أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان10%

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 595

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان
  • البداية
  • السابق
  • 595 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156852 / تحميل: 12405
الحجم الحجم الحجم
أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الخلاصة:

سبق أن وضحنا فيالقسم الأوّل وجود فصل في الأذان دالّ على الولاية لأمير المؤمنين عليّعليه‌السلام كنائياً، وكذا فهمنا من فحوى كلام الإمام الكاظمعليه‌السلام أنه يحبّ الحثّ عليها والدعوة إليها، أي يريد تفسيرها معها.

وفيالقسم الثاني بيّنّا موضوع سكوت وتقرير الإمام الحجّة في عصر الغيبة، وأنّه قد يمكن التمسّك به عند البعضِ كدليل لإثبات القول بجواز الشهادة الثالثة إن ثبت إجماع الطائفة على الجواز.

أمّاالقسم الثالث فكان الكلام فيه عن بيان مغزى كلام فقهائنا الأقدمين من الشيخ الصدوق (ت ٣٨١ هـ) إلى العلاّمة الحلي( ت ٧٢٦ هـ).

* فقد ورد عن الشيخ الصدوقرحمه‌الله لعنه المفوّضة، لوضعهم أخباراً في زيادة الشهادة الثالثة في الأذان، لكنّه ترك لعن المتّهمين بالتفويض، وهذا يشير إلى احتمال تفريقه بين الأمرين، فهورحمه‌الله قد ترحّم على من لم يلتق معهم في المذهب وروى عنهم ولم يلعنهم، وهذا ليؤكّد أنّه عنى بمن لعنهم القائلين بالجزئية على نحو الخصوص، وقد احتملنا في صدور موقف الصدوقرحمه‌الله ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أنّه عنى القائلين بالجزئية الواضعين الأخبار فيها، أمّا القائلون بمحبوبيّتها النفسيّة فلا يعنيهم في كلامه، لأنّ من الصعب أن يلعنرحمه‌الله من اجتهد من الشيعة وأفتى بمحبوبيّتها، لأنّ رجحان ذلك لا غبار عليه، خصوصاً وهم يؤكدون أنّهم يأتون بها لا على نحو الجزئية الواجبة لأنّها لو كانت جزءاً لاتّحدت الصيغ عندهم، ولما اختلفت، فتارة يروون (محمد وآل محمد خير البرية)،

 

٣٤١

وأخرى (أشهد أن عليّاً ولي الله).. وثالثة... ورابعة، وتارة يأتون بها بعد الحيعلة الثالثة، وأُخرى بعد الشهادة الثالثة.

وقد يكون الذين سُمُّوا بالمفوِّضة عند الصدوق لم يأتوا بها للأخبار الموضوعة من قبل المفوِّضة، بل لما وجودوها في العمومات الواردة في رجحان الشهادة الثالثة في كلّ شيء، وبذلك يكون مثلهم مثل العامّة الآتين بأشياء موجودة في أخبارنا، فنحن نأخذ بها لورودها في أخبارنا لا لعمل العامّة بها.

الثاني: أنّه قالها تقيةً، لإقرارهرحمه‌الله بأنّ التقية واجبة إلى قيام يوم الدين، ولكون بعض مشايخه من العامّة. وقيل بأن بعضهم كان من النواصب، فقد روى الصدوق عن أحمد بن الحسين الضبّي الذي بلغ من نصبه أنه كان يقول: اللهم صل على محمد فرداً، ويمتنع من الصلاة على آله.

وكذلك قولهرحمه‌الله (ولا بأس أن يقال في صلاة الغداة على إثر (حي على خير العمل): الصلاة خير من النوم مرتين للتقية) فإنّه يشير بوضوح إلى صدور النص عنه تقيةً، لأنّ المؤذّن لو كان في حال التقية فلا يمكنه أن يجهر ب (حيّ على خير العمل)، وإن لم يكن في حال التقية فلا يجوز له أن يقول (الصلاة خير من النوم)، وقد يكون تشدّد في الشهادة الثالثة للحفاظ على أرواح البقية الباقية من الشيعة، والبراءة الشكليّة ممن يقولونها، لأنّ الشهادة بالولاية لم تكن واجبة حتى يصرَّ عليها، مع أنّ كثيراً من الأحكام تقية، فكيف لا يجوز ترك ما هو جائز الإتيان به؟

الثالث: أنّه اتّبع مشايخه الثقات الذين تسرّعوا في الحكم بالوضع على بعض الأخبار والأصول، كما شاهدناه في اتّباعه لشيخه ابن الوليد بالحكم بوضع موسى الهمداني لأَصْلَي زيد الزراد والنرسي، في حين اجمع الأصحاب على خطأ هذا الحكم من قبل ابن الوليد ومن تبعه كالشيخ الصدوقرحمه‌الله ، ومثل هذا يشكّكنا فيما يجتهد فيه ودعانا التأمّل بحكمه بوضع أخبار الشهادة الثالثة وأنّها من وضع

٣٤٢

المفوّضة.

* وفي عصر الشيخ المفيد (ت ٤١٣ هـ) تساءلنا عن سبب تركهرحمه‌الله الاعتراض على الصدوق في هذه المفردة، مع أنّه صحّح اعتقاداته في كتاب آخر، وهل يعني ذلك تأييده له أم لا؟ فقلنا: إنّ الشيخ لم يقبل ما رواه الصدوق في فصول الأذان، ولكنّ الشهادة الثالثة لم تكن عنده بتلك الأهمية؛ لاعتقاده بعدم كونها من أصل الأذان، وجواز فعلها أو تركها، وأنهرحمه‌الله كان لا يريد الدخول في أُمور جزئية اجتهادية مع الآخرين، لأنّ الإفتاء بشيء حسّاس كالشهادة الثالثة قد يسبّب مشكلة بين الشيعة أنفسهم، في حين هُم بأمس الحاجة إلى وحدة الكلمة، لأنّ الحكومات الشيعية كانت في تصاعُد وتَنَام في عهده، وكانوا يؤذّنون ب (محمد وعلي خير البشر) في مصر وحلب وبغداد واليمامة، وكان الشيخ المفيد لا يريد أن يبيّن أنّه يتّفق مع هذه الحكومات أو يختلف معهم، المُهِمُّ أنّه رأى الكفاية فيما تأتي به الشيعة للدلالة على الجواز ولا داعي للإفتاء صريحاً بذلك، وخصوصاً أنّهرحمه‌الله لم يُسْئَل كتلميذه المرتضى حتى يجيب.

والخلاصة: أنّ الشيخ اكتفى ببيان الضروري في الأذان وهو جزئيّة الحيعلة الثالثة، وفي مطاوي كلامه ما يدلّ على قوله بالجواز، لأنّه لا يرى بأساً بالكلام في الأذانِ، والشهادةُ بالولاية من الكلام فلا يخلّ بالأذان حسب قوله ومبناه، بل إنّ سكوته هو إمضاء لفعل الشيعة في حدود قولهم بالجواز، أمّا لو اعتقدوا بالجزئية وأتوا بها على هذا الاعتقاد فمن البعيد أن يسكت الشيخ المفيد على خطائهم.

ومن هنا نفهم بأنّ الشيخ المفيد لا يتّفق مع الشيخ الصدوق في اتهام القائلين بالشهادة الثالثة بالوضع والزيادة، لأنّ الشيخ المفيد كان يرى جواز فعلها لأنّها من الكلام الراجح والمحبوب، وكان يعلم بأنّ الناس لا يأتون بها على أنّها جزء، لاختلاف الصيغ المُؤَدّاة من قبلهم، فالبعض يأتي بها بعد الحيعلة الثالثة والآخر بعد الشهادة الثانية.

٣٤٣

وكان الشيخ الصدوق يعتقد أنّهم يأتون بها على نحو الجزئية واضعين في ذلك الأخبار ولأجل ذلك تهجم عليهم.

* وأمّا السيّد المرتضى (ت ٤٣٦ هـ)، فهو أوّل من أعلن فتوائيّاً الجواز بالشهادة بالولاية في الأذان ب جملة (محمد وعلي خير البشر)، وذلك بعدما سئل من قبل أهل الموصل فقالرحمه‌الله : (إن قال: محمد وعلي خير البشر، على أنّ ذلك من قوله خارجٌ من لفظ الأذان جاز، فإنّ الشهادة بذلك صحيحة، وإن لم يكن فلا شيء عليه).

فالفقرة الأولى من كلامهرحمه‌الله واضحة لا تحتاج إلى تعليق، والفقرة الأخيرة (وان لم يكن فلا شيء عليه)، فالظاهر في (يكن) هنا التامة لا الناقصة، أي أنّ المؤذن إذا لم يقلها فلا شي عليه، ويحتمل أن يكون معناها أنّ المؤذّن لو قالها على أنّها جزء فلا شيء عليه، وهو احتمال مرجوح بنظرنا، والسياق يأباه تماماً.

إنّ فتوى السيّد المرتضى بجواز القول ب (محمد وعلي خير البشر) دعم حقيقي لسيرة الشيعة في بغداد، وشمال العراق، ومصر، والشام، وإيران. والسيّد المرتضى أيضاً نفى الجزئية والوجوب على منوال الصدوق. وأمّا الجواز فالمرتضى قائل به، وكذلك الصدوق حسبما استظهرناه.

