أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان13%

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 595

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان
  • البداية
  • السابق
  • 595 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156834 / تحميل: 12405
الحجم الحجم الحجم
أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

بحوث فكرية عقائدية فقهية قيّمة، لأنّ هذا البحث مرتبط بموضوع حسّاس ومهم، وشعار لمذهب يعتنقه مئات الملايين من المسلمين، وفي الوقت نفسه هو سؤال لملايين المسلمين في جميع البلدان، فإنّ موضوعاً كهذا لَحَرِيٌّ أن يدرس من قبل العلماء وبكتابات حديثة معاصرة يفهمها الجميع.

كل هذا هو الذي دعاني لأن أدلو بدلوي معطياً رأيي في هذا المجال، غير مدّع بأني قد أوفيت البحث حقّه، بل هو مبلغ وسعي وغاية جهدي، ومن الله أرجو التوفيق.

موكِّداً للقارئ العزيز بأنّ ما سأطرحه هنا هو عرض لوجهة نظر - جل أو كلّ - الإمامية وبيان لما قاله فقهائهم وأعلامهم. ولا أريد أن أُثبت شرعيّة الشهادة الثالثة لإخواننا العامة، لا لصعوبة الأمر، بل لعدم الضرورة لبحث كهذا الآن، إذ إنّ إثبات الشهادة الثالثة وما يماثلها سهل وفق أُصولهم الفقهية والأُصولية والروائية؛ وذلك لأنّ غالبيّتهم يقولون بعدم توقيفيّة الأذان، وأنّه شُرّع وفق منام رآه أحد الصحابة، وفي آخر: أنّه شُرّع طبق استشارة من النبيّ مع أصحابه، وقيل: بأنّ الأذان شرّع أَوّلاً بقول المؤذّن: (الصلاة الصلاة)، ثم أُضيفت إليه الشهادة بالتوحيد، وأن عمر بن الخطاب أضاف إليه الشهادة بالنبوّة.

ولهم أصول أخرى كالقول بأنّ الحَسَنَ هو ما حَسَّنه الناس(١) ، وكالقول بالمصلحة وأشباهها.

كلّ هذه الأُصول تسهّل الأمر للقول بشرعيّتها عندهم، لكنّا الآن في غنىً عن ذلك، بل الذي نريد الإشارة إليه هو عرض سريع لما جرى على الأذان بعد رسول

____________________

(١) الآثار، لمحمد بن الحسن الشيباني: ٨١ كتاب الأذان ح ٥٩، عن حماد بن إبراهيم وأنّه سال أبا حنيفة عن التثويب؟ قال: هو ما أحدثه الناس، وهو أحسن مما أحدثوه.

٢١

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من التغييرات والزيادات، لأنّ بيان موضوع كهذا يحدّ من هجمة الآخرين علينا، و يوقفهم عند حدودهم.

وقبل عرضي لما جرى بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لابدّ من نقل كلام الأستاذ خليل عزمي في كتابه(بين الشيعة والسنة) إذ قال: (زيادتهم على الأذان جملة: (وأشهد أن علياً ولي الله)، باعتبار أنّها لم تكن داخلة ضمن الأذان بعهد رسول الله، فأيّ ضرر يتأتّى من إضافة هذه الجملة طالما استحسنها جمهور من المسلمين كما استحسن جمهور آخر إدخال كلمات لم تكن ضمن الأذان في عهد رسول الله مثل: (الصلاة خير من النوم) في الأذان)(١) .

وذكرت كتب السير والتاريخ خبر الأسود العنسي - عبهلة بن كعب - في اليمن، وظهوره متزامناً مع مسيلمة الكذاب في اليمامة، وادعائهما النبوّة، وأنّ رسول الله كتب إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين وأمرهم أن يحثّوا الناس على التمسّك بدينهم، وعلى النهوض إلى حرب الأسود، فقتله فيروز الديلمي على فراشه(٢) .

وفيالتنبيه والإشراف أنّ النبي كان كاتب الفرس أن يقتلوه، فقتلوه، فأَخبر النبيُّ أصحابَهُ بمقتله(٣) .

وفيغرر الخصائص الواضحة للوطواط المتوفّى ٧١٨ هـ: قال عبد الله بن عمر: أتانا الخبر من السماء إلى رسول الله في الليلة التي قتل فيها، فقال: قتل العنسي، فقيل: من قتله؟ قال: رجل مبارك من أهل بيت مبارك، قيل: من هو؟ قال: فيروز،

____________________

(١) الأعمى في الميزان: ٢، عن كتاب: بين الشيعة والسنة: ط بغداد، ص ٩٠. والقسطاس المستقيم في ولاية أمير المؤمنين للسيّد محمد علي بن محمد باقر الموسوي الكاظمي: ١٣٥ - ١٣٦ طبع مطبعة المعارف / بغداد سنة ١٣٧٦ هـ عنه.

(٢) تاريخ الخميس ٢: ١٥٦.

(٣) التنبيه والإشراف: ٢٤١.

٢٢

وفي صبيحة تلك الليلة قبض رسول الله(١) .

وفيتاريخ الطبري ، وتاريخ دمشق وغيرهما: فلمّا طلع الفجر نادوا بشعارهم الذي بينهم ثم بالأذان وقالوا فيه: (نشهد أنّ محمداً رسول الله وأنّ عبهلة كذّاب)، وشنّوها غارة، وتراجع أصحاب رسول الله إلى أعمالهم، وكتبوا إلى رسول الله بالخبر، فسبق خبر السماء إليه، فخرج قبل موته بيوم أو ليلة، فأخبر الناس بذلك، ثمّ ورد الكتاب ورسولُ الله قد مات(٢) .

وفيفتوح البلدان احتز قيس بن هبيرة رأس الأسود المتنبئ، ثم علا سور المدينة حين أصبح فقال: (الله أكبر ! الله أكبر !. أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، و أن الأسود العنسي عدو الله )(٣) .

وهذه النصوص التاريخية جوّزت الزيادة في الأذان في عهد الرسول وأوائل رحلتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بدعوى أنّها حالة نبعت من واقع المسلمين و إحساسهم بنشوة النصر على الكافرين، وأنّ الأذان عندهم هو الإعلام، فيمكن الإعلام عن عودة المُلك إلى المسلمين ودحر الكافرين والمتنبئين.

وبعد زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله رووا بأنّ التثويب الثاني - أي قول المؤذن بعد الانتهاء من الأذان: (السلام عليك يا أمير المؤمنين الصلاة الصلاة يرحمك الله) - قد شرّع على عهد أبي بكر(٤) ، وفي آخر: في عهد عمر بن الخطاب(٥) ، وقال ثالث: في عهد

____________________

(١) غرر الخصائص الواضحة: الفصل الثالث من الباب السابع، فيمن ارتقى بادعائه النبوة مرتقى صعباً، معارج القبول ٣: ١٤٦، المنتظم ٤: ٢٠، أحداث سنة إحدى عشر للهجرة.

(٢) تاريخ الطبري ٢: ٢٥٠، البداية والنِّهاية ٦: ٣١٠، تاريخ دمشق ٤٩: ٤٨٨، تاريخ الإسلام ٣: ١٩.

(٣) فتوح البلدان ١: ١١٤.

(٤) انظر تنوير الحوالك ١: ٧١، وفيه: كان المؤذن يقف على بابه فيقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله، الصلاة يا خليفة رسول الله.

(٥) انظر شرح الزرقاني ١: ٢١٦، وفيه: كان المؤذن يقف على بابه و يقول: السلام عليك يا

٢٣

 عثمان(١) ، ورابع: في عهد معاوية(٢) .

ولا نرى خلافاً بيّناً بين هذه النصوص، وذلك لتبنّي اللاّحق ما جاء به السابق من التثويب الثاني، وأنّهم كانوا لا يرون ضيراً في مثل هذه الزيادات في الأذان، فيمكن أن يقال: إنّ معاوية، أو عثمان، أو عمر قال به.

أنا لا أُريد أن أُثبت هذا التشريع لهذا أو أنفيه عن ذاك، المهمّ عندي أنّهم جوّزوا هذا التثويب في العصور السابقة، فلا يحقّ لأمثال هؤلاء الاعتراض على الآخرين بقولهم بالشهادة الثالثة في الأذان.

و يضاف إلى ذلك ما ذكره التفتازاني والقوشجي وغيرهما من أنّ عمر بن الخطاب منع من متعة النساء، ومتعة الحج، ورَفَع حي على خير العمل من الأذان(٣) .

وفيموطأ مالك : إنّ المؤذّن، جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائماً، فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح(٤) .

ولا ينكر أحد من المسلمين بأن عثمان بن عفان هو الذي أضاف الأذان الثالث يوم الجمعة(٥) .

نعم، إنّهم قالوا بشرعية الأذان الثالث يوم الجمعة وما يماثله من جهة المصالح

____________________

أمير المؤمنين، ثم إن عمر أمر المؤذن فزاد فيها (رحمك الله). و يقال: إن عثمان هو الذي زادها.

(١) انظر شرح الزرقاني ١: ٢١٦، وفيه: و يقال إن عثمان هو الذي زادها.

(٢) انظر مواهب الجليل ١: ٤٣١، الذخيرة ٢: ٤٧.

(٣) شرح المقاصد في علم الكلام ٢: ٢٩٤، وشرح التجريد / باب بحث الإمامة.

(٤) موطأ مالك ١: ٧٢.

(٥) صحيح البخاري ١: ٣٠٩ / ح ٨٧٠ / باب الأذان يوم الجمعة.

٢٤

المرسلة، مع اعتقادهم بعدم شرعيته على عهد رسول الله، ونحن يمكننا إلزاماً لهم إثبات الشهادة الثالثة وغيرها طبق المصالح المرسلة وما يماثلها عندهم.

هذا هو خلاصة ما يمكننا قوله مع القائلين بعدم توقيفية الأذان عند العامة و إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم.

كما يمكننا أن نثبت لهم شرعية الشهادة بالولاية من جهة شرعية (حيّ على خير العمل) على عهد رسول الله، وأنّ الصحابة كانوا قد أذّنوا بها، وأنّ عمر حذفها لأسباب معروفة عند مدرسة أهل البيت، وقد أكّد الإمام الكاظم على هذه الحقيقة، بقوله: إنّ (حيّ على خير العمل) دعوة للولاية، و إنّ عمر كان لا يريد دعاءً إليها ولا حثّاً عليها(١) .

