أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان10%

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 595

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان
  • البداية
  • السابق
  • 595 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156835 / تحميل: 12405
الحجم الحجم الحجم
أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

وكلُ نعيم لا محالة زائلُ

قال عثمان : كذبت ، نعيمُ الجنة لا يزول فاستثقل « لبيد » تكذيب عثمان وتحدّيه له في ذلك الجمع فقال : يا معشر قريش واللّه ما كان يؤذى جليسُكم ، فمتى حدث هذا فيكم؟؟

فقال رجلٌ مِن القوم : إنَّ هذا سفيه في سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا فلا تجدنَ في نفسكَ من قوله.

فردّ عليه « عثمان » حتّى تفاقم الأمر بينهما فقام إليه ذلك الرجلُ فلطم عينه فخضّرها ( واصابها ) ، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال : أما واللّه يا ابن أخي إن كانت عينُك عَمّا أصابها لغنيّة لقد كنت في ذمة منيعة ( وهو يريد أنك لو بقيت في ذمتي وجواري لما اصابك ما أصابك ).

فقال عثمان رادّاً عليه : بل واللّه إن عيني الصحيحة لفقيرةٌ إلى مِثل ما أصابَ اُختَها في اللّه ، واني لفي جوار من هو أعزُّ منكَ ، واقدرُ يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد : هلمّ يا ابنَ أخي إن شئت فعُد إلى جوارك ، فقال ابنُ مظعون : لا(١) .

وكانت هذه صورةٌ رائعةٌ من صور كثيرة لصمود المسلمين ، وتفانيهمْ في سبيل العقيدة ، وإصرارهم على النهج الّذي اختاروه ، ومواساة بعضهم لبعض في أشدّ فترة من فترات التاريخ الإسلامي.

وفدٌ مسيحيُّ لتقصّي الحقائق يدخل مكة :

قدمَ على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمكة عشرون رجلا من النصارى حين بلغهم خبرُه من الحبشة ، مبعوثين من قِبَل أساقفتها لتقصّي الحقائق بمكة ، والتعرف على الإسلام. فوجدوا رسول اللّه في المسجد ، فجلسوا إليه ، وكلّموه وسألوه عن مسائل ، ورجالٌ من قريش فيهم « أبو جهل » في أنديتهم حول الكعبة.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٧٠ و ٣٧١.

٤٦١

فلما فرغوا من مسألة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عما أرادوا دعاهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اللّه عز وجلّ وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم ، فكان لها من التأثير البالغ في نفوسهم بحيث عندما سمعوها فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وامنوا به وصدّقوه ، بعد ما عرفوا منه ما كان يوصَف في كتابهم ( الانجيل ) من أمره.

فلما قامُوا عنه ، ورأت قريش ما نتج عنه ذلك اللقاء استثقله « ابو جهل » فقال للنصارى الذين اسلموا معترضاً وموبّخاً : خيَّبكُمُ اللّه مِن ركب بعَثكُم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسُكم عنده حتّى فارقتُم دينكُم وصدَّقتموهُ بما قال ، ما نعلمُ ركباً أحمقَ مِنكُم.

فأجابه اولئك بقولهم : سلامٌ عليكم لا نُجاهِلكم ، لنا ما نحنُ عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيراً(١) .

وبذلك الكلام الرفيق الجميل ردّوا على فرعون مكة الّذي كان يبغي ـ كسحابة داكنة ـ حجب أشعة الشمس المشرقة ، وحالوا دون وقوع صدام.

قريش توفد إلى يهود يثرب للتحقيق :

لقد ايقظ وفدُ نصارى الحبشة إلى مكة وما نجم عن لقائهم برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشاً ودفعهم إلى تكوين وَفد يتألف من « النضر بن الحارث » و « عُقبة بن ابي معيط » وغيرهما وإرسالهم إلى أحبار يهود المدينة ليسألونهم عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه.

فقال أحبارُ اليهود لمبعوثي قريش : سَلوا محمَّداً عن ثلاث نأمركم بهنَّ ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسَل ، وان لم يفعل فالرجلُ متقوّلٌ ، فروا فيه رأيكم ، سلوه :

١ ـ عن فتية ذَهبوا في الدهر الأول ( يعنون بهم أصحاب الكهف ) ما كان

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٩٠ و ٣٩٣ وقد نزلت في هذا الشأن الآيات ٥٢ إلى ٥٥ من سورة القصص.

٤٦٢

من امرهم ، فانه قد كان لهم حديثٌ عجيبٌ.

٢ ـ وعن رجل طوّاف ( يعنون به ذا القرنين ) قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وخبرُه؟

٢ ـ وعن الروح ما هي؟

فاذا أخبركم بذلك فاتبعوهُ ، فانه نَبيّ ، وان لم يفعل ، فهو رَجُلٌ متقوِّلٌ فاصنَعوا في أمره ما بدا لكم.

فعادَ وفد قريش إلى « مكة » ولما قدموها قالوا لقريش ما سمعوه من أحبار اليهود.

فجاؤوا إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرحوا عليه الاسئلة الثلاثة السالفة. فقال رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انتظر في ذلك وحياً.(١)

ثم نزل الوحيُ يحملُ إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأجوبة المطلوبة على تلك الاسئلة.

وقد ورَدَ الجواب عن السؤال عن الروح في الآية ٨٥ من سورة الإسراء.

واُجيبَ على السؤالين الآخرين عن أصحاب « الكهف » وذي القرنين بتفصيل في سورة « الكهف » ضمن الآيات ٩ ـ ٢٨ والآيات ٧٣ ـ ٩٣.

وقدوردت تفصيلاتُ هذه الإجابات الّتي أجابَ بها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أسئلتهم في كتب التفسير.

ولابدَّ هنا من أن نُذكِّر القارئ الكريم بنقطة مفيدة وهي أنّ المراد من « الرّوح » في سؤال القوم ليس هو الرُّوح الإنسانية بل كان المراد هو جبرئيل الأمين ، ( بقرينة أنَّ المقترحين الاصليين لهذه الأسئلة : هم اليهود وكانوا يكرهون الروح الامين ، ويعادونه ) ، وهو أمرٌ مبحوثٌ في محلِّه من كتب التفسير.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٠٠ ـ ٣٠٢.

٤٦٣

٤٦٤

١٨

الأسلحةُ الصَديئة

والاساليب الفاشلة

نظّمْ أسياد قريش صفوفهم لمكافحة عقيدة التوحيد ، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين وأهله.

فقد حاولوا في بداية الأمر أن يُثنُوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المضيّ في مواصلة دعوته ، وذلك بتطميعه بالمال والجاه وماشابه ذلك ، ولكن لم يحصلوا من ذلك على شيء ، فقد خيّب ذلك الرجلُ المجاهدُ ظنونهم فيه ، وبدّد آمالهم في اثنائه عن هدفه بكلمته الخالدة المدوّية : « واللّه لو وَضعوا الشمس في يميني ، والقَمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما فعلتُ » وهو يعني ان تمليكه العالم كلَه لا يثنيه عن هدفه ولا يصرفه عن تحقيق ما نُدِبَ إليه وارسل به.

فعمدوا إلى سلاح آخر هو التهديد والأذى ، والتنكيل به وباصحابه وانصاره ، ولكنهم واجهوا صمودَه وصمود أنصاره واصحابه ، وثباتهم الّذي ادى إلى انتصار المؤمنين في هذا الميدان ، وخيبة المشركين وهزيمتهم.

وقد بَلَغ من ثبات المسلمين على الطريق أنهم أقدموا على مغادرة الوطن ، وترك الأهل والعيال ، والهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم إلى اللّه ، وسعياً وراء نشره وبثه في غير الجزيرة من الآفاق.

ولكن رغم إخفاق أسياد قريش المشركين في جميع هذه الجهات والميادين

٤٦٥

وعجزهم عن استئصال شجرة التوحيد الفتية ، وفشل جميع الأسلحة الّتي استخدموها للقضاء على الدين الجديد وأهله ، لم تنته محاولاتهم الإجهاضيّة بل عمدوا هذه المرّة إلى استخدام سلاح جديد حسبوه أمضى من سوابقه.

وهذا السلاح هو سلاحُ الدعاية ضدّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لانه صحيحٌ أن ايذاء وتعذيب جماعة المؤمنين في « مكة » تمنع غيرهم من سُكان « مكّة » من الإنضواء إلى الإسلام إلاّ ان الحجيج الذين كانوا يسافرون إلى مكة في الأشهر الحرُم وكانوا يلتقون رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جوّ من الأمن والطمأنينة خلال تلك المواسم كانوا يتأثَّرون بدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتزعزعُ اعتقادهم بالأوثان على الأقل ، ان لم يؤمنوا بدينه ، ولم يستجيبوا لدعوته ، ثم إنهم كانوا ينقلون رسالة الإسلام وانباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مواطنهم ، ومناطِقهم وكان ينتشر بذلك اسم رسول اللّه ، وأنباء دينه في شتّى مناطق الجزيرة العربية ، وكان هذا هو بنفسه ضربة قوية توجَّه إلى صرح الوثنية في مكة ، وعاملا قوياً في انتشار عقيدة التوحيد ، وسطوع أمره.

من هنا اتخذ سادةُ قريش اُسلوباً آخر ، قاصدين بذلك الحيلولة دون انتشار الإسلام ، واتساع رقعته ، وقطع علاقة المجتمع العربي به.

واليك فيما يأتي بيان تفاصيل هذا الاسلوب ، وهذه الخطة :

١ ـ الاتّهاماتُ الباطلة :

يمكن التعرف على شخصية أي واحد وتقييمها من خلال ما يرميه به اعداؤه من شتائم وسباب ، وما يكيلون له من اتهامات ونسب ، فَإن العدو يسعى دائماً إلى أن يتهم خصمَه بنوع من أنواع التهم ليُضِلَّ الناس ، ويصرفهم عنه ، وليتمكن بما يحوكُه حوله من أراجيف وأباطيل الحط من شأنه في المجتمع واسقاطه من الانظار والأعين.

ان العدوّ الذكيّ يسعى دائماً إلى أن ينسب إلى منافسه ما يُصدِّقه ولو فئة خاصة من الناس على الاقل ، ويوجبُ شكَّهم في صدقه ، ويتجنب تلك النِسَب

٤٦٦

التي لا تصدَّق في شأنه ، ولا تناسبُ اخلاقه وافعاله المعروفة عنه ، ولا تمسه بشكل من الأشكال ، لأنه سوف لا يَجني في هذه الحالة إلا عكسَ ما يقصد ، وخلاف ما يريد.

ومن هنا يستطيع المؤرخُ المحققُ أن يتعرف على الشخصية الواقعية لمن يدرسه ، وعلى مكانته الإجتماعية ، وأخلاقه وسجاياه ولو من خلال ما ينسبُه الأعداء إليه ، وما يكيلون له من أكاذيب وإفتراءات ، ونسب باطلة واتهامات ، لأنّ العدوّ الّذي لا يخاف أحداً لا يقصّرُ في كيل كلِّ تهمة تنفعُهُ وتخدمُ غرضَه إلى الطرف الآخر ، ويستخدم هذا السلاح ( أي سلاح الدعاية ) ما استطاع ، وما ساعدته معرفُته بالظروف ، ودرايته بالفَرص.

