بين المسلمين ، وفيما يلي نصّ حديثه ، فيما رواه سليم بن قيس :

قال : ولمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، فجمع الحُسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ، ومَنْ حجّ مِن الأنصار ممّن يعرفهم الحُسين وأهل بيته ، ثمّ أرسل رسلاً ، وقال لهم : «لا تدَعوا أحداً حجّ العام مِنْ أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، المعروفين بالصلاح والنُّسك إلاّ اجمعوهم لي». فاجتمع إليه بمِنى أكثر مِنْ سبعمئة رجل وهم في سرادق ، عامّتهم مِن التابعين ، ونحو مِنْ مئتي رجل مِنْ أصحاب النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد ، فإنّ هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد فعل بنا وبشيعتنا

__________________

(1) سير أعلام النبلاء 3 / 198.

٢٢٨

ما قد رأيتم ، وعلمتم وشهدتم ، وإنّي أُريد أنْ أسألكم عن شيء ؛ فإنْ صدقت فصدّقوني ، وإنْ كذبت فكذّبوني. اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ، فمَنْ أمنتم مِن الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون مِنْ حقّنا ؛ فإنّي أتخوف أنْ يُدرسَ هذا الأمر ويُغلب ، والله مُتِمّ نوره ولو كرِه الكافرون».

وما ترك شيئاً ممّا أنزله الله فيهم مِن القران إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أبيه وأخيه وفي نفسه وأهل بيته (عليهم السّلام) إلاّ رواه ، وكلّ ذلك يقول أصحابه : اللهمّ نعم ، قد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعي : اللهمّ قد حدّثني به مَنْ أُصدّقه وأئتمنه مِن الصحابة. فقال (عليه السّلام) : «أنشدُكم اللهَ إلاّ حدّثتم به مَنْ تثقون به وبدينه»(1) .

وكان هذا المؤتمر أوّل مؤتمر إسلامي عرفه المسلمون في ذلك الوقت ، وقد شجب فيه الإمام (عليه السّلام) سياسة معاوية ، ودعا المسلمين لإشاعة فضائل أهل البيت (عليهم السّلام) ، وإذاعة مآثرهم التي حاولت السّلطة حجبها عن المسلمين.

رسالةُ جعدة للإمام (عليه السّلام) :

وكان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب مِنْ أخلص الناس للإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وأكثرهم مودّة له ، وقد اجتمعت عنده الشيعة وأخذوا يلحّون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم ؛ ليعلن الثورة على حكومة معاوية.

ورفع جعدة رسالةً للإمام (عليه السّلام) ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ مِنْ قِبَلِنا مِنْ شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك ، لا يعدلون بك أحداً ، وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب ، وعرفوك باللين

__________________

(1) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 2 / 216 ـ 217.

٢٢٩

لأوليائك ، والغلظة على أعدائك ، والشدّة في أمر الله ، فإنْ كنت تحبّ أنْ تطلب هذا الأمر فاقدم علينا ؛ فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك.

جوابُ الإمام (عليه السّلام) :

ولم يكن مِنْ رأي الإمام الحُسين (عليه السّلام) الخروج على معاوية ؛ وذلك لعلمه بفشل الثورة وعدم نجاحها ؛ فإنّ معاوية بما يملك مِنْ وسائل دبلوماسية وعسكرية لا بدّ أنْ يقضي عليها ، ويخرجها مِنْ إطارها الإسلامي إلى حركة غير شرعية ، ويوسم القائمين بها بالتمرّد والخروج على النظام ، وقد أجابهم (عليه السّلام) بعد البسملة والثناء على الله بما يلي :

«أمّا أخي فإنّي أرجو أنْ يكون الله قد وفّقه وسدّده ، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا مِن الظنّة ما دام معاوية حيّاً ، فإنْ يُحدث الله به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي ، والسّلام»(1) .

لقد أمر (عليه السّلام) شيعته بالخلود إلى الصبر ، والإمساك عن المعارضة ، وأنْ يلزموا بيوتهم خوفاً عليهم مِن سلطان معاوية الذي كان يأخذ البريء بالسّقيم ، والمُقبل بالمُدبر ، ويقتل على الظنّة والتهمة. وأكبر الظنّ أنّ هذه الرسالة كانت في عهد زياد الذي سمل عيون الشيعة ، وصلبهم على جذوع النخل ، ودمّرهم تدميراً ساحقاً.

__________________

(1) الأخبار الطوال / 203 ، أنساب الأشراف 1 / ق 1.

٢٣٠

نصيحةُ الخدري للإمام (عليه السّلام) :

وشاعت في الأوساط الاجتماعية أنباء وفود أهل الكوفة على الإمام الحُسين (عليه السّلام) واستنجادهم به لإنقاذهم مِن ظلم معاوية وجوره ، ولمّا علم أبو سعيد الخدري بذلك خفّ مسرعاً للإمام (عليه السّلام) ينصحه ويحذّره ، وهذا نص حديثه : يا أبا عبد الله ، إنّي أنا ناصح ، وإنّي عليكم مشفق ، وقد بلغني أنّه قد كاتبك قوم مِنْ شيعتكم بالكوفة يدعونكم إلى الخروج إليهم ، فلا تخرج إليهم ؛ فإنّي سمعت أباك يقول بالكوفة : «والله لقد مللتهم وأبغضتهم ، وملّوني وأبغضوني ، وما يكون منهم وفاء قط ، ومَنْ فاز به فاز بالسّهم الأخيب. والله ما لهم ثبات ولا عزم على أمر ، ولا صبر على السّيف»(1) .

وليس مِنْ شك في أنّ أبا سعيد الخدري كان مِنْ ألمع أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وأكثرهم إخلاصاً وولاءً لأهل البيت (عليهم السّلام) ، وقد دفعه حرصه على الإمام الحُسين (عليه السّلام) وخوفه عليه مِنْ معاوية أنْ يقوم بالنصيحة له في عدم خروجه على معاوية. ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا جواب الإمام الحُسين (عليه السّلام) له.

استيلاءُ الحُسين (عليه السّلام) على أموال للدولة :

وكان معاوية يُنفق أكثر أموال الدولة على تدعيم مُلْكه ، كما كان يهبُ الأموالَ الطائلة لبني أُميّة لتقوية مركزهم السياسي والاجتماعي ، وكان الإمام الحُسين (عليه السّلام) يشجب هذه السياسة ، ويرى ضرورة إنفاذ الأموال مِنْ معاوية وإنفاقها على المحتاجين. وقد اجتازت على يثرب أموال مِن اليمن إلى خزينة دمشق ، فعمد الإمام (عليه السّلام) إلى الاستيلاء عليها ، ووزّعها على

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 161 ، تاريخ ابن عساكر 13 / 67.

٢٣١

المحتاجين مِنْ بني هاشم وغيرهم ، وكتب إلى معاوية :

«مِن الحُسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان. أمّا بعد ، فإنّ عيراً مرّت بنا مِن اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليك ، لتودعها خزائن دمشق ، وتعل بها بعد النهل بني أبيك ، وإنّي احتجت إليها فأخذتها ، والسّلام».

وأجابه معاوية : مِنْ عبد الله معاوية إلى الحُسين بن علي. أمّا بعد ، فإنّ كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك مِن اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليّ لأودعها خزائن دمشق ، وأعل بها بعد النهل بني أبي ، وإنّك احتجت إليها فأخذتها ، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ ؛ لأنّ الوالي أحقّ بالمال ، ثمّ عليه المخرج منها. وأيم الله ، لو تركت ذلك حتى صار إليّ لمْ أبخسك حظّلك منها ، ولكنّني قد ظننت يابن أخي أنّ في رأسك نزوة ، وبودّي أنْ يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك ، ولكنّني والله ، أتخوّف أنْ تُبلى بمَنْ لا ينظرك فواق ناقة.

وكتب في أسفل كتابه هذه الأبيات :

يا حُسينُ بنَ عليٍّ ليس ما

جئتَ بالسائغِ يوماً والعلل

أخذكَ المالَ ولمْ تُؤمر بهِ

إنّ هذا مِنْ حُسينٍ لَعجلْ

قد أجزناها ولمْ نغضبْ لها

واحتملنا مِنْ حُسينٍ ما فعلْ

يا حُسينُ بنَ عليٍّ ذا الأملْ

لك بعدي وثبةٌ لا تُحتملْ

وبودّي أنّني شاهدُها

فإليها مِنك بالخلقِ الأجلْ

إنّني أرهبُ أنْ تصلَ بمَنْ

عنده قد سبق السيفُ العذلْ(1)

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 4 / 327 الطبعة الأولى.