وهذا نص له قيمته التاريخية والشرعية، لأنّه صدر في القرن الثاني الهجري وعلى لسان أحد أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وقريب منه موجود في كتب الزيدية والإسماعيلية مما يؤكد إجماع مدرسة أهل البيت على هذا المعنى عندهم.

ومن المعلوم بأنّ جملة: (حيّ على خير العمل) ليس لها ظهور في الإمامة والولاية، و إن فهمها بعض خُلّص الصحابة من خلال الآيِ الكريمِ والأحاديثِ المتواترةِ عن رسول الله.

وكلامُ الإمام (أنّ حيّ على خير العمل دعوة للولاية و إنّ عمر كان لا يريد دعاءً إليها ولا حثاً عليها) يشير إلى أن بعض الصحابة كانوا يفتحونها بجمل دالة على الإمامة والولاية، توضيحاً وتفسيراً، كقولهم بعد (حيّ على خير العمل) على سبيل المثال لا الحصر : (محمد وعلي خير البشر)، أو (محمد وآل محمد خير البرية)، أو (علي وأولاده المعصومون حجج الله)، وغيرها من الصيغ الدالة على الإمامة والولاية، وأنّ عيون عمر كانوا يخبرونه بفعل هذا النزر من الصحابة.

____________________

(١) انظر علل الشرائع ٢: ٣٦٨، وعنه في وسائل الشيعة ٥: ٤٢٠ / ح ٦٩٧٧.

٢٥

فعمر بن الخطاب أراد أن لا يكون حثٌ عليها ولا دعاءٌ إليها، فمنعها تحت طائلة أنّ البعض من الصحابة سيتركون الجهاد بدعوى أنّهم يؤدّون خير العمل وهو الصلاة، فلا صلاة مع احتياج الأمّة إلى الجهاد، إلى غير ذلك من الكلام الذي مرّ بعضه في الباب الأول من الدراسة:(حي على خير العمل: الشرعية والشعارية ) (١) ، وسيأتي البعض الآخر منه في الفصل الأوّل من هذا الباب.

ومما مرّ تعرف أن البحث مع أُخواننا العامة سهل ليس بالعسير المتعب كما يتصورّه البعض.

نحن نترك البحث مع العامة في هذا المجال، ونقصر الكلام على أدلة الشيعة، ونتناولها بأسلوبنا ومنهجنا الخاص، لتتضح الأدّلة لمن خفيت عليه و يقف عليها من لم يكن قد وقف عليها من قبل.

الشهادة الثالثة بين الأذان والإقامة

هذا، وقد تصور البعض أن مبحث الأذان يختلف عن الإقامة، لكون الأول خارجاً عن حقيقة الصلاة والثاني داخل فيها، فتجوز الزيادة والنقصان في الأوّل ولا تجوز في الثاني، لكون الأذان إعلاماً فقط، أما الإقامة فهي من الصلاة.

وقد بارك لي أحد الإخوة مشروعي هذا عن الشهادة الثالثة مؤكّداً الاكتفاء بمبحث الأذان دون الإقامة، لاعتقاده بأنّ الإقامة من الصلاة، للروايات الواردة في ذلك، فأجبته بأنّ الأمر لم يكن كما تتصوَّره، إذ الفقهاء قد اختلفوا في ذلك، فالنزرُ القليل اعتبروها من الصلاة، والجُلُّ الأعظم جعلوها خارجة عنها.

ولكن مما لا يخفى على الباحث البصير أنّ الأذان والإقامة خارجان عن حقيقة

____________________

(١) كتابنا:(الأذان بين الأصالة والتحريف) يقع في ثلاثة أبواب، صدر الباب الأول منه تحت عنوان:(حيّ على خير العمل: الشرعية والشعارية) . أما الباب الثاني، فهو:(الصلاة خير من النوم: شرعة أم بدعة) وهو قيد التدوين. أما الباب الثالث، فهو ما بأيدينا.

٢٦

الصلاة جزءً وشرطاً، إذ النداء للشيء غير نفس الشيء، بل في بعض فصولهما كالحيعلات الثلاث ما يدل على عدم ارتباطهما بالصلاة أصلاً، لكونهما ليسا أذكاراً، والصلاة إنّما هي الذِّكر.

والفرق بينهما أنّ الأذان هو نداء ودعوة للغائبين، والإقامة هي تنبيه للحاضرين المجتمعين في المسجد، وذلك لإمكان اشتغالهم بالكلام والأُمور الحياتية الأخرى، فربّما لا يلتفتون إلى قيام الصلاة إلاّ بعد قول الإمام (قد قامت الصلاة).

و يؤيد ما قلناه ورودهما معاً في بعض الأخبار، فقد يسمّى الأذان إقامة، والإقامة أذاناً في الأخبار الواردة عن الأئمّة المعصومين، بل إنّ إطلاق النداء على الإقامة يؤكّد معنى الإعلامية فيهما معاً.

إنّ كونهما نداءً، دليل على خروجهما عن حقيقة الصلاة وعدم تقوّمها بهما، فلا يمكن لأحد أن يفتي ببطلان الصلاة لو وقعت بدونهما أو بدون أحدهما.

نعم، لا ننكر وجود فروق بينهما، لكنها لا تكون بحدٍّ توجب القول بأن الإقامة جزء من الصلاة، فإنّ القول بعدم جواز الالتفات في الإقامة وجوازه في الأذان، أو لزوم الطهارة والوضوء في الإقامة بخلاف الأذان، أو جواز الفَصْل بين الأذان والإقامة وعدم جواز الفصل بين الإقامة والصلاة، أو لزوم التوجّه إلى القبلة في الإقامة دون الأذان، إلى غيرها من الأمور الكثيرة الملحوظة في الإقامة دون الأذان، لا توجب حكماً شرعياً وتَقَوُّماً ذاتيّاً آخر بحيث تعدّ الإقامة من الصلاة دون الأذان.

إذ روى الشيخ عن محمد الحلبي، قال: سألتُ أبا عبد الله عن الرجل يتكلم في أذانه أو في إقامته؟ قال: لا باس(١) .

____________________

(١) الاستبصار ١: ٣٠١ / ح ١١١٣، تهذيب الأحكام ٢: ٥٤/ح ١٨٦، وسائل الشيعة ٥: ٣٩٥/ ح ٦٩٠٠.

٢٧

وعن الحسن بن شهاب، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لا بأس أن يتكلّم الرجل وهو يقيم الصلاة، وبعدما يقيم إن شاء(١) .

وعن حماد بن عثمان، قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يتكلم بعدما يقيم الصلاة، قال: نعم(٢) .

وعن عبيد بن زرارة قال: سألتُ أبا عبد الله، قلت: أيتكلم الرجل بعدما تقام الصلاة؟ قال: لا بأس(٣) .

وفي ما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة، عن أبيه، قال: سألتُ أبا جعفر عن رجل نسي الأذان والإقامة حتّى دخل في الصلاة، قال: فليمض في صلاته، فإنّما الأذان سنّة(٤) .

فلو كانت الإقامة من الصلاة فلا وجه لتعليل المضيّ في الصلاة مع نسيانه الإقامة.

هذه الروايات وغيرها تحدّ من رواية عمرو بن أبي نصر(٥) وأبي هارون المكفوف(٦) ، ومحمد بن مسلم(٧) ، الناهية عن التكلّم حين الإقامة.

ومقتضى الجمع بين الطائفتين هو حمل الروايات الناهية على الكراهة، مضافاً إلى أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي الحكم بالكراهة، لأنّ المقيم ليس بداخل في الصلاة واقعاً حتى ينبغي له ترك الكلام.

____________________

(١) الاستبصار ١: ٣٠١ / ح ١١١٥، تهذيب الأحكام ٢: ٥٥ / ح ١٨٨.

(٢) الاستبصار ١: ٣٠١ / ح ١١١٤.

(٣) الحدائق الناضرة ٧: ٤٢٧، عن ابن إدريس في مستطرفات السرائر: ٦٠١.

(٤) الاستبصار ١: ٣٠٤ / ح ١١٣٠، تهذيب الأحكام ٢: ٢٨٥ / ح ١١٤٠.

(٥) الكافي ٣: ٣٠٤ / ح ١٠، من باب بدء الأذان.. الاستبصار ١: ٣٠١ / ح ١١١٠.

(٧) الكافي ٣: ٣٠٦ / ح ٢٠، وعنه في الاستبصار ١: ٣٠١ / ح ١١١١.

(٦) الاستبصار ١: ٣٠١ / ح ١١١٢، تهذيب الأحكام ٢: ٥٥ / ح ١٩١.

٢٨

وقد تكون حرمة الكلام(١) مختصة على أهل المسجد رعايةً لمصالح الجماعة، لرواية ابن أبي عمير، قال: سألتُ أبا عبد الله عن الرجل يتكلّم في الإقامة؟ قال: نعم، فإذا قال المؤذن (قد قامت الصلاة)، فقد حرم الكلام على أهل المسجد، إلاّ أن يكونوا قد اجتمعوا من شتى وليس لهم إمام، فلا بأس أن يقول بعضهم لبعض: تقدم يا فلان(٢) .

وقد ورد في روايات أهل البيت بأنّ مفتاح الصلاة التكبير وتحليلها التسليم(٣) ، فلو كانت الإقامة جزءاً أو شرطاً لكان اللاّزم القول أنّ مفتاحها الإقامة.

وقد سُئل الصادق عن الرجل ينسى تكبيرة الافتتاح، قالعليه‌السلام : يعيد الصلاة(٤) .

وعن علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن عن الرجل ينسى أن يفتتح الصلاة حتى يركع، قال: يعيد الصلاة(٥) ، إلى غيرها من الروايات الكثيرة في هذا الباب.

وبعد هذا، فلا يمكن لأحد أَن يحتاط في عدّ الإقامة جزءاً؛ بمجرّد ملاحظة الفوارق الموجودة بينها وبين الأذان، إذ إنّا نجد غالب هذه الفوارق مجتمعة في التكبيرات السبع المستحبّة قبل تكبيرة الإحرام، وفي دعاء التوجّه إلى الصلاة، وعند القيام إليها، لكنّا لا نرى أحداً من الفقهاء يقول بجزئيّتها في الصلاة مع اشتراطهم فيها الطهارة، والاستقبال، وعدم جواز الالتفات، وعدم الفصل بينها وبين الصلاة، إلى غيرها من الأمور السابقة.