فاذا لم ينسَب إليه أيُّ شيء من تلك النسب الباطلة فان ذلك إنما هو لأجل طهارة جيبه ، ونقاء صفحته ، وتنزُّه شخصيته عن تلك النسب ، ولأنّ المجتمع لم يكن ليعبأ بها ولم يصدّقها في شأنه.

ولو أننا تصفّحنا اوراق التاريخ الإسلامي لرأينا أن قريشاً مع ما كانت تكنُّ من عداء ، وتحِملُ من حِقد على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت تسعى بكل جهدها أن تهدم صرح الإسلام الجديد الظهور ، وأن تحطّ من شأن مؤسسه وبانيه لم تستطع مع ذلك أن تستفيد من هذا السلاح ، وتستخدمه كاملا.

فقد كانت تفكّر في نفسها : ماذا تقول في حق رسول اللّه؟ وماذا ترى تنسب إليه؟؟

هل تتهمه بالخيانة المالية وها هم جماعة منهم قد ائتمنوه على أموالهم؟!(١) كما أن حياته الشريفة طوال الاربعين سنة الماضية جسدت امانته امام الجميع ، فهو الامين بلا منازع؟

هل تتهمه بالجري والانسياق وراء الشهوة واللّذة؟ وكيف تقول في حقه مثل هذا الكلام مع أنه بدأ حياته الشبابية بالتزويج بزوجة كبيرة السنّ إلى درجة

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٦٢.

٤٦٧

مّا ، وبقي معها حتّى لحظة انعقاد هذه الشورى في « دار الندوة » بهدف الدعاية ضدَه ، ولم يُعهَد منه زلّة قدم في هذا السبيل قط؟!

وبالتالي بماذا تتهم محمَّداً الصادق الأمين ، الطاهر العفيف ، وأية تهمة ترى يمكن أن تُصدَّق في حقه ، أو يحتمل الناس صدقها في شأنه ولو بنسبة واحد في المائة؟

لقد تحيَّر سادة « دار الندوة » وأقطابها في كيفية استخدام هذا السلاح ، سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرَّروا في نهاية الأمر أن يطرحوا هذا الأمر على صنديد من صناديد قريش ويطلبوا رأيه فيه ، وهو « الوليد بن المُغيرة » وكان ذا سنّ فيهم ، ومكانة ، فقال لهم :

يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم وان وفود العرب ستقدَم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذّبُ بعضكم بعضاً ، ويردُ قولُكم بعضُه بعضاً.

قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.

قال : بل أنتم قولوا أسمَع.

قالوا : نقول كاهن.

قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكُهّانَ فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.

قالوا : فنقول : مجنون.

قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته.

قالوا : فنقول : ساحر.

فقال : ما هو بساحر لقد رأينا السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.

وهكذا تحيَّروا في ما ينسبون إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأخيراً اتفقوا على أن يقولوا : أنه ساحر جاء بقول هو سِحرٌ يفرق به بين المرء وابيه وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته.

ويدلُّ عليه ما أوجده من الخلاف والإنشقاق والتفرُّق بين أهل مكة الَّذين

٤٦٨

كان يضرب بهم المثل في الوحدة والاتفاق(١) .

وقد ذكر المفسِّرون في تفسير سورة « المدثر » هذه القصة بنحو آخر فقالوا : لمّا اُنزل على رسول اللّه « حم تنزيلُ الْكِتاب ) قام إلى المسجد و « الوليد بن المغيرة » قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبيُصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستماعه لقراءته ، أعاد قراءة الآية ، فتركت الآية في نفس الوليد تأثيراً شديداً فانطلق إلى منزله ، ولم يخرج منه أيّاماً ، فسخرت منه قريشٌ وقالت : صبأ ـ واللّه ـ الوليدُ ثم مشى رجال من قريش إليه وسألوه رأيه في قرآن محمَّد ، واقترح كل واحد منهم أمراً ، ولكنه رد عليها بالنفي جميعاً فقالت قريش إذن ما هو؟ فتفكر « الوليد » في نفسه ثم قال : ما هو إلاّ ساحرٌ أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله ، ووُلده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر(٢) .

ويرى المفسرون أن الآيات التالية في شأنه إذ يقول اللّه تعالى : «ذَرْني وَمَنْ خَلقْتُ وَحيداً. وَجَعلْتُ لَهُ مالا مَمدُوداً. وَبَنينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تمهيداً. ثُمّ يَطْمَعُ أنْ أزيدَ. كَلا انّه كانَ لآياتِنا عَنيداً. سارْهقُهُ صَعُوداً. إنّه فكَّرَ وَقدّر. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ. ثُمَّ نَظرَ. ثُمَّ عَبسَ وَبَسرَ. ثُمَّ أَدْبَر وَاْستَكْبَرَ. فَقالَ إنْ هذا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَر ... ( إلى قوله : )فَما لَهُمْ عِنَ التَذكِرَة مُعْرضيْن. كأَنَّهُمْ حُمُرٌ مستنفِرة فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة »(٣) .

* * *

الإصرار في نسبة الجنون إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يعتبر إتصاف النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتهاره بين الناس بالصدق والامانة وغيرها من مكارم الأخلاق منذ شبابه من مسلَّمات التاريخ.

وهو بالتالي أمرٌ اعترف به حتّى أعداؤه الالدّاء ، فقد دانوا بفضله ، وأقرُّوا

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٧٠.

٢ ـ مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٣٨٦ و ٣٨٧.

٣ ـ المدثر : من ١١ ـ ٥١.

٤٦٩

بأخلاقه الكريمة وسجاياه النبيلة ، دون تلكؤ ، ولا إبطاء.

وقد كانَ من أوصافه الحسنة البارزة ان جميع الناس كانوا يدعونه « الصادق » « الامين » وكانوا يثقون بأمانته ثقة كبرى(١) حتّى أن المشركين كانوا يودعون ما غلى من أموالهم عنده ، واستمر هذا الأمر حتّى عشرة أعوام بعد دعوته العلنيّة.

وحيث أن دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ثقلت على المعاندين فاجتهدوا في أن يصرفوا عنه الناس بما ينسبون إليه من بعض النسب الّتي توجب سوء الظنّ به ، ومن ثم إفشال دعوته ، وحيث أنهم كانوا يعلمون أن النِسَبَ الاُخرى ممّا لا يقيم لها المشركون وزناً ، لأنها امور بسيطة في نظرهم ، من هنا رأوا بأن يتهمونه بالجنون ، والزعم بان ما يقوله ويقرؤه ما هو إلاّ من نسج الخيال ، ومن أثر الجنون الّذي لا يتنافى مع الزهد ، والأمانة ، وذلك تكذيباً لدعوته.

ثم عملت قريش على إشاعة هذه النسبة ، واتخذت وسائل عديدة وما كرة لترويجها وبثّها بين الناس.

ومن شدّة مكرهم ومراءاتهم أنّهم كانوا يتخذون موقف المتسائل المحايد فيطرحون هذه التهمة في قالب الشك ، والترديد إذ يقولون : «أفترى على اللّه كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ »(٢) .

وهذه هي بعينها الحيلةُ الشيطانية الّتي يتوسَّل بها ويتستر وراءها أعداء الحقيقة دائماً عند ما يريدون تكذيب المصلحين العظام ، واسقاط خطواتهم وافكارهم من الاعتبار ، والحطّ من شأنها وأهميتها.

ويشير القرآنُ أيضاً إلى انّ هذا الاسلوب الماكر الذميم لم يكن مختصاً بالمعارضين في عهد الرسالة المحمَّدية ، بل كان المعارضون في الأعصر الغابرة أيضاً يتوسلون بهذا السلاح لتكذيب الرسل ، والانبياء إذ يقول عنهم :

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٦٢ عن عبيداللّه بن ابي رافع : كانت قريش تدعو محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجاهلية الامين وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها ، وكذلك كلُ من كان يقدم مكة من العرب في الموسم ، وجاءته النبوة والرسالة والامر كذلك.

٢ ـ سبأ : ٨.

٤٧٠

«كَذلكَ مَا أتى الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتواصَوْا بِه بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ »(١) .

وتحدّث الاناجيلُ الحاضرة هي الاُخرى عن ان المسيحعليه‌السلام عندما وعظ اليهود قالوا : إنّ فيه شيطاناً ، فهو يهذي فلماذا تسمعون إليه؟!(٢) .

ومن المسلّم والبديهي أنَّ قريشاً لو كان في مقدورها أن تتهم رسولَ اللّه الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير هذا الاتهام وتنسب إليه غير هذه النسبة لما تأخرت عن ذلك ، ولكن حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشرقة خلال الاربعين سنة الماضية ، وسوابقه اللامعة في المجتمع المكيّ وغير المكي كانت تحول دون أن ينسبوا إليه شيئاً من تلك النسب القبيحة ، الذميمة.

لقد كانت « قريش » مستعدة لأن تستخدم أي شيء ـ مهما صغر ـ ضد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فمثلا عند ما وجده أعداء الرسالة يجلس إلى غلام مسيحيّ يدعى « جبر » عند المروة ، انطلقوا يستخدمون هذا الأمر ضدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوراً فقالوا : واللّه ما يُعلِّمُ محمَّداً كثيراً ممّا يأتي به الا « جبر » النصراني.

فردّ عليهم القرآن الكريمُ بقوله : «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّما يُعلِّمُه بَشَرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَميّ وَهذا لِسانٌ عَربيّ مُبِيْنٌ »(٣) .

«وَقَدْ جاءهُم رَسولٌ مُبينٌ ثُمَّ تَولُوا عَنهُ وَقالُوا معلَّمٌ مَجنُونٌ »(٤) .

القرآن يرد على جميع الاتهامات :

وربما نسبوا إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكهانة ، والكاهن هو من يتصل بعناصر من الجن(٥) أو الشياطين ويتلقى منهم اخباراً حول الماضي والمستقبل ،

__________________

١ ـ الذاريات : ٥٢ و ٥٣.

٢ ـ انجيل يوحنا : الفصل ١٠ ، الفقرة : ٢٠ ، والفصل ٧ ، الفقرة ٤٨ و ٥٢.

٣ ـ النحل : ١٠٣.

٤ ـ الدخان : ١٣ و ١٤.

٥ ـ الجن كائن من الكائنات ومخلوق من مخلوقات اللّه تعالى وقد اخبر به القرآن الكريم في مواضع عديدة كما سميت احدى السور باسم الجن.

٤٧١

وكان هذا موجوداً قبل الإسلام كما ترويه كتب السير والتواريخ(١) .

وقد رد القرآن الكريم على هذه المقالة وهذا الزعم إذ قال تعالى : «وَلا بِقَولْ كاهِن قَليلا ما تَذكَّرُونَ »(٢) كما ردّ ايضاً تهمة السحر ، والكذب والافتراء والشعر إذ قال تعالى وهو يصف المتهمين تارة بالكفر واُخرى بالظلم : «وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرونَ هذا سَاحِرٌ كَذّابٌ »(٣) .