٢٣٢

وفي هذا الكتاب تهديد للإمام بمَنْ يخلف معاوية ، وهو ابنه يزيد ، الذي لا يؤمن بمقام الحُسين ومكانته مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وعلى أيّ حالٍ ، فقد قام الإمام بإنقاذ هذه الأموال مِنْ معاوية وأنفقها على الفقراء ، في حين أنّه لمْ يكن يأخذ لنفسه أيّ صلة مِنْ معاوية ، وقد قدّم له مالاً كثيراً وثياباً وافرة وكسوة فاخرة ، فردّ الجميع عليه(1) .

وقد روى الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) أنّ الحسن والحُسين كانا لا يقبلان جوائز معاوية(2) .

حديثٌ موضوع :

مِن الأخبار الموضوعة ما روي أنّ الإمام الحُسين وفد مع أخيه الحسن على معاوية فأمر لهما بمئة ألف درهم ، وقال لهم : خُذاها وأنا ابن هند ، ما أعطاها أحدٌ قبلي ، ولا يُعطيها أحد بعدي.

فانبرى إليه الإمام الحُسين قائلاً : «والله ، ما أعطى أحدٌ قبلك ولا بعدك لرجلين أشرف منّا».

ولا مجال للقول بصحة هذه الرواية ، فإنّ الإمام الحُسين (عليه السّلام) لمْ يفد على معاوية بالشام ، وإنّما وفد عليه الإمام الحسن (عليه السّلام) لا لأجل الصلة والعطاء ، كما يذهب لذلك بعض السذّج مِن المؤرّخين ، وإنّما كان الغرض إبراز الواقع الاُموي والتدليل على مساوئ معاوية ، كما أثبتت ذلك

__________________

(1) الحُسين ـ لعلي جلال 1 / 117.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) 2 / 332.

٢٣٣

مناظراته مع معاوية وبطانته ، والتي لمْ يقصد فيها إلاّ تلك الغاية ، وقد أوضحنا ذلك بصورة مفصلّة في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

الحُسين مع بني أُميّة :

كانت العداوة بين الحُسين وبين بني أُميّة ذاتية ، فهي عداوة الضد للضد ، وقد سأل سعيد الهمداني الإمام الحُسين عن بني أُميّة ، فقال (عليه السّلام) : «إنّا وهم الخصمان اللذان اختصما في ربّهم»(1) .

أجل ، إنّهما خصمان في أهدافهم ، وخصمان في اتّجاههم ، فالحُسين (عليه السّلام) كان يُمثّل جوهر الإيمان بالله ، ويُمثّل القيم الكريمة التي يشرف بها الإنسان ، وبنو أُميّة كانوا يُمثّلون مساوئ الجاهلية التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق ، وكان الاُمويّون بحسب طباعهم الشريرة يحقدون على الإمام الحُسين ، ويبالغون في توهينه ، وقد جرت منازعة بين الحُسين وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في مال كان بينهما فتحامل الوليد على الحُسين في حقّه ، فثار الإمام في وجهه ، وقال : «أحلف بالله لتنصفي مِنْ حقّي أو لآخذنّ سيفي ، ثمّ لأقومنّ في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأدعونّ بحلف الفضول».

لقد أراد أنْ يُحيي حلف الفضلول الذي أسسه الهاشميون ، والذي كان شعاره إنصاف المظلومين والأخذ بحقوقهم ، وقد حاربه الاُمويّون في جاهليتهم ؛ لأنّه يتنافى مع طباعهم ومصالحهم.

وانبرى عبد الله بن الزّبير فانضمّ للحُسين وانتصر له ، وقال :

__________________

(1) الكنى والأسماء ـ لأبي بشر الدولابي 1 / 77.

٢٣٤

وأنا أحلف بالله ، لئن دعا به لآخذنّ سيفي ثمّ لأقومنّ معه حتى ينتصف مِنْ حقّه أو نموت جميعاً.

وبلغ المسوّر بن مخرمة بن نوفل الزهري الحديث فانضمّ للحُسين وقال بمثل مقالته ، وشعر الوليد بالوهن والضعف فتراجع عن غيّه ، وأنصف الحُسين (عليه السّلام) مِنْ حقّه(1) .

ومِنْ ألوان الحقد الاُموي على الحُسين أنّه كان جالساً في مسجد النّبي (صلّى الله عليه وآله) فسمع رجلاً يُحدّث أصحابه ، ويرفع صوته ليُسمع الحُسين ، وهو يقول : إنّا شاركنا آل أبي طالب في النّبوة حتّى نلنا مِنها مثلَ ما نالوا مِنها مِن السّبب والنّسب ، ونلنا مِن الخلافة ما لمْ ينالوا فبِمَ يفخرون علينا؟

وكرّر هذا القول ثلاثاً ، فأقبل عليه الحُسين ، فقال له : «إنّي كففت عن جوابك في قولك الأول حلماً ، وفي الثاني عفواً ، وأمّا في الثالث فإنّي مجيبك. إنّي سمعت أبي يقول : إنّ في الوحي الذي أنزله الله على محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، إذا قامت القيامة الكبرى حشر الله بني أُميّة في صوَرِ الذر يطؤهم الناس حتى يفرغ مِن الحساب ، ثمّ يُؤتى بهم فيحاسبوا ويُصار بهم إلى النار»(2) . ولمْ يطق الاُموي جواباً وانصرف وهو يتميّز مِن الغيظ.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن موقف الإمام مع معاوية وبني أُميّة ، ونعرض فيما يلي إلى وفاة معاوية وما رافقها مِن الأحداث.

__________________

(1) سيرة ابن هشام 1 / 142.

(2) المناقب والمثالب للقاضي نعمان المصري / 61.

٢٣٥

مرضُ معاوية :

ومرض معاوية وتدهورت صحته ، ولمْ تُجْدِ معه الوصفات الطيبة ، فقد تناهبت جسمه الأمراض ، وقد شعر بدنوّ أجله ، وكان في حزن على ما اقترفه في قتله لحِجْرِ بن عَدِي ، فكان ينظر إليه شبحاً مخيفاً ، وكان يقول :

ويلي مِنكَ يا حِجْر! إنّ لي مع ابن عَدِي ليوماً طويلاً(1) ، وتحدّث الناس عن مرضه ، فقالوا : إنّه الموت ، فأمر أهله أنْ يحشوا عينيه أثمداً ، ويسبغوا على رأسه الطيب ويجلسوه ، ثمّ أذن للناس فدخلوا وسلّموا عليه قياماً ، فلمّا خرجوا مِنْ عنده أنشد قائلاً :

وتجلُّدي للشامتين أريهمُ

أنّي لريبِ الدهرِ لا اتضعضعُ

فسمعه رجل مِن العلويِّين فأجابه :

وإذا المنيّةُ أنشبتْ أظفارَها

ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ(2)

وصاياه :

ولمّا ثقل حال معاوية عهد بوصيته إلى يزيد ، وقد جاء فيها : يا بُني ، إنّي قد كفيتك الشرّ والترحال ، ووطأت لك الأمور وذللت لك الأعداء ، وأخضعت لك رقاب العرب وجمعت لك ما لمْ يجمعه أحدٌ ، فانظر أهل الحجاز فإنّهم أصلك وأكرم مَنْ قدم عليك منهم وتعاهد مَنْ غاب ، وانظر أهل العراق فإنْ سألوك أنْ تعزل كلّ يوم عاملاً فافعل ؛ فإنّ عزل عامل

__________________

(1) الفتنة الكبرى 2 / 245.

(2) حياة الحيوان للدميري 1 / 59.

٢٣٦

أيسر مِنْ أنْ يُشهر عليك مئة ألف سيف ، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك ، فإنْ رابك مِنْ عدوك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم فارددْ أهل الشام إلى بلادهم ؛ فإنْ أقاموا بغير بلادهم تغيّرت أخلاقهم.

وإنّي لست أخاف عليك أنْ ينازعك في هذا الأمر إلاّ أربعة نفر مِنْ قريش : الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزّبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ فأمّا ابن عمر فإنّه رجل قد وقذته العبادة ، فإذا لمْ يبقَ أحدٌ غيره بايعك ، وأمّا الحُسين بن علي فهو رجل خفيف ، ولنْ يترك أهل العراق حتّى يخرجوه ، فإنْ خرج وظفرت به فاصفح عنه ؛ فإنّ له رحماً ماسة وحقّاً عظيماً وقرابة مِنْ محمّد ، وأمّا ابن أبي بكر فإنْ رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله ليس له همّة إلاّ في النساء واللّهو ، وأمّا الذي يجثم لك جثوم الأسد ، ويراوغك مراوغة الثعلب فإنْ أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزّبير ، فإنْ هو فعلها بك فظفرت به فقطّعه إرباً إرباً ، واحقنْ دماء قومك ما استطعت(1) .