ونحن فصّلنا بعض الشيء عن هذا، لأنّا رأينا البعض يريد التشكيك في

____________________

(١) ومعناها الكراهة هنا.

(٢) الاستبصار ١: ٣٠٢ / ح ١١١٦.

(٣) اُنظر تهذيب الأحكام ٣: ٢٧٠ / ح ٧٥٥، تفسير الإمام العسكري: ٥٢١ وفيه: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم... وعنه في وسائل الشيعة ١: ٣٩٨ / ح ١٠٣٩.

(٤) الكافي ٣: ٣٤٧ / ح ١، وسائل الشيعة ٦: ١٢ / ح ٧٢١٨، منتهى المطلب ١: ٢٦٧.

(٥) الاستبصار ١: ٣٥٢ / ح ١٣٢٩، وسائل الشيعة ٦: ١٣ / ح ٧٢٢٢.

٢٩

شرعيّة الشهادة الثالثة من خلال الإقامة والتي تختلف بزعمه عن الأذان.

والكلّ يعلم بأنّهما حقيقتان خارجتان عن الصلاة جزءاً وشرطاً؛ سمّيت إحداهما أذاناً والأُخرى إقامة.

فالأذان على نحوين(١) :

١ - الأذان الإعلامي: وهو ما شرّع لإعلام البعيد، وهو المعروف اليوم والذي يطلق عليه لفظ (الأذان).

٢ - الأذان الصلاتي أو الفرضي: وهو ما شرّع لإعلام القريب الجالس في المسجد بإيذان وقت الصلاة، وهو ما يسمّى اليوم بالإقامة.

وكلاهما حقيقة واحدة، وليسا بواجبين لا استقلالياً ولا شرطياً للجماعة، أو لأصل كل صلاة(٢) ، إذ إنّ القول بالوجوب مساوقٌ للقول بوجوب الجماعة، وهو ما لا يقوله أحد من أصحابنا.

قال السيّد بحر العلوم في منظومته:

وما له الأذان في الأصل رُسِمْ

شيئان إعلامٌ وفرضٌ قد عُلِمْ

ولنا تعليق على كلامهرحمه‌الله ليس هنا محلّه، مؤكّدين بأنّا لا نريد تسليط الضوء على الأذانالصلاتي (أي الإقامة) بقدر ما نريد توضيح الأذانالإعلامي ، وكيف أمكن لهذا الإعلام أن يحظى بدور يمكّنه أن يصير شعاراً لمذهب يعتنقه مئات الملايين، و يكون صَرْحاً عقائديّاً لأمّة مجاهدة.

فالكلام عن الأذان الإعلامي أسهل من الكلام عن الأذان الصلاتي عند من يعتقد بأنّ الإقامة من الصلاة، لكنّه خطأ، فهما سيّان بنظرنا ولا تمايز أساسيّاً

____________________

(١) انظر تقريرات السيّد البروجردي بقلم المرحوم الشيخ فاضل اللنكراني.

(٢) وأمّا وجوب أذان واحد كفاية لجميع البلد، فهو خارج عن محل بحثنا.

٣٠

بينهما، و إن كان بحثنا يدور في الأعمّ الأغلب عن الأذان الإعلامي.

هذا و إني جعلت دراستي هذه في ثلاثة فصول:

الفصل الأول: وفيه نبيّن النصوص والمباني الدالّة على شرعيّة الشهادة الثالثة، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: النص الكنائي الدالّ على الولاية لعلي، وهي جملة (حيّ على خير العمل) مع بياننا لأقوال الأئمة وسيرة المتشرّعة من عهد الرسول إلى عصر الشيخ الصدوقرحمه‌الله المتوفَّى ٣٨١ هـ في ذلك.

القسم الثاني: وفيه نبين إقرار المعصوم - وهو الإمام الحجة الغائب في عصرنا - لما تفعله الشيعة على مر الأزمان بالشهادة الثالثة؛ لأنّهعليه‌السلام لو كان منكراً لهذا العمل لكان عليه - بمقتضى وظيفته المقدسة - تصحيحه، ولما لم نقف على إنكاره علمنا أن فعل ذلك جائز، منوهين بأن ذلك متوقف على تمامية إجماع الطائفة على الجواز.

القسم الثالث: وفيه نذكر النصوص الصريحة والمجملة الموجودة في كتب أصحابنا، الدالة على الشهادة الثالثة، بدءً بكلام الشيخ الصدوق المتوفَّى ٣٨١ هـ، ومروراً بكلام السيّد المرتضى والشيخ الطوسي وابن البراج وختماً بكلام يحيى بن سعيد الحلي والعلاّمة الحلي المتوفَّى ٧٢٦ هـ، مع بياننا لسيرة المتشرّعة في هذه العصور.

الفصل الثاني: نقل أهمّ أقوال فقهائنا المتأخّرين ومتأخري المتأخرين وانتهاءً بالمعاصرين مع وقوفنا عند كلامهم تعليقاً وتوضيحاً إن اقتضى الأمرُ.

الفصل الثالث: بيان القرائن التعضيدية التي يمكن أن تصير أدلة فيما بعد، كبعض العمومات، مثل أن (ذكر علي عبادة)، وهو ليس من الكلام الباطل المخلّ بالأذان؛ وذلك لوجوده في أُمور عبادية أُخرى، كوروده بعد تكبيرة الإحرام، وعند افتتاح الصلاة، وفي خطبة الجمعة، وقنوت العيدين، وقنوت الوتر، وفي

٣١

التشهد والتسليم، وما جاء في استحباب تطابق الأذان وحكاية السامع له، وغيرها كما في تلقين الميت...

باحثين كل هذه الأمور ضمن الكلام عن الشعارية، والتي هي مستند فقهاءنا المعاصرين.

مقدمين لذلك بعض البحوث التمهيدية عن نشأة الغلوّ، ومنهج القميّين والبغداديّين في العقائد والرجال، وتعريف البدعة لغة وشرعاً، وبيان موقع الشهادة بالولاية منها.

منبهين القارئ الكريم على أن الكتاب مترابط ترابطاً وثيقاً فلا يمكن النظر إلى الأدلة نظرة أحادية مجتزأة، فلا يحق للقارئ النظر إلى دليل دون دليل آخر، بل عليه النظر إلى مجموع الأدلة بما هي مجموع حتى لا يأخذ فكرة خاطئة عن نظام الاستدلال عندنا.

وختاماً نسأل الله جلّ شأنه أن يتقبّل هذا القليل، و يجعله في حسناتي، مكفّراً به عن سيّئاتي، آملاً ممّن قرأ كتابي هذا ووقف فيه على ما لا يرضيه من قولي أن يُوقفني على رأيه، فإنّي طالب علم، باحث عن الحقيقة. وأمّا الذي يستحسن ما كتبته، فأرجوه أن يُحسنَ لي بالدُّعاء بطلب المغفرة وحسن العاقبة.

وآخر دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

المؤلف

الأربعاء ١٥ / شعبان / ١٤٢٨ هـ

E-mail:info@shahrestani.org

http://www.shahrestani.org

٣٢

بحوث تمهيدية

 الشهادة الثالثة بين التفويض والتقصير.

 منهج القُمِّيين والبغداديين في العقائد والرجال.

 الشهادة الثالثة شرع أم بدعة؟

 الأقوال في المسألة.

٣٣

٣٤

قبل الخوض في تفاصيل هذه الدراسة لا بدّ من الوقوف عند كلام الشيخ الصدوقرحمه‌الله لأنّه كلام صدر في القرن الرابع الهجري وعلى لسان شيخ المحدثين، إذ قالرحمه‌الله في(مَن لا يحضره الفقيه) بعد أن ذكر حديث أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي - والذي ليس فيه الشهادة الثالثة -:

هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد فيه ولا ينقص منه، والمفوّضة لعنهم الله قد وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان (محمد وآل محمد خير البرية) مرّتين، وفي بعض رواياتهم بعد أشهد أن محمداً رسول الله: (أشهد أنّ عليّاً وليُّ الله) مرّتين، ومنهم من روى بدل ذلك: (أشهد أن عليّاً أمير المؤمنين حقّاً) مرّتين. ولا شك أنّ عليّاً وليّ الله، وأنّه أمير المؤمنين حقاً، وأنّ محمّداً وآله خير البرية، ولكنّ ذلك ليس في أصل الأذان، و إنّما ذكرتُ ذلك ليُعرف بهذه الزيادة المتّهمون بالتفويض المدلِّسون أنفسهم في جملتنا(١) .

وهذا النص يحمل في طياته ثلاث دعاوى أساسية يجب الوقوف عندها وتوضيحها:

الأُولى: أنّ الشهادة الثالثة هي من فعل المفوّضة الملعونة، لقوله: (والمفوّضة لعنهم الله).

الثانية: أنّ المفوّضة (قد وضعوا أخباراً) في الشهادة الثالثة. ومن المعلوم أنّ

____________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١: ٢٨٩ ح ٨٩٧، وسائل الشيعة ٥: ٤٢٢.

 

٣٥

الرواية الموضوعة غير الرواية الضعيفة.

الثالثة: قوله: (وزادوا)، يَدُلُّ على أنّهم أتوا بتلك النصوص على نحو الجزئية، والشيخ لا يرتضيها لقوله: (ولكن ذلك ليس في أصل الأذان).

إذن، علينا توضيح مغزى كلام الصدوق ببعض البحوث التمهيدية لكي نرى هل أنّ كلامهرحمه‌الله صدر عن حِسٍّ حتى يلزمنا الأخذ به، أم كان عن حدس يجوز تركه، بل إلى أيّ مدى يمكن الاعتماد على قناعاته واجتهاداتهرحمه‌الله ، وخصوصاً أنّه كان يعيش في ظروف صعبة.

إنّ الواقف على مجريات الأحداث بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم ما جرى على آل بيت الرسالة من مظالم من قِبَلِ الحكّام، وأنَّ الرواة، وحتّى الصحابة والتابعين والفقهاء، كانوا يتّقون السلطة في نشر رواياتهم وبيان آرائهم، فلا يمكن معرفة أبعاد صدور أيّ نص منهم، خصوصاً في العصر الأموي والعصر العباسي الأوّل أو الثاني، إلاّ بعد معرفة الظروف المحيطة به.