وقال تعالى : «وَقالَ الظالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلا مَسْحُوراً »(٤) .

وقال سبحانه متعجباً مِنهم : «قالُوا إنَّما أنتَ مِنَ المُسحَّرينَ »(٥) .

وقال تعالى : «وَقالُوا يا أيُّها الَّذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِكْرُ إنَّكَ لَمجْنُونٌ »(٦) .

وقال سبحانه : «وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون »(٧) .

وقال عزّ وجلّ : «فَذكِّر فَما أَنْتَ بِنعْمةِ رَبّكَ بِكاهِن وَلا مَجْنُون »(٨) .

وقال تعالى : «قالُوا إنّما أنْتَ مُفْتَر بل أكثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ »(٩) .

وقال تعالى : «أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْر سُوَر مِثلِه »(١٠) .

وقال سبحانه : «وَقالَ الّذينَ كَفَرُوا إنْ هذا إلاّ إفكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَليْهِ قَومٌ آخرونَ فَقدْ جاءوا ظُلماً وَزُوراً »(١١) .

وقال سبحانه : «أفتَرى عَلى اللّه كَذِباً أمْ بِهِ جِنَّةٌ »(١٢) .

وقال تعالى : «أَم يَقُولُونَ شاعِرٌ نَترَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُون »(١٣) .

وقال تعالى : «وَما عَلَّمْناهُ الشَّعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقران مُبِيْن »(١٤) .

وربما وصفوا القرآن بانه اضغاث احلام فردهم سبحانه بقوله.

«بَلْ قالُوا أضغاثُ أحْلام بلِ افْتراهُ بَلْ هُوَ شاعرٌ »(١٥) .

__________________

١ ـ راجع : بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٣ ، ص ٢٦٩ باب علم الكهانة والعرافة.

٢ ـ الحاقة : ٤٢.

٣ ـ ص : ٤.

٤ ـ الفرقان : ٨.

٥ ـ الشعراء : ١٥٣.

٦ ـ الحجر : ٦.

٧ ـ التكوير : ٢٢.

٨ ـ الطور : ٢٩.

٩ ـ النحل : ١٠١.

١٠ ـ هود : ١٣.

١١ ـ الفرقان : ٤.

١٢ ـ سبأ : ٨.

١٣ ـ الطور : ٣٠.

١٤ ـ يس : ٦٩.

١٥ ـ الانبياء : ٥.

٤٧٢

وهكذا نجدهم ذهبوا في استخدام سلاح الاتهام والتشويش على الشخصية المحمَّدية والرسالة الإسلامية كل مذهب ، فمرة وصفوه بانه كاهن واُخرى بانه ساحر وثالثة بانه مسحور ، ورابعة بانه مجنون وخامسة بانه معلّم وسادسة بانه كذاب وسابعة بانه مفتري وثامنة بانه مفترى أو مجنون على سبيل الترديد وتاسعة بانه شاعر وعاشرة بان ما يقوله ما هو الاّ اضغاث احلام.

٢ ـ فكرةُ معارضة القرآن :

لم يُجدِ استخدام سلاح الإتهام ضد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفعاً ، ولم يأت بالثمار الّتي كان يتوخاها المشركون منه ، لأن الناس كانوا يُدركون بفطنتهم وفراستهم أن للقرآن جاذبيّة غريبة ، وأنهم لم يسمعوا كلاماً حلواً ، وحديثاً عذباً مثله.

ان لكلماته من العمق والعذوبة بحيث يتقبّلها كلُ قلب ، وتسكن اليها كل نفس.

من هنا لم ينفع اتهام قريش لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنون وبأنَّ ما يقوله إن هو الاّ من نسج الخيال ، ونتائج الجنون ، شيئاً ، فقررت أن تخطّط لتدبير آخر ظناً منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه ، وعن الاستماع إلى كتابه ، ألا وهو : معارضة القرآن الكريم.

فعمدت إلى « النضر بن الحارث » وكان من شياطين قريش ، وممّن كان يؤذي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينصب له العداوة ، وكان قد قضى شطراً من حياته في الحيرة بالعراق وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس واحاديث « رُستم » و « إسفنديار » وقصصهم ، وحكاياتهم ، وأساطيرهم ، وطلبوا منه أن يجمع الناسَ ويقص عليهم من تلكم الأساطير والحكايات يلهي بها الناس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويصرفهم عن الإصغاء إلى القرآن الكريم!!

فكان إذا جلس رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجلساً فذكَّر الناس فيه باللّه ، وحذر قومه ما أصاب مَن قبلَهم من الاُمم من نقمة اللّه ، خَلفه « النضرُ » في مجلسه

٤٧٣

إذا قامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : أنا واللّه يا معشر قريش أحسنُ حديثاً منه فهلمَّ إليّ ، فأنا اُحدِّثكم أحسنَ من حديثه.

ثم يحدّثهم عن ملوك الفرس و « رستم » و « اسفنديار » ثم يقول :

بماذا محمَّد أحسن حديثاً مني وما حديثه إلاّ أساطير الأَولين اكتتبهاكما اكتتبتُها؟(١) .

وقد كانت هذه الخُطة حمقاء جداً إلى درجة أنها لم تدم إلاّ عدة ايام لا اكثر حتّى أن قريشاً سأمت من أحاديث « النضر » وسرعان ما تفرّقت عنه.

وقدنزل في هذا الشأن آيات هي : «وَقالُوا أساطيرُ الأَوَّليْنَ اكتتبها فهي تمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأصِيْلا * قُلْ أَنْزلَهُ الَّذيْ يعْلَمُ السِّرّ في السَماواتِ وَالأَرْضِ إنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحيماً »(٢) .

* * *

تحججات صبيانيّة وجاهليّة :

وربما جسَّدوا معارضتهم للدعوة المحمَّدية في صورة تحججات ومجادلات جاهليّة ومآخذ سخيفة اخذوها على رسول اللّه ورسالته ، تنم عن تكبر وجهل ، وعناد ولجاج طبعوا عليه.

وها نحن نذكر ابرزها :

أ ـ لماذا لم ينزل القرآن على ثريّ من اثرياء مكة أو الطائف؟!

قال تعالى حاكيا قولهم : «لَولا نُزِّلَ هذا الْقُرانُ عَلى رَجُل مِنَ الْقَريَتَيْنِ عَظِيْم »(٣) .

ب ـ لماذا لم يرسل اليهم ملائكة ولماذا هو بشر؟!

قال تعالى عنهم : «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أن يُؤْمِنُوا إذْ جاءهُمْ الهُدى إلاّ أَنْ قالُوا أبعَثَ اللّه بَشَراً

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٠٠ و ٣٥٨.

٢ ـ الفُرقان : ٥ و ٦.

٣ ـ الزخرف : ٣١.

٤٧٤

رَسُولا »(١) .

وقال تعالى حاكياً عنهم أيضاً : «وَقالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشي فِي الأَسْواقِ »(٢) .

ج ـ انَّه يدعو إلى خلاف ما كان عليه الآباء ، من الدين والعقيدة والسلوك؟

يقول عنهم سبحانه : «وَإذا قِيْلَ لَهُمْ تَعالَوْا إلى ما أَنْزَلَ الله وَإلى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْه آباءنا أو لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ »(٣) .

د ـ تبديل الآلهة بإلهٍ واحد.

قال اللّه عنهم : «وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ * أَجعَلَ الآلِهَةَ إلهاً واحِداً إنْ هذا لِشَيء عُجابٌ »(٤) .

هـ ـ القول بحشر الاجساد وتجدد الحياة في يوم القيامة.

قال تعالى عنهم : «وَقالُوا ءإذا ضَلَلْنا فِي الاْرْضِ ءإنّا لِفِي خَلْق جَدِيد »(٥) .

و ـ لماذا ليس عنده مثل ماكان لدى موسى من المعجزات كالثعبان المنقلب من العصا ، وقد توصل المشركون إلى هذا النمط من الاعتراض بسبب اتصالهم بأحبار اليهود.

يقول اللّه عنهم : «فَلَمّا جاءهُمْ الْحقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا اُوتِيَ مِثْلُ ما اُوْتيَ مُوسى »(٦) .

ز ـ لماذا ليس معه ملك يُرى ويشاهَد ويحضر معه في كل مقام ومشهد.

قال تعالى : «وَقالُوا لَولا اُنْزلَ عَلَيْهِ مَلَكْ »(٧) .

__________________

١ ـ الاسراء : ٩٤.

٢ ـ الفرقان : ٧.

٣ ـ المائدة : ١٠٤.

٤ ـ ص : ٤ و ٥.

٥ ـ السجدة : ١٠.

٦ ـ القصص : ٤٨.

٧ ـ الانعام : ٨.

٤٧٥

مقترحات عجيبة ومطاليب غريبة :

وكان المشركون إذا نفذت تحججاتهم واعتراضاتهم الواهية ، وقوبلوا بردود قوية وقاطعة عليها عمدوا إلى طرح مقترحات سخيفة على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سياق معارضتهم لدعوته ونورد هنا ابرز تلك الاقتراحات ليعرف القارئ الكريم مدى معاناة النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قومه :

لقد اقترحوا عليه :

١ ـ ان يعبد اصنامهم سنة ويعبدوا إلهه سنة اُخرى وجعلوا ذلك شرطا لايمانهم بدعوته!!

فأنزل اللّه تعالى في ردّهم بسورة « الكافرون » : «بِسْم اللّه الرَّحْمن الرَّحيم. قُلْ يا أَيُّها الْكافِرُونَ * لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ. وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ. لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِيْنِ ».

٢ ـ تبديل القرآن ، فقد دفع نقدُ القرآن الكريم للوثنية ، والازاء على الاصنام ، دفعهم إلى ان يطلبوا من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يأتي لهم بقرآن آخر لا يحتوي على شجب عبادة الاوثان والازدراء بالاصنام ، وابطالها.

قال اللّه تعالى عن فعلهم هذا : «وَإذا تُتْلى عَلَيْهِم آياتُنا بيِّنات قالَ الَّذيْنَ لا يَرْجُونَ لِقاءنا ائتِ بِقُرآن غَيْر هذا أوْ بَدّلهُ »(١) .

فردّ اللّه عليهم بقوله : «قُلْ ما يَكُونُ لِيْ أَنْ اُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاء نَفْسِيْ إنْ اتّبعُ إلا ما يُوْحى إلَيَّ إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْم عَظيْم »(٢) .

٣ ـ مطاليب مادية عجيبة!!

__________________

١ و ٢ ـ يونس : ١٥.

٤٧٦

وقد عمدوا ـ بسبب عنادهم وعتوهم ـ إلى المطالبة باُمور لا ترتبط بهداية الناس ، مثل مطالبته بان يفجر لهم ينابيع ، أو يُسقط السماء على رؤوسهم قطعاً ، أو يصعد إلى السماء ، أو يأتي باللّه سبحانه وتعالى ، أو غير ذلك من الاقتراحات والمطاليب الّتي كانت إما مستحيلة في نفسها أوتناقض غرض الدعوة!!