وأكبر الظنّ أنّ هذه الوصية مِن الموضوعات ؛ فقد افتُعلتْ لإثبات حلم معاوية ، وإنّه عهد إلى ولده بالإحسان الشامل إلى المسلمين وهو غير مسؤول عن تصرفاته.

وممّا يؤيد وضعها ما يلي :

1 ـ إنّ المؤرّخين رووا أنّ معاوية أوصى يزيد بغير ذلك ، فقال له : إنّ لك مِنْ أهل المدينة يوماً ، فإنْ فعلوها فارمهم بمسلم بن عقبة ، فإنّه رجل قد عرفنا نصيحته(2) ، وكان مسلم بن عقبة جزّاراً جلاداً لا يعرف الرحمة والرأفة ، وقد استعمله يزيد بعهد مِنْ أبيه في واقعة الحرّة فاقترف كلّ موبقة

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 259.

(2) تاريخ خليفة خياط 1 / 229.

٢٣٧

وإثم ، فكيف تلتقي هذه الوصيّة بتلك الوصيّة التي عهد فيها بالإحسان إلى أهل الحجاز؟!

2 ـ إنّه أوصاه برعاية عواطف العراقيين والاستجابة لهم إذا سألوه في كلّ يوم عزل مَنْ ولاّه عليهم ، وهذا يتنافى مع ما ذكره المؤرّخون أنّه عهد بولاية العراق إلى عبيد الله بن زياد وهو يعلم شدّته وصرامته وغدره ؛ فهو ابن زياد الذي أغرق العراق بدماء الأبرياء ، فهل العهد إليه بولايته العراق من الإحسان إلى العراقيين والبرّ بهم؟!

3 ـ إنّه جاء في هذه الوصية أنّه يتخوّف عليه مِنْ عبد الله بن عمر وقد وصفه بأنّه قد وقذته العبادة ، وإذا كان كذلك فهو بطبيعة الحال منصرف عن السّلطة والمنازعات السّياسية فما معنى التخوّف منه؟!

4 ـ إنّه جاء في هذه الوصية أنّه يتخوّف عليه مِنْ عبد الرحمن بن أبي بكر ، وقد نصّ المؤرّخون أنّه توفي في حياة معاوية ، فما معنى التخوّف عليه مِنْ إنسان ميّت؟

5 ـ إنّه أوصاه برعاية الحُسين (عليه السّلام) وإنّ له رحماً ماسّة ، وحقًّا عظيماً وقرابةً مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومن المؤكد أنّ معاوية بالذّات لمْ يرعَ أيّ جانب مِنْ جوانب القرابة مِنْ رسول الله فقد قطع جميع أواصرها ، فقد فرض سبّها على رؤوس الأشهاد ، وعهد إلى لجان التربية والتعليم بتربية النشء ببغض أهل البيت ، ولمْ يتردّد في ارتكاب أيّ وسيلة للحطّ مِنْ شأنهم.

وقد علّق الاُستاذ عبد الهادي المختار على هذه الفقرات مِنْ الوصيّة بقوله : وتقول بعض المصادر إنّ معاوية أوصى ولده يزيد برعاية الحُسين ، والذي نعتقده أنّه لا أثر لها من الصحة ؛ فإنّ معاوية لمْ يتردّد في اغتيال

٢٣٨

الإمام الحسن حتّى بعد ما بايعه ، فكيف يوصي ولده بالعفو عن الحُسين إنْ ظفر به.

لم يكن معاوية بالذي يرعى لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) حرمةً أو قرابةً حتّى يوصي ابنه برعاية آل محمّد ، كلاّ أبداً ، فقد حارب الرسول في الجاهلية حتّى أسلم كُرها يوم فتح مكّة ، ثمّ حارب صهر الرسول وخليفته وابن عمّه علي ، ونزا على خلافة المسلمين وانتزعها قهراً ، وسمّ ابن بنت الرسول الحسن ، فهل يُصدَّق بعد هذا كلّه أنْ يوصي بمثل ما أوصى به؟!

قد يكون أوصاه أنْ يغتاله سرّاً ويدسّ له السمّ ، أو يبعث له مَنْ يطعنه بليل ، ربّما كان هذا الفرض أقرب إلى الصحة مِنْ تلك الوصية ، ولكنّ المؤرّخين ـ سامحهم الله ـ أرادوا أنْ يُبرِّئوا ساحة الأب ويلقوا جميع التبعات على الابن ، وهما في الحقيقة غرسُ إثمٍ واحدٌ وثمرةُ جريمةٍ واحدة.

وأضاف يقول : ولو أنّ الوصيّة المزعومة كانت صحيحةً لما كان يزيد لاهمَّ له بعد موت أبيه إلاّ تحصيل البيعة مِن الحُسين وتشديده على عامله بالمدينة بلزوم إجبار الحُسين على البيعة(1) .

موتُ معاوية :

واستقبل معاوية الموت غير مطمئن فكان يتوجّع ويظهر الجزع على ما اقترفه مِن الإسراف في سفك دماء المسلمين ونهب أموالهم ، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي اغتصب له الخلافة ، وحمله

__________________

(1) مجلة الغري السنة الثامنة العدد 9 و 10.

٢٣٩

على رقاب المسلمين ، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون مشغولاً عن أبيه في أثناء وفاته برحلات الصيد ، وعربدات السكر ونغمة العيدان.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية وما رافقها من الأحداث الجسام.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

٢ - أشهد أن علياً ولي الله.

٣ - أشهد أن علياً أمير المؤمنين حقّاً.

فهذه الجمل الثلاث التي وردت في(النّهاية) و(المبسوط) هي نفس ما حكاه الصدوق في(الفقيه)، لكن بفارق جوهريّ هو أنّ الشيخ الصدوق ادّعى وضعها من قبل المفوّضة، والشيخ الطوسيرحمه‌الله كان يراها روايات شاذّة غير معمول بها لظروف التقية، وكان كلاهما متّفقين على عدم لزوم الأخذ بها، لكنّ الشيخ الطوسي أفتى بجواز فعلها لا على نحو الجزئية لقوله: (ولو فعله الإنسان لم يأثم به).

فلو كان الشيخ الطوسي لا يعني الصدوق لأتى بالجملة التي كانت تقال في الموصل على عهد أُستاذه السيّد المرتضى: (محمد وعلي خير البشر) مع الجمل الثلاث الأخرى، دون اختصاصه بالجمل الثلاث التي أتى بها الصدوق.

إنّ الشيخ الطوسيّ بعد أن عدّ الأقوال في صيغ الأذان والإقامة وأنّها: خمسة وثلاثون فصلاً، وروي سبعة وثلاثون فصلاً في بعض الروايات، وفي بعضها ثمانية وثلاثون فصلاً، وفي بعضها اثنان وأربعون، قال: فإن عمل عامل على إحدى هذه الروايات لم يكن مأثوماً، وأمّا ما روي في شواذّ الأخبار منها قول: (أشهد أن علياً ولي الله) و(آل محمد خير البرية) فممّا لا يعمل عليه في الأذان والإقامة، فمن عمل بها كان مخطئاً.

وقال فيالمبسوط : وفي أصحابنا من جعل فصول الإقامة مثل فصول الأذان وزاد فيها: (قد قامت الصلاة) مرتين، ومنهم من جعل في آخرها التكبير أربع مرّات، فأما قول: (أشهد أن علياً أمير المؤمنين) و(آل محمد خير البرية) على ما ورد في شواذّ الأخبار فليس بمعمول عليه في الأذان، ولو فعله الإنسان لم يأثم به، غير أنّه ليس من فضيلة الأذان ولإكمال فصوله.

وهذان النصان يوقفاننا على أنّ أخبار الشهادة بالولاية معتبرة عند الشيخ

٣٢١

الطوسي إلى حدٍّ ما وهو حد الاقتضاء دون الفعلية، وهو ما سوّغ له فيما احتملنا قويّاً إفتاءه بالجواز وعدم الإثم بموجب اقتضائيّتها، وهذا يقارب قوله: (لم يكن مأثوماً) في العمل طبق أخبار اختلاف عدد فصول الأذان.