ونحن نظراً لحساسية كلام الشيخرحمه‌الله بدأنا الدراسة بثلاثة مواضيع أساسية كتمهيد لهذه الدراسة:

الأُولى: ارتباط الغلوّ والتفويض بالشهادة الثالثة، وهل حقاً أنّ ما يُؤتى به في الشهادة الثالثة فيه فكر تفويض أم لا؟ بل كيف نشأت فكرة الغلو والتفويض؟ وهل هما مختصان بالشيعة أم أنّهما ظاهرتان أصابتا البشريّة جمعاء، وجميع الأديان والمذاهب؟ وما هو موقف أهل البيت منها؟ وهل حقاً أنّ البغداديين غلاةٌ، والقميّين مقصّرةٌ؟

الثانية: بحث ثلاث نقاط أساسية كنموذج في منهج القميّين والبغداديين في العقائد والرجال، مؤكّدين بأنّ بعض هذه النقاط أدّت إلى صدور مثل هذا الكلام عن الشيخ الصدوقرحمه‌الله .

الثالثة: مناقشة دعوى الزيادة من قبل القائلين بها، وهل حقاً أنّ هذه الزيادة من وضع المفوّضة، وجاء على نحو الجزئية، أم أنّها زيادة موجودة في الروايات

٣٦

وتقال على نحو التفسيرية وبقصد القربة المطلقة وأمثالها؟

والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن دعوى صدورها عن المفوِّضة وأنّهم وضعوا أخباراً على نحو الجزئية فيها دعوى مجملة؛ إذ لا يستطيع أحد بالنظر البدوي الجزم بمقصود الشيخ الصدوق النهائي إلاّ بعد بحث وتمحيص، وهذا ما يدعو الباحث الموضوعي إلى الوقوف عندها ودراستها بروح علمية نزيهة، بعيداً عن التقديس، لكي يرى مدى تطابقها مع الواقع أو بعدها عنه، وهذا ما نريد توضيحه ضمن النقاط الثلاث اللاحقة، مع الإشارة إلى غيرها من البحوث الدخيلة في فهم المسألة.

مؤكّدين على أنّ المنهج المتَّبع عند فقهاء ومتكلِّمي مدرسة أهل البيت هو مناقشة الأقوال، فلا يصان أحد عندهم إلاّ المعصوم، وليس لهم كتاب صحيح بالكامل إلاّ كتاب الله المنزل على رسوله، فهم يناقشون أقوال علمائهم واجتهاداتهم وإن كان قد وُلِدَ بعضُهُم كشيخنا الصدوقرحمه‌الله بدعاء الإمام الحجةعليه‌السلام ، واعتقادهم الكامل فيه بأنّه الإمام الثقة، والصدوق في القول والعمل، والحامل إليهم علوم آل محمد، لكنّ هذا كلَّهُ لا يمنعهم من الدخول معه في نقاش علميّ منطقيّ رزين، لأنّهرحمه‌الله لا يدّعي العصمة لنفسه، كما أنّا لا نقول بعصمته، وبذلك يكون كلامهرحمه‌الله عرضةً للخطأ والصواب، وهو كغيره من الفقهاء قد يعدل عمّا كان يقول به و يفتي بشيء آخر غير ما كان يذهب إليه.

وعليه فالشيخرحمه‌الله لم يتّهم قائل الشهادة الثالثة بالتفويض بل قال: بأنّ المفوّضة وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان، وبين الأمرين فرق واضح.

وهذا الكلام من الشيخ الصدوق لا ينفي وجود نصوص صريحة عنده صدرت عن الإمام الباقر والصادق والكاظمعليهم‌السلام دالّة على وجود معنى الولاية والإمامة في الأذان(١) لا على نحو الزيادة والجزئية، بل على نحو التفسيرية كما جاء في تفسير

____________________

(١) وهذا ما سنوضحه لاحقاً ضمن كلامنا عن الدليل الكنائي في الشهادة الثالثة: ١٨٣.

٣٧

معنى (حيّ على خير العمل) عن المعصومين، إذ أراد الإمام الكاظمعليه‌السلام حثّاً عليها ودعوة إليها في الأذان، غيرَ محدِّدعليه‌السلام لصيغها، فقد تكون: (أشهد أنّ علياً ولي الله) وقد تكون: (محمد وعلي خير البشر) وقد تكون: (محمد وآل محمد خير البرية)، وقد تكون شيئاً آخر يرد عنهمعليهم‌السلام أو يأذنون به، لكنّها كلّها تتضمن معنى الولاية.

وعلى هذا، كيف يُتَصَوَّرُ اتّهام شيخنا الصدوقرحمه‌الله القائلين بما يدلّ على الولاية في الأذان بالتفويض، مع علمه بوجود فصل (حيّ على خير العمل) الدالّ على الولاية لعليّ ولزوم البرّ بفاطمة وولدها في الأذان؟!

وعليه، فمع وجود نصٍّ صريح واضح من قبل الأئمّة بأنّ (حيّ على خير العمل) هي الولاية، ووقوفِ الصدوق على ذلك النص وهو المحدّث المتتبّع يفهمنا بأنهرحمه‌الله يعني بكلامه القاصدين للجزئية على نحو الخصوص لقولهرحمه‌الله : (لكن ذلك ليس في أصل الأذان).

فهل يعقل أن لا يسمح الشيخ للقائلين بها أن يفتحوها بعبارات دالّة عليها مع التأكيد على أنّها ليست جزءاً دفعاً لاتّهام المتَّهِمِين وافتراءات المُفتَرِين، أو رفعاً لمنزلة الإمام عليّ عند شيعته وعند غيرهم المحظور آنذاك؟!

إِنّ الجواب عن ذلك لا يمكن أن يُتَصَوَّرَ في هذا المجال إلاّ من خلال أحد دوافع ثلاثة دفعت الشيخ لهذا القول.

وهي إمّا ظروف التقية التي كان يعيشها الشيخ، فإنهرحمه‌الله قد يكون قالها حقناً لدماء البقية الباقية من الشيعة. خصوصاً وأن الشيخ كتب (من لا يحضره الفقيه) بقصبة بلخ من أرض إيلاق الواقعة حالياً في شمالي أفغانستان.

أو أنّه قالها تبعاً لمشايخه القميين.

أو أنّه قالها بعد أن وجد المفوِّضة الطائفة المنحرفة عن الأمة هم أكثر الناس تبنّياً علنِيّاً لهذا الشعار، وأنَّ قولهم لها كان على نحو الشطرية والجزئية؛ لقولهرحمه‌الله (ولكن ذلك ليس في أصل الأذان)، وهذا ممّا لا يسمح به الشرع.

و إليك الآن توضيح النقاط الثلاثة الآنفة:

٣٨

١ - علاقة الغلوّ والتفويض بالشهادة الثالثة

تمهيد:

الغلو فياللّغة: هو تجاوز الحدّ والخروج عن القصد(١) ، ومنه: غلا السعر يغلو غلاءً، وغلا الرَّجُلُ غُلُوّاً، وغلا بالجارية لحمُها وعظمُها: إذا أسرعت الشباب وتجاوزت لِداتها.

وفيالمصطلح: هو الإفراط غير المرضيّ بالعقيدة، وهو كأنْ يقول شَخْصٌ بإلوهية النبي(٢) ، أو الإمام(٣) ، أو مشاركته في العبودية أو الخلق والرزق، وأنّ الله تعالى قد حلّ فيهم أو اتّحد بهم، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحي أو إلهام أو فضل من الله، أو القول في الأئمّة أنّهم كانوا أنبياء، أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأنّ معرفتهم تغني عن جميع الطاعات والعبادات، ولا تكليف معها بترك المعاصي.

والاعتقاد بكلّ منها إلحادٌ وكفرٌ وخروج عن الدين، كما دلّت عليه الأدلة العقلية، والآيات، والأخبار.

والتفويض: هو أن يكون العبد مستقلاًّ في الفعل بحيث لا يقدر الربّ على صرفه، وأنّ الله بعد أن خلق الأئمّة فوّض إليهم خلق العباد ورزقهم، وهذا هو

____________________

(١) مفردات الراغب: ٣٧٧، لسان العرب ٦: ٣٢٩.

(٢) قال ابن تيمية في الجواب الصحيح ٣: ٣٨٤، ظن طائفة من غلاة المنتسبين إلى الإسلام وغيرهم أنّ الأشياء خلقت منه [أي من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ] حتى قد يقولون في محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من جنس قول النصارى في المسيح.

(٣) قال المفيد في تصحيح الاعتقاد: ٢٣٨ الغلاة من المتظاهرين بالإسلام، نسبوا إلى أمير المؤمنين والأئمة من ذريته الألوهية والنبوة، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا ما تجاوزوا فيه الحدّ وخرجوا عن القصد.

٣٩

الآخر كفر والحاد تَبَرَّأ الأئمّة منه.

قال الشيخ المفيد فيتصحيح الاعتقاد: والمفوِّضة صنف من الغلاة، وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة: اعترافهم بحدوث الأئمّة وخلقهم، ونفي القدم عنهم، و إضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم، ودعواهم أنّ الله سبحانه وتعالى تفرّد بخلقهم خاصّة، وأنَّهُ فَوَّضَ إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال(١) .

وقال العلاّمة المجلسي: وأمّا التفويض فيطلق على معان، بعضها منفيُّ عنهمعليهم‌السلام ، وبعضها مثبت لهم، فالأول التفويض في الخلق والرزق والتربية والإماتة والإحياء، فإنّ قوماً قالوا: إنّ الله تعالى خلقهم وفَوَّضَ إليهم أمر الخلق، فهم يخلقون و يرزقون ويميتون ويحيون، وهذا الكلام يحتمل وجهين:

أحدهما أن يقال: إنّهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وإرادتهم وهم الفاعلون حقيقةً، وهذا كُفرٌ صريح دلّت على استحالته الأدلة العقلية والنقلية، ولا يستريب عاقل في كفر من قال به.

وثانيهما: إنّ الله تعالى يفعل ذلك مقارِناً لإرادتهم، كشقِّ القمر، و إحياء الموتى، وقلب العصا حية، وغير ذلك من المعجزات، فإنّ جميع ذلك إنّما تحصل بقدرته تعالى مقارناً لإرادتهم لظهور صدقهم، فلا يأبى العقل عن أن يكون الله تعالى خلقهم وأكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم، ثمّ خلق كلّ شيء مقارناً لإرادتهم ومشيتهم.