ومن هنا نعلم بأنّ هذه الصيغ موجودة في شواذّ الأخبار وربما في أخبار أخرى وفي العمومات لا في روايات المفوّضة، وهذا يؤكّد استمرار الشيعة من بداية الغيبة الكبرى إلى عهد السيّد المرتضى في التأذين بها استناداً لما رواه الفضل بن شاذان عن ابن أبي عمير عن أبي الحسن الكاظم المار سابقاً، ولغير ذلك من الأدلّة، وأنّهرحمه‌الله لم يتعامل مع الشهادة الثالثة كما تعامل مع (الصلاة خير من النوم) حيث اعتبر الأولى جائزة والثانية بدعة وحراماً.

* أفتى الشيخ الطوسي (ت ٤٦٠ هـ) بعدم إثم من قال بالشهادة الثالثة، لأن الشهادة بالولاية عنده جائز الفعل والترك، وهو ليس بمستحبّ (ولا من كمال

٣٤٤

فصوله) كالقنوت. الشيخرحمه‌الله لا يمنع العمل بالأخبار الشاذّة إلاّ إذا امتنع الجمع، وهو يفهم بأنّ الشاذّ عنده له حجيّة بنحو الاقتضاء لا الفعلية، لأنّ الترجيح فرع الحجية الاقتضائية.

واللاّفت للنظر هو أنّ الشيخ أول من صَرَّح بوجود أخبار شاذّة في الشهادة بالولاية، دون أن يرميها بالوضع كما فعل الصدوقرحمه‌الله ، وهو يتضمّن إمكانية اعتبارها في مرتبة ما من مراتب الاعتبار الشرعي، والمراجع لكتابالاستبصار يرى أنّ الشيخ لا يترك الأخبار الشاذّة بالمّرة، وإن أمكنه الحمل على الجواز أو الاستحباب حَمَلها على ذلك، وقد مر عليك بأنّهرحمه‌الله قد حكم بالشذوذ على الرواية التي أوجبت الوضوء من قص الأظافر بالحديد وترك العمل بها، لكنّه لم يترك القول باستحباب الوضوء جمعاً بين الأدلة.

فالّذي نحتمله هنا أنّ الشيخ تعامل مع روايات الشهادة الشاذّة على منوال رواية الوضوء من الحديد، فأفتى بالجواز استناداً لذلك.

هذا، وإنّ فتواهرحمه‌الله تكشف عن سيرة بعض المتشرّعة في عصره في حدود من يرجع له بالفتوى وأنّها امتداد للسيرة التي كانت في عصر المرتضىرحمه‌الله ، وهذا يعني بأنّ لهذه السيرة وجوداً في العصور المتأخرة تدور مدار المرتضى والطوسي وغيرهما ممن أفتى بالجواز، وهم مشهور الطائفة.

وعليه فغالب العلماء بدءً من السيّد المرتضى والشيخ وحتّى الصدوق لا يرتضون جزئيّتها، وفي الوقت نفسه يذهبون إلى جوازها.

وإنّ مطالبة البعض بنقل التواتر في هكذا أمور ممّا يأباه العقل، لأنّ وصول أمثال هذه الروايات الشاذّة قد كلَّفنا الكثير، فكيف يريد هذا البعض نقل التواتر على ما ندّعيه وخصوصاً نحن لا نريد إثبات الجزئية؟!

* أمّا ابن البرّاج (ت ٤٨١ هـ) فهو أوّل من أفتى باستحباب الشهادة بالولاية ولكن على نحو قَوْلها في النفس، وفي مثل هذه الفتوى نقلةٌ نوعيّة من فتوى

٣٤٥

الجواز عند السيّد المرتضى والشيخ الطوسي إلى القول بالاستحباب بها في النفس، والمناطُ واحد في الجميع وهو التبرّك والتيمّن.

والمثير للانتباه أنّ ابن البرّاج قيّد الشهادة الشهادة بالعدد، أعني ال: "مرَّتين"، ومعلوم بأنّ مثل هذا القيد يستبعد أن يكون عن حدس واجتهاد، بل هو مبتَن على وجود رواية قد شاهدها ابن البراج عن حِسٍّ، إذ يلوح من التقييد بعدد مخصوص التوقيفيَّةُ، والتوقيفيّةُ لا يناسبها إلاّ الأخبار والروايات، يشهد لذلك أنّ جملة (محمد وآل محمد حير البرية) هي عينها التي جزم الشيخ الطوسي بورود الأخبار الشاذّة بها، وشهادة الصدوق بأنّها موضوعة، ومعنى هذا أنّ هذه الأخبار ليست بشاذّة عند ابن البراج ولا موضوعة.

وممّا يجب التنبيه عليه أنّ الاستحباب عند ابن البراج لا علاقة له بماهية الأذان إلاّ للتبرّك والتيمّن، بقرينة الشهادة بها في النفس، بل نحتمل قويّاً أنّ كلامهقدس‌سره كان ناظراً إلى أمثال حسنة ابن أبي عمير، فأراد تفسير الحيعلة الثالثة بما أفتى به.

* أمّا حكاية يحيى بن سعيد الحلي (ت ٦٨٠ هـ) والعلاّمة الحلي (ت ٧٢٦ هـ) لشواذّ الأخبار، فهي لتشير إلى وقوف الحليين على تلك الأخبار بعد الشيخ الطوسي، وذلك لعدم حكايتهما ذلك عن الشيخ الطوسي، وهو الأخر يؤكّد بأنّ هذه السيرة عند الشيعة لم يكن مرجعها الشيخ الطوسي، بل كانت قبله واستمرت من بعده، وأنّ الفقهاء من بعد الشيخ لم يتّبعوه في الفتوى بالجواز تقليداً، بل لوقوفهم على تلك الأخبار، والتي كانت موجودة إلى عهد العلاّمة الحلي.

٣٤٦

الفصل الثاني: بيان أقوال الفقهاء المتأخّرين، ومتأخّري المتأخّرين، وبعض المعاصرين

٣٤٧

٣٤٨

بعد أن انتهينا من بيان أقوال الشارع المقدّس، وسيرة المتشرّعة في عصر القدماء إلى أول المتأخرين أعني العلاّمة الحليرحمه‌الله نريد الآن أن نقف على أقوال وآراء متأخّري الأصحاب الناطقة بمحبوبيّة الإتيان بالشهادة بالولاية في الأذان من باب القربة المطلقة مع إصرارهم وتأكيدهم على عدم جزئيتها، ومخالفتهم لمن أتى بها على نحو الجزئية، وإنّك من خلال عرضنا لأقوال هؤلاء الفقهاء سترى بأنّا لا نخرج عن إجماعهم أو مشهورهم الأعظم في ما قالوه عن الشهادة الثالثة؛ لأنّهم يتّفقون على حقيقة واحدة هي رجحانها الذاتيّ، وأنّ ما نسب إلى البعض من أنّه يذهب إلى تحريم كلّ زيادة في الأذان وإن كانت لرجاء المطلوبيّة، فهو في أحسن تقاديره رأي شاذّ لا يقاومُ الإجماعَ أو الشهرة العظيمة التي كادت أن تكون إجماعاً؛ لأنّنا وبوقوفنا على كلام متأخّري الأصحاب سنوضح مواضع الالتباس الذي وقع للبعض وسوء فهمه لكلماتهم، إذ غالب هؤلاء الفقهاء إن لم نقل كلّهم لا يريدون نفي المشروعيّة والمحبوبيّة، بل يريدون نفي الجزئيّة، وهذا هو منهجهم في التعامل مع هذه المسألة من عصر القدماء إلى يومنا هذا.

وإليك الآن سير هذه المسألة في القرن الثامن الهجري، ثمّ القرون التي تلته إلى يومنا هذا.

٣٤٩

القرن الثامن الهجري

٨ - الشهيد الأوّل (٧٣٤ هـ - ٧٨٦ هـ)

قال الشهيد الأوّل محمّد بن مكي العاملي الجزيني في(ذكرى الشيعة): الرابعة: قال الشيخ: وأمّا ما روي في شواذّ الأخبار من قول: (أنّ عليّاً ولي الله) و(آل محمد خير البرية) مما لا يعمل عليه في الأذان، ومن عمل به كان مخطئاً. وقال في المبسوط: لو فعل لم يأثم به. وقال ابن بابويه: والمفوّضة رووا أخباراً وضعوها في الأذان: (محمد وآل محمد خير البرية)، و(أشهد أنّ عليّاً ولي الله)، وأنّه أمير المؤمنين حقّاً حقّاً، ولا شكّ أنّ عليّاً وليّ الله، وأنّ آل محمد خير البريّة، وليس ذلك من أصل الأذان (١) .

وقال فيالبيان :قال الشيخ: فأمّا قول: (أشهد أنّ عليّاً وليّ الله) وأنّ (محمّداً خير البرية) على ما ورد في شواذّ الأخبار، فليس بمعمول عليه في الأذان، ولو فعله الإنسان لم يأثم به، غير أنّه ليس من فضيلة الأذان ولا كمال فصوله (٢) .

وقال في(الدروس الشرعية) :

____________________

(١) ذكرى الشيعة ٣: ٢٠٢ - ٢٠٣ / باب ما روي في شواذّ الأخبار من قول: (أنّ علياً وليّ الله وأن محمّداً خير البرية) في الأذان.