هذا التقارب يجعلنا نحتمل قويّاً أنّ الشيخ جوّز ذكر الشهادة الثالثة في الأذان اعتماداً على الأخبار الشاذّة، لكن في مرحلتها الاقتضائية دون الفعلية، وقد يمكن أن يقال إن الشيخ كان يرى الحجية الكاملة لشواذّ الأخبار لقوله: (فإن عمل عامل على إحدى هذه الروايات لم يكن مأثوماً)؛ لأنّهرحمه‌الله لم يقل: (كان مصيباً)، بل قال: (لم يكن مأثوماً) فمعناه أن العامل بتلك الأخبار لم يكن مأثوماً وإن كان مخطئاً بنظر الشيخ الطوسي؛ لأنّه عمل بأخبار شاذة مع وجود الأذان المحفوظ عندهم وعملهم به فتأمل !!!

وقد يكون الشيخ اعتبر تلك الأخبار شاذة لتصوره أنّها قد وردت عن الأئمة على نحو الجزئية، وأن عدم عمل الطائفة بتلك الأخبار جعلتها شاذة، أما لو اعتبرنا ورود تلك الأخبار على نحو التفسيرية والبيانية من قبل المعصومين فلا معنى لاعتبارها أخباراً شاذة وذلك لعدم معارضتها مع الروايات البيانية الصادرة عن المعصومين في صيغ الأذان.

وبهذا فلا يجوز الأخذ بالأخبار الشاذة أن أخذت على نحو الجزئية أما إذا اعتبرت من قبيل التفسير والإتيان بالمستحب ضمن المستحب كما هو الحال في استحباب الصلاة على الرسول كلما ذكر اسمه في الأذان أو في غيره لا يجعلها جزءاً من الأذان والإقامة ولا يبقى مانع من الأخذ بتلك الأخبار والعمل بها.

وعليه فالشيخ الطوسي فيما يحتمل كان قد عنى بكلاميه الآنفين الشيخ الصدوقَ، وذلك لاتّحاد النصّ الموجود في(الفقيه) مع ما قاله الشيخ في(النهاية) و(المبسوط) .

الأمر السابع: من المعلوم أن الشيخ الطوسي قد استفاد من مصادر غنية، منها

٣٢٢

مكتبتين عظيمتين:

أولاهما: مكتبة أبي نصر سابور وزير بهاء الدولة البويهي(١) ، والذي قال عنها ياقوت الحموي: (ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كانت كلّها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحرّرة...)(٢) .

وثانيتهما: مكتبة أستاذه السيّد المرتضى الثمانيني والذي لقّب بهذا اللقب لأنّ مكتبته كانت تحتوي أكثر من ثمانين ألف كتاباً سوى التي أهديت إليه من الرؤساء والأشراف والتّجّار، وله ثمانون قرية، وتوفّي وعمره ثمانون عاماً وقد كان السيّد المرتضى شيخ الشيعة في وقته وموضع اهتمام الجميع.

وقد استفاد الشيخ الطوسي من هاتين المكتبتين كثيراً قبل دخول السلاجقة بغداد عام ٤٤٧ هـ وإسقاط الدولة البويهية وحرقهم لمكتبة أبي نصر سابور وغيرها من الدور الشيعية في الكرخ.

قال ابن الجوزي في حوادث سنة ٤٤٨ هـ: وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره(٣) . ثم قال في حوادث سنة ٤٤٩ هـ: وفي صفر من هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة بالكرخ، وأُخِذَ ما وجد من دفاتره، وكرسيٌّ كان يجلس عليه للكلام، وأُحرِقت مكتبته(٤) .

فيحتمل قويّاً أن يكون الشيخ الطوسيّرحمه‌الله قبل هجوم السلاجقة على بغداد قد وقف على أخبار دالّة على الشهادة الثالثة في أُصول أصحابنا، لكنّها كانت أخباراً آحاداً لا تقوى على معارضة غيرها، ونظراً لاعتقاده بحجيّتها الاقتضائيّة دون الفعلية على ما فصّلنا سابقاً، وأنّها حجّة عنده، لفتواه بالجواز وعدم الإثم خلافاً لأُستاذه المرتضى وتلميذه ابن إدريس في خبر الآحاد كان عليه أن يأخذ

____________________

(١) الذي ولد في شيراز ٣٣٦ هـ وتوفي سنة ٤١٦ هـ.

(٢) معجم البلدان ١: ٥٣٤، خطط الشام ٦: ١٨٥.

(٣) المنتظم ٨: ١٧٣.

(٤) أنظر المنتظم ٨: ١٧٩.

٣٢٣

 بها، ولمّا لم نره يأتِ بأسانيدها في كتبه فليس لنا إلاّ أن نقول إنّه تركها لمخالفتها لما اشتهر عند الأصحاب من أنّ الشهادة بالولاية ليست جزءً في الأذان، أو للتقيّة لأنّ الشيخ لم يأتِ بتلك الأخبار وأسانيدها للظروف التي كان يعيشها؛ لأنّهرحمه‌الله مرّ بظروف قاسية جدّاً.

وممّا حُكي بهذا الصدد أنّه وُشي بالشيخ الطوسي إلى الخليفة العباسي بأنّه وأصحابه يسبّون الصحابة، وكتابَهُالمصباح يشهد بذلك؛ لما في دعاء زيارة عاشوراء: (اللّهمّ خصَّ أنتَ أوَّل ظالم باللعن مني...).

فأجاب الشيخُ الخليفَة بأنّ المراد بالأول قابيل قاتل هابيل، وهو أوّل من سنّ القتل والظلم. وبالثاني عاقر ناقة صالح. وبالثالث قاتل يحيى. وبالرابع عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب.

فرفع الخليفة عنه العقوبة(١) .

فتلّخص ممّا سبق أنّه ليس هناك تعارضٌ بين قولي الشيخ فيالنهاية والمبسوط ، لأنّهرحمه‌الله عنى بقوله الأوّل الذين يأتون بها على نحو الجزئية وهؤلاء مخطئون حسب قواعد الاستنباط، وأمّا الذين يأتون بها لجوازها في نفسها فلا إثم عليهم.

ولا يخفى عليك أنّ الشيخ قال فيالنهاية : (كان مخطئاً) ولم يقل: (كان مبدعاً) كما قاله في الذين يأتون بجملة (الصلاة خير من النوم)، والفرق بين الأمرين واضح.

وممّا يجب التنبيه عليه هنا هو أنّ الشيخ ألّف كتابه(النهاية) قبل(المبسوط) ، لأنّهرحمه‌الله ذكرالنهاية والتهذيب في مقدّمةالاستبصار وفي مشيخته ولم يذكر غيرهما

____________________

(١) قاموس الرجال ٩: ٢٠٨، عن مجالس المؤمنين ١: ٤٨١. ومن أراد المزيد مما كان يمرّ به الشيخ الطوسيّ من ظروف عصيبة فليطالع حياته السياسية والعلمية في مظانّها.

٣٢٤

من كتبه، وهو يؤكّد بأنّ النهاية والتهذيب قد أُلِّفا قبل الاستبصار.

وبمراجعة لكتابالخلاف والمبسوط والعدّة وغيرها من كتبه نرى الشيخ ذكر(الاستبصار) فيهما، وهذا يعلمنا بأنّالمبسوط قد أُلِّف بعدالاستبصار ، ومنه نفهم بأنّ نصالنّهاية هو الأوّل ثم يتلوه نصّالمبسوط الذي نفى فيه الإثم.

وهو الآخر يرشدنا إلى أنّ القول الأوّل للشيخ في(النّهاية) كان قريباً إلى الصدوق حيث إنّهما كانا يعنيان بكلامهما الآتِينَ بالشهادة الثالثة بقصد الجزئية المسمَّين بالمفوَّضة، ولكنّ الشيخ في(المبسوط) عنى الذين يأتون بها لمحبوبيّتها الذاتية، ولذلك ليسوا هم بآثمين.

وفي هذين النصَّين إشارة إلى حدوث نقلة نوعية في كلامهرحمه‌الله ؛ لأنّه في نصّ(النهاية) كان يتصوّر كالشيخ الصدوق أنّ القائلين بالشهادة بالولاية غالبهم ممن يقولون بها على نحو الجزئية، وأنّ تهمة التفويض المحرّم تدور مدارهم، ولأجله خَطَّأَهُم ولم يشر إلى الرأي الآخر، لكنّه في(المبسوط) تحقق له أنّ عمل غالب الشيعة الذين يأتون بها آنذاك لم يكن على نحو الجزئيّة، بل إنّهم كانوا يأتون بها لمبحوبيّتها الذاتيّة ولرجاء المطلوبية، فأشار إلى الحكم الآخر في المسألة وقال بعدم الإثم في العمل بها.