وهذا و إن كان العقل لا يعارضه كِفاحاً، لكنّ الأخبار السالفة(٢) تمنع من القول به فيما عدا المعجزات ظاهراً، بل صُراحاً، مع أنّ القول به قولٌ بما لا يُعْلَمُ، إذ لم

____________________

(١) تصحيح اعتقادات الإمامية: ١٣٤، وعنه في خاتمة المستدرك ٥: ٢٣٤، وبحار الأنوار ٢٥: ٣٤٥.

(١) وهي الأخبار التي ذكرها المجلسي قبل هذا الكلام.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

وكلُ نعيم لا محالة زائلُ

قال عثمان : كذبت ، نعيمُ الجنة لا يزول فاستثقل « لبيد » تكذيب عثمان وتحدّيه له في ذلك الجمع فقال : يا معشر قريش واللّه ما كان يؤذى جليسُكم ، فمتى حدث هذا فيكم؟؟

فقال رجلٌ مِن القوم : إنَّ هذا سفيه في سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا فلا تجدنَ في نفسكَ من قوله.

فردّ عليه « عثمان » حتّى تفاقم الأمر بينهما فقام إليه ذلك الرجلُ فلطم عينه فخضّرها ( واصابها ) ، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال : أما واللّه يا ابن أخي إن كانت عينُك عَمّا أصابها لغنيّة لقد كنت في ذمة منيعة ( وهو يريد أنك لو بقيت في ذمتي وجواري لما اصابك ما أصابك ).

فقال عثمان رادّاً عليه : بل واللّه إن عيني الصحيحة لفقيرةٌ إلى مِثل ما أصابَ اُختَها في اللّه ، واني لفي جوار من هو أعزُّ منكَ ، واقدرُ يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد : هلمّ يا ابنَ أخي إن شئت فعُد إلى جوارك ، فقال ابنُ مظعون : لا(١) .

وكانت هذه صورةٌ رائعةٌ من صور كثيرة لصمود المسلمين ، وتفانيهمْ في سبيل العقيدة ، وإصرارهم على النهج الّذي اختاروه ، ومواساة بعضهم لبعض في أشدّ فترة من فترات التاريخ الإسلامي.

وفدٌ مسيحيُّ لتقصّي الحقائق يدخل مكة :

قدمَ على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمكة عشرون رجلا من النصارى حين بلغهم خبرُه من الحبشة ، مبعوثين من قِبَل أساقفتها لتقصّي الحقائق بمكة ، والتعرف على الإسلام. فوجدوا رسول اللّه في المسجد ، فجلسوا إليه ، وكلّموه وسألوه عن مسائل ، ورجالٌ من قريش فيهم « أبو جهل » في أنديتهم حول الكعبة.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٧٠ و ٣٧١.

٤٦١

فلما فرغوا من مسألة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عما أرادوا دعاهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اللّه عز وجلّ وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم ، فكان لها من التأثير البالغ في نفوسهم بحيث عندما سمعوها فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وامنوا به وصدّقوه ، بعد ما عرفوا منه ما كان يوصَف في كتابهم ( الانجيل ) من أمره.

فلما قامُوا عنه ، ورأت قريش ما نتج عنه ذلك اللقاء استثقله « ابو جهل » فقال للنصارى الذين اسلموا معترضاً وموبّخاً : خيَّبكُمُ اللّه مِن ركب بعَثكُم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسُكم عنده حتّى فارقتُم دينكُم وصدَّقتموهُ بما قال ، ما نعلمُ ركباً أحمقَ مِنكُم.

فأجابه اولئك بقولهم : سلامٌ عليكم لا نُجاهِلكم ، لنا ما نحنُ عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيراً(١) .

وبذلك الكلام الرفيق الجميل ردّوا على فرعون مكة الّذي كان يبغي ـ كسحابة داكنة ـ حجب أشعة الشمس المشرقة ، وحالوا دون وقوع صدام.

قريش توفد إلى يهود يثرب للتحقيق :

لقد ايقظ وفدُ نصارى الحبشة إلى مكة وما نجم عن لقائهم برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشاً ودفعهم إلى تكوين وَفد يتألف من « النضر بن الحارث » و « عُقبة بن ابي معيط » وغيرهما وإرسالهم إلى أحبار يهود المدينة ليسألونهم عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه.

فقال أحبارُ اليهود لمبعوثي قريش : سَلوا محمَّداً عن ثلاث نأمركم بهنَّ ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسَل ، وان لم يفعل فالرجلُ متقوّلٌ ، فروا فيه رأيكم ، سلوه :

١ ـ عن فتية ذَهبوا في الدهر الأول ( يعنون بهم أصحاب الكهف ) ما كان

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٩٠ و ٣٩٣ وقد نزلت في هذا الشأن الآيات ٥٢ إلى ٥٥ من سورة القصص.

٤٦٢

من امرهم ، فانه قد كان لهم حديثٌ عجيبٌ.

٢ ـ وعن رجل طوّاف ( يعنون به ذا القرنين ) قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وخبرُه؟

٢ ـ وعن الروح ما هي؟

فاذا أخبركم بذلك فاتبعوهُ ، فانه نَبيّ ، وان لم يفعل ، فهو رَجُلٌ متقوِّلٌ فاصنَعوا في أمره ما بدا لكم.

فعادَ وفد قريش إلى « مكة » ولما قدموها قالوا لقريش ما سمعوه من أحبار اليهود.

فجاؤوا إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرحوا عليه الاسئلة الثلاثة السالفة. فقال رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انتظر في ذلك وحياً.(١)

ثم نزل الوحيُ يحملُ إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأجوبة المطلوبة على تلك الاسئلة.

وقد ورَدَ الجواب عن السؤال عن الروح في الآية ٨٥ من سورة الإسراء.

واُجيبَ على السؤالين الآخرين عن أصحاب « الكهف » وذي القرنين بتفصيل في سورة « الكهف » ضمن الآيات ٩ ـ ٢٨ والآيات ٧٣ ـ ٩٣.

وقدوردت تفصيلاتُ هذه الإجابات الّتي أجابَ بها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أسئلتهم في كتب التفسير.

ولابدَّ هنا من أن نُذكِّر القارئ الكريم بنقطة مفيدة وهي أنّ المراد من « الرّوح » في سؤال القوم ليس هو الرُّوح الإنسانية بل كان المراد هو جبرئيل الأمين ، ( بقرينة أنَّ المقترحين الاصليين لهذه الأسئلة : هم اليهود وكانوا يكرهون الروح الامين ، ويعادونه ) ، وهو أمرٌ مبحوثٌ في محلِّه من كتب التفسير.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٠٠ ـ ٣٠٢.

٤٦٣

٤٦٤

١٨

الأسلحةُ الصَديئة

والاساليب الفاشلة

نظّمْ أسياد قريش صفوفهم لمكافحة عقيدة التوحيد ، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين وأهله.

فقد حاولوا في بداية الأمر أن يُثنُوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المضيّ في مواصلة دعوته ، وذلك بتطميعه بالمال والجاه وماشابه ذلك ، ولكن لم يحصلوا من ذلك على شيء ، فقد خيّب ذلك الرجلُ المجاهدُ ظنونهم فيه ، وبدّد آمالهم في اثنائه عن هدفه بكلمته الخالدة المدوّية : « واللّه لو وَضعوا الشمس في يميني ، والقَمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما فعلتُ » وهو يعني ان تمليكه العالم كلَه لا يثنيه عن هدفه ولا يصرفه عن تحقيق ما نُدِبَ إليه وارسل به.

فعمدوا إلى سلاح آخر هو التهديد والأذى ، والتنكيل به وباصحابه وانصاره ، ولكنهم واجهوا صمودَه وصمود أنصاره واصحابه ، وثباتهم الّذي ادى إلى انتصار المؤمنين في هذا الميدان ، وخيبة المشركين وهزيمتهم.

وقد بَلَغ من ثبات المسلمين على الطريق أنهم أقدموا على مغادرة الوطن ، وترك الأهل والعيال ، والهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم إلى اللّه ، وسعياً وراء نشره وبثه في غير الجزيرة من الآفاق.

ولكن رغم إخفاق أسياد قريش المشركين في جميع هذه الجهات والميادين

٤٦٥

وعجزهم عن استئصال شجرة التوحيد الفتية ، وفشل جميع الأسلحة الّتي استخدموها للقضاء على الدين الجديد وأهله ، لم تنته محاولاتهم الإجهاضيّة بل عمدوا هذه المرّة إلى استخدام سلاح جديد حسبوه أمضى من سوابقه.

وهذا السلاح هو سلاحُ الدعاية ضدّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لانه صحيحٌ أن ايذاء وتعذيب جماعة المؤمنين في « مكة » تمنع غيرهم من سُكان « مكّة » من الإنضواء إلى الإسلام إلاّ ان الحجيج الذين كانوا يسافرون إلى مكة في الأشهر الحرُم وكانوا يلتقون رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جوّ من الأمن والطمأنينة خلال تلك المواسم كانوا يتأثَّرون بدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتزعزعُ اعتقادهم بالأوثان على الأقل ، ان لم يؤمنوا بدينه ، ولم يستجيبوا لدعوته ، ثم إنهم كانوا ينقلون رسالة الإسلام وانباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مواطنهم ، ومناطِقهم وكان ينتشر بذلك اسم رسول اللّه ، وأنباء دينه في شتّى مناطق الجزيرة العربية ، وكان هذا هو بنفسه ضربة قوية توجَّه إلى صرح الوثنية في مكة ، وعاملا قوياً في انتشار عقيدة التوحيد ، وسطوع أمره.

من هنا اتخذ سادةُ قريش اُسلوباً آخر ، قاصدين بذلك الحيلولة دون انتشار الإسلام ، واتساع رقعته ، وقطع علاقة المجتمع العربي به.

واليك فيما يأتي بيان تفاصيل هذا الاسلوب ، وهذه الخطة :

١ ـ الاتّهاماتُ الباطلة :

يمكن التعرف على شخصية أي واحد وتقييمها من خلال ما يرميه به اعداؤه من شتائم وسباب ، وما يكيلون له من اتهامات ونسب ، فَإن العدو يسعى دائماً إلى أن يتهم خصمَه بنوع من أنواع التهم ليُضِلَّ الناس ، ويصرفهم عنه ، وليتمكن بما يحوكُه حوله من أراجيف وأباطيل الحط من شأنه في المجتمع واسقاطه من الانظار والأعين.