قال اللّه حاكياً عنهم ذلك : «وَقالُوا لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأَرضِ يُنْبُوعاً. أوْ تَكُون لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخيْل وَعنَب فَتُفَجِّر الاْنهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أوْ تَأتِيَ بِاللّه وَالْمَلائكةِ قَبِيلا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْت مِنْ زُخْرُف أوْ تَرْقى في السَّماء »(١) .

صبر النبيّ واستقامته وثباته :

ولقد قابل رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل هذه التحججات الايذائية وما طرح مِنَ الاقتراحات المستحيلة بصبر عظيم وثبات هائل ، ايماناً منه بدعوته ، وحرصاً على ابلاغ رسالته ، وبفعل التأييد الالهي من جانب.

يقول اللّه تعالى في هذا الصدد :

١ ـ «فَاْصْبِرْ كَما صَبَرَ اُوْلوا العْزْم مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ »(٢) .

٢ ـ «وَاتّبِعْ ما يُوحْى إلَيْكَ وَاِصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اللّه وَهُوَ خَيْرُ الحاكِميْن »(٣) .

٣ ـ «وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إلاّ بِاللّه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ »(٤) .

٤ ـ «وَاصْبِرْ نَفْسكَ مَعَ الَّذيْنَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَداوَة وَالعَشِيِّ »(٥) .

٥ ـ «فَاصْبِرْ لِحُكْم رَبّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوْت »(٦) .

٦ ـ «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلا »(٧) .

__________________

١ ـ الاسراء : ٩٠ ـ ٩٣.

٢ ـ الاحقاف : ٣٥.

٣ ـ يونس : ١٠٩.

٤ ـ النحل : ١٢٧.

٥ ـ الكهف : ٢٨.

٦ ـ القلم : ٤٨.

٧ ـ المزمل : ١٠.

٤٧٧

معاجز النبيّ لم تنحصر في القرآن :

وبالمناسبة لابد أن نذكر أن المشركين ومن حذى حذوهم من الكفار والمعارضين للرسالة الإسلامية كانوا يطالبون رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعاجز وديات لا بدافع الرغبة في الايمان بدعوته بل بدافع اللجاج والعناد ، وإلا فان معاجز النبيّ لم تنحصر في الكتاب العزيز ، فقد اتى رسول اللّه بآيات ومعاجز كثيرة اُخرى غير القرآن ، كان كل واحد منها يكفي للاقتناع برسالته ، والايمان بصحة دعواه.

فالقرآن نفسه يشير إلى أبرز هذه المعاجز وهي :

١ ـ شقّ القمر

فقد طلب المشركون من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يشق لهم القمر نصفين حتّى يؤمنوا به ، فلمّا على ذلك لهم باذن اللّه كفروا به وقالوا انه سحر!!

يقول اللّه تعالى : «إقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ. وَإنْ يَروْا آيَة يُعْرضُوْا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتمِرّ »(١) .

٢ ـ المعراج

ان العروج برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والّذي سيأتي مفصلا هو الآخر معجزة من معاجزه القوية ، وقد نطق بها القرآن بقوله : «سُبْحانَ الَّذي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرام إلى الْمَسْجِدَ الأَقْصى الَّذي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُريَهُ مِنْ آياتِنا إنَّه هُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيرُ »(٢) .

____________

١ ـ القمر : ١ و ٢.

٢ ـ الاسراء : ١.

٤٧٨

٣ ـ مباهلة أهل الباطل

ان تقدم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مَن خرج بهم إلى المباهلة ، واحجام النصارى عن مباهلته ، معجزة اُخرى من معاجزهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية إذ قال : «فَمَنْ حاجَّكَ فِيْهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءكَ مِنَ العلم فَقُل تَعالوا نَدْعُ أَبْناءنا وَأَبْناءكُمْ وَنِساءنا وَنِساءكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعلْ لَعْنَةَ اللّه عَلىَ الْكافِرينَ »(١) .

وستأتي قصَّة المباهلة على نحو التفصيل في حوادث السنة العاشرة من الهجرة.

٤ ـ الاخبار بالمغيبات

فقد كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبر عن اُمور غائبة كما يقول اللّه سبحانه حاكيا عنه : «وَاُنبِّئكُمْ بِما تأكلون وما تَدَّخِرُونَ فِيْ بُيُوتكُمْ »(٢) .

هذا وقد أخبرت الاخبار والاحاديث عن معاجز كثيرة لرسول اللّه غير القرآن الكريم.

__________________

١ ـ آل عمران : ٦١.

٢ ـ آل عمران : ٤٩ ، وقد اشار القرآن الكريم إلى موارد اُخرى من هذه القبيل.

فقد اخبر عن غلبة الروم بعد سنين : قال تعالى :

«الم غُلِبَتِ الرُّومُ * في أدْنى الأرْض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَييغْلِبُونَ. في بِضْعِ سِنْينَ * للّه الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعدُ وَيَومئذ يَفْرحُ الْمؤمنون » ( الروم : ١ ـ ٤ ).

واخبر عن هلاك ابي لهب قال تعالى :

«تَبَّت يَدا أبي لَهَب وَتَبّ ... الخ ».

وأخبر عن هزيمة المشركين في بدر قال سبحانه :

«سيهزم الجمع ويولون الدبر » ( القمر : ٤٥ ).

٤٧٩

ومن هذه المعاجز ما ذكره الامام اميرالمؤمنين علّي بن أبي طالب ـ كما في نهج البلاغة ـ حول سؤال المشركين من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلع شجرة بعروقها وجذورها ولما فعل ذلك وقال : « يا أيّتها الشجرة ان كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر ، وتعلمين أني رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفي بين يديّ باذن اللّه ».

فانقلعت بعروقها ولها دوّي عجيب ووقفت بين يدي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنهم كذّبوا وقالوا ساحر كذاب ، علواً واستكباراً.

وقد صرح الامام في كلامه هذا أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرهم بانهم لا يؤمنون وان ظهرت لهم المعجزة الّتي طلبوها ، وان فيهم من يطرح في القليب ( في معركة بدر ) وان منهم من يحزّب الأحزاب ( لمعركة الخندق )(١) .

اصرار النبيّ على هداية قريش :

بل كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرص على هدايتهم وارشادهم وايقاظهم. فقد كان زعيم المسلمين وقائدهم يعلم جيداً بأن اعتقاد أغلبية الناس بالأوثان ما هو الاّ أمر نابع من تقليد الآباء ، والجدود ، أو اتباع أسياد القبيلة وكبرائها ، وهو بالتالي لا يستند إلى جذور في أعماق الناس واُسس في عقولهم ونفوسهم.

من هنا فانَّ أيَّ انقلاب يحصل ويحدث في اوساط السادة والكبراء بان يؤمن أحدهم مثلا كان كفيلا بأن يحلّ الكثير من المشاكل.

من هنا كان ثمة إصرار كبير على جرّ « الوليد بن المغيرة » الّذي أصبح ابنه « خالد » في ما بعد من قادة الجيش الاسلاميّ والمشاركين في الفتوح الإسلامية إلى صف المؤمنين بالرسالة المحمَّدية ، لأنّه كان أسنَّ مَن في قريش واكثرهم نفوذاً ، وأعلاهُم مكانة ، وأقواهم شخصية ، وكان يُدعى حكيم العرب ، وكانت العرب تحترم رأيه إذا اختلفت في أمر.

__________________

١ ـ نهج البلاغة : قسم الخطب الرقم ١٩٢.

٤٨٠

فكلامه ليؤكّد بأنّ بيتهما هو امتداد لبيوت الله وبيوت الأنبياء، وأنّ الشهادة بالولاية لعلي هي امتداد لطاعة الله، لأنّ المؤذّن بشهادته في الأذان يبيّن الصلة بين علي وبين الله ورسوله، وأنّ الإمام عليّاً ما هو إلاّ وليٌّ لله تعالى، لا أنّه يريد أن يقول إنّ علياً هو الخالق والرازق والمحيي والمييت. حتّى يقال إنّه من الشرك والتفويض وأمثال ذلك، وقد قلنا مراراً بأن ما تشهد الشيعة ليس أجنبيّاً عن الأخبار والآيات.

ونحن لو جمعنا بين الآيتين القرآنيتين( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) مع (فِي بُيُوت أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ) ، لعرفنا الترابط الملحوظ بين التوحيد والنبوة والإمامة، ولأجل هذا جُعل ذكرهم من ذكر الله وأنّهم السبيل إليه، وأنّ فطرة الله مبتنية عليه، وبذلك يتّضح تماماً معنى كلام الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام في معنى (حي على خير العمل): (أنّه برّ فاطمة وولدها)(١) ، لأنّ القوم كانوا يفترون على الله الكذب ويريدون طمس ذكرهم؛ قال تعالى:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهُ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (٢) .

* روى الكليني بسنده عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسنعليه‌السلام ، قال: سألته عن قول الله تعالى( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ) قلت: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ) ، قال: يقول: والله متم الإمامة، والإمامة هي النور، وذلك قوله عزّ وجلّ:( فَأَمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا ) ، قال: النور هو الإمام(٣) .

____________________

(١) انظر علل الشرائع ٢: ٣٦٨ باب ٨٩ ح ٥، معاني الأخبار: ٦٤٢، فلاح السائل: ١٤٨، التوحيد ٢٤١، المناقب لابن شهرآشوب ٣: ٣٢٦، وكلام المجلسي في روضة المتقين ٢: ٢٣٧.

(٢) الصف: ٧، ٨.

(٣) الكافي ١: ١٩٥، ٤٣٢، شرح أصول الكافي للمازندراني ٥: ١٨٢ و٧: ١١٩ و١٠: ٨٧، الغيبه للنعماني: ٨٥ - ٨٦ ٧، مناقب ابن شهرآشوب ٢ - ٦ ٢٧٨، و٢: ٢٧٠.

٤٨١

هذا، وقد أخرج الحاكم الحسكاني فيشواهد التنزيل (١) ، والحاكم النيسابوري فيمعرفة علوم الحديث (٢) ، وابن عساكر في ترجمة أمير المؤمنين منتاريخ دمشق (٣) ، والخوارزمي في مناقبه(٤) ، في تفسير قوله تعالى،( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلْنَا ) (٥) عن الأسود، عن عبدالله بن مسعود، قال، قال النبي: يا عبدالله، أتاني الملك فقال: يا محمّد ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلْنَا ) على ما بعثوا؟ قلت: على ما بعثوا؟ قال: على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب.

فتنزيل الآية في التوحيد وفي تقرير الرسل على أنّهم بعثوا للدعوة إلى وحدانية الله وعبادته، وأنّه لا معبود سواه، وتأويلها في تقرير الرسل على رسالة المصطفى وولاية المرتضى.