ويؤيّد ذلك ما ورد عن السيّد المرتضى بعد أن سُئل عن قول القائل: (محمد وعلي خير البشر)، بعد: (حي على خير العمل)، فقال: إن قال: (محمد وعلي خير البشر) على أن ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان جاز، وإن لم يكن فلا شيء عليه.

إذن، فالسيّد المرتضى والشيخ الطوسي (رحمهما الله تعالى) هما أوّل من فكّكا بين الأمرين: الجزئية والمحبوبيّة الذاتية، والشيخ لا يقول باستحباب الشهادة بالولاية في الأذان، علاوة على عدم القول بجزئيّتها تبعاً لما ورد في شواذّ الأخبار، لأنّه لا يأخذ بالخبر الشاذّ إلاّ إذا سلم من المعارِض، كالعمومات، والإجماع،

٣٢٥

والأخبار المتواترة، لأنّ أمثال هذه الأمور لا يجوز تخصيصها بمثل الشاذّ النادر.

وعليه: فالشيخ يرى في شواذّ الأخبار الحجيّة الاقتضائية لا الفعلية، وهذا هو الذي دعاه أن لا يقول باستحبابها، لقوله: (غير إنه ليس من فضيلة الأذان ولا كمال فصوله) لعدم عمل الطائفة بها، لكنّه في الوقت نفسه حسب ما احتملناه سابقاً يرى حجيّتها الفعلية في مرحلة الجواز، ولذلك أفتى بعدم الإثم بفعلها لو قيلت على غير الجزئية كالمحبوبية الذاتية أو بقصد القربة المطلقة، وهو يؤكّد وجود عمومات أخرى يمكن الاستدلال بها على الجواز.

٣٢٦

٥ - ابن البراج الطرابلسي (٤٠٠ هـ - ٤٨١ هـ)

القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي، هو من كبار تلامذة الشيخ المفيد والسيّد المرتضى (رحمهما الله تعالى)، ويعدّ في مرتبة الشيخ الطوسي، وعلى أثر تتبّعي لكتابات أعلامنا حول الشهادة الثالثة لم أقف في كتب ابن البراج المطبوعة بصرف النظر عن المفقودة على شيء يدل على الشهادة بالولاية لآل البيت في الأذان غير ما جاء في كتابه(المهذب) .

فإنهرحمه‌الله لم يُسأل في(جواهر الفقه) عن فصول الأذان والإقامة حتى يجيب، لكنّه في(شرح جمل العلم والعمل) (١) شرَحَ كلام أستاذه المرتضى في فصل الأذان، ولم يتعرّض إلى موضوع الشهادة الثالثة لا من قريب ولا من بعيد.

وهكذا كان حال معاصريه: أبي الصلاح الحلبي(٢) (٣٧٤ هـ - ٤٤٧ هـ)، وأبي يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي(٣) المتوفى ٤٤٨ هـ، وسلمان بن الحسن بن سليمان الصهرشتي (من أعلام القرن السادس)(٤) ، فهم وإن تعرّضوا إلى الأذان والإقامة وأنّهما خمسة وثلاثون فصلاً، لكنّهم لم يتعرّضوا إلى الشهادة الثالثة لا من باب التفسيرية ولا من باب المحبوبية الذاتية، مع أنّ أبا الصلاح قد أشار في(الكافي) إلى ما يفتتح به الصلاة من التكبير والدعاء وذكر فيه أسماء الأئمّة الاثني عشر واحداً بعد واحد.

____________________

(١) شرح جمل العلم والعمل، لابن البراج: ٧٨.

(٢) الكافي، لأبي الصلاح الحلبي: ١٢٠ - ١٢١.

(٣) المراسم العلوية في الأحكام النبوية: ٦٧.

(٤) إصباح الشيعة بمصباح الشريعة، المطبوع ضمن سلسلة الينابيع الفقهية ج ٤: ٦١٦.

٣٢٧

والآن مع ما قاله ابن البراج فيالمهذب :

 ويستحبّ لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسه عند (حي على خير العمل): (آل محمّد خير البرية)، مرّتين، ويقول في نفسه إذا فرغ من قوله (حيَّ على الصلاة): (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله)، وكذلك يقول عند قوله (حيَّ على الفلاح)، وإذا قال: (قد قامت الصلاة) قال: (اللّهّم أقمها وأدمها واجعلني من خير صالحي أهلها عملاً)، وإذا فرغ من قوله (قد قامت الصلاة) قال: (اللهم ربَّ هذه الدعوة التامّة، والصلاة الدائمة، أَعْطِ محمّداً سؤله يوم القيامة، وبلّغه الدرجة والوسيلة من الجنّة وتقبّل شفاعته في أُمّته)(١) .

إنّ هذا النصّ يوقفنا على أمرين:

أحدهما: صحّة ما قاله الشيخ الطوسي في مقدّمةالمبسوط من أنَّ الأصحاب كانوا يستوحشون من الفتوى بغير ألفاظ الروايات، وأنّ غالب كتب القدماء هي متون روايات وبمنزلة الأُصول المتلقّاة عن المعصومين، لأنّ الفتوى بالاستحباب من قبل ابن البرّاج متفرِّع على وجود رواية في الباب وخصوصاً حينما يقيّدها بعدد كمرتين.

ويؤيد ذلك أن الأذكار الموجود في كلام ابن البراج إنما هي مروية في روايات أهل البيت وجاءت في كلمات الفقهاء، ولعل ترتيب ذكر الأذكار من تقديم الحيعلة الثالثة على الحيعلتين (حيَّ على خير الصلاة) و(حيَّ على الفلاح) كان كذلك في أصل الرواية ولذلك قدمها بالذكر.

الثانية: وقوف ابن البرّاج على تلك الروايات ووصولها لديه؛ فقد يقال بأن قولهرحمه‌الله باستحباب قول (محمد وآل محمد خير البرية) في النفس هو لفك

____________________

(١) المهذب لابن البراج ١: ٩٠.

٣٢٨

الحيعلة الثالثة، وذلك كاستحباب حكاية ما يقول المؤذن عند سماع الأذان.

فقد روى الشيخ في (المبسوط) والعلاّمة في (التذكرة) مرسلاً بقولهما: وروى أنّه إذا سمع المؤذن يقول (أشهد أن لا إله إلاّ الله) أن يقول: وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً وبالأئمة الطاهرين أئمة، ويصلّي على النبي وآله(١) .

فقد يكون ابن البراج من جهة كان يرى شرعيّة القول ب (آل محمد خير البرية) مرتين، لتلك الروايات الدالة على فك معنى الحيعلة، فيكون كلامهرحمه‌الله معنى آخر لحسنة ابن أبي عمير عن الإمام الكاظمعليه‌السلام الصريحة في الولاية.

ومن جهة أخرى كان يخاف من الجهر بها لظروف التقيّة التي كان يعيش فيها ولذلك ذهب إلى قولها سراً، ومعناه: أنّ المقتضي موجودٌ للقول بها، وكذا المانع وهو الخوف على النفس، فسعى للجمع بين الأمرين فأفتى باستحباب أن يقولها المؤذّن سرّاً في نفسه عند (حيَّ على خير العمل)، خلافاً للصدوق الذي نفاها تقيّةً، أو لاعتقاده أنّها من وضع المفوّضة يقيناً، أو لعدم ارتضاء مشايخه لها، وكذا خلافاً للشيخ الطوسي الذي لم يذهب إلى استحباب القول بها، لكونها وردت في شواذّ الأخبار، المخالفة للمعمول عليه عند الطائفة، فالشيخ أفتى بجواز العمل بها لكنّه لم يقل باستحبابها لعدم اعتبار الأخبار الشاذّة عنده إن عارضت ما هو أقوى منها.

وأمّا ابن البرّاج فقد قال باستحباب قولها سرّاً للروايات التي وقف عليها، وبهذا ترى في فتوى ابن البراج نقلة نوعيّة وفقهيّة أُخرى في تطوّر سير هذه المسألة الفقهية بعد السيّد المرتضى والشيخ الطوسي (رحمهما الله تعالى).

وإنّ تقييد ابن البرّاج الحكم بمرّتين صريح في أنّه أخذه من روايات كانت

____________________

(١) المبسوط ١: ٩٧، تذكرة الفقهاء ٣: ٨٤.