ان العدوّ الذكيّ يسعى دائماً إلى أن ينسب إلى منافسه ما يُصدِّقه ولو فئة خاصة من الناس على الاقل ، ويوجبُ شكَّهم في صدقه ، ويتجنب تلك النِسَب

٤٦٦

التي لا تصدَّق في شأنه ، ولا تناسبُ اخلاقه وافعاله المعروفة عنه ، ولا تمسه بشكل من الأشكال ، لأنه سوف لا يَجني في هذه الحالة إلا عكسَ ما يقصد ، وخلاف ما يريد.

ومن هنا يستطيع المؤرخُ المحققُ أن يتعرف على الشخصية الواقعية لمن يدرسه ، وعلى مكانته الإجتماعية ، وأخلاقه وسجاياه ولو من خلال ما ينسبُه الأعداء إليه ، وما يكيلون له من أكاذيب وإفتراءات ، ونسب باطلة واتهامات ، لأنّ العدوّ الّذي لا يخاف أحداً لا يقصّرُ في كيل كلِّ تهمة تنفعُهُ وتخدمُ غرضَه إلى الطرف الآخر ، ويستخدم هذا السلاح ( أي سلاح الدعاية ) ما استطاع ، وما ساعدته معرفُته بالظروف ، ودرايته بالفَرص.

فاذا لم ينسَب إليه أيُّ شيء من تلك النسب الباطلة فان ذلك إنما هو لأجل طهارة جيبه ، ونقاء صفحته ، وتنزُّه شخصيته عن تلك النسب ، ولأنّ المجتمع لم يكن ليعبأ بها ولم يصدّقها في شأنه.

ولو أننا تصفّحنا اوراق التاريخ الإسلامي لرأينا أن قريشاً مع ما كانت تكنُّ من عداء ، وتحِملُ من حِقد على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت تسعى بكل جهدها أن تهدم صرح الإسلام الجديد الظهور ، وأن تحطّ من شأن مؤسسه وبانيه لم تستطع مع ذلك أن تستفيد من هذا السلاح ، وتستخدمه كاملا.

فقد كانت تفكّر في نفسها : ماذا تقول في حق رسول اللّه؟ وماذا ترى تنسب إليه؟؟

هل تتهمه بالخيانة المالية وها هم جماعة منهم قد ائتمنوه على أموالهم؟!(١) كما أن حياته الشريفة طوال الاربعين سنة الماضية جسدت امانته امام الجميع ، فهو الامين بلا منازع؟

هل تتهمه بالجري والانسياق وراء الشهوة واللّذة؟ وكيف تقول في حقه مثل هذا الكلام مع أنه بدأ حياته الشبابية بالتزويج بزوجة كبيرة السنّ إلى درجة

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٦٢.

٤٦٧

مّا ، وبقي معها حتّى لحظة انعقاد هذه الشورى في « دار الندوة » بهدف الدعاية ضدَه ، ولم يُعهَد منه زلّة قدم في هذا السبيل قط؟!

وبالتالي بماذا تتهم محمَّداً الصادق الأمين ، الطاهر العفيف ، وأية تهمة ترى يمكن أن تُصدَّق في حقه ، أو يحتمل الناس صدقها في شأنه ولو بنسبة واحد في المائة؟

لقد تحيَّر سادة « دار الندوة » وأقطابها في كيفية استخدام هذا السلاح ، سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرَّروا في نهاية الأمر أن يطرحوا هذا الأمر على صنديد من صناديد قريش ويطلبوا رأيه فيه ، وهو « الوليد بن المُغيرة » وكان ذا سنّ فيهم ، ومكانة ، فقال لهم :

يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم وان وفود العرب ستقدَم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذّبُ بعضكم بعضاً ، ويردُ قولُكم بعضُه بعضاً.

قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.

قال : بل أنتم قولوا أسمَع.

قالوا : نقول كاهن.

قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكُهّانَ فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.

قالوا : فنقول : مجنون.

قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته.

قالوا : فنقول : ساحر.

فقال : ما هو بساحر لقد رأينا السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.

وهكذا تحيَّروا في ما ينسبون إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأخيراً اتفقوا على أن يقولوا : أنه ساحر جاء بقول هو سِحرٌ يفرق به بين المرء وابيه وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته.

ويدلُّ عليه ما أوجده من الخلاف والإنشقاق والتفرُّق بين أهل مكة الَّذين

٤٦٨

كان يضرب بهم المثل في الوحدة والاتفاق(١) .

وقد ذكر المفسِّرون في تفسير سورة « المدثر » هذه القصة بنحو آخر فقالوا : لمّا اُنزل على رسول اللّه « حم تنزيلُ الْكِتاب ) قام إلى المسجد و « الوليد بن المغيرة » قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبيُصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستماعه لقراءته ، أعاد قراءة الآية ، فتركت الآية في نفس الوليد تأثيراً شديداً فانطلق إلى منزله ، ولم يخرج منه أيّاماً ، فسخرت منه قريشٌ وقالت : صبأ ـ واللّه ـ الوليدُ ثم مشى رجال من قريش إليه وسألوه رأيه في قرآن محمَّد ، واقترح كل واحد منهم أمراً ، ولكنه رد عليها بالنفي جميعاً فقالت قريش إذن ما هو؟ فتفكر « الوليد » في نفسه ثم قال : ما هو إلاّ ساحرٌ أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله ، ووُلده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر(٢) .

ويرى المفسرون أن الآيات التالية في شأنه إذ يقول اللّه تعالى : «ذَرْني وَمَنْ خَلقْتُ وَحيداً. وَجَعلْتُ لَهُ مالا مَمدُوداً. وَبَنينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تمهيداً. ثُمّ يَطْمَعُ أنْ أزيدَ. كَلا انّه كانَ لآياتِنا عَنيداً. سارْهقُهُ صَعُوداً. إنّه فكَّرَ وَقدّر. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ. ثُمَّ نَظرَ. ثُمَّ عَبسَ وَبَسرَ. ثُمَّ أَدْبَر وَاْستَكْبَرَ. فَقالَ إنْ هذا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَر ... ( إلى قوله : )فَما لَهُمْ عِنَ التَذكِرَة مُعْرضيْن. كأَنَّهُمْ حُمُرٌ مستنفِرة فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة »(٣) .

* * *

الإصرار في نسبة الجنون إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يعتبر إتصاف النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتهاره بين الناس بالصدق والامانة وغيرها من مكارم الأخلاق منذ شبابه من مسلَّمات التاريخ.

وهو بالتالي أمرٌ اعترف به حتّى أعداؤه الالدّاء ، فقد دانوا بفضله ، وأقرُّوا

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٧٠.

٢ ـ مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٣٨٦ و ٣٨٧.

٣ ـ المدثر : من ١١ ـ ٥١.

٤٦٩

بأخلاقه الكريمة وسجاياه النبيلة ، دون تلكؤ ، ولا إبطاء.

وقد كانَ من أوصافه الحسنة البارزة ان جميع الناس كانوا يدعونه « الصادق » « الامين » وكانوا يثقون بأمانته ثقة كبرى(١) حتّى أن المشركين كانوا يودعون ما غلى من أموالهم عنده ، واستمر هذا الأمر حتّى عشرة أعوام بعد دعوته العلنيّة.

وحيث أن دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ثقلت على المعاندين فاجتهدوا في أن يصرفوا عنه الناس بما ينسبون إليه من بعض النسب الّتي توجب سوء الظنّ به ، ومن ثم إفشال دعوته ، وحيث أنهم كانوا يعلمون أن النِسَبَ الاُخرى ممّا لا يقيم لها المشركون وزناً ، لأنها امور بسيطة في نظرهم ، من هنا رأوا بأن يتهمونه بالجنون ، والزعم بان ما يقوله ويقرؤه ما هو إلاّ من نسج الخيال ، ومن أثر الجنون الّذي لا يتنافى مع الزهد ، والأمانة ، وذلك تكذيباً لدعوته.

ثم عملت قريش على إشاعة هذه النسبة ، واتخذت وسائل عديدة وما كرة لترويجها وبثّها بين الناس.

ومن شدّة مكرهم ومراءاتهم أنّهم كانوا يتخذون موقف المتسائل المحايد فيطرحون هذه التهمة في قالب الشك ، والترديد إذ يقولون : «أفترى على اللّه كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ »(٢) .

وهذه هي بعينها الحيلةُ الشيطانية الّتي يتوسَّل بها ويتستر وراءها أعداء الحقيقة دائماً عند ما يريدون تكذيب المصلحين العظام ، واسقاط خطواتهم وافكارهم من الاعتبار ، والحطّ من شأنها وأهميتها.

ويشير القرآنُ أيضاً إلى انّ هذا الاسلوب الماكر الذميم لم يكن مختصاً بالمعارضين في عهد الرسالة المحمَّدية ، بل كان المعارضون في الأعصر الغابرة أيضاً يتوسلون بهذا السلاح لتكذيب الرسل ، والانبياء إذ يقول عنهم :

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٦٢ عن عبيداللّه بن ابي رافع : كانت قريش تدعو محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجاهلية الامين وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها ، وكذلك كلُ من كان يقدم مكة من العرب في الموسم ، وجاءته النبوة والرسالة والامر كذلك.

٢ ـ سبأ : ٨.

٤٧٠

«كَذلكَ مَا أتى الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتواصَوْا بِه بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ »(١) .

وتحدّث الاناجيلُ الحاضرة هي الاُخرى عن ان المسيحعليه‌السلام عندما وعظ اليهود قالوا : إنّ فيه شيطاناً ، فهو يهذي فلماذا تسمعون إليه؟!(٢) .

ومن المسلّم والبديهي أنَّ قريشاً لو كان في مقدورها أن تتهم رسولَ اللّه الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير هذا الاتهام وتنسب إليه غير هذه النسبة لما تأخرت عن ذلك ، ولكن حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشرقة خلال الاربعين سنة الماضية ، وسوابقه اللامعة في المجتمع المكيّ وغير المكي كانت تحول دون أن ينسبوا إليه شيئاً من تلك النسب القبيحة ، الذميمة.