(٢) البيان: ٧٣، ط حجري. وفي تحقيق الشيخ محمد الحسون للكتاب: ١٤٤: أشهد أن علياً أمير المؤمنين وآل محمد خير البرية.

٣٥٠

 قال الشيخ: أمّا الشهادة لعليعليه‌السلام بالولاية وأنّ (محمداً وآله خير البرية) فهما من أحكام الإيمان لا من ألفاظ الأذان، وقطع فيالنّهاية بتخطئة قائله، ونسبه ابن بابويه إلى وضع المفوّضة، وفيالمبسوط : لا يأثم به(١) .

فالشهيد الأوّل في هذه النصوص حكى كلام الشيخ الطوسي، وليس في كلامهرحمه‌الله ما يشير إلى أنّه قد وقف على تلك الأخبار بنفسه كما استظهرنا ذلك من كلام يحيى بن سعيد الحلي، والعلاّمة الحلي واحتملناه بقوّة، مؤكّدين أنّهما وقفا على أخبار الشهادة الثالثة كالشيخرحمه‌الله لكنّ الشيخ التقيّ المجلسي(٢) عدّه مع الشيخ الطوسي والعلاّمة ضمن من وقفوا على تلك الأخبار، وهذا لا يمكن استفادته من(الذكرى) و(البيان) بوضوح، فقد يكون الشهيد صرّح بما يشير إلى وقوفه عليها ضمن كتبه المفقودة، أو أنّ المجلسيّ عدّه مع الشيخ الطوسي لتبنّيه قول الشيخ وأخذه به في كتابَيْه(ذكرى الشيعة) و(البيان) .

وأمّا ما قالهرحمه‌الله : (فهما من أحكام الإيمان لا من ألفاظ الأذان)، فهذا ما لا نخالفه، بل إنّا نقول بما قاله الشيخ الطوسي من عدم الإثم في الإتيان بها، وأمّا كونها من ألفاظ الأذان فلا نقول به.

والحاصل: أنّ الذي يظهر من الشهيد الأوّل هو أنّه يفتي بعدم إثم قائل الشهادة الثالثة في الأذان بشرط عدم اعتقاد الجزئية فيها، على غرار فتوى الشيخ الطوسي، ويشير إلى ذلك نقله لقول الشيخ الطوسي وعدم تعليقه عليه بشيء، وهذا يعني التزامه به، وإلاّ فمن غير المعقول أن تكون كتبهالذكرى والدروس والبيان ، وهي تجمع فتاويه ساكتة عن الشهادة الثالثة مع أنّها مسألة فقهية لها علاقة وثيقة

____________________

(١) الدروس الشرعية في فقه الإمامية: ١٦٢، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) روضة المتقين ٢: ٢٤٥، والذي مر عليك قبل قليل.

٣٥١

 بالعقيدة وقد تكون التقيّة العامل الأقوى في ذلك، لأنّ الشهيد قتل بأيدي العامة.

وفي الجملة: فنقل العالِمِ لقول في كتبه الفتوائية وسكوته عن التعليق عليه يدلّ على التزامه به، خاصّة إذا أخذنا بنظر الاعتبار إن كتبه قد صُنّفت على أساس البحث والتمحيص والنقض والإبرام.

القرنان التاسع والعاشر الهجريَّان

يوجدُ في هذين القرنين علماء وفقهاء ومحدّثون ومتكلّمون عظام، لكنّ غالب كتب هؤلاء العلماء مفقودة، والموجود منها لم يصرّح بما يرتبط ببحثنا، فاقتصرنا على ذكر من وقفنا على كتبهم، وخصوصاً البارزين منهم:

فقد ذكر ابن فهد الحلي(١) (ت ٧٥٧ - ٨٤١ هـ)، والمقداد السيوري الحلي(٢) (ت ٨٢٦ هـ)، وشمس الدين محمد بن شجاع القطان الحلي(٣) (كان حيّاً عام ٨٣٢ هـ) الأذانَ والإقامةَ في كتبهم، ولم يتعرضوا لموضوع الشهادة بالولاية أصلاً.

٩ - الشهيد الثاني (٩١١ - ٩٦٥ هـ)

وأما الشيخ الجليل زين الدين بن علي العاملي الشهير ب (الشهيد الثاني) فلم يتعرّض إلى الأذان في كتابه(المقاصد العليّة في شرح الألفية) ، لكنّه أشار إلى الاختلاف الواقع في فصوله في(حاشية المختصر النافع) (٤) و(فوائد القواعد) (٥) و(حاشية شرائع الإسلام) (٦) دون الإشارة إلى الشهادة بالولاية لعلي.

____________________

(١) المهذب البارع ١: ٣٤٩، المقتصر في شرح المختصر: ٧٣. الموجز: ٧١، المحرر: ١٥٣، مصباح المبتدئ: ٢٩١، والثلاث الأخيرة مطبوعة ضمن الرسائل العشر لابن فهد الحلي.

(٢) التنقيح الرائع لمختصر الشرائع: ١٨٩ - ١٩٠.

(٣) معالم الدين في فقه آل ياسين ١: ١٠٣.

(٤) حاشية المختصر النافع: ٣٢.

(٥) فوائد القواعد: ١٦٧.

٣٥٢

وقال في(الفوائد الملية لشرح الرسالة الألفية) : (والدُّعاء عند الشهادة الأولى). بقوله: (أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، أُكفى بها عن كُلِّ من أبى وجحد، وأُعِينُ بها من أَقَرَّ وشهد)، ليكون له من الأجر عدد الفريقين؛ روي ذلك عن الصادقعليه‌السلام . وليقل عند سماع الشهادتين: وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد رسولاً، وبالأئمّة الطاهرين أئمّةً، اللّهّم صل على محمد وآل محمد، اللّهّم ربّ هذه الدعوة التامّة والصلاة القائمة، آتِ محمّداً الوسيلةَ والفضيلةَ، وابعثه المقامَ المحمود الذي وعدته، وارزقني شفاعته يوم القيامة. وإسرارُ المتّقي بالمتروك. لا تركُهُ، إذ لا تقية في الإِسرار، نعم، لو خافَ من التلفّظ به وإن كان سراً بسبب ظهور حركة شفتيه أو طول زمانه أجراه على قلبه(١) .

وكان قد قال قبله: (وروي التعميل). وهو (حيّ على خير العمل) مرّتين قبلها، أي قبل (قَد قامت)، لأنّ مؤذّنهم لم يقل ذلك(٢) .

وقال بعدها: وترك (الحيعلتين بين الأذان والإقامة) لأنّه بدعة أحدثها بعض العامّة، وهذا إذا لم يعتقد توظيفها وإلاّ حرم (والكلامُ فيهما مطلقاً) أي بعد قوله: (قد قامت الصلاة) وقبلها(٣) .

وهذه النصوص الثّلاثة توحي لنا ما كان يعيشه هو والشيعة آنذاك من ظروف قاسية ونزاعات تؤدّي إلى التقية، فهورحمه‌الله لم يتعرّض إلى الشهادة الثالثة إلاّ في

____________________

(٦) حاشية شرائع الإسلام: ٨٧.

(٧) الفوائد الملية: ١٥٢.

(٨) الفوائد الملية: ١٤٢.

(٩) الفوائد الملية: ١٥٥.

٣٥٣

كتابيه(شرح اللمعة الدمشقية) و(روض الجنان) ، وبلحن اعتراضي شديد؛ إذ قال في(اللمعة) ما نصه:

(ولا يجوز اعتقاد شرعيّة غير هذه) الفصول (في الأذان والإقامة كالتشهّد بالولاية) لعلي عليه‌السلام (وأنّ محمّداً وآله خير البرية) أو خير البشر (وإن كان الواقع كذلك) فما كلّ واقع حقّاً يجوز إدخاله في العبادات الموظفة شرعاً، المحدودة من الله تعالى، فيكون إدخال ذلك فيها بدعةً وتشريعاً، كما لو زاد في الصلاة ركعة أو تشهّداً، أو نحو ذلك من العبادات. وبالجملة فذلك من أحكام الإيمان لا من فصول الأذان. قال الصدوق: إنّ إدخال ذلك فيه من وضع المفوّضة، وهم طائفة من الغلاة. ولو فعل هذه الزيادة، أو إحداها بنّية أنّها منه أثم في اعتقاده، ولا يبطل الأذان بفعله، وبدون اعتقادِ ذلك لا حرج (١) .

وقالرحمه‌الله في(روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان) :

وأمّا إضافة (أنّ علياً وليّ الله) و(آل محمد خير البرية) ونحو ذلك فبدعة، وأخبارُها موضوعة وإن كانوا خيرَ البرية؛ إذ ليس الكلام فيه، بل في إدخاله في فصول الأذان المتلقَّى من الوحي الإلهي، وليس كلُّ كلمةِ حقٍّ يسوغ إدخالها في العبادات الموظّفة شرعاً (٢) .

وقال في(مسالك الإفهام) معلّقاً على كلام صاحب(شرائع الإسلام) (وكذا يكره

____________________

(١) شرح اللمعة الدمشقية ١: ٥٧١ تحقيق السيّد الكلانتر.