٣٢٩

موجودة عنده تجزم بالمرتين، وإلاّ لما ساغ له أن يجزم في فتواه بهذا القيد الشرعي الذي لا يمكن التفوّه به لفقيه من دون أصل من الأخبار.

وقد يظهر جلياً في أن ابن البرّاج قد وقف على خبر أو أخبار غير التي وقف عليها الشيخ الصدوق، وذلك لتقييد الذكر هنا بالإخفات في النفس، وهذا ما لم نجده عند الصدوق، مع أن محكي الشيخ الصدوق تدل على الجزئية، وهذه الرواية ظاهرة في أنّها مجرد ذِكْر وليست جزءاً، وعليه تكون هذه الرواية غير مراسيل الصدوقرحمه‌الله المحكية في(الفقيه) .

قال الشهيد فيالذكرى المسألة الرابعة عشر من باب فيما يؤذّن له وأحكام الأذان: قال ابن البرّاجرحمه‌الله : يستحبّ لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسه عند (حي على خير العمل): (آل محمد خير البرية) مرتين.

وهذا النص من الشهيد الأوّل يفهم بأنّه يقرّ بما أفتى به ابن البرّاجرحمه‌الله ، وقد يكون فهم من فتوى ابن البرّاج أنّ الشهادة بالولاية لآل محمّد هي من أذكار الأذان المندوبة بالندب الخاصّ لا جزء فصوله كما قدمنا لأنّهرحمه‌الله قال بعدها: ويقول أيضاً في نفسه إذا فرغ من قوله (حي على الصلاة): لا حول ولا قوة إلاّ بالله، وكذلك يقول عند قوله: (حي على الفلاح)، وإذ قال: (قد قامت الصلاة) قال: (اللهم أَقِمْها وأَدِمْها، واجعلني من صالحي أهلها عملاً)، وإذا فرغ من قوله: (قد قامت الصلاة) قال في نفسه: (اللّهّم ربّ الدعوة التامّة والصلاة القائمة، أَعط محمداً (صلواتك عليه وآله) سؤله يوم القيامة، وبلّغه الدرجة والوسيلة من الجنة، وتقبّل شفاعته في أمّته)(١) . وهذه هي نفس العبائر التي جاءت فيالمهذب (٢) لابن البراج. وكلها تشير إلى أنّها ذِكْر وليست جزءاً.

وعلاوةً على ما تقدّم يمكننا القول بأنّ ابن البرّاج قال بذلك لعلمه بأن (حي

____________________

(١) ذكرى الشيعة ٣: ٢٤١.

(٢) المهذب لابن البراج ١: ٩٠ / من باب الأذان والإقامة وأحكامها.

٣٣٠

على خير العمل) معناها الولاية، ويجوز تفسيرها بجمل دالّة عليها تدعو لها وتحث عليها حسبما اتّضح في الدليل الكنائي، كمحمد وآل محمد خير البرية، لأنّه قيّد الاستحباب للمؤذّن والمقيم لا للسامع، لأنّ النداء وظيفة المؤذّن ويتلوه المقيم.

إنّ الصيغة التي أفتى بها ابن البرّاج: (آل محمد خير البرية) هي إحدى الصيغ الثلاث التي قالها الشيخ الطوسي وغيره من الأعلام بعد الصدوق. فابن البراج قال بشرعية (آل محمد خير البرية) (مرتين) حين الحيعلة وفي نفسه ومن باب الذكر.

والسيّد المرتضى ذهب إلى شرعية (محمد وعلي خير البشر).

والشيخ الطوسي أشار إلى الصيغ الثلاث التي جاء بها الصدوق فيالفقيه .

ففي(النهاية) أشار إلى صيغتين منها: ١ أشهد أنّ علياً وليّ الله، ٢ آل محمد خير البرية.

وفي(المبسوط) أكّد على وجود (أشهد أنّ علياً أمير المؤمنين) و(آل محمد خير البرية) في شواذّ الأخبار.

فالسيّد المرتضى وضّح جواز الشهادة بالولاية لأهل الموصل في العراق، وقد يكون الشيخ الطوسي أشار في كلامه إلى تأذين أهل بغداد وحواليها بالشهادات الثلاث، وفي كلام ابن البرّاج إشارة إلى تأذين أهل حلب وضواحيها بصيغة (محمد وآل محمد خير البرية) وقد يمكن أن نقول إن شيعة حلب أذَّنوا بذلك تبعاً لمن يقلدونهم من الفقهاء كابن البرّاج والسيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ (رحمهم الله تعالى)، وهو الصحيح الذي لا خلاف فيه.

إذن فصيغة (محمد وعلي خير البشر) و(أشهد أنّ علياً ولي الله) أو(أشهد أنّ علياً أمير المؤمنين) أو(آل محمد خير البرية) كانت صيغاً تقال في الموصل وبغداد وحلب وحمص، وجميعها تدلّ على أنّها كانت تقال بعد الحيعلة الثالثة،

٣٣١

أو قبلها، وهذا هو الذي كان عمر بن الخطاب لا يريد فتحها والإتيان بتفسيرها معها، وحسب تعبير الإمام الكاظم (أراد أن لا يكون حثٌّ عليها ودعاءٌ إليها).

ولقد أكثرنا القول بأنّ سبب حذف عمر بن الخطاب ل (حيّ على خير العمل) كان بسبب تفسيرها، وأنّ الحكومات الموالية لعمر والتي جاءت بعده كانت حساسة تسعى لرفع هذا الشعار الشرعي النبوي ومحوه من المآذن، وتسعى جاهدة لإخماده خوفاً من إعلاءِ ذكر عليّعليه‌السلام من بعده؛ ولأنّه يدل على بطلان حكومة من يخالف الإمام علي، لأن المؤذن حينما يقول (حي على خير العمل) يعني بكلامه تبعاً لتفسير الأئمة أن الإمام علي هو خير البرية، وخير البشر، وبما أن أنصار النهج الحاكم كانوا يعتقدون بأن هذا الفصل فيه تعريض بخلفائهم وتخطئة لمنهجهم، فجدّوا لحذف الحيعلة خوفاً من تواليه؛ ولذلك ترى الصراع قائم ودائم بين العلويين وبين الأمويين والعباسيين في شعارية هذه المفردة الفقهية العقائدية السياسية، كما هو ظاهر في تخالف النهجين في مفردات فقهية أخرى، وهذا ما أكّدناه بالأرقام في الباب الأول من هذه الدراسة:(حي على خير العمل والشعارية) (١) .

____________________

(١) طبع هذا الكتاب قبل أعوام، وجدد طبعه لمرات عديدة في لبنان، واليمن، والعراق، ومصر، وترجم إلى اللغات الإنكليزية، والأردو، والفارسية.

 

٣٣٢

٦ - يحيى بن سعيد الحلي (ت ٦٨٠ هـ)

٧ - العلاّمة الحلي (ت ٧٢٦ هـ)

اتّضح ممّا سبق أنّ قوّة الظنّ حاصلة برجحان القول بالشهادة بالولاية في كل شيء ومنها الأذان بغير قصد الجزئية، إن لم نقل الشهرة متحقّقة في ذلك قبل الشيخ الطوسيرحمه‌الله ، لأنّك قد وقفت في القسم الأوّل من هذا الفصل على محبوبيّة ذكر الولاية في الأذان من خلال تفسير الإمام الكاظمعليه‌السلام ل (حيَّ على خير العمل)، ولِما روي عن الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام بأنّ الحيعلة الثالثة هي معنى كنائي للشهادة الثالثة، ولِما روى الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا أنّه أشار إلى وجود معنى الولاية في الأذان. وهذه الروايات عن الأئمة لتؤكّد على وجود معنى الولاية في الأذان وجواز التعبير عنها بأي لفظ شاء وكما جاء في حسنة ابن أبي عمير من قولهعليه‌السلام : (وإنّ الّذي أمر بحذفها أراد أن لا يكون حثٌّ عليها ودعاءٌ إليها) المفهمة بمحبوبيّة ذكر معناها معها.

وكذا وقفت على تأذين الشيعة بها في بلدان مختلفة قبل ولادة الشيخ الصدوق، وفي عصره، ثم من بعده، وهو مؤشّر آخر على محبوبية الإتيان بهذا الأمر عند الشيعة آنذاك.