لقد كانت « قريش » مستعدة لأن تستخدم أي شيء ـ مهما صغر ـ ضد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فمثلا عند ما وجده أعداء الرسالة يجلس إلى غلام مسيحيّ يدعى « جبر » عند المروة ، انطلقوا يستخدمون هذا الأمر ضدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوراً فقالوا : واللّه ما يُعلِّمُ محمَّداً كثيراً ممّا يأتي به الا « جبر » النصراني.

فردّ عليهم القرآن الكريمُ بقوله : «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّما يُعلِّمُه بَشَرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَميّ وَهذا لِسانٌ عَربيّ مُبِيْنٌ »(٣) .

«وَقَدْ جاءهُم رَسولٌ مُبينٌ ثُمَّ تَولُوا عَنهُ وَقالُوا معلَّمٌ مَجنُونٌ »(٤) .

القرآن يرد على جميع الاتهامات :

وربما نسبوا إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكهانة ، والكاهن هو من يتصل بعناصر من الجن(٥) أو الشياطين ويتلقى منهم اخباراً حول الماضي والمستقبل ،

__________________

١ ـ الذاريات : ٥٢ و ٥٣.

٢ ـ انجيل يوحنا : الفصل ١٠ ، الفقرة : ٢٠ ، والفصل ٧ ، الفقرة ٤٨ و ٥٢.

٣ ـ النحل : ١٠٣.

٤ ـ الدخان : ١٣ و ١٤.

٥ ـ الجن كائن من الكائنات ومخلوق من مخلوقات اللّه تعالى وقد اخبر به القرآن الكريم في مواضع عديدة كما سميت احدى السور باسم الجن.

٤٧١

وكان هذا موجوداً قبل الإسلام كما ترويه كتب السير والتواريخ(١) .

وقد رد القرآن الكريم على هذه المقالة وهذا الزعم إذ قال تعالى : «وَلا بِقَولْ كاهِن قَليلا ما تَذكَّرُونَ »(٢) كما ردّ ايضاً تهمة السحر ، والكذب والافتراء والشعر إذ قال تعالى وهو يصف المتهمين تارة بالكفر واُخرى بالظلم : «وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرونَ هذا سَاحِرٌ كَذّابٌ »(٣) .

وقال تعالى : «وَقالَ الظالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلا مَسْحُوراً »(٤) .

وقال سبحانه متعجباً مِنهم : «قالُوا إنَّما أنتَ مِنَ المُسحَّرينَ »(٥) .

وقال تعالى : «وَقالُوا يا أيُّها الَّذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِكْرُ إنَّكَ لَمجْنُونٌ »(٦) .

وقال سبحانه : «وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون »(٧) .

وقال عزّ وجلّ : «فَذكِّر فَما أَنْتَ بِنعْمةِ رَبّكَ بِكاهِن وَلا مَجْنُون »(٨) .

وقال تعالى : «قالُوا إنّما أنْتَ مُفْتَر بل أكثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ »(٩) .

وقال تعالى : «أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْر سُوَر مِثلِه »(١٠) .

وقال سبحانه : «وَقالَ الّذينَ كَفَرُوا إنْ هذا إلاّ إفكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَليْهِ قَومٌ آخرونَ فَقدْ جاءوا ظُلماً وَزُوراً »(١١) .

وقال سبحانه : «أفتَرى عَلى اللّه كَذِباً أمْ بِهِ جِنَّةٌ »(١٢) .

وقال تعالى : «أَم يَقُولُونَ شاعِرٌ نَترَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُون »(١٣) .

وقال تعالى : «وَما عَلَّمْناهُ الشَّعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقران مُبِيْن »(١٤) .

وربما وصفوا القرآن بانه اضغاث احلام فردهم سبحانه بقوله.

«بَلْ قالُوا أضغاثُ أحْلام بلِ افْتراهُ بَلْ هُوَ شاعرٌ »(١٥) .

__________________

١ ـ راجع : بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٣ ، ص ٢٦٩ باب علم الكهانة والعرافة.

٢ ـ الحاقة : ٤٢.

٣ ـ ص : ٤.

٤ ـ الفرقان : ٨.

٥ ـ الشعراء : ١٥٣.

٦ ـ الحجر : ٦.

٧ ـ التكوير : ٢٢.

٨ ـ الطور : ٢٩.

٩ ـ النحل : ١٠١.

١٠ ـ هود : ١٣.

١١ ـ الفرقان : ٤.

١٢ ـ سبأ : ٨.

١٣ ـ الطور : ٣٠.

١٤ ـ يس : ٦٩.

١٥ ـ الانبياء : ٥.

٤٧٢

وهكذا نجدهم ذهبوا في استخدام سلاح الاتهام والتشويش على الشخصية المحمَّدية والرسالة الإسلامية كل مذهب ، فمرة وصفوه بانه كاهن واُخرى بانه ساحر وثالثة بانه مسحور ، ورابعة بانه مجنون وخامسة بانه معلّم وسادسة بانه كذاب وسابعة بانه مفتري وثامنة بانه مفترى أو مجنون على سبيل الترديد وتاسعة بانه شاعر وعاشرة بان ما يقوله ما هو الاّ اضغاث احلام.

٢ ـ فكرةُ معارضة القرآن :

لم يُجدِ استخدام سلاح الإتهام ضد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفعاً ، ولم يأت بالثمار الّتي كان يتوخاها المشركون منه ، لأن الناس كانوا يُدركون بفطنتهم وفراستهم أن للقرآن جاذبيّة غريبة ، وأنهم لم يسمعوا كلاماً حلواً ، وحديثاً عذباً مثله.

ان لكلماته من العمق والعذوبة بحيث يتقبّلها كلُ قلب ، وتسكن اليها كل نفس.

من هنا لم ينفع اتهام قريش لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنون وبأنَّ ما يقوله إن هو الاّ من نسج الخيال ، ونتائج الجنون ، شيئاً ، فقررت أن تخطّط لتدبير آخر ظناً منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه ، وعن الاستماع إلى كتابه ، ألا وهو : معارضة القرآن الكريم.

فعمدت إلى « النضر بن الحارث » وكان من شياطين قريش ، وممّن كان يؤذي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينصب له العداوة ، وكان قد قضى شطراً من حياته في الحيرة بالعراق وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس واحاديث « رُستم » و « إسفنديار » وقصصهم ، وحكاياتهم ، وأساطيرهم ، وطلبوا منه أن يجمع الناسَ ويقص عليهم من تلكم الأساطير والحكايات يلهي بها الناس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويصرفهم عن الإصغاء إلى القرآن الكريم!!

فكان إذا جلس رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجلساً فذكَّر الناس فيه باللّه ، وحذر قومه ما أصاب مَن قبلَهم من الاُمم من نقمة اللّه ، خَلفه « النضرُ » في مجلسه

٤٧٣

إذا قامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : أنا واللّه يا معشر قريش أحسنُ حديثاً منه فهلمَّ إليّ ، فأنا اُحدِّثكم أحسنَ من حديثه.

ثم يحدّثهم عن ملوك الفرس و « رستم » و « اسفنديار » ثم يقول :

بماذا محمَّد أحسن حديثاً مني وما حديثه إلاّ أساطير الأَولين اكتتبهاكما اكتتبتُها؟(١) .

وقد كانت هذه الخُطة حمقاء جداً إلى درجة أنها لم تدم إلاّ عدة ايام لا اكثر حتّى أن قريشاً سأمت من أحاديث « النضر » وسرعان ما تفرّقت عنه.

وقدنزل في هذا الشأن آيات هي : «وَقالُوا أساطيرُ الأَوَّليْنَ اكتتبها فهي تمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأصِيْلا * قُلْ أَنْزلَهُ الَّذيْ يعْلَمُ السِّرّ في السَماواتِ وَالأَرْضِ إنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحيماً »(٢) .

* * *

تحججات صبيانيّة وجاهليّة :

وربما جسَّدوا معارضتهم للدعوة المحمَّدية في صورة تحججات ومجادلات جاهليّة ومآخذ سخيفة اخذوها على رسول اللّه ورسالته ، تنم عن تكبر وجهل ، وعناد ولجاج طبعوا عليه.

وها نحن نذكر ابرزها :

أ ـ لماذا لم ينزل القرآن على ثريّ من اثرياء مكة أو الطائف؟!

قال تعالى حاكيا قولهم : «لَولا نُزِّلَ هذا الْقُرانُ عَلى رَجُل مِنَ الْقَريَتَيْنِ عَظِيْم »(٣) .

ب ـ لماذا لم يرسل اليهم ملائكة ولماذا هو بشر؟!

قال تعالى عنهم : «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أن يُؤْمِنُوا إذْ جاءهُمْ الهُدى إلاّ أَنْ قالُوا أبعَثَ اللّه بَشَراً

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٠٠ و ٣٥٨.

٢ ـ الفُرقان : ٥ و ٦.

٣ ـ الزخرف : ٣١.

٤٧٤

رَسُولا »(١) .

وقال تعالى حاكياً عنهم أيضاً : «وَقالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشي فِي الأَسْواقِ »(٢) .

ج ـ انَّه يدعو إلى خلاف ما كان عليه الآباء ، من الدين والعقيدة والسلوك؟

يقول عنهم سبحانه : «وَإذا قِيْلَ لَهُمْ تَعالَوْا إلى ما أَنْزَلَ الله وَإلى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْه آباءنا أو لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ »(٣) .

د ـ تبديل الآلهة بإلهٍ واحد.

قال اللّه عنهم : «وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ * أَجعَلَ الآلِهَةَ إلهاً واحِداً إنْ هذا لِشَيء عُجابٌ »(٤) .

هـ ـ القول بحشر الاجساد وتجدد الحياة في يوم القيامة.

قال تعالى عنهم : «وَقالُوا ءإذا ضَلَلْنا فِي الاْرْضِ ءإنّا لِفِي خَلْق جَدِيد »(٥) .

و ـ لماذا ليس عنده مثل ماكان لدى موسى من المعجزات كالثعبان المنقلب من العصا ، وقد توصل المشركون إلى هذا النمط من الاعتراض بسبب اتصالهم بأحبار اليهود.

يقول اللّه عنهم : «فَلَمّا جاءهُمْ الْحقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا اُوتِيَ مِثْلُ ما اُوْتيَ مُوسى »(٦) .