(٢) روض الجنان ٢: ٦٤٦ تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية التابعة لمنظمة الإعلام الإسلامي / قم.

٣٥٤

قول الصلاة خير من النوم) :

بل الأصحّ التحريم، لأنّ الأذان والإقامة سنّتان متلقَّيتان من الشرع كسائر العبادات، فالزيادة فيهما تشريع محرّم، كما يحرم زيادة (محمد وآله خير البرية) وإن كانوا عليهم‌السلام خير البرية، وما ورد في شذوذ أخبارنا من استحباب (الصلاة خير من النوم) محمولٌ على التقية (٢) .

فنحن نوافق الشهيد الثاني فيما قاله معترضاً على الذين يأتون بها على أنّها جزءٌ، لأنّه (ليس كلّ كلمة حقّ يسوغ إدخالها في العبادات الموظّفة شرعاً)، لكن لو قالها من دون اعتقاد الجزئية ولمطلق القربة لكونها كلمة حق في نفسها فلا حرج في ذلك عند الشهيد الثاني؛ لقوله: (وبدون اعتقادِ ذلك لا حرج)، وهذا ما نريد التأكيد عليه، لأنّ الأذان أمرٌ توقيفيّ وشرعيّ فلا يجوز إدخال شيء فيه بقصد التشريع.

لكن يبقى قولهرحمه‌الله (وأخبارها موضوعة) أو (فذاك من أحكام الإيمان لا من فصول الأذان)، وهذا القول لا نرتضيه على عمومه، وذلك لاعتبار الشيخ الطوسي تلك الأخبار شواذَّ لا موضوعة، أي عدم استبعاد العمل به وعدم إثم فاعلها.

إذن، دعوى الشهيد الثاني الوضعَ وجزمه بها في غاية الإشكال، إلاّ أن نقول إنّه جزم بذلك تبعاً للشيخ الصدوق والذي وضّحنا كلامه وما يمكن أن يرد عليه.

وعلى هذا، فما يجب أخذه بنظر الاعتبار هو ورود أخبار كثيرة دالّة على محبوبية الشهادة بالولاية تلويحاً وإيماء وإشارة، كما جاء عن الأئمة في معنى (حي على خير العمل) وفي علل الأذان، وما قلناه من اقتران الشهادات الثلاث في الأدعية والأذكار وسائر الأحكام، ولحاظ وحدة الملاك بين الشهادة بالنبوّة

____________________

(١) مسالك الإفهام ١: ١٩٠.

٣٥٥

والشهادة بالولاية، إلى غيرها من العمومات التي ذكرناها، والتي فيها جملة: (أشهد أن علياً ولي الله) (ومحمد وآل محمد خير البرية) ونحوها.

فإن أتى شخص بجملة: (علي ولي الله) أو (آل محمّد خير البرية) طبقاً لأمثال هذه الروايات التي حكاها الشيخ الطوسي في باب فصول الأذان، أو طبقاً لما جاء في تفسير معنى الحيعلة الثالثة عن المعصومين، فلا يجوز القول عنها بأنّه عمل بروايات موضوعة، إذ الروايات في هذا المجال عامة وقد تكون خاصة وردت عن الأئمّة في جواز القول بها مقرونة مع النبوة، ولا يمكن انتسابها إلى الوضع.

ثمّ إنّ ما قالهرحمه‌الله عن الشهادة بالولاية وأنّها من (أحكام الإيمان لا من فصول الأذان) فهو كلام سديد، لكنّه في الوقت نفسه لم يمنع الشهيد الثاني أن يفتي بجواز أن يأتي المكلّف بأمر إيمانيّ في الأذان لا بقصد الجزئية، فالاستغفار أو القنوت مثلاً هما أمران مستحبّان، ويا حبّذا أن يُؤتى بهما في الصلاة كذلك، لا باعتبارهما جزءاً من الصلاة، بل لمحبوبيّتهما النفسية، وهذا ما التزم بهرحمه‌الله في قوله فيالروضة : (ولو فعل هذه الزيادة، أو إحداها بنيّة أنّها منه أثم في اعتقاده، ولا يبطل الأذان بفعله، وبدون اعتقاده لا حرج).

على أننا لا يمكن أن نغفل احتمال كون الشهيد الثاني قد قالها انسياقاً مع مجريات الأحداث الّتي أدّت إلى شهادته، أو أنّه قالها لوحدة الكلمة بين المسلمين، أو أنّه عنى الذين قالوها على نحو الجزئية، لكنّ المتيقّن حسبما جزم به نفسه هو أنّه لا حرج من قولها بدون اعتقاد.

١٠ - المولى أحمد الأردبيلي (ت ٩٩٣ هـ)

وهكذا هو الحال بالنسبة إلى نصّ المقدّس الأردبيلي الآتي، فإنّ الأردبيلي لم يحكم بحرمة الإتيان بها إذا جيء بها من باب المحبوبيّة الذاتية، بل أشاررحمه‌الله إلى

٣٥٦

قضية موضوعية يجب أخذها بنظر الاعتبار مع الموافق والمخالف، فإنهرحمه‌الله وبعد أن نقل كلام الصدوق فيالفقيه قال:

 فينبغي اتّباعه لأنّه الحقّ [أي كلام الصدوق حقّ]، ولهذا يُشَنَّع على الثاني بالتغيير في الأذان الذي كان في زمانهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا ينبغي ارتكاب مثله مع التشنيع عليه. ولا يتوهّم عن المنع الصلاة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه، لظهور خروجه منه وعموم الأخبار الدالّة بالصلاة عليه مع سماع ذكره، ولخصوص الخبر الصحيح المنقول في هذا الكتاب عن زرارة الثقة: وصَلِّ على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما ذكرته، أو ذكره ذاكر عنده في أذان أو غيره، ومثله فيالكافي في الحسن (لإبراهيم) كما مر(١) .

فالمقدّس الأردبيلي لا يتعامل مع الشهادة الثالثة كما تعامل مع مسالة (الصلاة خير من النوم)، حيث قال في الأخيرة:والعمدة أنّه تشريع، وتغيير للأذان المنقول، وزيادة بدل ما هو ثابت شرعاً، فيكون حراماً، ولو قيل من غير اعتقاد ذلك، بل مجرّد الكلام، فلا يبعد كونه غير حرام (٢) .

ولا ريب في أنّ كلمة المقدّس الأردبيلي تصبّ في مجرى ما استظهرناه عن الشهيدين الأوّل والثاني (رحمهما الله تعالى) علاوة على الشيخ الطوسي، فالتشنيع منه يدور مدار القول بالجزئية، وفيما عدا ذلك لا تشنيع، فالمقدّس الأردبيلي صرّح في خصوص التثويب بقوله:(ولو قيل من غير اعتقاد الجزئية، بل بمجرد

____________________

(١) مجمع الفائدة ٢: ١٨١ - ١٨٢.

(٢) مجمع الفائدة ٢: ١٧٨.

٣٥٧

الكلام، فلا يبعد كونه غير حرام) وهو المقصود والمفتى به عند علمائنا قديماً وحديثاً.

فلو كان هذا هو كلامهرحمه‌الله في التثويب فمن الطبيعي أن يجيز الإتيان بالشهادة الثالثة أو ما يقال في تفسير معنى الحيعلة الثالثة من باب أولى، لأن غالب الفقهاء يأتون بها من غير اعتقاد الجزئية، بل لمجرد أنّه كلام حق (فلا يبعد أن يكون غير حرام) حسب تعبير المقدس الأردبيلي.

القرن الحادي عشر الهجري

وفق تتبّعي ورصدي لأقوال الفقهاء في هذه المسألة لم أقف فيما بين يدي من التراث الفقهي لفقهائنا العظام في القرن العاشر الهجري على ما يدل على الشهادة بالولاية لعليّ في الأذان، وقد يعود ذلك إلى أنّ غالب الكتب المصنّفة في هذا القرن هي شروح على كتب لم يتطرّق أصحابها إلى هذه المسألة. وقد يعود إهمالهم لذكرها هو تجنب إثارة الحكومة العثمانية والتي كانت تسعى للحصول على أحجية لإثارة العامة ضد الشيعة.

فمثلاً الشيخ مفلح الصيمري البحراني هو من أعلام القرن التاسع والعاشر الهجريين لا نراه يشير إلى موضوع الشهادة بالولاية في كتابه(غاية المرام في شرح شرائع الإسلام) (١) . وكذلك في كتابه الآخر(تلخيص الخلاف) (٢) مع أنّه قد ذكر مضمون الأذان وما فيه من مسائل فقهية وخلافية.

ومثله المحقّق الكركي (ت ٩٤٠ هـ)، الذي لم يتعرّض لهذه المسألة في كتابه

____________________

(١) انظر غاية المرام في شرح الشرائع الإسلام ١: ١٣٩.

(٢) انظر تلخيص الخلاف ١: ٩٥.

 

٣٥٨

( جامع المقاصد في شرح القواعد) (١) ، و(حاشية المختصر النافع) (٢) ، و(حاشية شرائع الإسلام) (٣) ، و(حاشية إرشاد الأذهان) (٤) .

ونحو ذلك السيّد محمد بن علي الموسوي العاملي (ت ١٠٠٩ هـ) في(مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام) (٥) وغيرهم من فقهاء القرن العاشر الهجري.