وبعد كلّ هذا لابدّ من توضيح حقيقة أخرى في هذا السياق، وهي: أنّ كثيراً من النصوص الثابتة الصادرة عن ساحة النبوة والعصمة لا يمكن فهمها وقرائتها علمياً إلاّ من خلال الإيمان بأنّ للقرآن والسنة المطهرة ظهراً وبطناً، وأنّ القراءة السطحية للأمور عند البعض غير قادرة للوقوف على الكنوز المعرفية الكامنة في القرآن الحكيم والسنّة المطهرة، ولأجل ذلك جاء عن المعصومين (إنّ حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبدٌ امتحن الله قلبه للإيمان)(٦) لأنّ معرفة كلامهم أو ما جاء في مقاماتهم من الصعب المستصعب

____________________

(١) شواهد التنزيل ٢: ٢٢٣ / ح ٨٥٥.

(٢) معرفة علوم الحديث: ٩٥.

(٣) تاريخ دمشق ٤٢: ٢٤١.

(٤) مناقب الخوارزمي: ٣١٢ / ح ٣١٢، وانظر غاية المرام ٢: ٢٩٣، وبشارة المصطفى: ٢٤٩ كذلك.

(٥) الزخرف: ٤٥.

(٦) أفرد الكليني باباً كاملاً في هذا الشأن، انظر الكافي ١: ٤٠١ - ٤٠٢.

٤٨٢

على عامة الناس، ولعلّ من هذا المنطلق نُسِب البعض إلى الغلوّ ولم يكن غالياً في الحقيقة.

نعم، وظيفة المسلم التعبّد بهذه النصوص الصحيحة والانقياد والتسليم لها، لكن مع ذلك ينبغي تفسيرها بما يتلائم مع ثوابت الدين الأخرى لكي لا يتصوّر أنّها غلو أو تفويض وخروج عن الدين؛ وقد تقدّم عليك أنّ حدّ التوحيد هو ولاية أمير المؤمنين عليعليه‌السلام كما جاء فيتفسير القمي ولا ريب في أنّ فهم هكذا أمور ليس بسهل، خصوصاً إذا قرأناها طبقاً للمنهج البسيط الذي لا يرى أبعد من قدميه؛ إذ يبدو للمطالع العادي عدم علاقة التوحيد بولاية علي؟!

في حين أنّ المعرفة الأصيلة الكاملة حسب أخبارنا جازمة بأنّه ليس من أحد على وجه الأرض يعرف الله حق معرفته غير رسول الله والإمام علي وأولاده المعصومين، وليس هناك منهج صحيح يعرّفنا بالله ورسوله غير منهج أهل البيت الذين طهّرهم الله من الرجس، ولأجل ذلك جاء في بعض مصادرنا كمختصر بصائر الدرجات : عن النبي قوله: يا علي، ما عرف الله إلاّ أنا وأنت، وما عرفني إلاّ الله وأنت، وما عرفك إلاّ الله وأنا(١) . وفي كتابسليم بن قيس : يا علي، ما عُرف الله إلاّ بي ثم بك، من جحد ولايتك جحد الله ربوبيته(٢) .

وجاء في الزيارة الجامعة الكبيرة: (بكم عرَّفنا الله معالمَ ديننا).

وعليه فالتوحيد الصحيح لا يتحقق إلاّ عن طريق أهل البيت، كما لا يمكن الاهتداء إليه إلاّ بواسطة هذا السراج والشعار والعلامة.

وبهذا نقول: إنّ معنى الشعارية، والإشهادية، والندائية ليس بكلام جديد كما قد يتوهّمه البعض، بل هو منهج علمي استُظهِر واتُّخِذ من الأخبار المتواترة، فلا

____________________

(١) مختصر بصائر الدرجات، للحسن بن سليمان الحلي: ١٢٥.

(٢) كتاب سليم بن قيس: ٣٧٨.

٤٨٣

يوجد أحد من المؤمنين يؤمن بالله حق الإيمان يمكنه أن ينكر مقام الإمام علي، وأنّه سيّد عباد الله الصالحين، وأنّ اسمه موجود في السماء وفي الأرض، وفي عالم الذر، والبرزخ، وفي تلقين الميت وأمثالها، وأنّ الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام أكّد على هذه الكلية وأنه هو الشعار لهذا الدين، بقولهعليه‌السلام : (نحن الشعار والأصحاب، والخزنة والأبواب، لا تُؤتى البيوت إلاّ من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سُمّي سارق)(١) .

إنّ مضمون الشهادة بالولاية في الأذان وفي غيره لم يكن منافياً للشريعة، حتى يقال بحرمة الإجهار به، بل هو مضمون ثابت في العقيدة، ولا أعتقد بأنّ مسلماً يشكّ في صوابيّته ومطابقته للواقع حسبما وضّحناه وذكرنا بعض نصوصه سابقاً(٢) ، وقد أقرّ الشيخ الصدوق وغيره من العلماء بصحّة مضمون الشهادة الثالثة بقولهرحمه‌الله : (بأن لا شكّ بأنّ عليّاً ولي الله وأنّ محمّداً وآله خير البرية)، لكنّ كلامهم في وضع المفوّضة أحاديث لها على نحو الجزئية في الأذان، وهو ما لا يقبله الشيخ الصدوقرحمه‌الله كما لا نقبله نحن، لكنّ دعوى كون التوقيفية مانعة من الإتيان بالشهادة بالولاية في الأذان بأيّ نحو كان غير صحيح، لأنّ المعروف عن الشيعة في هذه الأزمان وحتى في العصور الماضية أنّهم لم يكونوا يأتون بها على أنّها جزءٌ حتى يقال إنّها مانعة، وعلى نحو التضاد مع التوقيفية، بل إنّهم كانوا يأتون بها بقصد القربة المطلقة واستجابةً لأمر الباري بأن يُنادي بالشهادة بالولاية لعلي، وبذلك تكون الشهادة بالولاية لعلي عبادة محبوبة لله، فلو صار هذا الإشهاد

____________________

(١) نهج البلاغة ٢: ٤٣ - ٤٥ خطب الإمام، وفي عيون الحكم والمواعظ لعلي بن محمد الليثي الواسطي: ٤٩٩ - ٥٠٠، (نحن الشعار والأصحاب والسدنة والخزنة والأبواب ولا تؤتى البيوت...) إلخ.

(٢) قد يقال: إن بعض العامة لا تقبل بعض المعاني المتصورة في الولاية والحجة و... نقول لهم: إنّ عدم اعتقاد أولئك بعدم صوابية ما نقول به لا يضرّنا، لأنّ أدلّتنا معنا، وهي مذكورة في كتب الكلام، وإنّ البحث عنه له مجال آخر.

٤٨٤

محبوباً صار عبادياً يمكن الإتيان به في الأذان لا على نحو الجزئية بل على نحو الإشهاد، والشعارية، والندائية.

والعلماء كانوا قد عرفوا معنى قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنَ رَّبِّكَ وَإِنَّ لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) لكنّهم تساءلوا لكي يفهموننا ما مغزى هذه الآية، وهو: كيف يتساوى تبليغ الرسالة بأجمعها خلال ثلاث وعشرين سنة بتبليغ ولاية علي خلال ساعة من نهار، إلى درجةِ أنّ تبليغ الرسالة لا قيمة له من دون تبليغ هذه الولاية؟

إنْ العلماء كلّهم على اختلاف ألفاظهم وتعدّد صياغاتهم مجمعون على تعاطي الشعارية لحلّ أمثال هكذا أمور في الشريعة والعقيدة، لأنّ الله جعل الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام معياراً للإيمان وميزاناً لقبول الأعمال، وسفنَ نجاة للبرية ومعالم للدين.

وهذا المنهج يدعونا لإثبات بعض الأحكام العبادية علاوة على الإيمانية، لأنّ هناك نصوصاً عبادية كثيرة ترى ذكر عليّ فيها، كخطبة الجمعة، وقنوت الجمعة، وقنوت الوتر، والتشهد في الصلاة، ودعاء التوجّه قبل تكبيرة الإحرام، وقد سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن تسمية الائمة في الصلاة؟ فقالعليه‌السلام : أَجْمَلَهُمْ(١) ، وهو يؤكّد بأن لا رسالة بلا ولاية، بنص الآية.

وعليه فلا يمكن تعظيم الرسالة إلاّ بتعظيم الولاية، كما لا يتحقّق الغرض من النداء بالشهادة الثانية إلاّ بالنداء بالشهادة الثالثة، كما أوضحت موثقة سنان بن طريف وغيرها، وأنّ الله لا يكتفي بالشهادة لنفسه حتى أردفها بالشهادة لرسوله، ولم يكتف بالشهادة لرسوله حتى أردفها بالشهادة لوليه، مفهماً (جلّ شانه) بأنّ الشهادة بالنبوّة لمحمد لا تكفي إلاّ إذا اتّبعوه وأخذوا عنه

____________________

(١) مستند الشيعة ٥: ٣٣٢، وسائل الشيعة ٦: ٢٨٥ / ح ٧٩٨١.

 

٤٨٥

أمور دينهم، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الشهادة بالولاية لعليّ، فهو لم يكن لغواً، بل فيه إشارة إلى امتداد خلافة الله في الأرض عبر أولاد عليّ المعصومين ووجود بقية الله في الأرضين، وهو الإمام الحجة المهدي المنتظر (عجل الله فرجه) بين ظهرانينا اليوم.

وعليه فالشهادة لعلي تحمل مفهوماً إيمانياً وفقهياً.

أمّا إيمانياً وعقائدياً فلا شك في لزوم الاعتقاد بأنّه الوصي والخليفة، وأمّا عبادياً وفقهياً، فقد ورد اسمه واسم الأئمة من ولده في كثير من الأمور العبادية كخطبة الجمعة وهذا يدعونا لعدم الشك في أن ذكر علي عبادة، وخصوصاً بعد أن أضحت الولاية أهمّ من الصلاة والزكاة والحج، وأنّ الأعمال لا تقبل إلاّ بها، وبعد أن أضحى تبليغ الولاية والإعلان عنها خلال ساعة من نهار يعدل تبليغ الرسالة برمّتها خلال ثلاث وعشرين سنة، ولمناداة الملائكة بأمر من الله ب (أشهد أن عليّاً ولي الله).

فالمسلم لو أراد أن يشهد بالولاية مع أذانه لا على أنّها جزءاً منه، بل لعلمه بأنّها دعوة ربانية ومحبوبة عند الشارع، فقد أتى بعبادة ترضي الله، لأنّ الله لم يكتف بالدعوة إلى ولاية علي في السماوات حتى ألزم رسوله أن يبلغها في ذلك الحر الشديد، وهو يعني أنّه يريدها شعاراً للمسلمين في جميع مجالات الحياة، إلاّ أنّه لا يجوز إدخالها الماهويّ الجزئي في الأذان ولا الاستحباب الخاصّ، وذلك لعدم ورود النص الخاصّ فيها.

وبعبارة أخرى: يمكن لحاظ الشعارية في كلّ مفاصل الدين الإسلامي ومفرداته شريطة عدم وجود دليل واضح على المنع من قبل الشارع، ومع عدم الدليل يكفي دليل الجواز على أقل التقادير. أمّا في خصوص الأذان، فليس لدينا دليل شرعي يمنع من الإتيان بالشهادة الثالثة شعارياً، نعم التوقيفية تمنع من إدخالها الماهوي والجزئي. وأمّا الشعاري فيكفيه دليل الجواز، والندائية في

٤٨٦

السماوات، وأخذ الميثاق عليها.