ز ـ لماذا ليس معه ملك يُرى ويشاهَد ويحضر معه في كل مقام ومشهد.

قال تعالى : «وَقالُوا لَولا اُنْزلَ عَلَيْهِ مَلَكْ »(٧) .

__________________

١ ـ الاسراء : ٩٤.

٢ ـ الفرقان : ٧.

٣ ـ المائدة : ١٠٤.

٤ ـ ص : ٤ و ٥.

٥ ـ السجدة : ١٠.

٦ ـ القصص : ٤٨.

٧ ـ الانعام : ٨.

٤٧٥

مقترحات عجيبة ومطاليب غريبة :

وكان المشركون إذا نفذت تحججاتهم واعتراضاتهم الواهية ، وقوبلوا بردود قوية وقاطعة عليها عمدوا إلى طرح مقترحات سخيفة على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سياق معارضتهم لدعوته ونورد هنا ابرز تلك الاقتراحات ليعرف القارئ الكريم مدى معاناة النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قومه :

لقد اقترحوا عليه :

١ ـ ان يعبد اصنامهم سنة ويعبدوا إلهه سنة اُخرى وجعلوا ذلك شرطا لايمانهم بدعوته!!

فأنزل اللّه تعالى في ردّهم بسورة « الكافرون » : «بِسْم اللّه الرَّحْمن الرَّحيم. قُلْ يا أَيُّها الْكافِرُونَ * لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ. وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ. لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِيْنِ ».

٢ ـ تبديل القرآن ، فقد دفع نقدُ القرآن الكريم للوثنية ، والازاء على الاصنام ، دفعهم إلى ان يطلبوا من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يأتي لهم بقرآن آخر لا يحتوي على شجب عبادة الاوثان والازدراء بالاصنام ، وابطالها.

قال اللّه تعالى عن فعلهم هذا : «وَإذا تُتْلى عَلَيْهِم آياتُنا بيِّنات قالَ الَّذيْنَ لا يَرْجُونَ لِقاءنا ائتِ بِقُرآن غَيْر هذا أوْ بَدّلهُ »(١) .

فردّ اللّه عليهم بقوله : «قُلْ ما يَكُونُ لِيْ أَنْ اُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاء نَفْسِيْ إنْ اتّبعُ إلا ما يُوْحى إلَيَّ إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْم عَظيْم »(٢) .

٣ ـ مطاليب مادية عجيبة!!

__________________

١ و ٢ ـ يونس : ١٥.

٤٧٦

وقد عمدوا ـ بسبب عنادهم وعتوهم ـ إلى المطالبة باُمور لا ترتبط بهداية الناس ، مثل مطالبته بان يفجر لهم ينابيع ، أو يُسقط السماء على رؤوسهم قطعاً ، أو يصعد إلى السماء ، أو يأتي باللّه سبحانه وتعالى ، أو غير ذلك من الاقتراحات والمطاليب الّتي كانت إما مستحيلة في نفسها أوتناقض غرض الدعوة!!

قال اللّه حاكياً عنهم ذلك : «وَقالُوا لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأَرضِ يُنْبُوعاً. أوْ تَكُون لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخيْل وَعنَب فَتُفَجِّر الاْنهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أوْ تَأتِيَ بِاللّه وَالْمَلائكةِ قَبِيلا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْت مِنْ زُخْرُف أوْ تَرْقى في السَّماء »(١) .

صبر النبيّ واستقامته وثباته :

ولقد قابل رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل هذه التحججات الايذائية وما طرح مِنَ الاقتراحات المستحيلة بصبر عظيم وثبات هائل ، ايماناً منه بدعوته ، وحرصاً على ابلاغ رسالته ، وبفعل التأييد الالهي من جانب.

يقول اللّه تعالى في هذا الصدد :

١ ـ «فَاْصْبِرْ كَما صَبَرَ اُوْلوا العْزْم مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ »(٢) .

٢ ـ «وَاتّبِعْ ما يُوحْى إلَيْكَ وَاِصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اللّه وَهُوَ خَيْرُ الحاكِميْن »(٣) .

٣ ـ «وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إلاّ بِاللّه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ »(٤) .

٤ ـ «وَاصْبِرْ نَفْسكَ مَعَ الَّذيْنَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَداوَة وَالعَشِيِّ »(٥) .

٥ ـ «فَاصْبِرْ لِحُكْم رَبّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوْت »(٦) .

٦ ـ «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلا »(٧) .

__________________

١ ـ الاسراء : ٩٠ ـ ٩٣.

٢ ـ الاحقاف : ٣٥.

٣ ـ يونس : ١٠٩.

٤ ـ النحل : ١٢٧.

٥ ـ الكهف : ٢٨.

٦ ـ القلم : ٤٨.

٧ ـ المزمل : ١٠.

٤٧٧

معاجز النبيّ لم تنحصر في القرآن :

وبالمناسبة لابد أن نذكر أن المشركين ومن حذى حذوهم من الكفار والمعارضين للرسالة الإسلامية كانوا يطالبون رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعاجز وديات لا بدافع الرغبة في الايمان بدعوته بل بدافع اللجاج والعناد ، وإلا فان معاجز النبيّ لم تنحصر في الكتاب العزيز ، فقد اتى رسول اللّه بآيات ومعاجز كثيرة اُخرى غير القرآن ، كان كل واحد منها يكفي للاقتناع برسالته ، والايمان بصحة دعواه.

فالقرآن نفسه يشير إلى أبرز هذه المعاجز وهي :

١ ـ شقّ القمر

فقد طلب المشركون من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يشق لهم القمر نصفين حتّى يؤمنوا به ، فلمّا على ذلك لهم باذن اللّه كفروا به وقالوا انه سحر!!

يقول اللّه تعالى : «إقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ. وَإنْ يَروْا آيَة يُعْرضُوْا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتمِرّ »(١) .

٢ ـ المعراج

ان العروج برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والّذي سيأتي مفصلا هو الآخر معجزة من معاجزه القوية ، وقد نطق بها القرآن بقوله : «سُبْحانَ الَّذي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرام إلى الْمَسْجِدَ الأَقْصى الَّذي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُريَهُ مِنْ آياتِنا إنَّه هُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيرُ »(٢) .

____________

١ ـ القمر : ١ و ٢.

٢ ـ الاسراء : ١.

٤٧٨

٣ ـ مباهلة أهل الباطل

ان تقدم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مَن خرج بهم إلى المباهلة ، واحجام النصارى عن مباهلته ، معجزة اُخرى من معاجزهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية إذ قال : «فَمَنْ حاجَّكَ فِيْهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءكَ مِنَ العلم فَقُل تَعالوا نَدْعُ أَبْناءنا وَأَبْناءكُمْ وَنِساءنا وَنِساءكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعلْ لَعْنَةَ اللّه عَلىَ الْكافِرينَ »(١) .

وستأتي قصَّة المباهلة على نحو التفصيل في حوادث السنة العاشرة من الهجرة.

٤ ـ الاخبار بالمغيبات

فقد كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبر عن اُمور غائبة كما يقول اللّه سبحانه حاكيا عنه : «وَاُنبِّئكُمْ بِما تأكلون وما تَدَّخِرُونَ فِيْ بُيُوتكُمْ »(٢) .

هذا وقد أخبرت الاخبار والاحاديث عن معاجز كثيرة لرسول اللّه غير القرآن الكريم.

__________________

١ ـ آل عمران : ٦١.

٢ ـ آل عمران : ٤٩ ، وقد اشار القرآن الكريم إلى موارد اُخرى من هذه القبيل.

فقد اخبر عن غلبة الروم بعد سنين : قال تعالى :

«الم غُلِبَتِ الرُّومُ * في أدْنى الأرْض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَييغْلِبُونَ. في بِضْعِ سِنْينَ * للّه الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعدُ وَيَومئذ يَفْرحُ الْمؤمنون » ( الروم : ١ ـ ٤ ).

واخبر عن هلاك ابي لهب قال تعالى :

«تَبَّت يَدا أبي لَهَب وَتَبّ ... الخ ».

وأخبر عن هزيمة المشركين في بدر قال سبحانه :

«سيهزم الجمع ويولون الدبر » ( القمر : ٤٥ ).

٤٧٩

ومن هذه المعاجز ما ذكره الامام اميرالمؤمنين علّي بن أبي طالب ـ كما في نهج البلاغة ـ حول سؤال المشركين من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلع شجرة بعروقها وجذورها ولما فعل ذلك وقال : « يا أيّتها الشجرة ان كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر ، وتعلمين أني رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفي بين يديّ باذن اللّه ».

فانقلعت بعروقها ولها دوّي عجيب ووقفت بين يدي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنهم كذّبوا وقالوا ساحر كذاب ، علواً واستكباراً.

وقد صرح الامام في كلامه هذا أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرهم بانهم لا يؤمنون وان ظهرت لهم المعجزة الّتي طلبوها ، وان فيهم من يطرح في القليب ( في معركة بدر ) وان منهم من يحزّب الأحزاب ( لمعركة الخندق )(١) .

اصرار النبيّ على هداية قريش :

بل كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرص على هدايتهم وارشادهم وايقاظهم. فقد كان زعيم المسلمين وقائدهم يعلم جيداً بأن اعتقاد أغلبية الناس بالأوثان ما هو الاّ أمر نابع من تقليد الآباء ، والجدود ، أو اتباع أسياد القبيلة وكبرائها ، وهو بالتالي لا يستند إلى جذور في أعماق الناس واُسس في عقولهم ونفوسهم.

من هنا فانَّ أيَّ انقلاب يحصل ويحدث في اوساط السادة والكبراء بان يؤمن أحدهم مثلا كان كفيلا بأن يحلّ الكثير من المشاكل.

من هنا كان ثمة إصرار كبير على جرّ « الوليد بن المغيرة » الّذي أصبح ابنه « خالد » في ما بعد من قادة الجيش الاسلاميّ والمشاركين في الفتوح الإسلامية إلى صف المؤمنين بالرسالة المحمَّدية ، لأنّه كان أسنَّ مَن في قريش واكثرهم نفوذاً ، وأعلاهُم مكانة ، وأقواهم شخصية ، وكان يُدعى حكيم العرب ، وكانت العرب تحترم رأيه إذا اختلفت في أمر.

__________________

١ ـ نهج البلاغة : قسم الخطب الرقم ١٩٢.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595