لكنّ هذا لا يشير إلى أنّ موضوع الشهادة بالولاية في الأذان لم يكن منتشراً ورائجاً عند الشيعة آنذاك. إذ فيما حكاه المجلسيّ الأوّل ممّا دار بينه وبين أستاذه الملاّ عبدالله ما يؤكّد بأن هذه السيرة كانت منتشرة بأعلى صورها في ذلك العصر لأن شيوع أمر الشهادة أو أي أمر آخر لا يمكن أن يكون وليد ساعته، بل لابدّ أن تكون له جذور سابقة من القرون الماضية وهذا ما أكدنا ونؤكد عليه.

قال المجلسيّ الأوّل ما ترجمته:

 وبناءً على هذا، فالقولُ بأنّ هذه الأخبار موضوعة أمرٌ مشكل، إلاّ أن يَرِدَ ذلك عن أحد المعصومين عليهم‌السلام ، وإذا قال بها بعنوان التيمّن والتبرّك فلا بأس به، وإن لم يقلها كان أَفْضَلَ [حتى لا يتوهّم فيها الجزئية] إلاّ أن يخاف من عدم ذكرها، لأنّ الشائع في أكثر البلدان [ذكرها]، وقد سمعتُ كثيراً أنّ من تركها قد اتُّهِمَ بأنّه من العامّة (٦) .

وأمّا القرن الحادي عشر الهجري، فقد عاش فيه فقهاء وحكماء ومتكلّمون كُثُرٌ، فمن كبار الفقهاء والمحدّثين الذين عاشوا في هذا العصر

____________________

(١) جامع المقاصد ٢: ١٨١.

(٢) حاشية المختصر النافع: ١٤٥، المطبوع ضمن (حياة المحقق الكركي وأثاره ج ٧).

(٣) حاشية شرائع الإسلام: ١٤٣، المطبوع ضمن (حياة المحقق الكركي وأثاره ج ١٠).

(٤) حاشية إرشاد الأذهان: ٧٩، المطبوع ضمن (حياة المحقق الكركي وأثاره ج ٩).

(٥) مدارك الأحكام ٣: ٢٥٤ - ٣٠٤.

(٦) لوامع صاحبقراني: ٥٦٦.

 

٣٥٩

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي (ابن الشهيد الثاني) (ت ١٠١١ هـ) صاحب(منتقى الجمان) (١) ، وابنه الشيخ محمد بن الحسن (ت ١٠٣٠ هـ) صاحب(استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار) (٢) ، والشيخ البهائي (ت ١٠٣١ هـ) صاحب المصنفات المتعدّدة والكثيرة، منها:(الحبل المتين) (٣) ، و(الإثنا عشرية) (٤) ، و(الجامع العباسي) (٥) ، و(مفتاح الفلاح) (٦) وغيرها، فإنّ هؤلاء الأعاظم لم يتعرّضوا إلى الشهادة بالولاية في كتبهم السابقة رغم أنّهم تعرّضوا إلى الأذان والإقامة وفصولهما وأحكامهما.

لكنّ هناك فقهاء آخرين، كالشيخ محمد تقي المجلسيّ (ت ١٠٧٠ه)، والمحقّق السبزواري (ت ١٠٩٠ هـ)، والفيض الكاشاني (ت ١٠٩١ هـ)، قد أشاروا إلى موضوع الشهادة بالولاية في الأذان ضمن ما كتبوه، بفارق أنّ التقيّ المجلسي قال بعدم إثم فاعلها من دون قصد الجزئية، وقد يكون بنظره أنّها شرعت واقعاً وتركت تقية، والمحقق السبزواري والفيض الكاشاني كانا مخالِفَين في الإتيان بها، وإليك الآن قول المولى محمد تقي المجلسي.

١١ - الشيخ محمد تقي المجلسي (ت ١٠٧٠ هـ)

قال المولى محمد تقي المجلسي في(روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه) معلّقاً على كلام الصدوق:

____________________

(١) منتقى الجمان ١: ٥٠٢.

(٢) استقصاء الاعتبار ٥: ٣٦ - ٨٤.

(٣) انظر الحبل المتين ٢: ٢٦٣ - ٣٠٢.

(٤) انظر الاثنا عشرية: ٣٨ / الفصل الرابع الأفعال اللسانية المستحبة.

(٥) الجامع العباسي: ٣٥.

(٦) انظر مفتاح الفلاح: ١١٢، صورة الأذان.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

ذلك فيما يرويه المؤرخون أن معاوية أراد عزله عن الكوفة فبلغه ذلك ، فرأى أن يسافر الى دمشق ويبادر بتقديم استقالته عن منصبه حتى لا تكون عليه حزازة ، وليرى الناس أنه كاره للإمارة والحكم ، ولما وصل الى دمشق عنّ له أن يلتقي بيزيد قبل التقائه بمعاوية فيحبذ له الخلافة من بعد أبيه ليتخذ من اغرائه وسيلة الى اقراره فى الحكم ، كما أدلى بذلك لأصحابه ولما التقى بيزيد قال له :

« إنه قد ذهب أعيان أصحاب محمد (ص) وكبراء قريش وذوو أسنانهم ، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم ، وأحسنهم رأيا ، وأعلمهم بالسنة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟. »

ولما سمع ذلك يزيد الطائش المغرور طار لبه فرحا وسرورا فانبرى إليه قائلا :

« أو ترى ذلك يتم؟ »

« نعم ».

ومضى يزيد مستعجلا الى أبيه فأخبره بمقالة المغيرة ، فارتاح معاوية بذلك وبعث بالوقت خلفه فعرض عليه مقالته ليزيد فأجابه بصدور ذلك منه ثم انبرى إليه يحفزه على تحقيق هذه الفكرة قائلا له مقال المنافق الذي لا يعرف الخير ولا يفكر به :

« يا أمير المؤمنين ، قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان. وفي يزيد منك خلف فاعقد له ، فان حدث بك حدث كان كهفا للناس وخلفا منك ، ولا تسفك دماء ، ولا تكون فتنة!! »

وأصابت هذه الكلمات الهدف المقصود لمعاوية فقال له مخادعا ومستشيرا :

« ومن لي بهذا؟ »

٤٢١

« أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. »

فاستحسن معاوية رأيه ، وأجازه على ذلك فأقره فى عمله ، ثم أمره بالخروج الى الكوفة ليعمل على تحقيق ذلك ، ولما انصرف عنه اجتمع بقومه فبادروه بالسؤال عن مصيره فأجابهم بما جلبه من البلاء والفتن لعموم المسلمين من أجل غايته قائلا :

« لقد وضعت رجل معاوية فى غرز بعيد الغاية على أمة محمد (ص) وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا » وتمثل :

بمثلي شاهد النجوى وغالى

بي الأعداء والخصم الغضابا

وسار المغيرة حتى انتهى الى الكوفة ، ففاوض بمهمته جماعة ممن عرفهم بالولاء والإخلاص للبيت الأموي فأجابوه الى ما أراد فأوفد منهم عشرة الى معاوية بعد أن أرشاهم بثلاثين ألف درهم ، وجعل عليهم عميدا ولده موسى ، فلما انتهوا الى معاوية حبذوا له الأمر ودعوه الى انجازه فشكرهم معاوية ، وأوصاهم بكتمان الأمر ، ثم التفت الى ابن المغيرة فساره قائلا :

« بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ »

ـ بثلاثين ألف درهم.

فضحك معاوية وقال :

« لقد هان عليهم دينهم »(1) .

لقد توصل معاوية الى تحقيق ذلك بشراء الأديان والضمائر والى الاعتماد

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 169 ، الكامل لابن الأثير 3 / 214 ، وكان قدوم المغيرة على معاوية في سنة 45 ، ففي هذه السنة عمل معاوية مقدمات البيعة لولده.

٤٢٢

على الوسائل التي لم يألفها المسلمون ، ولم يقرها الدين.

وفود الأمصار :

ووجه معاوية دعوة رسمية الى جميع الشخصيات الرفيعة فى العالم الإسلامى يدعوهم الى الحضور في دمشق ليفاوضهم في أمر البيعة ليزيد ، فلما حضروا عنده دعا الضحاك بن قيس الفهري سرّا وقال له :

« إذا جلست على المنبر ، وفرغت من بعض موعظتي وكلامى ، فاستاذني للقيام ، فاذا أذنت لك فاحمد الله تعالى ، واذكر يزيد وقل فيه الذي يحق له عليك ، من حسن الثناء عليه ، ثم ادعني الى توليته من بعدي فاني قد رأيت وأجمعت على توليته ، فاسأل الله في ذلك ، وفى غيره الخيرة وحسن القضاء ».