وقد تقدم ما رواه فرات الكوفي بسنده عن فاطمة الزهراءعليها‌السلام أنّها قالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لمّا عرج بي إلى السماء صرت إلى سدرة المنتهى...، فسمعت منادياً ينادي: يا ملائكتي وسكّان سماواتي وأرضي وحملة عرشي، اشهدوا أني لا إله إلاّ أنا وحدي لا شريك لي، قالوا: شهدنا وأقررنا.

قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكّان سماواتي وأرضي وحملة عرشي أنّ محمداً عبدي ورسولي، قالوا: شهدنا وأقررنا.

قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكّان سماواتي وأرضي وحملة عرشي أنّ عليّاً وليّي ووليّ رسولي، وولي المؤمنين بعد رسولي، قالوا: شهدنا وأقررنا(١) .

فلو تأملنا قليلاً في هذا النص فإننا بين خيارين؛ فإمّا أن نطرحه جانباً ونقول إنّه مجرد ذكر فضيلة لأمير المؤمنين علي، وإما أن نقول بأنّه لا يقتصر على بيان الفضيلة فحسب، بل يعني الولاية للأئمة على الأموال والأنفس ولزوم اتباع أقوالهم فقهاً واعتقاداً لمجيء كلمة (وليّي وولي رسوليّ وولي المؤمنين بعد رسولي).

وعلى الأول تأتي إشكالية اللَّغوية؛ إذ ما معنى أن ينادي الله (عزّت أسماؤه) بنفسه ويقول: اشهدوا يا ملائكتي وسكّان سماواتي وأرضي وحملة عرشي أنّ علياً وليي...، ثم إجابة الملائكة: شهدنا وأقررنا؟ فلو كان الأمر مجرّد ذكر فضيلة لاكتفى الله سبحانه بالقول: بأنّ علياً وليي فقط، لكنّ نداء الله وإشهاد الملائكة بأنّ علياً وليه وولي رسوله وولي المؤمنين بعد رسوله يعني شيئاً آخر غير بيان الفضيلة، وهو أنّ لعلي دوراً في التشريع لاحقاً، وأنّه امتداد لتوحيد الله وسنة نبيّه، كما هو الأخر يعني أن الشعارية لعلي محبوبة عند الله وإلاّ لما أمر لأمره بالإشهاد،

____________________

(١) تفسير فرات: ٣٤٣.

٤٨٧

إذ إنّ الإشهاد والإقرار والإظهار وما يماثلها تحمل مفاهيم أكثر من المحبوبية، بل حتّى لو قلنا بأنّها بيان للفضائل، فبيان الفضائل بهذا النحو هو مقدمة للأخذ بأقوال هؤلاء المعصومين، لأنّهم معالم الدين وأعلامه.

وعليه فذكر الفضائل فيه طريقية للانقياد لهم ورفع ذكرهم، لكن الأمة لم تعمل بوصايا الرسول وأنكرت مكانة أهل البيت الذي اقرهم الله فيها وقد عاتب الإمام عليعليه‌السلام الناس بقوله: أَلا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية، فإن الله سبحانه قد امتنَّ على جماعة هذه الأمة فيما عقد بينهم من حبل هذه الإلفة التي ينتقلون في ظلها، ويأوون إلى كنفها، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لأنّها أرجح من كلّ ثمن، وأجلّ من كلّ خطر... إلى أن يقول: أَلاَ وقد قطعتم قيد الإسلام وعطّلتم حدوده وأمتّم أحكامه...(١)

وقال علي بن الحسينعليهما‌السلام : إلى من يفزع خلف هذه الأمة، وقد درست أعلام الملّة، ودانت الأمة بالفرقة والاختلاف، يكفّر بعضهم بعضاً.. فمن الموثوق به على إبلاغ الحجّة؟ وتأويل الحكمة؟ إلاّ أهل الكتاب وأبناء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، الذين احتجّ الله بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدىً من غير حجة. هل تعرفونهم أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وبرّأهم من الآفات، وافترض مودّتهم في الكتاب(٢) .

إذن لا يوجد طريق علمي وشرعي لقراءة مثل هذه النصوص إلاّ القول

____________________

(١) نهج البلاغة ٢: ١٥٤ - ١٥٦ / من خطبة لهعليه‌السلام تسمى القاصعة.

(٢) كشف الغمة ٢: ٣١٠، الصحيفة السجادية: ٥٢٤ / الرقم ٢١٩ من دعائهعليه‌السلام وندبته إذ تلا هذه الآية:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أمنوا اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) .

٤٨٨

بالشعارية، وهو المعنيُّ بالنداء والإشهاد والشعارية، إذ ما يعني أمر الله بالمناداة لو لم يكن ما قلناه، ولماذا يشهد بها الملائكة أمام الخلائق أجمعين، لو لم تكن العلاّمة الوحيدة لمعرفة الله ورسوله؟

* وعلى غرار الروايات الآنفة آية البلاغ في قوله سبحانه:( بَلِّغْ ) والتي تنطوي على معنى الشعارية كذلك؛ إذ الملاحظ أنّ القرآن قد وصف وظيفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالبيان والتبيين كما في قوله تعالى:( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهُمْ ) ، لكن لمّا وصلت النوبة إلى إعلان ولاية عليعليه‌السلام قال سبحانه وتعالى:( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِنّ لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (١) ، ولم يقل: بيّن. ولا يخفى عليك بأن معنى الشعارية منطوية في كلمة( بَلِّغْ ) أكثر وأعمق من لفظة:( لِتُبَيِّنَ ) ، إذ البيان للعقيدة والتشريع قد فعله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله للناس ونشره للأمّة على أحسن وجه، ولم يبق إلاّ التأكيد على المعنى المطوي في لفظ( بَلِّغْ ) ، وهو إعلانه أنّ علياً وليّ الله ووليّ رسوله، وأنّه الشعار والنور الذي تهتدي به الأمّة من خلاله.

* لنأخذ دليلاً آخر على الشعارية من القرآن، وهو في سورة المائدة بعد أن ذكر الكافرين وأهل الكتاب مخاطباً المؤمنين بقوله:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعَباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ) (٢) .

فالآية الأُولى نزلت في الإمام عليّ حين تصدّق بخاتمه وهو راكع، وهي

____________________

(١) المائدة: ٦٧.

(٢) المائدة: ٥٥، ٥٦، ٥٧، ٥٨.

٤٨٩

ترشدنا إلى الشهادات الثلاث والولاية الإلهية، ومن أراد التأكد من كلامنا فليراجع كتب التفاسير في ذيل الآية الآنفة(١) .

أمّا الآية الثانية فهي تعني لزوم موالاة الله ورسوله والذين آمنوا، أي أنّ الآية الأُولى جاءت للإخبار بأنّ الولاية إنما هي لله ولرسوله وللذين آمنوا، ثمّ أتت بمصداق للذين آمنوا، وهو الإمام علي. وفي الآية الثانية أكّد سبحانه على لزوم موالاة الله ورسوله والذين آمنوا، مخبراً بأنّ من تولى هذه الولايات الثلاث معاً فهو من حزب الله:( أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

فقد جاء عن الإمام عليعليه‌السلام أنّه قال: قال لي رسول الله: يا علي، أنت وصيّي، وخليفتي، ووزيري، ووارثي، وأبو ولدي، شيعتك شيعتي، وأنصارك أنصاري، وأولياؤك أوليائي، وأعداؤكَ أعدائي... قولك قولي، وأمرك أمري، وطاعتك طاعتي، وزجرك زجري، ونهيك نهي، ومعصيتك معصيتي، وحزبك حزبي، وحزبي حزب الله( وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (٢) .

ومن خطبة للإمام الحسنعليه‌السلام أيام خلافته: نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسوله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين الذين خلفهما رسول الله...(٣) ، وجاء قريب منه عن الإمام الحسينعليه‌السلام (٤) . وقد سئل زيد بن

____________________

(١) الكشاف ١: ٦٨١، تفسير البغوي ٢: ٤٧، تفسير الطبري ٦: ٢٨٧، تفسير السمرقندي ١: ٤٢٤، تفسير السمعاني ٢: ٤٧، تفسير القرطبي ٦: ٢٢١، التسهيل لعلوم التنزيل ١: ١٨١، زاد المسير ٢: ٣٨٢ - ٣٨٣، الدر المنثور ٣: ١٠٤، وأخرجه الخطيب في المتفق عن ابن عباس.

(٢) الأمالي للشيخ الصدوق: ٤١٠ / المجلس ٥٣، بشارة المصطفى: ٩٧، بحار الأنوار ٣٩: ٩٣، ٤٠: ٥٣، ينابيع المودة ١: ٣٧٠ / الباب ٤١.

(٣) الأمالي للمفيد: ٣٤٨ - ٣٥٠، مروج الذهب ٢: ٤٣١، جمهرة خطب العرب ٢: ١٧، الأمالي للشيخ الطوسي: ١٢١ - ١٢٢، ٦٩١ - ٦٩٢، بحار الأنوار ٤٣: ٣٥٩.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٣: ٢٢٣، الاحتجاج ٢: ٢٢، وسائل الشيعة ٢٧: ١٩٥.

٤٩٠

علي بن الحسين عن قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : من كنت مولاه فعلي مولاه، قال: نصبه علماً ليعلم به حزب الله عند الفُرْقة(١) .

وعليه فالله (سبحانه وتعالى) بعد أن ذكّر المؤمنين بأن الولاية لله ولرسوله وللذين آمنوا حذرهم بأن لا يتخذوا الكفار وأهل الكتاب أولياء، لأنّهم اتخذوا دين الله هزواً ولعباً.

ومن الطريف أن ترى ذكر الأذان يأتي في القرآن بعد الآيتين السابقتين أي بعد ذكر التولّي والتبرِّي مؤكداً سبحانه بأنّ الكفار وأهل الكتاب اتّخذوا هذه الشعيرة هزواً ولعباً، فعن ابن عباس: إن الذين اتّخذوا الأذان هزوا: المنافقون والكفّار(٢) ، وقيل: اليهود والنصارى(٣) .

وفي مسند أحمد: قال أبو محذورة: خرجت في عشرة فتيان مع النبي، وهو [يعني النبي] أبغض الناس إلينا، فأذّنوا فقمنا نؤذن نستهزئ بهم، فقال النبي: ائتوني بهؤلاء الفتيان، فقال: أذنوا، فأذنوا، فكنت أحدهم، فقال النبي: نعم، هذا الذي سمعت صوته اذهب فأذّن لأهل مكة...(٤) .

قال ابن حبان: قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة يوم الفتح فراه [أي أبا محذورة ] يلعب مع الصبيان يؤذن ويقيم ويسخر بالإسلام...(٥) .

وفي سنن الدارقطني عن أبي محذورة، قال: لمّا خرج النبي إلى حنين خرجتُ عاشر عشرة من أهل مكة أطلبهم، قال: فسمعناهم يؤذّنون للصلاة فقمنا نؤذن

____________________

(١) الأمالي للصدوق: ١٨٦ / ح ١٩٢.