وإن ما حكاه الشيخ الطوسي من وجود روايات شاذّة، وإفتاء ابن البرّاج باستحباب قولها سرّاً بقيد المرّتين الدالّ على وجود رواية بذلك، كلّها تؤكّد ما نريد قوله من أنّ هناك مستنداً روائيّاً في أصول أصحابنا سوّغ للشيخ الطوسي والسيّد المرتضى الإفتاء بالجواز وعدم الإثم، كما سوّغ لابن البرّاج الإفتاء باستحباب محمد وآل (محمد خير البرية) مرتين.

ولمّا كان غالب فقهائنا اللاّحقين يستندون في أقوالهم على فتاوى الشيخ الطوسي ومنها هذه المسألة، رأينا من الضروريّ أن نقدّم مقطعاً من كلام الشيخ

٣٣٣

حسن بن زيد الدين العاملي في(معالم الأصول)؛ إذ قال:

... وبأنّ الشّهرة الّتي تحصل معها قوّة الظّنّ، هي الحاصلة قبل زمن الشّيخ رحمه‌الله لا الواقعة بعده، وأكثر ما يوجد مشهوراً في كلامهم حدَثَ بعد زمان الشيخ، كما نبّه عليه والدي رحمه‌الله في كتاب (الرّعاية) (١) الّذي ألّفه في رواية الحديث، مُبيِّناً لوجهه، وهو أنّ أكثر الفقهاءِ الّذين نشئوا بعد الشيخ، كانوا يتّبعونه في الفتوى تقليداً له، لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنّهم به. فلمّا جاء المتأخّرون، ووجدوا أحكاماً مشهورة، قد عمل بها الشّيخ ومتابعوه، فحسبوها شهرة بين العلماءِ، وما دروا أنّ مرجعها إلى الشّيخ، وأن الشّهرة إنّما حصلت بمتابعته.

 قال الوالدرحمه‌الله :وممّن اطّلع على هذا الّذي تبيّنته وتحققّته، من غير تقليد: الشيخ الفاضل المحقّق سديد الدّين محمود الحمصي، والسيّد رضي الدّين بن طاوس وجماعة. وقال السيّد في كتابه المسمّى ب (البهجة لثمرة المهجة): أخبرني جدّي الصّالح ورّام بن أبي فراس، أنّ الحمصي حدّثه أنّه لم يبق للإِماميّة مفت على التّحقيق، بل كلّهم حاك، وقال السيّد عقيب ذلك: والآن فقد ظهر أنّ الّذي يُفتَى به ويُجاب، على سبيل ما حُفِظ من كلام العلماءِ المتقدّمين (٢) .

____________________

(١) انظر الرعاية في علم الدراية، للشهيد الثاني: ٩٢، الحقل الرابع في العمل بالخبر الضعيف.

(٢) معالم الأصول: ٢٠٤، تحقيق الدكتور مهدي محقق.

٣٣٤

وما قلناه سابقاً يؤكّد لك بأنّ السيرة في الشهادة بالولاية لم تكن قد نشأت في عهد الشيخ الطوسيرحمه‌الله ، أو من بعده، بل هي كانت سيرة عند أغلب الطوائف الشيعية: زيدية، وإسماعيلية، واثني عشرية، مختلفة في صيغ الأداء فيها، فبعضهم يقول: (محمد وعلي خير البشر)، والآخر (محمد وآل محمد خير البرية)، وثالث (إنّ علياً ولي الله) أو أن (علياً أمير المؤمنين) وأن هذه الصيغ هي التي حكاها الشيخ الصدوق في الفقيه والطوسي في المبسوط والنَّهاية، وهو مما ينبأ بأن السيرة كانت قائمة على التأذين بها قبل عهد الصدوق عملاً ورواية.

لكن لم تكن هذه السيرة إلزاميّة على جميع المؤمنين، ولم يؤت بها على نحو الجزئية حتّى نقول بتحقيق الشهرة فيها، بل هي كانت تؤتى في بعض البقاع دون أُخرى، وقد تكون في البقعة الواحدة يأتي بها البعض ويتركها الآخر لعدم كونها جزءاً من الأذان وهو ما نعنيه بكلمة الجواز.

فالذي نريد أن نؤكّد عليه هنا هو أنّ هذه السيرة لم يكن مرجعها الشيخ الطوسي حتى يقال فيها ما يقال، وأنّ الفقهاء من بعده لم يكونوا يتّبعونه في الفتوى بجواز الإتيان بالشهادة بالولاية في الأذان تقليداً، وإن كانوا يعيرون إليه كمال الاهتمام، ويأخذون بقوله ويستندون على فتاواه، مع ما لهم من أدلّة أُخرى كالعمومات ونحوها.

إذن، ما ينبغي أن يقال: هو أنّ السيرة في رجحان الشهادة بالولاية مقرونة بتسالم الفقهاء بعدم الإثم في الإتيان بها، شريطةَ أن لا تكون على نحو الجزئية والشطرية، وقد أفتى بذلك السيّد المرتضى والشيخ الطوسي وابن البراج (رحمهم الله تعالى) وغيرهم. وإنّ ترك الفقهاء من بعد الشيخ الطوسي التعرض لموضوع الشهادة بالولاية في كتبهم، لا يعني عدم قولهم بمحبوبيتها، بل لتسالمهم على عدم جزئيتها.

وعلى سبيل المثال، نرى الشهيد الثانيقدس‌سره جمع بين المطلبين فيالروضة

٣٣٥

بقوله:(ولا يجوز اعتقاد شرعيّة غير هذه الفصول في الأذان والإقامة، كالتشهّد بالولاية لعليّ وأنّ محمّداً وآله خير البرية أو خير البشر وإن كان الواقع كذلك، فما كلُّ واقعٍ حقّاً يجوز إدخاله في العبارات الموظّفة شرعاً المحدودة من الله تعالى، فيكون إدخال ذلك فيها بدعةً وتشريعاً..، ولو فعل هذه الزيادة أو إحداها بنيّة أنّها منه أَثِمَ في اعتقاده، ولا يبطل الأذان بفعله، وبدون اعتقاد ذلك لا حرج) (١) .

أمّا عدم إشارة البعض إلى حكم من يقول: (محمد وآل محمد خير البرية) و(علياً ولي الله) وأمثالها في أذانه، فقد يعود لعدم شيوع هذا الأمر في ذلك الزمان الذي كانوا يعيشون فيه، وقد يكون تركهم جاء خوفاً من السلطان الجائر. وقد يكون لجوازه وأنه لا يلزم الفقيه الإشارة إليه.

وكذا الحال بالنسبة إلى الذي قد أفتى بالحرمة كالشيخ عبد الجليل القزويني صاحب كتاب(النقض) باللّغة الفارسية والذي كتبه في سنة ٥٦٠ هـ، فقد أفتى بالحرمة لأنّه رأى بعض الناس في عهده يقولون بالشهادة بالولاية على أنّها جزء الأذان، ولأجل ذلك تهجّم عليهم ولعنهم وقال بلزوم إعادة الأذان(٢) .

وعليه، فالإشارة من الفقهاء تأتي لتعديل حالة الإفراط والتفريط في الأمة ولبيان الأحكام الواجبة والمحرمة، وقد يشار إلى الأمور المكروهة والمستحبة. أمّا الأمور المباحة، فليست من وظائف الفقيه.

وأمّا ابن زهرة الحلبي(٣) (٥١١ - ٥٨٥ هـ)، والفضل بن الحسن الطبرسي(٤) (ت ٥٤٨ هـ)، وابن إدريس الحلي(٥) (ت ٥٩٨ هـ)، وابن حمزة (محمد بن علي

____________________

(١) شرح اللمعة ١: ٥٧١.

(٢) النقض: ٩٧.

(٣) غنية النزوع: ٧٢.

(٤) المؤتلف من المختلف بين أئمة السلف ١: ٨٨.

(٥) السرائر ١: ٢١٣.

٣٣٦

 الطوسي) (ت حدود ٥٨٥ هـ)(١) ، وابن أبي المجد الحلبي (من فقهاء القرن السادس)(٢) . والمحقّق الحلي(٣) (٦٠٢ هـ - ٦٧٦ هـ)، والمحقق الآبي، المعروف بالفاضل (من أعلام القرن السابع)(٤) ، وفخر المحقّقين محمد بن الحسن بن يوسف (ابن العلاّمة الحلي) (٦٨٢ - ٧٧١ هـ)(٥) ، فإنّهم لم يتعرّضوا إلى موضوع الشهادة بالولاية في الأذان، مع أنّهم قد أشاروا إلى الأذان والإقامة وأنّ فصولهما خمسة وثلاثون فصلاً.