ثم دعا فريقا آخر من الأذناب والعملاء الذين هان عليهم دينهم فباعوه بأبخس الأثمان ، فأمرهم بتصديق مقالة الضحاك وتأييد فكرته ، وهم : عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، وعبد الله بن مسعدة الفزاري ، وثور بن معن السلمي ، وعبد الله بن عصام الأشعري ، فاستجابوا لدعوته ، ونزى معاوية على المنبر فحدث الناس بما شاء أن يتحدث به ، وبعد الفراغ من حديثه انبرى إليه الضحاك فاستأذنه بالكلام فأذن له ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : « أصلح الله أمير المؤمنين ، وأمتع به ، إنا قد بلونا الجماعة والألفة والاختلاف ، والفرقة ، فوجدناها ألمّ لشعثنا ، وأمنة لسبلنا ، وحاقنة لدمائنا وعائدة علينا فى عاجل ما نرجو ، وآجل ما نؤمل ، مع ما ترجو به الجماعة من الألفة ، ولا خير لنا أن نترك سدى ، والأيام عوج رواجع والله يقول : « كل يوم هو في شأن » ، ولسنا ندري ما يختلف به العصران ، وأنت

٤٢٣

يا أمير المؤمنين ميت كما مات من كان قبلك من أنبياء الله وخلفائه ، نسأل الله بك المتاع ، وقد رأينا من دعة يزيد بن أمير المؤمنين ، وحسن مذهبه وقصد سيرته ، ويمن نقيبته ، مع ما قسم الله له من المحبة في المسلمين ، والشبه بأمير المؤمنين ، في عقله ، وسياسته وشيمته المرضية ، ما دعانا الى الرضا به في امورنا ، والقنوع به في الولاية علينا ، فليوله أمير المؤمنين ـ أكرمه الله ـ عهده ، وليجعله لنا ملجأ ومفزعا بعده ، نأوي إليه إن كان كون ، فانه ليس أحد أحق بها منه ، فاعزم على ذلك عزم الله لك في رشدك ، ووفقك في امورنا ».

ودل هذا الكلام على أن صاحبه رجل سوء ونفاق ، فقد عمد الى سحق جميع القيم الإنسانية في سبيل أطماعه ومنافعه.

ولما فرغ الضحاك من مقالته انبرى من بعده زملاؤه فأيدوا مقالته ، وأخذوا ينسبون ليزيد فضائل المحسنين ، ويضفون عليه مواهب العبقريين ، ويطلقون عليه الألقاب الضخمة ، والنعوت الشريفة التي اتصف بعكسها ، وأخذوا يموهون على المجتمع أنهم إنما تكلموا من صالحه واسعاده ، وهم ـ يعلم الله ـ إنما أرادوا هلاكه وتحطيمه ، والقضاء على نواميسه ومقدساته وبعد ما انتهى حديث هؤلاء التفت معاوية الى الوفد العراقي ليسمع رأيه وكان شخصية الوفد الأحنف بن قيس حليم العرب وسيد تميم فطلب منه معاوية الرأي فى الأمر ، فقام الأحنف خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم التفت الى معاوية قائلا :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان الناس قد أمسوا فى منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد بن أمير المؤمنين ، نعم الخلف وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين فاعرف من تسند إليه الأمر من

٤٢٤

بعدك ، ثم اعص أمر من يأمرك ، لا يغررك من يشير عليك ، ولا ينظر لك وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا » :

لقد منح الأحنف النصيحة الى معاوية وأرشده الى الحق فأشار عليه بعدم سماع أقوال المرتزقين الذين ينظرون الى صالح أنفسهم أكثر مما ينظرون لصالحه ، وبيّن له أن العراقيين والحجازيين لا يرضون بهذه البيعة ما دام حفيد الرسول وسبطه الأول حيا ، وقد اثارت هذه الكلمات غضب النفعيين والمرتشين الذين تذرع معاوية بهم الى تحقيق هدفه فقام إليه الضحاك بن قيس فندد بمقالته وشتم العراقيين وهذا نص كلامه :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، إن أهل النفاق من أهل العراق مروءتهم في أنفسهم الشقاق ، والفتهم في دينهم الفراق ، يرون الحق على أهوائهم كأنما ينظرون بأقفائهم ، اختالوا جهلا وبطرا ، لا يرقبون من الله راقبة ، ولا يخافون وبال عاقبة ، اتخذوا ابليس لهم ربا ، واتخذهم ابليس حزبا ، فمن يقاربوه لا يسروه ، ومن يفارقوه لا يضروه ، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين فى نحورهم ، وكلامهم في صدورهم ، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة ، ولا يحجب غير الذكر العصبة ، فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم ، وكاتب نبيكم وصهره ، يسلم لكم العاجل ، وتربحوا من الآجل ».

ولم نحسب أن العراق قد ذم بمثل هذا الذم الفظيع ، أو وصم بمثل هذه الامور ، ولكن العراقيين هم الذين جروا لأنفسهم هذا البلاء وتركوا هذا الوغد وأمثاله يحط من كرامتهم ، ويتطاول عليهم.

٤٢٥

وعلى أي حال ، فان الأحنف لم يذعن لمعاوية ولم يعتن بمقالة الضحاك فقد انبرى يهدد معاوية باعلان الحرب إن أصرّ على تنفيذ فكرته قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، إنا قد فررنا(1) عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا ، وأشدها عقدا ، وأوفاها عهدا ، قد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليها قعصا ، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك ، فان تف فأنت أهل الوفاء وإن تغدر تعلم ، والله إن وراء الحسن خيولا جيادا ، وأذرعا شدادا ، وسيوفا حدادا ، إن تدن له شبرا من غدر ، تجد وراءه باعا من نصر ، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما ، وما نزل عليهم فى ذلك غير من السماء ، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم ، وأيم الله إن الحسن لأحب لأهل العراق من علي ».

لقد بالغ الأحنف فى نصح معاوية ، وذكر له تمسك العراقيين بولاء أهل البيت (ع) وان اخلاصهم للإمام الحسن أكثر من أبيه ، وهم على استعداد الى مناجزته إن نفذ بيعة يزيد ، وانطلق عبد الرحمن بن عثمان فندد بمقالة الأحنف ، وحرض معاوية على تنجيز مهمته قائلا له :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان رأي الناس مختلف ، وكثير منهم منحرف ، لا يدعون أحدا الى رشاد ، ولا يجيبون داعيا الى سداد ، مجانبون لرأي الخلفاء ، مخالفون لهم في السنة والقضاء ، وقد وقفت ليزيد فى أحسن القضية وأرضاها لحمل الرعية ، فاذا خار الله لك فاعزم ثم اقطع قالة الكلام فان يزيد أعظمنا حلما وعلما ، وأوسعنا كنفا ، وخيرنا سلفا ، قد

__________________

(1) فررنا : أي بحثنا وفتشنا.

٤٢٦

أحكمته التجارب ، وقصدت به سبل المذاهب فلا يصرفنك عن بيعته صارف ، ولا يقفن بك دونها واقف ، ممن هو شاسع عاص ينوص للفتنة كل مناص لسانه ملتو ، وفي صدره داء دوّى ، إن قال فشر قائل ، وإن سكت فذو دغائل ، قد عرفت من هم أولئك وما هم عليه لك من المجانبة للتوفيق والكلف للتفريق فاجعل ببيعته عنا الغمة ، واجمع به شمل الأمّة ، فلا تحد عنه إذا هديت له ، ولا تنش عنه إذا وقفت له ، فان ذلك الرأي لنا ولك ، والحق علينا وعليك ، اسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك ».

وصورت لنا هذه الكلمات ضميرا قلقا ، ونفسا أثيمة ، قد اعتنقت الشر ، وابتعدت عن الخير ، وانبرى معاوية يهدد من لا يوافقه على رغبته ليفرض على المجتمع الخضوع لفكرته ، والرضا ببيعة يزيد قائلا :

« أيها الناس : إن لإبليس إخوانا وخلاّنا ، بهم يستعد ، وإياهم يستعين ، وعلى ألسنتهم ينطق ، إن رجوا طمعا أو جفوا ، وإن استغنى عنهم أرجفوا ، ثم يلحقون الفتن بالفجور ، ويشققون لها حطب النفاق ، عيابون مرتابون ، إن ولوا عروة أمر حنقوا ، وإن دعوا الى غي أسرفوا وليسوا أولئك بمنتهين ، ولا بمقلعين ، ولا متعظين ، حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل ، وتحل بهم قوارع أمر جليل ، تجتث اصولهم كاجتثاث اصول الفقع(1) فأولى لأولئك ثم أولى ، فانا قد قدما وأنذرنا إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر ».

بمثل هذا الإرهاب الفظيع الذي لم يعهد له نظير تذرع معاوية الى تحقيق فكرته ، ثم استدعى الضحاك بن قيس فولاه الكوفة جزاء لكلامه

__________________

(1) الفقع : بالفتح والكسر ، البيضاء الرخوة من الكماة.

٤٢٧

بعد هلاك المغيرة ، واستدعى عبد الرحمن فولاه الجزيرة ، وقام يزيد بن المقفع رافعا عقيرته قائلا :

« أمير المؤمنين هذا ـ وأشار الى معاوية ـ ».

ثم قال : « فإن هلك ، فهذا ـ وأشار الى يزيد ـ ».