(٢) الدر المنثور ٤: ٢٥٦، والكشاف ١: ٦٨٣، المحرر الوجيز ٢: ٢٠٩، تفسير الطبري ٦: ٢٨٩.

(٣) التفسير الكبير ١٢: ٢٨، الدر المنثور ٣: ١٠٧.

(٤) مسند أحمد ٣: ٤٠٨ / ح ١٥١٣، ومثله في سنن الدارقطني ١: ٢٣٥ / ح ٤، والسيل الجرار ١: ١٩٩.

(٥) مشاهير علماء الأمصار لابن حبان: ٣١.

٤٩١

نستهزئُ بهم، فقال النبي: لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت، فأرسل إلينا فأذنا رجلاً...(١)

ولا يخفى عليك بأن الأذان المحرّف هو الذي فيه: (الصلاة خير من النوم) والترجيع، وهما مما رواه أبو محذورة، ومنه وقع الاختلاف بين المسلمين في هذين الأمرين؛ هل أنّهما سنة أم لا.

بلى إن القوم قد حرّفوا خبر المعراج المرتبط بالأذان كما في رواية عمر وبن أذينة وجعلوا اسم أبا بكر الصدّيق على ساق العرش بدل (علي أمير المؤمنين). ولو أردنا استقراء هذه الموارد لصار مجلداً، مكتفين بما مر وما جاء في كتب القوم أنّهم جعلوا ابن أمّ مكتوم الأعمى يؤذن لصلاة الفجر، وبلالاً يؤذّن الأذان الأوّل أي قبل الفجر كل ذلك لأنّ بلالاً لم يؤثر عنه أنّه قال في صلاة الصبح: (الصلاة خير من النوم).

قال أبو محذورة: كنت أنا وسمرة وأبو هريرة في بيت، فجاء النبي فأخذ بعضادتي الباب، فقال: آخركم موتاً في النار، قال أوس بن خالد: فمات أبو هريرة ثم مات سمرة(١) ، وقيل بأن أبا محذورة كان آخر الثلاثة موتاً.

هذا بعض ما يمكن أن يستدل به على الشعارية، نترك باقي الكلام عنه إلى البحوث الكلامية المطروحة في كتب أعلامنا، ولنأتِ إلى بيان التخريج الفقهي للشعارية في خصوص الأذان، معتذرين سلفاً مما نقوله في بيان وجهة نظر الفقهاء، لأنّه لم يبحث بالشكل المطلوب في مصنّفاتهم، وأنّ ما نقوم به هو فهمناه لفحوى كلامهم (قدس الله أسرارهم)، وهي محاولة بسيطة منا في هذا السياق نأمل تطويرها وتشييدها من قبل الفضلاء والأساتذة.

____________________

(١) سنن الدارقطني ١: ٢٣٤ / باب في ذكر الأذان / ح ٣.

(٢) مسند ابن أبي شيبة ٢: ٣٢٩، جزء أشيب: ٥٨، شرح مشكل الآثار ١٤: ٤٨٥، ٤٨٧، ٤٨٨.

٤٩٢

التخريج الفقهي للشّعاريّة

لقد تقدم بين ثنايا الكتاب بعض الأدلّة على جواز الإتيان بالشهادة الثالثة في الأذان من دون اعتقاد الجزئية، أبرزها الدليل الكنائي ودليل الاقتران. وفي هذا الفصل نريد البحث في التخريج الفقهي الذي أفتى على أساسه أكثر الفقهاء بجواز أو استحباب الإتيان بالشهادة الثالثة في الأذان.

فقد يقول القائل: إنّ الشهادة بالولاية من الله سبحانه تعالى يوم الميثاق، ومروراً بالملائكة، وانتهاءً ببني آدم في عالم الذر...، لا ينهض لجواز الفتوى بدخول الشهادة الثالثة في الأذان؛ فما هو التخريج الفقهي إذن؟

هناك ثلاثة أو أربعة تخاريج يمكن للفقيه أن يستند إليها للإفتاء بجواز أو استحباب الشهادة الثالثة في الأذان بالخصوص.

التخريج الأول: أصالة الجواز.

ومجرى هذا الأصل لو شك المكلف في الحكم هل هو الجواز أم المنع، فمقتضى الأصل جواز الفعل في مورد فقدان الدليل على حرمته، وفيما نحن فيه لم يقم دليل معتبر على حرمة الشهادة الثالثة بدون قصد الجزئية، فيكون مجرى أصالة الجواز.

وقد يرد هنا سؤال، وهو: لا يمكنكم التعبد بأصالة الجواز هنا؛ وذلك لخلو الروايات البيانية الواردة عن المعصومين من وجود الشهادة بالولاية لعلي فيها، فكيف تجيزونها في الأذان؟

الجواب: هذا صحيح في الجملة، وهو تام لو كان ذكرنا للشهادة الثالثة في الأذان ذكراً جزئيّاً وماهويّاً، لكن إذا كان إتياننا لها شعارياً فالأمر مختلف تماماً.

توضيح ذلك: أنّ (أشهد أن عليّاً ولي الله) ليست من فصول الأذان ولا من أجزائه ولا من مقوّمات ماهيته المتوقّفة على نص الشارع، غاية ما في الأمر أنّا نأتي بها على أنّها شعار للحقِّ، وعَلَماً للإيمان الكامل الصحيح، وترجمة للنبوة والتوحيد كما هو

٤٩٣

مفاد النصوص المارّة.

وحيث لا يوجد دليل شرعي يمنعنا من الإتيان بالشهادة الثالثة في الأذان من باب الشعارية، جاز فعله، لأنّ دليل التوقيفية لا يمنع إلاّ الإدخال الماهويّ الجزئيّ في الأذان، وعليه فلا مانع من الإتيان بها شعارياً بمعونة أصالة الجواز.

وهذه هي الشريعة بين أيدينا ليس فيها ما يمنع من الإتيان بها شعارياً، بل إنّ الإمامعليه‌السلام كما في حسنة ابن أبي عمير المتقدّمة أمرنا بالدعاء إليها والحثّ عليها بحي على خير العمل، لأنّ الذي أمر بحذفها أي عمر أراد أن لا يكون حَثٌّ عليها ودعاء إليها، ومقتضى الإطلاق في الدعوة إليها هو جوازها في الأذان وفي غيره جوازاً شعارياً، أما الدخول الماهويّ فلا يجوز لمانع التوقيفية كما اتضح.

وهناك نصوص شرعية أخرى أكّدت على محبوبيّة النداء بالولاية كما جاء صريحاً في كلام الإمام الباقرعليه‌السلام بقوله: (ما نودي بشيء مثل ما نودي بالولاية) ولا ريب في أنّ مقتضى الإطلاق في قولهعليه‌السلام : (ما نودي) يصحّح ذكره في الأذان وفي غيره شعارياً.

لكنقد يقال بأنّ هذا التخريج يوصل للقول بجواز ذكر الشهادة الثالثة في الأذان لا استحبابه، فما هو مستند فتاوى أمثال السيّد الخوئي (قدس الله أسرارهم) بالاستحباب إذن؟

قلنا: المستند هو أنّ الدليل مركّب من أمرين:

الأول : هو أنّ نفس جواز الذكر تم بمعونة أصالة الجواز بعد فقدان المانع، والمسألة بناء على ذلك من صغريات الشك في التكليف؛ فهي مجرى لأصالة الجواز بلا شبهة.

والأمر الثاني: إنّ الشهادة بالولاية مستحبّة نفسيّاً ومطلوبة ذاتياً.

ومن مجموع الأمرين أمكن القول باستحبابها في الأذان عند أمثال السيّد الخوئيقدس‌سره ؛ لاستحبابها النفسي؛ غاية ما في الأمر هو أنّ ذكرها في الأذان يحتاج

٤٩٤

إلى دليل، وأصالة الجواز تجيز ذكرها بحسب البيان المتقدم. فإذا نهض دليل الجواز لإتيان ما هو مستحب في عبادة ما، أمكن الفتوى بالاستحباب فيه كذلك، مع الالتفات إلى أنّ الاستحباب هنا هو الاستحباب الشعاري دون التكليفي الخاصّ كاستحباب القنوت في الصلاة؛ فالثاني يحتاج إلى دليل خاصّ وهو مفقود. أمّا الأول، فأدلته هي المارة من قبيل: (ما نودي بشيء مثل ما نودي بالولاية) وغيرها من النصوص الصحيحة التي سردنا بعضها في هذا الفصل.

ولابد هنا من الإشارة إلى نقطة مهمّة أخرى، وهي: هل أنّ الإتيان بالذكر الشعاري للشهادة الثالثة في العبادات الأخرى غير الأذان يكفيه الاستدلال المتقدم. كأنْ ندخل جملة (أشهد أنّ عليّاً ولي الله) في الصلاة الواجبة، بين آيات الفاتحة أثناء القراءة للصلاة أكثر من مرة فهل تسوّغ أصالة الجواز مثل هذا الذكر الشعاري؟

الجواب: لا يسوغ ذلك على الأشبه في مثل المثال الآنف؛ لانعدام هيئة الصلاة، ومحو صورتها حينئذ، وهذا مانع قويّ من التمسك بأصالة الجواز في هذا الفرض، ولا يقاس هذا بالذكر الشعاري في الأذان؛ إذ المسلمون جلّهم أو كلّهم مَنْ منع الشهادة الثالثة ومن لم يمنع سواء كانوا من السنة أم من الشيعة، لم يروا أنّ الذكر الشعاري يمحو صورة الأذان. أمّا السنّة فواضح؛ إذ إنّ جمهورهم لم يقل بمحو صورة الأذان حتى مع إدخال جزء بدعي فيها وهو (الصلاة خير من النوم).

وأمّا الشيعة، فمشهورهم الأعظم لا يرى في الذكر الشعاري مَحْواً لصورة الأذان الشرعية كما ترى ذلك واضحاً في سيرة الفقهاء، وقد تقدمت كلماتهم في ذلك.

نعم، يمكن افتراض محو صورة الأذان الشرعي لو كان إدخال الشهادة الثالثة في الأذان ماهويّاً، لكنّا وفاقاً للمشهور لا نأتي بها على أنها جزء داخل في الأذان بل نأتي به على أنّه كلام خارج يذكر مع الأذان تحت عنوان الشعارية دفعاً لاتهامات المتهمين ورفعة لشأن أمير المؤمنين.

٤٩٥

والحاصل: فالذكر الشعاري دون الماهوي للشهادة الثالثة في خصوص الأذان لا مانع منه، ودليل التوقيفية يمنع من الإدخال الماهوي فيه فقط؛ ولا دليل على منع الذكر الشعاري في خصوص الأذان لا عند السنة ولا عند الشيعة، وبالتالي أمكن للسيّد الخوئي وأمثاله من الأعاظم الفتوى باستحبابها الشعاري؛ للجزم باستحبابها النفسي ورجحانها الذاتي بمعونة أصالة الجواز على ما اتّضح.