نعم، قال يحيى بن سعيد الحلي (٦٠١ هـ - ٦٩٠ هـ) في(الجامع للشرائع) : والمرويّ في شاذّ الأخبار من قول (أنّ عليّاً ولي الله)، و(آل محمّد خير البريّة) فليس بمعمول عليه(٦) .

وهذا النص من يحيى بن سعيد الحلّيّ يشير إلى وقوفه على ذلك الخبر؛ لأنّه لم يحكه عن الشيخ، وهو يؤكّد بأنّهرحمه‌الله لم يقل ذلك تقليداً واتّباعاً للشيخرحمه‌الله ، وإن كان نظره يتّفق مع الشيخ في لزوم ترك الخبر الشاذّ إذا خالف المعمول عليه.

وكذا قال العلاّمة الحلّيّ (ت ٧٢٦ هـ) في(منتهى المطلب): وأمّا ما روي في الشاذ من قول (أنّ عليّاً وليّ الله)، و(آل محمّد خير البريّة) فممّا لا يعوّل عليه، قال الشيخ في المبسوط: فإن فعله لم يكن آثماً، وقال في النهاية: كان مخطئاً(٧) .

وهذا النصّ من العلاّمة قد يفهم بأنّه قد وقف على تلك الأخبار لأنّه لم يحكها

____________________

(١) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: ٩١.

(٢) إشارة السبق: ٩٠.

(٣) شرائع الإسلام ١: ٥٩، المختصر النافع: ٢٨، المعتبر ٢: ١٣٩ - ١٤١.

(٤) كشف الرموز في شرح المختصر النافع ١: ١٤٥، انتهى من تأليفه ٦٧١ هـ.

(٥) إيضاح الفوائد ١: ٩٤.

(٦) الجامع للشرائع: ٧٣.

(٧) منتهى المطلب ٤: ٣٨١.

٣٣٧

 اتّباعاً وتقليداً للشيخرحمه‌الله .

بخلاف ما جاء عنه في(تذكرة الفقهاء) ، حيث قال: قال الشيخ: ولو عمل عامل بذلك لم يكن مأثوماً، فأمّا ما رُوي في شواذّ الأخبار من قول: (أنّ عليّاً ولي الله)، و(آل محمد خير البرية) فممّا لا يعمل عليه في الأذان، فمن عمل به كان مخطئاً(١) .

كانت هذه هي النصوص التي وصلتنا من أواخر القرن السابع الهجري وحتى أوائل القرن الثامن الهجري، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ العلاّمة لم يشر إلى هذه الحقيقة إلاّ في كتابيه المعنيَّين بأمور الخلاف مثل:(منتهى المطلب) و(تذكرة الفقهاء) . وأمّا في كتبه الأخرى كالتحرير (٢) والمختلف (٣) والتبصرة (٤) وإرشاد الأذهان (٥) والقواعد (٦) وتلخيص المرام (٧) فلم يشر إلى ما جاء في شواذّ الأخبار، وإن ذكر الأذان والإقامة وأنّ فصولهما خمسة وثلاثون فصلاً على الأشهر، فعدم تعرّضه إلى موضوع الشهادة بالولاية في الأذان، في الكتب المعنيّة بالاستدلال والإفتاء داخل دائرة المذهب الواحد ليشير إلى عدم صيرورة الشهادة بالولاية شعاراً عامّاً لكلّ الشيعة في ذلك الزمان، وذلك لعدم جزئيته لا لعدم مشروعيته، إذ الشيعة لم يكن بمقدورهم أن يأتون بها جهاراً من على المآذن، وإن كان البعض من خلّص الشيعة يأتي بها سرّاً.

فالقول بالجواز شيء، والقول بالاستحباب أو كونه جزءاً شيء آخر.

____________________

(١) تذكرة الفقهاء ٣: ٤٥.

(٢) تحرير الأحكام الشرعية ١: ٢٢٣ ط مؤسسة الإمام الصادق.

(٣) مختلف الشيعة ٢: ١٥٠ ط مكتب الإعلام الإسلامي.

(٤) تبصرة المتعلمين: ٢٥.

(٥) إرشاد الأذهان ١: ٢٥٠.

(٦) قواعد الأحكام ١: ٢٦٥ ط مؤسسة النشر الإسلامي.

(٧) تلخيص المرام: ٢٥.

٣٣٨

فالشيخ الطوسي وابن البرّاج والعلاّمة (رحمهم الله تعالى)، وغيرهم كانوا يخالفون من يأتي بها كجزء في الأذان؛ لعدم الدليل عندهم عليها، في حين أنّهم يجيزون الإتيان بها لمطلق القربة لأدلّة أخرى عندهم، وقد وضّح العلاّمة الحلي الشق الأول [وهو نفي الجزئية] في(نهاية الأحكام) تاركاً الشق الأخر إذ قال: ولا يجوز قول (أنّ عليّاً وليّ الله) و(آل محمّد خير البرية) في فصول الأذان، لعدم مشروعيته(١) .

وعليه فيحيى بن سعيد الحلي والعلاّمة الحلي (رحمهما الله تعالى) لم يكونا مقلِّدَين للشيخ الطوسي فيما حكاه من الأخبار الشاذّة، بل يفهم من كلام التقي المجلسي (ت ١٠٧٠ هـ) أنّهما وقفا على تلك الأخبار، لعدّ المجلسي: الشيخ والعلاّمة والشهيد في مرتبة واحدة، إذ قال: والظاهر أنّ الأخبار بزيادة هذه الكلمات أيضاً كانت في الأصول، وكانت صحيحة أيضاً، كما يظهر من الشيخ والعلاّمة والشهيدرحمهم‌الله فإنّهم نسبوها إلى الشذوذ، والشاذّ ما يكون صحيحاً غير مشهور(٢) .

ولو ألقيت نظرةً سريعةً على تاريخ تلك الفترة وما فيها من صراعات دامية في الموصل والشام ومصر، وما قام به صلاح الدين الأيّوبي مع الفاطميين والعلويين لوقفت على سرّ عدم تعرّض الأعلام ما بين ابن البراج (ت ٤٨١ هـ) ويحيى بن سعيد الحلي (ت ٦٧٩ هـ) أي بمدة قرنين إلى ما يدلّ على رجحان الشهادة بالولاية في الكتب الموجودة بين أيدينا.

وبذلك فقد أمكننا وبهذا العرض السريع إعطاء فكرة بسيطة عن سير هذه

____________________

(١) نهاية الإحكام ١: ٤١٢.

(٢) روضة المتقين ٢: ٢٤٥. في المصدر المحقق بدل (الشيخ).

٣٣٩

المسألة الفقهية الكلامية، وما يمكن أن يستند عليه في الأحكام الشرعيّة عند القدماء والمتأخّرين.

وكذا اتّضح للقارئ أنّ الشهادة بالولاية لم تكن سيرة شائعة عند جميع الشيعة وفي جميع فتراتها، وأن عدم شيوعها لا ينفي محبوبيّتها وجوازها من دون قصد الجزئية، بل إنّ في ترك بعض الشيعة لها في بعض الأحيان دلالة قويّة على عدم قولهم بجزئيتها، وكذا في عمل البعض الآخر منهم دلالة على محبوبيّتها، إذ من غير المعقول أن تُطبِق أغلبُ الدول الشيعية على الإتيان بها خصوصاً في ظروف خاصة لا تسمح لهم بالإجهار بها، فما من حاكم شيعي مبسوط اليد إلاّ أتى ب (حي على خير العمل) مع ما لها من تفسير عن الأئمّة.

ونحن إن شاء الله في الفصل القادم سنواصل هذه السيرة مقرونة مع بيان تسالم الفقهاء على جواز الإتيان بها بقصد القربة المطلقة أو لمحبوبيّتها الذاتية بحسب أخبار اقتران الشهادات الثلاث المارة المعتبرة سنداً. وهو ما يؤكّد جواز الإتيان بهذا العمل المحبوب إن لم تعقبه مخاطر تودّي إلى إراقة الدماء.

وقد يصير الإتيان بهذا العمل مطلوباً بنحو أكيد بالعنوان الثانوي خصوصاً مع دفع اتّهامات المتَّهمين وافتراءات المفترِين الذين يريدون أن ينسبوا الغلوّ إلى شيعة أمير المؤمنين، فيجب على الشيعة أن يجهروا بالتّوحيد والنبوة مقرونة بالولاية حتى يدفعوا ومن على المآذن تلك الافتراءات، وهم يعلمون ويؤكّدون في رسائلهم العملية بأنّها ليست من أصل الأذان أو جزءً داخلاً في ماهيته.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595