ثم قال : « فمن أبى ، فهذا ـ وأشار الى السيف ـ!!! »

فاستحسن معاوية كلامه وقال له :

« اجلس ، فأنت سيد الخطباء وأكرمهم!! »

بهذا اللون من الإرهاب فرض معاوية ابنه الفاسق الفاجر خليفة على المسلمين ، فلولا السيف لما وجد الى ذلك سبيلا. ولما رأى الأحنف بن قيس تصميم معاوية على فكرته وعدم تنازله عنها انبرى إليه قائلا :

« يا أمير المؤمنين : أنت أعلمنا بليله ونهاره ، وبسره وعلانيته ، فان كنت تعلم أنه خير لك فوله واستخلفه ، وإن كنت تعلم أنه شر لك ، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر الى الآخرة ، فانه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب ، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين وأنت تعلم من هما ، وإلى ما هما ، وإنما علينا أن نقول : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير »(1) .

ولم يعتن معاوية بمقالة الأحنف ونصحه ، ولم يفكر في مصير المسلمين إذا استخلف عليهم ولده قرين الفهود والمدمن على الخمور ، وأخذ معاوية ولده يزيد فأجلسه فى قبة حمراء وبايعه بولاية العهد وأمر الناس بمبايعته ، وأقبل بعض العملاء فسلم عليهما ثم أقبل على معاوية فقال له :

« يا أمير المؤمنين : اعلم انك لو لم تول هذا ـ وأشار الى يزيد ـ

__________________

(1) الامامة والسياسة 1 / 174 ـ 180.

٤٢٨

أمور المسلمين لاضعتها ».

فالتفت معاوية الى الأحنف :

« ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ »

ـ أخاف الله إذا كذبت ، وأخافكم إذا صدقت.

ـ جزاك الله على الطاعة خيرا.

وخرج الأحنف فلقيه ذلك الرجل بعد أن أجزل له معاوية بالعطاء فقال للأحنف معتذرا من مقالته :

« يا أبا بحر : إني لأعلم ان شر من خلق الله هذا وابنه ـ يعنى معاوية ويزيد ـ ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال ، فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت »(1) .

لقد أحدث معاوية بهذه البيعة المشومة صدعا في الإسلام ، وقد صور لنا الشاعر الموهوب عبد الله بن هشام السلولي بمقطوعته الرائعة جزعه وجزع خيار المسلمين من خلافة يزيد بقوله :

فان تأتوا برملة أو بهند

نبايعها أميرة مؤمنينا

إذا ما مات كسرى قام كسرى

نعد ثلاثة متناسقينا

فيا لهفا لو أن لنا ألوفا

ولكن لا نعود كما عنينا

إذا لضربتموا حتى تعودوا

بمكة تلعقون بها السخينا

خشينا الغيظ حتى لو شربنا

دماء بني أميّة ما روينا

لقد ضاعت رعيتكم وأنتم

تصيدون الأرانب غافلينا(2)

لقد ذعر المسلمون في جميع أقطار الأرض من هذا الحادث الخطير

__________________

(1) تاريخ ابن خلكان 1 / 230 ، التمدن الإسلامى 4 / 76 ـ 77.

(2) مروج الذهب 2 / 339.

٤٢٩

لأن الخلافة عندهم ليست كسروية ولا قيصرية حتى تورث بل أمرها شورى بين المسلمين يختارون لخلافتهم من أحبوا وذلك عند الجمهور من أبناء السنة والجماعة ، وأما عند الشيعة فإنها حق شرعي لأمير المؤمنين وأولاده الطيبين كما نصّ النبي (ص) على ذلك.

ومهما يكن من شيء فإن معاوية بعد ما أخذ البيعة ليزيد من أهل دمشق رفع مذكرة الى جميع عماله يطلب فيها أخذ البيعة ليزيد من جميع المواطنين ، واستجاب جميع عماله لذلك سوى مروان بن الحكم فإنه قد ورم أنفه لصرف الأمر عنه وهو شيخ الأمويين بعد معاوية ، وتوجّه فورا بحاشيته الى دمشق ، فلما مثل عند معاوية انبرى إليه وهو مغيظ قائلا :

« أقم الامور يا ابن أبي سفيان ، واعدل عن تأميرك الصبيان ، واعلم أن لك من قومك نظراء ، وأن لك على مناوءتهم وزراء ».

فاندفع إليه معاوية يخادعه قائلا له بناعم القول :

« أنت نظير أمير المؤمنين ، وعدته في كل شديدة ، وعضده ، والثاني بعد ولي عهده. »

ثم أعطاه ولاية العهد حيلة منه ومكرا وأخرجه من عاصمته مكرما فلما وصل الى يثرب عزله عن منصبه(1) وجعل مكانه سعيد بن العاص وقيل الوليد بن عاقبة ، وكتب إليه أن يأخذ البيعة من أهل المدينة لولده إلا انه فشل أخيرا فى أداء مهمته فقد أصرت الجماهير على رفض دعوة معاوية وعدم طاعته في شأن خليفته الجديد ، خصوصا الشخصيات الرفيعة من أبناء المهاجرين والأنصار فإنهم قد شجبوا ذلك وأعلنوا سخطهم وإنكارهم على معاوية ، فإنهم كانوا يحقرون يزيد ويأنفون أن يعد في مصافهم ،

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 330.

٤٣٠

فضلا عن أن يكون خليفة عليهم.

سفرة معاوية الاولى بشرب :

ورأى معاوية بعد امتناع المدنيين عن بيعة يزيد واجماعهم على رفضها أن ينطلق بنفسه الى المدينة ليفاوض أهل الحل والعقد ، وليشتري الذمم والضمائر بالأموال ، ويتوعد ويرهب من لم يخضع للمادة ليفوز ولده بالخلافة وسافر من أجل هذه الغاية الى يثرب وذلك سنة خمسين من الهجرة ، فلما انتهى إليها بعث فورا نحو عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير. فلما حضروا عنده أمر حاجبه أن لا يسمح لأحد بالدخول عليه حتى يخرج هؤلاء النفر من عنده ثم التفت إليهم قائلا :

« الحمد لله الذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فإني قد كبر سني ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أن أدعى فأجيب ، وقد رأيت أن أستخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا ، وأنتم عبادلة قريش وخيارهم ، وأبناء خيارهم ، ولم يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما علي ، على حسن رأيي فيهما ، وشديد محبتي لهما فردوا على أمير المؤمنين خيرا ، رحمكم الله ».

وقد احتوى كلامه على اللين والمدح والثناء ، ولكن هؤلاء الأبطال الذين هم نخبة العرب والمسلمين رأيا وإقداما ، لم يذعنوا لمعاوية وردوا عليه مقاله وعرفوه بمن هو أهل للخلافة وأول من تكلم منهم حبر الأمّة عبد الله

٤٣١

ابن عباس فقال :

« الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده ، واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وصلى الله على محمد وآل محمد.

أما بعد : فانك قد تكلمات فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإن الله جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه اختار محمدا (ص) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرف به ، وأولاهم بالأمر أخصهم به ، وإنما على الأمّة التسليم لنبيها ، إذا اختاره الله لها ، فإنه إنما اختار محمدا (ص) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم ».

وتكلم من بعده عبد الله بن جعفر فقال :

« الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه : نحمده على إلهامنا حمده ، ونرغب إليه في تأدية حقه ، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله (ص).

أما بعد : فان هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن ، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أخذ فيها بسنة رسول الله (ص) فأولو رسول الله (ص) ، وإن أخذ فيها بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وأيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه وصدقه ، ولأطيع الرحمن وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأمّة سيفان ، فاتق الله يا معاوية ، فانك قد صرت راعيا ، ونحن رعية ، فانظر لرعيتك ، فانك مسئول عنها غدا ، وأما ما ذكرت من ابني عمي ، وتركك أن تحضرهما ، فو الله ما أصبت الحق ، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما ، وإنك لتعلم انهما معدن العلم

٤٣٢

والكرم ، فقل أودع واستغفر الله لي ولكم ».

وبيّن عبد الله بن جعفر استحقاق أهل البيت (ع) للخلافة على جميع الوجوه فان كان مدرك استحقاقها القرآن الكريم فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ، وإن كانت السنة المقدسة قال الرسول أولى بالأمر من غيرهم ، وإن كانت سنة الشيخين قال الرسول (ص) أولى بالأمر وذلك لمواهبهم وكمالهم وتقدمهم على غيرهم بالعلم والفضل ، ثم بيّن الأضرار الناجمة من ترك الأمّة لهم وعدم اتباعهم ، وانبرى من بعده عبد الله بن الزبير فقال :

« الحمد لله الذي عرفنا دينه ، وأكرمنا برسوله ، أحمده على ما أبلى وأولى ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فان هذه الخلافة لقريش خاصة ، تتناولها بمآثرها السنية وأفعالها المرضية ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتق الله يا معاوية وأنصف نفسك ، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله (ص) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عم رسول الله (ص) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله ، وعلي خلف حسنا وحسينا وأنت تعلم من هما ، وما هما ، فاتق الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك ».

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وحفزهم لمعارضة معاوية وإفساد مهمته ، وانبرى من بعده عبد الله بن عمر فقال :

« الحمد لله الذي أكرمنا بدينه ، وشرفنا بنبيه (ص).

أما بعد : فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ، ولا قيصرية ، ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فو الله ما أدخلنى مع الستة من أصحاب الشورى إلا على أن الخلافة ليست

٤٣٣

شرطا مشروطا ، وإنما هي في قريش خاصة ، لمن كان لها أهلا ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ممن كان أتقى وأرضى ، فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها ، واعلم انه لا يغني عنك من الله شيئا ».