التخريج الثاني: تنقيح المناط

لا ريب بالنظر للأخبار الصحيحة بل المتواترة التي أوردنا بعضها في هذا الفصل في وجود تلازم غير منفك بين الشهادات الثلاث: ١ الشهادة بالتوحيد ٢ والشهادة بالرسالة ٣ والشهادة بالولاية.

فالتوحيد مفهوماً غير الرسالة، والرسالة غير الولاية؛ لكن يبدو من خلال النصوص الصحيحة أنّه لا توجد مصداقية للإيمان بالتوحيد من دون رسالة سيّد الخلق محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما لا يمكن تصوّر وجود مصداقية للإيمان بالرسالة المحمدية من دون ولاية أمير المؤمنين علي، وخبر الغدير المتواتر خير شاهد على ذلك وكذلك آية الولاية وغيرها.

وهنا نتساءل: كيف يمكن تحقيق المصداقية الخارجية لولاية عليعليه‌السلام ؟

أعلنت النصوص الشرعية بأنّه لا يمكن تحقيق هذه المصداقية عملاً وإيماناً إلاّ من خلال الشعارية؛ لأنّه السبيل الوحيد لتوفير المصداقية الخارجية للإيمان بولاية أمير المؤمنين عليعليه‌السلام .

إذا تمّ ما قلناه تحقّق الغرض الإلهيّ من التلازم غير المنفكّ بين الشهادات الثلاث.

نعم، لقد تقدمت بعض الأدلّة الصحيحة على هذا المقدار من ضرورة التلازم بين الشهادات الثلاث: التوحيد، النبوة، الولاية، لكن كيف يمكن جعلها شعاراً، بناء على التلازم غير المنفك؟ وبالتالي كيف تتحقق لها مصداقية خارجية؟!

٤٩٦

فالإشهاد الثلاثي إذن ينطوي على ملاك إلهي عظيم، وغرض ربّاني كبير، كما هو ملاحظ في كتب الأدعية، وإلاّ لا معنى لأن يعلن الله بنفسه (تقدّست أسماؤه) الشهادة الثالثة بعد الشهادتين لولا تعلق إرادته سبحانه وتعالى استمرار الاستخلاف في الأرض بولاية عليعليه‌السلام .

وما ينبغي أن نتساءل عنه هنا هو القول بوجود ملاك تشريعها في الأذان؛ إذ ما دخل إعلان الله سبحانه وتعالى للشهادة الثالثة في ذلك العالم؛ الذي ليس هو بعالم تكليف وتشريع وأحكام...، ومقايسته بعالمنا عالم التكليف؟

فقد يقال بأنّ هذا من القياس الباطل الذي لا يغني من الحق شيئاً؟

لكن يجاب عنه: أنّ هذا وإن كان صحيحاً، لكنّ العبرة ليست بمجرد شهادة الله (سبحانه وتعالى) بالولاية فيما هو خارج عن عالم التكليف حتى نقول ببطلان القياس وبعدم وجود الملاك في عالم التكليف بناء على ذلك..

إذ العبرة كل العبرة بالنصوص الشرعية المعتبرة الصادرة في عالم التكليف؛ بمعنى أنّ الإمام الصادق أخبرنا في عالمنا هذا، عالم التكليف، أنّ الله شهد لعلي بالولاية يوم الميثاق العظيم..

وهنا نتساءل لماذا يخبرنا الإمام بذلك وما يعني إخباره هذا؟ لا جواب إلاّ أن نعتقد بوجود ملاك عظيم فيما فعله الله سبحانه وتعالى حتى في عالم التكليف، وإلاّ لا معنى لأن يخبرنا الإمام والنبي والقرآن في الروايات المتواترة والآيات الواضحة وفي حسنة بن أبي عمير بذلك، لولا أنّ في المجموع ملاكاً له مدخلية في كثير من التشريعات ولو في الجملة !!

ولا يقال: بأنّ غاية إخبار الإمام والنبي والقرآن هو بيان فضيلة أمير المؤمنين علي فقط؟

فلقد قلنا سابقاً أنّ هذا لا يصار إليه لاستلزام اللغوية؛ فلو كان المقصود هو هذا لاكتفى المعصوم بالقول: أنّ عليّاً أمير المؤمنين فقط، ولا حاجة به لأن يفصل

٤٩٧

الكلام ويخبر عن ملابسات ذلك اليوم وغير ذلك مما هو لغو في ظاهره، وكلام المعصوم منزّه عن ذلك.

وزبدة القول: هو أنّ في شهادة الله (سبحانه وتعالى) بالولاية ملاكاً عظيماً، وهذا الملاك تراه ملحوظاً في كلام الإمام في عالم التكليف، وإلاّ لما أخبر به المعصوم في أكثر من مناسبة، ويكفي مثل هذا الملاك للقول بجواز ذكر الشهادة في الأذان شعارياً.

إذ قد أجمع فقهاء الأمّة على إمكانية الفتوى فيما لا نصّ فيه بعد إحراز الملاك إحرازاً معتبراً يسوغ التعبد به، ولا ريب بالنظر للرواية الآنفة وغيرها من الروايات والآيات من وجود هذا الملاك وإلاّ كان الإشهاد الإلهي يوم الميثاق لغواً، ولا يلتزم به مسلم.

لكن سؤالنا: هل يكفي مثل هذا الملاك لإدخالها الماهويّ والجزئي في الأذان، أم ما يدل عليه إنّما هو الشعارية لا غير؟

شذّ البعض وقال بالجزئية بناء على تلك النصوص وغيرها، وهو مشكل بنظرنا؛ إذ الصحيحة الآنفة وخبر الغدير وأمثالها يكشف عن ملاك الشعارية فقط ولا يكشف عن ملاك القول بالجزئية.

وبعبارة أخرى : إنّ قوله: (ما نودي بشيء مثل ما نودي بالولاية) يكشف عن شرعية شعارية النداء بالولاية، وهو القدر المتيقّن منه، ولا يكشف عن شرعية جزئيتها إلاّ من باب الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، هذا علاوة على أنّ دليل التوقيفية مانع من القول بالجزئية حسبما تقدّم.

وعليه فكل ما في تلك النصوص يدلنا على أمكان اتخذها شعاراً عملياً في الخارج وليس اعتقاداً نظرياً في القلب فقط، أي أن للشهادة بالولاية في الجملة ملاكاً قطعياً للقول بأنّها من الأحكام العبادية بشرط عدم المانع وليست من أحكامه الإيمانية فقط.

٤٩٨

والذي يدعونا لهذا القول علاوة على الملاك القطعي في الشعارية وأنّ ولاية علي من أعظم شعائر الله، بل أعظم شعائر الله على الإطلاق من بعد الرسالة بشهادة آية البلاغ هو ضرورة توفير المصداقية الخارجية لها في الأذان وفي غيره، وهذا هو ما يريده الله (سبحانه وتعالى) من الإشهاد بها بعد الشهادتين يوم الميثاق العظيم، وإلاّ لا معنى لأن يخبرنا المعصوم بما لا دخل له بعالم التكليف كما عرفت.

وبعبارة ثالثة: نحن نعلم بأن المنظومة المعرفية الإلهية مترابطة كمال الارتباط، إذ شاهدت التلازم بين الشهادات الثلاث في القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، والآن لنطبق ما نريد قوله في شعيرة الأذان. فالأذان وحسبما وضحناه سابقاً(١) لم يكن إعلاماً لوقت الصلاة فحسب، بل هو بنظر الإمامية بيان لكليات الإسلام وأُصول العقيدة والعقائد الحقة من التوحيد والنبوة والإمامة، فلو كان الأذان إعلاماً لوقت الصلاة فقط لاكتفى الشارع بتشريع علامة لأداء هذا الفرض الإلهي، كما هو المشاهد في الناقوس عند النصارى، والشبّور عند اليهود، وإشعال النار عند المجوس.

في حين أنّا لا نرى أمثال هذه العلائم في هذه الشعيرة، بل نرى الإسلام أسمى من كل ذلك، فهو يشير في إعلامه إلى كليّات الشريعة وأصول الدين الأساسية قولاً وعملاً، وهذا ما لا نشاهده عند الأديان الأخرى، فهو الدين السماوي الوحيد الذي يلخّص أصول عقيدته كلّ يوم عدة مرات في هذه الشعيرة لتكون تذكرة لمتّبعيه، وإعلاماً للآخرين بأصول هذا الدين.

فالأذان إذن يحمل في طيّاته معانٍ سامية، وله آثار كثيرة في الحياة الاجتماعية

____________________

(١) في كتابنا (حي على خير العمل الشرعية والشعارية): ١٤٩.

٤٩٩

غير الإعلام بوقت الصلاة، كالتأذين في أُذن الصبي عند ولادته، ولإِبعاد المرض عن المبتلين، ولطرد الجنّ، ولرفع عسر الولادة والسقم، ولسعة الرزق، ولرفع وجع الرأس، وسوء الخلق، ولمشايعة المسافر.. إلى غيرها من عشرات المسائل التي ورد فيها نصّ خاص بالتأذين فيها.

وبما أنّ تشريع الأذان سماويّ وليس بمناميٍّ حسبما فصلناه سابقاً(١)  وأنّه ليس إعلاماً لوقت الصلاة فقط، فلابدّ أن يحمل بين فقراته معاني سامية وأصولاً سماوية لا يرقى إليها شكٌّ قد أقرّها النبي وأهل بيته والقرآن، ولأجل ذلك ترى منظومة العقائد الإلهيّة مترابطة في الأذان ترابطاً وثيقاً في المفاهيم والأعداد.

وكذا بين فصوله ترى تصويراً بلاغياً رائعاً، فالمؤذّن بعد أن يشهد لله بالوحدانية مرتين: (أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن لا إله إلاّ الله) تقابلها الدعوة له بالصلاة لربه مرتين: (حي على الصلاة، حي على الصلاة) معلماً الشارع المكلّف في الفقرة الثانية بأن الشهادة لله لا تكفي إلاّ من خلال عبادته وطاعته، لأنّ الصلاة لا تؤدَّى إلاّ لله.

وإنّ اللفّ والنشر الملحوظ بين الشهادة الأولى والصلاة لله يعلمنا بأنّ الله هو الأول والآخر في كل شيء، تشريعاً وتكويناً، لأنّ بدء الأذان بكلمة (الله) وختمه بكلمة (الله) ليؤكّد بأنّ كل الأمور مرجعها إلى الله، وأنّ كل ما أُعطي لرسوله محمد أو لغيره إنّما هو من عنده (جلَّ وعلا).

وبعد الإقرار بالوحدانية لله يأتي دور الشهادة لرسوله الأمين مرتين: (أشهد أنّ محمداً رسول الله، أشهد أنّ محمداً رسول الله) وقبال هذه الشهادة توجد حيعلتان (حي على الفلاح، حي على الفلاح) والتي تدعو إلى لزوم اتّباع الرسول.

ومن المعلوم أنّ الفلاح اسم جنس يشمل الصلاة، والجهاد، والأمر بالمعروف

____________________

(١) في كتابنا (حي على خير العمل الشرعية والشعارية): ٥٩ وما بعده.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595