لقد شجب ابن عمر بيعة يزيد ولكنه لم يلبث أن سمع وأطاع وبايع له لأن معاوية قد أرشاه بمائة ألف دينار(1) وبذلك فقد باع عليه ضميره ودينه.

ومهما يكن من شيء فان معاوية قد ثقل عليه كلام هؤلاء النفر فلقد جابهوه بعدم صلاحية ابنه للخلافة ، وانهم أولى بها منه ، وانبرى إليهم مجيبا :

« قد قلت وقلتم ، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحب إلي من أبنائهم ، مع ان ابني إن قاولتموه وجد مقالا ، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله (ص) فلما مضى رسول الله ولىّ الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك والخلافة ، غير أنهما سارا بسيرة جميلة ثم رجع الملك الى بني عبد مناف فلا يزال فيهم الى يوم القيامة وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها ، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله ».

وعلى أي حال فقد فشل معاوية فى مهمته ونزح عن يثرب وولى الى عاصمته ، وأعرض عن ذكر بيعة يزيد(2) فلقد عرف انها لا تتم ما دام الحسن حيا ، فأخذ يطيل التفكير في كيفية اغتيال الإمام حتى يتم له الأمر وقد توصل الى ما أراد ، فاغتاله بالسم كما سنبينه عند نهاية المطاف من هذا الكتاب.

__________________

(1) سنن البيهقي 8 / 159 ، تأريخ ابن كثير 8 / 137 ، فتح الباري 13 / 59.

(2) الامامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

٤٣٤

لقد اتخذ معاوية بعد اغتياله للإمام جميع التدابير ، واعتمد على جميع الوسائل فى ارغام المسلمين على بيعة يزيد ، وفرضه حاكما عليهم ، وقد راسل الوجوه من أبناء المهاجرين والأنصار يدعوهم الى ذلك ، وذكر المؤرخون نصوص رسائله مع أجوبتهم له ، وقد كتب الى الإمام الحسينعليه‌السلام ما نصه :

« أما بعد : فقد انتهت إلي منك امور ، لم أكن أظنك بها رغبة عنها ، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك ، في خطرك وشرفك ، ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، فلا تنازع الى قطيعتك ، واتق الله ، ولا تردن هذه الأمّة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأمّة محمد ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون »

وأجابه أبو الشهداء (ع) فذكر له الاحداث الجسام التي ارتكبها وعرض عليه ما مني به المسلمون من الظلم والجور فى دوره ، وقد استشهدنا ببعض فصوله للاستدلال به على شجب الإمام الحسين (ع) لموبقات معاوية وقد جاء فى آخر جوابه ما لفظه :

« وقلت فيما قلت : لا ترد هذه الأمّة في فتنة. وإني لا أعلم فتنة لها أعظم من امارتك عليها.

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ، ولأمّة محمد ، وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك ، فإن أفعل فإنه قربة الى ربي ، وإن لم أفعل فأستغفر الله لذنبي وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى.

وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، فكدني يا معاوية فيما بدا لك فلعمري لقديما يكاد الصالحون ، وإني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، فكدني ما بدا لك.

٤٣٥

واتق الله يا معاوية ، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها! واعلم أن الله ليس بناس لك ، قتلك بالظنة ، وأخذك بالتهمة وامارتك صبيا يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب!! ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية والسلام. »(1)

ولم يجد مع ابن هند النصح ، ولا التحذير من عقوبة الله ، فقد راح يعمل بوحي من جاهليته الى ضرب الإسلام ، والى ارغام المسلمين على مبايعة يزيد المستحل لجميع ما حرم الله.

سفره الثاني الى يثرب :

ولما رأى معاوية أن خيار الصحابة ، وأبناء المهاجرين والأنصار لم يستجيبوا لدعوته ، وأصروا على رفض بيعة يزيد سافر مرة أخرى الى يثرب ، وقد أحاط نفسه بالقوى العسكرية ليرغم الجبهة المعارضة على الاستجابة له ، وفي اليوم الثاني من قدومه أرسل الى الإمام الحسين ، والى عبد الله بن عباس ، وسبق ابن عباس فأجلسه معاوية عن يساره وشاغله بالحديث حتى أقبل الحسين (ع) فأجلسه عن يمينه وسأله عن بني الحسن وعن أسنانهم فاخبره بذلك ، وخطب معاوية خطبة أشاد فيها بيزيد ، وذكر علمه بالقرآن والسنة ، وحسن سياسته ، ثم دعاهم الى بيعته والى الاستجابة لقوله.

خطبة الامام الحسين :

وقام أبي الضيم بعد خطاب معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 188 ـ 190.

٤٣٦

« أما بعد : يا معاوية ، فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول (ص) من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله (ص) من ايجاز الصفة ، والتنكب عن استبلاغ النعت ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السرج ، ولقد فضلت حتى أفرطت ، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب ، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش والحمام السبّق لأترابهن ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصرا.

ودع عنك ما تحاول!! فما أغناك أن تلقي الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فو الله ما برحت تقدح باطلا في جور ، وحنقا في ظلم ، حنى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثا ، ولقد لعمر الله أورثنا الرسول (ص) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فاذعن للحجة بذلك ، ورده الإيمان الى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك فهناك فاعتبروا يا اولي الأبصار.

٤٣٧

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (ص) وتأميره له ، وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمر الله يومئذ مبعثهم حتى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه أفعاله ، فقال (ص) : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول فى أوكد الأحكام ، وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعا ، وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد فى دينه وقرابته وتتخطاهم الى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي فى دنياه ، وتشقى بها في آخرتك ، إن هذا لهو الخسران المبين ، واستغفر الله لي ولكم. »

وذهل معاوية فنظر الى ابن عباس فقال له :

« ما هذا يا ابن عباس؟؟ »

« لعمر الله إنها لذرية الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهر ، قاله عما تريد ، فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين »(1) .

وانصرف الإمام (ع) وترك الأسى يحر في نفس معاوية ، واعتمد معاوية بعد ذلك على جميع وسائل العنف والإرهاب ، فقد روى المؤرخون أنه لما كان في مكة أحضر الإمام الحسين ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن ابن أبي بكر ، وابن عمر وقال لهم : إني أتقدم إليكم ، إنه قد أعذر من أنذر ، إني كنت أخطب فيكم ، فيقوم إليّ القائم منكم فيكذبني على رءوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح. وإني قائم بمقالة ، فأقسم بالله لئن ردّ عليّ

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٤٣٨

أحدكم كلمة فى مقامى هذا ، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه ، فلا يبقينّ رجل إلا على نفسه!

ودعا صاحب حرسه بحضورهم فقال له : أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف ، فان ذهب رجل يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما؟!

وخرج وخرجت الجماعة معه فنزى على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتز أمر دونهم ، ولا يقضى إلا عن مشورتهم ، وانهم قد رضوا وبايعوا يزيد ، فبايعوا على اسم الله »(1) .

وبهذه الوسائل الرهيبة ، والكذب السافر حمل معاوية المسلمين على بيعة يزيد وقد انتهك بذلك الحرمات ، والقى المسلمين فى الفتن والبلاء.

عائشة وبيعة يزيد :

ولم تعارض عائشة هذه البيعة المشومة ، ولم تعمل أي عمل إيجابي ضد هذه الكارثة الكبرى التي روع بها المسلمون ، وانتهكت بها حرمة الإسلام ، فقد كانت تدلي بالرأي لمعاوية في حمل المعارضين على الطاعة فقد أوصته بالرفق بهم ، واللين معهم ليستجيبوا له قائلة :

« وارفق بهم ـ أي بالمعارضين ـ فإنهم يصيرون الى ما تحب إن شاء الله!! »(2)

__________________

(1) الكامل لابن الأثير وغيره.

(2) الإمامة والسياسة.

٤٣٩

لقد وقفت عائشة هذا الموقف المؤسف من بيعة يزيد الماجن الخليع وهي من دون شك تعلم بفسقه ، وبلعبه بالفهود والقرود ، واستباحته لما حرم الله ، إن الفكر ليقف حائرا أمام موقفها هذا ، وموقفها من بيعة أمير المؤمنين (ع) الذي هو أخو النبي وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، فإنها لما أخبرت ببيعته انهارت أعصابها ، وهتفت وهي حانقة مغيظة ، وبصرها يشير الى السماء ثم ينخفض فيشير الى الأرض قائلة :

« والله ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لابن أبي طالب!! »

وقفلت راجعة الى مكة تحفز الجماهير لحرب الإمام رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض ، فقادت الجيوش لمناجزته حتى أغرقت الأرض بالدماء ، وأشاعت الثكل والحزن والحداد بين المسلمين للإطاحة بحكمه.

وعلى أي حال ، فإن موقف عائشة من بيعة يزيد ، وتأييد ابن عمر وسائر القوى النفعية لها قد أخلد للمسلمين الفتن والمصاعب وجرّ لهم الويلات والخطوب ، فقد سارت الخلافة الإسلامية تنتقل بالوراثة الى الطلقاء وأبنائهم الذين لم يألوا جاهدا في الكيد للإسلام ، وفى نشر البغي والفساد في الأرض.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595